فإننا سبق أن عرفنا أن أسلوب وكيفية استحصال السفير على الجواب مجمل جداً في
الروايات ،حتى يكاد أن يكون مجهولا مطلقاً .
ولم يصرح ولم يلوح به أي سفير من السفراء لشخص من الخاصة فضلاً عن سائر الناس .ولم
يتصد شخص لسؤال أي سفير عن ذلك بحسب ما وردنا من نقول.
ومعنى ذلك أن المقابلات التي كانت تحدث مع السفراء هي من السرية والحذر بمنزلة
عظيمة حتى لا يمكن أن يخطر في ذهن بشر مكان ذلك أو زمانه. والله وحده هو العالم به.
ومعه تكون سائر مرجحات الطريقة الإعجازية مندفعة وغير صحيحة:
أما المرجح الأول: وهو كون الطريقة الإعجازية أنسب بالكتمان والحذر ، فهو وإن كان
صحيحاً ، إلا أنه يمكن الدقة اتخاذ مكان وزمان خفيين للمقابلة، لا يفطن إليهم أحد
.والمهدي بعمق نظره هو الذي كان يدبر ذلك .ومن المعلوم أن الدولة في ذلك الحين لم
يكن لها من شبكات الإستخبار والتجسس ما عليه الدول فعلاً .بل كانت دون ذلك بكثير ،
مما يسهل المهمة ،ويجعل إخفاؤها أيسر .
ولا نريد باتخاذ المكان الخفي للقاء: إنه لا يتم إلا في سراديب بعيدة أو أماكن شاذة
،وإنما قد يكون ذلك متحققاً وإن لم يكن قابلاً للبقاء مدة طويلة على غفلة من الناس.
وقد يكون - وهو الأرجح والأشد خفاء إبقاء على السرية - أن تكون العلاقة بين المهدي
وسفيره على صعيد المجتمع الواضح علاقة بائع ومشتري أو دائن ومدين أو عامل وصاحب عمل
وهكذا ، ويكون المهدي قد اتخذ اسماً آخر وشخصية أخرى تختلف عن واقعه تماماً ، ويكون
له بعض العلاقة مع السفير بصفته شخصاً من التجار ، فيدس له السفير الأسئلة والطلبات
بشكل غير ملفت للنظر ، فيأخذها المهدي ويجيب عليها بصفته الحقيقية.)
صفحة (440)
وهذه الطريقة محتملة على أي حال ، وسيأتي إيضاح تفاصيلها في التاريخ القادم إن شاء
الله.
وأما مسألة اضطرار المهدي إلى السفر بعيداً عن بغداد أو ذهابه إلى الحج. فهو أمر قد
يتحقق إلا أنه لا يمنع عن خروج التوقيعات عنه بشكل منظم ، في كل اٍسبوع أو في كل
شهر ، بحيث اعتلا الناس على ذلك المظنون أن المسافات الزمنية ، ما بين التوقيعات
مختلفة بنحو مشوش حتى لا يكون تأخرها أحياناً موجباً لإلفات النظر أو إثارة التساؤل
.
ومن ثم يمكن أن نتصور أن المهدي عليه السلام ، يذهب إلى االحج أو إلى أي مكان أراد
، ثم يرجع إلى بغداد أو إلى بعض المناطق القريبة منها لأجل تمكين سفيره من مقابلته.
وأما المرجح الثاني، وهو سكنى المهدي (ع) في أول الغيبة الصغرى في دار أبيه في
سامراء ..فإن نفس الروايات الدالى على ذلك ، تدلنا على عدم حصول المقابلة أحياناً
بينه وبين السفير ، بل كان السفير في تلك الفترة يحول من جاء بالاموال إلى بغداد
،ويأمره بحملها إلى سامراء ، على ما سوف يأتي في الفصل الرابع من هذا التاريخ.
وهذا هو الذي يفسر ايضاً ندرة صدور التوقيعات والبيانات على يد السفير الأول
،وكثرتها على يد السفيرين اللذين بعده.
صفحة (441)
وأما المرجح الثالث: وهو أن من شاهد الإمام عليه السلام لم يجد عنده أحداً من
سفرائه ...فهو واضح بعد الذي عرفناه من توخي إخفاء المقابلة عن كل بشر ، حتى عن
الخاصة الذين يشاهدون الإمام المهدي عليه السلام. فمن الممكن بل لا بد ان نفترض ،
كون المقابلة تقع في أوقات غير أزمنة تلك اللقاءات ومقابلة علي بن مهزيار له عدة
أيام ليست بدعاً من ذلك .وقد عرفنا أنه لم تكن ثمة ضرورة إلى خروج التوقيع يومياً
أو اسبوعياً ، بل من الممكن تأخر خروجه خلال هذه الأيام .
وأما المرجح الرابع ،وهو عدم مقابلة السفير الثاني له عليه السلام منذ موسم الحج
..فبالإمكان أن نفترض ، إن لم يكن راجحاً فعلاً ، قرب هذا الحديث من موسم الحج ،
بمدة معتادة لتأخر التوقيعات
إذن فالطريق الإعجازي لخروج التوقيع ، وإن كان ممكناً عقلاً إلا أنه لم يدل عليه
دليل خارجاً ،ومما لا تتوقف عليه مصلحة الدعوة الإلهية المتمثلة بالمهدي (ع)
وسفرائه.
بعد إمكان ما قلناه في هذه المناقشات .نعم، نحن لا ننكره بل نقول بضرورته عند وجود
هذا التوقف ..ولعل تلك الرواية التي أشرنا إليها من هذا القبيل ، على تقدير صدق
نقلها وصحة سندها.
صفحة (442)
إذن فالراجح ،إن لم يكن المتيقن ،أن اتصال السفير بالإمام واستحصاله التوقيعات
والتوجيهات منه ، يكون عادة بطريق طبيعي غاية في الخفاء والستر والحذر ،ومما يؤيد
ذلك ، وجهان: الوجه الأول: إن الغالب ، كما عرفنا ، تأخر التوقيعات لعدة أيام بعد
توجيه السؤال .ومعنى ذلك حصول مقابلة المهدي (ع) في الأثناء .ولو كان ابناء على
حصول الطري الإعجازي، لامكن استحصال الجواب بمجرد كتابة السؤال ، أو بمجرد إطلاع
السفير عليه مما يوفر المصالح ويقلص الجهود .أو على الأقل ، كان في إمكان السفير -
زيادة في الحيطة - تأخير الرد عدة ساعات أو يوماً واحداً ، ولم يكن مضطراً للتأخير
لعدة أيام.
الوجه الثاني:ان المهدي (ع) - كما تدل عليه الروايات- كان ينيل سفراءه المطالب
العقائدية والثقافة الإسلامية، كما كان يحملهم الجواب على عدد من الأسئلة شفوياً
كما سمعنا فهل كان ذلك عن طريق المعجزة ؟!
وكيف؟ ونحن نسمع السفير الثالث يؤكد قائلاً: لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول
في دين الله برأيي، ومن عند نفسي .بل ذلك من ألاصل ومسموع من الحجة(1).
فهذه أربع جهات من مهم الحديث عن شؤون التوقيع المهدوي وخصائصه .وبها تم الكلام عن
الأمر السادس في هذا الحقل .
الأمر السابع : في خفاء السفراء عن السلطات :
إن مسلك التستر والحذر الذي سلكه السفراء ، أنتج تماماً ما هو المقصود ،وهو الخفاء
على القواعد الشعبية السائرة في ركاب السلطات ، وعيون الدولة ،وعلى المنتفعين منها
والضالعين بركابها .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص199
صفحة (443)
وليس أدل على ذلك ،مما سمعناه من موقف السفير الثالث في تفضيل الخلفاء الثلاثة
جميعاً على أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ، في مجلس للعامة ..فرفعه العامة على
رؤوسهم وكثر الدعاء له والطعن على من يرميه بالرفض(1).
وإن دلّ هذا على شيء ،فإنما يدل على جهلهم التام بسفارته وأنهم غاية ما يحملون عنه
من فكرة ..أنه متهم بالرفض ..وهذا القول منه ماح لهذه التهمة ودليل على كذبها في
نظرهم ..وإذا لم يكن رافضياً فكيف يكون سفيراً لإمام الرافضة .
وهذا هو الذي كان يتوخاه ابن روح من كلامه ذلك .. إبعاد احتمال السفارة عن أذهانهم
إبعاداً تاماً ،وجعلها بشكلها لا يمكن أن تخطر في ذهنهم ، فضلاً عن أن يصدقوا بها.
وإذا كانوا لا يعلمون به ، فهم لا يعلمون بأسلافه أيضاً ،ولا بخلفه بطريق أولى.
يندرج في هذه القائمة ، سائر السائرين على هذا الخط من حكام ومحكومين ، غير شخص
الخليفة.
فإن حول بعض أشخاص الخلفاء قرائن تاريخية تدلنا على أنه كان عارفاً بالحق وبموضعه،
كما صرح به الشيخ الصدوق في إكمال الدين(2) وقد فصلنا القول فيه في تاريخ الفترة
السابقة.
ــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه ص237
(2) انظر المصدر المخطوط.
صفحة (444)
فكان أن سمعنا موقف المعتمد من الإمام العسكري عليه السلام حين طلب منه الدعاء له
بالبقاء بالحكم، ورأينا موقفه نفسه من جعفر بن علي حين ادعى الإمامة بعد أخيه، حاول
التوسط إلى الدولة لنيل ذلك.
ونسمع في هذه الفترة ..بالنسبة إلى المقتدر أنه كان للشيخ بن روح محل عظيم عنده
(1). هذا وإنكان يمكن تفسيره باعتبار جهل المقتدر بتشييعه فضلاً عن سفارته ، لما
سمعناه من التزامه بالتقية والحذر .فكان المقتدر يقربه لأجل علمه وسعة إطلاعه وحضور
خاطره ، جاهلاً بواقعه وحقيقته.
وهذا الإحتمال ،وإن كان لا يخلو من قوة في الذهن إلا أن له مضعفات تاريخية وقرائن
موهنة له. منها: ان المقتدر نفسه حبسه مدة يسيرة منها وأن الشيخ أبن روح استتر مدة
من الزمن (2).
لو كان بالمنزلة التي سمعناها مع غض النظر عن سفارته لما كان هناك موجب لذلك كما هو
واضح . وإنما يحدث ذلك ، لما قد يبلغ السلطات بشك غامض وغير مباشر ، ما قد يقوم به
ابن روح من اعمال بصفته سفيراً عن الامام المهدي عليه السلام. واذ لا يكون لها اي
مستمسك ضده فانها تغض النظر عنه وتطلق سراحه وعلى أي حال ، يكون مسبوقاً في الجملة
بذلك.
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ ص252 وص187
(2) نفس المصدر ص183
صفحة (445)
ومنها: اذا ضمنا هذا الموقف من المقتدر ، الى موقف المعتمد قبله وموقف الراضي بعده
.فاننا قد نحصل على سلسلة من الخلفاء العارفين بالأمر ، إلى بعض الحدود ،وإن لم
يجدوا أي أسلوب معين للوقوف ضده أو لحيلولة دونه ، ثم نسمع بالنسبة إلى الراضي ، في
حادثة يأتي التعرض لها في الفصل الآتي ،أنه ذكر أبن روح في مجلسه ، ذكره أحد مؤيدي
الشلغماني المدعي للسفارة زوراً ...فقال عن صاحبه الشلغماني ،أنه لم يدع الإلهية،
وإنما أدعى أنه الباب إلى الأمام المنتظر مكان ابن روح (1)
فلم يسأله الراضي عن ابن روح هذا ، ولم يستفضله عن خبره، ومن أين يعرف أنه كان
سفيراً ؟ ولو كان الراضي جاهلاً بذلك ومحاولاً التنكيل بالسفير لا حفى السؤال عن
ذلك ،ولكان بيده أول مستمسك يدله على الإمام المهدي عليه السلام .فيدل ذلك على أنه
كان عالماً به إلى حد ما ، بل وعالماً بسفارته عن ألإمام المنتظر (ع) الذي أشار
الرجل في كلامه.
إذن فالمعتمد والراضي ،بل والمقتدر أيضاً على احتمال كبير ،كانوا يعلمون بالإتجاه
الذي يسير فيه خط الأئمة عليهم السلام وبممثليه إلى حد كبير.
ــــــــــــــــ
(1)الكامل ج6 ص241
صفحة (446)
وتنفتح أمامنا ثلاثة أسئلة لا بد من التصدي للجواب عنها .
السؤال الأول : هل كان الخلفاء الآخرون يعلمون بذلك أيضاً ، أم أن هذا العلم خاص
بهؤلاء.
السؤال الثاني : إن هؤلاء الخلفاء من أين علموا بذلك ، ومن أي طريق وصلهم الخبر.
السؤال الثالث : وهو الأهم ، أنهم إذا عرفوا ذلك ، فلماذا غضوا النظر عن السفراء
،ولم يلقوا القبض عليهم، لأجل فصلهم عن قواعدهم الشعبية أولاً واستجوابهم عن الإمام
المهدي ثانياً .تمشياً مه الخط العام للدولة في محاربة الخط العام للأئمة عليهم
السلام.
وتوخياً لتقسيم الكلام ، يقع الجواب ، ضمن بيانات ثلاثة لكل سؤال بيان:
البيان الأول : أننا حيث عرفنا الجهل التام بحال السفراء ، من سائر القواعد الشعبية
الموالية للدولة ، بمختلف طبقاتها فإنه لا يبقى أي دليل على اطلاع جميع الخلفاء
بذلك .
فإن الخلفاء لم يكونوا يتقابلون أثناء خلافة أحدهم وبدأ عهد الآخر.. لكي نفترض أنه
أسر بهذا الأمر ، بل إن الخليفة منهم يتولى منصبه أم بعد موت الآخر، او بعد أن
يشارك في عزل سلفه وقتله، وفي كلا الحالين لم يكن الظرف يسمح تلك المقابلة .
كما أن الخليفة الجديد دائماً غير مسبوق بتوليه للخلافة قبل أن يدخل أن يتولاها
فعلاً ، تحت الظروف وتأثيرات معينة، فهو لم يكن يستعد لجعل نفسه أهلاً للخلافة قبل
ذلك ، حتى يسأل سلفه عن بعض الأمور التي قد تخفى عليه.
صفحة (447)
ومن ثم يستحيل أن نفترض أن الخبر بحال السفراء تسلسل بين أشخاص الخلفاء واقتصر
عليهم .بل أن افتراض ذلك يعني أن هذا الخبر بين الطبقات العليا من رجال الدولة
يتناقلون فيما بينهم لكي يكون كل خليفة مسبوقاً بالحال من قبل خلافته.
وشيوع الخبر بهذا النوع غير محتمل أساساً .فإننا إذا افترضناه لم يكن بد من تجديد
الحملات الشعواء على السفير وعلى قواعده الشعبية .
بل لعل المهدي (ع) نفسه يكون في خطر ولم يكن لإبن روح ولا لغيره أي مجال للتقية
والمداراة .ولكننا عرفنا أنه كان متمكناً من مدارات الطبقات العليا فضلاً عن الدنيا
،وهذا معناه - بكل وضوح - جهل تلك الطبقات بالأمر ، إذن فمن أين يصل خبر السفراء
إلى سائر الخلفاء؟
ومعه فيتعين أن يكون هؤلاء الخلفاء العالمين بخبر السفراء ، هم وحدهم المطلعون على
ذلك ، إلا أن يكون غيرهم قد سلك نفس سبيلهم في الإطلاع على الخبر. على ما سنذكره في
البيان الثاني ..وهذا لم يرد في التاريخ ما يدل عليه.
كما يتعين أيضاً أن يكون الخليفة العالم بالخبر حريصاً على عدم التصريح به أمام أي
شخص .إذ لو صرح به أمام بطانته وخاصته لأنتشر الخبر ،ولبدأت الحملات القوية ضد
السفراء من حيث أن القواد والموالي كانوا أشد تطرفاً من أشخاص الخلفاء في ذلك
،ولكان هذا االقول من الخليفة أحسن مستمسك ضده من قبل مواليه ومعارضيه على حد سواء.
صفحة (448)
البيان الثاني: أننا بعد أن عرفنا أن أي خليفة من خلفاء هذه الفترة لا يمكنه أخذ
الخبر ، من سلفه ولا من خاصته .كما لا يمكن أن نفترض أنه حصل عليه بعد توليه
الخلافة من قبل بعض الموالين للسفراء ، لأن شخص الخليفة، وهو على قمة الدولة ، أولى
من يجب الحذر منه ،وأخص من ينبغي التكتم أمامه .ووصول الخبر إليه بالواسطة غير
محتمل أيضاً لعد إطلاع أحد على سفارة السفير ما لم يمن قوي الإرادة صلب الإيمان
قابلاً للصمود أمام المطاردة والتعذيب.
إذن فيتعين، أن يكون هؤلاء الخلفاء الإثنين أو الثلاثة ، قد عرفوا حال السفراء قبل
توليهم للخلافة ،وتصيدوا أخبارهم عن طريق إتصالهم ببعض القواعد الشعبية للسفير، من
علمتهم أو خاصتهم، ممن يكون مسبوقاً بالخبر.
وإيضاح ذلك: أننا عرفنا أن الفرد من الخلفاء لم يكن عالماً بأنه سيتولى الخلافة
،وقد لا يخطر في ذهنه أن ذلك سيحدث له في يوم من الأيام ، لكثرة رجال بني العباس
الصالحين لها في نظره ،وعدم ابتناء الخلافة على أساس قانوني مضبوط .وإنما ينصب
الخليفة عجالة بعد موت سلفه تحت ظروف غير معينة وبرأي جماعة غير معينين ،فاحتمال
تولي الفرد العباسي للخلافة كان ضعيفاً ، بل قد يكون في غاية الوهن لدى الكثرة
الكاثرة منهم ..إلا بمجرد الصدفة وتجمع الظروف المقتضية لذلك ، عند موت أحد الخلفاء
.. تلك الظروف المشوشة التي لا يمكن أن يحسب لها حساب قبل أيام فضلاً عن أعوام.
صفحة (449)
وإذا كان الفرد بنفسه جاهلاً بخلافته ، قبل حدوثها .فبالأولى أن يجهلها الناس، بل
أن يغفلوا عنها غفلة مطلقة.
إذا عرفنا ذلك ، فهمنا بوضوح ، كيف يتسنى لجماعة من علماء العامة وأهل السنة. بما
فيهم بعض بني العباس ، الإتصال بالخاصة وغير الخاصة من الموالين لخط الأئمة عليهم
السلام .وعقد المجالس العلمية المتعددة معهم ، بل وعقد أوثق الصلاة القائمة على
تبادل حسن النية في جملة من الأحيان بينهم .فقد كان هذا هو الديدن محفوظاً ومتبعاً
بين أصحابهم إلى هذه الفترة التي نؤرخ لها.
ويكفينا أن نسمع حضور السفير ابن روح نفسه لمجالسهم كما أن أبا أبا سهل النوبختي
كان يعرب عن مناظراته ومحاججاته(1) إلى غير ذلك مما يطول تعداده .وبالجملة كان
الإرتباط بين علماء المذاهب الإسلامية كبيراً في بغداد في تلك الفترة .
وكان الخاصة الموالون، إذا وجدوا من شخص انفتاحاً وتقبلاً وذهناً واسعاً وصدراً
رحباً ،ازدادوا ثقافة ومعرفة وإطلاعاً. وإذا اطمأنوا بشخص وأحسوا منه الميل إليهم
والقناعة باتجاههم ، زرقوا له بعض ما يعرفون مما هو أعلى من المستوى العام المعروف
من الإسلام.
ــــــــــــــــ
(1)غيبة الشيخ الطوسي ص240
صفحة (450)
ومن ثم يكون المظنون ، بل المتعين جزماً ، بعد سد سائر الاحتمالات الأخرى، كما
سبق... أن يكون الراضي والمقتدر قد استقيا معرفتهما عن هذ ا الطريق... حيث كانا قبل
خلافتهما يعيشان العقيدة على البساطة والصفاء بعيداً عن جو الدولة الصاخب ، فامتزجا
بعلماء الخاصة فأحسوا منهما الانفتاح والميل إلى حد ما ، فرزقا إليهما بعض ما يعتبر
سراً عن الآخرين كاسم السفير وعمله .
ومن ثم لم يندهش الراضي من إيراد اسم الحسين ابن روح ولم يستفسر من المتكلم عن حاله
ولم يسأله عن سفارته ومكانه، فإن الحسين بن روح كان قد تولى السفارة قبل خلافة
الراضي بعدة سنوات عام 305 واستخلف الراضي عام 322 ،وتوفي ابن روح عام 326 كما
عرفنا. فيمكن للراضي أن يكون قد عرف بسفارته قبل خلافته بزمن ليس باليسير.
كما ان الراجح أن المقتدر ، إنما يبدي الاحترام المتزايد لابن روح باعتبار ذلك.
وهذا البيان يشمل أي خليفة يفترض أنه يحمل فكرة عن السفراء من خلفاء تلك الفترة .ما
عدا المعتمد الذي بدأت تلك الفترة أثناء خلافته .فإنه لا ضرورة إلى افتراض كونه
مسبوقاً بالاتصال بعلماء الخاصة قبل خلافته.
بل يكفي فيه ما علمناه من احترام الإمام العسكري عليه السلام والإيمان بقدسيته وصدق
سجيته ..إلى حد طلب منه أن يدعو له . فإن مسلك الإمام في العلم والتقوى، كاف لأخذ
مثل هذه النتائج المهمة.
صفحة (451)
ولم يعلم من المعتمد أنه كان عالماً بالسفراء بقليل ولا بكثير .وخاصة أن خبر
السفارة في أول وجودها ،وهو محاط بالكتمان والحذر ، أقل انتشارا من أزمنتها
المتأخرة. علماً أن شخص الخليفة وخاصته ، هم أولى من يكتم عنه ويتقي منه .فلم يكن
ليصل إليهم الخبر بحال من الأحوال وإنما حصل بعض الخلفاء المتأخرين على الخبر ، قبل
خلافتهم ، بصفتهم أفراداً من العامة المتفتحين .
البيان الثالث: أننا نستطيع أن نجيب عن السؤال الثالث بوجهين :
الوجه الأول: وهو مترتب على البيان الثاني الذي ذكرناه .وذلك :
أن الخليفة العالم بأمر السفراء ، لما لم يصبح عالماً ، بأمرهم إلا بعد كونه
منفتحاً على خطهم ومطمئناً إليه بقليل أو بكثير .فهو لا يستطيع التخلص نفسياً
وفكرياً من هذا الإطمئنان ، بعد توليه الخلافة.
إذن فبالرغم من كونه يجد نفسه عالماً بحقيقة السفراء ، ومسؤولاً عن حماية خط
الخلافة العباسي .إلا أنه يحس بالمسؤولية أيضاً تجاه السفراء ، في حفظهم والستر
عليهم، وفاء للخط الذي انفتح عليه قبل خلافته. وفي الحدود التي لا تنافي الأمن
العام في الدولة.
ومعه فهو لا يصرح برأيه لأحد من خاصته ، حفاظاً على السفراء وعلى نفسه أيضاً. أما
محافظته على السفراء فباعتبار علمه أنه لو صرح بذلك لخرج الأمر من يده ولبدأت
الحملات على السفراء وقواعدهم الشعبية من دون الرجوع إلى رأيه... من قبل قواده و
وزرائه ،فإنهم لا ينفتحوا انفتاحه ولم يروا رأيه ،وأما محافظته على نفسه فلعلمه
أنهم لو علموا بحاله لما انتخبوه ، وانهم على استعداد لإزالته بمجرد تهمته بذلك
فضلاً عن العلم به منه .وعلى أي حال ، نرى الخليفة يلوذ بالصمت تكتماً وحذراً .
صفحة (452)
ومن هنا يتضح: أن هذا الشأن خاص بالخليفة وحده ولا يشمل الآخرين. ومن هنا نجا
السفراء من المطاردة الفعلية، واستطاعوا التكتم، في عهد المقتدر والراضي العارفين
بشأنهم ،لأن من يعلم بهم وهو شخص الخليفة، غير عازم على مطاردتهم ،ومن هو عازم على
مطاردتهم ، وهم الآخرون، غير عالمين بشأنهم .
كما يتضح: إن القواعد الشعبية العامة الموالية للدولة ، بمختلف طبقاتها ، كانت
خالية الذهن عن إتصالات الخليفة قبل خلافته .أو أنهم - على الأقل - علموا بها
ولكنهم لم يطلعوا على ميله وانفتاحه ومن هنا وقع عليه الاختيار للخلافة. فإنه كان
يتكتم جزماً بذلك قبل خلافته وبعدها ، بحيث يخفى حاله على الآخرين وعلى التاريخ
العام المدون أيضاً.
كما يتضح من ذلك، انه يمكن القول: بأن قتل المقتدر للحسين بن منصور الحلاج عام 309
،وقتل الراضي لابن العزاقر الشلغماني عام 322 ،كما سبق ان عرفنا - وكلاهما ادعى
السفارة زوراً -. قد كان مستنداً الى انفتاحهما ايضاً .أي ان ما قلناه سابقاً من ان
قتلهما لهذين الرجلين المنحرفين ،عمل مشترك في مصلحة خط السفراء ...هذا المعنى كان
ملحوظاً للخليفة فعلاً ، وإن ألبسه بلباس آخر ، تكتماً وتحذراً.
صفحة (453)
يبقى سؤال واحد وهو ان الخليفة على فرض انفتاحه على خط السفراء وميله اليه ، كيف
رضي بان يتولى الخلافة ، ولماذا لم يسلمها إلى من يرى أنها حقه بعد أن تولاها.
ومختصر الجواب: أننا إن فرضنا أن الخليفة كان قد أصبح قبل خلافته شيعياً مخلصاً
تماماً ..إذن فقد يصبح معرضاً للقتل على تقدير تصريحه برأيه ورفضه للخلافة .على أنه
- لو كان كذلك - لعلم أنه ليس هناك ممن يدفع الخلافة إليه ، فإن المهدي (ع) غائب
والسفير غير مأمور بتولي الخلافة ..كما أنه ليس هناك من يقبل تنازله عنها فإنه لو
تنازل يعود الحكم إلى شخص عباسي آخر ، لا إلى من يعتقده أهلاً لذلك ،ولعله يكون
أسوأ اتجاهاً ضد السفراء منه فيما إذا تولاها.
وإن لم نفترض في مثل هذا الخليفة ذلك، ولا حاجة إلى مثل هذا الإفتراض بطبيعة الحال
، بل يكفي فيه افتراض كونه وفياً للصحبة السابقة مع الخاصة ،محترما ًلعلمهم وتقواهم
...وهذا هو الذي أكدنا عليه في البيان الثاني .فإن كان الحال كذلك ،فإنه لا يحتمل
في حقه رفض الخلافة حين تعرض عليه، بما فيها من ملك وقوة وإغراء. فإنها مما تنال
بالسيف وتهرق في سبيلها الدماء . فكيف إذا حصل عليها بطريق سهل بسيط .
صفحة (454)
الوجه الثاني :
ان نغض النظر عن الوجه الاول فنفترض الخليفة عالماً بسفارة السفراء، وغير حريص عل
الوفاء معه، بل يرى السير على خط الدولة الزم والمحافظة على امنها وصيانتها ارجح.
الا اننا نقول: انه كان عاجزاً عن تجريد الحملات على السفراء للقبض عليهم
واستجوابهم وتعذيبهم .او على الاقل، لم يكن يرى من مصلحة الدولة حدوث ذلك.
وذلك : لما يراه الخليفة عياناً ويعيشه من التصدع في اركان الدولة والحروب في
أطرافها عن قرب وعن بعد .. فصاحب الزنج اولاً والقرامطة ثانياً والخوارج ثالثاً
وقواد الاطراف رابعاً ،ومشاكل الوزراء والحرس وتمرداتهم واحتجاجاتهم على كثير من
الاوضاع خامساً.. كل ذلك مما يشتت قوى الدولة ويدعها تحارب في عدة جبهات وتضطر لصرف
الاموال في مختلف الجهات.
مضافاً الى ان نجم الخلافة كان لا زال مستمراً بالافول، ولم تواجه الأمة بعد
المعتضد - خلال هذه الفترة - خليفة قوياً يؤبه به ويركن إليه .
فالخليفة لم يكن يجد القدرة :أو لم يكن يجد المصلحة ، في أن تفتح الدولة جبهة جديدة
للحرب ، بتجديد الحملات ضد السفراء ،وما يحتمله من استتباع ذلك من تحركات وراقة
دماء في نفس العاصمة بغداد...مسكن الخلافة والسفراء، وما قد يستتبعه من ثورات في
الأطراف من قبل المخلصين الداعين الى الرضا من آل محمد ..وقد عرفنا مقدار حذر
الدولة من هذه الثورات وفرقها من حدوثها.
صفحة (455)
وما قلناه من قلة هذه الثورات خلال هذه الفترة ..إنما هو امر ندركه بعد نجاز
الحوادث وتمخض النتائج خلال التاريخ. ولم تكن الدولة يومئذ بمدركة لذلك ،وهي تعيش
تلك الاحداث مباشرة وقريبة العهد من كثير من هذه الثورات ومعاصرة لبعضها بالفعل
والتي من اهمها دولة طبرستان. فكل ذلك مانع لا محالة للدولة عن ان تجرد الحملات ضد
السفراء ، حفاظاً على البقية االباقية من قوى الدولة ، في جبهاتها المختلفة.
وهذا هو الذي يوضح لنا ..كيف ان الخليفة لا يصرح للاخرين بما يعلمه من امر السفراء
.فإنه يعلم انه لو صرح بذلك لخرج الأمر من يده ،ولبدأ الآخرون الحملات التي لم يكن
مقتنعاً بكونها صحيحة وذات مصلحة بالنسبة إلى الدولة.
يضاف إلى ذلك إمكان افتراض أن الخليفة العام بأمر السفراء كان يعلم أيضاً بعدم
عومهم على القيام بأي حركة اجتماعية عامة ، ومن ثم فهو لا يشكل خطراً مباشراً على
الدولة ،ومن هنا كان يرى الخليفة بوضوح أن الوقوف في وجه الأعداء المحاربين عن قرب
في البلاد أو عن بعد ، أولى من صرف المال والجهد ضد أمر لا ضرر منه .خاصة وهو يحتمل
أن السفراء وقواعدهم الشعبية لو جوبهوا بالتحدي لأمكن أن يصبحوا له جبهة قتال أخرى
لا تقل ذرراً عن أي جبهة أخرى بل قد تزيد.
الأمر الثامن: في مقدار ارتباط السفراء بقواعدهم الشعبية ذكرنا فيما سبق ، إنه لم
يكن يعرف باسم السفير إلا من عرف فيه الإخلاص العظيم والإستعداد للتضحية والفداء
.وهم الخاصة الأقلون بطبيعة الحال .
صفحة (456)
إلا أن المفهوم من مجموع النقل التاريخي في روايتنا ، أن القواعد الشعبية الموالية
في بغداد خاصة وفي العراق عامة - كانت تعرف - على العموم- فكرة السفارة وكيفية
الإتصال بالسفير ولو بوسائط . وإن عدداً مهماً من خاصتهم وعلمائهم ومبرزيهم ، كانوا
على إتصال مباشر بهم وعلم بمسؤولياتهم .وقد يقوم جملة منهم بالوساطة بين السفير
والمجتمع لإبلاغ توقيعات المهدي وتوجيهاته إلى الناس. قال الشيخ الطوسي : وقد كان
في زمان السفراء الممدوحين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين
للسفارة من الأصل(1).
وقد يرتبط الفرد العادي من القواعد الشعبية الموالية ، بواحد من هؤلاء الخاصة ،
لقضاء مقصود عن طريق السفير ، من دون معرفته بشخص السفير ولا مكانه ولا عمله
الإجتماعي الظاهر .ولا يكون هذا الواسطة على استعداد للتصريح بذلك باعتبتر كون
الفرد العادي، غير قادر على الكتمان، ولا على مستوى المسؤولية والإخلاص .وسنسمع
أسماء جماعة من هؤلاء الوسطاء في الفصل الأخير من هذا القسم من التاريخ.
وعلى أي حال فقد سمعنا فيما سبق أنه كان لأبي جعفر العمري في بغداد نحواً من عشرة
أنفس ، منهم أبو القاسم أبن روح رضي الله عنه كانوا وكلاء على الأموال والتجارات
.إلا أن استعمالهم على ذلك كان للتغطية على الأمر وزيادة الحذر والكتمان .كما هو
الحال في السفير نفسه ،وفي الواقع كانوا وكلاء في المال وفي قيادة قواعدهم الشعبية.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص257.
