مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب تاريخ الغيبة الصغرى لسماحة آية الله الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

فكان الفرد منهم ، يرجع - فيما يرجع إليه من قواعد شريعته - إلى ما تسالم عليه اخوانه في العقيدة تجاه الأمر الذي يفكر فيه ، لو كان أمراً متسالماً عليه ، كما هو الحال في عدد من الأمور والأفكار ..التي لا يستطيع الفرد مخالفتها إلا بإعلان مخالفته مع الشريعة نفسها ، والكشف عن انحرافه وفساد عقيدته أو سلوكه.
وهذا التسالم ، تستقيه القواعد الشعبية من خاصتها وموجهيها وعلمائها على وجه العموم ،ومن السفراء على وجه الخصوص .وأما هؤلاء الخاصة فيتسالمون على الأمر نتيجة للقواعد الاسلامية التي يعرفونها أو باعتبار صدور نص فيها من قبل الامام المهدي (ع) على يد أحد سفرائه، أم باعتبار تجربة حسية عاشوها مع سلوك الفرد الذي تسالموا على انحرافه.
وذلك كالتسالم على وثاقة السفيرين الأولين(1)، وعلى وثاقة السفير الثالث الحسن بن روح (2) بل على وثاقة السفراء الأربعة جميعهم . وكالتسالم على انحراف ولعن الشلغماني ابن أبي العزاقر(3) والتسالم بان كل من ادعى السفارة بعد السمري فهو كافر ضال مضل (4).
فكانت هذه الأمور وأمثالها من الأمور الواضحة ،غير القابلة للمناقشة ، يتلقاها الخلف عن السلف والجاهل عن العالم والعامة عن الخاصة . وتعتبر جزءاً من معالم الدين .
فهذه هي النقاط الرئيسية، لما كانت تتوخاه القواعد الشعبية الموالية في علاقتهم مع إمامهم المهدي وسفرائه.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص215 (2) المصدر ص227
(3) المصدر ص250 (4) المصدر ص255


صفحة (382)

القسم الثالث : الاتجاه العام للسفراء
يتلخص الاتجاه العام للسفراء الأربعة ، في حياتهم الاجتماعية الاسلامية ، في عدة نقاط:
النقطة الأولى: الاضطلاع بقيادة قواعدهم الشعبية الموالية للامام المهدي عليه السلام ،من الناحية الفكرية والسلوكية طبقاً لاوامره عليه السلام ،أو بتعبير آخر: التوسط في قيادة المهدي (ع) للمجتمع وتطبيق تعاليمه فيه ، طبقاً للمصالح التي يراها ويتوخاها.
النقطة الثانية: الاخلاص في السفارة عن المهدي عليه السلام، وفي خدمة قواعدهم الشعبية المفتقرة إلى قيادتهم ، وسفارتهم كل الافتقار .. والتضحية في سبيل ذلك بالغالي والنفيس.
النقطة الثالثة: أن لا يكون عملهم ملفتاً للنظر ، وأن تكون حياتهم وتجارتهم طبيعية جداً ، غير مثير لأي تساؤل أمام الدولة وعملائها وقواعدها الشعبية .
وقد سمعنا كيف أن عثمان بن سعيد العمري السفير الأول، كان يوصل الأموال إلى الإمامين العسكري عليه السلام في جراب الدهن الذي كان يتاجر به. ولم يتغير الخط الأساسي الذي كانت تسير عليه الدولة بعد وفاة الامام العسكري (ع) وبدء الغيبة الصغرى ... فنعلم من ذلك استمرار العمري على أمثال هذا الاسلوب عند سفارته عن المهدي (ع) خلال هذه الفترة .


صفحة (383)

كما أننا سمعنا أن الحسين بن روح السفير الثالث ، لم يكن له خدم ولم يكن حوله جماعة ، على حين كان لمدعي السفارة زوراً خدم وجماعة (1).
على ان هذا المسلك لم يكن خاصاً بالسفراء ، بل شاملاً لسائر الخاصة ممن كان ينتهج النهج الصحيح المتفق عليه .فمن ذلك أنه كان علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، مستمراً في تجارته ، يجلس كل يوم ويخرج حسابه ودواته كما يكون التجار(2).إلا أن ذلك لا ينافي قيامه بالواجب، وايفاءه لحق العقيدة الحقة ..إذ يأمر بجر الحسين بن منصور الحلاج من رجليه واخراجه من محل تجارته ، باعتبار ادعائه السفارة كذباً وزوراً (3).
النقطة الرابعة : التزامهم بمسلك التقية: مهما أحوجهم الأمر إلى ذلك .. ويجعلونه طريقاً لتهدأة الخواطر عليهم وإبعاد النظر عنهم لكي تنفسح لهم فرصة أوسع ومجال أكبر للعمل ، مما إذا كانوا مراقبين ومطاردين بشكل مستمر أكيد.
ــــــــــــــــ
(1) البحار ج63 ص79.
(2) الغيبة للشيخ الطوسي ص248.
(3) المصدر والصفحة .


صفحة (384)

فمن ذلك : أن أبا القاسم الحسين بن روح عليه الرحمة ،كان يحضر مجالس العامة غير الموالين للأئمة عليهم السلام . فصادف في بعض المجالس أن تناظر اثنان ، فادعى أحدهما: أن ابا بكر أفضل الناس بعد رسول الله (ص) ، ثم عمر ثم علي. وقال الآخر: بل علي أفضل من عمر .فزاد الكلام بينهما .فقال ابو القاسم رضي الله عنه الذي اجتمعت الصحابة عليه ،هو تقديم الصديق ثم بعده الفاروق ثم بعده عثمان ذو النورين ثم الوصي وأصحاب الحديث على ذلك ،وهو الصحيح عندنا ، فبقي من حضر المجلس متعجباً من هذا القول .وكان العامة الحضور يرفعونه على رؤوسهم وكثر الدعاء له، والطعن على من يرميه بالرفض!! (1) . هذا وهو قائد الرافضة وسفير إمامهم.
فقد ظهر ابو القاسم رحمه الله في قوله هذا أشد تطرفاً من كلا المتناظرين .فإنهما كانا متفقين على تقديم أبي بكر بالأفضلية على الجميع كما كانا متفقين على تأخير عثمان عن الجميع ...واختلفا في افضلية عمر وعلي. أما أبو القاسم فقد أظهر أن علياً هو الرابع في الأفضلية والمتأخر عن الجميع ..ولله في خلقه شؤون ..إلى حوادث أخرى من هذا القبيل ، لعلنا نستعرضها في الفصل الآتي .
وعلى أي حال ، فمن المحرز المتيقن أن هذا الاتجاه الذي كان يسير عليه السفراء ، قد استقوا خطوطه العامة من المهدي عليه السلام بحسب ما يرى من المصالح في ذلك الحين والظروف التي كانت تعيشها قواعده الشعبية تجاه الدولة والآخرين .وكان كل سفير منهم يطبقه بمقدار ظروفه وشكل تطور الحوادث في زمنه.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة ص237.


صفحة (385)

وأما بحسب ما هو المعلوم من درجة إيمانهم واخلاصهم ، تلك الدرجة التي أهلتهم لنيل السفارة الخاصة دون غيرهم من الخاصة ، فهم كانوا على استعداد لأكبر التضحيات وأوضحها ، لو اخذوا التعاليم بالقيام بشيء منها من المهدي (ع) ، أو اقتضتها المصالح الإسلامية العليا كيف وقد سمعنا شهادة أحد الخاصة العظماء في حق الحسين بن روح رحمه الله ، انه لو كان الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه.
ولكن كلما كان الموقف أشد وأدق والنشاط المفتقر إليه في قيادة القواعد الشعبية الموسعة ،أكبر، والمصالح المتوخاة تطبيقها فيهم أعظم ،كانت الحاجة إلى صرف نظر الدولة ومن يسير على خطها عن هذا النشاط وتلك المصالح ..أشد وأكثر.وقد استطاع السفراء كما قد استطاع الأئمة (ع) قبلهم، أن ينالوا بمسلك التقية أو السلبية من المصالح العامة في قيادة قواعدهم الشعبية وهدايتها والمحافظة عليها، أضعاف، ما كان في الإمكان أن ينالوا من الحركات الانتحارية العشوائية .. لو كان فيها شيء من الخير.

القسم الرابع: الاتجاه العام للدولة.
ونريد بالدولة .. الجهاز الحاكم.. خليفة ووزراء وقضاة وقواداً ومحسوبين .. يعطف على ذلك من يسير في ركاب الدولة عقيدة ومصلحة بنحو من الأنحاء ..من أفراد الشعب المسلم .. الذي يمثل مع الدولة خطاً واتجاهاً محفوظاً على ترتب الأجيال وتطاول السنين.


صفحة (386)

وهذا الخط التاريخي الطويل ، لا شك أنه كان موجوداً في هذه الفترة بأوضح صوره ، شأنه في ذلك شأن الفترة السابقة .حيث أشرنا إلى أن ضعف الخلافة في السياسة العامة ، لا يعني بحال تخفيف الوطأة على خط الأئمة عليهم السلام ، لما قلناه من أن اتجاه الدولة العام ليس بيد الخليفة وحده ، بل بيد مجموع الجهاز الحاكم .
إلا أن الشيء الذي يظهر من التاريخ الإسلامي العام ، وتؤيده بعض القرائن التاريخية ،هو أن الخلافة في هذه الفترات بالذات، كانت متسامحة إلى حد ما، وغاضة للنظر عن الشعب المسلم الممثل لخط الأئمة عليهم السلام.
فالمعتضد، وهو أقوى خلفاء هذه الفترة ، وأكثرهم غلظة وسيطرة وقد تولى الحكم في اوائل هذه الفترة ، بعد تسع سنين من وفاة الامام الحسن العسكري عليه السلام .. والجرح لما يندمل والعواطف لما تهدأ فكانت فترة خلافته من أعقد الفترات في الغيبة الصغرى .
ولكن المعتضد ،مع ذلك ، لم يكن - كما سمعنا في الفصل الأول من هذا القسم ـ شديداً تجاه العلويين، وبالتالي تجاه سائر الخط الذي يمثله الشعب الامامي، فهو الذي رأيناه يعمم كتاباً على الناس في الطعن على بني أمية ، حتى قال له بعض القضاة ما قال .. ويسمح بتقسيم المال الذي ورد من محمد بن زيد العلوي في بلاد طبرستان ، ليوزع على آل أبي طالب سراً ... فأنكر المعتضد ذلك ،أمر الرجل بإظهار ذلك، وقرب آل أبي طالب.


صفحة (387)

وقد يدل هذا الاتجاه ،ان المعتضد ومن لحقه من الخلفاء في هذه الفترة ومن يحف بهم من القواد، كانوا يحاربون العدو المشترك بينهم وبين خط الائمة عليهم السلام.. وهو كل من القرامطة الذين سمعنا من عقائدهم عزمهم على قتل كل من يخالف رأيهم في الامامة ،اياً كان مذهبه .وهم - في حدود تلك الفترة - العامل الاشد وطأ على الدولة واقسى ضراوة على المجتمع .والخوارج ،وهو اطول مدى واعمق تاريخاً وأرسخ تأثيراً على المدى البعيد . وكانوا يكبدون الدولة على جانب القرامطة الشيء الكثير.
الا ان الدولة - بالطبع - لم تكن تشعر بحال ، عند منازلتها لهؤلاء الأعداء ، إنهم العدو المشترك بهذا المعنى، ولا يهمنا أن يكونوا كذلك أو لا يكونوا. بل لعل الاتجاه العام للدولة ،من هذه الناحية مركز حول كونها العدو المشترك للقرامطة والخوارج من ناحية ولخط الأئمة عليهم السلام من ناحية أخرى، وأقصى ما تدرك الدولة من الفرق بينهما، هو أن القرامطة والخوارج حاقدون دائماً، ومستحلون لقتل المسلمين على طول الخط . في حين أن لخط الأئمة رؤية وحكمة وتقية ..لا ينافيها قيام الثورات منهم بين آن وآخر في مختلف البقاع الاسلامية.
على ان الدولة تعرف بوضوح قرب خط الأئمة عليهم السلام إلى قلوب المسلمين،وإلى واقع التشريع الاسلامي. كما يبدو واضحاً من تصريح القاضي يوسف بن يعقوب السابق ، وقد دلت عليه القرائن التاريخية الكثيرة كما سمعنا في غضون البحوث السابقة. على حين ان القرامطة والخوارج بعيدون عن الضمير الاسلامي وعن قناعة الجماهير المسلمة بفكرتهم وصواب رأيهم .


صفحة (388)

ولكن الدولة ، على أي حال ، تدرك بشكل أو بآخر ، قيامها بعمل مشترك مع خط الأئمة عليهم السلام أحياناً. وذلك: عند رفضها لعمالة جعفر بن علي، كما سبق أن سمعنا. وعند قتلها لأبن أبي العزاقر على يد الخليفة الراضي عام 322 (1). وعند قتلها للحسين بن منصور الحلاج على يد المقتدر عام 309 (2).وكلا هذين الأخيرين قد ادعيا السفارة عن المهدي (ع) زوراً . وكان لأبن أبي العزاقر موقف عدائي كبير، على ما سنسمعه.
هذا هو الخط العام لاتجاه الدولة، كما ترسمه هذه القرائن التاريخية، ولكننا يجب أن لا نتناسى في هذا الصدد عدة أمور ، لا بد أن تدخل في نظر الاعتبار فقد يتغير الميزان حينئذ .
الامر الأول: تصريح رواياتنا بأن الامر كان حاداً جداً في زمان المعتضد، والسيف يقطر دماً - كما يقال ـ (3) وأن سنوات تلك الفترة على وجه العموم (مليئة بالظلم والجور وسفك الدماء) كما صرح به المستشرق رونلدسن (4).
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص241. (2) المصدر ص167.
(3) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص179 والبحار ج13 ص84.
(4) عقيدة الشيعة ص257.


صفحة (389)

الامر الثاني: جو التكتم المكهرب الذي كان يعيشه الشعب الامامي بشكل عام ، والخاصة منهم بشكل خاص ، والسفراء الأربعة بنحو أخص .
إذا كانت السفارة سراً بين الخاص من اهل هذا الشأن ، وكان ما يحمل إلى ابي جعفر - السفير الثاني - لا يقف من يحمله على خبره ولا حاله وإنما يقال: امض إلى موضع كذا وكذا فسلم ما معك من غير ان يشعر بشيء ، ولا يدفع إليه كتاب الوصول لئلا يتسرب إلى الدولة شيء من ذلك (1).
وقد سمعنا مقدار الخفاء والتكتم الذي كان يلتزمه السفير الأول عثمان بن سعيد ، حين كان ينقل المال في جراب الدهن ..ومقدار التقية التي كان يسير عليها السفير الثالث ابن روح في حياته العامة .
وسيأتي التعرض لتفاصيل هذا المسلك فيما يلي من البحث والذي نريد ا لتوصل اليه الآن ،وهو ان هذا المسلك يدل لا محالة على سببه .فان هؤلاء السفراء لو كانوا يشعرون بنسيم من الحرية او غض النظر من الدولة، في أي يوم من ايامهم لم تصل الحال إلى هذا التكتم الشديد والإخفاء المضاعف العميق. فهذا المسلك نفسه ، يدل بكل وضوح على ما كان يشعر به هؤلاء من الضغط والمطاردة والمراقبة ومن العقاب الصارم والنتائج الوخيمة لو ظهر منهم أمر أو حصلت الدولة تجاههم على مستمسك خطير .
ــــــــــــــــ
(1) البحار ج13 ص82 .وغيره من المصادر.


صفحة (390)

الأمر الثالث: مظاهر الاضطهاد الواسع للقواعد الشعبية الامامية ولعدد من كبرائهم ايضاً. يكفينا في ذلك العدد الضخم الذي ضبطه أبو الفرج في المقاتل(1) ممن قضت عليه الدولة من العلويين، وفيهم العظماء والفقهاء. ونحن وإن ذكرنا قلة وجود الثورات الداعية إلى الرضا من آل محمد خلال هذه الفترة ،إلا أن المصروعين تحت يد الدولة ، مما لا يمكن احصاؤه.
الأمر الرابع: المطاردة الجادة للإمام المهدي عليه السلام ، ومحاولة القاء القبض عليه مهما كلفها الأمر، والدولة وان اعتبرته في ظاهر قانونها الشخصي غير معترف بوجوده ،إلا أنها تعرف بوضوح - متمثلة بشخص الخليفة وبعض خاصته - كون المهدي عليه السلام هو الممثل الحقيقي للحق والعدل الاسلامي الذي يهز كيانها المنحرف من الصميم.
ومن ثم كانت الدولة تجرد بين الحين والحين، حملة لكبس داره وتفتيشها ، ولم تكن تفلح في أي منها بالوصول إلى غرضها المطلوب .
وقد ورد في تاريخنا الخاص ثلاث حملات للكبس ، نذكرها في مستقبل البحث إن شاء الله تعالى ،مضافاً إلى الانتباه المتواصل ، والاصغاء الدائم إلى كل كلمة وكل عمل يشير إليه أو يدل عليه من قريب أو من بعيد.. فإذا كان رأي الدولة ومسلكها تجاه الامام القائد هو ذلك، فكيف رأيها ومسلكها تجاه القواعد الشعبية؟. وكم ستشعر هذه القواعد بالضغط والمطاردة .بمجرد أن تعرف - وهي دائماً ملتفتة عارفة - بمطاردة إمامها وغيبة قائدها خوفاً وتكتماً من السلطات.
ــــــــــــــــ
(1) راجع ص 487 وما بعدها ج3.


صفحة (391)

فهذه الأمور بكل وضوح ، على الجو المكهرب الذي كان يعيشه الشعب الموالي للإمام عليه السلام، بالرغم من الهدوء والتسامح الظاهري الذي يعكسه التاريخ العام عن الدولة في تلك الفترة .
ومن المستطاع القول، ان الدولة انما لم نتكل بهم وتذيقهم ظلمة السجن وحر السيف بوضوح.. لأنهم كانوا أبرع منها في تدبير أمورهم وإخفاء نشاطهم ، إلى حد لن تستطع عيون الدولة أن تصل إلى شيء صادر منهم يعد خطراً على الدولة أو يدل من قريب أو من بعيد على وجود المهدي (ع) .
والدولة إذ تعدم ذلك ، تكون بطبيعة الحال ، أهدأ بالاً ، مما إذا عثرت على شيء من ذاك القبيل .ومن ثم استطاعت الدولة ان تحتفظ على هدوئها النسبي الظاهري خلال فترة الغيبة الصغرى ، بفضل جهود السفراء وخواصهم بالاخفاء و التكتم ، بحيث لا يظهر منهم ما يثيرها أو ينفرها.
وبعد هذه الجولة الموجزة في الاتجاهات العامة السائدة في المجتمع خلال هذه الفترة ..لا بد لنا من الدخول في تفاصيل تاريخ الغيبة الصغرى. فنتكلم أولاً عن الوكلاء الأربعة في حياتهم الشخصية ووكالتهم وأسلوب نشاطهم، ونحو ذلك من الأمور. ثم نتكلم عن ظاهرة الوكالة التي ادعاها عدة أشخاص في تلك الفترة ،مع الإلماع إلى أساليبهم وطرق دفعهم ومحاربتهم من قبل المهدي عليه السلام من ناحية، ومن قبل الدولة من ناحية أخرى .ثم نبدأ بالتكلم عن المهدي عليه السلام بشخصه ، لنتعرف على حياته ونشاطه وتوجيهاته ،خلال هذه الفترة.
وهذا ما نعتمده خلال الفصول الآتية .


صفحة (392)


الفصل الثالث

السفراء الأربعة
حياتهم ونشاطهم


عرفنا ان السفراء الاربعة، الذين تولوا الوكالة الخاصة عن الإمام المهدي عليه السلام خلال غيبته الصغرى هم كل من: عثمان بن سعيد العمري، وابنه محمد بن عثمان العمري، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السمري. ووحودهم يشكل في الواقع المزية الرئيسية لهذه الفترة، وبانتهائهم انتهى عهد الغيبة الصغرى.
وضبط السفراء بهذا الشكل من ضروريات المذهب لدى المعتقدين بغيبة الامام المهدي عليه السلام، ومن واضحات تاريخهم الخاص، فلا حاجة إلى تجشم العناء في اثباته.
وإنما المهم هو التكلم أولاً في حياتهم الشخصية وترجمة كل واحد منهم وسرد ما ورد في شأنهم من نصوص. ثم التكلم ثانياً عن أساليبهم في التبليغ وطرقهم في الاتصال بالناس. ومن ثم نقسم هذا الفصل إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول

في تراجم السفراء الأربعة

ان التعرض إلى حياة السفراء الأربعة الخاصة والعامة ، سيكون في حدود ما وصل إلينا من تاريخهم .

السفير الأول:
هو الشيخ الموثوق محمد بن عثمان بن سعيد العمري ، أبو عمرو الأسدي . وإنما سمي العمري نسبة إلى جده. وقد قال قوم من الشيعة: إن أبا محمد بن علي العسكري عليه السلام قال : لا يجمع على امرىء بين عثمان ، وأبو عمرو ، وأمر بكسر كنيته فقيل : العمري(1) بفتح العين وسكون الميم.
ويقال له العسكري أيضاً ، لأنه كان من عسكر وهي سامراء ويقال له : السمان لأنه كان يتجر بالسمن تغطية على الأمر . وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمد عليه السلام ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلى أبي عمرو ، فيجعله في جراب السمن وزقاقه ، ويحمله إلى ابي محمد (ع) تقية وخوفاً (2).
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص214
(2) المصدر السابق ص214


صفحة (396)

له من الأولاد : محمد وهو السفير الثاني ، وأحمد(1).
لم يرد في المصادر التاريخية تحديد عام ولادته ،ولا عام وفاته ،وإنما يرد اسمه أول ما يرد كوكيل خاص للإمام الهادي عليه السلام (2). وكان يستوثقه ويمدحه بمثل قوله: هذا أبو عمر الثقة الأمين .ما قاله لكم فعني يقول ، وما أداه إليكم فعني يؤديه(3).
وهذا النص بنفسه، يدل على سنخ النشاط الذي كان يقوم به أبو عمرو، وهو نقل المال والمقال من الامام الهادي (ع) ،وإليه فكان يمثل مع جماعة آخرين دور الوساطة بينه وبين قواعده الشعبية، في الفترة التي عرفنا أن الامام (ع) بدأ بتطبيق مسلك الاحتجاب عن مواليه تعويداً لهم على الغيبة التي سوف يواجهونها في حفيده المهدي (ع).
وحين يلقى الإمام الهادي عليه السلام ربه عام 254 ، يصبح أبو عمرو وكيلاً خاصاً موثوقاً للإمام العسكري عليه السلام ، ذا نشاط ملحوظ وبراعة في العمل .فقد سمعنا كيف كان يحمل المال في زقاق السمن ،ويسير على المسلك الذي يخطه له الإمام في الإخفاء والتكتم ، ويظهر أمام الناس كتاجر اعتيادي بالسمن، تغطية على حاله ومسلكه وعقيدته .
ــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر ص256
(2) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص215 ورجاله ص
(3)غيبة الشيخ الطوسي ص215


صفحة (397)


وكان الامام العسكري عليه السلام يكثر من مدحه والثناء عليه في مناسبات مختلفة ، وامام اناس كثيرين.
فمن ذلك انه (ع) قال: هذا ابو عمرو الثقة الامين . ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات. فما قاله لكم فمعنى يقوله ،ما أدى إليكم فعني يؤدي(1) ، وقال امام وفد من اليمن: امض يا عثمان ، فإنك الوكيل والثقة المأمون على مال الله ..(2)

حتى اشتهر حاله وجلالة شأنه بين الشعب الموالي .قال ابو العباس الجميري: فكنا كثيراً من نتذاكر هذا القول ، ويعني مدح الامام العسكري له، ونتواصف جلالة محل ابي عمرو(3) وقال وفد اليمن حين سمع من الامام مدحه: يا سيدنا ان عثمان لمن خيار شيعتك ،ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وانه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى(4). فلم تزل الشيعة مقيمة على عدالته (5) وتتسالم على وثاقته وجلالة قدره.
وحين يولد للامام العسكري عليه السلام ولده المهدي يبعث إلى أبي عمرو يأمره بأن يشتري عشرة الاف رطل خبز وعشرة آلاف رطل لحم ويفرقه على بني هاشم ، وأن يعق بكذا وكذا شاة (6).
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص215. (2) نفس المصدر ص216.
(3) نفس المصدر ص215. (4) المصدر نفسه ص216.
(5) المصدر والصفحة . (6) الاكمال المخطوط.


صفحة (398)

وينص الإمام العسكري (ع) في مجلس حافل بالخاصة ، يعدون بأربعين رجلاً ، عرض فيه ولده المهدي عليه السلام ونص فيه على امامته وغيبته ..ينص على وكالة عثمان بن سعيد عن المهدي (ع) وسفارته له قائلاً : فاقبلوا من عثمان ما يقوله ، وانتهوا إلى أمره ، أو اقبلوا قوله فهو خليفة امامكم والامر إليه(1).
زحين يلقى الإمام العسكري عليه السلام ربه ، عام 260 ، يحضر أبو عمرو وعثمان بن سعيد تغسيله ، ويتولى جميع أمره في تكفينه وتحنيطه واقباره(2). وبرر الشيخ الطوسي ذلك بأنه كان "مأموراً بذلك للظاهر من الحال التي لا يمكن جحدها ولا دفعها إلا بدفع حقائق الأشياء في ظواهرها"(3) يشير إلى اختفاء المهدي عليه السلام ،وعدم تمكنه من القيام بتغسيل والده والقيام بأمره .ولكننا - على أي حال - سبق أن سمعنا كيف أن الإمام المهدي عليه السلام ،اقام الصلاة على ابيه بنفسه،ودفع عن ذلك عمه جعفر امام جماعة من الناس، منهم عثمان بن سعيد السمان نفسه .ومن ثم يمكن القول: بأنه يمكن للامام المهدي عليه السلام ان يغسل اباه في داره سراً ،قبل ان ينقل جثمانه امام الجمهور .وظاهر عبارة الشيخ قيامه عليه السلام بالتغسيل بحضور ابي عمرو .ثم قيامن ابي عمرو بنفسه بباقي شؤونه من تكفين وتحنيط واقبار. والله العالم بحقائق الامور.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص217 .
(2) المصدر ص216.
(3) المصدر والصفحة.


صفحة (399)


وعلى أي حال ، فهو يصبح من ذلك الحين السفير الاول للمهدي عليه السلام ،بنص الامام العسكري عليه السلام، كما سمعنا، ونص الامام المهدي امام وفد القميين، كما سبق في القسم الاول من هذا لكتاب ...فيضطلع بالمهمة العظمى في ربط الامام بقواعده الشعبية وتبليغ توجيهاته وتعاليمه وانحاء تدبيره وادارته اليه وتنفيذ اوامر الامام وتوجيهاته فيهم .
ويبقى أبو عمرو مضطلعاً بمهام السفارة ، قائماً بها خير قيام ، إلى أن يوافيه الأجل .فيقوم ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان بتغسيله وتجهيزه(1). ويدفن كما قال أبو نصر هبة الله محمد - في الجانب الغربي من بغداد ، في شارع الميدان في أول الموضع المعروف بدرب جبلة في مسجد الدرب ، يمنة الداخل إليه ،والقبر في نفس قبلة المسجد .
قال الشيخ الطوسي: رأيت قبره في الموضع الذي ذكره ،وكان بني في وجهة الحائط ، به محراب المسجد ،وإلى جنبه باب يدخل إلى موضع القبر في بيت ضيق مظلم ، فكنا ندخل إليه ونزور مشاهرة .
قال : وكذلك من وقت دخولي إلى بغداد وهي سنة ثمان واربعمائة إلى سنة نيف وثلاثين واربعمائة .
ثم نقض ذلك الحائط الرئيس أبو منصور محمد بن الفرج ،وأبرز القبر إلى برا - أي الى الخارج - وعمل عليه صندوقاً ، وهو تحت سقف يدخل إليه من أراده ويزوره.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص221.


صفحة (400)


قال الشيخ : ويتبرك جيران المحلة بزيارته ،ويقولون :هو رجل صالح ،وربما قالوا :هو ابن داية الحسين (ع). ولا يعرفون حقيقة الحال فيه .وهو إلى يومنا هذا - وذلك سنة سبع وأربعين واربعمائة - على ما هو عليه(1).
أقول : وقبره شهيد الآن مشيد معروف ببغداد ، يزار ويتبرك به.
ونستطيع أن نعرف من جهالة الناس لحقيقة قبره في زمان الشيخ الطوسي "قده" مقدار الغموض والكتمان الذي كان يحيط السفارة المهدوية ، في حياة السفير وبعد مماته ، بل بعد ما يزيد على مائتي سنة على دفنه .
ولم يفت أبو عمرو قبل وفاته ، أن يبلغ أصحابه وقواعده الشعبية ، ما هو مأمور به من قبل المهدي عليه السلام ، من إيكال السفارة بعده إلى ابنه محمد بن عثمان ، وجعل الأمر كله مردوداً إليه(2).
ويكون لوفاته رنة أسى في قلوب عار في فضله ومقدري منزلته وخاصة الامام المهدي (ع) نفسه، فنراه يكتب إلى ابنه السفير الثاني يعزيه بابيه قائلاً: انا لله وانا إليه راجعون. تسليماً لأمره ورضاءً بقضائه. عاش أبوك سعيداً ومات حميداً ، فرحمه الله وألحقه بأوليائه ومواليه عليهم السلام ،فلم يزل مجتهداً في أمرهم ساعياً فيما يقربهم إلى الله عز وجل وإليهم . نضر الله وجهه وأقال عثرته.
ــــــــــــــــ
(1) المصدر ص218
(2) غيبة الشيخ الطوسي ص221.


صفحة (401)

وفي فصل آخر من كتابه اليه يقول عليه السلام: اجزل الله لك الثواب واحسن لك العزاء ، رزيت ورزينا وأوحشك فراقه وأوحشنا فسره الله في منقلبه .كان من كمال سعادته أن رزقه الله تعالى ولداً مثلك يخلفه من بعده ، ويقوم مقامه بأمره ،ويترحم عليه، وأقول: الحمد لله ،فإن الأنفس طيبة بمكانك وما جعله الله تعالى فيك وعندك.
أعانك الله وقواك وعضدك ووفقك، وكان لك ولياً وحافظاً وراعياً وكافياً (1).
وفي هذين النصين ، من المعاني الإسلامية السامية ، في اسلوب الترحم على المؤمن والدعاء له والثناء عليه، ما فيه بصيرة لمن ألقى السمع وهو شهيد .
السفير الثاني :
هو الشيخ الجليل محمد بن عثمان بن سعيد العمري ، تولى السفارة بعد أبيه ، بنص من الامام العسكري عليه السلام، حيث قال عليه السلام لوفد اليمن الذي أشرنا إليه: واشهدوا عليّ أن عثمان بن سعيد وكيلي ،وان ابنه محمد وكيل ابني مهديكم (2). وبنص أبيه على سفارته بأمر من المهدي (ع)(3).
ــــــــــــــــ
(1) المصدر ص220 وما بعدها.
(2) المصدر ص216.
(3) المصدر ص218 و221.


صفحة (402)

وكانت قواعده الشعبية مجتمعة على عدالته وثقته وأمانته ، لا يختلف في ذلك اثنان من الامامية ،وكيف لا وفيه وفي أبيه ، قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام ،لبعض أصحابه : العمري وابنه ثقتان فما أديا فعني يؤديان ،وما قالا لك فعني يقولان ، فاسمع لهما واطعهما فإنهما الثقتان المأمونان(1).
وكلمات الإمام المهدي عليه السلام فيه ، متظافرة ومتواترة ، فقد سمعناه يعزيه بوفاة أبيه ويثني عليه الثناء العاطر ،ويشجعه وهو في أول أيام اضطلاعه بمهمته الكبرى. وقال في حقه: لم يزل ثقتنا في حياة الأب - رضي الله عنه وأرضاه وانضر وجهه - يجري عندنا مجراه ويسد مسده ، وعن أمرنا يأمر الإبن وبه يعمل(2) . وغير ذلك من عظيم الاجلال والإكبار(3).
والتوقيعات كانت تخرج على يده ،من الإمام المهدي (ع) في المهمات ، طول حياته ، بالخط الذي كانت تخرج في حياة أبيه عثمان .لا يعرف الشيعة في هذا الأمر غيره ولا يرجع إلى أحد سواه .وقد نقلت عنه دلائل كثيرة. ومعجزات الإمام ظهرت على يده .وأمور أخبرهم بها عنه زادتهم في هذا الأمر بصيرة(4) .
وبقي مضطلعاً بمسؤولية السفارة نحواً من خمسين سنة(5). حتى لقي ربه العظيم في جمادى الأولى سنة خمس وثلثمائة(6) أو أربع وثلاثمائة (7).
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص219. (2) المصدر ص220.
(3) نفس المصدر والصفحة . (4) نفس المصدر ص221.
(5) نفس المصدر ص223. (6) انظر الغيبة ص223 والكامل ج6 ص159 وابن الوردي ج1 ص255.
(7) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص223 وأعلام الورى ص416


صفحة (403)

ومعنى ذلك انه توفي بعد وفاة الإمام العسكري عليه السلام بخمس وأربعين سنة ،وحيث أن والده رضي الله عنه، قد اضطلع بالسفارة عدة أعوام فالأولى ان يقال: ان سفارته امتدت حوالي الأربعين عاماً ، لا نحواً من الخمسين ، كما قال الشيخ في الغيبة.
وإذ يكون تاريخ وفاة أبيه مجهولاً ، مع الأسف يكون مبدأ توليه للسفارة مجهولاً أيضاً ، غير أنا نعرف أنه كان سفيراً قبل عام 267 لإن ابن هلال الكرخي طعن في سفارته، وكان أحد المنحرفين عن خطه على ما سنسمع في الفصل الآتي ، وكانت وفاة ابن هلال عام 267 (1) أي بعد وفاة الامام العسكري بسبع سنين ، وبذلك يمكن القول على وجه التقريب :ان الشيخ عثمان بن سعيد تولى السفارة خمس سنوات وتولاها ابنه اربعين ستة.
وبهذا التحديد لمدة سفارته، نستطيع ان نعرف، انه رضي الله عنه، اطول السفراء بقاء في السفارة ومن ثم يكون اكثرهم توفيقاً في تلقي التعاليم من الامام المهدي (ع) واوسعهم تأثيراً في الوسط الذي عاش فيه ،والذي كان مأموراً بقيادته وتدبير شؤونه.
وكان لابي جعفر العمري، كتب مصنفة في الفقه، مما سمعه من ابي الحسن العسكري عليه السلام ،ومن الصاحب "المهدي" (ع) ومن ابيه عثمان بن سعيد عن ابي محمد وعن ابيه علي بن محمد "الامام الهادي" عليهما السلام. فيها كتب ترجمتها : كتب الأشربة .
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص245 ورجال النجاشي ص65.


صفحة (404)

ذكرت الكبيرة أم كلثوم بنت أبي جعفر أنها وصلت إلى أبي القاسم الحسين بن روح - رضي الله عنه - عند الوصية إليه ،وكانت في يده قال أبو نصر وأظنها قالت : وصلت بعد ذلك إلى ابي الحسن السمري - رضي الله عنه وأرضاه (1).
كان يعلم بارشاد من الامام المهدي عليه السلام - بزمان موته ،إذ حفر لنفسه قبراً وسواه بالساج .يقول الراوي :فسألته عن ذلك ، فقال : للناس أسباب .وسألته عن ذلك ،فقال : قد أمرت أن أجمع أمري فمات بعد ذلك بشهرين.
وكان قد أعد لنفسه ساجة نقش النقاش آيات من القرآن الكريم وأسماء الأئمة عليهم السلام على حواشيها. قال الراوي :فقلت له : يا سيدي ما ما هذه الساجة ؟ فقال لي : هذه لقبري تكون فيه أوضع عليها " أو قال أسند عليها". وقد عرفت عته .وأنا في كل يوم أنزل فيه فاقرأ جزءاً من القرآن فيه وأصعد .وأظنه قال : فأخذ بيده وادانبه .
فإذا كان يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من سنة كذا وكذا صرت إلى الله عز وجل ،ودفنت فيه وهذه الساجة معي. فقال الراوي: فلما خرجت من عنده اثبت من ذكره ،ولم أزل مترقباً به ذلك، فما تأخر الأمر ، حتى الأمر، حتى اعتل ،فمات في اليوم الذي ذكره من الشهر الذي قاله السنة التي (2) ذكرها ولم يفت أبو جعفر العمري رضي الله عنه ، أن يوصي إلى خلفه السفير الثالث : الحسين بن روح ، بأمر من الحجة المهدي (ع).
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص221 .
(2) الغيبة ص222 ، انظر كل هذه التفاصيل .


صفحة (405)

وسنعرف تفاصيل ذلك فيما يلي:
وعندما توفي أبو جعفر العمري ، دفن عند والدته في شارع باب الكوفة في الموضع الذي كانت دوره ومنازله فيه. قال الراوي: وهو الآن في وسط الصحراء. أقول :وقبره الآن مشيد معروف "بالخلاني" يزار للذكرى والتبرك .قدس الله روحه.
السفير الثالث :
هو الشيخ الجليل أبو القاسم الحسين بن روح ابن أبي بحر النوبختي .
من بني نوبخت.
وهو كغيره من السفراء وغيرهم ، لم تذكر عام ولادته ،ولا تاريخ مبدأ حياته. وإنما يلمع نجمه أول لمعانه كوكيل مفضل لأبي جعفر محمد بن عثمان العمري ، ينظر في أملاكه ، ويلقي باسراره لرؤساء الشيعة وكان خصيصاً به ، حتى أنه كان يحدثه بما يجري بينه وبين جواريه لقربه منه وأنسه .فحصل في انفس الشيعة محصلاً جليلاً لمعرفتهم باختصاصه بأبي جعفر وتوثيقه عندهم .ونشر فضله ودينه ،وما كان يحتمله من هذا الأمر " يعني الدعوة الإمامية المهدوية " .فمهدت له الحال في طول حياة أبي جعفر، إلى أن انتهت الوصية إليه بالنص عليه .فلم يختلف في أمره ولم يشك فيه أحد (1).
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص227.


صفحة (406)

وقد قدم بعض الموالين بمال على ابي جعفر العمري مقداره أربعمئة دينار للإمام عليه لاسلام .فأمره بإعطاءها إلى الحسين بن روح .وحين تردد هذا الشخص في ذلك ، باعتبار عدم وصول السفارة إليه يومئذ .
فأكد له أبو جعفر عليه ذلك وأمره مكرراً بإعطاء المال لأبن روح ،وذكر له أن ذلك بأمر الإمام المهدي عليه السلام (1).
وكان تحويله على أبي القاسم ابن روح قبل موته بسنتين أو ثلاث(2) حتى ما إذا اشتدت بأبي جعفر العمري حاله، اجتمع لديه جماعة من وجوه الشيعة ، منهم :أبو علي بن همام وأبو عبد الله بن محمد الكاتب وأبو عبد الله الياقطاني وأبو سهل اسماعيل بن علي النوبختي ،وأبو عبد الله بن الوجناء ، وغيرهم من الوجوه والأكابر. فقالوا لهم: هذا أبو لاقاسم الحسين بن روح بن أبي بحر النوبختي ، القائم مقامي ،والسفير بينكم وبين صاحب الأمر عليه لاسلام، والوكيل والثقة والأمين، فارجعوا إليه في أموركم وعولوا عليه في مهماتكم ، فبذلك أمرت. وقد بلغت (3).
ويروي عن أبي جعفر بن أحمد بن متيل ، وهو من متقدمي أصحابه واجلائهم ،أنه قال: لما حضرت أبا جعفر محمد بن عثمان العمري الوفاة، كنت جالساً عند رأسه أسأله وأحدثه، وأبو القاسم ابن روح عند رجليه.
ــــــــــــــــ
(1) انظر المصدر السابق ص224
(2) نفس المصدر ص225
(3) نفس المصدر ص227


صفحة (407)

فالتفت إلي ثم قال: أمرت أن أوصي إلى أبي القاسم الحسين بن روح .قال ابن متيل: فقمت من عند رأسه وأخذت بيد أبي القاسم وأجلسته في مكاني ،وتحولت إلى عند رجليه(1). إلى غير ذلك من تأكيدات أبي جعفر عليه، وإعلان وكالته. والسبب المهم في هذا التأكيد ،هو كون الحسين بن روح ، لم يكن قد عاش تاريخاً زاهراً حافلاً بإطراء وتوثيق الأئمة عليهم لاسلام ، كالتاريخ الذي عاشه السفيران السابقان ، حتى قبل توليهما للسفارة .ومن ثم احتاج أبو جعفر العمري، من أجل ترسيخ فكرة نقل السفارة إلى الحسين بن روح ،وتوثيقه في نظر قواعده الشعبية الموالية لخط الإئمة عليهم السلام أن يكرر الإعراب عن مهمته في إيكال الأمر إليه، وأن يأمر بدفع أموال الإمام (ع) إليه قبل وفاته بعامين أو أعوام... بأمر من الإمام المهدي عليه السلام.
على ان أبا القاسم ابن روح، على جلالة قدره وقربه من السفير الثاني واختصاصه به ، لم يكن خير أصحابه، ولم يكن ألأخص تماماً به ، فقد كان لأبي جعفر من يتصرف له ببغداد نحو من عشرة أنفس وأبو القاسم ابن روح - رضي الله عنه - فيهم . وكلهم كانوا أخص به من ابن روح ، حتى أنه كان إذا احتاج إلى حاجة أو إلى سبب فإنه ينجزه على يد غيره ، لما لم تكن له تلك الخصوصية .فلما كان وقت مضى أبو جعفر - رضي الله عنه- وقع الإختيار عليه ، وكانت الوصية إليه(2).
ــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة ص226. (2) المصدر ص225.


صفحة (408)

فكان في إيكال السفارة إليه ، مصلحتان مزدوجتان أولهما:
وصول هذا المنصب إلى الشخص المخلص إخلاصاً بحيث لو كان المهدي تحت ذيله وقرض بالمقاريض ، لما كشف الذيل عنه .كما سمعنا في حقه وقد سبق أن قلنا :أن مهمة السفارة إنما تستدعي هذه الدرجة من ألإخلاص لأهميتها وخطر شأنها ،ولا تستدعي العمق الكبير في الثقافة الإسلامية ، أو سبق التاريخ مع الأئمة عليهم السلام ،فإنها إنما تعني بشكل مباشر نقل الرسائل من المهدي عليه السلام وإليه ،وتطبيق تعاليمه ..وهذا يكفي فيه ما كان عليه أبو القاسمبن روح ، من الإخلاص والثقافة الإسلامية .
المصلحة الثانية: غلق الشبهة التي تصدر من المرجفين، من أنه إنما أوكل الأمر إلى ابن روح ، باعتبار كونه أخص أصحاب أبي جعفر العمري، وألصقهم به... فإنه لم يكن بأخصهم ولا بألصقهم. وإن كان من بعض أخصائه في الجملة.
بل كانت الأذهان بعيدة عنه وكان احتمال الإيكال إليه ضعيفاً عند الواعين والمستبصرين بشؤون المجتمع من أصحابه ، حتى احتاج أبو جعفر لأجل ترسيخ فكرة الإيكال إليه وإيضاحها ، إلى تكرار الإعلان عن ذلك، وتقديمه على ساعة موته بسنوات. وإنما كانت الظنون تحوم حول اشخاص آخرين، أرسخ من أبي القاسم ثقافة وتاريخاً كجعفر بن أحمد بن متيل ، وأبيه، باعتبار خصوصيته وكثرة كينونته في منزله، حتى بلغ أنه كان في آخر عمره لا يأكل طعاماً إلا ما طبخ في ...


صفحة (409)

منزل جعفر بن أحمد بن متيل وأبيه، وبالرغم من ذلك فقد أوكلت السفارة إلى الحسين بن روح .فسلم به الأصحاب، وكانوا معه وبين يديه ، كما كانوا مع أبي جعفر - رضي الله عنه -(1). ولم يزل جعفر بن أحمد بن متيل من جملة أصحاب أبي القاسم ابن روح وبين يديه كتصرفه بين يدي أبي جعفر العمري ..إلى أن مات رضي الله عنه فكان من طعن على ابي القاسم فقد طعن على أبي جعفر،وطعن على الحجة صلوات الله عليه(2).
وعلى أي حال ، فقد تولى الحسين بن روح السفارة فعلاً، عن الإمام المهدي عليه السلام ..بموت أبي جعفر العمري عام 305 كما عرفنا إلى أن الحق بالرفيق الأعلى في شعبان عام ست وعشرين وثلثمائة .
فتكون مدة سفارته حوالي الواحد والعشرين سنة . فإن استطعنا أن نضيف العامين أو الثلاث ، التي أمر فيها أبو جعفر العمري قبل موته بتسليم الأموال إليه ،ونص عليه بالوكالة و وتصورنا أن السفارة حينئذ كانت مسندة إلى شخصين دفعة واحدة ...فتكون مدة سفارته ثلاث وعشرون عاماً ، أو أكثر.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص225
(2) المصدر والصفحة .


صفحة (410)

وكان أول كتاب تلقاه من الإمام المهدي عليه السلام ، كتاب يشتمل على الثناء عليه، ومشاركة الحملة التي بدأها أبو جعفر العمري في تعريف الحسين بن روح للرأي العام والأصحاب ، ممن مشى على خط الأئمة عليهم السلام، وقد مثل هذا الكتاب آخر وأهم خطوة في هذا الطريق لكي يبدأ هذا السفير بعدها مهمته بسهولة ويسر. وقد دعا له المهدي (ع) في الكتاب، وقال: عرفه الله الخير كله ورضوانه، وأسعده بالتوفيق وقفنا على كتابه، وثقتنا بما هو عليه. وأنه عندنا بالمنزلة والمحل اللذين يسر أنه زاد الله في إحسانه إليه. إنه ولي قدير .والحمد لله لا شريك له وصلى الله على رسوله محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.
وقد وردت هذه الرقعة يوم الأحد لست خلون من شوال سنة 305 . بعد حوالي الخمسة أشهر من وفاة أبي جعفر العمري ، الذي توفي في جمادى ألاولى من نفس العام .
وقد اضطلع أبو القاسم منذ ذلك الحين بمهام السفارة. وقام بها خيلا قيام ، وكان من مسلكه الإلتزام بالتقية المضاعفة ، بنحو ملفت للنظر ، بإظهار الإعتقاد بمذهب أهل السنة من المسلمين. يحفظ بذلك مصالح كبيرة ، ويجلب بها قلوب الكثيرين، على ما ياتي التعرض له فيما يلي من البحث .حتى أننا نسمع أنه يدخل عليه عشرة أشخاص تسعة يلعنونه وواحد يشكك ، فيخرجون منه تسعة منهم يتقربون إلى الله بمحبته وواحد واقف .يقول الراوي: لأنه كان يجارينا من فضل الصحابة ما رويناه وما لم نروه ، فنكتبه نحن عنه - رضي الله عنه-(1) وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على لبلقته وسعة اطلاعه وتوجيهه على هذا المسلك من قبل الإمام المهدي عليه السلام .
ــــــــــــــــ
(1) المصدر ص228


صفحة (411)

وقد تولى رضي الله عنه- أيام سفارته الحملة الرئيسية ضد ظاهرة الإنحراف عن الخط ، وإدعاء السفارة زوراً، بتيلغ القواعد الشعبية توجيهات المهدي عليه السلام في ذلك، وشجبه ظاهرة الأنحراف عن الخط وإدعاء السفارة زوراً ، بتبليغ القواعد الشعبية توجيهات المهدي عليه السلام في ذلك وشجبه لظاهرة ألأنحراف. كما سيأتي التعرض له في الفصل الآتي.
وبقي مضطلعاً بمهامه العظمى، حتى لحق بالرفيق الأعلى عام 326 كما عرفنا، ودفن في النوبختية في الدار التي كانت فيه دار علي بن أحمد النوبختي النافذ إلى التل، أو إلى درب الآخر وإلى قنطرة الشوك - رضي الله عنه- (1). أقول : كذا قال التاريخ . وقبره اليوم في بغداد معروف ... مقصد ومزار.
السفير الرابع :
هو الشيخ الجليل أبو الحسن علي بن محمد السمري أو السيمري أو الصيمري .والمشهور جداً هو الأول مضبوطاً بفتح السين والميم معاً .والآخرين مضبوطين بفتح أولهما وسكون الياء وفتح الميم وربما قيل بالضم أيضاً.
لم يذكر عام ميلاده ،ولا تاريخ فجر حياته ،وإنما ذكر أولاً كواحد من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام (2).
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص238
(2) رجال الشيخ الطوسي ص432 بعنوان الصيمري .وانظر كشف الغمة ج3 ص207


صفحة (412)

ثم ذكر قائماً بمهام السفارة المهدوية ببغداد،بعد الشيخ ابن روح، بإيعاز منه عن الإمام المهدي عليه السلام(1).
ولم يرد في هذا الإيعاز خبر معين، وإنما يعرف بالتسالم والإتفاق الذي وجد على سفارة السمري بين الموالين، الناشىء لا محالة من تبليغ ابن روح عن الإمام المهدي (ع) .وقد سبق أن قلنا أن مثل هذا التسالم والإتفاق، كانت القواعد الشعبية الموالية للإمام (ع) تعتمده وتتبعه فيتبع في ذلك الجاهل العالم والبادي والحاضر .ووجود هذا التسالم مأخوذ في التاريخ جيلاً بعد جيل عن جيل الغيبة الصغرى ، ممما يعلم بوجوده ويحرز تحققه بالقطع واليقين.
تولى السفارة من حين وفاة أبو القاسم بن روح عام 326 ، إلى أن لحق بالرفيق الأعلى عام 329 في النصف من شعبان(2) فتكون مدة سفارته عن الإمام المهدي عليه السلام ثلاثة أعوام كاملة ، غير أيام.
ولم ينفتح للسمري ، خلال هذا الزمان القصير ، بالنسبة إلى أسلافه القيام بفعاليات موسعة ، كالتي قاموا بها، ولم يستطع أن يكتسب ذلك العمق والرسوخ في القواعد الشعبية كالذي اكتسبوه. وإن كان الإعتقاد بجلالته ووثاقته كالإعتقاد بهم.
ــــــــــــــــ
(1) أعلام الورى ص417
(2) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص424 .وفي أعلام الورى أنه توفي عام 328 ،ص417 والمعتمد ما ذكره الشيخ الطوسي .قده


صفحة (413)

فما ذكره بعض المستشرقين، من أنه - أي السمري- ربما أدركته الخيبة ، فشعر بتفاهة منصبه وعدم حقيقته كوكيل معتمد للإمام المفترض(1)..ناشيء من عقيدة ذلك المستشرق في إنكار الإسلام وإنكار وجود المهدي عليه السلام. وإلا فأي تفاهة في مثل هذا المنصب الخطير الذي عرفنا خطوطه وأهميته .وهو يمثل القيادة العامة للملايين، بالنيابة عن إمامهم، في ظروف معاكسة خطرة ،ودولة مراقبة ومطاردة لهذا الخط وللسائرين عليه.
كما ان الشعور بعدم حقيقة الوكالة، أمر لا معنى له على الإطلاق بالنسبة إلى موقفه المباشر من الامام المهدي ، وتلقي التعليمات والتوقيعات منه ،واستيثاق قواعده الشعبية وعلماء الطائفة يومئذ به وركونهم إليه، وإنما كلام هذا المستشرق ناشيء من عقائده الخاصة ولله في خلقه شؤون.
نعم ، لا يبعد ان يكون لما ذكره ذلك المستشرق من كون تلك السنوات "مليئة بالظلم والجور وسفك الدماء"(2) دخل كبير في كفكفة نشاط هذا السفير، وقلة فعالياته .فإن النشاط الإجتماعي يقترن وجوده دائماً، بالجو المناسب والفرصة المواتية .فمع صعوبة الزمان وكثرة الحوادث وتشتت الاذهان ،لا يبقى هناك مجال لمثل عمله المبني على الحذر والكتمان.
ــــــــــــــــ
(1) عقيدة الشيعة لرونلدسن ص257
(2) المصدر والصفحة


صفحة (414)

وهذا بنفسه ،من الاسباب الرئيسية لانقطاع الوكالة بوفاة السمري وعزم الإمام المهدي عليه السلام على الإنقطاع عن الناس ، كما انقطع الناس عنه، وفرقتهم الحوادث عن متابعة وكلائه ..إلى أسباب أخرى نشير إليها في فصل آت من هذا التاريخ .
ولذا نجد السمري رضي الله عنه. يخرج إلى الناس قبل وفاته بأيام، توقيعاً من الإمام المهدي عليه السلام ، يعلم فيه انتهاء الغيبة الصغرى وعهد السفارة بموت السمري ،ويمنعه أن يوصي بعد موته إلى أحد ليكون سفيراً بعده.
ويقول عليه السلام فيه :
" بسم الله الرحمن الرحيم " :
يا علي محمد بن السمري! أعظم الله أجر إخوانك فيك .فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك. فقد وقعت الغيبة التامة .فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره ،وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض جوراً وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة ،إلا فمن أدعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كاذب مفتر. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
فكان هذا خطاب خرج من الإمام المهدي عليه السلام ، عن طريق السفارة الخاصة .. آخر ارتباط مباشر بينه وبين الناس في الغيبة الصغرى .


صفحة (415)

قال الراوي: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده ، فلما كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه ،فقيل له: من وصيك من بعدك. فقال :"لله أمر هو بالغه" وقضى ، فهذا آخر كلام سمع منه . رضي الله عنه وأرضاه (1).
وأودع الأرض في قبره الذي هو في الشارع المعروف بشارع الخلنجي من ربع المحول ، قريب من شاطيء نهر أبي عقاب(2).
أقول: وله الآن في بغداد مزار معروف .
تلخيص وتطبيق :
ظهر مما سبق أن فترة الغيبة الضغرى دامت على التحديد تسعاً وستين عاماً وستة أشهر وخمسة وعشرين يوماً. شغل منها السفير الأول: عثمان بن سعيد ، حوالي الخمس سنوات ، أي أنه لم يتعد فترة خلافة المعتمد، فكما عاصر هذا الخليفة وفاة الإمام العسكري (ع) عاصر أيضاً وفاة السفير الأول رضي الله عنه.
وشغل السفير الثاني: محمد بن عثمان حوالي الأربعين عاماً منها عاصر فيها خلافة المعتمد ، ثم خلافة المعتضد ، ثم خلافة المكتفي ثم عشر سنوات من خلافة المفتدر ، حين توفي عام 305 من الهجرة .
وشغل السفير الثالث: الحسين بن روح، بعد وفاة سلفه ، أحد وعشرين عاماً ، عاصر فيها بقية خلافة المقتدر، وقسماً من خلافة الراضي حيث خلفه السفير الرابع علي بن محمد السمري، حيث بقي في السفارة ثلاث سنين، وتوفي عام وفاة الراضي نفسه ، وإن عاصر خلفه المتقي مدة خمسة أشهر وخمسة أيام.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص243
(2) المصدر والصفحة .


صفحة (416)

فما ينقل عن بعضهم من أن مدة الغيبة الصغرى أربعاً وسبعين سنة(1). مبني على التسامح في الحساب .أو على ادعاء أن الغيبة الصغرى تبدأ من حين ميلاد الإمام المهدي نفسه عام 255 .أي قبل خمس سنوات من عام وفاة الإمام العسكري (ع). فإذا أضفناها إلى التسع وستين سنة ، كان المجموع 74 عاماً.
إلا أن هذه الدعوى ، مبنية على التسامح في الإعتبار أيضاً، فإن الإمام المهدي (ع) وإن كان غائباً في حياة أبيه عليه السلام ، كما سبق أن علافنا ، إلا أن هذه الغيبة لا تعد من الغيبة الصغرى البتة .لأن المهدي كان طول مدتها معاصراً لأبيه عليه السلام ، والإمام في زمان أبيه غير متحمل للمسؤولية ، ولا تربع على منصب الإمامة ، وإنما يتولاها - على أي حال - بعد أبيه لا محالة ، إذن فالإمام المهدي عليه السلام ، إنما تولى الإمامة بعد وفاة أبيه عليه السلام.
ونحن إنما نتحدث عن غيبته عن قواعده الشعبية بصفته إماماً مفترض الطاعة عليهم، حيث يكون من المفروض - لولا الغيبة - أن يكون مرتبطاً بهم وقائداً لهم وموجهاً لمجتمعهم ، وهذا مما لم يتحمل المهدي (ع) مسؤوليته في حياة أبيه، إذن فيتعين القول: بأن الغيبة الصغرى للإمام المهدي (ع) ، هي غيبته بصفته إماماً ، مع اقترانها بفكرة السفارة ، ومعه تكون مدتها ما قلناه لا ما أدعوه .
ــــــــــــــــ
(1) انظر البحار ج14ص


صفحة (417)

القسم الثاني
في نشاط السفراء
بعد هذه الجولة في تراجم السفراء الأربعة ، ينبغي لنا أن نحيط علماً بأوجه النشاط والفعاليات التي كان يقوم بها السفراء وأساليبهم في ذلك .والنتائج المتوخاة منها : ونحو ذلك من التفاصيل .
ونحن خلال هذا البحث، لا نحاول استقصاء كل ماورد في تاريخهم من أخبار ،وإنما حسبنا أن نعطي لكل عنوان من الأمثلة ما يجليه دون إسهاب وتطويل .
ونحن إذ نتحدث عن نشاط السفراء ، نتحدث عنهم بنحو عام لإنهم يكادون أن يكونوا متماثلين في الأسلوب متشابهين في الأهداف باعتبار صدورهم من مصدر واحد . هي توجيهات الإمام المهدي عليه السلام . بحسب ما يرى من المصالح ،ما عدا ما قد يقوم به بعض السفراء من عمل إضافي وأسلوب زائد ، سنراه في مستقبل البحث. ونتكلم في هذا القسم عن حقلين رئيسين: أولهما: في الخصائص العامة والمضمون الإجتماعي للسفارة. وثانيهما: في تفاصيل أعمال السفراء.


صفحة (419)

الحقل الأول : في الخصائص العامة والمضمون الإجتماعي للسفارة .
ويقع الحديث حول ذلك ضمن عدة أمور:
الأمر الأول: أنما أشرنا إليه قبل قليل من كون السفراء على العموم متماثلين في الأسلوب والأهداف ، لم يؤثر على بحثنا فحسب ، بل أثر فعلاً على النقل التاريخي لإعمالهم وللتوقيعات التي تخرج على يدهم .ففي عدد مهم من الموارد يهمل اسم السفير إهمالاً ،وإنما يقال مثلاً :كتبت إلى الناحية .وجاء الجواب .ولا يكون هناك أي تعرض للسفير المتوسط في الأمر.
والسر في ذلك غير خفي، فإن المدبر الحقيقي للأمور ،ومن يتكفل حل المشكلات ، هو الإمام المهدي (ع) نفسه من دون دخل لشخص السفير في ذلك ، سوى كونه ناقلاً للسؤال ووارداً بالجواب .
فليس المهم في نظر السائل حين يروي سؤاله أن يذكر الواسطة فيه وإنما المهم أن يذكر حل المشكلة الذي صدر عن الإمام المهدي فحسب.
مضافاً إلى ما في إهمال ذكر السفير، من الأخذ بالحيطة والحذر له إحتمال تسرب اسمه إلى السلطات .وإنما يذكر اسم السفير في المحافل الخاصة عند ارتفاع الخطر واطمئنان النفوس .


صفحة (420)

ومن هنا نكون نحن امام هذا النقل التاريخي ، في إجمال من ناحية نسبته إلى أي سفير من السفراء ، بل يعتبر هذا النقل نقلاً عن ألإمام (ع) نفسه بواسطة أحد سفرائه في الجملة. وإن كان لا يبعد وجود الظن والترجيح في نسبة جل هذه التوقيعات إلى السفيرين الثاني والثالث لإستغراق سفارتهما أكثر فترة الغيبة الصغرى ،وانفتاح فرص العمل في عهدهما أكثر نسبياً من الآخرين. وإن كان هذا الترجيح لا يصل - بطبيعة الحال - إلى حد الإثبات التاريخي.
نعم ، وجد في عدد آخر مهم من النقول التاريخية تسمية السفير بشخصه ،أما تبرعاً من الراوي أو لخصوصية في الحادثة تقتضي الإشارة إليه ، ففي مثل ذلك تكون نسبته إلى السفير المعين إثباتاً تاريخياً كافياً.
الأمر الثاني: إن السفارة صرفت عن العلويين صرفاً تام، وأنيطت بغيرهم، مع أن في العلويين يومئذ من يعلو شأنه يومئذ يعلة شأنه في العلم والفقه والعبادة .
والسر في ذلك واضح جداً ، يبرزه التاريخ الذي عاشه العلويين من حين ثورة لاحسين (ع) إلى العصر الذي نؤرخ له ،وهو تأريخ الثورات والتمردات على الواقع الفاسد ،والإحتجاج على الظلم و الطغيان فكانت الصورة الرئيسية التي تحملها لدولة على كل علوي ، هو كونه موالياً للأئمة عليهم السلام ،من ناحية ،وثائراً على الظلم والفساد من ناحية أخرى أو بتعبير آخر :أنه ثائر على كيانها القائم بشكل لا تستره بقية ولا يجدي في تغييره حذر.
وإذا كانت النظرة تجاه الفرد هي تلك ، فاخلق به أن يكون عاجزاً عن النفع العام والعمل الإجتماعي، لدى المراقبة والمطاردة والتنكيل الذي يحيد به.. ومن ثم يكون عاجزاً عن مهام السفارة المهدوية التي لم تؤسس إلا للنفع العام والعمل الإجتماعي.


صفحة (421)

إلا أن نفس تلك الظروف الصعبة التي عاشوها كانت تمنع من روايتها ونقله، لئلا يتسرب سرها إلى السلطات، وهذا بنفسه أوجب عدم وصول أخبار نشاطهم إلينا في النقول التاريخية.
الامر الثالث: احتمال أن خبر النشاط الذي كانوا يقومون به كان مما يتناقله الخاصة في ذلك العصر. إلا أن المؤرخين وأصحاب المجاميع من اصحابنا ، أهملوا التعرض إليها ، لا لشيء إلا لأنهم يقتصرون في النقل على موارد فضائل الأئمة ومعاجزهم، فما خرج عن ذلك من الحوادث مهما كان مهماً ومؤثراً فإنهم لا يعيرونه الأهمية المطلوبة ، ويندر أن يكون مروياً في مجاميعهم.
الأمر الرابع: احتمال أن يكون النشاط مروياً في بعض المجاميع التاريخية ، ولكنه تلف في عشرات الآلاف من الكتب التي تلفت في حملات أعداء الإسلام على البلاد الإسلامية . كالمغول والصليبيين وغيرهم.
وعلى أي حال ، فكل واحد من هذه الأمور الأربعة، وإن كان لا يزيد عن الإحتمال ، إلا أن واحداً منها أو أكثر متحقق جزماً ولكننا - في النتيجة - نبقى مفتقرين إلى النقل التاريخي الذي يوصل لنا قيام السفراء بنشاط واسع مهم.
الأمر الرابع- من هذا الحقل الأول -: أننا يجب ألا نبالغ في التوقع من السفير، أن يقوم بعمل اجتماعي فعال. وإنما الميزان الأساسي الصحيح لقياس قيمة العمل الذي قام به كل سفير، هو أن يكون متضمناً للقيام بمسؤوليته على الوجه الذي كلف به وطلب منه. وهذا ما قام به كل واحد منهم خير قيام.


صفحة (425)

والغرض الأساسي من السفارة امران:
الغرض الاول: تهيئة الاذهان للغيبة الكبرى، وتعويد الناس تدريجياً على الاحتجاب ، وعدم مفاجئتهم بذلك، فإنه ينتج نتيجة سيئة لا محالة ، إذ قد يؤدي إلى الإنكار المطلق لوجود المهدي عليه السلام.
ومن ثم رأينا كيف أن ألإمامين العسكريين عليهما السلام بدءا الإحتجاب عن الناس تدريجياً ،وضاعفه الإمام العسكري (ع) على نفسه كما أن الإمام نفسه تدرج في عمق الإحتجاب كما سمعنا ...فكانت فترة السفارة ايضاً، إحدى الفترات المرحلية لتهيئة الأذهان لهذا التدرج.
ومن المعلوم ان هذا الغرض من السفارة يتحقق بنفس تحقق فكرة السفارة ، ووجود السفير في المجتمع ولو بأقل ما يقوم به من عمل فضلاً عن اضطلاعه بالمسؤولية بالنحو المطلوب.
الغرض الثاني: القيام بمصالح المجتمع، وخاصة القواعد الشعبية الموالية للأئمة عليهم السلام ...تلك المصالح التي تفوت بطبيعة الحال بانعزال الإمام واختفاؤه عن مسرح الحياة .. شأن أي مصلحة للمجموع تفوت بفوات القائد والموجه.
ومن ثم جعلت السفارة ، لكي يقود الإمام المهدي عليه السلام برأيه إن فاتت قيادته بشخصه، ويكون التطبيق بين السفراء في حدود الإمكان ،وبحسب المصالح والتصرفات التي يراها ويخططها المهدي عليه السلام.


صفحة (426)


وهذا الغرض ، قد قام به كل واحد من السفراء خير قيام ، حيث اضطلع بحفظ مصالح المجتمع ، في حدود الجو المكهرب والمراقبة الشديدة والتحفظ .وهذا الجو مما لا ينتج أكثر من ذلك.
الأمر الخامس: تدل كثير من النقول، على ما سيأتي تفصيله ، على كون السفراء عالمين بالغيب ، بنحو وآخر. فنرى مثلاً :أن الحسين بن روح يتكلم باللسان الآبي(1) من دون سبق تعليم، وأنه يفهم ما في خاطر الآخر، فيجيب عنه ابتداء(2). ومحمد بن عثمان العمري يعين عام وشهر ويوم وفاته(3). وعلي بن محمد السمري يترحم على الشيخ علي بن الحسن بن بابويه القمي، فيكتب المشايخ تأريخ ذلك اليوم(4) ، إلى غير ذلك من الحوادث.
وقد سبق أن أشرنا مجملاً إلى الجواب عن شبهة استحالة ذلك بغض النظر عن الأسس الفلسفية النظرية لهذه المسألة.
وتفصيله أن ما نؤمن باختصاص الله عز وجل به من علم الغيب هو العلم الإبتدائي ، الذي يكون أزلياً لا بتعليم من أحد فإنه سبحانه يكون عالماً بما يكون غائباً عنا وجهولاً لنا ،من أجزاء الكون، وبما كان وما يكون من الأزل إلى الأبد . وهذا العلم يستحيل ثبوته لغير ذاته المقدسة جل وعلا.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص195 (2) المصدر ص199
(3) المصدر ص222 (4) المصدر السابق ص242


صفحة (427)

وأما علم الغيب الذي ننسبه إلى الأنبياء والأئمة عليهم السلام أجمعين فهو تعليم من قبل العالم بالغيب جل وعلا. والبشر قابل للتعليم ، ولا يكون الأنبياء والأئمة (ع) أسوأ تعلماً من غيرهم ، وهم في مراق كبيرة من الآمال.
إلا أن أنحاء هذا التعليم تختلف، فهو في الأنبياء بالمباشرة والمشافهة - لو صح هذا التعبير- عن طريق الوحي ونحوه،وهو في الأئمة عليهم السلام بالتلقي عن النبي (ص) جيلاً بعد جيل حتى إمام الثاني عشر: المهدي (ع). بل إن الروايات أثبتت للإمام شيئاً أكثر من ذلك هو أن الإمام (ع) وهو القائد للأمة الإسلامية جميعاً ، بل اوجه البسيطة باعتبار عالمية الدعوة الإسلامية والدولة الإسلامية.... وقد أعطى القابلية من الله عز وجل على ذلك، إذ جاء لمصلحة تمكينه من القيادة العامة... أنه متى احتاج إلى شيء أخطره الله في ذهنه وصار ذلك معلوماً له بعد أن كان مجهولاً.
ومن هنا كان علم الغيب - بهذا المعنى - ممكناً من الأئمة عليهم السلام، بما فيهم الإمام الثاني عشر المهدي (ع) على ما سيأتي.


صفحة (428)

وأما بالنسبة إلى غير الأئمة من الناس ، فيكون بالتعلم من الأئمة (ع). فمثلاً يخبر الإمام المهدي سفيره الرابع بموعد وفاة أبن بابويه القمي أو يخبر سفيره الثاني بموعد وفاة نفسه ، أو يعلم سفيره الثالث اللسان الآبي ، ولو بمقدار حاجته من تلك الواقعة ، إلى غير ذلك من الأمثلة:
وهناك أمران آخران، يمكن أن ننسبهما إلى السفراء في علة ما يخبرونه به من علم الغيب .
أحدهما: الحدس الإجتماعي، الذي يحدث لمن يعيش في معمعة المجتمع ، إذا كان ذكياًو بعيد النظر ...فإنه يستطيع أن يحدس بوقوع بعض الحوادث قبل وقوعها ، بلحاظ ما يعرف من مجموع الملابسات والسفراء ليسوا بأدنى من هذا المستوى في الذكاء وبعد النظر على أي حال، وكانوا يعيشون الحوادث بكل إحساسهم .. ففي الإمكان أن يحدسوا بأمور عديدة قبل وقوعها.
ثانيهما: الحدس الإيماني: وهو ما يعبر عنه فيقال: المؤمن ينظر بنور الله تعالى .فإن الإيمان وعمق الإخلاص لله عزوجل يعطي ـ بمقدار درجته ـ نحواً من الصفاء الذهني والكمال النفسي يستطيع الإنسان بواسطته استشمام الحوادث قبل وقوعها ، والحديث عنها قبل حدوثها.
وهذا في واقعه ، درجة ضعيفة جداً ،من درجات العلم الذي قلنا بإمكانه المعصوم (ع) .والفرق بينهما إنما هو في درجة الإيمان والإخلاص بين الإمام وغيره. فالإمام يبلغ به كماله النفسي إلى أن يصيب الواقع بعلمه بوضوح، وأما غيره ، فقد يحدس ولا يحدس ... كما قد يصيب حدسه الواقع وقد يخطىء .


صفحة (429)

وعلى أي حال ، فبالمقدار الذي نثبته من الحدس لسائر المؤمنين المخلصين بالدرجة العليا ، يمكن أن نصدق بثبوته للسفراء أيضاً ، في هذه المرتبة من الإيمان والإخلاص ، بطبيعة الحال.
إلا أن كلا من الحدسين الإجتماعي والحدي الإيماني ، لا يمكن أن يصل إلى بعض ما اخبر به السفراء ، كتحديد وفاة شخص مع بعد المكان أو الزمان .فينحصر تفسير مثل هذا المستوى من العلم عند السفراء بالتعلم من الإمام المهدي (ع) ومعه يكون من الواضح ، أن أي شيء قالوه ، في هذا الصدد كما يكون فضيلة من فضائل السفير ، كذلك يكون - بالأولى - فضيلة للإمام المهدي نفسه باعتباره الموجه والمعلم لذلك .
الأمر الخامس: كان الخط الذي يستعمله الإمام المهدي عليه السلام في توقيعاته وبياناته ، خطاً موحداً يعرفه الناس المتتبعون لذلك ، فهو لا يختلف باختلاف أشخاص السفراء واختلاف خطوطهم ،مما يحصل القطع بصدوره عنه عليه السلام كما سبق أن أشرنا وقلنا باستعمال الخط في معرفة صاحبه أمر عقلاني متسالم عليه بين الأمم .ولئن كان يمكن افتراض أن أحد السفراء ذو فن في مضاهات الخط وتزويره ،فهو بالنسبة إلى مجموعهم ، يكون عادة من المحالات .


صفحة (430)

وقد توخى الإمام المهدي عليه السلام، أن تصدر بياناته، بنفس الخط الذي كانت تصدر بيانات أبيه عليه السلام. فإننا عرفنا أن الإمام العسكري عليه السلام ، استعمل مسلك الإحتجاب تعويداً للناس على فكرة الغيبة وكان يتصل بفواعده الشعبية عن طريق التوقيعات والبيانات المكتوبة .فقد كان خط الإمام العسكري (ع) معروفاً لد جملة من قواعده الشعبية وخاصة من كان خاصتهم ومبرزيهم وقد سمعنا كيف طلب أحدهم من الإمام العسكري عليه السلام عند مقابلته أن يكتب يئاً في ورقه، حتى يطابقه مع التوقيعات الصادرة منه لأجل أن يأمن من التزوير فقد استعمل الإمام المهدي نفس الخط طيلة مدة الغيبة الصغرى ، فقد كانت الأجوبة تخرج من ناحيته المقدسة بالخط الذي يخرج في حياة الحسن (ع) (1). لسبق معروفية هذا الخط عند الأصحاب ، مع جهالة خط الإمام المهدي لو كان خطاً مستقلاً ذو شكل جديد ، فقد يتدخل فيه لإحتمال التزوير وبذلك تكون شهادة الخط أوسع وأعلى من شهادة السفير، بكون هذا البيان صادراً عن ألإمام المهدي عليه السلام. فإان انضمت الشهادتان وتصادقتا على ذلك ، كان في ذلك الكفاية لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيد.
وقد يعترض: بأنه كيف يمكن أن يكون الوالد والولد على شكل واحد في الخط؟ مع ان العادة بين الناس تقضي بخلاف ذلك . وجوابه يكون من وجوه:
أولاً:إمكان ذلك في نفسه.. وإن كان لا يحدث إلا نادراً.إلا أن حدوثه بين الوالد والولد، أقرب من الحالات الأخرى كما هو واضح .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص216


صفحة (431)


فإن شكل الخط منوط بعوامل عضلية في اليد والبدن ونفسية وفكرية وراثية واجتماعية ، متعددة وانحفاظ هذه العوامل وتشابهها في الوالد والولد ، من الناحيتين الوراثية والإجتماعة ، قريب إلى حد كبير.
ثانياً: إن فرض أن خط الإمام ليس بالكثير ،فإن الخط ينحفظ فيه التسلسل الوراثي ،كما ينحفظ في خلق الوجه والبدن، فكما يحمل الابن بعض الملامح العامة من ابيه في خلقه كشكل وجهه ويده وطريقة مشيه وتكلمه. .كذلك تنحفظ المعالم العامة للخط بنفس المقدار.
فإذا اضيف إلى ذلك، أن هناك تعمداً خاصاً وعناية معينة قام به الوالد والولد ، لتطبيق خط أحدهما على ألآخر، لمصلحة من المصالح المطلوبة لهما ، فبالإمكان أن يكون خط الولد قريباً من خط الأب إلى حد كبير، فإما أن يكون هذا القرب هو المقصود من النقل التاريخي بتشابه الخطين: أو أن الإمام المهدي عليه السلام ، لأجل حفظ المصالح العامة كان قادراً أن يمثل خط أبيه عليهما السلام ، لمدى القرب بينهما، وإن كان لو خلي ونفسه، ولم تتوفر تلك المصالح لكان الفرق بينهما واضحاً.
ثالثاً: أنه مع غض النظر عن هذه الطرق الطبيعية، فإن المصالح ما دامت مهمة، يتوقف عليها حفظ المجتمع طيلة زمان الغيبة الصغرى إذ مع اختلاف الخط يقع احتمال التزوير، ومع وقوعه ينفتح للشبهات مجال كبير.


صفحة (432)

فما دامت المصلحة مهمة تمس العقيدة والمجتمع المسلم وإقامة الحجة على الحق ، وهي مصالح ملحوظة لله عزوجل ، في هدايته لخلقه فكان من مقتضى حكمته الازلية ، أن يعطي المهدي (ع) قدرة في تكييف خطه على شكل خط أبيه ، متى احتاج الأمر إلى ذلك ، ولو كانت هذه القدرة بسبب إعجازي ، خارج عن مجرى القوانين الطبيعية .
إذن نعرف بأحد هذه الوجوه ، إمكان مشابهة خط الإمام المهدي لخط أبيه عليه السلام.
فكانت التوقيعات والبيانات تخرج على يد السفير الأول بالخط الذي كانت تخرج على يده أو على يد غيره من الوكلاء في ومن الإمام العسكري عنه عليه السلام.
وحين مضى السفير الأول إلى ربه عز وجل، واضطلع الثاني بمهامه، كانت الكتب تخرج عنه بنفس الخط الذي كانت تخرج أيام سلفه(1)،إلى حد أصبح هذا معروفاً واضحاً فيعبر ويقال: إن هذا التوقيع بخط مولانا صاحب الدار(2) يعني الإمام المهدي عليه السلام.
وبقي الخط محفوظاً في عهد السفيرين الاخيرين ايضاً ..إلى نهاية الغيبة الصغرى... والتاريخ وإن لم ينص على ذلك بوضوح إلا أن السبب في ذلك هو وضوح هذا المعنى في أذهان الرواة المعاصرين لتلك الفترة .
ــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة ص226 (2) المصدر والصفحة.


صفحة (433)

إذ ان الأربعين عاماً التي قضاها السفير الثاني في سفارته .. والتوقيعات التي خرجت على يده بخط واضح ، كافية في ترسيخ هذه الفكرة في أذهان من اطلع على ذلك من القريب والبعيد. وإلى حد يكون من القول المستأنف تكرار التأكيد عليه بالنسبة إلى السفيرين الأخيرين. فما سكت عنه في النقل، إلا لأن ذلك متيقن الوجود على أي حال.
الأمر السادس: بقيت في التوقيعات التي كان يصدرها المهدي (ع) جهات هامة لا بد من بحثها في هذا الصدد.
الجهة الاولى: في معنى التوقيع:
يطلق التوقيع في لسان روايتنا، مطابقاً مع العرف السائد آنئذ على الكلمات القصار التي تمليها أقلام الكبراء في ذيل الرسائل والعرائض ونحوها، لأجل جواب السؤال الذي تتضمنه أو حل المشكلة التي تحتويها أو التعبير عن وجهة نظر معينة فيها.
إذن فتوقيعات الإمام المهدي عليه السلام ، ما كان يذكره عليه السلام بخطه في جواب الأسئلة والعرائض بواسطة سفرائه من الكلمات القصار، في مختلف ميادين المعرفة.. من الناحية العقائدية أو الفقهية او الإجتماعية أو غيرها.


صفحة (434)

الجهة الثانية: في احتياج التوقيع إلى سؤال .
لم تكن التوقيعات الصادرة عنه عليه السلام مقتصرة على الجواب على الأسئلة فقط، وإن كان الأغلب هو ذلك، بل كانت التوقيعات والبيانات المهدوية ، تتخذ أحياناً شكل بيان ابتدائي يطول ويقصر حين تقتضي المصلحة ذلك، بدون سؤال يقتضيه ويتطلبه .ومن أمثلة التوقيع الذي أصدره عليه السلام مترحماً على سفيره الأول، والبيان الذي أعلم فيه انتهاء السفارة بموت السفير الرابع .. وقد سمعناها. والرسالة التي رويت عنه عليه السلام للشيخ المفيد رحمه الله.
وسيأتي التعرض لها في الفصل الثالث من هذا القسم من التاريخ.
الجهة الثالثة: أن التوقيع كما يعتبر عملاً للإمام المهدي عليه السلام باعتبار معناه وخطه، فإنه هو الذي كتبه حلاً لمشكلة أو جواباً على سؤال أو بياناً لمصلحة... كذلك يعتبر عملاً من أعمال السفير ، باعتبار أن للسفير يداً في إظهاره إلى النور وإطلاع اصحابه وقواعده الشعبية عليه. بل أن السفير أيضاً واسطة في إيجاده بنحو من الأنحاء ، إذ لولا أن المهدي عليه السلام يعلم بوجود السفير الأمين لنقله لما كتبه .
ومن هنا فكما يمكن أن تندرج التوقيعات في هذا الفصل الذي نحن بصدده وهو نشاط السفراء ، كذلك يمكن أن نتدرج في فصل آت، نعقده لأعمال المهدي ونشاطه الخاص ، وسندرج ذلك في كلا الفصلين بهذا ألإعتبار، بنحو لا يلزم منه التكرار جهد الإمكان.


صفحة (435)

الجهة الرابعة : في مدة خروج التوقيع.
يحتاج خروج التوقيع جواباً على سؤال معين إلى حوالي اليومين أو الثلاثة ... كما هو ظاهر عدد من الروايات. كقول الراوي في إحداها : فلما كان بعد أيام .قال لي صاحبي الا نعود إلى ابي جعفر فنسأله عن حوائجنا التي كنا سألناه(1) وقوله في رواية أخرى: ثم أخبرني - أي السفير أخبره بالجواب - بعد ذلك بثلاثة أيام (2).
كما أن الجواب يأتي شفوياً ، يبلغه السفير نفسه، كقول ابن روح لبعضهم :إنكم أمرتم بالخروج إلى الحائر(3). وقد لا يرد الرد على السؤال أصلاً، لبعض المصالح التي يراها المهدي عليه السلام، وقد تكرر ذلك في عدة موارد ، مثاله: ذلك الراوي الذي سأل الإمام (ع) أن يدعو له أن يرزق ولداً ذكر، فلم يجبني(4) اليه لأنه يعلم بعدم كونه من الرزق المقسوم. ومثله ذلك الرجل الذي كان من الأصحاب فقدم سؤالاً ، فلم يرد جوابه. قال الراوي: فنظرنا في العلة فوجدنا الرجل قد تحول قرمطياً(5). وما دام قد انخرط وتبع القرامطة.
إذن ، فمقتضى الدعوة المهدوية ان الإيجاب ، فإنها والمنحرفين على طرفي نقيض.
وعلى أي حال، فمدة الثلاثة أيام أو نحوها مدة معقولة في رد الجواب، وعيه تحمل سائر الروايات التي تعرضت إلى خروج الرد من دون ذكر المدة ... باعتبار وضوح ذلك في الأذهان، وتكرره إلى حد أصبح متسالماً عليه، لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص 184 (2) المصدر ص195
(2) المصدر نفسه ص188 (3) المصدر ص195
(4) الارشاد الشيخ المفيد ص232


صفحة (436)

وفي خلال هذه المدة يمكن افتراض ان السفير حصل على الجواب حصولاً اعتيادياً، غيراعجازي. فقد كان السفير عادة اسئلة في ورقة واحدة، كما يظهر من عدد من الروايات(1) ويرد الجواب عنها دفعة واحدة في درج واحد.
ومن هنا يمكننا ان نتصور - أعتيادياً - ان السفير في هذه المدة يحمل الاسئلة معه الى الامام المهدي(ع) فانه المطلع الوحيد على مكانه فيقابله فيه ويعرض عليه الاسئلة. فيقرؤها الأمام ثم يجيب على واحد واحد منها... إن شاء كتابة وإن شاء شفوياً. وإن شاء لم يجب بحسب ما يرى من المصالح التي يتوخاها.
الا ان بعض الروايات، تدل على خلاف ذلك . فبعضها تنيط ورود الجواب بعدة ساعات، من الصبح إلى ما بعد صلاة الظهر(2) وفي بعضها انه يرد الجواب والمداد رطب لم يجف(3). وهناك رواية تنيط الجواب بنفس الآن. حيث يخطر السؤال على ذهن الشخص، قيرى الجواب مكتوب على الورقة في ذلك الحين. وقد وجد الراوي ذلك غريباً على الاذهان. فأقسم عليه قائلاً: فوالذي بعث محمداً (ص) بالحق بشيراً (4).
فلو صحت هذه الرواية، امكننا أن نفترض ان السفير يتلقى الأجوبة بهذا الأسلوب أيضاً ، من دون أن يذهب إلى مقابلة الإمام المهدي عليه السلام.
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص 184 وص190 أو غيرها. (2) الغيبة للشيخ الطوسي ص192
(3) المصدر ص252 (4) الإحتجاج ج2 ص300


صفحة (437)


ويمكن أن يرجح ذلك بمرجحات: أحدهما: كون هذا الأسلوب طريقة سرية للغاية لا تخطر في ذهن السلطات على الإطلاق ..ومن هنا كانت أنسب بكثير بمسلك التكتم والحذر الذي كان يسير عليه السفراء وهو أولى جداً من أن يرى السفير ذاهباً إلى مكان المهدي عليه السلام وعائداً منه على انه قد تعرض للإمام المهدي عليه السلام مصلحة في تغيير مكانه في بعض الأيام من دون علم السفير ، فيترتب على ذلك انقطاع الجواب إلى حين اللقاء.
والمهدي (ع) قد يضطر على السفر البعيد ، زيادة في الحيطة ، أو لأجل الذهاب إلى الحج (1)، فينفصل عن السفير - وهو في بغداد - انفصالاً تاماً . ولا يمكن للسفير متابعته ، بالخروج من بغداد والرجوع إليها ،لأن ذلك ، مما يثير عليه الإستفهام والإنتباه.
ثانيهما : إنه يظهر من جملة الروايات ، أن المهدي عليه السلام ، كان يمضي الوقت في اول الغيبة الصغرى إلى عدة سنوات في سامراء على ما سوف يأتي .ومعه كيف يمكن للسفيرين ألاول والثاني مقابلته ...وهما لا يستطيعان الخروج من بغداد بشكل ملفت للنظر .على أن الخروج من بغداد إلى سامراء كان يستدعي السفر أياماً متعددة ، مما يوقف تجاراتهم ويحس الناس بغيابهم وهذا غير وارد في تواريخنا على الإطلاق.
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص221


صفحة (438)

ثالثهما: إن كل من شاهد المهدي (ع) في فترة غيبته الصغرى لم يجد معه أحد سفرائه ولا في مرة واحدة .. لا داخلاً إليه ولا خارجاً عنه ولا باقياً عنده .لا إن علي بن مهزيار بقي عند المهدي (ع) عدة أيام(1).
فلم يجده إلا منفرداً ، لم يدخل عليه أي شخص آخر.
رابعها : قول : محمد بن عثمان العمري السفير الثاني ،وهو يتحدث عن لقائه مع المهدي (ع) :آخر عهدي به عند بيت الله الحرام وهو يقول :اللهم أنجز لي ما وعدتني(2). وهذا يستلزم بكل وضوح عدم وقوع المقابلة ما بين موسم الحج إلى زمان هذا الكلام ، فبهذه المرجحات. قد يستنتج استحصال السفراء على الأجوبة والتوقيعات ، بطريق إعجازي ، بدون مقابلة أو بالمقابلة بسبب إعجازي .وهذا يناسب مع كون المهدي عليه السلام في أي مكان من ألأرض ، وبكونه بعيداً عن إلفات النظر وقريباً من مسلك الحذر .ونحن نقول بإمكان المعجزة عقلاً إذا توقفت عليها مصلحة الدعوة الإلهية. كما أثبتناه في محله. إلا أن كل هذه المرجحات لا توجب إلا الظن، ومجرد إمكان الشيء لا يعني وقوعه في الخارج ..فإننا ننكر توقف الدعوة الإلهية على خروج التوقيع الإعجازي دائماً ، وإن كان ثبوته أحياناً محتملاً ، كما في الرواية التي اشرنا إليها.
ومناقشات جملة من هذه المرجحات واضحة ، وبعضها يحتاج إلى عمق في العرض ، نحمل به فكرة عن إتجاه المهدي عليه السلام في أسلوب مقابلته لسفرائه.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص161
(2) المصدرالسابق ص222


صفحة (439)

السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله