اذن فمن الممكن ان يكون هذا المذكور في الحديث أحد الاحلام المطابقة للواقع ، وخاصة
بعد ان اتصف بحوادث ومميزات لا تعدو علم الحياة والعين. فلو صلحت هذه الرواية
للأثبات التاريخي لم تكن هذه الجهة موجبة لضعفها أو الطعن فيها .
ثانياً: ان هناك فكرة تقول: بان رؤية النبي (ص) والأئمة المعصومين (ع) في المنام لا
يمكن أن تكون كاذبة . لأن المنام الكاذب من الشيطان والشيطان لا يمكن أن يتصور
بصورة النبي أو الامام ويستشهد لذلك يما نسب إلى النبي (ص) من قوله: من رآنا فقد
رآنا ويقول الامام العسكري عليه السلام لأحد أصحابه في المنام أيضاً : وأعلم ان
كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة (1) .
فإذا تمت هذه القاعدة - والله العلم بحقيقتها- لم يكن بالامكان ان يقال : بان ذلك
الحلم الذي وجد فيه رسول الله (ص) والأئمة عليهم السلام بما فيهم الامام العسكري
(ع)، أو هو مستقلاً حين كان يأتيها كل ليلة ... حلم كاذب.
ثالثاً : اننا غير مضطرين لأن نلتزم من هذا الحديث بحرفية الرؤيا . بل يمكننا ان
نحمله على نحو من الرمزية ونقول: ان أم مهدي عليه السلام ، كانت وهي في بلادها
الأولى كانت ملهمة بشكل غامض بعض خطوط مستقبلها والحنين اليه ، بمقدار بحيث انها
حين واجهت هذا المستقبل احبته واخلصت له .
ـــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج 3 ص 534 .)
صفحة (252)
وهذه مصلحة الهية عظيمة ، باعتبار ما يعلمه الله تعالى من كونها أماً للمهدي عليه
السلام ، وما سوف ترى في سبيل ذلك من الضغط والطاردة والعذاب. اذن فهي تحتاج إلى
الهام خاص - ولو بشكل لا شعوري غامض - يوجب تربيتها وتوجيه عواطفها بالشكل المخلص
المؤمن . فإنها ، لو كانت مجردة عن هذا الالهام وكانت مشتراة من السوق من دون اخلاص
سابق وتربية داخلية، لأمكن لها ان تجزع من التعذيب فتبوح بأمر ولدها، ويؤدي الحال
إلى القاء القبض عليه وقتله. وهو ما لا يريده الله تعالى أن يكون .. كيف؟. وقد ذخره
الله عز وجل بقدرته الكبرى لمستقبل الاسلام وارساء قواعد الحق .
أما انكار وجود الالهام كحقيقة كونية الهية ، تتحقق بارادة الله تعالى عند وجود
المصلحة .. فهذا تكذيب للقرآن إذ ينسب الالهام إلى النحل قائلاً :"واوحى ربك إلى
النحل ان اتخذي من الحبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون . ثم كلي من كل الثمرات ،
فاسلكي سبل ربك ذللا"(1) . وينسب عز وجل هذا الالهام بعض مراتبه إلى الانسان إذ
يقول عز من قائل : "فمن يرد الله ان يهديه يشرح صدره للاسلام ، ومن يرد أن يضله
يجعل صدره ضيقاً حرجاً كانما يصعد في السماء" (2) .
اذن فلتكن الظاهرة التي احسب بها وعاشتها ام المهدي ، شكلاً من اشكال الالهام .
ــــــــــــــــــــ
(1) السورة 16 / 68 - 69 .
(2) السورة 6 / 125 .)
صفحة (253)
الاعتراض الثالث: ان هذا الحديث دال على ان اسلامها وزواجها كان في عالم الرؤيا .
وهو مما لا يمكن ان يعترف بشرعيته وقانونيته.
والجواب عليه: ان هذا الحديث وان كان دالاً على ذلك ، إلا اننا لا تدعي الاكتفاء به
بطبيعة الحال. وانما اصبحت مسلمة في عالم اليقظة والعيان ... أما حال وجودها في
بلادها الاولى بعد ان اعتقدت بصحة الطيف ومطابقته للواقع، فاستيقظت معتقدة للاسلام
. أو أنها اسلمت حين قالت للامام الهادي عليه السلام : يا ابن رسول الله .. فإن هذا
الوصف متضمن للأعتراف بالاسلام بكل وضوح، أو انها اصبحت مسلمة حين علمتها حكيمة
تعاليم الاسلام امتثالاً لأمر اخيها عليه السلام ، وعلى أي حال فقد تم اسلامها قبل
زواجها من الامام العسكري عليه السلام .
واما ما قد يخطر على البال من انها إذا كانت قد بقيت غير مسلمة في عالم اليقظة
والعيان حتى حين وصولها إلى سامراء ، فكيف زارها الامام أبو محمد (ع) في المنام ..
فجوابه : ان هذا كلام من يؤمن بالاحلام .. وأما من لا يؤمن بها لا يعتبر الزيارة في
عالم الرؤيا شيئاً يؤخذ بنظر الاعتبار. ومعه فنقول للمؤمن بالاحلام المتكلم بهذا
الكلام: ان زيارة الامام في المنام يكفي فيها الاسلام في المنام! وأما لقاء العيان
واليقظة فيحتاد إلى اسلام حقيقي في عالم اليقظة.
وأما زواجها ، فلم يكن ما وقع منه في المنام كافياً أيضاً وانما تم بإنشاء الامام
الهادي (ع) لعقد الزواج حين قال : - كما نطق الحديث - : فإني قد زوجت ابا محمد
الحسن عليه السلام وأم القائم. بعد ان احرز رضاها ورضاه . وهو وليهما وولي المؤمنين
.
صفحة (254)
الأعتراض الرابع : ان هذا الحديث دال على تساقط الصلبان وانهيار الاعمدة ، من دون
سبب ظاهر . فكيف كان ذلك؟
والجواب عن ذلك: انه مما لا شك فيه ، من الناحية الاسلامية ، ان ما يعتقده
المسيحيون أصبح بعد بعثة نبي الاسلام (ص) ، باطلاً والمقيم عليه ضالً مضلاً. وان
مقتضى الهداية إلى الصراط المستقيم هو الاهتداء بنور الاسلام والاعتقاد بعقائده
والالتزام بعدله .
فمن الممكن القول: ان هذا الذي حدث ، هو معجزة الهية حدثت للتوصل إلى غرضين :
احدهما : استنكار بقاء هؤلاء على المسيحية مع امكانهم الدخول في الاسلام ومعرفتهم
بوجوده ، فإن الأولى بمصالحهم ان يعتنقوه لا ان يحاربوه ، ثانيهما : استنكار زواج
هذه الامرأة من ابن عمها ، فإنها مقدرة في علم الله الأزلي لأن تكون زوجة للإمام
العسكري واماً للمهدي. لا ان تكون كما يشاء جدها زوجة لإبن اخيه. بحدوث هذه المعجزة
يحصل في قلوبهم تشاؤم من حصول هذا الزواج ، فلا يقومون به . كما قد اعرضوا عنه
فعلاً .
الاعتراض الخامس:ان هذه الرواية تدل على شيئين متنافيين . فبينما تنص في أولها على
ان الامام الهادي (ع) هو الذي كتب الكتاب الذي حمله بشر النخاس إلى الجارية ...
نراها بدل بعد ذلك على ان كاتبه هو الامام العسكري (ع) . كقولها : وأومأ بيده إلى
أبي محمد صاحب هذا الكتاب . وقولها : يعني على صاحب هذا الكتاب.
صفحة (255)
والجواب عن ذلك : ان الرواية دلت على ان كاتب الكتاب هو الامام الهادي(ع). إلا انها
دلت في عين الوقت ان هذه الجارية كانت تتوهم ان كاتبه هو فتى احلامها وزوج مستقبلها
الامام العسكري عليه السلام . وليس بين الامرين أي تنافي . ولا تعلم ان ما في
الكتاب يدل على تحديد شخصية كاتبه حتى تعرفه بذلك .
اذن فليس شيء من هذه الاعتراضات وارد على هذا الحديث ومضعف لدلالته وما يعرب عنه من
حديث وتاريخ. وانما الاعتراض الوحيد الذي يمكن صدقه ، هو ان هذا الحديث ضعيف من
ناحية اثباته التاريخي ، بإعتبار كونه مجهول الرواة ضعيف السند .
التعليق الثالث : الذي نعلقه على هذه الرواية :
ان هذه الرواية مهملة من حيث التاريخ . ونحن وان استطعنا ان نعرف وقت شراء الجارية
إلا انه لا يمكن تحديد وقت هذا القتال الذي وقع بين الروم والمسلمين. ذلك القتال
الذي أصبحت مليكة نتيحة له اسيرة للمسلمين. كما انه لا يمكن تجديد مكانه على وجه
التعيين فإن سائر أطراف الدولة الاسلامية كانت مسرحاً لحروب ومناوشات وفتوحات في
ذلك العصر. وأغلبها كان بين الروم والمسلمين.
فإن لفظ الروم كان يستعمله العرب في ذلك الحين بشكل مجمل واسع المعنى . فإنهم كانوا
يصطلحون بهذا اللفظ على كل بلاد مسيحية خارج حدود بلاد الاسلام. وهذا معنى شامل
لكثير من مناطق الأرض .
صفحة (256)
فهو يشمل سوريا ولبنان وتركيا قبل فتحها الاسلامي ، ثم يستمر إلى ما وراءها شمالاً
مما هو الآن تحت حكم الاتحاد السوفييتي . وقد دخل قسم منه في الأسلام وبقي الكثير
منه مسيحياً إلى حد الآن . كما يمتد هذا اللفظ غرباً ليشمل اوروبا كلها بما فيها
اليونان وايطاليا وفرنسا واسبانيا وصقلية وغيرها مما كان معروفاً يومذاك . وكانوا
إذا أرادوا التدقيق في التعبير عن اوروبا ، قالوا : الفرنجة أو الافرنج ، تمييزاً
لها عن سائر بلاد الروم . وهو أيضاً لفظ مجمل يشمل كل أقطار اوروبا تقريباً.
لا يستثنى من لفظ الروم ، بحسب اصطلاحهم .. من وجه العالم المعروف يومئذ ، إلا ما
كان في شرق بلاد الاسلام : كالهند والصين وما كان في جنوبها كافريقيا.
والصحيح تاريخياً ان الروم هم شعب دولة روما ، التي هو الآن عاصمة ايطاليا ، وكان
الاسم الرسمي للملك عندهم هو القيصر . وهي دولة استطاعت ان تسيطر على رقعة ضخمة من
العالم .. من حوض البحر الأبيض المتوسط . كالشمال الافريقي واليونان وتركيا وسوريا
ولبنان وفلسطين ، حتى كانت تسمى كل هذه المناطق بدولة الروم ، ومن هنا وقع الاجمال
والاختلاط في معناه لدى الناس في تلك العصور ... وحتى كانت العاصمة لهذه الدولة
الجبارة هي القسطنطينية ، وهي ليست في ايطاليا ، وغير قريبة من روما! وانما تقع في
الجزء الاوروبي من تركيا فعلاً . وتسمى اليوم باستانبول . وكان لسقوطها بأيدي الجيش
الاسلامي من الاهمية و (الاستراتيجية) السيء الكثير. اذ يعني انحسار الحكم الرومي
عن بلاد الشرق وانكماشه في داخل اوروبا المسيحية.
صفحة (257)
وعلى أي حال ، فإنه يمكن ان يفهم من هذه الرواية ان الملك نفسه كان خارجاً مع جيشه
للحرب ، وهو ما كتن يحدث فعلاً في الحروب المهمة الواسعة . فبذلك يمكن أن نلتفت إلى
الحادثة التي ينقلها التاريخ العام في سنة 249 هـ ، حيث نزل ملك الروم بنفسه إلى
الحرب مع خمسين ألفاً ، وحصل بينه وبين المسلمين قتال شديد ، قتل فيها من الفريقين
خلق كثير(1) . فالمظنون ان هذه هي الحادثة المشار اليها في الحديث .
وكان الامام العسكري عليه السلام في هذا العام ، عمره سبعة عشر عاماً ، يعيش تحت ظل
ابيه عليه السلام ثم ان ام المهدي عليه السلام بعد ان سبيت في الحرب رقيت عند
مالكها حتى عام 254هـ حين أراد بيعها ، فاشتراها الامام عليه السلام ليزوجها من
ابنه عليه السلام . والرواية على أي حال ، لا تدل على سرعة بيعها بعد الاسر ، وان
كان المفهوم منها بشكل عام ، هو ذلك . والله العالم .
الفرضية الثانية: ان المالك لهذه الجارية من اسرة الامام عليه السلام ، هو حكيمة
اخت الامام الهادي (ع) وهذه فرضية بسيطة ومختصرة ، تكفينا في الاثبات التاريخي ان
لم تكفنا الفرضية الأولى ، ولم نقتنع بمدلول ذلك الخبر . والخبر الوارد في هذه
الفرضية يهمل بالكلية التعرض لأصل هذه الجارية أو ترجمة حياتها أو تاريخ ورودها إلى
بلاد الاسلام أو تاريخ شرائها .
ــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج 5 ص 312 .