صفحة (457)
وقد سمعنا كيف أن الحسين بن روح رضي الله عنه يلقي بأسراره إلى الرؤساء من
الشيعة(1).
كما نسمع أن ابن روح رضي الله عنه ، كان له الوكلاء منهم الشلغماني قبل
إنحرافه(2)،وآخرين .وفي بعض الروايات يعبر بقول الراوي: كتبت إلى الشيخ أبي القاسم
الحسين بن روح ، وهو ظاهر بوجود واسطة بينه وبين الراوي .. لعدم وجود البريد يومئذ
بالنحو المعروف الآن.
فكان الأمر في بغداد والأطراف يجري على هذا النسق، فكانت توزع تعاليم الإمام المهدي
عليه السلام وتجبى الضرائب الإسلامية والحقوق الشرعية، بشكل هرمي، يكون السفير قمته
،والوكلاء الخاصون وسطه ،والقواعد الشعبية الموالية قاعدته ، وذلك مبالغة في الخفة
والحذر والتستر.
وأما في الأطراف البعيدة ، فالأمر في مبدأ الغيبة الصغرى وتحقق فكرة السفراء ، كان
مختلفاً عن ذلك إلى حد كبير ، فقد كان الأمر عند الكثيرين غامضاً مجملاً.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص227 (2) المصدر 183
صفحة (458)
صحيح أن المهدي (ع) نفسه أسس الأساس الرئيسي لإرتفاع هذا الغموض ، منذ اليوم الأول
للغيبة الصغرى ، حين ذكر لوفد القسمين أنه سيعين لهم رجلاً في بغداد تدفع إليه
الأموال وتخرج عنه التوقيعات .فكان لهذا الوفد أثره الكبير في إيضاح الفكرة في
العراق وفي قم وأطرافها إلى حد كبير.
إلا أن الإنتشار المطلوب لهذه الفكرة . يحتاج إلى عدة سنوات خاصة وهو يعيش جو
التكتم والحذر ، في كل أصقاع البلاد الإسلامية ومن هنا كان الأمر في مبدأ الغيبة
الصغرى غامضاً لدى الكثيرين ومبهماً مجملاً.
فهذا محمد بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي ، يرد العراق شاكاً بعد وفاة الإمام
العسكري عليه السلام ، باحثاً عن خلفه(1). وفي الدينور حين أراد أهلها بعد وفاة
الإمام بسنة أو سنتين ، أن يسلموا أموالهم إلى أحمد بن محمد الدينوري ليحملها إلى
حيث يجب تسليمها ..فأجابهم : يا قوم هذه حيرة ولا نعرف الباب في هذا الوقت.
انظر إنه يعرف السفارة وكونها مطبقة في ذلك الحين ، ويعرف كوها في بغداد ، لكونه
قصد بغداد بعد ذلك باحثاً عن السفير ، كما جاء به النقل (2). ولكنه يعترف بجهله
باسم وشخص السفير (الباب) في ذلك الوقت.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة ص159 والمنتخب ص383
(2) انظر البحار ج13 ص79
صفحة (459)
وفي مصر ، خرج أبو الرجاء المصري ،وكان من الصالحين ، بعد مضى الإمام العسكري عليه
السلام بثلاث سنين ، خرج في طلب خلفه(1) والعرف على وظيفته وتكليفه في تلك الفترة.
ومن الطبيعي أن يثور مثل هذا الغبار في أول فترة الغيبة الصغرى في المناطق النائية
عن المركز ، ولكنه ينجلي تدريجياً بعد أن يستطيع هؤلاء الباحثون عن الأمر أن يحصلوا
على المراد ، فيعرفوا شخص السفير أو يقابلوا الإمام (ع) نفسه أحياناً ، فيرتفع شكهم
ويرجعون إلى بلدانهم لكي يبلغوا ما رأوا من الحق ، مضافاً إلى تبليغ وفد القميين
وما يقوم به من جهد ، فيستتب اليقين وتهدأ النفوس.
وإذ تتضح جلية الأمر يصبح نفس النظام الهرمي مطبقاً في الأطراف أيضا، حيث يرجع
الناس هناك إلى الوكلاء المبثوثين في البلدان ويرجع هؤلاء بالمراسلة إلى السفير في
بغداد.
فهذه هي أهم الأمور التي تحدد الخصائص العامة والمضمون الإجتماعي للسفارة ، الذي
عقدنا من أجله هذا الحقل الأول.
الحقل الثاني: في تفاصيل أعمال السفراء:
سبق أن قلنا أننا خلال هذا البحث لا نحاول استقصاء كل ما ورد في تاريخهم من أخبار ،
بل حسبنا أن نعطي لكل عنوان نعقده من الأمثلة ما يجليه ، من دون تطويل .
ــــــــــــــــ
(1) أنظر إكمال الدين المخطوط وغيره.
صفحة (460)
كما أننا حين نتحدث عن نشاط السفراء ، نتحدث عنهم بنحو عام لإنهم لا يكادون يتميزون
في الأساليب ، باعتبار صدورهم من منبع واحد ، هي توجيهات الإمام المهدي عليه السلام
.وكا ما يستقل به بعض السفراء من خصائص راجع إلى اختلاف المصالح التي يراها المهدي
(ع) في ذلك ، بحيث لو كان السفير الآخر في محله لقام بنفس العمل لا محالة.
وفي هذه الحدود يقع الكلام في اعمال السفراء ، ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى: إقامة الحجة على إثبات صدقهم بإظهار المعجزات على المستوى الذي سبق
أن عرفناه وبحثناه، ينقطع لسان الطاعن ويزيد يقين المتيقن.
ووجه الحاجة إلى مثل ذلك العموم، هو أن منصب السفارة عن الإمام عليه السلام ، منصب
مهم جليل تصبو إليه الأنظار وتتشوق إليه النفوس .ومن ثم لم يكتف جماعة ممن لا حريجة
له في دينه بمجرد الأمل بالحصول عليها. بل ادعى جماعة من السفراء فعلاً عن الإمام
المهدي (ع) كذباً وزوراً ، استدراراً للأموال واستجلاباً للأنظار ، فلحقته لعنة
الله والمهدي والتاريخ، على ما سنعرف في الفصل القادم.
ومن ثم احتاج السفراء إلى إقامة الحجة على صدقهم من ناحيتين :
إحداهما : كون السفير صادقاً في قوله ،وغير طامع بالزعامة المزيفة في دعواه للسفارة
.
صفحة (461)
وهذه الناحية ، وإن كانت تثبت بأمور عديدة منها : وثاقة السفير في نفسه بحسب
التجربة التي يعيشها الناس معه، ومنها: مدح الأئمة عليهم السلام للسفيرين الأولين
.. قد كان ذلك مشهوراً معروفاً بينهم ومنها إيعاز كل سفير إلى خلفه أمام جمع من
الخاصة .إلا أن المعجزة - على أي حال- ذات أثر حسي مباشر أقوى في إزالة الشك للشاك
وأنفع في التأثير على أؤلئك الوافدين الذين لم يعيشوا تلك الأمور وإنما نقلت إليهم
بعضها بنحو السماع الظني.
ثانيتهما :إفحام المدعين للسفارة زوراً وإظهار كذبهم ودجلهم وذلك لإنه إذا اتضح
للفرد جلياً قدرة السفير على لإقامة خوارق العادة وعجز الآخر عن ذلك ، تعين لديه
صدق الأول وكذب الثاني لا محالة.
وقد سبق أن حملنا عن بعض المعجزات فكرة مختصرة ، ونعرض له الآن ، بشيء من التفصيل
مقروناً ببعض الأمثلة:
فمن ذلك: ما قاله الحسين بن روح للراوي الذي ناقشه في بعض الأمور العقائدية ، فغدا
عليه من الغد وهو يقول في نفسه :أتراه ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه؟ فابتدأه لبن
روح ، بدون سبق الكلام قائلاً : يا محمد بن إبراهيم لئن أخر من السماء فتخطفني
الطير أو تهوى بي الريح في مكان سحيق أحب إليّ من أن أقول في دين الله برأيي ومن
عند نفسي .بل ذلك من الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه (1).
ــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص199
صفحة (462)
انظر كيف اقترنت أمور ثلاثة أنتجت نتيجة واضحة .احدها: شك المخاطب ،والآخر: التأكيد
الذي ذكره أبن روح في كلامه والثالث: أن ابن روح ابتداه بالكلام بما في نفسه قبل أن
يعرب عنه وهو خرق للنواميس الطبيعية، وعلم الغيب ببعض مراتبه ،وبذلك ارتفع شكه، ولم
يكن شكه ليرتفع دون ذلك.
ومن ذلك: أن ابن روح رضي الله عنه ، تكلم مع امرأة من أهل آبة ، بلغة قومها .فإنها
جاءت تحمل معها ثلثمائة دينار لكي تسلمها على السفير ،واستصحبت معها مترجماً ،
ليكون واسطة في التفاهم بينهما ولكن أبو القاسم بن روح أقبل عليها وتكلم معها بلسان
آبي فصيح بادئاً بسؤال أحوالها وحال صبيانها ، فاستغنت عن الترجمة ، وسلمت المال ،
ورجعت(1).
انظر لهذه الحجة الساذجة البسيطة، التي تزيل ما قد يكون علق في قلب المرأة الوافدة
من الشك، أو من ثقل المسؤولية بدفع المال إليه.
ومن ذلك إخبار السمري بوفاة علي بن الحسين بن بابويه القمي فكتب المشايخ تاريخ ذلك
اليوم ، فورد الخبر انه توفي في ذلك اليوم(2).
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص195
(2) انظر الغيبة ص242 ومنتخب الأثر ص399
صفحة (463)
ومن ذلك: أن أبا جعفر العمري أخرج إلى محمد بن متيل ، ثويبات معلمة ،وصريرات فيها
دراهم ،وقال له: تحتاج أن تصير نفسك إلى واسط في هذا الوقت ، وتدفع ما دفعته إليك
إلى أول رجل يلقاك عند صعودك من المركب في واسط (1). وبد أن ينفذ ابن متيل هذا
الامريرى الشخص المقصود ، كما وصفه العمري ، ويظهر له من تضاعيف الحادثة أن صرة
الثياب هي كفن لمحمد بن عبيد الله الحايري وصرة الدراهم كراء الحمالين والحفار.
ومن ذلك :أن أبا جعفر العمري رضي الله عنه وصله رسول من قم إلى بغداد يحمل أموالاً
للإمام عليه السلام. وعندما دفعها إليه وأراد الإنصراف ، قال له أبو جعفر: قد بقي
شيء مما استودعته ، فأين هو؟ فقال له الرجل: لم يبق شيء يا سيدي في يدي إلا وسلمته
.
فقال له أبو جعفر : بلى قد بقي شيء فارجع إلى ما معك وفتشه وتذكر ما دفع إليك.
فمضى الرجل وأجهد نفسه أياماً في البحث والتفكير ، فلم يفلح فعاد إلى أبي جعفر
يائساً .فقال له أبو جعفر : فإنه يقال لك - يعني من قبل المهدي (ع):- الثوبان
السردانيان االذان دفعهما إليك فلان ابن فلان ، ما فعلا . فقال له الرجل: أي والله
يا سيدي لقد نسيتهما حتى ذهبا عن عقلي ،ولست أدري الآن ، أين وضعتهما.
وبحث الرجل عنهما طويلاً. وسأل كثيراً فلم يقف لهما على خبر فرجع إلى أبي جعفر
فأخبره. فقال له أبو جعفر
يقال لك إمض إلى فلان بن فلان القطان الذي حملت إليه عدلي القطن ، في دار القطن
،فافتق أحدهما ،وهو الذي مكتوب عليه كذا وكذا ،فإنهما في جانبه .
ــــــــــــــــ
(1) انظر منتخب الأثر ص396 وإكمال الدين المخطوط.
صفحة (464)
فتحير الرجل مما أخبر به أبو جعفر، ومضى لوجهه إلى الموضع ففتق العدل المذكور ،فإذا
الثوبان في جانبه ، قد اندسا مع القطن فأخذهما وجاء بهما إلى أبي جعفر وسلمهما
إليه(1).
انظر إلى صراحة أبي جعفر رضي الله عنه، بأن هذه التعليمات ليست منه .وإنما هي اوامر
الإمام المهدي (ع) وتعاليمه، وهذا معنى ما قلناه من أن ما يخبر به السفراء من
الأمور الغائبة .إنما هي بتعليم منه عليه السلام. وهي تدل بوضوح - أمام هذا الرسول
القمي - على صدق سفارة السفير وحقانية دعواه .بل على جلالة شأنه، وعناية الإمام
المهدي به.
وانظر إلى هذا التزريق التدريجي للأخبار عن الثوبين الضائعين إذ أخبره أولاً عن شيء
ضائع ، ثم أخبره عن جنسه وهو أنهما ثوبان سردانيان ، ثم أخبره عن مكانهما، وكان
يفصل بين كل أخبار وآخر عدة أيام. وهذا يوفر حشداً نفساً من التوجه الذي يمهد طريق
اليقين بالنتيجة والشعور بضعف لنفس وتفاهتها أمام هذا التيار الجارف من الحجج
الدامغة.. التي لا تفسير لها إلا كونها واقعة في ريق الله عزو جل رب العالمين العلي
العظيم.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص179
صفحة (465)
ومع ذلك: أن الشلغماني بعد إنحرافه وتزويره ، أرسل إلى الشيخ الحسين بن روح يسأله
أن يباهله. وقال: أنا صاحب الرجل - يعني الإمام المهدي (ع)، وقد أمرت بإظهار العلم.
وقد أظهرته باطناً وظاهراً. فباهلني. فأنفذ إليه الشيخ رضي الله عنه في جواب ذلك:
أينا تقدم صاحبه فهو المخصوم. فتقدم العزاقري ، فقتل وصلب.
وأخذ معه ابن ابي عون. وذلك في سنة 323(1) وسيأتي تفصيل ذلك ان شاء الله تعالى في
مستقبل هذا البحث.
النقطة الثانية : المساهمة في إخفاء المهدي (ع). وهو ما كان كل واحد من السفراء ،
يكافح في سبيله ويؤكد عليه ملياً. وكيف لا، وهو على مستوى المسؤولية التي عبر عنها
بعض الخاصة من معاصريهم بأنه لو كانت الحجة تحت ذياه وقرض بالمقاريض ليكشف الذيل
عنه لما كشفه كما سبق أن سمعنا .
فمن ذلك: أن عبد الله بن جعفر الحميري وأحمد بن اسحق الأشعري وهما من أجلاء علماء
الأصحاب وخاصة الموالين لخط الأئمة عليهم السلام.
كما عرفنا من القسم الأول من هذا التاريخ طلبا من ابي عمرو عثمان بن سعيد السفير
الأول أن يخبرهما عن اسم الإمام المهدي عليه السلام فقال: نهيتم عن هذا.
وفي رواية أخرة عن نفس الواقعة أنه قال: محرم عليكم أن تسألوا عن ذلك ، ولا أقول
هذا من عندي وليس لي أن أحلل وأحرم ولكن عنه عليه السلام .فإن الأمر عند السلطان أن
أبا محمد (ع) مضى ولم يخلف ولداً وقسم ميراثه وأخذ من لا حق له، وصبر على ذلك .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص187
صفحة (466)
وهو ذا عياله يجولون وليس أحداً يجسر أن يتعرف إليهم وينيلهم شيئاَ .وإذا وقع الإسم
وقع الطلب. فاتقوا الله وأمسكوا عن ذلك(1)،
وقد درسنا فيما سبق ، بكل تفصيل الظروف المقتضية لهذا النهي المشدد عن ذكر الإسم،
حتى أمام مثل هؤلاء الخاصة خوفاً من أن يتسرب ببطء - ولو عن غير قصد - إلى اصحاب
النيات السيئةوالنفوس المريضة من عملاء الدولة أو ممن يلين لها ويخاف سطوتها ،
فيصرح بسره ويكشف ما في نفسه.
وخرج التوقيع من المهدي (ع) إلى محمد بن عثمان العمري السفير الثاني رضي الله عنه
،إبتداء من غير مسألة: ليخبر الذين يسألون عن الإسم: أما السكوت والجنة، وأما
الكلام والنار. فإنهم إن وقفوا على الإسم أذاعوه. وإن وقفوا على المكان دلوا عليه
(2).
إنه عليه السلام يأمر سفيره أن يخبر أؤلئك الفضوليين الذين يسألون عن الإسم ..أنهم
مأمورون بالسكوت. فإنهم إن تقدموا بشيء في هذا السبيل ، فالنار مثواهم وبئس المصير.
وانظر إلى العلة التي يذكرها .. إنه يشير إلى ضعف الإخلاص والإرادة عند الفرد
المسلم .وإن كان سائراً في خط الأئمة عليهم السلام فإنه إن اطلع على الإسم أفشاه ،
وصرح به تحت الضغط الحكومي العالي وإن عرف المكان دل عليه الناس والسلطات .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص219 وانظر أصول الكافي ( المخطوط)
(2) الغيبة للشبخ الطوسي ص222
صفحة (467)
وقد أثيرت هذه التساؤلات في أغلب أمرها ، في السنوات الأولى من فترة الغيبة، وهذا
ملحوظ مما نقلناه من أن التحريم صادر عن السفيرين الأولين ،ولم يصدر من السفيرين
الأخيرين شيء ملحوظ في ذلك.
وعلى أي حال. فقد كان المتسائلون يغفلون أو يتناسون التبليغات القديمة من الأئمة
الماضين عليهم السلام ، كقول الإمام الهادي الذي سمعناه في القسم الأول من هذا
التاريخ : إنكم لا ترون شخصه ولا يحل ذكره باسمه. قال الراوي: فقلت فكيف نذكره؟
فقال: قولوا: الحجة من آل محمد (ص)(1). وقول الإمام الصادق (ع): صاحب هذا الأمر لا
يسميه باسمه إلا كافر(2).
وعلى أي حال ، فهذا الكتمان الشديد ، منوط بعدم وجود مصلحة كبرى في الدلالة على
مكان الإمام عليه السلام ومقابلته، أما لو وجدت مثل هذه المصلحة ، لم يكن من ذلك بد
، ومما يندرج في ذلك: أن أبا جعفر العمري رضي الله عنه ، حين رأى أن أبا طاهر بن
بلال ،وهو أحد مدعي السفارة زوراً ، يحتكر الأموال التي للإمام (ع) ولا يدفعها إلى
سفيره الحق ،اصطحبه وأدخله إلى بعض دوره . يقول أبو طاهر:
فأشرف عليّ من علو داره فأمرني بحمل ما عندي من المال إليه.
ــــــــــــــــ
(1) انظر اصول الكافي ( المخطوط)
(2) المصدر السابق( المخطوط)
صفحة (468)
فقال: فقال له أخوه: ومن أين علمت أنه صاحب الزمان .قال : قد وقع علي من الهيبة له
ودخلني من الرعب منه ما علمت أنه صاحب الزمان(1).
فكان المهدي عليه السلام - فيما تدل عليه هذه الرواية- يرى المصلحة في ان يقابل
المدعي المزور وجهاً لوجه، ويأمره بدفع الأموال وعدم احتكارها. فكان أن ذهب به
السفير إلى بعض دوره، وتمت المقابلة هناك. وكانت المقابلة قصيرة ورهيبة بالنسبة إلى
هذا المزور ..وهو يعلم بكذب نفسه وسوء تصرفه.
والطريف في امره أنه اضطر للإعتراف بعد معرفته بصاحب الزمان المهدي (ع) شخصياً ،
بالرغم من أنه يدعي السفارة عنه ، وهذا يدل بكل وضوح على كذبه وإفحامه.
وكان المهدي عليه السلام يعلم بأن هذا الرجل ، بالرغم من سوء تصرفه فإنه لن يدل
السلطات عليه ، لأنه - في واقعه- يعيش باسم السفارة عن المهدي (ع) ويقبض الأموال من
الناس ويتكلم معهم على هذا الأساس ... فمن غير المنطقي بالنسبة إليه أن يدل السلطات
على تلك الدار التي تمت فيها المقابلة . مضافاً إلى اتصاله بالسلطات قد يكون سبباً
لإنزالهم العقاب عليه وتجريده من أمواله ، بصفته مدعياً للسفارة ، مضافاً إل ما
يفكر به هذا الشخص ، بشكل اليقين أو الظن على الأقل ، من أن الإيعاز إلى السلطات
بذلك ، سوف لن يجدي نفعاً في القبض على المهدي (ع) .فإنه يستطيع أن يخفي نفسه
بمختلف السبل ولن يكون هذا بأهم من حوادث الكبس التي وقعت على دوره عليه السلام ،
فلم يتهيأ للسلطات القبض عليه بأي حال .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص246
صفحة (469)
النقطة الثالثة: التزام السفراء بالتكتم والحذر. وقد سبق أن عرفنا هذا المسلك
،وحملنا عن أسبابه ونتائجه فكرة كافية ، وغاية غرضنا في هذه النقطة أن نعرض أمثلة
من ذلك ، في حدود ما ورد من تاريخ.
فمن ذلك: ما سمعناه من أن أبا جعفر العمري رضي الله عنه ...وقد كان الأمر حاداً
والسيف يقطر دماً ..كان يتسلم الأموال الراجعة إلى الإمام (ع) من اصحابها بصفته
تاجراً من التجار، ولا يدفع بها وصلاً لئلا يتسرب إلى السلطات.
وكان ما يحمل إلى أبي جعفر من المال ، لا يقف من يحمله على خبره ولا حاله. وإنما
يقال له: امض إلى موضع كذا وكذا ، فسلم ما معك ، من غير ان يشعر بشيء ،ولا يدفع له
كتاب لئلا يوقف على ما تحمله منه.
وحين نص أبو جعفر قبل موته بسنتين أو ثلاث على الحسين بن روح ،وأمر بتسليم الأموال
إليه .كان يطالب ابن روح بالوصول.
فشكا ذلك إلى ابي جعفر. قال الراوي، وهو أحد حملة المال إليه - فأمرني ان لا أطالبه
بالقبوض - يعني الوصولات- ... وقال : كل ما وصل إلى أبي القاسم فقد وصل إلي .فكنت
أحمل ، بعد ذلك ،الأموال إليه ولا أطالبه بالقبوض(1).
ــــــــــــــــ
(1) المصدر ص180
صفحة (470)
وحين آلت السفارة إلى الحسين بن روح بعد وفاة العمري ، ازداد تمسكاً بالحذر
والكتمان إلى حد إظهار التدين بمذهب أهل السنة والجماعة والدفاع عنه ،وقد سمعناه
يظهر تأخير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الأفضلية على جميع
الخلفاء الراشدين جميعاً.
ولم يكتف ابن روح بإظهار ذلك ، بل شمل لطفه وعطفه معاوية بن أبي سفيان أيضاً ..فقد
بلغه أن بواباً له قد لعن معاوية وشتمه فأمر بطرده وصرفه عن خدمته .قال الراوي
:فبقي مدة طويلة يسأل في أمره ،فلا والله ما رده إلى خدمته(1).
إن أبن روح لم يمدح معاوية ..،لكنه في نفس الوقت لا يرى من صالح عمله كسفير عن
الإمام المهدي (ع) و وجود من يلعن معاوية في بيته أو عند بابه ..حتى لا يكون هذا
مستمسكاً ضده عند الدولة في يوم من الأيام .
وكان رضي الله عنه ، يستعمل نفس هذا الأسلوب مع سائر الناس ما عدا من يعلم بإخلاصه
وقوة إيمانه ،حتى أنه كان عشرة ذاهبين إلى ابن روح تسعة يلعنونه وواحد يشكك ،
فيخرجون من عنده ، تسعة يتقربون إلى الله بمحبته وواحد واقف(2).
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص237
(2) المصدر ص238
صفحة (471)
وهم إنما أصبحوا من محبيه ، باعتبار إفاضته في فضائل الصحابة ودعوته الى مذهب
الخلفاء الراشدين .لا باعتبار انه قد اثر على هؤلاء في جلبهم إلى خط الائمة عليهم
السلام، وجعلهم مخلصين له .ولذا يقول الراوي: لانه كان يحاربنا في فضل الصحابة ما
رويناه وما لم نروه فنكتبه لحسنه عنه ،رضي الله عنه.
ولهذا المسلك فائدة جمة في ابعاد النظر عنه، وحسن ظن العامة به واحترام الخليفة
المقتدر له. إلا انه مع ذلك لم ينج من السجن اياماً يسيرة في دار المقتدر عام
312(1).وبالطبع كان لمسلكه هذا ، الأثر الكبير في تخفيف السجن عليه وقصر مدته.
النقطة الرابعة: إخراج توقيعات الإمام المهدي (ع) وحل المشكلات وتذليل العقبات التي
قد تصادف بعض قواعدهم الشعبية في طريقها.
وفي الحقيقة أن المشكلات إنما تحل والحاجات إنما تقضى نتيجة لتعاليم الإمام المهدي
(ع) الواردة في توقيعاته، ومن هنا يعتبر التوقيع عملاً من أعماله، وإن استند إلى
السفير باعتبار إظهاره والعمل على تطبيقه كما سبق ان قلنا.
وعلى أي حال ، فنحن ذاكرون العناوين العامة للتوقيعات مع مثال واحد لكل منها ،
محيلين التفصيل إلى ما سنسمعه في الفصل الخاص بأعمال المهدي عليه السلام من هذا
التاريخ.
ونحن إذا لاحظنا أثر التوقيعات من الناحية الإجتماعية في حل المشكلات وقضاء الحاجات
، نراها تندرج ضمن عدة أمور:
الأمر الأول: حل المشكلات العائلية ، وتحويل الأسرة إلى أسرة سعادة وهناء.
ــــــــــــــــ
(1) المصدر ص252 وص187
صفحة (472)
فمن ذلك:أن زوجاً حمل زوجته إلى بيت أبيها ، فأقامت فيه سنين، لا يسمحون لها
بالرجوع إلى منزل زوجها، ولا تجدي محاولات الزوج في ذلك، ثم أنه أتى بغداد وسأل
الدعاء من الإمام عن طريق الحسين بن روح. فخرج التوقيع: والزوج والزوجة فأصلح الله
ذات بينهما. فسهل الله له نقل زوجته بأيسر كلفة، وأقامت معه سنين عديدة وأنجبت منه
أولاداً.
قال الزوج (وهو الراوي) :وأسأت إليها إساءات استعملت معها كل ما لا تصبر النساء
عليه ،فما وقعت بيني وبينها لفظة شر ولا بين أحد من أهلها إلى أن فرق الزمان
بيننا(1) .
الأمر الثاني : تيسير الشفاء لأمراض قد أزمنت وطال علاجها فمن ذلك : أن شخصاً به
ناسور . فعرضه على الأطباء وأنفق في التداوي عليه مالاً ،فلم يجد فيه شيئاً ، فكتب
رقعة إلى الإمام (ع) يسأل فيها الدعاء .فخرج التوقيع إليه قائلاً :ألبسك الله
العافية وجعلك معنا في الدنيا والآخرة.
يقول: فما أتت عليّ جمعة حتى عوفيت ،وصار الموضع مثل راحتي ، فدعوت طبيباً من
أصحابنا وأريته إياه. فقال: ما عرفنا لهذا دواء ، وما جاءتك العافية إلا من الله
بغير احتساب(2).
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص186 وانظر ص197 أيضاً
(2) الإرشاد ص332
صفحة (473)
الأمر الثالث : طلب الولد .
فمن ذلك: أن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمي ، أرسل إلى أبي القاسم بن روح
بواسطة أبي جعفر محمد بن علي الأسود ، يسأل الإمام المهدي عليه السلام أن يدعو له
أن يرزقه ولداً ذكراً .فسأله أبو جعفر الأسود لأبن بابويه ولنفسه ،فأخبره ابن روح
بعد ذلك بثلاثة أيام :أنه عليه السلام قد دعا لأبن بابويه، وأنه سيولد له ولد مبارك
ينفع الله به ،وبعده أولاد .ولكنه لم يدع له وقال: ليس إلى ذلك من سبيل ، فلم يولد
له(1).
الأمر الرابع : سؤال الدعاء لمهام الأمور :
فمن ذلك : أن القاسم بن العلا ،وهو من الوكلاء في أذربيجان على ما سنسمع في مستقبل
الأمر ،ولد له عدة بنين فكان يكتب إلى المهدي (ع) يسأل الدعاء له ،فأجيب إلى ذلك
.وبقي إبنه في الحياة(2).
الأمر الخامس: الإستئذان بالسفر .
فمن ذلك: أن رجلاً يمانياً كان في بغداد فأراد أن يخرج مع قافلة يمنية متهيئة
للخروج .فكتب يستأذن في الخروج. فخرج التوقيع قائلاً. لا تخرج معهم فليس لك في
الخروج معهم خيرة ،وأقم بالكوفة فامتثل الأمر وأقام بالكوفة وخرجت القافلة متوجهة
الى اليمن.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الشيخ ص195وانظر أيضاً ص188
(2) انظر الإرشاد ص331
صفحة (474)
فخرجت عليهم بنو حنظلة فاجتاحتهم واستأصلتهم. فكتب هذا الرجل يستأذن في ركوب البحر،
فلم يؤذن له. فبقي متطلعاً سائلاً عن اخبار المراكب التي خرجت في تلك السنة. فعرف
بعد ذلك انها جميعاً قد غرقت وتقطعت من الرياح البوارح ولم يسلم منها مركب(1).
الامر السادس: الاستئذان بالخروج الى الحج.
فمن ذلك :أن رجلاً من بني نوبخت عزم على الحج في إحدى السنين وتأهب له فخرج إليه من
المهدي (ع) خطاب يقول نحن لذلك كارهون فاغتم الرجل وضاق صدره ،وكتب إلى الناحية:
أنا مقيم على السمع والطاعة، غير أني مغتم بتخلفي عن الحج. فخرج إليه الجواب: لا
يضيق صدرك ،فإنك تحج من قابل. فلما كان من قابل ـ اي السنة الاتية - كتب الرجل
يستأذنه فورد الاذن. فكتب الى الناحية، اني عادلت محمد بن العباس وانا واثق بديانته
وصيانته. فورد الجواب:
الاسدي نعم البديل فان قدم فلا تختر عليه .قال الرواي فقدم الاسدي فعادلته(2).
انظر كيف يتوخى الامام المهدي (ع) مصالح اصحابه ومواليه يذلل مشاكلهم ويحل مصاعبهم
بسعة صدر وانفتاح على الحوادث .
ــــــــــــــــ
(1) انظر الارشاد ص332
(2) الغيبة للشبخ الطوسي ص257
صفحة (475)
حتى انه يختار لهذا لرجل عديله ورفيق سفره. فينهاه عن شخص ويعين له شخصاً آخر، وهو
الاسدي. والظاهر انه ابو الحسين محمد بن جعفر الاسدي الذي كان وكيلاً للسفراء في
تلك الفترة .
الامر السابع : طلب الناس تزويدهم باكفان وحنوط .
فمن ذلك: أنه كتب محمد بن زياد الصيمري يسأل المهدي (ع) كفناً. يتيمن بما يكون من
عنده ،فورد الجواب: إنك تحتاج إليه سنة إحدى وثمانون. فمات - رحمه الله تعالى - في
الوقت الذي حدده وبعث إليه بالكفن قبل موته بشهر(1).
والمظنون أن المراد بالسنة المحددة ،هو سنةإحدى وثمانين ومأتين .وإن كان يحتمل إ نه
يراد به السنة الحادية والثمانين من عمره على ما ذكر المجلسي(2).
وهذه طلبات كثيراً ما نجدها في الروايات ، والسر في ذلك واضح وهو أن المؤمن يهتم
بطبيعة الحال بما بعد موته ، لتأمين راحته وسعادته هناك ،وإن أفضل الطرق لذلك عند
الموالين للإمام (ع) هو أن يكون لهم كفن مسته يد الإمام وبركته أنفاسه واشترى بماله
، يدفع بها ضغطة القبر وسوء الحساب .
ــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة ص181
(2) انظر البحار ج13 ص83
صفحة (476)
أضف إلى ذلك أن طلباً من هذا النوع ، بعيد كل البعد عن الأمور السياسية، والمهاوي
الإجتماعية ،وإنما هي مسألة شخصية محضة .يعذر الإنسان إن رعاها وبذل اهتمامه بها.
كما أن الكفن المدفوع من قبل السفير ليس فيه أي دلالة على المهدي (ع) أو علامة على
مكانه، ولا يمكن أن يكون ملفتاً للنظر ،وإن وصل إلى السلطات، بخلاف التوقيع ، فإن
خط المهدي عليه السلام ولحن خطابه واضح فيه .
فيكون مصدراً للخطر وإن وقع عند السلطات.
ومن ثم انفسحت فرصة حسنة، في توزيع السفراء للأكفان الصادرة عن الإمام (ع) بين
مواليه وعارفي فضله.
الأمر الثامن: تحذير الوكلاء من السلطات.
فإنه خرج إلى الوكلاء في بعض الأيام أمر بأن لا يأخذوا من أحد شيئاً وأن يتجاهلوا
الأمر، فلم يعلم الوكلاء السبب.
يقول تاريخنا الخاص: وكان السبب أن وصل إلى مسامع عبد الله بن سليمان الوزير، وجود
وكلاء للمهدي عليه السلام في بغداد وغيرها من النواحي ، فهم بالقبض عليهم .فنصحوه
أن يرسل لكل وكيل شخصاً يدعى أنه مال له يدفعه للإمام . فمن قبض من الوكلاء شيئاً
قبض عليه.
فقام الوزير بهذه المحاولة ، إلا أن تعاليم الإمام المهدي (ع) كانت قد سبقته إلى
الوكلاء ، فتنصل الجميع من لوكالة وتجاهلوا أمرها . فحبطت مؤامرة الوزير، ونجا
الوكلاء من براثن السلطات(1).
وهذا ، بشكل عام واضح كل الوضوح، فإنه يعكس تطرف السلطات، ضد هذا الخط المقدس. كما
أنه يدل على تعدد الوكلاء بغداد وغيرها. وهو معنى الذي قلناه من أنهم وكلاء للسفير
لا للمهدي مباشرة .وإن كان المهدي (ع) حريصاً على سلامتهم اجمعين .
ــــــــــــــــ
(1) انظر أعلام الورى ص421
صفحة (477)
إلا أن الإعتراض الذي يرد على هذه الرواية ،هو أن خلفاء هذه الفترة ، ابتداء
بالمعتضد والمعتمد وانتهاء بالراضي والمتقي ، ليس من وزرائهم من يدعى: عبد الله بن
سليمان. لكن قد يراد به بنحو من التجوز في التعبير :أبا جعفر محمد بن القاسم بن
عبيد الله بن سليمان الذي استوزره القاهر إبان خلافته(1)، ومعه فتصح هذه الرواية .
وعلى أي حال ، فهذه أمور ثمانية، لا على وجه الحصر ، مما كان السفراء فيه الواسطة
الأمينة الرحيمة ، بين الإمام المهدي وقواعده الشعبية ، في حل مشكلاتهم وقضاء
حوائجهم .
النقطة الخامسة : قبض السفراء للأموال وتوزيعها إلى حيث يجب دفعها ، وهو من واضحات
وظائفهم ومهمات أعمالهم ، بصفتهم حلقة الوصل بين الإمام وقواعده الشعبية ،وتتمثل
هذه الأموال بما يملكه الإمام من الحقوق الشرعية الإسلامية في أموال الناس .
وقد عرفنا من تاريخ الفترة السابقة ، كيف أن الموالين لخط الأئمة عليهم السلام
،كانوا يحملون من أطراف البلاد الإسلامية هذه الأموال إلى الأئمة (ع) ،وكانت الوفود
تفد إليهم حاملة الأموال والأسئلة فتسلم إليهم الأموال وتستقى منهم أجوبة المسائل
وحل المشكلات.
ــــــــــــــــ
(1) انظر المروج ج4 ص221 والكامل ص229
صفحة (478)
وكان الإمام عليه السلام في اول مقابلة يصف للوفد المال قبل قبضه ويذكر جنسه وكميته
ودافعه وغير ذلك ، إلزاماً للحجة تجاه الوفد فإذا علم الوفد بإمامته ، وورد عليه في
السنوات الأخرى حاملاً بعض الأموال له يحتج إلى ذلك.
حتى ان الإمام العسكري (ع) أثناء حياته كلف ابنه المهدي (ع) أن يصف أموالاً حملها
أحد الوفود من قم ، ففصل القول في أوصافها(1) لأجل لإقامة الحجة على الناس في إمامة
المهدي عليه السلام. قد سمعنا المهدي (ع) وهو يصف المال لوفد القميين الذي ورد إلى
سامراء يوم وفاة الإمام العسكري (ع) .
واستمرت الوفود تصل بالأموال إلى السفراء من بعيد ، إلى جانب أموال أخرى يحملها
الأفراد من قريب إليهم. ويكون من وظيفة السفراء إزاء ذلك حين يتسلمون المال أن
يصفوه أيضاً، ويذكورا خصائصه .لأجل إقامة الحجة على الآخرين ، وإثبات صدق السفير.
وذلك بتعليم من الإمام المهدي (ع).
فمن ذلك : ان محمد بن ابراهيم بن مهزيار سلم مالاً جليلاً إلى رسول الإمام (ع)
بدلالة الوصف (2) ودفع أحمد بن محمد الدينوري إلى وكيل المهدي (ع) ستة عشر ألف
دينار من أهل الدينور، دفعها بدلالة الوصف أيضاً(3).
ــــــــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين المخطوط
(2) أنظر غيبة الشيخ الطوسي ص171
(3) انظر البحار ج13 ص79
صفحة (479)
وظاهر بعض الروايات ، أن الأموال كانت تحمل في السنوات الأولى من الغيبة الصغرى ،
إلى سامراء حيث يكون من يقبضها هناك ويسلمها إلى المهدي ،وذلك بدلالة من السفير
نفسه، كما فعل أبو جعفر العمري مع الدينوري المشار إليه (1).
ثم انقطع ذلك، واستمر السفير على قبض المال بنفسه مع إعطاء الوصل به(2) ربما اقترن
بالدعاء للمالك أيضاً(3)وربما اقترن بالتذكير بمال يجب دفعه إلى ألإمام ، نسيه
الحامل (4).
ولن ننس لحد الآن تلك المرأة من أهل آبة التي حملت للحسين بن روح ثلثمائة دينار
فكلمها بلسان آبي فصيح(5) كما لم ننس ذلك الرجل الذي ورد قم إلى بغداد بأموال
ليدفعها إلى أبي جعفر العمري ، فذكره أبو جعفر بالثوبين السردانيين(6).
كما لا ينبغي أن ننسى الرسل الحاملين للأموال ممن كان يحولهم أبو جعفر العمري في
أعوامه ألأخيرة على الحسين بن روح . وكان أحدهم حاملاً لأربعمائة دينار(7). وطولب
ابن روح بدفع الوصولات فشكا ذلك إلى أبي جعفر. قال الراوي: فأمرني أن لا أطالبه
بالقبوض وقال: كل ما وصل إلى أبي القاسم فقد وصل إليّ .
ــــــــــــــــ
(1) البحار ج13 ص79 (2) الإرشاد ص335
(3) إكمال الدين ( المخطوط) (4) الإرشاد ص335
(5) غيبة الشيخ ص195 (6) المصدر ص179
(7) المصدر ص224 وص225
صفحة (480)
فكنت أحمل بعد ذلك الأموال إليه ولا أطالبه بالقبوض(1).
وإنما امتنع السفراء عن دفع الوصولات باعتبار صعوبة الوقت وكان السيف يقطر دماً في
زمان المعتضد كما سبق أن سمعنا ،وكان ما يحمل إليه من ألأموال لا يقف من يحمله على
خبر أبي جعفر ولا على حاله بل ينفذه إليه كما ينفذ التجار إلى أصحابهم على يدمن
يثقون به. وكان يقال للفرد: إمض إلى موضع كذا فسلم ما معك، من غير ان يشعر بشيء ولا
يدفع إليه كتاب ، لئلا تطلع السلطات عليه(2).
ومن هنا نستطيع أن نعرف الوصلات لم تدفع إلا لفترة قليلة نسبياًَ من عهد الغيبة
الصغرى. حيث بدأ المعتضد خلافته عام 279 أي بعد تسعة عشر عاماً من مبدئها ،
والمظنون أنها لم تدفع بعد ذلك خلال الخمسين عاماً التالية إلى نهاية هذه الفترة .
فهذا هو حال قبض الأموال من قبل وكلاء المهدي وسفرائه ثم لا يهمنا أن نفكر في ان
هذه الأموال هل تبقى لذى السفراء أم تدفع إلى المهدي (ع) .لأنها عل أي حال تكون تحت
إشرافه ورهن تعلماته فإنها إن دفعت إليه مباشرة فهو غاية المطلوب .. وإن بقيت في يد
السفارة ، فلا مانع منه فإن يد الوكيل كيد الأصيل .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص226
(2) المصدر السابق أيضاً ص180.
صفحة (481)
وعلى أي حال ، فمن المؤكد - عادة - وصول جملة من الأموال إلى الإمام المهدي (ع)
مباشرة .بل ظاهر بعض الروايات أن وظيفة السفير في قبضه للأموال هو إيصالها إليه
(ع)(1)
وبهذه الأموال كان المهدي (ع) يزجي حاجته الشخصية، ويوزع منها على عدد من مواليه،
عند مقابلته شخصياً أو بدون ذلك. وكان عليه السلام لا يجيز رد المال الذي أعطاه
ويعتبره أمراً ينبغي الإستغفار منه(2). وتكون من هذه الأموال قيمة الأكفان التي
يدفعها إلى مواليه والأموال التي يعطيها كأجرة للحمال والدفان(3)، وما كان يجريه
لبعض مواليه جرياً على ما كان عودهم عليه أبوه العسكري (4).
وأما توزيع السفراء للمال، فهو- في التاريخ الخاص - نادر الوجود .مع العلم أنه كان
مما يحدث جزماً لوجوب إيصال الأموال والحقوق الشرعية إلى مستحقيها شرعاً ،أو صرفها
في سبيل الله والمصالح الإسلامية العامة، وقد عرفنا الظروف التي اوجبت الكتمان
والحذر، وفهمنا الخطر الذي كان يحيق بالسفراء لو أنهم وزعوا الموال علناً. ولا
ينبغي أن ننسى بهذا الصدد الكلام الذي سمعناه عن السفير الأول ،وعن حال عائلة
الإمام المهدي عليه السلام :" وليس أحد يجب أن يتعرف عليهم أو أن ينيلهم شيئاً".
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص178 (2) الإرشاد ص333
(3) انظر الغيبة ص193 ومنتخب الأثر ص396
(4) غيبة الشيخ الطوسي ص219
صفحة (482)
فالتوزيع كان يقع سرياً للغاية بعيداً عن أعين الدولة، ولا يصرح به إلا نادراً ،ومن
هنا لم تصلنا أخباره ،ولعل الأغلب هو توزيع الأموال على الأسلوب التجاري، أي يعطي
لفرد بصفته دائناً مثلاً حتى لا يكون مثاراً للشك لا لدى السلطات.
ومن هذا النادر ما دفعه الشيخ ابن روح رضي الله عنه ،من المئة درهم إلى أحدهم مع
حنوط وأكفان(1) حتى لا يكون ملفتاً للنظر.
والطريف في هذا الصدد أن الأموال التي كان يوزعها المهدي عليه السلام ، لمن شاهده
وغيرهم ، بحسب نقلها في التاريخ أكثر جداً مما وردنا توزيعه عن طريق السفراء
،وسيأتي التعرض لذلك في الفصل الخامس الخاص بالمهدي (ع).
النقطة السادسة: الجهاد العلمي للسفراء.
حول المناقشات العقائدية وحلول المشاكل العلمية التي كان يقوم بها السفراء ،سواء من
ذلك ما كان لتوجيه أصحابهم وصقل أفكارهم .أو لأجل الإحتجاج ضد الشبهات التي يثيرها
الآخرون ،والدفاع عن الحق بلسان مخلص سليم.
ونحن في هذا الصدد لا بد أن نعرض صفحاً عن أمرين لهما محلهما في الفصلين الآتيين من
هذا التاريخ:
أحدهما: المناقشات والتوجيهات الفقهية والعقائدية وألإجتماعية الصادرة على أيدي
السفراء من الامام المهدي فان ذلك يعتبر من اعمال المهدي نفسه وسياتي التعرض له في
الفصل الخامس من هذا التاريخ.
ــــــــــــــــ
(1)غيبة الشيخ ص193.
صفحة (483)
ثانيهما: مناقشة السفراء لمدعي السفارة أو الوكالة عن المهد يزوراً فإن هذا مما
نذكره عن قريب في الفصل الآتي.
تبقى بين يدينا التوجيهات والمناقشات التي يذكرها أحد السفراء الأربعة من عند
أنفسهم ،باعتبار ما يعرفونه من الحق ، في حدود تعاليم الامام المهدي ومسلكهم العام.
يندرج في ذلك ما سمعناه عن السفير الاول في النهي عن التصريح باسم المهدي ،والشكوى
من جور السلطات وسطوتهم ، وقد سبق أن سمعناه أكثر من مرة .
وللشيخ ابن روح مناقشات عديدة، فمن ذلك مناقشته لبعض المتكلمين المعروف بترك
الهروي، في فضل الزهراء على سائر بنات النبي (ص) .حتى قال الهروي : فما رأيت أحداً
تكلم وأجاب في هذا الباب بأحسن ولا أوجز من جوابه(1).
ومن ذلك مناقشاته لرجل حول مقتل الإمام الحسين عليه السلام بيد اعداء الله عز وجل،
وقد أجاب بجواب مطول وأكد فيه أن حكمة الله عزوجل قد جرت في ان أنبياءه وأولياءه
يكونون في حال غالبين وأخرى مغلوبين وفي حال قاهرين وأخرى مقهورين .ولو جعلهم عزوجل
في جميع أحوالهم غالبين وقاهرين ولم يبتلهم ولم يمتحنهم لاتخذهم الناس آلهة من دون
الله عزوجل ،ولما عرف فضل صبرهم على البلاء والإختبار.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص239
صفحة (484)
ولكن جعل أحوالهم في ذلك كأحوال غيرهم ، ليكونوا في حال المحنة والبلوى صابرين في
حال العافية وظهور على الأعداء شاكرين ويكونوا في جميع أحوالهم متواضعين غير شامخين
ولا متجبرين ..إلى آخر كلامه.
وحين شك الراوي في ان هذا الكلام ، هل قاله من عنده أم هو من تعاليم ألإمام المهدي
(ع). قال له ابن روح: يا محمد بن إبراهيم لأن أخر من السماء فتخطفني الطير أو تهوي
بي الريح في مكان سحيق أحب إلي من أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي بل ذلك
من ألأصل ومسموع من الحجة صلوات الله وسلامه عليه(1).
ومن تعاليمه أيضاً رضي الله عنه ،ما قاله لأحمد بن محمد الصفواني:أن يحيى بن خالد
سمم موسى بن جعفر عليه السلام في إحدى وعشرون رطبة وبها مات ،وان النبي (ص) والأئمة
(ع) ما ماتوا إلا بالسيف أو السم. وقد ذكر عن الرضا (ع) أنه سم وكذلك ولده وولد
ولده(2).
أنظر كيف بتّ رضي الله عنه، في هذه المسألة التي كانت ولا زالت محل الخلاف بين
المسلمين عموماً والمؤرخين خصوصاً ،من ان النبي (ص) هل مات مسموماً أول، فقد جزم
ابن روح بكونه (ص) مات مسموماً، ليس هو فقط ، بل عدد من الأئمة (ع) أيضاً .والباقون
ماتوا بالسيف على أيدي أعداء الله ورسوله.
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ ص199 والإحتجاج ص288
(2) غيبة الشيخ ص239
صفحة (485)
ولعلك لاحظت معي أن أمثال هذه المناقشات مما لا ينافي مع جو التقية والحذر، الذي
كان يسلكه السفراء على العموم والشيخ ابن روح على الخصوص، إذ ليس في هذه المسائل
"فتوى رسمية" للدولة أو وجهة نظر خاصة لعلماء العامة ، ينبغي التحرز من مناقشتها
ومجابهتها.
ولكننا لا زلنا نذكر: أن الثقافة المعطاة منه رضي الله عنه ليست هي دائماً الثقافة
التي تتفق مع خطه واعتقاده. بل قد يمتزج بها غيرها، لو اقتضى ذلك مصالح عمله كسفير
مؤد لواجبه تجاه إمامه ومجتمعه .
ولعل أهم مثال لذلك، ما سمعناه فيما سبق مختصراً ،ونذكره الآن تفصيلاً ،من أنه
تناظر في بعض مجالس العامة اثنان ، فزعم أحدهما أن أبا بكر أفضل الناس بعد رسول
الله (ص) ثم عمراً ثم علي .وقال الاخر : بل علي افضل من عمر. فزاد الكلام بينهما
.فقال: ابن روح رضي الله عنه : الذي اجتمعت عليه الصحابة هو تقديم الصديق ثم
الفاروق ،ثم بعده عثمان ذو النورين ثم علي الوصي واصحاب الحديث على ذلك ،وهو الصحيح
عندنا.
فجعل علياً امير المؤمنين (ع) دون عثمان في الفضل بحسب ظاهر كلامه. وهو ما لم يكن
مقصوداً لكلا المتناقشين ،وإنما اختلفا في تفضيله على عمر مع اتفاقهم على تفضيله
على سائر البشر بعده.)
صفحة (486)
وحيث كان يعلم الراوي ، الذي يسمع هذا الكلام أن هذا مخالف لخطه وبعيد عن اعتقاده
فوقع عليه الضحك. ولم يستطع أن يمنع نفسه ، رغم محاولته ، حتى خشي أن يفتضح ، فقفز
خارجاً عن المجلس.
وانتبه إليه ابن روح وعرف قصده ، فبادر إليه بعد خروجه من المجلس ،وقصده في داره ،
فطرق عليه الباب، وأنبه على ضحكة وقال له: يا أبا عبد الله - أيدك الله - لم ضحكت؟
فأردت ان تهتف بي كأن الذي قلته عندك ليس بحق .قال الراوي : فقلتله :كذلك هو عندي
فقال لي : اتق الله أيها الشيخ ، فإني لا اجعلك في حل .
تستعظم هذا القول مني فقلت: يا سيدي .رجل يرى بأنه صاحب الإمام ووكيله ،يقول ذلك
.لا يتعجب منه ويضحك من قول هذا ؟؟ فقال لي: وحياتك لئن عدت لاهجرنك وودعه
وانصرف(1).
فانت ترى ان المناقشة بين هذا الرجل وابن روح ،قائمة على تخيل الراوي المناقضة بين
مسلك ابن روح وبين كلامه .والفرد انما يكون وكيلاً للامام وسفيراً عنه مع الانسجام
مع خطه واخلاصه له ..دون ما اذا كان مظهراً لغير ما يبطن ،ولهذا اظهر الرجل التشكيك
- جدلاً- بالسفارة .لا باعتبار كونه معتقداً لهذا التشكيك كما هو معلوم .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص237
صفحة (487)
وكان كلام ابن روح منصباً على التأكيد من طرف خفي على الإنسجام بين خطه الأصلي
وكلامه ،وأن ما قاله إنما هو باعتبار الإخلاص له والإلتزام به ،باعتبار المصالح
التي يستطيع أن ينالها والمشاكل التي يذللها بمثل هذا الكلام ..وتوجيهات الإمام
المهدي (ع) المتعلقة بذلك ،وهو معنى قوله: كأن الذي قلته عندك ليس بحق، والله
العالم.
ثم أنه رضي الله عنه أكد على ذلك ،وهدد الرجل بهجرانه .لئلا يكون هذا الرجل وامثاله
،عائقاً امام مسالك ابن روح ومصالحه وتطبيقات اوامر امامه فقد يسبب له خرقاً كبيراً
في المجتمع قد تترتب عليه من الاضرار وتنتفي من المصالح ما لا سبيل الى تداركه.
فهذا هو مهم الكلام في اعمال السفراء ونشاطهم ومسالكهم العامة وبه ينتهي القسم
الثاني من هذا الفصل الثالث وبه ينتهي هذا الفصل والحمد لله رب العالمين.
صفحة (488)
الفصل الرابع
السفارات المزورة عن المهدي (ع)
ابتليت السفارة عن الإمام المهدي (ع) والسفراء ، بعد أعوام قلائل من أول عهدهم ،
بدعاوى السفارة كذباً وزوراً ، طمعاً في ابتزاز الأموال والتزعم على الناس .
مناشيء التزوير :
السفارة الكاذبة في واقعها تشويه منحرف لمفهوم السفارة الصادقة العادلة، ومن هنا
جاءت متأخرة عنها بسنوات ، وذلك: لأن القواعد الشعبية الموالية في زمان الإمامين
الهادي والعسكري عليهما السلام ،وإن كانت قد اعتادت على وجود السفراء عن الإمام عند
احتجابه عن الناس تمهيداً للغيبة الصغرى ،كما عرفنا ،إلا أنه من المحتمل اساساً
للفرد العدي - لو التفت الى ذلك - ان يحتجب الامام المهدي (ع) عن قواعده الشعبية
،ولا يوكل عنه شخص على الاطلاق .
صفحة (489)
وانما ثبت عزمه عليه السلام على التوكيل خلال هذه الفترة ،عن طريق تصريحه هو عليه
السلام وتصريح ابيه العسكري عليه السلام واعمال السفراء في اثبات وكالتهم وقد
استعرضنا كل ذلك بالتفصيل.
فاذا ثبت عزمه عليه السلام على إيجاد الوكالة أو السفارة عنه .
انفتح باب إمكان دعوى السفارة الكاذبة وتزوير الدعوى بالإتصال بالمهدي .خاصة بعد
معلومية أن ألإتصال به سر لا يمكن لأحد الإطلاع عليه أو السؤال عن مكانه وزمانه
.فتكون دعوى الإتصال به سراً بمكان من الإمكان ، ولن يمنى المزور بصعوبة وإحراج من
هذه الجهة.
يعضده في ذلك عدة أمور: إحداها: ضعف الإيمان وسوء الإخلاص وقابليته للإنحراف.
ثانيهما: الطمع بالأموال التي يحصل عليها عن هذا الطريق .إذ يتخيل المزور أن الحقوق
الشرعية التي تدفع إلى السفير الصادق ستدفع إليه.
ثالثها: فسح المجال للشهرة الإجتماعية والتقدم بين الناس، والتحكم في القواعد
الشعبية الموالية للإمام عليه السلام ، وإصدار الأوامر والنواهي بزعم أنه صادر عنه
عليه السلام.
صفحة (490)
ولا يهم بعد ذلك ، أن نفهم أن مدعي السفارة الكاذبة ، هل كان يعتقد ضمناً بكذب
السفير الصادق ،كما صرح به الشلغماني بالنسبة إلى السفير الثاني ، على ما سنسمع ،أو
كان المزور يعتقد بكذب فكرة السفارة اساساً ، إذن فلا فرق في نظره بينه وبين ذلك
السفير ، فكما ادعى غيره السفارة يمكن له أيضاً ذلك.
أو كان المزور يعتقد بصدق السفارة وصدق السفير، ولكنه كان طامعاً بالمصالح الشخصية
التي أشرنا إليها، فأدعى السفارة تقديماً لمصالحه الشخصية على المصالح الدينية
شخصية وإجتماعية.
لا يهمنا إثبات مثل هذه الإتجاهات للمزور قد تخطر في الذهن يحسن التعرض لها
ومناقشتها.
الإتجاه الأول: أن يرسل الإمام المهدي (ع) سفيراً ويأمره بتبليغ بعض التعليمات، ثم
يكذبه وينفي سفارته بلسان سفير آخر. وهذا غير محتمل اساساً لما نعتقده في الإمام
المهدي (ع) من العصمة التي هي في حقيقتها عمق في العدالة والإخلاص والإيمان ،ومعه
يكون اجل واعظم من ان يقوم بمثل هذا التغرير والغدر. فان مثل هذا العمل غدر بمثل
هذا السفير المفروض .وتعزيز الجهل بالنسبة الى القواعد الشعبية الموالية ..وكلاهما
ظلم يجل عنه المعصوم ويتنزه.
الإتجاه الثاني: أن يرسل الإمام المهدي عليه السلام . سفيراً على اساس الدوام
والإستمرار ،ويكون السفير في مبدأ أمره عادلاً صادقاً .ولكن هذا السفير لقلة إخلاص
وضعف إيمانه ، يتأثر بالأموال والمغريات فيصبح منحرفاً وتظهر منه العقائد والأعمال
الباطلة. فيعلن الإمام المهدي (ع) على يد سفير آخر عزله عن السفارة ولعنه.
صفحة (491)
وهذا مما لم يحدث بالخارج ،وإنما الذي حدث أن الشلغماني كان وكيلاً عن السفير ابن
روح فعزله السفير بعد انحرافه ، على ما سنسمع ولم يكن سفيراً للمهدي بحال .على ان
هذا غير ممكن اساساً ، بحسب ما عرفناه من سياسة الإمام المهدي (ع) في تعيين السفراء
، من أن السفارة موقف دقيق وخطر، فلا بد أن يكون شخص السفير بمرتبة من الإخلاص بحيث
لو كان المهدي عليه السلام تحت ذيله عنه لما كشفه، وهذه المرتبة من الإخلاص لا
يحتمل توفرها بالنسبة إلى من ينحرف بعد ذلك ويفسد حاله عقيدة وسلوكاً.
فإن الفسق بعد الإيمان، لا يكون إلا من نقطة ضعف مركوزة في نفس الفرد، ناشئة من
تقصيراته وسوء اختياره .ومن الصعب جداً بل غير الممكن عادة ان نتصور شخصاً مؤمناً
حقاً من دون ان يشوب إيمانه وإخلاصه نقص أو تقصير ... ثم ينحرف انحرافاً كبيراً
بحيث يكون مستحقاً للعنة والتشنيع.
إذن فالشخص القابل للإنحراف في مستقبل أمره ، لا يكون قابلاً للسفارة أساساً ، وضعف
الإيمان أمر لا يخفى على الفرد الواعي فضلاً عن الإمام المهدي "ع" .إذن فكيف يرسله
سفيراً؟ وخاصة أنه من المحتمل أن يكشف عن المهدي (ع) ويدل عليه السلطات عليه بعد
الإنحراف. وهذا خطر، كان يخطط الإمام دائماً للتقصي عنه والتحذر منه .
صفحة (492)
على انه لو كان الفرد سفيراً في مبدأ أمره ،لأمكن أن يتلقى من تعاليم المهدي (ع)
وتوجيهاته ،ما يصون به إيمانه من الإنحراف وعقيدته من الإسفاف .وقد عرفنا كيف كان
السفراء الصادقون يتلقون العلوم والتوجيهات منه عليه السلام ،لأجل تكميلهم وتعميق
ثقافتهم الإسلامية بغض النظر عن المصالح العامة.
الإتجاه الثالث: ان يرسل الإمام المهدي (ع) سفيراً في قضايا معينة وأزمات محددة ،
لا على اساس الدوام والإستمرار .وهذا ما يحتمل حدوثه، وهو في واقعه من السفارة
الصادقة ،لا من الكاذبة، وهذه السفارة تنتهي بأداء العمل الموكل الى الفرد ، ولا
تستتبع الإنحراف بعدها على أي حال.
الإتجاه الرابع: أن نتصور أن مدعي السفارة كاذباً ، لا يعلم بكذب نفسه ، بل يتخيل
نفسه صادقاً .وذلك :أنه استطاع أحد المحتالين الماكرين أن يخيل له أنه هو المهدي ،
فيجتمع به في الخفاء ويعطيه التعاليم ويقبض منه الأموال بزعم كونه هو المهدي. ويبقى
السفير معتقداً بصحة سفارته ،وهو كاذب في الحقيقة ، وخاصة وهو لم يشاهد الإمام
المهدي عليه السلام قبل ذلك ولم يحمل من شخصه أي فكرة سابقة إلا أن هذا وإن كان
محتملاً في حق بعض البسطاء مبدئياً لعدة أيام أو لعدة أشهر - مثلاً - ولكن مثل هذا
التزوير غير قابل للبقاء، لان هذا السفير المغرر به ، سينكشف له خلال الزمان ما في
صاحبه الماكر من هفوات ونقص وقصور ..بحيث يثبت لديه أنه ليس مهدياً بل رجل ماكر
محتال.
صفحة (493)
وإذا لم ينتبه انتبه الناس إلى ذلك ،وخاصة العلماء الموالين لخط الأئمة عليهم
السلام ومفكريهم ومبرزيهم ..فإننا لا ننسى بهذا الصدد الأجوبة والبراهين والحجج
التي اعتاد الناس صدورها من السفراء الأربعة ،وكانو يتطلبونها من كل مدع للسفارة
،فإذا عجز السفير أو عجز صاحبه عن إقامة الحجة ، ثبت تزويره لا محالة.
على أن مثل هذه السفارة، بل كل سفارة كاذبة، تكون مبتورة الأول عادة، غير منصوص
عليها من قبل شخص سابق قام الدليل على صدقه، وإنما تكون قائمة فقط على اساس زعم
المدعي .على حين عرفنا كيف أن السفارة الصادقة منصوص عليها من قبل الإمام المهدي
(ع) وأبيه العسكري (ع) .. مضافاً إلى نص بعضهم على بعض ، وما ظهر على أيديهم من
الحجج والبراهين.
التسلسل التاريخي للتزوير:
بدأ التزوير على ما يدل عليه تاريخنا الخاص - في عهد السفير الثاني الشيخ محمد بن
عثمان العمري رضي الله عنه، وأما أبوه السفير الأول، فد كان أقوى وأسمى من أن
يعارضهم عارض، بعد تاريخه المجيد مع الإمامين العسكريين الماضيين عليهما السلام
،وثناؤهما العاطر عليه ،واداؤه لمختلف أنواع الجهاد في عهدهما وبموجب توجيهاتهما
وتعاليمهما، فلن يكون للظنون أن تحوم وللمطامح أن تطمح لمعارضته أو مضايقته، فإنه
ستجابه بالنقد والإنكار من كل جانب.
صفحة (494)
كما أن الظرف لم تكن لتساعد على دعوى السفارة .فإن الغيبة الصغرى لا زالت في أولها،
وتتبع السلطات ومطاردتهم للمهدي (ع) ولكل من يمت إليه بصلة ، قوية، وعائلته يتسكعون
في الطرقات لا يجرؤ أحد على التعرف عليهم أو الإقتراب منهم ،وقد كانت سفارة عثمان
بن سعيد جهاداً كبيراً وتضحية عظمى فكيف ان يعرض الشخص نفسه للمطاردة والخطر
تلقائياً بانتحال السفارة.
على ان التزوير لا يكاد يحتمل وجوده قبل أن يعتاد الناس على هذا النحو من السفارة
عن الامام المهدي ، وهذا الإعتياد يحتاج في تحققه إلى زمن بطبيعة الحال ، تعيشه
القواعد الشعبية تجاه السفارة الصادقة .وهو ما لم يتحقق في أول الغيبة الصغرى
،وخلال الأعوام القليلة التي قضاها عثمان بن سعيد في السفارة.
وقد توفر المزورون خلال الفترة الطويلة التي قضاها السفير الثاني في سفارته
.وتاريخنا الخاص ،وان لم يضع الحروف على النقاط من حيث تواريخ التزوير وعدد من
جهاته، على ما سنسمع.. إلا أنه على أي حال يدل على بدء السفارة الكاذبة في زمن هذا
السفير.
فقد ادعى السفارة زوراً عن الإمام المهدي عليه السلام في زمان أبي جعفر محمد بن
عثمان العمري رضي الله عنه ، عدة أشخاص :أولهم :أبو محمد الشريعي . قال الراوي
:وأظن اسمه كان الحسن .وهو أول من أدعى مقاماً لم يجعله الله فيه (1).ومحمد بن نصير
النميري ،
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص244
صفحة (495)
ادعى ذلك الأمر بعد الشريعي(1)، وأحمد بن هلال الكرخي(2)، وأبو طاهر محمد بن علي بن
بلال البلالي(3).وأبو بكر محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي ابن أخي أبي
جعفر العمري رضي الله عنه ،واسحاق الأحمر(4) ورجل يعرف بالياقطاني(5).
وقد كان بعض صالحيهم في مبدأ أمرهم ،ومن أصحاب الإمامين الهادي والعسكري . فانحرفوا
وسلكوا مسلك التزوير .
فجابههم العمري رضي الله عنه بكل قوة وانتصر عليهم ،وخرجت من المهدي التواقيع
والبيانات بلعنه والبراءة منهم ، والتأكيد على كذب سفارتهم وسوء سريرتهم.
واما الشيخ الحسين بن روح السفير الثالث، فقد ابتلي بأشدهم تأثيراً ، اوسعهم
أصحابا: محمد بن الشلغماني العزاقري(6).وكان في مبدا امره مؤمناً مستقيماً، بل
وكيلاً لابن روح. ثم ظهر انحرافه وسقم عقيدته على ما سياتي تفصيله.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ لطوسي ص244 (2) المصدر ص245
(3) المصدروالصفحة (4) البحار ج13 ص79
(5) المصدر والصفحة (6) غيبة الشيخ الطوسي ص248
(7) المصدر ص255
صفحة (496)
واخرهم في دعوى السفارة الكاذبة - على ما يظهر من عبارة الشيخ الطوسي(7) ابو دلف
الكاتب ،حيث كان على ذلك الى ما بعد وفاة السمري السفير الرابع .قال الراوي ،
فلعناه وبرئنا منه ،لأن عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري فهو كافر من مس ضال
مضل.
بقي شخص ممن نسبت إليه دعوى االسفارة ،هو الحسين بن منصور الحلاج ، المعروف بمذهبه
الصوفي ،وله في هذه الدعوى مكاتبة مع ابي سهل ابن اسماعيل بن علي النوبختي ..كشفه
فيها ابو سهل وأفحمه .ولم يعين تاريخ هذه المكاتبة ، إلا أنها كانت - على المظنون ،
في زمن الحسين بن روح.
فهؤلاء الذين قامت حركة التزوير على ايديهم ، فلا بد من التعرض إليهم، في حدود ما
دل عليه تاريخنا .. معتمدين نفس الترتيب الذي ذكرناه في تعدادهم ،فإنه يرجع إلى
ناحية تسلسلهم في تاريخ دعوى السفارة في الجملة.
أولهم أبو محمد الشريعي .
قال الراوي: أظن اسمه كان الحسن ،وكان أصحاب أبي الحسن علي بن محمد الهادي عليه
السلام ، ثم أصبح من اصحاب الحسن بن علي العسكري عليه السلام .
ثم أنه انحرف ،وكان اول من ادعى مقاماً لم يجعله الله فيه ،ولم يكن اهلاً له، وكذب
على الله تعالى وعلى حججه عليهم السلام ، ونسب اليهم ما لا يليق بهم وما هم منه
براء ، فلعنته الشيعة وتبرات منه .
صفحة (497)
وخرج توقيع الامام علي بلعنه والبراءة منه .ثم يظهر منه القول بالكفر والإلحاد(1).
هذا ما قاله التاريخ ،ولم يزد .
ثانيهم: محمد بن نصير.النميري الفهري(2) كان من اصحاب الامام العسكري عليه السلام
.فانحرف وافتتن، وأصبح يستخدم اسم صحبته للإمام العسكري (ع)، هذا العنوان العظيم
الذي يعرف الناس شأنه وجلالته ، في الربح المادي والمنفعة الشخصية.
فكتب الامام العسكري كتاباً شديد اللهجة ضده وضد شخص اخر يدعى بابا القمي ويسمى
الحسن بن محمد يكشف فيه انحرافهما ويظهر البراءة منهما،ويقول مخاطباً احد
اصحابه:أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمد بن بابا القمي،فأبرأ منهما.فاني
محذرك وجميع موالي ،وأني ألعنهما ، عليهم لعنة الله .مستأكلين ،يأكلان في الفتنة
ركساً إلى آخر بيانه عليه السلام(3).
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص244 (2) المصدر ص244
(3) الكشي ص438 (4) المصدر والصفحة
صفحة (498)
وكان يدعي انه رسول نبي، وأن علي بن محمد الهادي ارسله وكان يقول بالتناسخ ،ويغلو
في ابي الحسن الهادي ويقول فيه بالربوبية ،ويقول باباحة المحارم وتحليل نكاح الرجال
بعضهم بعضاً في ادبارهم ويزعم ان ذلك من التواضع والاخبات والتذلل في المفعول به
وانه من الفاعل احدى الشهوات والطيبات وان الله لا يحرم شيئاً من ذلك.
رآه بعض الناس وغلام له على ظهره ،قال الراوي فليقته فعاتبته على ذلك ، فقال إن هذا
من اللذات ،وهو من التواضع لله وترك التجبر(1).
وتبعه في أقواله جماعة، سموا بالنميرية ، ذكروا أن منهم: محمد بنموسى بن الحسن بن
الفرات(2)،وهو لا محالة، والد علي بن محمد بن موسى بن الفرات الذي وزر بعد ذلك
للنقتدر المعاصر لسفارة ابن روح ، استوزره عام 299 (3) وبقي على ما يزيد على الثلاث
سنين في الوزارة. فمن هذا يظهر كيف تؤيد السلطات خط الإنحراف الداخلي عن الأئمة
عليهم السلام ، بنحو خفي لا يكاد يلتفت إليه.
وعلى أي حال ،فإنه حين اعتل محمد بن نصير النميري العلى التي توفي فيها ، قيل له ـ
وهو مثقل اللسان - لمن الامر من بعدك؟
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص244 وما بعدها .،رجال الكشى ص438 بلفظ مقارب ونحوه في
فرق الشيعة .
(2) فرق الشيعة ص93
(3) المروج ص213 ج4
صفحة (499)
فقال بلسان ضعيف ملجلج: احمد: فلا يدروا من هو، فافترقوا بعده ثلاث فرق .فقالت فرقة
:أنه أحمد لبنه . وفرقة قالت :هو احمد بن موسى بن الفرات "وهو اخو علي بن محمد بن
موسى وزيرالمقتدر" وفرقة قالت : انه احمد بن ابي الحسين بن بشر بن يزيد فتفرقوا فلا
يرجعون الى شيء(1)
ثالثهم : احمد بن هلال .
الكرخي(2) العبر تائي(3) ولد عام 180 للهجرة وتوفي عام 267(4) أي انه عاصر الامام
الرضا عليه السلام ومن بعده حتى الامام العسكري عليه السلام الذي توفي عام 260 كما
عرفنا .وعاصر الغيبة الصغرى لمدة سبع سنوات ادعى خلالها الوكالة على المهدي . له
كتاب يوم وليلة ، كتاب نوادر ،يرويه النجاشي في رجاله عنه بسنده اليه(5) اتخذ مسلك
الصوفية وحج اربعا وخمسين حجة عشرون منها على قدميه لقيه اصحابنا في العراق وكتبوا
عنه(6)
ذمه الامام العسكري على ما روي عنه(7) وبعده تبنى المهدي عليه السلام التحذير منه
فكتب الى قوامه بالعراق (8) احذروا الصوفي المتصنع وورد على القاسم بن العلا ،نسخة
ما كان خرج من لعن ابن هلال .
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ ص245 وفرق الشيعة ص94 ورجال الكشي ص438
(2) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص245 (3) انظر رجال النجاشي ص65 ورجال الكشى ص449
(4) انظر رجال النجاشي ص65 (5) انظر المصدر ص65
(6) رجال الكشى ص449 (7) انظر رجال النجاشي ص65
(8) يعني وكلاؤه والقائمون بامره اجتماعياً.
صفحة (500)
فانكر رواة اصحابنا بالعراق ذلك ،لما كانوا كتبوا من رواياته فحملوا القاسم بن
العلا على ان يراجع في امره فخرج اليه الامام المهدي بيان مفصل ، نصه:
" قد كان امرنا نفذ اليك في المتصنع ابن هلال - لا رحمه الله - بما قد علمت .ولم
يزل - لا غفر الله ذنبه ولا اقال عثرته - يداخلنا في امرنا بلا اذن منا ولا رضى
،يستبد برايه فيتحامى ديوننا ،ولا يمضي من امرنا اياه الا بما يهواه ويريده. ارداه
الله في ذلك نار جهنم فصبرنا عليه حتى بتر الله بدعوتنا عمره ،وكنا قد عرفنا خبره
قوماً من موالينا في ايامه - وأمرناهم بإلقاء ذلك إلى الخاص كم موالينا ،ونحن نبرأ
إلى ألله من ابن هلال ،لا رحمه الله ولا ممن يبرأ منه .
وأعلم الإسحاقي(1) سلمه الله وأهل بيته بما اعلمناك من حال هذا الفاجر ، وجميع من
كان سألك ويسألك عنه من أهل بلده والخارجين ومن كان يستحق أن يطلع على ذلك .فإنه لا
عذر لا حد من موالينا في التشكيك فيما روى عنا ثقاتنا قد عرفوا اننا نفاوضهم بسرنا
ونحمله إليهم ، وعرفنا ما يكون من ذلك إن شاء الله تعالى.(2)
وواضح من هذاالبيان أنه صادر بعد موت ابن هلال ،لعله مات بعد التوقيع السابق وبعد
هذا البيان .كما أنه يتضح منه ان ابن هلال كان يتلقى الأوامر من الإمام المهدي (ع)
- ولو بالواسطة - إلا أنه كان يستبد برأيه فيها ، ولا يطبق منها إلا ما يريد وكيف
يريد .
ــــــــــــــــ
(1) المظنون انه: احمد بن اسحاق الاشعري القمي.
(2) رجال الكشي ص450
صفحة (501)
فدعا عليه الإمام المهدي (ع) فبتر الله عمره .
وعلى أي حال ، فقد ثبت قوم على إنكار ما خرج فيه ، ولم يفد فيهم هذا القول البليغ ،
فعادوا القاسم بن العلا على ان يراجع فيه ، فخرج إليهم من الإمام المهدي (ع) :
" لا شكر الله قدره .لم يدع المرزءة بأن لا يزيغ قلبه بعد أن هداه ،وأن يجعل ما من
به عليه مستقراً ولا يجعله مستودعاً .وقد علمتم ما كان من أمر الدهقان - لعنه الله
- وخدمته وطول صحبته فأبدله الله بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل، فعاجله الله
بالنقمة ولم يمهله ، والحمد لله لا شريك له وصلى الله على محمد وآله وسلم (1).
وهذا التوقيع في واقعه، بيان الإنحراف هذا الشخص بعد الإيمان .وكيفية ذلك بحسب
القواعد العقائدية الإسلامية ، إنه في الحقيقة راجع إلى سوء عمل الشخص الناشيء من
بعض نقاط الضعف في إيمانه وإخلاصه ، فيترتب على عمله ازدياد البعد عن الإيمان
والإخلاص أكثر فاكثر ..فيزيغ الله قلبه ويبدله بعد الإيمان كفراً.
والذي يظهر من تاريخنا أن ابن هلال بقي مؤمناً صالحاً، خلال سفارة السفير الأول
،ولكنه بمجرد أن ذهب السفير الأول إلى ربه بدأ بالتشكيك بسفارة السفير الثاني، بحجة
إنكار النص عليه من قبل الإمام العسكري عليه السلام ، ويقول : لم أسمعه ينص عليه
بالوكالة.
ــــــــــــــــ
(1) رجال الكشي ص450
صفحة (502)
وليس أنكر أباه - يعني عثمان بن سعيد - فإما أن أقطع أن أبا جعفر وكيل صاحب الزمان
.فلا أجسر عليه . فقالوا قد سمعه غيرك، فقال:أنتم وما سمعتم .ووقف على أبي جعفر
،فلعنوه وترءوا منه(1).
وترتب على تشكيكه هذا في أبي جعفر رضي الله عنه ،وعدم دفعه أموال الإمام عليه
السلام إليه وعصيانه للأوامر الصادة منه عن المهدي (ع) ، مما أدى به إلى منزلق
الكفر والجحود.
قال الشيخ الطوسي: ثم ظهر التوقيع على يد أبي القاسم بن روح بلعنه والبراءة منه ،
في جملة من لعن .وهذا لا يكاد يناسب ما عرفناه من كون وفاته عام 267 ،فإن ابن روح
إنما أصبح سفيراً عام 305 ، أي بعد ثمان وثلاثين عاماً .وهو زمان كفيل بمحو آثار
ابن هلال من الأذهان إلى حد كبير .بحيث يكون التصدي لبيان كفره وجحوده أمراً
مستأنفاً . وإن عرفنا كون البيان الصادر ضده قد خرج بعد وفاته ، إلا أنه لا يمكن ان
يكون بعيداً عن وفاته هذا البعد . وانما المعقول ان يصدر ذلك في الاشهر او الاعوام
القليلة اللاحقة لوفاته.
وكونه صادراً إلى القاسم بن العلا ، لا يعني كونه من ابن روح لأن ابن العلا كان
وكيلاً لإبن العمري ولإبن روح معاً ، على ما سيأتي ومن هنا يرجح أن يكون البيان
صادراً عن طريق العمري أبي جعفر لا عن طريق ابن روح .رضي الله عنهما ، والله العالم
.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص245
صفحة (503)
ثم أنه لا يبدو من التاريخ بوضوح انه ادعى السفارة عن الإمام المهدي (ع) زوراً ،
غايته ان الشيخ الطوسي ذكره في قائمة المذمومين الذين ادعوا البابية - أي السفارة -
من الإمام المهدي عليه السلام ، ولم يظهر مما ذكره الشيخ ولا غيره ذلك ،وإنما الذي
عرفناه هو كونه وكيلاً صادقاً - بالواسطة - عن الإمام المهدي (ع) ، ولم يتضح أنه
بقي على دعواه للوكالة بعد انحرافه وخروج التحذير منه ، والله العالم.
رابعهم: محمد بن علي بن بلال .
أبو طاهر ، البلالي(1). كان من أصحاب الإمام العسكري عليه السلام(2)، وعده ابن
طاووس(3) من السفراء الموجودين في الغيبة الصغرى والأبواب المعروفين الذين لا يختلف
الإمامية القائلون بإمامة الحسين بن علي (ع) فيهم، وظاهره كونه بمنزلة القاسم بن
العلا والأشعري والأسدي ونحوهم في الوثاقة والجلالة. إلا أن الشيخ الطوسي ذكره في
المذمومين الذين ادعوا االبابية. فتابعناه هنا على ذلك ،وتوقف العلامة الحلي في ما
يرويه من أجل ذلك أيضاً(4).
قال الشيخ : وقصته معروفة فيما جرى بينه وبين أبي جعفر محمد بن عثمان - نضر الله
وجهه - وتمسكه بالأموال التي كانت عنده للإمام (ع) ،وامتناعه من تسليمها وادعاؤه
أنه هو الوكيل ، حتى تبرأت الجماعة منه ولعنوه ، وخرج فيه من صاحب الزمان ما هو
معروف.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص245
(2) جامع الرواة ج1 ص 153والخلاصة ص69
(3) جامع الرواة نفس الصفحة.
(4) الخلاصة ص69
صفحة (504)
وقد كان له جماعة من الأصحاب والمؤيدين ، منهم أخوه أبو الطيب وابن حرز ورجل من
أصحابنا .وقد انفصل منه هذا الأخير ، لما نذكره فيما يلي:
وقد جاهد أبو جعفر العمري رضي الله عنه ، واستعمل الأساليب لردعه وتقويم انحرافه
.وأخذ الأموال منه لإيصالها إلى الإمام عليه السلام فلم يفلح وبقي ابن بلال على
انحرافه وتمسكه بالأموال والأصحاب.
فمن ذلك: أن أبا جعفر قصد ابن بلال في داره، وكان عنده جماعة ، فيهم أخوه الطيب
وابن حرز ، فدخل الغلام فقال: أبو جعفر العمري على الباب ، ففزعت الجماعة لذلك
وأنكرته للحال التي كانت جرت. ولم يستطع ابن بلال ان يحجبه. فقال: يدخل.
فدخل أبو جعفر رضي الله عنه، فقام له أبو طاهر والجماعة وجلس في صدر المجلس، وجلس
أبو طاهر كالجالس بين يديه.
فأمهلهم إلى أن سكتوا. ثم قال العمري : يا أبا طاهر أنشدتك بالله ألم يأمرك صاحب
الزمان بحمل ما عندك من المال إلي فقال ابن بلال:
اللهم نعم .فنهض أبو جعفر رضي الله عنه منصرفاً ووقعت على القوم سكتة ، فلما تجلت
عنهم قال له أخوه أبو الطيب: من أين رأيت صاحب الزمان؟ فقال أبو طاهر كأدخلني أبو
جعفر إلى بعض دوره فأشرف علي - يعني صاحب الزمان- من علو داره فأمرني بحمل ما عندي
من المال إليه - يعني إلى العمري - .
صفحة (505)
فقال له ابو الطيب : ومن أين علمت أنه صاحب الزمان ؟قال: قد وقع علي من الهيبة له
،ودخلني من الرعب منه ، ما علمت انه صاحب الزمان (ع) قال ذلك الرجل من اصحابنا :ف
كان هذا سبب انقطاعي عنه(1).
فنجد ان ابا جعفر العمري رضي الله عنه ، قام تجاه ابن بلال بعملين مهمين:
أولهما: أنه وفر له طريق مقابلة الإمام المهدي (ع) ليأخذ منه الأمر بدفع المال إليه
.وهذه حادثة كبرى في حدود ما عرفناه من السرية والتكتم والحذر، ومبني على الإطمئنان
من ابن بلال ،ولو باعتبار ابتناء مصالحه على عدم الإفشاء والإيصال إلى السلطات ،
كما سبق أن ذكرناه.
ثانيهما: تذكيره بهذه الحادثة، ونشدانه بالله تعالى بصدور الأمر من الإمام المهدي
بدفع المال. وذلك أمام جماعة من أصحابه، ولإقامة الحجة عليهم في ذلك، مما أوجب
انفصال أحدهم ورجوعه إلى خط السفراء الصادقين رضي الله عنهم ، وقد يوجب انفصال غيره
مما لم يروه التاريخ .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص246
صفحة (506)
كما أن الجماعة الحاضرين في مجلسه ، لاحظوا منه خضوعه لأبي جعفر وارتباكه من حضوره
،واعترافه بعدم المعرفة السابقة بشخص الإمام المهدي عليه السلام وتهيبه ورعبه منه ،
عند مقابلته .وكل ذلك يؤثر عليهم نفسياً ،في الإبتعاد عن ابن بلال والشعور بالنفرة
منه بصفته مدعياً للسفارة وإذ لو كان صادقاً لما حدث كل ذلك.
خامسهم: محمد بن أحمد بن عثمان أبو بكر المعروف بالبغدادي ، ابن أخي أبي جعفر
العمري السفير الثاني رضي الله عنه .
وأمره في قلة العلو والمروة أشهر من أن يذكر(1)، كان معروفاً لدى عمه أبي جعفر
العمري بالإنحراف .ولم يكن معروفاً لدى البعض الآخرين من أصحابه .ومن هنا كان
جماعةمن الأصحاب ، وهم خاصة الموالين ، في مجلس العمري رضي الله عنه ، وهم يتذاكرون
شيئاً من روايات الأئمة عليهم السلام ، فأقبل عليهم أبو بكر بن أحمد بن عثمان، إبن
أخيه ، فلما بصر به أبو جعفر رضي الله عنه ، قال للجماعة مشيراً إليه: إمسكوا فإن
هذا الجاني ليس من أصحابكم (2) فقد أمرهم بقطع الحديث الإسلامي الواعي ، الذي لا
يناسب معه وجود المنحرفين أمثاله .
ــــــــــــــــ
(1) المصدر ص255
(2) الغيبة للشيخ الطوسي ص256
صفحة (507)
ادعى السفارة ،وكان له أصحاب ،منهم أبو دلف محمد بن المظفر الكاتب. وقد كان في
ابتداء أمره مخمساً(1) مشهوراً بذلك ، لأنه كان تربية الكرخيين وتلميذهم وصنيعتهم.
وكان الكرخيون مخمسة ،لا يشك في ذلك أحد من الشيعة .وقد كان أبو دلف يقول ذلك
ويعترف به ، ويقول: نقلني سيدنا الشيخ صالح ، قدس الله روحه ونور ضريحه ، عن مذهب
أبي جعفر الكرخي إلى المذهب الصحيح .يعني أبا بكر البغدادي(2) ،وسيأتي الكلام عن
أبي دلف مستقلاً فيما يلي .
ثم أن أبا بكر البغدادي ، حين أرسل عليه وجوه الخاصة وعلمائهم وسألوه عن دعواه
السفارة ،أنطر ذلك وحلف عليه ، وقال: ليس إلي من هذا الأمر شيء ، وإنما عرض عليه
ذلك امتحاناً .فأبى وقال :محرم علي أخذ شيء منه ،ف إنه ليس إلي من هذا الأمر شيء
ولا ادعيت شيئاً من هذا .
قال الراوي: فلما دخل بغداد ، مال إليه - أبو دلف الكاتب - وعد عن الطائفة وأوصى
إليه ، لم نشك أنه على مذهبه ، فلعناه وبرئنا منه ،لأن عندنا أن كل من ادعى الامر
بعد السمري ، فهو كافر منمس ضال مضل(3) .
ــــــــــــــــ
(1) المخمسة من الغلاة يقوبون :أن الخمسة سلمان وأبا ذر والمقداد وعمار وعمرو بم
أمية الضمري ، هم الموكلون بمصالح العالم من قبل الرب ، كذا في هامش الغيبة ص256
(2) الغيبة ص256
(3) المصدر ولاصفحة ص255
صفحة (508)
وكان أبو دلف هذا ، يدافع عن ابي بكر البغدادي ويفضله على ابي القاسم الحسين بن روح
وعلى غيره ، فلما قيل له في وجهه ذلك قال: لأن ابا جعفر محمد بن عثمان قدم اسمه على
اسمه في وصيته فقلت له: فالمنصور أفضل من مولانا أبي الحسن موسى عليه السلام ،قال
:وكيف؟ قلت : لأن الصادق عليه السلام قدم اسمه على اسمه في الوصية فقال لي: أنت
تتعصب على سيدنا ومولانا وتعاديه، فقلت: والخلق كلهم تعادي أبا بكر البغدادي وتتعصب
عليه غيرك وحدك وكدنا نتقاتل ونأخذ بالأزياق(1) .
وحكى انه توكل لليزيدي بالبصرة ، فبقي في خدمته مدة طويلة وجمع مالاً عظيماً. فسعى
به إلى اليزيدي ، فقبض عليه وصادره ووضربه على أم رأسه حتى نزل الماء من عينيه ،
فمات أبو بكر ضريراً (2).
ولم يذكر التاريخ عام وفاته، إلا أننا يمكن أن نستنتج من بعض ما سبق ،أنه كان
موجوداً خلال سفارة الحسين بن روح ، فإنه أوصى الى أبي دلف الكاتب بعده ،فأصبح أبو
دلف مدعياً للسفارة بعد السمري فيكون أبو بكر البغدادي قد مات في زمان مناسب مع هذه
الوصية والله العالم.
سادسهم وسابعهم : اسحق الأحمر والباقطاني .
روى في البحار(3) بسنده عن ابي جعفر محمد بن جرير الطبري بإسناده مرفوعاً إلى أحمد
الدينوري.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص255
(2) المصدر ص256
(3) انظر ج13 ص79
صفحة (509)
أنه حمل من أموال الشعب الموالي في الدينور ستة عشر ألف دينار ، إلى بغداد ، وبحث
عمن أشير إليه بالنيابة - أي السفارة - فقيل له: ان ههنا رجلاً يعرف بالباقطاني
يدعى بالنيابة، وآخر: يعرف باسحاق الأحمر يدعي النيابة ، وآخر يعرف بأبي جعفر
العمري يدعي النيابة.
قال: فبدأت بالباقطاني، وصرت إليه فوجدته شيخاً مهيباً له مروة ظاهرة وفرس عربي
وغلمان كثير ، ويجتمع الناس يتناظرون قال : فدخلت إليه، وسلمت عليه، فرحب وقرب وسر
وبر.قال: فأطلت القعود إلى ان خرج أكثر الناس، قال: فسألني عن ديني فعرفته أني رجل
من اهل الدينور وافيت ومعي شيء من المال ،أحتاج أن اسلمه. فقلت: أريد حجة - يعني
برهاناً على صحة سفارته التي يدعيها ، فلما أعوزه ذلك - قال: تعود إلي في غد. قال:
فعدت إليه من الغد، فلن يأت بحجة .وعدت إليه في اليوم الثالث ، فلم يأت بحجة ،وعدت
إليه في اليوم الثالث، فلم يأت بحجة قال: فصرت إلى اسحق الأحمر فوجدته شاباً نظيفاً
، منزلة أكثر من منزلة الباقطاني، وفرسه ولباسه ومروته أسرى وغلمانه أكثر من
غلمانه، ويجتمع عنده من الناس أكثر مما يجتمع عند الباقطاني. قال: فدخلت وسلمت ،
فرحب وقرب.قال: فصبرت إلى أن خف الناس قال: فسألني عن حاجتي ،فقلت له ، كما قلت
للباقطاني وغدت إليه بعد ثلاثة أيام ، فلم يأت بحجة.
صفحة (510)
قال: فصرت إلى أبي جعفر العمري ، فوجدته شيخاً متواضعاً عليه مبطنة بيضاء ، قاعد
على لبد في بيت صغير ليس له غلمان ولا من المروة والفرس ما وجدت لغيره ..إلى آخر
الرواية .
ونستطيع أن نفهم من هذه الرواية عدة أمور :
الأول: إن هذين الرجلين ادعيا السفارة في أول زمان سفارة العمري رضي الله عنه .يعني
في أوائل فترة الغيبة الصغرى، قبل ان يصل خبر السفارة المحقة إلى ألأطراف ، حتى أن
هذا الرجل الدينوري كان جاهلاً بالسفارة والسفير، وهو الذي سمعناه يقول لأهل
الدينور حين كلفوه بحمل الأموال: يا قوم هذه حيرة ولا نعرف الباب في هذا الوقت ،
ونجده يبحث في بغداد عن السفير عدة أيام.
الثاني: إن هذين المدعيين، لم يكونا يفهمان مسلك التكتم والحذر الذي كان يتخذه
السفراء الصادقون ،وهو إن دل على شيء، فإنما يدل على كذبهم وانحرافهم..إلى حد لا
يجدون حرجاً من انكشاف امرهم اتجاه الدولة واطلاع السلطات عليهم .حيث نجد الناس
يجتمعون عندها يتناظرون، ولا نجد مثل ذلك عند العمري رضي الله عنه.
الثالث: ان هذين المدعيين ، كانا يبذلان على انفسهما المال ،من أجل زيادة الأبهة
والفخفخة ، على حين لا نجد العمري يعمل ذلك ،والسر في ذلك واضح ،وهو أن العمري لا
يتصرف بالأموال إلا بإذن الإمام المهدي عليه السلام ،وفي حدود تعليمه وتوجيهه. وهي
تحدد بحدود المصالح العامة لا بالزخارف والبهارج، على أنه لو فعل ذلك لألفت إلى
نفسه النظر وقد تحوم عليه الشكوك والأنظار، وهو ما لا يريده لنفسه واصحابه.
صفحة (511)
على حين لم يكن هذان المدعيان بمتورعين عن صرف المال في ذلك سواء مما فبضناه من
المال بدعوى السفارة وما كان من أموالهما الخاصة .ولا مانع لديهما من اطلاع السلطات
عليهما فإنهما - على أي حال ـ ليسا بأولى ولا أهم من جعفر بن علي الذي توسط إلى
السلطة مباشرة لأجل تنصيبه للإمامة.
وما ذلك إلا لأن خط الإنحراف دائماً يناسب مع خط الإنحراف ولا يخشاه ..وإن كان على
شاكلتين ، وخاصة حين يشعران أن لهما عدواً مشتركاً هو خط السفراء العادل .
ثامنهم: محمد بن علي الشلغماني .
المعروف بابن أبي العزاقر أو العزاقري ، أبو جعفر ، نسبته إلى شلغمان، وهي قرية
بنواحي واسط(1).
كان شيخاً مستقيم العقيدة والسلوك صالحاً(2) متقدماً في أصحابنا(3) حتى أن الشيخ
أبا القاسم الحسين بن روح نصبه وكيلاً عنه عند استتاره من المقتدر وكان الناس
يقصدونه ويلقونه في حوائجهم ومهماتهم(4).
وكانت تخرج على يده التوقيعات من الامام المهدي عليه السلام عن طريق ابن روح(5).
ــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص241 (2) انظر الغيبة ص183 ورجال النجاشي ص293 زفهرست الشيخ الطوسي
ص173
(3) رجال النجاشي ص293 (4) الغيبة ص183
(5) الغيبة ص184
صفحة (512)
له من الكتب التي عملها في حال الاستقامة: كتاب التكليف. قال الشيخ الطوسي: اخبرنا
به جماعة من ابي جعفر ابن بابويه عن ابيه عنه الا حديثاً واحداً في باب الشهادات
انه يجوز للرجل ان يشهد لاخيه اذا كان له شاهد واحد من غير علم(1) كان الشلغماني
يكتب باباً باباً من هذا الكتاب، ويعرضه على الشيخ ابي القاسم رضي الله عنه فيحككه
.فاذا صح الباب خرج فنقله وامرنا بنسخه .يعني امرهم ابن روح(2) فكثرت نسخه عند
الاصحاب.
وفي رواية اخرى: انه لما انتهى من الكتاب طلبه ابن روح لينظ فيه ، فجاؤا به فقرأه
من أوله إلى لآخره ، فقال : ما فيه شيء إلا وقد روى الأئمة عليهم السلام إلا موضعين
أو ثلاثة ،فإنه كذب عليهم في روايتهما لعنه الله(3).
وله كتاب "التأديب" أخذه الشيخ الحسين بن روح رضي الله عنه منه ،وأنفذ الكتاب إلى
قم ، وكتب إلى جماعة الفقهاء بها. وقال لهم: انظروا في هذا الكتاب وانظروا فيه شيء
يخالفكم. فكتبوا إليه: أنه كله صحيح ،وما فيه شيء يخالف ،إلا قوله: الصاع في الفطرة
نصف صاع من طعام . والطعام عندنا مثل الشعير كل واحد صاع (4).
ــــــــــــــــ
(1) الفهرست ص173 (2) الغيبة ص239
(3) المصدر السابق ص252 (4) نفس المصدر ص240
صفحة (513)
فمن هنا نجد ان في كل من هذين الكتابين ، قد دس الشلغماني فرعاً فقهياً مخالفاً لما
عليه مذهب الأصحاب ، وإن كان مستقيماً مؤمناً وهذا يدل على ما قلناه من وجود ضعف في
ايمان كل شخص ينحرف في حياته بحيث يكون من الاول قابلاً للانحراف عند اجتماع ظروفه
وشرائطه.
ويمكن أن نفهم وضوح ذلك لأبن روح رضي الله عنه ، حين كان يتوجس من كتب الشلغماني ،
فيحاول أن يشرف عليها أو يعرضها على الموثوقين من اصحابه وعلماء مذهبه.
وللشلغماني ايضاً كتاب الغيبة وروى عنه الشيخ الطوسي في الغيبة(1). وله كتاب
الاوصياء ،روى عنه الشيخ ايضاً في الغيبة(2).
وله عدة كتب اخرى رواها النجاشي في رجاله(3) ولم يعلم ان هذه الكتب ،مما كتبه في
حال استقامته او بعد انحرافه.
ثم انه حمله الحسد لابي القاسم بن روح على ترك المذهب والدخول في المذاهب الردية(4)
وظهرت منه مقالات منكرة(5) واصبح غالياً(6) يعتقده بالتناسخ وحلول الالوهية فيه(7)
.
ــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة ص240 (2) انظر ص208 وما بعدها .
(3) انظر ص 294 (4) رجال النجاشي ص293
(5) فهرست الشيخ ص173 (6) انظر رجا ل الشيخ ص512
(7) الكامل في التاريخ ج6 ص241
صفحة (514)
وكان من عقائده انه يعتقد القول بحمل الغد .ومعناه انه لا يتهيأ اظهار فضيلة للولي
الا بطعن الضد فيه ، لإنه يحمل سامعي طعنه على طلب فضيلته فاذا هو افضل من الولي اذ
لا يتهيأ إظهار الفضل إلا به، وساقوا المذهب من وقت آدم الأول إلى آدم السابع
،لأنهم قالوا: سبع عوالم وسبع أو ادم ، ونزلوا إلى موسى وفرعون ومحمد وعلي مع ابي
بكر ومعاوية(1).
قال ابو علي بن همام: سمعت محمد بن علي العزاقري الشلغماني يقول : الحق واحد، وانما
تختلف قمصه فيوم يكون ابيض ويوم يكون في احمر ويوم يكون في ازرق قال ابن همام :
فهذا اول يوم انكرته من قوله لانه قول اصحاب الحلول(2).
وكان يقول لاصحابه وتابعيه: إن روح رسول الله انتقلت إلى أبي جعفر محمد بن عثمان
العمري رضي الله عنه. وروح امير المؤمنين علي انتقلت الى بدن الشيخ ابي القاسم
الحسين بن روح رضي الله عنه ، وروح فاطمة الزهراء عليها السلام انتقلت الى ام كلثوم
بنت ابي جعفر رضي الله عنهما .وكان يزعم لهم ان هذا سر عظيم وياخذ عليهم ان لا
يكشفوه لاحد ، إل معتقدات غريبة أخرى(3) لا حاجة إلى الإسهاب فيه،
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص250
(2) المصدر ص251
(3) انظر الكامل ج6 ص241 وما بعدها.
صفحة (515)