مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب تاريخ الغيبة الصغرى لسماحة آية الله الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

إنه نفس الإسلوب الذي اتخذه الوزير وعين الإتجاه ، وهو يؤكد ما سبق أن أكدنا عليه ، من معرفة الخليفة بالحق وإيمانه بصدق الإمام العسكري وعدالى قضيته ،وإنما كان يمنعه من اتباعه التمسك بالسلطان وبالمصالح الشخصية والنظر إلى الهدف القصير.
وإنما يصرح المعتمد بهذا التصريح الخطير ، بالنسبة إليه وإلى كيانه ..باعتباره يواجه جعفراً وهو ابن الإمام وأخو الإمام .وهو من أعرف الناس بهما ، بالرغم من انحرافه عنهما .فليس هذا التصريح بالنسبة إليه سراً يكشف أمراً خفياً يذاع ،وليس جعفر من القواد الأتراك أو من متعصبي بني العباس ليخشى المعتمد من سطوته عليه.
كما أنه ليس من الجماهير الموالية للإمام - بشكل عام - ، ليخاف تحولهم إلى الولاء نتيجة لهذا التصريح ،وإنما جاء هذا التصريح عفو الخاطر ، باعتباره العذر الوحيد في رفض طلب جعفر وبيان العجز عن تنفيذه.

ادعاؤه أنه الوريث الشرعي لتركة الإمام العسكري (ع) :
وقد انطلق جعفر بن علي في ادعائه هذا من فكرتين ادعائيتين أيضاً :
إحداهما : عدم وجود ولد للإمام العسكري (ع) ، ليكون هو الوريث الشرعي .ومن هنا كان هو الوريث ، باعتباره أخاً للموروث .
ثانيتهما : كونه الإمام بعد أخيه ،إذن فهو - على اقل تقدير - المشرف الأساسي والولي الأعلى على هذه الأموال الموروثة.


صفحة (310)

وكلا هذين الأمرين ، قد علمنا زيفهما بكل وضوح ، بعد وجود الحجة المهدي (ع) ولداً للإمام العسكري (ع) وكونه هو الإمام بعده ، دون عمه.
ولكن جعفرا انطلق من هذه المدعيات إلى الحجز على ميراث الإمام (ع) كله، والإستيلاء عليه ومنع سائر الورثة منه ، وساعدته السلطات على ذلك ، فإنها بعد أن بحثت وبذلت جهدها في الفحص والمطاردة ، ولم تقع للمهدي على أثر، لم تجد وريثاً غير جعفر، ولم تجد في دعوى جعفر للوراثة الشرعية كذباً واضحاً - في مرتبة الإثبات القانوني على الأقل- فسمحت له بالإستيلاء على مجموع التركة.
ولئن كانت عاجزة عن تنفيذ مطلبه الأول ، حتى لقد انصرفت عنه وهي آسفة ، فمطلبه هذا على أي حال ممكن التنفيذ ، وتمكينه من التصرف في الأموال أمر ميسور.
وهذا هو الذي يشير إليه عثمان بن سعيد في بعض مجالسه مع أصحابه - على ما سمعنا- قائلاً: فإن الأمر عند السلطان أن أبا محمد عليه السلام مضى ولم يخلف ولداً وقسم ميراثه .وأخذه من لا حق له .وصبر على ذلك. وهو ذا عياله يجولون وليس أحد يجسر أن يتعرف عليهم أو ينيلهم شيئاً(1).
انظر إلى الأثر الإجتماعي التخريبي الذي انتجه مخطط جعفر ، فإنه وإن فشل في الإمامة ، إلا أنه لم يفشل في الإستيلاء على الميراث.
ـــــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص147 ص219


صفحة (311)

ولم يكتف بحصته من الإرث ، بحسب ما هو المشروع في الإسلام ، لو كان وارثاً ..بل استولى على المجموع. فنتج عن ذلك بطبيعة الحال ، أن أفراد العائلة الآخرين لم يبق لهم مأوى ولا ملبس ولا مطعم .فبقوا يجولون في الطرقات ..لا يستطيع أحد ان يلتفت إليهم او يدعي معرفته بهم أن يمدهم بشيء من الخير ، لأنه بذلك يعرض نفسه للتنكيل من قبل الدولة.
يبقى اعتراض واحد قد يخطر على الذهن، وهو أن المهدي (ع) نفسه كان يتمكن من أن يظهر ويسيطر على العالم ، ويمد عائلته بما تحتاج إليه من أسباب المعاش ، فلماذا لم يفعل؟
وجواب ذلك واضح كل الوضوح ، وهو :إنه لو كان يظهر في ذلك الحين ، لكان يقتل لا محالة ، بعدما عرفنا وسنعرف الجهود المضنية التي تبذلها الدولة في البحث عنه ، ولفشل مخططه في هداية العالم والسيطرة عليه ، إذ لا يطيعه يومئذ ولا يسير في إمرته إلا أقل القليل من أصحابه ممن لا يغني لفتح شبر من الأرض ، فضلاً عن البسيطة كلها .وأما المجتمع فلن يستمع إلى ندائه ، وسيكون عوناً للدولة عليه .
وإنما أعد الله تعالى ظهوره عند وجود عدد مهم من ذوي النفوس القوية والقلوب المؤمنة والعقول الواعية . بحيث يستطيع أن يفتح بهم العالم ، كما سيأتي برهانه في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة .وحيث لا يكون الوقت ملائماً للظهور ، وكانت هداية العالم لا تتحقق إلا بالتأخير إذن فمن المنطقي جداً بل الضروري حقيقة ، التضحية بمصالح عائلته الخاصة في سبيل ذلك الهدف الإلهي الأعلى.


صفحة (312)

وربما يعترض هنا فيقال : إنه وإن لم يمكنه الظهور، إلا أنه يمكنه مساعدة أهله حال غيبته .فإنه يمكن إرسال الأموال إليهم بالطريق الذي كانت تخرج به التوقيعات والمراسلات عنه عليه السلام .
وجوابه أيضاً واضح ، بعد العلم ان التوقيعات والمراسلات ،إنما كانت تصدر عن المهدي (ع) في النطاق السري الخاص الذي لا يتجاوز مواليه ، إلى أي شخص يشك بارتباطه بالسلطة أو ضعفه تجاهها ، إذ من الواضح ان السلطة لو كانت تطلع على هذه المراسلات ، لكانت المستمسك الرئيسي الذي تأخذه ضده عليه السلام.
إذا عرفنا ذلك نعلم أن دفع المهدي (ع) للأموال إلى عائلته بشكل يغنيهم وييسر حالهم ، يكون ملفتاً للنظر ومثيراً للتساؤل في ذهن السلطة ، وخاصة وان هذه العائلة لا زالت تحت المراقبة والتركيز .. فيكون له من المضاعفات ما لا يخفى ،وأما مواصلتهم سراً بالمال اليسير عن طريق سفرائه .. فهو أمر محتمل، لا يمكن نفيه.
وقبل أن ننطلق إلى النشاط الثالث لجعفر بن علي ، يحسن بنا أن نتميز بوضوح موقف الإمام المهدي عليه السلام من عمه تجاه ذلك، بحسب ما هو المروي في تاريخنا الخاص.


صفحة (313)

حيث نجد الإمام عليه السلام ، يقف أمام عمه وجهاً لوجه، ويصارحه بالحق ، توخياً إلى كفكفة اندفاعه والتخفيف من النتائج المؤسفة التي ترتبت على اعماله ...لو كان جعفر. ممن يمكن أن يؤثر فيه النصح والتوجيه.
فنراه عليه السلام ، حينما ينازع جعفر في الميراث ، ويحاول الإستيلاء عليه ، يخرج عليه السلام على عمه من موضع لم يعلم به ويجابهه بالقول : يا جعفر مالك تعرض في حقوقي . ثم يغيب عنه ويذهب (ع) إلى حيث لا يعلم به عمه ، فيتحير جعفر ويبهت ، ويطلبه بعد ذلك في الناس ويحاول أن يقع له على اثر فلم يستطع.
وفي حادثة أخرى بعد ذلك ، نجد المهدي عليه السلام يقف من عمه مثل هذا الموقف الحاسم . وذلك :أن الجدة أم الإمام العسكري عليه السلام ، توفيت ،وكانت قد أوصت أن تدفن في الدار ..إلى جنب زوجها وولدها الإمامين العسكريين عليهما السلام . ونازع جعفر ، محتجاً بمزاعمه القديمة وقال : هي داري لا تدفن فيها.
وهنا ، تكتسب القضية شأناً أكبر من الميراث ..إنه ضرورة احترام هذه الجدة المقدسة ،وتنفيذ وصيتها ، طبقاً لتعاليم القرآن الكريم . والدار وإن كانت لجعفر ، بحسب قانون السلطات الحاكمة ، ولكنها في االواقع ، ملك للوريث الشرعي الحقيقي ، وهو الولد ، وليس للأخ أي حصة من المال مع وجود الولد . في قانون الإسلام .
ومن لا يملك ليس له حق في أن يأذن وأن يتصرف.


صفحة (314)

ومن هنا بادر الإمام المهدي عليه السلام ، على مجابهة عمه بالقول بنحو الإستفهام الإستنكاري- : يا جعفر ، دارك هي؟ . ثم لم يستطع جعفر ان يراه بعد ذلك (1)

وسنبقى جاهلين - باعتبار غموض النقل التاريخي - بما إذا كان لهذا القول أثره في نفس جعفر وضميره ، فسمح بدفن الجدة في الدار ... أو لم يسمح ..وكان سبيل هذا القول هو سبيل القول الأول ، وهو التسامح و العصيان له.
وعلى أي حال ، يكون المهدي (ع) قد أدى ما يشعر به من المسؤولية تجاه أعمال جعفر ، من ضرورة إفحامه في دعاواه الباطلة والتوصل ـ جهد الإمكان - إلى التخفيف من نتائجها السيئة.
كشفه ما أوجب الله عليه ستره :
وهو الإفصاح عن وجود المهدي عليه السلام بنحو أو آخر .أمام السلطة ، مما أوجب شدتها في المراقبة والمطاردة.
ونحن في هذا الصدد ، لا بد أن نعود بالكلام عن تاريخ الإمام عليه السلام ، من حيث تركناه ، لنعرف بالتفاصيل - الترابط بين الحوادث التاريخية التي انتجت أن يقوم جعفر بمثل هذا العمل .
تركنا جثمان الإمام العسكري مسجى في الدار وقد انتهى ولده المهدي (ع) من الصلاة عليه ..بعد أن سحب عمه عنها فتأخر وقد علا وجهه الإصفرار .ولكننا نجده مع ذلك ، لا يترك موقفه ، بل يبقى مستمراً في مخططه ممثلاً دور الإمام بعد أخيه.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر كلا الحادثتين في إكمال الدين ( المخطوط) .


صفحة (315)

وإذ ينتهي الإمام المهدي عليه السلام من الصلاة ،ويذهب ، وقد اتضح لجميع الحاضرين وجه الحق ..يتوجه أحدهم إلى جعفر بالسؤال عن هذا الصبي الذي اقام الصلاة ، لكي يقيم الحجة علي جعفر ويفهم ما إذا بقي مستمراًُ على مخططه بعد اتضاح الحق أولاً ، فيقول له : يا سيدي من الصبي؟ فيجيب جعفر : والله ما رأيته قط ولا أعرفه .
ولعله صادق في انه لم يره ، فإنه - بفسقه - لم يكن أهلاً لأن يريه الإمام العسكري (ع) إياه.ولكنه كاذب في نفي معرفته ، بعد أن سمع هذا الصبي يقول : تأخر يا عم فأنا أحق بالصلاة على ابي .وهلا لو كان قد بقي جاهلاً بمعرفته ، أن يصمد على موقفه ويكذب الصبي في دعواه ..او يعيد الصلاة مرة ثانية ، مع ان شيئاً من هذا لم يحدث .
مما يدل على اتضاح الحق لكل الحاضرين ، وتسالمهم على أنه هو الإمام المهدي (ع) .
وبعد فترة من الوقت. يرد وفد من الوفود التي كانت تتواتر على الإمام العسكري (ع) من أطراف العالم الإسلامي ، فتصل إليه وتسلمه ما تحمله من الأموال من مختلف ما دفعوا الحقوق الإسلامية في تلك البلاد. وتسأله ما تشاء من السمائل الشخصية والإجتماعية ، فتنهل منه مختلف التعاليم والتوجيهات.
ويكون هذا الوفد من قم ، يدخل سامراء وهو لا يعلم بوفاة الإمام العسكري (ع)... فيسأل عنه الناس فيقول لهم الناس: أنه قد فقد .


صفحة (316)

قالوا: فمن وارثه؟.... فيشير الناس إلي أخيه جعفر بن علي . فيسأل الوفد عنه ، فيقال لهم :إنه قد خرج متنزهاً وركب زورقاً في دجلة يشرب ومعه المغنون .فيتشاور الوفد فيما بينهم ويقولون : هذه ليست من صفة الإمام ..وقال بعضهم : أمضوا بنا حتى نرد هذه الأموال على اصحابها ، ثم يقررون مقابلته واختباره.
فانتظروا رجوعه من نزهته ، ودخلوا عليه و حيوه و عزوه وهنوه.
وقالوا له : يا سيدي نحن قوم من أهل قم ، ومعنا جماعة من الشيعة وغيرها .وكنا نحمل إلى سيدنا أبي محمد بن علي الأموال .فقال: أين هي؟ ...قالوا :احملوها إليّ !... وإلى هنا يرى جعفر إحدى أمنياته في استيلائه على الإمامة قد تحقق ، وقد كسب الربح الأول في اليوم الأول .
ولكن يقف دون ذلك حجر عثرة وعائق صعب ، لم يستطع اقتحامه .وذلك أنهم قالوا له: إلا أن هذه الأموال خبراً طريفاً ، فقال: وما هو؟ قالوا : عن هذه الأموال لجمع - أي لعدد من الناس - ويكون فيها عامة الاشيعة الدينار والديناران ، ثم يجعلونها في كيس ويختمون عليه ،وكنا إذا وردنا بالمال على سيدنا أبي محمد عليه السلام يقول. جملة المال كذا وكذا ديناراً ، من عند فلان كذا وكذا ومن عند فلان كذا وكذا ،حتى يأتي على أسماء الناس كلهم .ويقول ما على الخواتيم من نقش.