صفحة (258)
وانما يبدأ الحديث انه في يوم من الايام يزور الامام العسكري عليه السلام عمته
حكيمة رضي الله عنها ، فيرى جاريتها فيحد النظر اليها. فتقول له: يا سيدي لعلك
هويتها أفارسلها اليك. فينفي الامام عليه السلام الهوى الجنسي عن نفسه ، فإنه مناف
فمقام الامام وعصمته، ويعطي السبب المنطقي الصحيح لعمله . وذلك انه اجاب عمته
قائلاً: لا يا عمة ، ولكني اتعجب منها . فقالت له : وما اعجبك؟ . فقال عليه السلام
: سيخرج منها ولد كريم على الله عز وجل الذي يملأ الله به الأرض عدلاً وقسطاً كما
ملئت ظلماً وجوراً . فقالت له : فارسلها اليك يا سيدي . فيوقف الامام العسكري (ع)
ذلك على اذن ابيه ، قائلاً : استأذني في ذلك ابي .
قالت : فلبست ثيابي واتيت منزل ابي الحسن عليه السلام . فسلمت عليه وجلست . فبدأني
وقال : يا حكيمة ابعثي نرجس إلى ابني ابي محمد عليه السلام . وتجمع بينه وبينها في
منزلها . فيقيم الامام عندها اياماً ، حتى يتوفى والده عليه السلام بعد ايام ،
فينتقل الامام العسكري (ع) مع زوجته إلى دار ابيه (1) .
ــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين .. تسخة مخطوطة .
صفحة (259)
وهذه الرواية تتفق مع سابقتها على عدة خصائص ، منها : ان ام المهدي عليه السلام
كانت جارية مملوكة ، وان اسمها نرجس وان زواج الامام العسكري كان في حياة ابيه
واذنه . ولذا نستطيع ان نعتبر اتفاقهما على ذلك اثباتاً تاريخياً كافياً له. إلا ان
هذه الرواية تعين وقوع الزواج في الأيام الاخيرة من حياة الامام الهادي (ع). ولم
يكن هذا واضحاً من الرواية السابقة .
وليس على هذه الرواية من اعتراض من الناحية الشكلية ، إلا اعتراض واحد ، وهو ان
الامام العسكري (ع) حين زار عمته كيف جاز له ان يحد النظر إلى جاريتها مع انها ليست
زوجته ولا مملوكته في ذلك الحين. ويأتي الجواب واضحاً بسيطاً، وهو انه نظر اليها
بإذن مالكتها . والمالك إذا اذن لشخص في النظر إلى مملوكته جاز للمأذون له النظر
شرعاً في حدود اذن المالك.
وهذا وان لم يذكر في الرواية إلا انه أخذ مفروض التحقق في الرواية ، للتسالم الواضح
في المجتمع المسلم على عدم جواز النظر إلى مملوكة الغير إلا بإذنه . لذا كان من
الواضح في ذهن الراوي ان السامع المسلم سوف يفهم تلقائياً وجود الاذن في النظر ...
ومن هنا اهمله من سرده من لفظ الرواية .
صفحة (260)
ولادة الامام المهدي (ع):
ولد عليه السلام عند الفجر من يوم النصف من شهر شعبان(1) وحيث يقع الفجر ما بين
الليل والنهار، فقد عبر بعضهم ان ولادته كانت في الليل وبعضهم عبر باليوم حيث قال:
في يوم الجمعة كالصدوق في اكمال الدين وابن خلكان في الوفيات .
أما عام ولادته فالمشهور انه عام 255هـ(2) وليس على ذلك اعتراض إلا ما يذكره
الكليني في الكافي والصدوق في اكمال الدين. فإنهما يرويانها على وجهين ، فتارة قالا
: انه ولد عام 255هـ وتارة اخرى قالا : انه ولد عام 256هـ (3) ، وتنافيهما في
الرواية يوجب الأخذ بالمشهور كما هو واضح .
وعلى ذلك يكون قد ولد عليه السلام بعد وفاة جده الامام الهادي عليه السلام بحوالي
عام ، وبعد مجئ المهتدي العباسي إلى الحكم بأقل من شهر. حيث استخلف المهتدي لليلة
بقيت من رجب وولد الامام المهدي في النصف من شعبان في نفس العام. وبقى المهتدي في
الحكم حوالي عام واحد حيث ازاله الأتراك وبايعوا المعتمد عام 256هـ وبقي المعتمد في
الحكم ثلاثاً وعشرين سنة ، حتى عام 279هـ على ما سمعنا فيما سبق .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر الكافي (مخطوط ) واكمال الدين ( مخطوط ) ووفيات الاعيان ج 3 ص 316
والارشاد ص 326 واعلام الورى ص 393 . ونور الابصار ص 170 .
(2) انظر الارشاد ص 326 واعلام الورى ص 393 . وابن خلكان ج 3 ص 316 وابن الوردي ج 1
ص 232 وأبو الفداء ج 1 ص 47 والاتحاف ص 69 واليواقيت والجواهر ص 288 والفصول المهمة
ص 310 ونور الأبصار ص 170
(3) انظر للصدرين المخطوطين .
صفحة (261)
ويعاصر الامام المهدي عليه السلام من حياة ابيه خمس سنوات ، حيث يصعد أبوه إلى
الرفيق الأعلى عام 260هـ على ما سبق ان عرفنا. وقد انصب النشاط الرئيسي خلال ذلك
على امرين رئسيين : احدهما : الحذر التام من السلطة الحاكمة . ثانيهما : تعرف خواص
ابيه (ع) .
ومهما يكن من أمر ، فالمهم الآن ان نحمل فكرة عما تدلنا عليه الروايات من حوادث
ولادة الامام المهدي عليه السلام:
ان الامام العسكري عليه السلام تزوره عمته حكيمة في يوم من الأيام ، وتبقى عنده إلى
المساء . وحين تريد ان تنصرف يرجوها الامام عليه السلام ان تبيت في داره هذه الليلة
، فإنه سيولد فيها المولود الكريم على الله عز وجل ، حجة الله في أرضه . فتسأله
العمة : ومن أمه ؟. فيقول الامام عليه السلام : ترجس ! فتنفي العمة أن يكون بنرجس
اثر للحمل . فيؤكد لها الامام (ع) ذلك قائلاً : هو ما أقول لك فتفحصها العمة جيداً
وتقلبها ظهراً لبطن فلا تجد أثر الحمل . فتعود فتخبره تارة أخرى . فيبتسم الامام
عليه السام ويعطيها الحجة الواضحة والمبرر الالهي الصحيح في ذلك ، قائلاً : إذا كان
وقت الفجر يظهر لك الحبل .. لأن مثلها كمثل أم موسى لم يظهر بها الحبل ولم يعلم بها
أحد إلى وقت ولادتها ، لأن فرعون كان يشق بطون الحبالى في طلب موسى عليه السلام .
وهذا نظير موسى عليه السلام .
صفحة (262)
وحاصل البرهان الذي يتضمنه كلام الامام عليه السلام بعد ايضاح مقدماته هو: أن الله
تبارك وتعالى اقتضت حكمته الازلية ان يستهدف في خلق البشرية هدايتها وارشادها
واخراجها من الظلمات إلى النور . قال تعالى : "وما خلقت الجن والانس إلا
ليعبدون"(1). ولاجل هذا الهدف الأعلى كانت بعثات الانبياء والرسل مبشرين ومنذرين .
ومن هنا كان وعد الله القاطع بإقامة دولة الحق على الأرض . فإن الأرض لله يرثها
عباده المتقون
والهدف الالهي إذا كان لزومياً ومهما ، توصل الله تعالى اليه بقدرته ، بما شاء من
الوسائل والطرق ، فإنه القادر على كل شيء الذي إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون .
فان كان في الامكان تحقق الهدف بالطريق الطبيعي ، فهو .. والا توصل الله تعالى إلى
ايجاده عن طريق خرق النظام الكوني الطبيعي بالمعجزات . كما تحدثنا عنه وفصلنا القول
فيه في رسالتنا عن المعجزة في المفهوم الاسلامي وأهون بالجهد البشري أن يكون حائلاً
أو مانعاً بين ارادة الله تعالى وبين تنفيذ ما يريده من الأهداف في خلقه .
وإذ يكون ضغط السلطات الحاكمة عالياً، ويكون لوجود الفرد المطارد أثراً مهم في تحقق
الهدف الالهي ، ولم يمكن حفظه من السلطات بطريق طبيعي، اذن يتعين حفظه بطريق اعجازي
.. توصلا إلى الهدف الكبير وهو هداية البشرية في مستقبل الدهر.
ــــــــــــــــــ
(1) الذاريات 51- 56
صفحة (263)
وبين يدينا الآن مثالاً لذلك : احدهما : النبي موسى بن عمران على نبينا وعليه
السلام . فان الله تعالى حين تعلق غرضه المهم الملزم بهداية البشرية به في زمان
مستقبل .. وكان ذلك متوقفاً على ولادته صحيحاً سالماً ولم يكن ذلك ممكناً للضغط
العالي التوجه من قبل سلطات فرعون يومئذ . اذن يتعين حفظه بطريق اعجازي تحفظاً على
الغرض الالهي الكبير الذي سيكون موسى عليه السلام المسؤول الرئيسي لتنفيذه وتطبيقه
في حينه.
المثال الثاني : الامام المهدي عليه السلام الذي تعلق الغرض الالهي المهم الملزم
بهداية البشرية به في الزمان المستقبل وتنفيذ وعد الله تعالى بدولة الحق على يده .
وذلك يتوقف على ولادته وبقائه سالماً . ومن هنا افاض الله تعالى عنايته الخاصة
وارادته اللانهائية ، تحفظاً على غرضه الكبير وتحدياً للجهد البشري المتواضع الذي
تبذله السلطات .. بإقامة المعجزة في اخفاء الحمل من ناحية وفي بقائه أمداً طويلاً
من الدهر من ناحية ثانية .
وحيث كان المثال الأول واضحاً في اذهان المسلمين ، اذن فلا بعد في قدرة الله تعالى
أن يقوم بذلك بالنسبة إلى المهدي (ع) ايضاً. والمعجزة في اخفاء الحمل يكون - في
الأرجح - على هذا الترتيب : وهو ان النطفة خلال مدة الحمل تنمو ببطء شديد أو لا
تنمو على الاطلاق ، ثم انها قبل الولادة بوقت قصير قد لا يزيد على دقائق تنمو بسرعة
حتى يكتمل الجنين ، ويكون قابلاً للميلاد ، في الجو السري الخاص البعيد عن أعين
السلطات .
صفحة (264)
وبذلك لا يتمكن أحد من الفاحصين حتى القوابل ، خلال المدة الاعتيادية للحمل .. من
التعرف على وجوده . فضلاً عن مجرد النظر. وذلك : لأن الطب إلى يومنا الحاضر عاجز عن
التعرف إلى الحمل في شهره الأول ، فكيف بالعصور السابقة .. عصور الخلافة العباسية
فلو بقي الجنين ، بارادة الله تعالى ، على شكله في الشهر الأول طيلة مدة الحمل ، لم
يتمكن أحد ان يخمن وجود الحمل على الاطلاق ، في تلك العصور.
ولا يخفانا أيضاً ، ما في التوقيت في الفجر ، من اهمية خاصة في زيادة الحذر
والخلفاء ، فإن هذه العائلة كانت في ذلك الوقت في يقظة . وكل من يتولى السلطة
والتجسس يغط في نوم عميق .
ثم ان حكيمة إذ تسمع تأكيد الامام عليه السلام ، تعود إلى نرجس فتخبرها بما قال
وتسألها عن حالها . فتقول نرجس : يا مولاتي ما أرى بي شيئاً من هذا . ثم ان نرجس
نامت واشتغلت حكيمة بالصلاة ، لكي تؤدي صلاة الليل ، وجلست للدعاء عقيب الصلاة ،
وهي في كل ذلك ترقب نرجس . فلا تجد عليها إلا النوم الهادي لا تقلب جنباً عن جنب .
وهناك من الأخبار ما يدل على أن نرجس نفسها قامت من نومتها فأدت صلاة الليل ثم نامت
مرة اخرى . وهي لا تحس بشيء.
صفحة (265)
حتى إذا كان وقت طلوع الفجر ، وثبت نرجس من نومها فزعة ، فضمتها حكيمة إلى صدرها .
وقالت لها : اسم الله عليك ، هل تحسين بشيء . قالت : نعم يا عمة. أقول: نعرف من ذلك
ان جنينها قد كبر واكتمل . وتم هذا في دقائق أو أقل . وهذا يفسر لنا وثوبها من
نومها فزعة .
وهنا يأمر الامام عليه السلام حكيمة بأن تقرأ عليها سورة الدخان التي تبدأ بقوله
تعالى : "بسم الله الرحمن الرحيم . حم . والكتاب المبين . انا انزلناه في ليلة
مباركة انا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم أمراً من عندنا إنا كما مرسلين" .
ولا يخفى ما في قراءة هذه الأيات من المناسبة لقتضى الحال .
وحينما يحين وقت الولاة ، يحدث نوع من الغموض بين الأمرأتين بحيث لا تطلع حكيمة على
نرجس ، وقد عبر عن ذلك في بعض الروايات بالفترة .. وهي نوع من الغفلة أو النعاس ..
أصابتهما معاً . وعبر عنه في رواية اخرى ، بقول حكيمة : حتى غيبت عني نرجس فلم أرها
، كأنه ضرب بيني وبينها حجاب . والمعنى المفهوم منها واحد ، والغرض منه هو عدم
الاطلاع على نرجس حين خروج الامام عليه السلام .
وتنتبه حكيمة، فتجد الامام المهدي عليه السلام ساجداً على الأرض يقول شيئاً من
الكلام ، يعطى به المفهوم الواعي الكبير الذي خلقه الله من اجله والغرض الذي أوكله
اليه والوعد العظيم الذي اناطه به . لكن الروابات تختلف في اللفظ الذي قاله . ففي
احدها انه قال : اشهد ان لا اله إلا الله وان جدي محمد رسول الله وان ابي امير
المؤمنين .
صفحة (266)
ثم عد اماماً اماماً إلى ان بلغ إلى نفسه . ثم قال : اللهم انجز لي ما وعدتني واتمم
لي امري وثبت وطأتي ، واملأ الأرض بي عدلاً . وفي رواية اخرى انه قال : الحمد لله
رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين . زعمت الظلمة ان حجة الله
داحضة . ولو اذن لنا في الكلام لزال الشك . وفي رواية ثالثة : انه عليه السلام تلا
قوله تعالى "شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم .." إلى آخر الآية .
وفي رواية رابعة : انه تلا قوله تعالى: "ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الأرض
ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين .." الى آخر الآية .
ونحن كمسلمين ، لا ينبغي ان تستغرب ذلك أو بستنكره ، فانه ليس بدعاً في الدهر ،
وليس شاذاً في افعال الله تعالى وقدرته الكبرى. وهذا القرآن يصرح بكل وضوح بنطق
عيسى بن مريم في المهد : "قال اني عبد الله اتاني الكتاب وجعلني نبياً .." اذن فهو
نبي في صغره ايضاً ، والمهدي عليه السلام له الشبه به من كلتا الناحيتين . أما
النطق فباعتبار هذا الذي سمعناه . وأما الامامة في الصغر فلانه تولاها وعمره خمس
سنوات بعد وفاة ابيه عام 260 للهجرة .
وينزل الحجة المهدي عليه السلام إلى الأرض بدون دماء نظيفاً مفروغاً منه فيستدعى به
أبوه عليه السلام ، فتحمله حكيمة اليه ، فيأخذه ويضع لسانه في فيه ويمر يده على
عينيه وسمعه ومفاصله. ثم يقول له : تكلم يا بني. فقال:اشهد ان لا اله الا الله وحده
لا شريك له واشهد ان محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم صلى على أمير
المؤمنين وعلى الأئمة إلى ان وقف على ابيه . ثم احجم .
صفحة (267)
أقول : والروايات تنسب اليه عليه السلام بعد ميلاده كلاماً واحداً ، ولكنها تختلف
في زمانه . فالأكثر انه تكلم عند أول ولادته وواحدة منها تقول انه تكلم بعد حمله
إلى ابيه - وهو ما نقلناه اخيراً - ويكون مقتضى الجمع بين الروايات انه قد تكلم
مرتين، باعتبار ان كل رواية اثبتت شيئاً لم تنفه الرواية الاخرى . إلا ان النتيجة ،
وهي تكلمه مرتين ، يكون منافياً مع فحوى سائر الروايات فالأرجح هو الأخذ بالروايات
الأكثر وهو انه تكلم بكلام واحد بعد ولادته مباشرة . فإنها بتعددها تكفي للإثبات
التاريخي ، وان كان القطة بمثل هذه المسألة مما لا حاجة اليه من الناحية الدينية أو
الاجتماعية .
والمفهوم من سياق أكثر الروايات انه لم يكن حال ولادة المهدي إلا امه وحكيمة . وكان
والده يشتغل بالصلاة والدعاء في طرف آخر من الدار ، مراقباً للوضع عن كثب ، إلا ان
هناك رواية تصرح باستقدام عجوز قابلة من جيرانهم بشكل غامض شديد الكتمان ، للقيام
بالتوليد(1) وفي هذا منافات لأكثر الروايات ، ومعه فالارجح الأخذ بالأكثر دون هذه
الرواية.
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة للشيخ الطوسي ص 145 . وأعلم ان ما ذكرناه من قصة الميلاد مسيقى من
روايات عديدة ، موجودة - في الأغلب - في اكمال الدين للشيخ الصدوق . الا ان مما
يساعد على سعة الاطلاع في هذا الصدد مراجعة كتاب الغبية للشيخ الطوسي والخرايج
والجرايح للقطب الرارندي والبحار ج 13 للعلامة المجلسي ومنتخب الأثر للصافي وغيرها
.
صفحة (268)
ما بعد المولد :
يولد الامام المهدي عليه السلام ، شأنه في ذلك شأن آبائه عليهم السلام ، مختوناً ،
ولكن والده يقرر امرار الموسى عليه لإصابة السنة(1) فإنه لا ينبغي أن تتخلف السنة
الاسلامية عن أحد .
ويأمر الامام العسكري عليه السلام ، ابا عمر وعثمان بن سعيد ، وهو من أخص أصحابه
لديه .. بأن يعق عن المولود الجديد عدداً من الشياه وان يشتري عشرة آلاف رطل من
الخبز وعشرة آلاف رطل لحماً ويوزعه على الفقراء(2) وما أكثرهم في ذلك المجتمع
المنحرف، وخاصة في القواعد الشعبية للأمام المعزولين اجتماعياً واقتصادياً .
وقد وصلت شاة مذبوحة إلى محمد بن ابراهيم الكوفي ، باعتبارها عقيقةعن المولود
الجديد (3) .
ويتباشر الأصحاب الخاصون بميلاد الامام المهدي عليه السلام فيزور أحدهم الامام
العسكري (ع) فيهنؤه بولادة ابنه القائم (4) ويجتمع اثنان من الأصحاب فيبادر أحدهما
الآخر قائلاً : البشارة. ولد البارحة في الدار مولود لأبي محمد عليه السلام ، وأمر
بكتمانه . فيسأله الآخر السؤال المعتاد ... يسأله عن أسم المولود الجديد ، فيقول له
: سمي محمد وكني بجعفر (5).
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين المخطوط . (2) انظر المصدر .
(3) انظر المصدر . (4) انظر المصدر .
(5) انظر المصدر .
صفحة (269)
ويبقى على الامام العسكري عليه السلام، وظيفة مزدوجة تجاه ولده الجديد ، تحتاج كل
منهما إلى تخطيط خاص، ويحتاد الجمع بينهما إلى غاية في الحذر واللباقة الاجتماعية .
الوظيفة الأولى: اثبات وجود الامام المهدي عليه السلام تجاه التاريخ وتجاه الامة
الاسلامية ، وتجاه مواليه الذين يعتبرون المولود الجديد امامهم الثاني عشر بحسب نص
النبي (ص) حين قال : يكون بعدي اثنا عشر خليفة كلهم من قريش . فليس من الممكن ولا
المنطفي أن يبلغ الحذر والتوقي إلى اخفائه الكامل بحيث يؤدي انطماس اسمه وانكار
وجوده . مع كونه عليه السلام الامام الثاني عشر لمواليه والقائد المذخور لدولة الحق
.
على انه لا بد من اقامة الحجة في وجوده على الموالين خاصة وعلى المسلمين عامة ،
بحيث يكون هناك تواتر في الأخبار عن وجوده ورؤيته ، يدحض به قول من يزعم وجوده
ورؤيته ، أو انه ليس للامام العسكري عليه السلم من ولد.
الوظيفة الثانية: حماية الامام المهدي عليه السلام من السيف العباسي والمطاردة
الحكومية، التي عرفنا مناشئها وتخطيط السلطات لها ، وتجنيد كل قواها وعيونها من
اجلها .
اضف إلى ذلك ما اشرنا اليه من ان الجهاز الحاكم ، كان يعرف في دخيلة نفسه حق الامام
ودالة قضيته وصدق قولة.
صفحة (270)
وانما كان يمنعهم عن اتباع الحق : الملك العقيم والمصالح العريضة المتعلقة بالخلافة
العباسية مضافاً إلى تعصب وراثي قديم . ومن هنا كانوا يشعرون ان ولادة المهدي عليه
السلام، وهو الشخص الذي ملأ رسول الله (ص) أسماعهم بانه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً
كما ملئت ضلماً وجوراً ... ان ولادته يعني الحكم على نضامهمبالموت المحتم وفضح
مخططتهم المنحرفة وأساليب عصيانهم لأوامر الاسلام واهمال طاعة الله تعالى وعدم
الاهتمام بالأمة الاسلامية. وبعبارة اقرب: انهم كاموا يدركون ان مجتمعهم الذي
يحكمونه قد امتلأ .. بفعل انحرافهم وسوء تصرفهم... ضلماً وجوراً. إذن فمن المنطقي
ان يتصدى الامام المهدي عليه السلام لكي يملأه قسطاً وعدلاً... وهذا ما يخافونه
ويرهبونه.
وهم وإن لم يحددوا بالضبط تأريخ ميلاد الأمام المهدي عليه السلام، لمدى السرية
التامة المحاطة فيها تحاههم... إلا انهم يعلمون، على الاجمال ان زمانه قد اظلهم
وانه على وشك الوجود. فانه يكفيهم ان يعرفوا ان الامام العسكري غليه السلام يكون في
السلسلة التي وعد بها رسول الله (ص) الاما الحادي عشر... لكي يكون ولده الثاني
عشر... وهو المهدي. ويدل على ذلك أيضاً وعلى جهلهم بتحديد التأريخ ما نعرض له من
مراقبتهم للحوامل عند وفاة الامام العسكري (ع) ظناً منهم بوجود الامام المهدي (ع)
جنبناً في رحم احدى النساء. مع انه كان مولودا ً قبل خمس سنوات، كما أطلع على ذلك
الخاصة من مواليه.
وإذا كان نشاط الأمامين العسكريين عليهما السلام، وهو مقتصر على حفظ مصالح قواعدهم
الشعبية، ومشفوعاً بسياسة السلبية والمسالمة مع الجهاز الحاكم على ما قلنا .. إذا
كان هذا النشاط مثيراً ومغضباً للسلطات .. فكيف بالنشاط الموعود للمهدي المنمتظر
الذي يكون غليظاً في الحق لا يتسامح ولا يسالم ولا يعفو عن الانحراف .
صفحة (271)
ومن هنا كان عمل السلطات في تلك الظروف اقرب شبهاً بالحركات العصبية التي يقوم بها
المخنوق عند خنقه أو الغريق قبل انقاذه .. فإنها تعلم بوجود شيء خطر مشرف عليها ،
شديد الاهمية بالنسبة اليها .. ولكنها تشعر بالعجز تجاهه ، ضيق الباع في الوصول
اليه والوقوف عليه . بالرغم من وجود القوة والمال والضمائر الاجيرة في جانبها، وليس
في الجانب الآخر إلا العزل والفقراء والمضطهدون ... ولعلها تحس تجاه ذلك بالتحدي
لقوتها وعزتها فتزيد من نشاطها وتبذل المستحيل في سبيل الحصول على الامام المهدي
(ع) والقبض عليه .
فكانت هاتان الوظيفتان المزدوجتان للامام العسكري عليه السلام ، توقفه في موقف غاية
من الدقة والحرج .. وبخاصة وان كلتا الوظيفتين ضرورية بالنسبة اليه لا يمكنه ان
يتخلى عنها .
ويزيد الموقف دقة ، ان الامام العسكري يعيش في هذا المجتمع الصاخب ، تحت الأضواء
المسلطة عليه من كل الجهات والرقابة الاحتماعية التي تلاحقه ، لعدة اسباب : منها :
انه الرجل المثالي الاسلامي في عبادته واخلاقه وعلمه ونسبه في نظر الجميع. ومنها :
انه القائد والموجه لقواعد شعبية واسعة من المسلمين . ومنها : انه يمثل جبهة
المعرضة ضد السلطات الحاكمة.
صفحة (272)
ومنها: ان الحكومة تستمر في تقريبه من البلاط ودمجه في الحاشية . ومن المعلوم ان
الشخص الذي يكون له بعض هذا الخصائص ، فضلاً عن جميعها يكون لولده اهمية كبيرة
وخبراً منتشراً واسعاً ، وخاصة إذا كان للمولود اهمية خاصة .. كان مهدي هذه الامة .
اذن فمن طبيعة المجتمع ان تتوجه الانظار من كل حدب وصوب إلى ميلاد الامام المهدي
عليه السلام ، وبخاصة من قبل السلطات الذين يعيش في بلاطهم ويزوره في الاسبوع
مرتين.
ومن ثم كان أقرب تخطيط للخروج من هذا المأزق ، ترك الاعلان الاجتماعي عن ولادة
المولود الجديد بالكلية ، وكأن شيئاً لم يحدث على الاطلاق ، بالنسبة إلى الفهم
العام ، وترك الأحداث تسير في مجراها الاعتيادي من دون اثارة أي انتباه أو فضول أو
شك من أحد في شيء من النشاط أو القول أو العمل . حتى ان خادم الباب في بيت الامام
العسكري لم ينتبه إلى شيء ولم يفهم شيئاً(1) واذا لم يحصل الشك والانتباه لم يحصل
الفحص والسؤال .
ومما ساعد الامام العسكري(ع) على الاخفاء مساعدة كبرى ، تطبيقة سياسة الاحتجاب على
نفسه ، وانقطاعه عن أصحابه ومواليه إلا بواسطة المراسلات ، كما عرفنا ، حيث استطاع
عليه السلام بذلك تحقيق نتيجتين اساسيتين: احداهما : تعويد قواعده الشعبية على فكرة
الاحتجاب والقيادة غير المباشرة ، كما سبق ان أوضحنا.
ــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين . (مخطوط) .
صفحة (273)
وثانيهما: استقطاب المهام التي كان يقوم بها ، والحوادث التي كان يعيشها .. بشكل
منفرد بعيد عن الانتباه وتسليط الأضواء والضوضاء .. لا يكاد يعرف بكل مهمة أحد إلا
أهل الصلاة بها. وحيث كان اخفاء ولده من مهامه الرئيسية ، فلم يكن ذلك بممتنع عليه
بعد تخطيط الاحتجاب .
وقد ساعد على الاخفاء أيضاً مساعدة كبيرة ، تحول انتباه الدولة والمجتمع إلى حرب
صاحب الزنج الذي بدأ أعماله التخريبية في جنوب العراق والأهواز في عام ميلاد المهدي
عليه السلام .. عام 255 على المشهور في ميلاده . والمتتبع للتاريخ العام يعرف ما
أوجده هذا المخرب من الفزع والقلق في اذهان الشعب عامة والجهاز الحاكم خاصة . ومن
المعلوم ان المجتمع الذي يسوده القلق الذهني يكون فكره مركزاً على ما يخاف منه ومن
الصعب أن يلتفت إلى شيء آخر . كالفرد الواحد اذا خاف وحشاً تركز نظره وفكره وقوته
عليه . فكذلك المجتمع بشكل أو بآخر. فكان وجود صاحب الزنج خير صارف ذهني للفهم
العام عن الالتفات إلى ميلاد الامام المهدي عليه السلام.
إلا ان هذه الفكرة سوف تبقى تجيش بشكل غامض في ذهن السلطات
المتمثلة في الخليفة المعتمد نفسه .. وتتجلى بأوضح صورها على ما
سوف يقوم به عند وفاة الامام العسكري عليه السلام. اذ يكون المعتمد
في ذلك الحين مرتاحاً بعض الراحة من الناحيتين السياسية والعسكرية
.. بعد ان أوكل قتال صاحب الزند إلى اخيه ابي أحمد الموفق ، قبل
عامين .. سنة 258هـ كما عرفنا ، وقد استقل الموفق تدريجاً بالحرب
وغير الحرب من شؤون الدولة وعزل الخليفة عن الأمر والنهي وعن
النشاط السياسي بالكلية. فمن هنا توفر للمعتمد بعض الوقت للتفكير
في أمر آخر ... هو البحث عن الوريث الشرعي للامام عليه السلام.
صفحة (274)
وعلى أي حال ، لم يكن إلى حد التاريخ الذي نتكلم عنه ، قد ثار حول ولادة المهدي (ع)
أي احساس أو التفات أو شك من قبل المجتمع أو السلطات .. نتيجة لمجموع هذه الخصائص
والملابسات ... وكأنه حادث غير موجود !! .
وإلى هنا استطاع الامام الحسن العسكري عليه السلام أن يضمن بكل بساطة .. حماية ولده
المهدي عليه السلام من الجهاز الحاكم ومن كل من يدور في فلكه .. وبذلك قام بالوظيفة
الثانية خير قيام .
واما الوظيفة الأولى له عليه السلام ، وهي اثبات وجوده للتاريخ وللأمة الاسلامية
عامة ولمواليه خاصة ... فكان يجب - تحت الظروف التي عاشها الامام - ان تتقلص وان
تضمر ، وان يختص التبليغ بوجوده ورؤيته ، بكل شخص يعلم من قوة ايمانه واخلاصه في
عقيدته ان له من صلابة الارادة ما لا يمكن أن تلين أمام أي ضغط من السلطات بحيث
يكون على استعداد ان يقدم نفسه فداء في سبيل امتثال أمر امامه (ع) بالكتمان. كما
انه لا بد ان يعلم من رجاحة عقله اتزانه ولباقته ، انه يكتم ذلك في المجتمع كتماتاً
تاماً ، ولا يتهور بإذاعة السر إلى من لا ينبغي ان يذيعه له ، وله الخبرة الكافية
بالخاصة الذين يمكن ان يتبادل واياهم هذا الخبر ... وهكذا كان .. وبمقدار هذا
التبليغ خطط الامام العسكري عليه السلام .
صفحة (275)
وكان هذا سبباً لحجب المولود الجديد ، حجباً تاماً مطلقاً عن الجمهور غير الموالي
له. بل حتى عن جمهور الموالين ممن لم يحرز فيه قوة الارادة وعمق الاخلاص.
وكان كل من يطلعله الامام على المولود الجديد ، فيرويه اياه أو يخبره عنه ، مكلفاً
تكليفاً الزامياً بأمرين لا مناص له منهما ، وهو يطبقهما بإعتبار اخلاصه وقوة
ارادته وايمانه . وهما:
أولاً : وجوب الكتمان . وقد سمعنا فيما سبق ان أحد الأصحاب يقول للآخر : ولد
البارحة في الدار مولود لأبي محمد (ع) وأمر بكتمانه ويكتب الامام العسكري عليه
السلام لأحمد بن اسحاق : ولد لنا مولود ، فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس
مكتوماً. فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى لولايته. احببنا إعلامك
ليسرك الله به ، مثل ما سرنا به . والسلام (1) .
وقد عرفنا ، بكل وضوح وجه المصلحة في هذا الكتمان .
ثانياً : حرمة إطلاع أحد على اسمه عليه السلام . وهو أسلوب في الكتمان ورد التأكيد
عليه بشكل خاص .
ولا يخفى ان اسم المهدي المنتظر أساساً ، معلوم لدى الأمة ، بإخبار نبيها (ص) حين
قال: اسمه إسمي . وهذا يعني بكل وضوح ان اسمه محمد . وهذه المعرفة لا يختلف فيها
الناس من موالين وغيرهم .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين المخطوط .
صفحة (276)
ولكن السلطة القائمة ، إذ تريد أن تطارد المهدي المنتظر في شخص المولود الجديد ، لا
بد لها من امرين : أولاً: ان تعرف ولادته. أذ مع الغفلة عنها، لا يمكنها بطبيعة
الحال ان تجرد المطاردة الفعلية الحقيقية ضد المولود. وثانياً : ان تعرف شخصه بإسمه
. إذ بدونه لا يمكن ان تحارب فيه المهدي المنتظر . لإحتمال أن يكون المهدي هو ولد
آخر للإمـام العسكري (ع) لعله ولد ولم يولد بعد - فيما تحتمله السلطة - وهي ليس لها
غرض معين إلا ضد المهدي المنتظر على وجه التعيين .
مضافاً إلى وضوح ان الاسم يكسب الفرد شخصيته القانونية والاجتماعية التي يمكن أن
تعين ويشار اليها به . وأما مع الجهل به إلى جانب الجهل بشكله أيضاً ، فيكتسب بذلك
نحواً من الغموض وعدم التعيين ، في ذهن السلطات ، فتحار عند التحث عنه ، انها تبحث
عن أي شخص على وجه التحديد . وهذا الغموض - على أي حال - يعطي المهدي المبحوث عنه
رهبة في صدورهم وهالة قدسية في احساسهم وشعوراً بالعجز تجاهه. وفي هذا ما فيه من
التسبب إلى ضعف معنويات السلطة وخاصة الجنود الفاحصين المطاردين من قبل الدولة .
وطبقاً لهذا التكليف الثاني .. سمعنا الامام الهادي عليه السلام حين يبشر بحفيده
المهدي (ع) يقول : لانكم لا ترون شخصه ولا يحل لكم ذكره بإسمه . قال الراوي فقلت :
فكيف نذكره؟ قال : قولوا : الحجة من آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
صفحة (277)
ونسمع عثمان بن سعيد العمري ، وهو الوكيل الأول للحجة (ع) يقول لمن يسأل عن اسمه
:اياك ان تبحث عن هذا (1) . ويقول لآخر : نهيتم عن هذا(2) . وفي حادثة مشابهة يقول
: ابنه الوكيل الثاني محرم عليكم أو تسألوا عن ذلك. ويضيف : ولا أقول هذا من عندي
وليس لي ان احلل واحرم ، ولكن عنه عليه السلام يعني الحجة المهدي (ع). ولكننا لا
نجد نهياً عن التسمية وارداً عن الامام العسكري عليه السلام ، وهذا له سبب نقوله في
مستقبل البحث ان شاء الله تعالى .
والذي أود ايضاحه في هذا الصدد ، أن هناك احتمالاً راجحاً تؤكده الحوادث ، هو ان
المراد من كتم الاسم كتم الشخص نفسه واخفاء ولادته عمن لا ينبغي أن يصل اليه الخبر.
وعليه فهناك تكليف واحد بالكتمان متعلق بالولادة والأسم معاً ، بإعتبارهما يعبران
عن معنى أصيل واحد . وليس المراد بكتمان الاسم حرمة التصريح به مع غض النظر عن حرمة
التصريح بولادته المحافظة عليه بشكل عام .
ومن ثم نرى أن من يضطلع ببيان ذلك هو عثمان بن سعيد دون المام العسكري عليه السلام
. وذلك : لما سنسمعه من ان السلطات بعد ان أيست من العثور على الوريث الشرعي للامام
العسكري ، قررت الجزم بعدم وجوده اساساً ، وتقسيم ميراث الامام بين الورثة الآخرين
.
ــــــــــــــــــ
(1) النظر الاكمال المخطوط . (2) الغيبة ص 215 .
(3) المصدر ص 219 .
صفحة (278)
وبذلك اسقطت السلطة وجود الحجة المهدي عليه السلام من حساب قانونها وغضت النظر عنه
بالكلية . وان كانت المخاوف تبقى تعتمل في نفسها على ما سنسمع . ومن المعلوم والحال
هذه ان أي تصريح جديد بإسم المهدي (ع) أو تلويح بشخصه أو تأكيد على ولادته ، سوف
يثير من جديد التفات السلطات وتجديدها للمطاردة والبحث . وهذا هو الخطر الذي كان قد
ابتعد عن الامام إلى حد كبير بعد يأس الدولة من العثور عليه .ومن هنا تأتي
التأكيدات من قبل عثمان بن سعيد في هذا الزمن المتأخر نسبياً بالنهي عن التسمية ..
فهو تارة يقول : أياك ان تبحث عن هذا . فإن عند القوم ان هذا النسل قد انقطع(1)
والمراد بالقوم الحكام وبهذا النسل الأئمة عليهم السلام . ويعلله في رواية اخرى
قائلاً : فإن الأمر عند السلطان ان ابا محمد (ع) مضى ولم يخلف ولداً وقسم ميراثه ،
واخذه من لاحق له. وصبر على ذلك (2) . إلى غير ذلك من التأكيدات التي سنبينها في
فترتها التاريخية الخاصة.
ومن الواضح ان اثارة السلطات من جديد لا يفرق فيه بين ذكر اسمه أو مولده ، أو
التعرض لأي شأن من شؤونه.
وأما الامام الهادي عليه السلام ٍ، فالمظنون أنه يشير إلى خصوص هذه الفترة
التاريخية ، أو اليها وإلى ما بعدها إلى انتهاء زمان الغيبة الصغرى ، فإن التصريح
بإسمه والإخبار عن ولادته ووجوده ، كان خطراً عليه في مثل تلك الأزمنة .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الاكمال المخطوط .
(2) غيبة الشيخ الطوسي ص 147 .
صفحة (279)
ومعه نعرف ان هذا الحكم غير ساري المفعول إلى ايامنا هذه ، إذ من المعلوم عدم وجود
إي خطر عليه من التصريح بإسمه هذا اليوم .. ان لم يكن - بالعكس - متضمناً للدعوة
اليه ونشر فكرته العادلة واهدافه الكبرى واما الامام الحسن العسكري عليه السلام ،
فكان الموقف في ايامه مختلفاً عن الموقف في عصر الغيبة الصغرى الذي يبدأ بوفاته،
ويفتتحه عثمان بن سعيد بسفارته عن المهدي (ع) فإن السلطات في ذلك العصر المتأخر
كانت قد ايست من القاء القبض على المهدي عليه السلام ، حتى قررت الغاء وجوده
القانوني كوريث شرعي لأبيه فكان في التصريح بإسمه اعادة للشك إلى ذهن السلطة . وأما
في زمان ابيه عليهما السلام . فلم تكن السلطة قد التفتت إلى ولادته أو أحست بشيء
يدل عليه . ومن المعلوم اختلاف الحالة النفسية عند السلطة بين كونها غافلة أساساً
عن الشيء وبين كونها ملتفتة عاجزة آيسة . فإنها في هذه الحالة الثانية تكون أقرب
ذهناً وأكثر توجهاً إلى تصيد الخبر الشارد واللفظ الوارد عن الامام المهدي عليه
السلام .
إلا اننا سنلاحظ من الامام العسكري عليه السلام ، انه وان لم ينه عن التسمية .. إلا
انه ياخذ الحيطة من هذه الجهة .. فلا يصرح بإسمه لأحد من خاصته ممن يريهم ولده
المهدي ، بل يكتفي بقوله لهم : هذا صاحبكم يعني أنه الإمام بعده عليه السلام
،ويقتصر في التصريح باسمه على اقل القليل.
صفحة (280)
وفي الحقيقة أن التكليف الشرعي الإسلامي، المتعلق بالإمام العسكري عليه السلام
بالتبليغ ولإقامة الحجة على وجود ولده والتكليف المتعلق بأصحابه بالإيمان بإمامهم
الثاني عشر ....يكفي فيه هذا المقدار من الإطلاع وإن كان الإسم مجهولاً .إذ يكفيهم
بينهم وبين الله أن يؤمنوا بوجود إمام يرجعون إليه في الأحكام والمشاكل. ولا يتوقف
ذلك على معرفة شخصه وإمكان الإتصال به عن طريق سفرائه.
وإذ يريد الإمام العسكري عليه السلام ان يثبت وجود ولده المهدي (ع) ، يختار من
مواليه وأصحابه من كان له صلابة في الإيمان وعمق في الإخلاص ،وبخاصة اؤلئك الذين
يربطون بينه وبين قواعده الشعبية وينقلون منه وإليه المراسلات والتوقيعات. فإنهم
خير من يستطيع أن يبلغ خبر ولادة الحجة المهدي إلى الجماهير الموالية للإمام (ع)
فإن هذه الجماهير تعرف سلفاً وثاقة هؤلاء الأشخاص وإيمانهم وإخلاصهم واعتماد الإمام
عليهم في الربط بينه وبينهم.
ومن ثم لن يفرق شيئاً على الفرد من القواعد الشعبية الموالية بين أن يرى الإمام
المهدي بنفسه أو يسمع عنه من أبيه ... وبين أن يبلغه وجوده محفوفاً بقرائن الإثبات
من قبل هؤلاء الأصحاب الموثوقين ... يستلم الفرد منهم الخبر كما يستلم الفتوى من
الإمام عليه السلام .
صفحة (281)
على اننا ستعرف أن الكثيرين من الأصحاب ، قد تيسرت لهم رؤيته. كان جملة من حاول
الوصول إلى المهدي عليه السلام في الغيبة الصغرى ، تيسر له ذلك .إذن فيكفي الفرد
الموالي أن يكثر السؤال من كثيرين ممن يعرف فيه التقدم والرسوخ في علاقته مع الإمام
العسكري عليه السلام ، وممن شاهد ولده المهدي (ع) من غيرهم ... ليحصل عنده التواتر
الموجب للعلم بوجود إمامه الثاني عشر . ولئن كان التواتر قد وصلنا من الطرق الخاصة
والعامة إلى هذا العصر .. فكيف في ذلك الزمن الذي كانت كل القرائن تدل عليه وكل
الأيدي تشير إليه ، وكان هم ابيه ووكلائه وأصحابه ... هو التأكيد على وجوده
والتبليغ عنه إلى كل صالح للتبليغ.
ولعل أوسع إعلان يقوم به الإمام العسكري بين أصحابه عن ولادة ابنه وإمامته من بعده
، ووجوب طاعته عليهم ، وانه عليه السلام قبل وفاته بأيام ، وقد كان مجلسه غاصاً
بأربعين من أصحابه ومخلصيه ، منهم محمد بن عثمان العمري ومعاوية بن حكيم ومحمد بن
ايوب بن نوح ..... يعرض عليهم ابنه عليه السلام ويقول: هذا امامكم من بعدي وخليفتي
عليكم .اطيعوه ولا تتفرقوا من بعدي فتهلكوا في اديانكم . ويضيف منبهاً لهم إلى ان
هذه هي فرصتهم الوحيدة في المهدي (ع) قائلاً: اما انكم لا ترونه بعد يومكم هذا(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) انظرإكمال الدين - نسخة مخطوطة.
صفحة (282)
ونجد أنه عليه السلام عرض على ولده وعلى اصحابه في اليوم الثالث من ولادته ،واعطاهم
المفهوم الصحيح الأساسي الذي أوكله الله تعالى إليه ،وعين لهم تكليفهم تجاهه بصفته
الإمام بعد أبيه .وقال لهم : هذا صاحبكم بعدي وخليفتي عليكم ..وهو القائم الذي تمد
إليه الأعناق بالإنتظار .فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً ، خرج فملأها قسطاً
وعدلاً.
فهذا وذاك هو الإعلان الرسمي الكبير الذي قام به الإمام العسكري عليه السلام ،على
طرفي المدة ، بعد الميلاد وقبل الوفاة ...لكي يكون هو الأساس الضخم لإقامة الحجة
تجاه القواعد الشعبية الموالية ، وكان خلال هذه المدة يعرضه على أشخاص بمفردهم حين
يزورونه. فمنهم: عمرو الأهوازي حيث أراه أبو محمد (ع) ولده المهدي (ع) وقال: هذا
صاحبكم(1).
ومنهم شخص آخر يزور الإمام عليه السلام ويريد أن يتأكد من وجود الإمام بعده قائلاً
: يا سيدي من صاحب هذا الأمر ، يعني الإمامة. فيأمره الإمام العسكري (ع) برفع ستر
كان مسبلاً على باب غرفة إلى جنبه ،فيرفعه الرجل فيخرج إليهم غلام يقدره الراوي
بعشر أو ثمان سنين، واضح الجبين أبيض دريّ المقلتين شثن الكفين معطوف الركبتين ، في
خده اليمن خال ،وفي رأسه ذؤابة . فيجلس على فخذ أبي محمد عليه السلام ، فيقول
الإمام للرجل هذا هو صاحبكم ، ثم وثب الغلام فقال له أبوه كيا بني ادخل إلى الوقت
المعلوم(2) يعني وقت ظهوره عجل الله فرجه.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإكمال المخطوط
(2) انظر الإرشاد ص329وص330 مكرراً.
صفحة (283)
ولا يخفى في تقدير الراوي لعمر المهدي عليه السلام ، لا ينافي من عرفناه من أن عمره
حين وفاة أبيه خمس سنين ، فإن هذا بحسب عدد السنين هو الصحيح ،وأما بحسب النظر إلى
نمو المهدي عليه السلام ونشاطه البدني ، فلا يمكن أن نستبعد أن يبدو في ظرف خمس
سنين أو أقل كابن ثمان سنين أو أكثر . وذلك انطلاقاً من أحد أساسين :
الأساس الأول: الميزان الطبي الطبيعي: فإنه من المشاهد وجداناً أن كثيراً من الناس
لا يمكنهم تقدير اعمارهم بشكل دقيق ، إذ يبدو للناظر أنهم أكبر من عمرهم الحقيقي
بعدة سنوات أو أصغر بعدة سنوات .
فإذا أضفنا إلى ذلك نشاطاً متزايداً وصحة موفورة لم نستبعد أن يبدو الصبي على ضعف
عمره الحقيقي ...حتى على الموازين الطبية الطبيعية .
الأساس الثاني : ما ورد في بعض رواياتنا من أن نمو الإمام المعصوم يكون عادة أسرع
من غيره . فمن ذلك ما ورد عن الإمام العسكري (ع) نفسه يقول: عن اولاد الأنبياء
والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم . وأن الصبي منا إذا كان أتى
عليه شهر كان كمن أتى عليه سنة .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر إكمال الدين المخطوط
(2) انظر إكمال الدين المخطوط.
صفحة (284)
ولعل بالإمكان ان نفسر هذا الأساس الثاني بالأساس الأول أيضاً ، والله العالم .
وممن عرضه عليه الإمام العسكري عليه السلام ، رجل من أهل فارس قصد الإمام عليه
السلام لتشرفه بخدمته .فأذن له الإمام بذلك ، فكان مع الخدم يشتري لهم الحوائج من
السوق .وبقي على هذه الحال حتى أصبح خاصاً وارتفعت الكلفة بينه وبين الإمام ..فكان
يدخل الدار من دون استئذان إذا لم يكن فيها إلا الرجال.
وبينما هو داخل عليه في يوم من الأيام ، والرجال عنده ، إذا سمع حركة في البيت -
يعني الغرفة - .وناداه الإمام: مكانك لا تبرح . يقول : فلم أجسر أخرج ولا أدخل
.فخرجت عليّ جارية معها شيء مغطى .ثم أن الإمام ناداه وأمره بالدخول فدخل الغرفة
.فنادى الجارية فرجعت ، فأمرها الإمام ان تكشف ما معها ، فكشفت عن غلام أبيض حسن
الوجه، قدره الراوي بسنتين .وقال الإمام : هذا صاحبكم .ثم أمر الجارية فحملته فلم
يره بعد ذلك حتى توفي الإمام العسكري أبو محمد صلوات الله عليه(1).
فنرى هذا البواب بالرغم من ملازمته للدار ودخوله من دون استئذام أحياناً ..لم يفهم
بولادة الإمام المهدي عليه السلام ولم يحس بتجدد أي امر جديد في الدار .واكتفى
الإمام العسكري (ع) بعرضه عليه مرة واحدة كما هو الشأن مع جملة أصحابه وخاصته .بل
حتى لو فرضنا أن هذا البواب قد ورد إلى خدمة الإمام (ع) بعد ميلاد ولده عليه السلام
، فإنه أيضاً لم يفهم به إلا في اليوم الذي شاء له الإمام ذلك .
ـــــــــــــــــــ
(1) أنظر الإكمال المخطوط .وأوصول الكافي ( مخطوط)
صفحة (285)
وهذه الرواية وإن كان المفهوم السطحي منها يدل على اختصاص الرؤية بهذا البواب ،
لكننا لو دققنا النظر نجد ان الرجال الذين كانوا عند الإمام والجارية التي جاءت
بالمهدي (ع) كلهم قد شاهدوه بطبيعة الحال . وإن كان الراوي ناقلاً للقصة من زاويته
الخاصة .
وممن عرضه الإمام العسكري عليه رجل من أصحابه يقول: رأيت صاحب الزمان عليه السلام
ووجهه يضيء كالقمر ليلة البدر ، ورأيت على سرته شعر يجري كالخط ، وكشفت الثوب عنه .
فوجدته مختوناً .فسألت أبا محمد (ع) عن ذلك فقال : هكذا ولد وهكذا ولدنا ، ولكننا
سنمر الموس عليه لإصابة السنة(1) ، يشير بذلك إلى أن القانون العام في الأئمة عليهم
السلام أن يولدوا مختونين ..ولكن السنة الإسلامية في الختان لا ينبغي أن تتخلف عن
أحد . فلا بد من إمرار الموس عليه تحفظاً على شكل الختان ، وعلى التعليم الإسلامي
العام.
ومن هنا تعرف أن هذه الرؤية كانت قبل امرار الموسى ، وهو ما يستحب عمله في الإسلام
في اليوم الثالث أو السابع من حياة الطفل .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإكمال المخطوط.)
صفحة (286)
وممن عرضه الإمام العسكري (ع) من أصحابه :أحمد بن اسحاق بن سعد الأشعري ،وهو من
خاصة الإمام وتقاته ، وأعطاه الفكرة الواعية الصحيحة عن غيبة الإمام المهدي ،
وافهمه عدة براهين عن إمكان الغيبة وصحتها ، ومجال البحث والتدقيق في هذه البراهين
ليس هو هذا الكتاب ، بعد أن مقتصراً على الجهة التاريخية للإمام المهدي عليه السلام
، ولعلنا نستقصي الكلام فيها في بحث مقبل.
وعلى أي حال فإن احمد بن اسحق يقصد زيارة الامام عليه السلام يريد ان يساله الخلف
من بعده ... ومن يتولى الامامة بعد وفاته ويضطلع بشؤون الأمة عند ذهابه إلى ربه،
فيدخل على الإمام، فيقول له الإمام مبتدئاً: يا احمد بن اسحق ان الله تبارك وتعالى
لم يخل الارض منذ خلق آدم عليه السلام ولا يخليها إلى ان تقوم الساعة ، من حجة على
خلقه ، به يدفع البلاء عن اهل الارض وبه ينزل الغيث وبه تخرج بركات الارض.
قال: فقلت: يا ابن رسول الله .فمن الامام والخليفة بعدك؟
فينهض الامام عليه السلام مسرعاً ويدخل احدى الغرف ، ثم يخرج وعلى عاتقه غلام كان
وجهه القمر ليلة البدر .من ابناء ثلاث سنين .
ثم يقول: يا أحمد بن اسحاق لولا كرامتك على الله عز وجل وعلى حججه ما عرضت عليك
ابني هذا .إنه سمى رسول الله صلى الله عليه وآله وكنيه(1) الذي يملأ الأرض قسطاً
وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً.
يا أحمد بن اسحق ، مثله في هذه الأمة مثل الخضر عليه السلام ،ومثله مثل ذي القرنين
.والله ليغيبن غيبة لا ينجو فيها من الهلكة إلا من ثبته الله عز وجل على القول
بإمامته ووفقه الله للدعاء بتعجيل فرجه.
ـــــــــــــــــــ
(1) أي أنه متحد معه (ص) في الأسم والكنية .
صفحة (287)
قال احمد بن اسحق : فقلت : يا مولاي فهل من علامة يطمئن بها قلبي .فنطق الغلام عليه
السلام بلسان عربي فصيح ، أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه ، ولا تطلب
أثراً بعد عين ، يا أحمد بن اسحق.
قال أحمد بن اسحق: فخرجت مسروراً ، فلما كان الغد عدت إليه ، فقلت له: يا ابن رسول
الله ، لقد عظم سروري بما مننت علي فما السنة الجارية من الخضر وذي القرنين ، قال:
طول الغيبة يا احمد . قلت : يا رسول الله : إن غيبته لتطول. قال: أي وربي حتى يرجع
عن الأمر وأكثر القائلين به ، فلا يبقى إلا من أخذ الله عز وجل عهده بولايتنا وكتب
في قلبه الإيمان وأيده بروح منه . يا احمد بن اسحق هذا أمر من أمر الله وسر من سر
الله وغيب من غيب الله ، فخذ ما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين ، تكن معنا في عليين.
وفاة الإمام العسكري (ع):
وإذ يؤدي هذا الإمام الممتحن الصابر مسؤوليته التامة تجاه دينه ومجتمعه وولده ،
يريد الله تعالى أن يلحقه بالرفيق الأعلى ..وذلك عام 260 للهجرة ... حيث اعتل عليه
السلام في اول يوم من شهر ربيع الأول من ذلك العام (1) ولا زالت العلة تزيد فيه
والمرض يثقل عليه حتى توفي في الثامن من الشهر.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص325والمناقب ص524 ج3.
صفحة (288)
ويتوفى سلام الله عليه، عن تسع وعشرين سنة من العمر ، وقد سبق أن ذكرنا أن الغالب
في البشر أن يكون الفرد في مثل هذا العمر في أوج الصحة والقوة ، فما الذي أودى بهذا
الإمام الممتحن الصابر في زهرة شبابه ، غير العمل التخريبي من قبل الجهاز الحاكم ،
ولم يكن ينقل عنه ضعف في المزاج أو اعتلال سابق في الصحة أو مرض وراثي ، ولا أي شيء
غيره.
وبمجرد أن يعتل الإمام عليه السلام يصل الخبر إلى الوزير عبيد الله بن يحيى بن
خاقان ، الذي رأينا الإمام (ع) يزوره في بعض الأيام فيحتفي به حفاوة بالغة .ويقول
لولده أحمد حيث سأله عنه :يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها
أحد من بني هاشم غيره.
وهنا تنتصب أمامنا همزة استفهام كبيرة ...في سبب الوصول السريع لهذا الخبر إلى
الوزير .ربما كان ذلك إنتشار الخبر في المجتمع باعتبار شعور المجتمع بالأسف تجاه
مرض الإمام عليه السلام .وربما كان عن طريق ما لديهم من العيون والمخبرين المنتشرين
بين أفراد الشعب المطاردين للإمام ومواليه .وربما كان الإطلاع الوزير على سبب مرضه
باعتباره ناشئاً من الجهاز نفسه، وهو إلقاء السم إليه من قبل بعض المجرمين من
محسوبي الدولة ، والذي يبعد الإحتمالين الأولين ما عرفناه من انعزال الإمام
واحتجابه حتى من مواليه وجملة من أصحابه فضلاً عن عيون الدولة ومخبريها ..
صفحة (289)
فكيف يصل الخبر بمثل هذه السرعة الى الوزير ، ما لم يتحقق الإحتمال الثالث ، وهو
علم الوزير بالسبب ،ومن هنا نراه يعرف ويجزم أن الإمام يشرف على الموت، ولا يبدي
احتمالاً في شفائه ، وإنما يعيّن له الجماعة التي تلازمه وترقب ساعة موته . فلو لم
يكن يعرف السبب لفكر باحتمال شفائه ولو باعتباره شاباً قوي البنية لا تؤثر فيه
الأمراض عادة.
وعلى أي حال ، فهو يركب من ساعته الى البلاط ..دار الخلافة ..لكي يخبرالخليفة بمرض
الإمام (ع) ويستصدر منه الأمر بتعيين جماعة من خدمه الثقات لديه للإشراف على حال
الإمام ومراقبته في صورة القيام بخدمته وتنفيذ حاجاته ، وهكذا كانت السياسة
العباسية تجاه الإمامين العسكريين ،وكان الإكرام والإعظام يستبطن دائماً قصد
المراقبة والمطاردة والتنكيل .وقد رأينا ذلك من المتوكل تجاه الإمام الهادي عليه
السلام ، بكل وضوح ،ونراه بوضوح الآن أيضاً.
ثم يرجع الوزير مستعجلاً ، ومعه خمسة من خدم المعتمد كلهم من ثقاته وخاصته، منهم
نحرير الخدم. ومن نحرير هذا! أنه الذي تولى سجن الإمام عليه السلام في يوم من
الأيام ، وكان يضيق عليه ويؤذيه، وحلف: والله لأرمينه إلى السباع .
ويأمرهم الوزير بلزوم دار الحسن عليه السلام وتعرف خبره وحاله، فإن الإمام في مثل
هذا الحال يحتاج إلى الرعاية الدائمة والدولة تحتاج إلى الإتصال الدائم بإخباره
ومعرفة ساعة وفاته .وتحتاج إلى معرفة أمر آخر ..أعمق من ذلك وأعقد .. وهو السر
العميق الذي لا زال الإمام(ع) يحافظ على كتمانه خمسة أعوام متطاولة ....وهو وجود
ولده المهدي (ع).
صفحة (290)
فلعل بقاء الخدم الخمسة في الدار ومرابطتهم الدائمة فيها .. تنتج ولو صدفة - إطلاع
أحدهم على أي تصرف مريب أو على أي همزة للإستفهام تدل الطريق على الإمام المهدي
عليه السلام.. والدولة كما عرفنا ، لم تكن مطلعة إلى ذلك الحين على ولادته ..ولكنن
قلنا أنها كانت تعرف الحق ، وتعترف في دخيلة ضميرها بصدق الإمام ..فهي تتوقع - بكل
وضوح- إنجاب الإمام العسكري (ع)) للمهدي وها قد أوشكت حياته على الإنتهاء ، ولم
يبلغها وجود ولده ،إذن فهي تحاول جاهدة أن تعرف ..وأن تنسم الهواء .وأن تتشمم
الأنباء عن ذلك بكل طريق .
وبعث الوزير إلى نفر من المتطببين ، فأمرهم بزيارته وتعهده صباحاً ومساءً .إلا أن
طبهم لم يكن مجدياً ورأيهم لم يكن حصيفاً ...ولعلهم لم يباشروا العلاج بشكل حقيقي
يتوقع ممه الشفاء ، فإنه لم يمر إلا يومين أو ثلاثة حتى أوصلوا الخبر إلى الوزير
بأن الإمام قد ضعف وأن حاله قد ثقل ..فأمر هؤلاء الأطباء بملازمة داره وعدم
مغادرته.
وبعث إلى قاضي القضاة ،وهو على ذلك الحين : الحسين بن أبي الشوارب الذي تولى هذا
المنصب منذ عام 252هـ(1) فأحضره إلى مجلسه فجاءه ابن أبي الشوارب ، فأمر الوزير ان
يختار عشرة ممن يوثق بدينه وورعه وأمانته ... فاختارهم له وأحضرهم.
ـــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص334
صفحة (291)
فأرسلهم الوزير إلى دار أبي محمد الحسن عليه السلام ..حيث الإمام المريض(ع) وأمرهم
بملازمته ليلاً ونهاراً. إذن فقد أصبح عدد الملازمين له - سوى الأطباء - خمسة عشر
نفراً من قبل الدولة ، وكلهم في حالة مراقبة وإنصات وتأهب ، ويبقون ملازمين له حتى
يتوفى عليه السلام.(1)
ولكن وجود هؤلاء القوم في الدار ، لم يمنع الإمام من أن يتفرغ في ليلة وفاته في
إحدى غرف الدار ، لأجل كتابة عدد كبير من الكتب إلى المدينة ... وأن يرسل رسولاً
إلى المدائن بكتبه ..كل ذلك لأجل حفظ عدد من المصالح الأجتماعية والتخطيط لها إلى
ما بعد وفاته عليه السلام.
وإذ يطلع الفجر من اليوم الثامن من ربيع الأول ، لا يكون ساعتئذ معه في الغرفة إلا
صقيل الجارية ، وهي نرجس أم المهدي عليه السلام ،وعقيد الخادم ،وهو من خدم الإمام
عليه السلام - تقول الرواية -: من علم الله عز وجل غيرهما .تشير إلى وجود ولده
المهدي عليه السلام أيضاً معهم .
فيأمر الإمام عليه السلام أن يؤتى بماء مغلي بالمسطكي ، فجاؤا به في قدح .فيقرر
الإمام البدء بأداء الصلاة أولاً ..ويأمرهم بأن يساعدوه .فجاؤا له بمنديل وبسطوه في
حجره لأجل الوضوء .فيأخذ عليه السلام من صقيل الماء ويتوضأ ويصلي صلاة الصبح على
فراشه ...
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص319
صفحة (292)
وإذ ينتهي من الصلاة يأخذ القدح لكي يشرب ، فيستولي عليه ضعف المرض ، فترتجف يده ،
ويضرب القدح ثناياه مع حركة اليد الرتيبة ،ولم يستطع أن يستمر بالشرب ،فتأخذ صقيل
القدح من يده .فيستلقي ويسلم الروح من ساعته صلوات الله عليه(1).
وبذلك نفهم أن الإمام استطاع بطريقته في الإخفاء والرمزية ، وبلبلقته الإجتماعية
..أن يقضي الرجال الخمسة عشر، عن مجاوراته ويحجبهم عن أموره الخاصة، فيكمل ما ينبغي
أن يقوم به من أعمال قبل أن تدركه المنية ، ثم يتوفى بمعزل عنهم.
وإذا كان هذا النشاط الذي قام به ، قد خفي عليهم ، فمن الأولى والأوضح أن يخفقوا في
مهمتهم الأساسية..، يبقى ما هو أهم في الإخفاء وأعمق في عور الإبهام عليهم .. وهو
وجود المهدي عليه السلام ..يبقى في حجابه وخفائه .. لم يستطيعوا أن يجدوا له أي أثر
أو يقعوا على ما يؤدي إليه أو يدل عليه.
وبمجرد أن يذاع خبر وفاته في سامراء ،وهي البلدة التي يؤمن كل من فيها بأن الإمام
خير من فيها علماً وزهداً وعبادة ونسباً ، لا يختلفون في ذلك باختلاف مناصبهم
وأعمالهم باختلاف ولائهم وعدائهم .فمن الطبيعي لهذه البلدة وهي تفقد هذا الرجل
العظيم أن تضج ضجة واحدة ، وإن تعطل أسواقها ، وأن يجتمع الناس للشهادة والسير في
جنازة الإمام عليه السلام .حتى كان ذلك اليوم شبيها ً بيوم القيامة وركب بنو هاشم
والكتاب والقضاة والمعدلون إلى جنازته وتجهيزه .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإكمال ( المخطوط)
صفحة (293)
وإذ يفرغون من تهيئته وتجهيزه، يبعث الخليفة المعتمد إلى أخيه أبي عيسى بن المتوكل
، فيأمر بالصلاة عليه. فلما وضعت الجنازة للصلاة عليه ، دنى أبو عيسى منه ، فكشف عن
وجهه ، فعرضه على الحاضرين من بني هاشم من العلويين والعباسيين والقواد والكتاب
والقضاة والمعدلين وقال - ما أطرف ما قال - هذا الحسن بن علي بن الرضا عليهم
السلام ، مات حتف أنفه على فراشه .
وحضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ، ومن القضاة فلان وفلان ومن
المتطببين فلان وفلان . ثم غطى وجهه وصلى عليه وأمر بحمله.
إن ذهن الجهاز الحاكم ، المتمثل الآن بأبي عيسى بن المتوكل ، مشحون بالتوجس والحذر،
مما يرونه مرتسماً في أذهان الناس بوضوح ، وإن لم تصرح به الأفواه ،وهو التهمة
للجهاز الحاكم بأنه هو الذي سبب موت الإمام عليه السلام بشكل أو آخر ، لأنه كان
يمثل دور المعارضة الصامدة الصامتة ضده .ولعلنا نستطيع الآن أن نلمس اللاعج الكبير
الذي يختلج في ذهن الجهاز الحاكم بعد أن أجهز على الإمام فعلاً وتسبب إلى موته
حقيقة ..إنه يريد - بأي طريق - أن يبقى هذا الأمر في غاية الخفاء ،وأن يبقى ثوبه ،
على المستوى العام ..
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص320
صفحة (294)
أبيض نقياً من دم الإمام عليه السلام حتى لا يبوء بلعنة التاريخ وانتقام الأمة
،والمثل يقول : يكاد المجرم أن يقول خذوني انظر إلى الأسلوب الطريف الذي نفيت به
هذه التهمة إن الدولة تستخدم شخصيتها وقوتها في (الفتوى) بنزاهتها، أمام هذا الجمع
الغفير، وتتخذ من سكوت الجمع دليلاً على الموافقة. متغاضية عن أن شخصاً من هؤلاء لا
يمكنه ، بأي حال ، أن يفتح فاه بأي اعتراض أو استنكار ، وإلا سيكون مصيره معروفاً
لدى لجميع.
والأطرف من ذلك ، أن جميع الحاضرين ،وكل المجتمع متسالمون على ذلك في نفوسهم ،
ويعلمون شأن هذه (الفتوى) إلا إنها الأسلوب الغريب الذي تلجأ إليه السلطات رغم كل
ذلك .
وكانت هناك صلاة أخرى ...خاصة.. قد صليت على الإمام قبل ذلك في داره ...بعيداً عن
المستوى الرسمي العام الذي سمعناه .. بين أصحابه ومواليه.
وهنا تبرز شخصية جديدة لم تكن قد برزت في التاريخ لحد الآن ، هي شخصية (جعفر بن
علي) أخو الإمام العسكري وعم الإمام المهدي عليهما السلام ..وهو الذي سيكون له
الأثر السيء في إثارة السلطة على عائلى الإمام عليه السلام على ما سوف نسمع في
مستقبل الحديث.
يرى جعفر ان الإمام العسكري(ع) سوف لن يكون له خلف ظاهر ورريث واضح ، إذن فهناك
فرصة موسعة للإصطياد بالماء العكر .
صفحة (295)
ولا بد - في نظره - من استغلال هذه الفرصة للوصول إلى التزعم على القواعد الشعبية
الموالية لأخيه ، واستقطاب الأموال التي كانت ولا تزال تحمل إليه من أطراف البلاد
الإسلامية ،والحصول على إرث أخيه العسكري عليه السلام . ويتم كل ذلك بإدعاء الإمامة
بعد أخيه .. وأول مستلزمات ذلك وأقربها هو أن يباشر الآن الصلاة عليه.
ومن ثم نجد الإمام العسكري (ع) بعد وفاته ، وقبل إخراجه للجمهور ، مسجى في داره
.وجعفر بن علي واقف على باب الدار يتلقى من موالي أخيه التعزية بالوفاة والتهنئة
بالإمامة ،وهو مرتاح له كأنه هو الوضع الطبيعي. ولا يخفى أن إجمال الفكرة في أذهان
هؤلاء من حيث وجود ولد عند الإمام وعدم وجوده ..ساعد على هذا الإيهام إلى حد كبير
.وقد عرفنا أن الظروف القاسية التي عاشها الإمام عليه السلام لم تكن مساعدة بأي حال
على إيضاح الفكرة وإبلاغ المفهوم إلى سائر القواعد الشعبية في العاصمة وغير العاصمة
.
ولكنا سنسمع بعد قليل مخطط جعفر بن علي قد مات في مهده ولم يكتب له النجاح .واستطاع
الإمام المهدي أن يستقطب عواطف وقيادة مواليه ..أما مباشرة أو عن طريق نوابه
وسفرائه على ما سنعرف.
صفحة (296)
وبعد قليل يخرج عقيد الخادم ، الذي سمعنا اسمه في حادثة الوفاة . ويقول له : يا
سيدي قد كفن أخوك ، فقم للصلاة عليه فيدخل جعفر ويدخل جماعة من الشيعة يقدمهم عثمان
بن سعيد العمري المعروف بالسمان ، الذي سيصبح النائب الأول للإمام الغائب فيرون
الإمام العسكري صلوات الله عليه على نعشه مكفناً .فتقدم جعفر بن علي ليصلي على
اخيه.
وإذ صلى جعفر ، فقد اكتسب في نظر المجتمع بعض الحق ،ووضع لبنة أساسية في مخططه ،
وحصل على سابقة قانونية يمكنه أن ينطلق منها للتغرير بجماهير الموالين ،وهو ما لا
يمكن أن يحدث مع وجود الإمام المهدي (ع) وقدرته على الأخذ بزمام المبادرة لدفه هذه
الشبهة ، ورفع البدعة ،وإنقاذ مواليه من التورط بغير الحق من حيث لا يعلمون.
إذن فلا بد أن يبادر الإمام المهدي (ع) إلى منع عمه عن الصلاة على الإمام (ع)
ويحرمه من هذه ( السابقة القانونية)، ويجوز هذه السابقة لنفسه ،وهو أحق بذلك
..لكونه الإمام بعد أبيه والوريث الشرعي له .ومن ثم يشاهد الواقفون صبياً يخرج
بوجهه سمرة بشعرة قطط بأسنانه تفليج ، فيجذب رداء جعفر بن علي ويقول له: تأخر يا عم
، فأنا أحق بالصلاة على أبي . فيتأخر جعفر ، من دون مناقشة، وقد اربد وجهه وعلته
صفرة ، ويتقدم الصبي عليه السلام ، ويصلي على أبيه(1).
ـــــــــــــــــــ
(1) إكمال الدين (المخطوط)
صفحة (297)
لاحظ معي ... أنه كان في إمكان المهدي (ع) أن يصلي على جثمان أبيه في الخفاء قبل أن
يدعي جعفر للصلاة عليه ...لكي تبقى صلاة جعفر بن علي هي الصلاة الرسمية على المستوى
الخاص ..إلا أن هذا هو الذي لا يريده المهدي ، ويحاول التأكيد على نفيه و(إقامة
الحجة) ضده.
انظر الآن ..أن من جملة الواقفين إن لم يكن أكثرهم ، هو ممن هنى جعفر لإمامة قبل
لحظات ..يرى الآن بأم عينه فشل جعفر ، وتتضح أمامه بدعته ومغالطاته ،وسوف يكون كل
فرد لساناً في نقل ما راى من الحق إلى الآخرين ...فقد كان ذلك بمنزلة الإعلان العام
من قبل الإمام المهدي (ع) في فضح مخطط عمه وإحباط مقصوده.
وكان جعفر ليناً في تأخره عن الصلاة ..بالرغم من اصفرار وجهه، أسفاً على فشل مخططه
،وخجلاً من هؤلاء الحاضرين الذين تقبل منهم التهنئة بالإمامة، من دون أن ينفيها عن
نفسه ..إنه على أي حال ، لا يستطيع مكافحة الحق الراسخ في ضمير الأمة، بسنة رسول
الله (ص) وجهود الإمام العسكري (ع) ..فإنه سيفتضح إن فعل ذلك ..أكثر مما هو عليه
... وسوف لن يرى إلا الإشمئزاز والإزورار من القواعد الشعبية التي يتوقع منها
التأييد.
وعلى أي حال ، فبعد أن تنتهي هذه الصلاة الخاصة، يحمل جثمان الإمام عليه السلام
للجمهور لكي تصلى عليه صلاة أخرى (رسمية!) ويتم تشييعه وحمله إلى مثواه الأخير ،
وقد دفن إلى جنب أبيه الهادي عليهما السلام.
صفحة (298)
جعفر بن علي
يحسن بنا الآن ان نستعرض بإيجاز سوابق جعفر بن علي وماضيه حتى يتضح لنا التحديد
التام لموقفه ، وما سيقوم به من نشاط .
وأول ما يواجهنا من ذلك ، موقف أبيه الإمام الهادي عليه السلام منه ، في اول ولادته
، حيث نرى ان العائلة كلها سرت بولادته سوى أبيه (ع) فسألته امرأة في ذلك .فقال :
هوني عليك وسيضل به خلق كثير(1).
ولما ترعرع وشب انحراف عن تعاليم الإسلام وعن توجيه والده وإمامه عليه السلام
،واتخذ طريق اللهو وشرب الخمر والمجون تأثراً بهذا الخط المنحرف الذي كان يعيش على
موائده الكثيرون في تلك العصور .
ومن ثم نرى والده عليه السلام يأمر أصحابه بالإبتعاد عن جعفر وعدم مخالطته ، معلماً
إياهم بأنه خارج عن تعاليمه عاصي لأمره ونهيه .وكان يقول لهم : تجنبوا ابني جعفراً
، فإنه مني بمنزلة نمرود من نوح الذي قال الله عز وجل فيه :قال نوح :إن ابني من
أهلي :قال الله : يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح (2) فإن المنطق القرآني
، قائم على ان الوالد إذا كان مقتفياً خطى والده في اتباع الحق فهو ولده على
الحقيقة .وأما إذا كان زائغاً عن الحق منحرفاً عن طريق العدل ...فهو وإن كان
مولوداً منه ، لا أنه ليس من أهله ، لأنه عمل غير صالح.
ـــــــــــــــــــ
(1) كشف الغيبة ج3 ص175
(2) انظر تاريخ سامراء ج2 ص251. نقلاً عن مدينة المعاجر.
صفحة (299)
وهذا بعينه هو حال الإمام الهادي عليه السلام مع ابنه جعفر .
وأصبح هذا المسلك معروفاً عنه مشهوراً فيه ، حتى لنرى أن أحمد بن عبيد الله بن
خاقان ، الذي يروي اجتماع والده بالإمام العسكري عليه السلام ، نراه إذ سألوه عن
جعفر يقول : ومن جعفر فيسأل عن خبره أو يقرن بالحسن (ع) . جعفر معلن بالفسق فاجر
شريب خمور.
أقل من رأيته من الرجال ،واهتكهم لنفسه ، خفيف ، قليل في نفسه (1). ونرى أبا
الأديان حين رأى حعفر يهني بالإمامة - كما سمعنا - يقول في نفسه : إن يكن هذا
الإمام فقد بطلت الإمامة ، ويضيف لأني كنت أعرف بشرب النبيذ ويقام في الجوسق -:
القصر - ويلعب بالطنبور(2).
ولكنه بالرغم من ذلك ، كان يحاول اخوه الإمام العسكري عليه السلام جهد الإمكان ،
الستر عليه والتخفيف من انحرافه .وذلك : باستصحابه معه تارة ،وبالتوسط لدى السلطات
تارة أخرى ،وهكذا .
إلا أن ذلك لم يكن مفيداً في كفكفة جماح جعفر أو التخفيف من إنحرافه .
فقد سمعنا في فصل تاريخ الإمام العسكري عليه السلام أنه يدخل على اصحابه في السجن
لأجل أن يبشرهم بموعد خروجهم ، ويدلهم على رجل كان عيناً للسلطات ضدهم ،وكان معه
أخوه جعفر.(3)
ـــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد ص319. (2) أنظر إكمال الدين ( المخطوط)
(3) أعلام الورى ص354
صفحة (300)
وقد كانا معاً مسجونين في عهد المعتمد ، فيرسل المعتمد رسولاً إلى السجن لأجل إبلاغ
الإمام العسكري سلامة ولإطلاق سراحه .وحين يصل الرسول يجد على الباب حماراً ملجماً
والإمام قد لبس خفه وطيلسانه ، فأدى له الرسالة .يقول الراوي :فلما استوى على
الحمار ، وقف .
فقلت له: ما وقفك يا سيدي. فقال لي: حتى يجيء جعفر .فقلت: إنما أمر بإطلاقك دونه
.فقال له: ترجع إليه فتقول له : خرجنا من دار واحدة جميعاً ، فإذا رجعت وليس هو معي
،كان في ذلك ما لا خفاء به عليك.
فمضى الرسول وعاد يقول المعتمد :قد أطلقت جعفراً لك ، لأني حبسته بجنايته على نفسه
وعليك ،وما يتكلم به ، فخلى سبيله فصار معه على داره(1).
وكل ذلك لم يكن يؤثر في جعفر، في شدة انحرافه وقوة اندفاعه ، ونراه أنه بمجرد أن
يرى أخاه قد أسلم الروح ، يتصدى للإصطياد بالماء العكر، واستغلال الموقف بالشكل
الذي يحرز به الزعامة وجباية الأموال ..لولا أن الله تعالى أتم نوره ولو كره
المنحرفون.
ويستفاد من الأخبار، ان لهذا لرجل ، بصورة رئيسية ، ثلاث نشاطات منحرفة مضادة للحق
وللإمام المهدي عليه السلام .
ـــــــــــــــــــ
(1) ناريخ سامراء ج2 ص256)
صفحة (301)
أولاً : ادعاؤه الإمامة بعد أخيه الحسن بن علي العسكري عليهما السلام ،وقد توسل إلى
ذلك بوسائل منها :ما سمعناه من محاولته الصلاة على أخيه .ومنها ما سنسمعه من توسطه
عند الدولة في ان تجعل له مرتبة أخيه في الزعامة على القواعد الشعبية الموالية .وقد
باء في كلتا لمحولتين بالفشل الذريع.
ثانياً: إنكاره وجود الوريث الشرعي للإمام العسكري (ع) ،ومن ثم ادعاؤه استحقاق
التركة ، واستيلاؤه عليها بإذن من السلطات الحاكمة .وسنجد أن الإمام المهدي عليه
السلام يقف بنفسه ضد هذا النشاط بشكل لا ينافي مع غيبته الصغرى.
ثالثاً:إنه حين يسمع الإحتجاج عليه ، يوعز إلى الدولة باحتمال وجود المهدي (ع) ،
فتتجدد في قلبها الشجون، وتبدأ سلسلة من المطاردات والإعتقالات على ما سوف يأتي
،وتنتهي الحملة بإضطهاد الموجودين من عائلة الإمام العسكري عليه السلام ، وعدم
العثور على الإمام المهدي عليه السلام.
وهذا هو الذي عبر عنه في الأخبار يكشف ما أوجب الله عليه كتمانه وستره.
ونحن لا بد أن نسير مع كل واحد من هذه النشاطات ، لنرى مخطط جعفر بن علي ونتائجه
،واسلوب وقوف المهدي (ع) ضده .
ادعاؤه الإمامة بعد أخيه:
وقد ساعدت عدة أمور على تخطيط هذا الإدعاء ، أو تخيلها جعفر مساعدة له:
الأمر الأول: ما قلناه من خلو الجو على الصعيد الإجتماعي من منافس ظاهر مطالب بحقه
بين الناس ،وإذا خلا الجو للقبرة كان لها أن تبيض وتصفر ، وللمنحرف أن يصطاد بالماء
العكر.
صفحة (302)
الأمر الثاني: ما قلناه أيضاً من إجمال فكرة وجود المهدي (ع) وولادته فعلاً ، في
أذهان الناس .الأمر الذي ساعد عليه ما عرفناه من عدم تمكن الإمام العسكري عليه
السلام من الإعلان الإجتماعي العام عن وجود ولده ..،كان يوصي كل من يعرضه عليه
بالكتمان ووجوب الستر والسكوت.
الأمر الثالث: ما حاول جعفر من الصلاة على أخيه ، باعتبار أنها تعطيه (سابقة
قانونية) يستفيد منها اجتماعياً في إدعائه للإمامة . لأن المفروض أنه لا يصلي على
الإمام إلا وريثه الشرعي أو الإمام الذي بعده ، على ما نطقت به بعض الأخبار .
الأمر الرابع : توسطه إلى الدولة ، لكي تجعل له مثل مقام أخيه في شيعته ، بإزاء مال
سنوي يدفعه إليها مقابل عشرين ألف دينار (1).
انظر إلى مقدار الربح الذي يتوقعه جعفر حين وصوله إلى هدفه وتوليه الإمامة المزعزمة
..بحيث يستطيع أن يتحمل بها مثل هذه الغرامة السنوية الكبيرة .
وهذا يفسر لنا لإطلاعه على مقادير الأموال التي كانت تصل من أطراف العالم الإسلامي
إلى أبيه وأخيه، وتقديره للموقف من هذه الناحية تقديراً حسناً.
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص320 وغيره.
صفحة (303)
أنه يشعر بذلك ويريد أن يستفيد منه لمصالحه الخاصة ، من دون أن ينظر بعينه للمصادر
التي كان أبوه وأخوه عليهما السلام يصرفان فيها هذه الأموال، والمشاريع والمساعدات
الإجتماعية التي كانا يقومان بها ، مما سمعنا طرفاً منه فيما سبق .
وقد باءت كل هذه الأمور بالفشل ، بسبب عدة عوامل استطاعت أن تحول ضد نجاحها
واستشراء نتائجها:
العامل الأول:
كونه مشهوراً بالفسق واللهو والمجون .. وقد سمعنا تعليق أحدهم وهو يرى جعفراً يهنأ
بالإمامة، بقوله: إن يكن هذا هو الإمام ، فقد بطلت الإمامة.
ومن المعلوم أن جميع أفراد المجتمع ،وخاصة القواعد الشعبية الإمامية ، يدركون أن من
أوليات وواضحات سلوك الإمام هو السلوك الصالح والخلق المثالي الرفيع ...كذلك
اعتادوا من الإمامين العسكريين عليهما السلام وآبائهما عليهم السلام . وأما مع خلاف
ذلك ، فمن غير المحتمل تقليد الفرد للإمامة بأي حال من الأحوال. وهو ما أشار إليه
القرآن الكريم في قوله تعالى لإبراهيم الخليل عليه السلام: قال:"إني جاعلك للناس
إماماً .قال: ومن ذريتي .قال: لا ينال عهدي الظالمين"(1).والإنحراف الذي كان عليه
جعفر هو الظلم بعينه ، إذن فهو لا ينال عهد الله بالإمامة .
ـــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة 2-124
صفحة (304)
العامل الثاني: إن الموقف أصبح مختلفاً اختلافاً كبيراً في الزمان المتأخر عن وفاة
الإمام العسكري عليه السلام ، عما كان عليه ساعة وفاته حين تمكن جعفر أن يتلقى
التهاني بالإمامة .
فالموقف في تلك الساعة ، وإن كان صعباً ومعقداً ، حتى أن السمان وهو عثمان بن سعيد
الذي سيصبح الوكيل الأول للحجة، وعقيد الخادم الذي رأيناه يحضر وفاة الإمام العسكري
عليه السلام ..لم يكن لهما رأي أو مناقشة في صلاة جعفر على اخيه ، بالرغم مما
يعلمان به من وجود الامام المهدي عليه لسلام .
ومهما تكن وجهة نظرهما آنئذ ،فان الموقف اصبح ينكشف والطريق يتعبد ،كلما تقدم
الزمان ،بفضل جهود العاملين في سبيل اعلاء راية الحق ،وعلى راسهم الوكيل الاول
عثمان بن سعيد نفسه. فأننا وان فهمنا ان الفكرة كانت مجملة في اذهان الجمهور العام
..إلا ان الصفوة المختارة التي عرض عليها الامام العسكري عليه السلام ولده ،وهم
اكثر من خمسين ،كانت لا تزال في الوجود متحمسة للدفاع عن قضيتها ضد أي انحراف. يضاف
اليهم من يشاهد الحجة المهدي (ع) في غضون هذا الزمن ومن يصل اليه توقيعاته في قضاء
حاجاته الشخصية والاجتماعية ..وهم عدد ضخم لا يستهان به.
وأول من فتح الباب لإتضاح هذا الطريق هو الحجة المهدي (ع) حين بادر إلى منع عمه من
الصلاة على الإمام عليه السلام ،امام جماعة من مواليه ،كان جملة منهم قد هنأ جعفراً
بالإمامة وقد رأينا جعفراً لم يمانع في تأخره عن الصلاة.
صفحة (305)
وإن نفس وقوع الجدل بين الموالين ..في إمامة جعفر والمحاولات الجاهدة لإحباط خططه
من قبل المخلصين ، ليتمخض شيئاً فشيئاً عن وضوح الفكرة وانجلاء الغمامة الذهنية عن
العموم.
العامل الثالث: البيان الذي اصدره الإمام المهدي عليه السلام بنفسه، في نفي إمامة
عمه، والتأكيد على بطلانها والبرهنة على كذبها.
وذلك أن جعفر كتب إلى بعض الموالين كتاباً يدعوه إلى نفسه ، ويعلمه أنه القيم بعد
اخيه ،ويدعي ان عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه ، وغير ذلك من العلوم
كلها .وحين يصل الكتاب إليه يستنكر مضمونه ويشك بما فيه ، فيذهب على أحمد بن اسحق
الأشعري ، والذي يعرفه وعرفناه أنه أخص أصحاب الإمام العسكري عليه السلام وأقربهم
لديه، فيخبره بأمر هذا الكتاب ويعرضه عليه. فيبادر ابن اسحاق للكتابة إلى الحجة
المهدي (ع) بواسطة سفيره ويجعل كتاب جعفر في ضمن كتابه ليطلع عليه المهدي عليه
السلام.
فيرد الجواب إلى أحمد بن اسحق ، شديد اللهجة ، مستنكراً أشد الإستنكار ، متحدياً
لجعفر في إثبات الإمامة أقوى التحدي ،ويؤسفنا أن يكون ذكر نص الكتاب خروج عما
نتوخاه من الإختصار(1) ولكننا نذكر بإيجاز النقاط التي اكد عليها الحجة المهدي (ع)
في كتابه :
أولاً: وجود الخطأ الإملائي في كتاب جعفر :
ثانياً : إن الله تعالى ميز آباءه من الأئمة عليهم السلام عن إخوتهم وبني عمهم
بميزات ، وجعل بينهم فرقاً واضحاً "بأن عصمهم من الذنوب وبرأهم من العيوب وطهرهم من
الدنس ونزههم من اللبس ، وجعلهم خزان علمه ومستودع حكمته وموضع سره وأيدهم بالدلائل
ولولا ذلك لكان الناس على سواء ولا دعى أمر الله عز وجل -: الإمامة - كل أحد ، ولما
عرف الحق من الباطل ولا العالم من الجهل".
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر الإحتجاج ج2 ص279 وما بعدها.
صفحة (306)
ثالثاً : نفيه لكون جعفر عالماً بالحلال والحرام ،وأنه لا يعرف حتى حد الصلاة
ووقتها ،وإنما يزعم ذلك طلباً للشعوذة .
رابعاً :ت ذكير الناس بفسقه ،وإن ظروف مسكره منصوبه ، وآثار عصيانه مشهورة قائمة.
خامساً : تحديه بمطالبته إقامة آية أو حجة أو دلالة . فإن كان فليذكرها ، والإ بطلت
دعواه.
سادساً : تحديه من الناحية العلمية . ومطالبة أحمد بن اسحق أن يمتحنه في ذلك
.ويسأله عن آية من كتاب الله يفسرها أو صلاة يبين حدودها وما يجب فيها ،فإن لم يجب
علم السائل حاله ومقداره من العلم .
سابعاً: نفي ان تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام:
ويختم المهدي (ع) كتابه بالدعاء لله بحفظ الحق على أهله. ويقول: وإذا أذن الله لنا
في القول ظهر الحق واضمحل الباطل وانحسر عنكم .
صفحة (307)
العامل الرابع : مما أدى إلى فشل مخطط جعفر بن علي :هو شعور الدولة بالعجز عن
تأييده وإجابة طلبه فإنه إذ يعرض الطلب الذي سمعناه على الوزير عبيد الله بن يحيى
بن خاقان ، ويقول له:
اجعل لي مرتبة اخي...وانا اوصل اليك كل سنة عشرين الف دينار... يشعر الوزير بعجز
الدولة تماماً عن إجابته. فإنه لا يمكن بأي حال ان يفرض جعفر اماماً على الجماهير
الموالية لابيه عليه السلام فان العقائد ليست مما يمكن فرضه ولا مما يشترى بالمال ،
ولا مما يحصل بقوة السلاح ولا باي طريق آخر ، سوى صدق البرهان والتوفيق الالهي لشخص
بالامامة. فانه حينئذ يستطيع ان يثبت امامته لاي احد بالطريق الذي يراه كما تيسر
لآبائه عليهم السلام واما مع فقدان ذلك فليس الى فرض الامامة من سبيل.
وان التجربة المعاصرة ، لتعيش في ذهن الوزير بوضوح .وهي ان الجماهير الموالية
للائمة عليهم السلام بالرغم من اضطهاد الدولة لهم ومطاردتهم والتنكيل بهم ومعاناتهم
الفقر والمرض والعزلة السياسية والاجتماعية كانوا لا يزدادون الا ولاء وتقرباً من
الائمة عليهم السلام .فالدولة حين ارادت ان تتوصل الى رفض امامة الائمة (ع) بكل ما
تملك من سلاح ،لم تستطع فكيف تستطيع الدولة ان تزرع اماما جديدا في قلوب المعارضة
لها المنكرة لتصرفاتها المعاينة من آلامها ونكباتها.
صفحة (308)
ولذا نرى الوزير يستهين بجعفر ويزجره ويسمعه ما يكره . ويقول له الحقيقة الواضحة
:يا احمق. السلطان اطال الله بقاء جرد سيفه في الذين زعموا ان اباك واخاك ائمة
ليردهم عن ذلك .فلم يتهيأ له ذلك ، فإن كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماماً ، فلا حاجة
بك إلى سلطان يرتبك مرتبهم ، ولا غير سلطان .وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم
تنلها بنا(1) ثم أن الوزير استقله واستضعفه وأمر ان يحجب عنه فلم يأذن له في الدخول
عليه حتى مات.
وإذ تضيق بجعفر هذه الوجوه ، يصعد إلى الخليفة ، آملاً أن يجد في البلاط ما لم يجده
عند الوزير .فإن جعفر يعلم أن من مصلحة الدولة إيقاع الخلاف والإغتشاش بين الجمهور
الموالية لآبائه (ع) وإيقاع الشك فيهم في اتجاه خط الإمامة وأنه يعرض خدماته على
الدولة للقيام بمثل هذا العمل ،لا بإزاء مال يقبضه منها . بل بإزاء مال يدفعه
إليها.
ولكنه يواجه عند الخليفة المعتمد ما واجه عند الوزير ، من الموقف النفسي والإزدراء
الإجتماعي.
قال له المعتمد :اعلم أن منزلة أخيك لم تكن بنا. إنما كانت بالله عز وجل ،ونحن كنا
نجتهد في حط منزلته والوضع منه .وكان الله عز وجل يأبى إلا أن يزيده كل يوم رفعة ،
لما كان له من الصيانة وحسن السمت والعلم وكثرة العبادة ، فإن كنت عند شيعة أخيك
بمنزلته ، فلا حاجة بك إلينا ،وإن لم تكن عندهم بمنزلته ،ولم يكن فيك ما كان في
أخيك . لم نغن عنك في ذلك شيئاً(2).
ـــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد ص320
(2) انظر الإكمال المخطوط وانظر الخرايج والجرايح ص186.
صفحة (309)