صفحة (317)

أنظر إلى إسلوبهم الذي استطاعوا به (اصطياد) جعفر وإفحامه ..إنهم ولا شك ، لم يكونوا بحاجة لأن يسمعوا كل هذه التفاصيل من الإمام العسكري (ع) في كل مرة يغدون عليه ،وإنما كان هذا هو الأسلوب الاساسي الذي يعرفون به إمامة الإمام الجديد إذا تولى هذا المنصب العظيم بعد أبيه ،لأجل أن يتأكدوا أن الأموال قد دفعت إلى وليها الحقيقي والإمام الصادق الذي استطاع إقامة الحجة .
فكان الوفد ، يطلب إقامة الحجة من الإمام الجديد عن هذا الطريق ...وعلى هذا الأساس طلبوا من جعفر ذكر التفاصيل ،فإن أجاب علموا أنه هو ألإمام ، ودفعوا إليه عن طيب خاطر ورضاء ضمير. وإن لم يجب ..فهو ليس بإمام ،وليس له الصلاحية لقبض هذه الأموال في الشريعة الإسلامية .
ولكن جعفر يحاول أن يجد في كلامهم نقطة للمناقشة ليحاول النفوذ منها ..فيقول لهم : كذبتم ، تقولون على أخي ما لا يفعله . هذا علم الغيب ... متغافلاً عن قوله تعالى :" لا يطلع على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول". وأنه يمكن لكل شخص أن يعلم ما يعلمه الله تعالى إياه، فليس مستبعداً أن يكون الإمام ،وهو الوجود الثاني للقيادة الإسلامية بعد الرسول (ص) والإمتداد الطبيعي لرسالته العالمية ...أن يكون ملهماً من قبل الله عز وجل بعض الحقائق ليستعملها في شؤون قيادته وإقامة لحجة على إمامته ، عند اقتضاء المصلحة لذلك.


صفحة (318)

فلما سمع القوم كلام جعفر ، جعل بعضهم ينظر إلى بعض ..أن هذا ليس هو الإمام ، وليس في الإمكان دفع المال إليه ..وقد فشل في نتيجة الإختبار. فقال لهم جعفر: احملوا هذا المال إليّ. قالوا: أنا قوم مستأجرون، وكلاء أرباب المال .لا نسلم المال إلا بالعلامات التي نعرفها من سيدنا أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام . فإن كنت الإمام فبرهن لنا. وإلا رددنا الأموال على أصحابها يرون فيها رأيهم.
إنه تحد صارخ لجعفر ..وهو تحد لا يستطيع إلا الإمام الحق ان يخرج من مأزقه ،أما صاحب المخطط التخريبي فلم يعلمه الله تعالى شيئاً ليقوله لأحد .وأحسّ جعفر بالإنهيار والضغف مرة أخرى ، بعد تنحيته عن الصلاة علي أخيه ....إن للإمامة مسؤوليات .لا يستطيع ظهره أن ينوء بها ...ولكنه لا يستطيع أن يتنازل أو يتخاذل ...لا بد أن يقف صامداً على مخططه إلى آخر الخط ، فإنه إذا فشل في المحاولة الأولى بالحصول على المال ، فلا بد أن يفشل في المحاولات التالية ... أمام الوفود الأخرى ،أن أقرب طريق وأقوى ضمان للإستيلاء على هذه الأموال هو التوسط لدى السلطات ، لأجل إلزام هؤلاء القوم بدفعها.
ومن هنا يبادر جعفر بالذهاب إلى المعتمد ،وهو يمثل أعلى سلطة في البلاد - من الناحية القانونية - على الأقل ، لكي يتملق له ويشكو عنده هذا الوفد ليساعده في ابتزاز ما عندهم من المال.
وإذ يسمع المعتمد الشكوى يأمر بإحضار الوفد ، فيحضرون وتدور بينه وبينهم ، المحاورة التالية :
قال الخليفة : احملوا هذا المال إلى جعفر .


صفحة (319)

قال الوفد: اصلح الله أمير المؤمنين ، إنا قوم مستأجرون ،وكلاء لأرباب هذه الأموال ،وهي وداعة جماعة. وأمرونا أن لا نسلمها إلا بعلامة ودلالة .وقد جرت بهذا العادة مع أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام .
فقال الخليفة : وما كانت العلامة؟.
قال الوفد: كان يصف الدنانير وأصحابها، والأموال وكم هي .فإذا فعل ذلك سلمناها إليه ،وقد وفدنا عليه مراراً، فكانت هذه علامتنا معه ودلالتنا ،وقد مات ،فإن يكن هذا الرجل صاحب هذا الأمر - يعني الإمامة - فليقم لنا بما كان يقيمه لنا أخوه ،وإلا رددناها على أصحابها .
وهنا بدر جعفر فقال : يا أمير المؤمنين ، إن هؤلاء قوم كذابون على اخي ..وهذا علم الغيب.
نفس الإستدلال من اقوم .ونفس الجواب من جعفر ، يريد به افحام القوم أمام المعتمد ، لأجل لن يكسب مساعدته ضدهم .وهم وإن لم يوافقوا على اعتراضه ، باعتبار اعتقادهم بالإمامة ، واعتبروا ذلك دليلاً على عدم إمامته .إلا أن المفروض في المعتمد ، وهو يمثل خطأ لا يؤمن بالامامة ، أن يوافق على هذا الإعتراض ويلزم القوم بما لا يعتقدون .إلا أنه يشاء الله تعالى ...ويريد المعتمد أن ينتصر الحق أمام جعفر ، وعلى طول الخط ..ليبوء مخططه بالفشل .إن المعتمد غير مطلع على نوايا جعفر وأهدافه بالتفصيل ..إلى حد الآن ، ولكنه يعلم أنه خائن لمسلك أبيه وأخيه.


صفحة (320)

والخائن يجب ترك نصرته والوقوف إلى جانبه... إن المعتمد لا ينطلق في جوابه من حيث انطلق جعفر في اعتراضه... وإنما ينطلق من منطلق الوفد نفسه.. من الحقيقة الواضحة بأن الوكيل لا يستطيع التصرف إلا في حدود إذن موكله، وحيث ذكر هؤلاء أنهم غير مأذونين بتسليم المال إلا بعد الدلالة وإقامة الحجة ، إذن فلا بأس بعدم تسليمهم المال.
ومن هنا قال المعتمد: القوم رسل ،وما على الرسل إلا البلاغ المبين . فبهت جعفر ولم يرد جواباً ،أنه يسمع من المعتمد لأول مرة ما لم يكن متوقعاً ..إنه قول منصف ، إلا أن جعفر ليأسف أن يكون قول المنصف دائماً، ضد مخططه.
ثم يطلب القوم من الخليفة أن يأمر لهم شخصاً يدلهم على الطريق ، حتى يخرجون من البلدة ، فأمر لهم بنقيب فأخرجهم منها.
وإذ يصبحون في خارج البلدة ،ويحدث ما لم يكن في الحسبان ...أنهم جاؤوا إلى هذه البلدة يحملون الأموال إلى الإمام عليه السلام ... ومن غير المنطقي أن يرجعوا إلى بلدهم آيسين و يعلنوا عدم وجود الإمام ، فتبقى الأمة في حيرة وضلال ،مع أن الحجة المهدي موجود وقادر على الإتصال بهم وإفهامهم ما هو الحق ،إن ذلك لن يكون بادرة حسنة في منطق الدعوة الإلهية .إذن فلا بد من الإتصال بهذا الوفد ، وإلقامة الحجة عليه وإفهامه وجود إمامه ..على الطريقة المتبعة مع سائر الموالين .. ليكون هذا الوفد لساناً للحق في بلاده ونقطة انطلاق إلى القواعد الشعبية الموالية .


صفحة (321)

وستكون مقابلة هذا الوفد للإمام المهدي (ع) ثاني اتصال له بالناس في يوم وفاة ابيه ، وكان الول هو صلاته عليه السلام الله عليهما ، يرسل المهدي (ع) خادمه ، إلى خارج البلدة ، ويعطيه لامفتاح الرئيسي لإفهام هذا الوفد الحائر ما هو الحق .فيأمره بأن يتبعهم ويناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ..ويلقنها إياه ويخرج الخادم خارج البلدة ، ويصيح بهم بأسمائهم ، قائلاً لهم: أجيبوا مولاكم.
وهنا يجد القوم أن هذا الخادم قد علم الغيب فيخطر لهم احتمال أنه هو الإمام ..غافلين عن إمكان التعلم أي أحد إذا وجد الفرصة المناسبة فيبدرونه قائلين:أنت مولانا؟ فقال الخادم: معاذ الله ، أنا عبد مولاكم ، فسيروا إليه، واستصحبهم معه حتى وصلوا إلى دار الإمام العسكري عليه السلام ، فدخلوا فوجدوا الإمام المهدي قاعداً على سرير كأنه قمر ، عليه ثياب خضر .فسلموا عليه فرد عليهم السلام .ثم قال عليه السلام :جملة المال كذا وكذا دينار.
حمل فلان كذا وحمل فلان كذا .ولم يزل يصف ، حتى وصف الجميع ثم وصف ثيابهم ورحالهم وما كان معهم من الدواب ، فخروا سجداً لله عز وجل لما عرفهم ، وقبلوا الأرض بين يديه ، وسألوه عما أرادوا ، فأجابهم ، فحملوا إليه الأموال .
وهنا، وأمام ذلك الوفد القمي ، يفتح الإمام المهدي عليه السلام ، باب التاريخ الجديد ، تاريخ الغيبة الصغرى، تاريخ الوكالة والسفارة ، وهو تاريخ سوف يعيشه الناس سبعين عاماً من الدهر على ما سنسمع ..


صفحة (322)

فيأمر الوفد أن لا يحمل إلى سر من رأى بعدها شيئاً من المال ، وأنه ينصب لهم ببغداد رجلاً تحمل إليه الأموال وتخرج منه التوقيعات ..ويخرج الوفد (1).
وبقي جفعر يجتر حقده ..إنه يعلم من هو المقصود بهذه الأموال ، فما هو بالبعيد عن بيانات أبيه وأخيه ،وقد رأى المهدي (ع) في هذا اليوم وهو يدفعه عن الصلاة .. إذن فهو المقصود بالأموال .وستصل إليه حين يشاء. وما دام المعتمد ، معتمده من أول الأمر. بعد أن باع ضميره للسلطات وتمرغ في أوحال الإنحراف ، فمن المنطقي في نظره أن يشكو وفد القميين مرة أخرى، إلى الخليفة... إنه سيقول له: إتهم دفعوا المال إلى المهدي. وسوف لن تكون هذه الشكوى ضد الوفد نفسه ، بعد أن وقف المعتمد إلى جانبهم ، بل ستكون ضد المهدي نفسه ، وتتضمن بكل صراحة تأليباً للسلطات عليه.
وتجد السلطات بغيتها القصوى وهدفها الأعلى الذي كانت ولا تزال تجد في طلبه فلا تقع عليه .إنه الآن رهن يديها وقريب المتناول منها... أليس عمه الآن يعرب عن وجوده ويدل على شاطه .. إنها ستقبض عليه .. وبذلك تستطيع أن تتخلص من الوجود الرهيب الذي يقض مضاجعها ويملؤها رعباً وفرقاً ، لأنه سوف يبدل ظلمها عدلاً ويحول جورها قسطاً.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين (المخطوط)


صفحة (323)

يفكر المعتمد بذلك بمنطق المصلحة العليا والمهمة التي يمليها عليه الملك والجانب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في دولته ، ويمليها عليه هذا العدد الضحم من القواد والوزراء والقضاة والعاملين في الدولة، ويمليها عليه سائر المحسوبين والمنسوبين الى الدولة ، والموالين لها ، والسائرين في خطها بشكل وآخر .فيأتي كل ذلك في ذهنه ضخماً مجللاً مهما لا يمكنه التخلي عنه بحال من الأجوال ..وأي فشل ذريع وفضيحة كبرى سوف تناله وتنال دولته لو حصل ذلك ..ولا يمكن أن يحول احترامه للإمام العسكري (ع) والإيمان بعدالة قضيته ، دون ذلك ، ودون المبادرة إليه بكل حزم وشدة.
ومن هنا نرى المعتمد حيت يستمع لكلام جعفر. ووشايته بالمهدي (ع) ، يرسل الخيل والرجال إلى دار الإمام الحسن العسكري (ع)، فيكسبونه ويفحصون في كل غرفة ودهاليزه ، فلا يجدون شيئاً، وليتهم يكتفون بذلك، وإنما اشتغلوا بالنهب والسلب والغارة على ما رأوا من متاع الدار .
وبينما هم مشغولون بالنهب ، يتحين الامام المهدي فرصة غفلتهم ، ويخرج من الباب ، تقول الرواية : وهو يومئذ لبن ست سنين - وقد عرفنا انه ابن خمس سنين- فلم يره احد منهم حتى غاب (1).
ـــــــــــــــــــ
(1) الخرايج والجرايجص164


صفحة (324)

انهم لا يعرفون بالتحديد عمن يبحثون واي شخص سوف يجدون، فالفكرة غامضة في اذهانهم بعيدة عن مخيلتهم ..فلن يكن من البعيد، أن لا يلتفتوا وهو في نشوة السلب والنهب ، إلى وجود صبي يخرج من بين أيديهم ، بكل بساطة وبلا ضوضاء .
ولا يجد هؤلاء الرجال في الدار ، بعد أن تبعثر أصحابها وتشتت شملها إلا الجارية صقيل أم المهدي عليه السلام ، فيقبضون عليها ويرفعونها إلى الجهات الحاكمة.
ومن هنا تبدأ المحنة الأساسية لهذه الجارية الصابرة المجاهدة. تلك المحنة التي واجهتها ، بكل صمود وإخلاص وإيمان .واستطاعت برغم الضغط الحكومي ان تخرج ظافرة في المعركة ، وأن لا تبوح بالسر العزيز الذي باح به جعفر ، فقد أوجب الله تعالى عليه كتمانه ،وأبقت ولدها محجوباً مصوناً من الإعتداء.
إنهم ـ أولاً ـ طالبوها بالصبي ، فأنكرته ،ومعناه أنها ادعت أنها لم تلد ،وأنه لا وجود لهذا الصبي على وجه الأرض ..إنها تخبر بما لا تعتقد ..ولكنه كذب جائز بل واجب في الشريعة الأسلامية .فإننا نعرف ان الكذب يكون جائزاً في ما إذا كان سبباً في إصلاح ذات البين ،ويكون واجباً فيما إذا توقف عليع إنقاذ نفس محترمة من الموت أو ما دونه من أنواع التنكيل الشديد .. وهو الآن كذلك بالنسبة إلى ولدها المهدي (ع) .فكيف إذا توقف على هذا الكذب البسيط مستقبل الإسلام وسعادة البشرية وقيام المهدي بدولة الحق.
وتزيد الوالدة الصابرة الممتحنة في إخفاء ولدها ، وتأخذ الحيطة له. فتدعي ان لها حملاً. ويقع كلامها في ذهن الحكام موقعاً محتملاً.


صفحة (325)

فإننا عرفنا أن الدولة كانت تنتظر ولادة المهدي عليه السلام من الإمام العسكري عليه السلام .وها قد انتهت حياته ولم تر له ولداً ، فهو إذن أما موجود في الخارج أو محمول في الأرحام .وحيث لا تكون الدولة مسبوقة بوجوده في الخارج ،وهي قد جردت حملة التفتيش ولم تجده ..إذن فهو حمل ..ومن المحتمل ان يكون هذا الحمل الذي تدعيه هو المهدي المطلوب ،فحسبهم ان يراقبوا هذه الجارية الى حين ولادته.
ومن هنا وقعت هذه الجارية تحت المراقبة الشديدة المستمرة. حيث جعلوها بيم نساء المعتمد ونساء الموفق ونساء القاضي ابن ابي الشوارب ..وهن نساء أعلى رجال لدولة .ولا زالوا يتعاهدون أمرها في كل وقت ويراعونها وطالت المدة ولم يحصلوا على شيء.
وبقيت الجارية على هذه الحال حتى واجهت الدولة مشكلات أساية في المجتمع ،واضطرت إلى خوض الحروب في عدة جبهات ، فاشتغلوا بذلك عن هذه الجارية، فخرجت عن أيديهم ، الحمد لله رب العالمين .
وتعد الرواية أربع حوادث رئيسية شغلت الدولة(1)، وكلها حقائق راهنة نسمعها في التاريخ العام: إحداها: اقتراب يعقوب بن الليث الصفاء من العاصمة بعد أن ...
ـــــــــــــــــــ
(1) قالت الرواية : إلى أن دهمهم أمر الصغار ،وموت عبيد الله بن يحيى بن خاقان بغتة، وخروجهم من سر من رأى ،وأمر أصحاب الزنج بالبصرة ، وغير ذلك. انظر إكمال الدين ( المخطوط ) مع سائر تفاصيل القبض على أم المهدي عليه السلام.


صفحة (326)

كان يمارس نشاطه في الأطراف ، فإنه بعد أن استولى على بلاد فارس ونازل الحسن بن زيد العلوي فيها في وقعات عديدة شعر المعتمد في سنة 262 بالعجز عن يعقوب بن الليث ، فكتب إليه بولاية خراسان وجرجان ، فأبى يعقوب ذلك حتى يوافي باب الخليفة ، فخاف المعتمد .
فتحول من سامراء إلى بغداد. وجمع أطرافه وتهيأ للملتقى. وبذلك تحولت جبهة القتال من فارس إلى بغداد. وتحول معاندوا الصفار من االحسن بن زيد وغيره من حكام الأطراف ، إلى الخليفة نفسه .
وجاء يعقوب في سبعين ألف فارس ، فنزل واسط ، فتقدم المعتمد وقصده يعقوب .فتقدم المعتمد أخاه الموفق بجمهرة الجيش واستطاع الموفق أن يهزم الصفار، فاستبيح عسكره وكسب اصحاب الخليفة ما لا تحد ولا يوصف . وعاد الصفار بنفسه منهزماً الى فارس(1) .
وبالرغم من ان المعتمد كان قد عقد للموفق لحرب صاحب الزنج منذ عام 258 ،وخرج بنفسه لتشييعه كما سمعنا. إلا أننا نرى الموفق إلى حين منازلته للصفار. لم ينازل الزنج منازلة فعالة، وإنما كانت تلك المهمة ملقاة على عاتق قواد آخرون في الدولة ، ولم ينازله الموفق، إلا بعد أن ظهر عجز الآخرين واندحارهم ، في زمن متأخر جداً.
ثانيهما: خروج هؤلاء الحكام : المعتمد والموفق ، من سامراء إلى بغداد كما سمعنا.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الكامل ج6 ص7-8 والعبر في خبر من غير ج2 ص 24.


صفحة (327)

ثالثهما: موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، الوزير ، الذي استوزره المعتمد من حين تسلمه للحكم عام 256 . وكان له مع الامام العسكري عليه السلام واخيه جعفر موقفاً محموداً ،فقد حصل موته فجأة بسبب سقوطه على دابته في الميدان .فسال دماغه من منخريه واذنه فمات لوقته وذلك عام 263(1).
رابعهما: مشاكل صاحب الزنج: وقد حملنا عنه في الفصل الاول فكرة منفصلة وقد كان ذلك الى ذلك الحين يحاول سبق الزمن في التخريب والقتل والاحراق وابادة الجيوش التي تنازله واستباحة الاموال والنساء كما عرفنا.
ولعلنا نستطيع ان نضع ايدينا على سبب آخر ، لانشغال الدولة عن ام المهدي عليه السلام ،هو موت ابن ابي الشوارب ،قاضي القضاة عام 261(2) الذي عرفنا انها سلمت الى نسائه .
وعلى أي حال ، فنفهم من ذلك أن أم المهدي (ع) ، بقيت تحت رقابة الدولة أكثر من عام ، بل اكثر من عامين، لأننا عرفنا أن إلقاء القبض عليها كان بعد وفاة الإمام العسكري عليه السلام ، بمدة غير طويلة، نتيجة لوشاية جعفر ... إذن فقد تم ذلك خلال شهر ربيع الأول من عام 260.
على حين ان هذه الحوادث التي دهمت الدولة ، وقع أولها وهو موت ابن أبي الشوارب عام 261 ،وكانت واقعة الصفار عام 262 وموت الوزير عام 263.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الكامل ج6 ص15 ، وأنظر الطبري أيضاً.
(2) الكامل ج6 ص21)


صفحة (328)

والمظنون أن حادثة الصفار بما أوجبته من خروج المعتمد والموفق من سامراء ، كانت هي السبب الرئيسي في خروجها من الأسر . وقد و قعت بالتحديد خلال شهر جمادى الثانية من عام 262(1) فتكون ام المهدي عليه السلام ،قد بقيت في الأسر عامين وما يزيد على الشهرين .
ومن هنا تعرف ، ان المقصود الأساسي من حجزها ومراقبتها ليس هو البحث عن جنينها او انتظار ولادتها ، وإلا كان يكفي للتأكد من ذلك أن تمضي عدة أشهر فقط، وإنما كان المقصود هو اضطهادها وعزلها عن مجتمعها أولاً ، واحتمال اتصال ولدها بها خلال هذه المدة ، لو كان موجوداً، ..ثانياً .إلا أن مخططهم باء بالفشل الذريع.
تعليق على الأحداث : أود في ختام هذا الفصل أن اشير إلى عدة نقاط مهمة ، عسى أن تتجلى بعض جوانب الغموض فيما عرفنا من التاريخ.
النقطة الأولى: إن غيبة الإمام المهدي عليه السلام ، ليس لها مبدأ معين نستطيع أن نشير إليه .وإنما الأمر هو الذي عرفناه من وجود الإمام عليه السلام من حين ولادته ، في جو من الكتمان والحذر والإحتجاب ، وحرص والده عليه السلام على المحافظة البالغة عليه وعدم وصول خبره الى السلطة أو من يدور في فلكها أو من يلين امامها ، ولم يكن يعرض ولده إلا على الخاصة من أصحابه كما عرفنا .
ـــــــــــــــــــ
(1) على ما يظهر عن ابن الأثير في الكامل ج6ص8


صفحة (329)

وبقي نفس هذا المعنى ساري المفعول ، بعد وفاته عليه السلام ، متمثلاً في حرص المهدي (ع) نفسه وحرص سفرائه وأصحابه في الكتمان والحذر ،ومن الملاحظ في سيرة الإمام المهدي (ع) انه كلما كان الزمان يمر كان يحجب نفسه عن اصحابه أكثر ، فإنهم كلما اعتادوا على مقدار من الإحتجاب زادهم شيئاً قليلاً ، وهكذا ،وهذا هو الملاحظ من حين ولادته في زمان أبيه إلى آخر غيبته الصغرى حين بدات الغيبة الكبرى ،وبدأ الإحتجاب التام إلا بإذن الله عز وجل.
وسوف نناقش في مستقبل البحث ، الخرافة القائلة بأن بدأ الغيبة كان من حين نزول المهدي عليه السلام إلى السرداب ، تلك الخرافة التي نفخ فيها جملة من المفكرين وضخمها عدد من المؤرخين ، واعتبروها من النآخذ على عقيدة الإمامية في المهدي . وسنرى أن رواية واحدة مجهولة السند واردة في ذلك، على أننا لو اعتبرناها اثباتاً تاريخياً ، فهي تنص على أنه خرج من السرداب أمام الجلاوزة الذين كبسوا على الدار على ما سنسمع.
مضافاً إلى أن الإعتقاد بذلك منضمن لمفهوم خاطىء كاذب ..وهو أن المهدي (ع) وقبل نزوله إلى السرداب لم يكن محتجباً وكان من المتيسر لكل الناس ان يروه، وكانت حادثة السرداب هي الحد الفاصل بين الظهور والإحتجاب .وقد عرفنا بكل وضوح وتفصيل بطلان ذلك وعدم قيامه على أساس ، وقد حملنا فكرة كافية عن حرص والده على حجبه وإخفائه ، فلم يكن لحادثة السرداب أي أثر .


صفحة (330)

على أننا سنعرف أن هذه الحادثة لا تصلح ، من حيث وجودها التاريخي ـ لو صحت ـ أن تكون مبدأ للغيبة ، فإننا سنعرف أنها وقعت بفعل المعتضد العباسي، وقد استخلف عام 279 أي بعد وفاة الإمام العسكري (ع) وبدأ عصر الغيبة الصغرى ..عصر إمامة المهدي (ع) وقيادته للمجتمه بواسطة السفراء ... بتسعة عشر عاماً. فاسمع واعجب!!
النقطة الثانية: إن الإمام المهدي عليه السلام ، بدأ بنفسه عصر سفارته ووكالته ، المسمى بعصر الغيبة الصغرى ، حيث استطاع أن يتصل بالمجتمع ، متمثلاً بوفد القيمين ، ويصرح لهم شفوياً ، بتنصيبه للسفير حين يكون الناس على بينة من أمرهم في نشاطهم وتصرفهم وأموالهم ،وتكون الحجة قائمة، في هذا النص القانوني، على صدق السفارة والسفير.
ولم يكن أمر السفارة غريباً على أذهان الجماهير الوالية . بعد أن كان نظام الإمامين العسكريين عليهما السلام، إذ يوعز إلى الوفد بحمل المال إلى وكيله في بغداد ..لا يسمي لهم شخصاً معيناً يكون هو الوكيل ، وذلك لعدم حاجتهم إليه. )


صفحة (331)

باعتبار إن هذا المال الذي كانوا يحملونه قد وصل إلى الإمام نفسه ،وسوف لن يحملوا مالاً آخر قبل مضي عام من الزمن تقريباً ، فان الوفد من كل بلد يكون عادة قي كل عام مرة ،فاذا جاؤا حينئذ فسوف يستطيعون التعرف عليه والسؤالعن اسمه وسوف يدلهم الكثيرون عليه.
اذن فغاية ما يستطيع هذا الوفد أن يبلغه الآن إلى جماهير الموالين في سامراء وقم وغيرهم من المدن ،وهو أن يعطيهم أصل فكرة الوكالة ،وضرورة الرجوع إلى الوكيل في بغداد ، وعدم لزوم البحث عن مقابلة المهدي (ع) بنفسه.
وأما اسم الوكيل ، وتعيينه في عثمان بن سعيد العمري ، فهذا ما يحتاج إلى بيان آخر، وفي الحق أنه قد صدرت فيه عدة بيانات بعضها من افمام العسكري (ع) وبعضها من المهدي (ع) نفسه على ما سنسمع في القسم الثاني من هذا التاريخ .
النقطة الثالثة : أن مركز الثقل والإدارة السياسية للقواعد الشعبية الموالية اجتماعياًُ واقتصادياً ، ستنتقل بإيعاز من الإمام المهدي عليه السلام من سامراء إلى بغداد. بالرغم من بقاء سامراء عاصمة للخلافة العباسية ما دام المعتمد في الحياة، تسعة عشر عاماً اخرى وتنتهي بانتهاء حياته عام 279 ثم ينتقل مركز الثقل في الخلافة ايضاً الى بغداد مع بدأ خلافة المعتضد بن الموفق بن المتوكل في ذلك العام.
إن الوكيل منذ الآن ، سيمارس نشاطه في بغداد ،وستحمل الأموال إليه هناك ، وتخرج التوقيعات منه .وفي ذلك ما لا يخفى من البعد عن الرقابة المباشرة للسلطات عن الإحتكاك الدائم بالطبقة الأرستقراطية في العاصمة ، من القواد الأتراك وغيرهم ممن يمثل خط الدولة على طوله.


صفحة (332)

ولئن كان الإمامان العسكريان قد فرضت عليهم الإقامة الجبرية في سامراء وسياسة التقريب من البلاط و الدمج في حاشية الخليفة.. وكان الإمامان لا يريدان إعلان الإحتجاج وإثارة النزاع.. لئن كان ذلك فهو أمر خاص بحياتهما ..وأما بعد أن ذهبا إلى ربهما العظيم صامدين صابرين ،وآلت الإمامة إلى المهدي عليه السلام ،وهو الثأر على الظلم والطغيان ، فقد آن لهذه السياسات المنحرفة ان تنتهي ،ولهذا المخطط الحكومي أن يقف عند حده، ينبغي لوكلاء المهدي عليه السلام أن يواجهوا الجمهور متخلصين من هذا العبء متحررين من هذا الإضطهاد ... حتى يستطيعوا أن يمارسوا عملهم بشكل أفضل وبحرية أوسع ، .وبخاصة أن مواقفهم - بصفتهم وكلاء عن المهدي ـ تجعل موقفهم دقيقاً حرجاً تجاه السلطة ،ويزيد حراجة فيما إذا كانوا يمارسون عملهم في سامراء .
على أننا ينبغي أن لا نبالغ في الحرية التي سيكتسبونها عند البعد عن العاصمة ،،إنها حرية نسبية ، بمعنى أن حالهم في بغداد أحسن بقليل وإخفاء نشاطهم أسهل .ولكن الخط العام الذي كانت ولا زالت تمشي عليه الحكومة، موجود أيضاً وهو مطاردة الجمهور الموالي ومراقبته وإبعاده عن الحياة ااسياسية والإجتماعية والإقتصادية ، فالحجز والضيق بمعناه العام ، لا تختلف فيه بغداد عن سامراء شيء.


صفحة (333)

وهذه الحرية النسبية التي سيكتسبها الوكلاء في بغداد ، ستبقى سارية المفعول ، ما دامت بغداد بعيدة عن العاصمة وأن تسعة عشر عاماً يمر على ذلك كفيل بترسخ الوكلاء اجتماعياً والتفاف الجماهير الموالية حولهم ...بحيث لن يكون إنتقال العاصمة إلى بغداد ، تارة أخرى، أهمية ضد نشاطهم ،كالأهمية التي ستكون فيما لو انتقلت العاصمة مع بدء عصر الوكالة أو وجدت الوكالة في قلب العاصمة .
وهذا كله يجري في النطاق الخاص ،وأما السلطات الحاكمة ، فسون لن تكون مسبوقة بذلك ، لما يحيط كل نشاط يقوم به الوكلاء من السرية والرمزية بشكل يشبه من بعض الوجوه ما رأيناه من الإمامين العسكريين عليهم السلام ، على أنه المستطاع القول بأن الوكلاء أضيق من الإمامين (ع) نشاطاً وأقل منهما رمزية ،وإن كانوا أكثر منهما سرية وتستراً ،وقد أوجبت هذه السرية تعذر تطبيق تلك السياسة القديمة على الوكلاء ، من قبل السلطات ، بطبيعة الحال .
واما على المستوى الحكومي ، فالحملة ضد المهدي عليه السلام ستبقى سارية المفعول عشرين عاماً على اقل تقدير ، حتى بعد الإنتقال إلى بغداد ،ولا تسأم الحكومة. من ذلك ولا تيأس ..وإن اتسقطت وجوده القانوني وميراثه عن نظر الإعتبار ،وبالطبع، فإنه مما يحدد عزمها ويثيرها، ما يبلغها ، بشكل مباشر عن نشاط الوكلاء وما ترى من اعتفاد الجمهور الموالي بوجود المهدي عليه السلام وغيبته، ونيابة هؤلاء السفراء عنه عليه السلام ... ولكنها لن تستطيع النجاح .. وسيحالفها الفشل ..إلى آخر الخط .


صفحة (334)

النقطة الرابعة : إننا سبق أن عرفنا عدة حوادث ولم نعرف تاريخها المحدد، منها : توسل جعفر بن علي بالوزير عبيد الله بن خاقان ،على ان يجعل له مرتبة أخيه عليه السلام ،ومنها توسله بالمعتمد لتنفيذ نفس الغرض.
ومنها وقوف المهدي عليه السلام تجاه أطماع جعفر حين مطالبته بالإرث ، ومنها: وقوفه عليه السلام مطالباً تنفيذ وصية جدته.
ومن المؤسف أننا لا نستطيع الوصول إلى التحديد المنضبط لهذه الأمور، فإنه من مناطق الفراغ في التاريخ على أي حال .وإنما غاية ما نتوخاه هو الإلتفات إلى ما تقتضيه طبيعة الأشياء في ترتيب هذه الحوادث.
المظنون ان أولى هذه الحوادث وقوعاً ، هو مطالبة جعفر بن علي بالإرث، فإن مناقشات الإرث تقع عادة في غضون الايام الاولى من وفاة المورث ،وخاصة اذا كان احدهم حريصاً ومستعداً للمناقشة والجدل ،كجعفر نفسه. واما توسله الى السلطات ،فقد كان بعد ان مضت مدة كافية ثبت فيها بالتجربة عند جعفر ،بأن مخططه قد فشل وأن إمامته قد رفضت لدى كل من اتصل به من جماهير الموالين وشيوخهم ، وهذا ما يحتاج الى بعض الزمان حتى يتمخض الجدل الذي قام بين الماولين حول اثبات ذلك او رفضه ونشر الموقف الذي اتخذه المهدي عليه السلام تجاه عمه بينهم.


صفحة (335)

وحيث كانت السلطات هي الركيزة الاساسية لجعفر في مخططه ، فقد لجأ إليها .مبتدئاً بالوزير ومنتهياً بالخليفة ، لعلها تستطيع ان يفرض جعفراً على الموالين فرض، وقد عرفنا ما واجهه من عجز السلطات ورفضها لطلبه.
وعلى أي حال فمن المستطاع القول ان هذه الحوادث الثلاث جميعاً ، قد حدثت خلال الاشهر الاولى المتعقبة لوفاة الامام العسكري عليه السلام في نفس عام 260.
واما وفاة الجدة رضي الله عنها ،فهو متأخر عن مطالبته بالارث ،كما تدل عليه الرواية نفسها(1) ولكنه على أي حال غير محدد الموعد فلعله كان في نفس السنة ولعله كان في العام الذي يليه. وعلى أي حال فقد حصلت وفاتها في غضون ممارسة جعفر لنشاطه واصراره على دعواه . قبل ان ييأس من تنفيذ مخططه ويرفع يده عنه ويتوب.
النقطة الخامسة: انه لا بد لنا من اجل حفظ الحقيقة والموضوعية في البحث ان نذكر من اشرنا اليه قبل قليل ، وهو ان جعفر بعد ان مضى عليه زمان يمارس النشاط العدائي للامام المهدي وعائلته والممالىء للسلطات الحاكمة ايس من نجاحه وسيطر عليه الحق فكبح جماح نفسه وترك عمله ورفع اليد عن سلوكه المنحرف ، وتاب الى الله من ذنوبه.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإكمال الدين (المخطوط) .


صفحة (336)

وعندئذ يخرج التوقيع من الامام المهدي عليه السلام في العفو عنه والتجاوز عن تقصيره ، تطبيقاً لقوله تعالى :" فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم"(1) .وقوله تعالى :" وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى"(2).
يخرج هذا التوقيع بواسطة السفير الثاني: محمد بن عثمان بن سعيد العمري ، جواباً على سؤال في ضمن عدة استفتاءات تقدم بها: اسحاق بن يعقوب إلى الإمام المهدي عليه السلام بواسطة هذا السفير .وكتب الإمام عليه السلام فيما يخص جعفر قائلاً :وأما سبيل عمي جعفر وولده . فسبيل أخوة يوسف عليه السلام (3). يشير بذلك إلى عفو الله تعالى عن اخوة يوسف عليه السلام(4) ، بعد ان كانوا قد ناصبوه العداء وغرروا به ، على ما تحدث القرآن ثم عفا عنهم حين اعتذروا و" قالوا : تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين .قال لا تثريب عليكم اليوم . يغفر الله لكم. وهو أرحم الراحمين"(4) .
وهذا البيان من الإمام المهدي عليه السلام . يدل على العفو عن جعفر ، لنفس السبب الذي عفي به عن أخوة يوسف ، وهو اعتذراهم ورجوعهم إلى الحق وتوبتهم عما فعلوه.
ـــــــــــــــــــ
(1) 5/39 (2) 20/82
(3) انظر الإكمال المخطوط ،تاريخ سامراء ج2 ص249 عن الإحتجاج ،وفي الإحتجاج ص283 ج2 ط النجف عام 1386 وسبيل ابن عمي جعفر وهو خطأ تورطت فيه المطبعة .
(4) 12/91-92


صفحة (337)

ومن المؤسف أن لا يكون تاريخ هذا البيان معروفاً بالتحديد وإنما غاية ما نعرفه هو خروجه بواسطة الوكيل الثاني للإمام المهدي عليه السلام ، محمد بن عثمان العمري المتوفي عام 305(1) . واما تاريخ توليه الوكالة بعد ابيه فمجهول لجهالة تاريخ وفاة ابيه عثمان بن سعيد على ما سنسمع. ومن هنا لا نستطيع ان نحدد مقدار الزمان الذي استمر جعفر يمارس نشاطه فيه. ولا الزمان الذي تاب فيه وصدر عنه العفو، غير انه كان قبل سنة 305 وهو تاريخ مديد غير محدد وهذا من فجوات التاريخ المؤسفة . وعلى الله قصد السبيل .
خاتمة هذا القسم :
استطعنا في هذا القسم الأول : أن نحيط بالمهم من الظروف والملابسات التي اكتنفت حياة الإمامين العسكريين عليهما السلام هذه الظروف التي انبثقت فيها الغيبة الصغرى كما احطنا بالمهم من تاريخ الامام المهدي عليه السلام ، بحسب ما ورد في تاريخنا الخاص ، في ولادته ونشأته في زمان أبيه ، وما نتج عن ذلك بشكل مباشر بعد وفاة أبيه .
وبذلك ينتهي القسم الأول من هذا التاريخ ، وهو في واقعه قسم تمهيدي، لما كرس له هذا التاريخ من ذكر للغيبة الصغرى والإحاطة بخطوطها العامة وأساليب الإمام عليه السلام في تدبير أمور مواليه وقيادتهم وهذا ما نتعرض له خلال القسم الثاني.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر هامش الإحتجاج ج2 ص282 عن خلاصة العلامة ،وانظر الخلاصة : القسم الأول ص.149.


صفحة (338)


القسم الثاني
تاريخ الغيبة الصغرى
من عام 260 الى عام 329
تمهيد :
في تحديد الغيبة الصغرى :
تبدأ الغيبة الصغرى من حين وفاة الإمام العسكري عليه السلام وتولي الإمام المهدي عليه السلام الإمامة .وقد بدأها عليه السلام بالإيعاز بنصب وكيله الأول ، حين قابله وفد القيمين كما سمعنا.
ولذا نجد ان الأمر لا يخلو من المسامحة إذا قلنا أن الغيبة الصغرى بدأت بإصدار هذا البيان ، لا بساعة وفاة أبيه عليه السلام ، على أن الأمر ليس مهماً ، بعد اتحاد تاريخها ، في نفس اليوم الواحد ، بل الصباح الواحد . حيث توفي الإمام العسكري بعد الفجر من اليوم الثامن من شهر ربيع الاول عام 260 وقابل وفد القيمين الإمام المهدي عليه السلام قبل الظهر في نفس اليوم.
ومن المستطاع القول بان المميزات الرئيسية لهذه الفترة ثلاثة:
الميزة الأولى : كونها مبدأ تولي الإمام المهدي عليه السلام ، للمنصب الإلهي الكبير في إمامة المسلمين بعد أبيه الراحل عليه السلام.


صفحة (341)

لكي يتولى مسؤوليته الكبرى في قيادة قواعده الشعبية خاصة وان البشرية كلها عامة ،الى قوانين السعادة والسلام.
الميزة الثانية: عدم الإستتار الكلي للمهدي عليه السلام ، وإنما كان يتصل بعدد مهم من الخاصة، لأجل مصالح كبرى ستعرفها فيما بعد ، على حين بدأ الإستتار الكلي - إلا فيمن شاء الله عز وجل - بانتهاء هذه الفترة.
الميزة الثالثة :
وجود السفراء الأربعة ، الموكلين بتبليغ تعاليم الامام المهدي الى الناس من قواعده الشعبية بحسب الوكالة الخاصة المنصوص عليها من قبل المهدي نفسه او من قبل ابائه عليهم السلام .وكان الاسلوب الرئيسي للمهدي (ع) في قيادة قواعده الشعبية وإصدار التعليمات وقبض الأموال ، هو ما يكون بتوسط هؤلاء السفراء وما يتسنى لهم القيام به من قول أو عمل.
وقد خسرت الأمة الإسلامية هذه الوكالة الخاصة ، بوفاة السفير الرابع .وانتقل التكليف الإسلامي ، بعده إلى الإتكال على الوكالة العامة، الثابتة في الكتاب والسنة ،كما هو المعروض في محله من كتب البحوث والأحكام الإسلامية.
ولم تخل هذه الفترة من تشاويش وصعوبات ، عاناها السفراء والمهدي عليه السلام - وهو في غيبته - من أجل ادعاء أفراد معينين للوكالة لاخاصة زوراً ، ومعارضتهم للسفراء الحقيقيين ،وإغرائهم للناس بالجهل ، غير أنه كانت تكتب لهم الخيبة والفشل ، نتيجة للجهود الواسعة التي يبذلها السفراء في تكذيبهم وعزل الناس عنهم ، استشهاداً بأقوال الإمام المهدي وبياناته فيهم .


صفحة (342)

واهم هؤلاء المدعين ،واكبرهم تاثيراً في جماعات من الناس هو الشلغماني ابن ابي العزاقر. وسياتي التعرض الى موقفه وموقف المهدي عليه السلام منه تفصيلاً.
كما ان هذه الفترة ،لم تخل من مصاعب بلحاظ المطاردة الحادة التي كانت السلطات توجهها الى الامام المهدي عليه السلام بالخصوص. وقواعده الشعبية على وجه العموم .وبلحاظ المناقشات وانحاء الكلام والطعن الذي كان يصدر من القواعد الشعبية غير الموالية للأئمة عليهم السلام، وخاصة اؤلئك المتملقين للدولة والمستاكلين على مائدتها والمنتفعين بسياستها.
ولعل الثغرة التي كان يمكن لهؤلاء ان يصلوا اليها في مناقشاتهم كانت اوسع بعض الشيء مما كانت عليه مناقشات امثالهم في زمان ظهور الائمة عليهم السلام فان القواعد الشعبية الموالية .كانت في هذه الفترة فاقدة للاتصال المباشر بشخصية الامام عليه السلام ، تلك الشخصية الفذة النيرة التي تعطي من توجيهها وتدبيرها في نفض الشبهات وحل المشكلات ،الشيء الكثير ، مما يصعب على الوكلاء والسفراء القيام به الا بشكل يكون اضيق دائرة واقل درجة.
على ان الامام (ع) في بياناته ومقابلاته للاخرين لم يكن يأل جهداً في المناقشة والتوجيه والتدبير ،على ما سنذكر في مستقبل البحث بتوفيق الله عز وجل .


صفحة (343)

مضافاً إلى أن فكرة غيبة المهدي (ع) وطول عمره وما يترتب على ذلك من فائدة ،ونحوها من الأسئلة التي أصبحت تثار من قبل المناقشين ، لم يكن لها أي موضوع أو مجال في زمان ظهور الأئمة عليهم السلام .
وهذا بنفسه يكلف السفراء ،ومن ثم الإمام المهدي (ع) نفسه إلى مناقشة مثل هذه الشبهات وتذليل مثل هذه المشكلات بنحو منطقي مقنع.
والآن يمكننا أن نستعرض تاريخ الغيبة الصغرى ، معتمدين عدة فصول: )


صفحة (344)

الفصل الأول
في التاريخ العام لهذه الفترة

تبداً هذه الفترة التي نؤرخها: عصر الغيبة الصغرى ، بوفاة الإمام العسكري عليه السلام ، في الثامن من شهر ربيع الأول عام 260 كما قلنا ،وتنتهي بوفاة السفير الرابع أبي الحسن علي بن محمد السمري في النصف من شعبان ، عام 329 (1) .
وهي سبعون عاماً حافلة بالأحداث الجسام والتقلبات العظام انتقل فيها عمر التاريخ الإسلامي من عقده الثالث إلى عقده الرابع.
وانتقلت الوكالة الخاصة أو السفارة عن الإمام المهدي عليه السلام بين أربعة من خيار خلق الله وخاصته، هم عثمان بن سعيد العمري وابنه محمد بن عثمان ، والحسين بن روح ، وعلي بن محمد السمري ، رضي الله عنهم وانتقلت الخلافة بين ستة من خلفاء بني العباس ، بينهم المعتمد الذي عاصره وفاة الإمام العسكري عليه السلام ،
ـــــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص424.


صفحة (345)

ومبدأ الغيبة الصغرى ... حتى عام 279، حيث آلت الخلافة الى المعتضد الى عام 289 ، فاستخلف المكتفي الى عام 295 ، وبعده المقتدر الى عام 320 ، ثم القاهر بالله سنة 322 ، ثم الراضي بالله حتى عام 329 وهو عام وفاة النائب الرابع السمري عليه الرحمة ، ونهاية العهد الذي نؤرخ له.
والخطوط العامة للمجتمع، هي ذاتها التي عرفناها في التاريخ العام السابق الذي عرفناه ...فضعف الخلافة يتفاقم بمضي الأعوام، ولئن كان سيطرة الموالي والأتراك على دفة الحكم ،وتأثيرهم في نصب الخليفة وعزله ، في الفترة السابقة، ملفتاً للنظر، باعتبار كونهم جديدوا عهد بمثل هذا العمل ، فقد أصبح تأثيرهم في هذا التاريخ طبيعياً وأمراً حتمياً ،فهم القواد والمحاربون والمالكون للأطراف والمتصرفون بشؤون الدولة ،وخاصة الخلفاء حيناً وأعداءهم أحياناً ، والمؤثرون في عزل الخليفة ونصبه بكل بساطة ووضوح .بل من المستطاع القول ... بأنهم بالرغم من كونهم شجى في حلق الخلافة، إلا أنهم الساعد الأيمن لها والمستفيد منها ،والمتاجر باسمها في طول البلاد وعرضها.
وقلما يموت الخليفة حتف أنفه ، فالمعتمد يكثر من الأكل في عشاء على الشط ببغداد ،فيموت مبطوناً(1). والمعتضد يموت مسموماً من قبل إحدى جواريه أو غيرها(2)،
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص73
(2) المروج ج4 ص184


صفحة (346)

والمقتدر يموت بشر قتلة من قبل قوم من المغاربة والبربر ، وكان منفرداً منقطعاً عن أصحابه فشهروا سيوفهم في وجهه ، فقال لهم : ويحكم انا الخليفة ! فقالوا : قد عرفناك يا سفلة ..انت خليفة ابليس ..وقتلوه واخذوا جميع ما عليه حتى سراويله ،وتركوه مكشوف العورة الى ان مر به رجل من الاكرة فستره بحشيش ثم حفر له موضعه ودفن وعفي قبره.(1)

والقاهر ثار عليه جماعة من القواد الساجية والحجرية واقتحموا عليه قصره ، فلما سمع القاهر الأصوات والجلبة ، استيقظ مخموراً وطلب باباً يهرب منه ..ولا زال يماطلهم منفرداً حتى أدركوه وقتلوه(2).
وهذا القاهر، هو الذي ذاق طعم الخلافة لمدة يومين في غضون أيام سلفه ، حيث خلع المقتدر وشهد جماعة على خلعه. وذلك بأيدي بعض القواد الموالي والوزراء .ولكن القاهر حين رأى المقتدر راجعاً إلى دست الخلافة قائلاً له : يا أخي قد علمت أنه لا ذنب لك .وأنك قهرت ..ولو لقبوك لكان أولى من القاهر .بكى القاهر وقال : يا أمير المؤمنين نفسي نفسي ...أذكر الرحم التي بيني وبينك(3).
وأما حال الوزارة والوزراء ، الذين يتناوبون على دست الحكم ، وسرعان ما يبدو فشلهم في معاملة الناس وفي توزيع الأموال وتدبير الشؤون السياسية، فيعزلون وقد يذوقون بعد العزل صنوف العذاب والسجن وتهب الأموال ، فحدث عن هذه الحال ولا حرج ... بما يطول المقام في ذكر تفاصيله.
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص221 (2) المصدر ص237
(3) المصدر ص202


صفحة (347)

والصعوبات والحروب المتكررة التي تتكبدها الدولة من الخوارج كثيراً .ومن الاكراد(1) والاعراب(2) أحياناًُ ،ومن الخارجين عليها الطامعين في الملك والغلبة على الأطراف دائماً .. قائمة باستمرار على قدم وساق.
والفتح الإسلامي ، لا زال تجارياً يقصد به إلا السلب والنهب والغارة .ويعتبر بالنسبة إلى الدولة مورداً ضخماً ، يصرف أكثره في الخلافات الداخلية والخلافات الشخصية .ولم يكن الفتح محل عناية الدولة أكثر من ذلك ، إلى حد أصبحنا نسمع أنه ضغفت الثغور الجزرية في ايام المقتدر عن دفع الروم عنهم : كملطية وميافارقين وآمد وارزن وغيرها، وعزموا على طاعة ملك الروم والتسليم إليه لعجز الخليفة عن نصرهم ،وأرسلوا إلى بغداد يستأذنون في التسليم ويذكرون عجزهم ويستمدون العساكر لتمنع عنهم ..فلم يصغ إليهم احد .فعادوا خائبين(3). لأن العاصمة علمت أن هذا الموقف لن يكون تجارياً ،وإنما هو لأجل إنقاذ حقيقي لمنطقة إسلامية من براثن الإستعمار الكافر.
والحروب من أطراف الدولة الإسلامية، بين الطامعين والمترأسين، قائمة على قدم وساق بنحو خارج عن اختيار العاصمة وامرها ،على الاغلب ، وتكون هذه الحروب هي الحكم الفصل في ابراز امير وفشل أمير .
ـــــــــــــــــــ
(1) المصدر ج6ص113 (2) المصدر ج4ص175
(3) الكامل ج6ص206


صفحة (348)

يكفيك ما كان يقوم به يعقوب بن الليث الصفاء في بلاد فارس والأهواز إلى أن مات عام 265 فآلت إليه قيادة الحروب إلى أخيه عمرو(1) وما يقوم به الجخستاني وخلفه رافع بن هرثمة في هراة حتى قتل عام 279 (2)، وما عمله الخلنجي بمصر(3) عام 292 وما بعده ، والحسين بن حمدان عام 303(4) .والحروب الطاحنة التي عملها مرداويج في فارس، حتى ملك طول البلاد وعرضها وهتك المحارم وطغى وعمل له سريراً من ذهب يجلس عليه، وسريراً من فضة يجلس عليه أكابر قواده ، وخافه الناس خوفاً شديداً(5) .حتى قتله خدمه في الحمام عام 323(6).
إذن فالخطوط العامة الرئيسية هي بذاتها موجودة ، والناس هم الناس، وإنما المهم أن نتعرض لبعض التفاصيل التاريخية التي يختص بها هذا العصر . وهي عدة أمور:
الأمر الأول: انتقال الخلافة إلى بغداد ، وإعراضها عن سامراء إعراضاً تاماً .حيث بويع للمعتضد أبي العباس بن الموفق في بغداد عام 279(7). و بقيت سامراء لقمة سائغة للإضمحلال والفناء .
ـــــــــــــــــــ
(1) المصدر ص31 (2) المصدر ص74
(3) المصدر ص111 (4) المصدر ص150
(5) الكامل ج6 ص198 (6) المصدر ص 244 وما بعدها
(7) المصدر ص73 وما بعده.


صفحة (349)

وقد حاول المكتفي عام 290 الرجوع إليها، فصرفه وزيره عن ذلك لجسامة الأموال التي يجب أن تصرف فيها قبل انتقاله، فبقيت سامراء على الخواء والتخلف .
الأمر الثاني: شهد هذا العصر ، نهاية صاحب الزنج ، علي بن محمد بعد أن عاث في البلاد الفساد وقتل وأحرق واستعبد الشيء الكثير حيث قتل عام 270 (1) .وقد خلف قتله الشعور بالسرور والبهجة في المجتمع . وقيلت في ذلك الأشعار (2).
وكان أعظم من بلي في قتاله حسناً طلحة بن المتوكل الموفق وابنه المعتضد بالله ولؤلؤ غلام أحمد بن طولون الذي انشق عن مولاه.
وقد سبق أن ذكرنا ان الحروب التي قام بها المعتضد في هذا المضمار أهلته للخبرة والقوة والإلتفات إلى السياسات العامة ، والإدارة التي طبقها في أثناء خلافته.
ومن طريف ما ينقل عن المعتضد أنه بالرغم من قسوته المظلمة واستهانته بالدماء .وآلام التعذيب خلال خلافته (3)، كان متسامحاً مع العلويين، حتى أنه ورد من محمد بن زيد من بلاد طبرستان مال ليفرق في آل أبي طالب سراً ، فغمز بذلك إلى المعتضد ، فأحضر الرجل الذي كان يحمل المال إليهم .فانكر عليه إخفاء ذلك ، وأمره بإظهاره وقرب آل أبي طالب إليه (4).
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص51 وما بعدها (2) المصدر ص53 وما بعدها
(3) انظر المروج ج4 ص144 وص159 (4) انظر المروج ج4 ص181


صفحة (350)

وإنما كان ذلك بسبب رؤيته في المنام أمير المؤمنين عليه السلام ، حيث بشره بمصير الخلافة إليه ، وأوصاه بولده خيراً ، فقال له المعتضد: السمع والطاعة يا أمير المؤمنين(1) .
وهو الذي عزم على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر ، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس (2) يذكر فيه الشيء الكثير من مثالب بني امية ،والأحاديث النبوية، والآيات القرآنية في الطعن فيهم ووجوب البراءة منهم وبقي مصراً على كلامه ،حتى قال له القاضي يوسف بن يعقوب : فما نصنع بالطالبين الذين يخرجون من كل ناحية ويميل إليهم خلق كثير من الناس لقرابتهم من رسول الله (ص) ،فإذا سمع الناس ما في الكتاب من إطرائهم كانوا إليهم أميل وكانوا هم أبسط السنة وأظهر حجة منهم اليوم ،فأمسك المعتضد ولم يأمر في الكتاب بعد ذلك بشيء(3).
ومن طريف ما ينقل عن المعتضد(4) أنه في عام 284 ظهر له شخص في صور مختلفة في داره .فكان تارة يظهر في صورة راهب ذي لحية بيضاء وعليها لباس الرهبان، وتارة يظهر شاباً حسن لوجه ذا لحية سوداء بغير تلك البزة ، وتارة يظهر شيخاً أبيض ببزة التجار.
ـــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر والصفحة . (2) انظره في هامش الكامل ج6 ص85 نقلاً عن الطبري .
(3) الكامل ج6 ص87 (4) انظر لمروج ج4 ص171.


صفحة (351)

وتارة يظهر بيده سيف مسلول وضرب بعض الخدم فقتله !! فكانت الأبواب تؤخذ وتغلق ، فيظهر له أين كان في بيت أو صحن أو غيره . وكان يظهر له في اعلى الدار التي بناها . فأكثر الناس في القول في ذلك واستفاض الأمر واشتهر في خواص الناس وعوامهم ، وسارت به الركبان ، وانتشرت به الأخبار ،واقول في ذلك على حسب ما كان يقع في ذهن واحد منهم .
والمظنون ان هذه الظاهرة، ليست من الجن، ولا الشياطين، ولا من اختلال في العقل ،وإنما هو نتيجة للإحساس بوخز الضمير نتيجة للظلم والقسوة التي كان يستعملها تجاه الناس. بنحو كان يشعر انها من مقومات شخصيته وملكه ولا يمكنه التخلي عنه ،إذن فهو مضطر إلى عصيان صوت الضمير وتحمل وخزه في كل وقت .وإذا تفاقم الشعور بالاثم فقد يصل الى مثل هذا الخيال إذ قد يتجسد له بعض الذين قتلهم بين يديه تحت التعذيب ، حتى ليحسبهم حقيقة واقعة .
ومن المعلوم أن هذا الوهم يتبع شخص المعتضد حيث وجد ولا تحول دونه الأبواب والأقفال والحراسة مشددة ، ومن أجل ذلك كانت تختلف أزياء هذا الشبح وأحواله ، بحسب اختلاف اتجاه التفكير المعتضد في خلوته .
وأما أن هذا الشبح قد أحد الخدم بسيفه ، فهذا مما لا يمكن تصديقه ، وإنما هو من النسيج الذي أضيف إليه من قبل الناس ، حينما تداولوا هذه الحادثة وسارت بها الركبان .


صفحة (352)

الامر الثالث: مما اختص به هذا العصر:
أنه شهد نهاية الدولة الطولونية في مصر ، فإنها كانت قد بدأت عام 254 في عهد المعتز بأحمد بن طولون التركي، حيث ولاه عليها بإيكبال التركي ، من قبل الخلافة العباسية ، على ما سبق ، وبقي مالكاً لمصر وسوريا ، متحدياً للعاصمة أحياناً(1) حتى مات مبطوناً عام 270(2).
فخلف ابنه خمارويه(3) الذي أصهر إليه المعتضد عام 279(4) ،وبقي مستمراً على ملك أبيه إلى أن قتله مخموراً بعض خدمه ، ومنهم من شرح لحمه من أفخاذه وعجيزته ، وأكله السودان من مماليكه.
وبقيت الدولة الطولونية حتى عام 292 حيث استولى الخليفة المكتفي على دولتهم وأموالهم ، وولي على مصر عيسى النوشري (5)، وانقرضت بذلك دولتهم وزال ملكهم بعد أن لعبت دوراً في التاريخ حوالي الأربعين عاماً .
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص13 (2) الكامل ج6 ص55
(3) الكامل ج6ص55 (4) المروج ج4 ص145
(5) مروج الذهب ج4ص158 (6) الكامل ج6 ص11


صفحة (353)

الأمر الرابع: ظهور شخص في شمال إفريقيا يدعي أنه هو المهدي ،وانه من ذرية اسماعيل بن جعفر بن محمد الصادق (ع) ، وهو جد الفاطميين في مصر ،وقد استولى على دولة واسعة الأرجاء عام 296(1)،
بعد ان مهد له ابو عبد الله الحسين بن احمد بن محمدبن زكريا الشيعي ،ومن أهل صنعاء وقضى على دولته آل الأغلب في تلك المنطقة ،وطرد آخر امرائها زيادة الله بن محمد(2) وملك قسماً كبيراً من الشمال الإفريقي بما يقابل ليبيا وتونس والجزائر من الدول الحاضرة.
وبعد أن استتبت له الأمور وخافته القبائل ،اخرج رجلاً يدعى بعبيد الله بن الحسن من سجنه في سجلماسة، وأعلنه مهدياً وتبرع له بكل ملكه ، فاستقامت له البلاد ودانت له العباد ، وباشر الأمور بنفسه وكف يد أبي عبد الله الشيعي مما كان عليه ،ويد أخيه أبي العباس فسعى أبو العباس إلى التشكيك في مهدويته، قائلاً: إن هذا ليس الذي كنا نعتقد طاعته وندعو إليه ،لأن المهدي يختم بالحجة ويأتي بالايات الباهرة ، فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس ،منهم انسان من كتامة يقال له شيخ المشايخ ، فواجه المهدي بذلك وقال :إن كنت المهدي فاظهر لنا آية فقد شكننا فيك . فلم يكن من هذا المهدي!! إلا أن قتله(3). وعلى أي حال فقد باشر الفتح الإسلامي مستقلاً عن سلطات بغداد ،وحاول احتلال مصر مرتين ، فلم يفلح ، نتيجة لما كانت تبذله الخلافة العباسية في دفعه ، كانت أولاهما عام 301(4) ،
ـــــــــــــــــــ
(1) المصدر ص133 (2) المصدر ص130
(3) الكامل ج6ص134 (4) المصدر ص47.


صفحة (354)

وثانيتهما عام 307(1) واحتل قسماً من المغرب عام 315(2) ، وبنى مدينة محصنة سماها المهدية ، وجعلها عاصمة لملكه ،وجعل لها سوراً لملكه ، وجعل لها سوراً محكماً وأبواباً عظيمة ، وزن كل مصراع مئة قنطار. وكان ابتداء بنائها يوم السبت الخامس من ذي القعدة سنة 303 (3).
وبقي على ذلك إلى أن توفي عام 322 (4) وخلفه ولده محمد الملقب بالقائم إلى أن توفي عام 333(5) بعد أن قاتل أبا يزيد الخارجي قتالاً مريراً (6).
ومن الطريف أن تقع دولة هذا المهدي المدعي في غضون الغيبة الصغرى للمهدي المنتظر عليه السلام ، وقد سبق أن أشرنا في بعض أبحاثنا إلى أن هذه الدعوة للمهدوية ،وامثالها مما كانت على مدى التاريخ ، إنما هي استغلال منحرف إيمان الأمة بالمهجي الذي بشر به النبي (ص) ، ولسنا الآن ونحن في مقام العرض التاريخي، بصدد مناقشة هذه الدعوى وإنما نحيلها إلى أبحاثنا الأخرى.
وإنما نقتصر في المقام على القول: أننا لا نعني بالمهدي إلا ذلك القائد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ويحكم البشيرة جمعاء بالعدل الإسلامي فكل مدع للمهدوية إذا انقضت حياته ولم يتوفق لهذا الهدف ، فليس هو المهدي المقصود.
ـــــــــــــــــــ
(1) المصدر ص161 (2) المصدر ص190
(3) المصدر ص151 (4) المصدر ص238
(5) المصدر ص333 (6) المصدر ص305 وما بعدها.


صفحة (355)

الأمر الخامس: ظهور القرامطة ، بما كبدوا الشعب المسلم من انحراف ودماء وما كبدوا الدولة العباسية من اموال ونفوس.
ويحسن الآن التكلم مجملاً في عقائدهم أولاً وفي امالهم ثانياً ، لنكون على خبرة كافية عنهم ، تنفعنا في مستقبل البحث.
أما عقائدهم : فالذي يظهر من كتب الفرق كالنوبختي وسعد بن عبد الله الأشعري ، انهم فرقة من الإسماعيلية يؤمنون بسبعة أئمة هم:
علي بن ابي طالب، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين ،ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ،ومحمد بن اسماعيل بن جعفر ،هو الإمام القائم المهدي وهو رسول ،هو حي لم يمت وأنه في بلاد الروم ومعنى القائم عندهم أنه يبعث بالرسالة وبشريعة جديدة ينسخ بها شريعة محمد (ص) .وإن محمد بن اسماعيل من أولي العزم من الأنبياء ،وهو عندهم نوح وابراهيم وعيسى ومحمد ومحمد بن اسماعيل.
وزعموا أن محمد بن اسماعيل هو خاتم النبيين الذي حكاه الله عز وجل في كتابه ،وان الدنيا اثنا عشر جزيرة ، في كل جزيرة حجة وان الحجج اثنا عشر ولكل حجة داعية ولكل داعية يد يعنون بذلك ان اليد رجل له دلائل وبراهين يقيمها ويسمى الحجة الاب والداعية الام واليد الابن يضاهون قول النصارى في ثالث ثلاثة.
وهم من الباطنية القائلين بأن جميع الاشياء التي فرضها الله تعالى على عباده وسنها نبيه (ص) وامر بها فلها ظاهر وباطن وان جميع ما استعبد الله به العباد في الظاهر فأمثال مضروبة وتحتها معان هي بطونها ،وعليها العمل وفيها النجاة .وأن ما ظهر منها ففي استعماله الهلاك والشقاء.


صفحة (356)

قالت المصادر: وهذا أيضاً مذهب عامة أصحاب أبي الخطاب واستحلوا أعراض الناس بالسيف وقتلهم ..واعتلوا في ذلك بقول الله عزوجل :اقتلوا المشركين حيث وجتموهم ،ورأوا سبي النساء وقتل الأطفال ،واعتلول بذلك بقول الله تبارك وتعالى: "لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً" .وزعموا أنه يجب عليهم أن يبدأوا بقتل من قال بالامامة من ليس على قولهم ،وخاصة من قال بإمامة موسى بن جعفر وولده من بعده، وتأولوا في ذلك قول الله تعالى :"قاتلوا الذين يلونكم من الكفار"(1).
وذكر بروكلمان: لأنهم يؤمنون بالشركة بالاموال ،وبالتأميل الباطني للشريعة ،ويعدون المريد إعداداً ليأخذ أخيراً بالطاعة العمياء للجماعة ولرؤسائه، وحرر من جميع القيود العقائدية، ومن جميع أغلال القانون في وقت واحد (2).
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر النوبختي ص74 وما بعدها والأشعري ص26 وما بعدها بلفظ واحد في المصدرين تقريباً.
(2) تاريخ الشعوب الإسلامية ج2 ص73 وما بعدها.


صفحة (357)

وذكر لهم ابن الأثير صلاة خاصة تختلف عن صلاة سائر المسلمين ، وآذاناً يختلف عن آذانهم ، يذكرون فيه الأنبياء من أولي العزم واحداً واحداً وذكر ان قبلتهم بيت المقدس وعطلتهم يوم الإثنين(1).
ولكنه ينقل في موضع آخر(2) عن رجل منهم أعرب عن عقيدته أمام السلطات ، فذكر أنه لا بد لله من حجة في أرضه ، وان إمامهم هو المهدي المقيم ببلاد المغرب ، وهو عبيد الله بن الحسن الذي أشرنا إليه فيما سبق .وقد كان معاصراً لهم في ذلك الحين ، إلا أن حركة القرامطة أسبق من حركة هذا المهدي المدعي .فإن حركته كانت عام 296 كما عرفنا. في حين أن ظهور القرامطة في ابتداء امرهم بسواد الكوفة ، كان قبل ذلك بثمانية عشر سنة ، عام 278(3).
ويدل على اعتقادهم أيضاً بإمامة عبيد الله بن الحسن ، ما سنسمعه من تعنيفه للقرامطة على قلعهم للحجر الأسود من الكعبة ، بحيث أوجب إرجاعهم له على أثر ذلك .وقد ينافي في اعتقادهم هذا ما عرفناه من إيمانهم بكون محمد بن اسماعيل بن جعفر بن محمد ، هو المهدي. مع العلم أنه لا يحتمل وجود مهديين في العالم ، ويبعد جداً إعتقادهم بذلك.. والله العالم بحقائق الأمور .
وأما اعمالهم: فلم يكد المجتمع المسلم يشعر بالراحة ، بعد القضاء على صاحب الزنج ، عام 270 كما عرفنا، حتى ابتلي من جديد بحركة القرامطة بعد ثمانية سنوات من هذا التاريخ.
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6ص70 (2) المصدر ص188
(3) انظر الكامل ج6 ص67


صفحة (358)

وكانوا يتصفون بالصرامة والشدة والإستهانة بالدماء ، إلى حد لم يكن ليقف أمامهم جيش مقاتل ، أو تصمد أمامهم مدينة محاربة .
وكان مجرد احتمال مهاجمة القرامطة لبعض المناطق يوجب بث الرعب في الناس، وانهيار معنوياتهم إلى حد كبير.
وقد كبدوا العراق وسوريا والبحرين ، تضحيات جليلة .إلى ان قتل قائدهم (صاحب الشامة) بعد القبض عليه وتعذيبه عام 291 (1) وشيخهم زكرويه بن مهرويه عام 294 (2) .وكبيرهم في البحرين أبو سعيد الجنابي عام 301 (3). ومعنى ذلك أن صاحب الشامة وزكرويه قتلا قبل حركة المهدي المغربي عام 296.
ولكن ذلك لم يفل من عزمهم ، إذ شهد عام 311 مأساة البصرة التي احدثوها بقيادة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الهجري القرمطي فقد وضع السيف في اهل البصرة وقتل خلقاً كثيراً وطرح الناس أنفسهم في الماء فغرق أكثرهم .وأقام أبو طاهر سبعة عشر يوماً يحمل ما يقدر عليه من المال والأمتعة والنساء والصبيان(4) ثم هاجم الكوفة هجوماً مميتاً عام 315(5).
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6ص108 (2) المصدر ص116
(3) المصدر ص147 (4) الكامل ج6ص157
(5) المصدر ص186


صفحة (359)

وأما هجومهم على قوافل الحجاج وإبادتهم لهم ، أعواماً متعددة فحدث عنه ولا حرج .بدأت عام 294 بقيادة زكرويه، حيث غدروا بقافلة خراسانية للحجاج وقتلوهم عن آخرهم .وبقي يقاتل القوافل حتى جمع القتلى كالتل، وأرسل خلف المنهزمين من يبذل لهم الأمان فلما رجعوا قتلهم وغنموا مليوني دينار .وكان في جملة ما أخذوا فيها أموال الطولونية وأنشابهم(1) .وتكرر عام 312 حين نهب أبو طاهر القرمطي قوافل الحجاج ،وأخذ جمال الحجاج جميعها وما أراد من الأمتعة والأموال والنساء والصبيان ،وعاد إلي هجر. وترك الحجاج في مواضعهم، فمات أكثرهم جوعاً وعطشاً من حر الشمس(2). فتسببوا في هذا العام إلى أن لا يحج من الناس أحد (3). وفي العام الذي يليه 313 ، جبى القرامطة ضريبة من الحجاج وكفوا عنهم فساروا إلى مكة (4).
وتكللت هذه الجرائم عام 317 ، بالهجوم المباشر على مكة المكرمة وقتل الحجاج ونهبهم ، وسفك الدماء في المسجد الحرام وطرح القتلى في بئر زمزم ،وأخذ أبو طاهر كسوة البيت فقسمها بين أصحابه ونهب دور أهل مكة ،وقلع الحجر الأسود وأتفذه إلى هجر(5) حيث بقي ثلاثين سنة(6).
ـــــــــــــــــــ
(1) المصدر ص116 (2) الكامل ج6 ص177
(3) المصدر ص180 (4) المصدر ص182
(5) المصدر ص204 (6) تاريخ لاشعوب الإسلامية ج2ص75


صفحة (360)

قالوا: فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيد الله العلوي بإفريقية كتب إليه ينكر ذلك ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة. .ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلت وإن لن ترد على اهل مكة وعلى الحجاج وغيرهم ما أخذت منهم وترد الحجر الأسود إلى مكانه وترد كسوة الكعبة ،فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة.
فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود ، واستعاد ما امكنه من الأموال من أهل مكة فرده . وقال: إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم.
وفي هذا دلالة واضحة على تبعية القرامطة للمهدي الإفريقي وكونهم القائمين بنشر دعوته وقتل مخالفيه في الشرق .ومن ثم صح له أن ينصب من نفسه قيماً على امالهم ومشرفاً على تصرفاتهم ، وكأنه لم يجد من أعمالهم شيئاً منكراً إلا قلع الحجر الأسود . ولله في خلقه شؤون.
وعلى أي حال. فمن المستطاع القول ، أن اكثر هذه الفترة التي نؤرخ لها ، كانت مسرحاً لعبث القرامطة بين مد وجزر.
الأمر السادس: من خصائص هذا العصر، أنه شهد ميلاد الدولة البويهية، عام 321 (1)، حيث اتسعت قيادة وسيطرة عماد الدولة على بن بويه في فارس ، وتوسع ملك الدولة البويهية نتيجة لذلك في ظروف لسنا ألان بصدد تفصيلها.
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج6 ص204 وما بعدها.
(2) المصدر ص230


صفحة (361)

الأمر السابع : قلة عدد الثوار العلويين في هذه الفترة ، التاريخية فإننا قد لاحظنا في الفترة السابقة كثرة عدد الثوار منهم ، حيث قارب عدد القائمين بالسيف ، ممن وصلنا ذكره منهم: العشرون ثائراً في أقل من نصف قرن، بينما نرى أن السبعين سنة التالية، وهي الفترة التي نؤرخ لها الآن، تكاد نكون خالية من ذلك إلا في حدود الأفراد القلائل.
وأبو الفرج الأصبهاني ، وإن ذكر في المقاتل لهذه الفترة عدداً من المقتولين ، إلا أن من باشر الحرب منهم لا يزيد على اثنين أو ثلاتة .
واالباقون كلهم بين ميت في السجن وبين مقتول بسيف القرامطة أو بسيف الدولة العباسية بدون حرب(1).
ويعود السبب في ذلك إلى أمرين:
الأمر الأول: استغراق أكثر هذه الفترة بحروب القرامطة وتحركاتهم ضد الدولة. ومن الواضح أن كل ثورة تحدث في معارضة الدولة في ذلك العصر، فإنها تنسب من قبل دعايات الدولة إلى تأييد القرامطة وممالاتهم والإشتراك معهم ضد الجهاز الحاكم. وهذا ما لا يريده الثوار لأنفسهم .. كيف لا ، وهم يعلمون أن القرامطة مختلفون معهم في العقيدة .. ويستحلون دماءهم ، بل يبدءون بقتلهم قبل غيرهم ، لما عرفنا من تأولهم لقوله تعالى : "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار".
ـــــــــــــــــــ
(1) المقاتل ج3 ص495 وما بعدها.


صفحة (362)

وقد قتلوا بعضاً منهم في طريق مكة(1) . فإتهامهم بتبعية القرامطة ، كما حدث لإثنين منهم (2) أمر غير صحيح.
الأمر الثاني: وهو - بكل تأكيد - أهم من السبب الأول. وهو انتهاء زمن ظهور الأئمة المعصومين عليهم السلام وانقطاع اتصالهم بالناس ،بأول يوم من وفاة الإمام العسكري عليه السام وابتداء الغيبة الصغرى التي نعرض لتاريخها الآن.
وقد عرفنا في تاريخ الفترة السابقة ، مدى تأثير وجود الأئمة عليهم السلام وتوجيههم المباشر وغير المباشر للثورات الداعيى إلى الرضا من آل محمد (ص) ...بنحو استطاع الأئمة أن يخفوه عن السلطات تماماً ،ومن المعلوم ما للأئمة عليهم لاسلام من مكانة في المجتمع الإسلامي وتأثير معنوي في النفوس .وتأريخ جليل حافل بجلائل الأعمال ، مما يوفر لكلامهم وتوجيههم وخاصة في نفوس الثائرين الغاضبين على الظلم والعصيان ، طريقاً مهيعاً للإندفاع والتأثير.
واما في هذه الفترة ، وبعد أن غاب آخر الأئمة المهدي عليه السلام وانقطع عن الإتصال بالناس والإحتكاك بقواعده الشعبية ..فقد تضاءل ذلك الدافع الثوري والتوجيه القوي إلى التمرد والقيام بالسيف.
ــــــــــــــــ
(1) المصدر ص500 (2) المصدر ص499


صفحة (363)

وأما الوكلاء الأربعة الذين أمسكوا بأزمة الأمور في هذه الفترة وكانوا همزة الوصل بين الامام وقواعده الشعبية ،فهم وان كانوا في غاية الورع والصلاح ،الا انهم على أي حال لا يتمتعون بمثل مكانة الائمة عليهم السلام في قلوب المجتمع الاسلامي .على انه لم يكن من المصلحة على الاطلاق ان يصدر منهم الامر بالتمرد وتوجيه الثورات ولو بشكل سري وغير مباشر .وذلك لاجل المحافظة على المصالح التي كانوا يقومون بها بين قواعدهم الشعبية ،وهم يعلمون - في حدود الظروف المعاشة يومئذ ـ ان هذه الثورات لن تكون احسن حالاً من سوابقها التي باءت بالفشل واخمدت في مهدها .اذن فالتعرض للثورة او التحريض عليه، لن ينتج الا التغرير بحياة الوكلاء ، والتضحية بخيط الاتصال بالامام الغائب (ع)، والتغرير بمصالح القواعد الشعبية الموسعة التي اوكلت إليهم قيادتها ، وهي مهام جسام لا تعادل التحريض على ثورة معلومة الفشل والخسران.
مضافاً إلى اسقلال الوكلاء عن المهدي(ع) بالتحريض أمر غير صحيح بطبيعة الحال ومناف لوظيفتهم الإجتماعية الإسلامية ، وأما تحريضهم على الثورة بامر من المهدي عليه السلام ، فهم مما لا يحدث، فإن المهدي (ع) لن يقوم إلا بثورته الكبرى حين يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
ولن تكون التمردات الصغرى مهمة في نظره ولا دخيلة في وظيفته الإسلامية .


صفحة (364)

وعلى أي حال ، فالذي أشعر به ملياً ، أن نوع الثورات الداعية إلى الرضا من آل محمد ، قد انقطع بانقطاع عهد الظهور ، عهد اتصال الأئمة عليهم السلام بالناس، وكل الثورات اللاحقة لذلك في التاريخ الإسلامي إلى عصرنا الحاضر، إنما هو انعكاس صحيح أو منحرف أو تأثر بقليل أو بكثير بتلك الثورات الجليلة المخلصة. التي بدأت بثورة الحسين عليه السلام ، وانتهت بانتهاء عصر الظهور.


صفحة (365)


الفصل الثاني
الاتجاهات العامة في هذه الفترة
ويتدرج في ذلك الإتجاه العام للإمام المهدي عليه السام نفسه ، خلال هذه الفترة التي تمثل غيبته الصغرى ،كما يندرج فيه الإتجاهات العامة لمواليه المعتقدين بإمامته ولسرائه الذين يمارسون قيادة المجتمع بالوكالة عنه وللدولة بما فيها من حكام وسلطات.
ونتكلم في ذلك ضمن عدة أقسام:
القسم الأول: الإتجاه العام للإمام المهدي (ع) .
كان الإتجاه العام لسياسة المهدي عليه السلام . في اتصاله بقواعده الشعبية ، وقيادته لهم ، على ما يدلنا عليه تاريخنا الخاص ... مندرجاً في عدة نقاط.
النقطة الأولى: إقامة الحجة على وجوده بشكل حسي واضح ، لكي يكون مستمسكاً واضحاً أكيداً لدحض ما قد يثار من الشبهات والأسئلة حول ولادته ووجوده.


صفحة (367)

وكانت هذه النقطة مما سار عليه والده الامام العسكري عليه السلام ،كما عرفنا في تاريخ الفترة السابقة ،حيث رأيناه يعرض ولده المهدي على الخاصة من اصحابه ،وينص على امامته بعده ، وانه هو الذي يملأ الارض قسطاً وعدلاً.
واستمر المهدي عليه السلام سائراً على ما سار عليه ابوه في ذلك لاستمرار الاسئلة والاشكال عن قصد او غير قصد ، خاصة مع اختفاء الامام وغموض مكانه . ووجود الانحرافات بين اصحابه ، كالذي عرفناه من عمه جعفر ، وسمعناه ونسمعه عن الشلغماني وغيره.
وكان للمهدي لاثبات وجوده بالطريق الحسي الواضح عدة طرق :
الطريق الاول:
تمكين عدد من الخاصة من مشاهدته عياناً وايصاؤهم بتبليغ ما شاهدوه الى الناس ، وخاصة القواعد الشعبية الموالية للامام عليه السلام ، مع إيصاؤهم بكتمان المكان وغيره من الخصوصيات التي قد تدل عليه وتيسر للسلطات طريق الوصول إليه.
الطريق الثاني: إقامة المعجزة بطريق غير مباشر لبعض الأشخاص ممن لا يواجهه مباشرة .بإرسال رسالة شفوية اليه عن طريق خادم او غيره تتضمن اسم الشخص (ان كان مما ينبغي عادة ان يكون مجهولاً) ووصفه للمال الذي يحمله والبلد الذي جاء منه ونحو ذلك ، مما لا يمكن ان يصدر الا عن حجة الله تعالى على خلقه.


صفحة (368)

الطريق الثالث: الاجوبة على المسائل وحل المشكلات وقضاء الحاجات عن طريق وكلائه بطريق منطقي حكيم منسجم مع اسلوب آبائه عليهم السلام في مثل هذه المواقف ، بنحو يعلم بعدم تمكن السفير من ان ياتي بمثله او ان يخطر على باله . وخاصة إذا اقترف ذلك بامر يجهله السفير اساساً ، مما قد أثبته المهدي عليه السلام في توقيعه.
الطريق الرابع : التزام نحو معين من الخط، الذي كان يعرفه الخاصة من مواليه ،وموالي أبيه عليهما السلام ، فإن اختلاف الخطوط باختلاف الأشخاص من أوضح الواضحات .وهو يستخدم على التعرف على صاحبه في مختلف المجالات ، القانونية والفقهية وغيرها.
فكان لخط الإمام المهدي عليه السلام ، مميزاته الخاصة التي يعرفها الخاصة ، والتي لا يمكن تقليدها . كخط أي شخص آخر ، حتى للسفير نفسه ، على انها محفوظة بذاتها و متشاكلة على ايدي السفراء الأربعة ، على اختلاف خطوطهم الشخصية و طبائعهم النفسية (1).
فهذه هي العناوين العامة لهذه الطرق ، وسيأتي التعرض للتفاصيل التاريخية في مستقبل البحث .
النقطة الثانية: الإختفاء عن السلطات اختفاء تاماً ، بحيث يتعذر وصولهم إليه مهما كلفهم الأمر ، ويتم ذلك بعدة طرق:
الطريق الأول: عدم نمكين المشاهدة ، إلا ممن يحرز فيه عمق الإخلاص وعدم إفشاء السر الذي قد يؤدي إلى الخطر.
ــــــــــــــــ
(1) انظر للنموذج البحار ج13 ص95 وغيبة الشيخ الطوسي 216 وص220


صفحة (369)

الطريق الثاني: إيصاء الشخص المشاهد - تأكيداً لذلك - بعدم الافشاء والاحتياط من هذه الناحية على امامه. بحيث يكون الفرد ذو مهمة مزدوجة ، فهو يجب عليه التبليغ من مشاهدة الامام عليه السلام كما يجب عليه الالتزام في اخباره وتبليغه بان لا يزلق الى ما لا يحمد عقباه.
الطريق الثالث: تحريم التصريح بالسم ، ومنعه منعاً باتاً ،الى حد يمكن ان يقال: انه كان مجهولاً عن الكثير من الخاصة الموالية ، فضلاً عن سائر المسلمين ، وخاصة من يمت الى السلطات بصلة.
ومن هنا كان يعبر عنه الخاصة - عند الحاجة ـ بتعبيرات مختلفة تشير اليه اجمالاً، ولا تعنيه شخصياً.. كالقائم والغاريم ،والحجة والناحية وصاحب الزمان ونحو ذلك ،ويتجنبون بالكلية التعرض لاسمه الصريح .فانهم "ان وقفوا على الاسم اذاعوا وان وقفوا على المكان دلوا عليه" (1).
الطريق الرابع: الاختفاء التام عن السلطات ، وعن كل من لا يواليه.. اختفاء تاماً مطلقاً . فلئن كان عليه السلام في غضون الغيبة الصغرى ، قد يجتمع ببعض الموالين ،فانه لا يجتمع بمن سواهم على الاطلاق. الا ما كان لاقامة الحجة، واظهار التحدي للسلطات مع عدم امكان إلقاء القبض عليه. كما حدث لرشيق صاحب المادراي حين ارسلته السلطات للكبس على دار المهدي عايه السلام في سامراء على ما سوف نسمع.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص222


صفحة (370)

الطريق الخامس: تحويل مكانه بين آونة واخرى. بنحو غير ملفت للانظار .
وهذا هو المستنتج من مجموع الروايات على مكانه في الجملة . حيث تدل بعضها على وجوده في مكان .وتدل بعضها على وجوده في مكان ثان او ثالث وهكذا ... وهذا صحيح باختلاف الازمان وتعدد الايام والسنين خلال الغيبة الصغرى ..وسنسمع تفصيل ذلك في فصل آت من هذا التاريخ .
الطريق السادس: السكوت التام .. ومن ثم الغموض المطلق، بل الجهل الكامل بطريقة اتصال الوكيل الخاص بالمهدي عليه السلام .هل هو بطريق المواجهة أو بطريق آخر، وأين تحدث المواجهة وكيف؟ ولو لم تحدث المواجهة فكيف تصل أجوبة المسائل وحلول المشكلات .
كل ذلك كان مجهولاً تماماً لدى كل إنسان مهما كان خاصاً ومقرباً ، ما عدا السفير نفسه ، الذي يضطلع بهذه المهمة.
ومن الممكن القول بان السفير كان منهياً عن التصريح به أساساً لكل أحد ، ومن ثم كان الشخص يقدم السؤال ثم يأتي بعد يومين أو أكثر ليأخذ جواي سؤاله. ولم يرد في الروايات أي إشارة لطريقة استحصال الجواب من الإمام عليه السلام.


صفحة (371)

الطريق السابع: إيكال الوكالة الخاصة، او السفارة، إلى أشخاص يتصفون بدرجة من الإخلاص عظيمة، بحيث يكون من المستحيل عادة أن يشقوا بالإمام المهدي (ع) ، أو أن يخبروا بما يكون خطراً
عليه ولو مزق لحمهم ودق عظمهم . ولا يتوخى بعد ذلك أن يكون السفير هو الأعمق فقهاً أو الأوسع ثقافة، فإن السفارة عن الإمام عليه السلام لا تعني إلا التوسط بينه وبين الآخرين ،ولا دخل للأفضلية الثقاقية فيه، ومن هنا قد تسند الوكالة الخاصة إلى المفضول من هذه الجهة ، توخياً لتلك الدرجة من الإخلاص.
وهذا هو الذي ذكر في بعض الروايات ، حيث اعترضوا على أبي سهل النوبختي، فقيل له : كيف صار هذا الأمر "أي السفارة " إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك ؟ فقال : هم اعلم وما اختاروه .
ولكن انا رجل القى الخصوم واناظرهم ، ولو علمت بمكانه كما علم ابو القاسم وضغطتني الحجة ، لعلي كنت ادل على مكانه وابو القاسم ، فلو كان الحجة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه (1).
النقطة الثالثة : قبض المال وتوزيعه بواسطة سفرائه او غيرهم .
والمال المقبوض يكون عادة من الحقوق الشرعية التي يعطيها اصحابها من الموالين للامام عليه السلام ،في مختلف البلاد الاسلامية فكان اذا اجتمع عند قوم اموال من هذه الحقوق ،ارسلوها بيد احد امنائهم الى الناحية
وقد يكون المال المقبوض هبة شخصية للامام عليه السلام ،من قبل احد مواليه ،عيناً او ثوباً او غير ذلك . وقد يكون المال موصى به من قبل احد الأشخاص للإيصال إلى الإمام (ع) بعد موته ، أو غير ذلك من الوجوه.
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص240 والبحار ج13 ص98


صفحة (372)

وهذه الأموال منها ما يصل إلى الإمام مباشرة ، ومنها ما يبقى في يد الوكيل، يوزعه بحسب نظر الإمام وقواعد الإسلام.
كما أن حامل الأموال إلى الإمام ، قد يوفق إلى دفعها إلى السفير مباشرة . وقد لا يستطيع حتى ذلك ، بل يؤمر بوضع المال في مكان معين، يذهب بعده في حال سيبله، وذلك بحسب اختلاف الظروف والأحوال التي يعيشها السفراء بشكل خاص والقواعد الشعبية الموالية بشكل عام ، على ما سوف نشير إليه في مستقبل البحث.
النقطة الرابعة: أجوبته عليه السلام على الأسئلة التي كان إيصالها إلى الإمام (ع) من أهم مهام السفراء. والتي كانت تجتمع عند السفيرة بكثرة من مختلف طبقات الموالين .
والجواب قد يكون توقيعاً أي جملة مختصرة مكونة من بعض كلمات، وقد يكون مطولاً مسهباً ، بحسب ما يراه المهدي من مصلحة السائل والمجتمع.
تنرج في ذلك الأسئلة الفقهية والعقائدية التي كانت توجه إليه والطلبات الشخصية كاستئذان بالحج وسؤاله عن ميلاد الوالد او التوفيق بين زوجين متشاكين . كما يندرج في ذلك مناقشاته للشبهات التي كانت قد تنجم بين الموالين ، وللدعاوي الكاذبة بالسفارة عنه عليه السلام ولعن المدعي وكشف اتجاهاته المنحرفة.


صفحة (373)

كما يندرج في ذلك . ما خرج عنه عليه السلام ، من الترحم على السفير الاول وتعزية ولده السفير الثاني . وما خرج في بيان انقطاع السفارة بعد السمري السفير الرابع ..، غير ذلك من التوقيعات .. كما سيأتي التعرض لكل ذلك تفصيلاً إن شاء الله تعالى.
النقطة الخامسة : قضاؤه عليه السلام لحوائج الناس من قواعده الشعبية ، من الناحية الشخصية.
يندرج في ذلك المال الذي يأخذه بعضهم من المهدي (ع) مباشرة إذا وفقوا للقائه .والمال الذي يأخذه الآخرون من السفراء او غيرهم ممن يمت للامام بصلة ، وهي بمجموعها ، اموال لا مهمة لا يستهان بها.
كما يندرج في ذلك نصحه عليه السلام لمستنصحيه بالقيام بعمل معين كالحج او غيره ، او الامتناع عنه، بحسب ما يرى من المصلحة التي يتضح بعد ذلك للمسائل مطابقتها لمقتضى الحال .كما يندرج في ذلك الاكفان والحنوط والاثواب التي كان يعطيها لبعض الخاصة مع الطلب او بدونه. وذلك قبل موت ذلك الشخص بقليل وسيأتي التعرض لتفاصيل ذلك فيما يلي من البحث.
النقطة السادسة: عدم التعرض في كلام المهدي عليه السلام ، إلى شيء من الحوادث العامة في المجتمع أو في الدولة أو في الخارج ، وما يقوم به الخلفاء أو الوزراء أو القواد أو الأمراء أو القضاة ، أو غيرهم ممن له شأن أو ممن ليس له شأن.
فإنه بالرغم مما عرفناه من وجود الحوادث المهمة في التاريخ العام ..تلك الحوادث التي أقلقت الدولة وكلفت المجتمع الشيء الكثير .. ومنها ما حرك ضمير المسلمين ، كقلع القرامطة للحجر الأسود ونقله إلى هجر.


صفحة (374)

بالرغم من ذلك ، لا نجد في كلامه وتوقيعاته وتوجيهاته عليه السلام ، أي تعرض لهذه الحوادث على الإطلاق أو أي تعليق عليها .
وذلك لمبررات ثلاثة مجتمعة او متفرقة.
المبرر الاول: ان هذا الاعراض الكامل ، يشكل احتجاجاً صامتاً وشجباً سلبياً ، لمجموع الخط الذي يسير عليه الناس المنحرفون وذوو المصالح الشخصية الصانعين لتلك الحوادث الممثلين لها على مسرح التاريخ ابتداء من الدولة وانتهاء بقواعدها الشعبية ..ذلك الخط المنفصل عن خطه عليه السلام . والمنهج المغاير لمنهجه .. ذلك الخط الذي تشترك الدولة واعداؤها بالسير عليه والانتفاع به ، فانهم مهم اختلفوا في شيء فهم لا يختلفون في معادات الإمام عليه السلام وإنكار وجوده ، مطاردة قواعده الشعبية.
والمهم لديه ، وهو المؤمل لإقامة الحق المطلق في الأرض ، أن يهمل هذا الإنحراف إهمالاً تاماً ، ويتسامى عن مسيرته أو القول فيه أو التعليق عليه جملة وتفصيلاً . حتى كأن شيئاً لم يحدث، وكأن الموجود في الأرض ليس إلا حقه المطلوب وأهدافه المنشودة.
المبرر الثاني: إن ديدن المهدي في بياناته وتوقيعاته كان في الغالب مكرساً على أجوبة الأسئلة التي كانت ترفع إليه من مواليه بواسطة سفرائه ، ولم يخرج منه توقيع ابتدائي بدوت سؤال ، إلا نادراً فيما يخص حال سفرائه كالتعزية بسفيره الأول ، والإعلان عن النقطاع السفارة بموت الرابع .


صفحة (375)

ومن هنا يصبح من المنطقي، أن لا نتوقع من المهدي عليه السلام تعليقاً على أحد الحوادث العامة، إلا إذا سأله عنه بعض الموالين أو طلب منه التعليق عليه ، وهذا مما لم ينقل في رواياتنا حدوثه.
والسبب في إهمال السؤال عن هذه الأمور، هو: ان القواعد الشعبية الموالية للإمام عليه السلام تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: وهم الأكثر والأغلب .. اناس يقل وعيهم ويتضاءل فهمهم الإجتماعي إلى حد كبير .فهم وإن اطلعوا على أحكامهم الدينية من الناحية الشخصية ، على مذهب اهل البيت عليهم السلام .إلا أنهم لم يكونوا مدركين بوضوح ، الإتجاه الإجتماعي والسياسي لأئمتهم عليهم السلام خاصة ولأحكام الإسلام عامة.
وخاصة ، وإن التاريخ القريب الذي عاشوه كان يذكي أوار الجهل ويؤكد هذا التخلف فيهم ، وذلك لما عرفناه من السياسة العباسية في عزل الأئمة عليهم السلام عن قواعدهم الشعبية ،وحجزهم في العاصمة وتقريبهم الى البلاط ... لأجل الاغراض التي عرفناها وفصلناها. ومما سبب نمو جيل من الشعب الموالي منفصل عن قادته وموجهيه ، محروم من علومهم و وعيهم وثقافتهم.
وقد أصبح هذا الجيل . خلال الغيبة الصغرى هو الجيل السائد الذي يمثل الاغلبية الكاثرة ،الجاهلة .. ومن ثم لا ينبغي ان نتوقع من مثل هذا الجيل ان يسأل عن رأي الامام عليه السلام أو فتوى الإسلام في أي شيء من الحوادث الإجتماعية أو الدولية.


صفحة (376)

القسم الثاني: وهم الأقل ... واعون مثقفون بتعاليم الأئمة السابقين عليهم السلام ،وهم العارفون لإتجاهاتهم وطرق تفكيرهم وتدبيرهم .. فمثل هؤلاء ..إما أن يكونوا عالمين برأي الإمام عليه السلام سلفاً بدون حاجة إلى سؤال ،وذلك لوضوح اتحاد اتجاهه عليه السلام مع اتجاه آبائه.وهم يعرفون القواعد الإسلامية العامة التي يقيسون بها الأحداث الإجتماعية والدولية ، فالفرد منهم يسأل نفسه عن تفسير الأحداث ويجيبها ، ويتخذ تجاهها مسلكاً موزوناً بميزان وعيه وفهمه الإسلامي الذي تلقاه عن أئمته عليهم لاسلام ، من دون الحاجة إلى تجشم مؤونة السؤال.
وأما أن لا يكون الفرد من هؤلاء الخاصة عالماً بالرأي الإسلامي في حادثة أو عدة حوادث ..ولكنه مع ذلك لا يمكنه السؤال عنها، لأن هؤلاء الخاصة معروفون للدولة، تراقب أعمالهم .وتحسب عليهم أقوالهم .. وهذا يكون من أكبر الموانع عن السؤال عن مثل تلك الأمور.
المبرر الثالث: خوف الإمام المهدي (ع) على قواعده الشعبية من عسف الدولة وضيق الخناق ، إذا وجد لديهم رأي الإمام في أمر سياسي أو حادث اجتماعي . وذلك بأحد اعتبارين:


صفحة (377)

أحدهما: أن التعليق إذا كان على ما يمس الدولة من قريب أو بعيد ، او على ما تؤيده من أشخاص أو أحداث .. كان ذلك إعلاناً صريحاً للخلاف على الدولة ..الأمر الذي لا يعرض الفرد الذي وجد عنده او سمع منه ذلك، للخطر فقط ..بل يعرض جماعة كبيرة من متعلقيه بل سائر افراد الشعب الموالي للامام عليه السلام ، إلى أنحاء من الخطر وأنواع من التهديد هم في غنى عنه لولا ذلك ، وهو مما لا يريده لهم الإمام المهدي عليه السلام ، كما لم يكن يريده لهم آباؤه عليهم السلام .
ثانيهما: إن تعليق الإمام على الأحداث سواء كان مما يوافق الدولة أو يخالفها ، يدل على وعي من وجد عنده أو سمع منه، بل يدل على وعي جماعة ممن يكونون بمستواه الثقافي والفكري، وهذا معناه - كما تدركه الدولة بوضوح- كون الفرد والجماعة على مستوى الأحداث ،وعلى مستوى تحمل المسؤولية .وإجابة نداء الحق وإطاعة تعاليم الإمام المهدي على أي مستى من المستويات.
وهذا ما تخافه الدولة وتخشاه بكل كيانها وطبقاته، وتقف دونه بكل قواها .فإذا عطفنا على ذلك إحساس الدولة بما يصدر عنها من ظلم وجهلها بقلة الواعين المخلصين ، استطعنا أن نشعر بعظم الخطر وتفاقم الخطب.
ومن ثم كان المهدي(ع) يرى ضرورة التخلص من هذا الإحساس أساساً ، وذلك: بعدم إشعار الدولة بوعي الواعين من مواليه، تجنيباً لهم عن الأخطار، وتمكيناً لهم بالإتصال بالناس بشكل أوسع، من أجل حفظ المصالح الكبرى التي يتوخاها الإمام المهدي في المجتمع .


صفحة (378)

وان من اسهل الطرق لذلك، هو ان لا يوجد بينهم او على السنتهم أي تعليق "رسمي" عل أي حادث اجتماعي او سياسي، زاذا وجد شيء من ذلك فلا بد ان يبقى منحصراً في النطاق الخاص ، محروساً عن الوصول إلى الدولة أو إلى أي عميل من عملائها ،ومن ثم نسمع أنه حين كان جماعة من الخاصة في مجلس السفير محمد بن عثمان العمري يتذاكرون شيئاً من الروايات وما قاله الصادقون عليهم السلام ، حتى أقبل ابو بكر محمد بن أحمد بن عثمان المعروف بالبغدادي ، ابن أخي أبي جعفر العمري (رض) .فلما بصر به أبو جعفر ، قال للجماعة : أمسكوا فإن هذا الجائي ليس من أصحابكم(1).
والذي أودع الإلماع إليه في المقام مختصراً ، هو أن ندرة التعليق الإجتماعي الواعي ،من الأمام المهدي عليه الاسلام ، إنما يدل على وجود مثل هذه المصالح ، ولا يدل على كون الإمام المهدي عليه السلام بعيداً عن الأحداث منصرفاً عن تطورات المجتمع.
ولا نريد في المقام ، ان نستشهد ، بما نعتقده في الإمام من العصمة والتعليم الإلهي، وأنه متى ما شاء أن يعلم فإنه يعلم ، كما لا نريد أن نقول بأن نفس فكرة السفارة وما يترتب على ذلك من المصالح لأكبر دليل على استيعاب المهدي للأحداث ، ووعيه الكامل للمشاكل وحلولها الإسلامية على المستوى القيادي لا على المستوى الإعتيادي.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ص256


صفحة (379)

بل غاية ما نذكره هو الاشارة الى الروايات المتعددة الواردة في تاريخنا الخاص ، الدالة بكل وضوح على ذلك ، كتركه عليه السلام للجواب على سؤال شخص كان قد اصبح قرمطياً(1) وكالذي قاله لعلي بن مهزيار الاهوازي في شأن أهل العراق(2) زكالبيان الذي صدر منه عليه السلام للشيخ المفيد عليه الرحمة ،وقد تضمن جملة من الأفكار والأخبار(3) وقصة شقة لثوب المرجي(4) وغير ذلك من الروايات الدالة على استعراض الإمام المهدي للأحداث ومتابعته للمشاكل الإجتماعية ، وسيأتي تفصيل ذلك بما يزيده وضوحاً ورسوخاً.
فهذه هي النقاط الرئيسية للاتجاه العام الذي كان يلتزمه الامام عليه السلام لبان غيبته الصغرى . استعرضناه بنحو الاختصار ،وسيأتي تفصيل الحوادث المشار إليها ، في الفصول الآتية من الكتاب .
القسم الثاني: الإتجاه العام للشعب الموالي .
ــــــــــــــــ
(1) الإرشاد ص332 (2) الغيبة للشيخ الطوسي ص161
(3) انظر الإحتياج ص322 (4) أنظر منخب الأثر ص386 وغيره.


صفحة (380)


كان الإتجاه العام للشعب الموالي لخط الإمام عليه السلام ، خلال الغيبة الصغرى مركزاً حول عدة نقاط ، تكاد تكون مترابطة:
الظن لهم بأفضل أشكاله .. بما هم أهل لذلك .لما هو معروف عند الشعب الموالي من نصوص أئمته الماضين عليهم السلام في توثيق وتجليل ومدح السفيرين الأولين، على ما سوف نعرضه في ترجمتها .مضافاً إلى التجربة الفعلية، والمعاشرة من قريب أو بعيد ... التي عاشها الناس مع السفراء الأربعة ، قبل سفارتهم وبعده، فعرفوا بالإخلاص والإيمان والصدق والتقوى ، بنحو يجعلهم في السنام الأعلى من خاصة الشعب الموالي .
فكانوا لا يشكون، بأي حال من الأحوال ، بما ينقله أحد السفراء إليهم شفوياً أو كتبياً عن المهدي (ع) . مضافاً إلى ما عرفناه من استدلالهم على صدق الرسالة من خطها ، ومن مضمونها ، ومن أسلوب تبليغها.
النقطة الثانية: الرجوع في مشكلات الأمور العقائدية والفقهية والشخصية إلى الإمام عليه السلام ، عن طريق سفرائه ، لكي يذللها لهم برأيه وحكمته .. على ما سوف يأتي تفصيله في مستقبل البحث .
وبذلك يكون المهدي (ع) وهو في غيبته قد أخذ زمام الإدارة لقواعده الشعبية ومواليه ،وتدبير أمورهم، وإرشادهم ، فيما ينبغي أن يفعلوا أو أن يتركوا.
النقطة الثالثة: الاعتماد على التسالم على امر من الأمور الموجودة بين أفراد الشعب الموالي أو الرأي العام الذي يوجد لديه ، تجاه أي مسألة أو مشكلة.


صفحة (381)

السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله