فنراه عليه السلام يكتب إلى أحد علمائنا الأبرار أبي الحسن علي بن الحسين بابويه
القمي ، رساله بهذا الشأن يقول فيها : عليك بالصبر وانتظار الفرج . قال النبي (ص)
أفضل أعمال امتي انتظار الفرج .. ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به
النبي (ص) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً . فصبر يا شيخي يا أبا
الحسن علي ، وأمر جميع شيعتي بالصبر . فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده
والعاقبة للمتقين (1) .
فهذا هو أعلى مستوى اسلامي واعي ، للسلوك الصحيح للفرد المسلم في اثناء الغيبة ،
ومن هنا نرى الامام علية السلام يؤكد في عبارته هذه على عدة مفاهيم :
المفهوم الاول :الصبر بمعنى تحمل المشاق والعقبات والارتفاع فوق مستوى الآلام التي
تنجم عن فعل الظالمين خلال عصر الغيبة ، وعن انعدام القيادة الرشيدة الموحدة . فانه
يجب ان لا تكون المصاعب مثبطات للعزم وموهنة لقوة الارادة التي تحملها المؤمن بين
جنبيه ، تجاه ميالمة الباطل والتعاون مع المبطلين .
ــــــــــــــــــــ
(1) الصدر السابق ص 527
صفحة (217)
المفهوم الثاني: انتظار الفرج .. وتوقع اليوم الذي ينفذ الله تعالى به وعده الكبير
الذي قطعه على نفسة في كتابه الكريم بقوله تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم
وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني لا
يشركون بي شيئاً "(1) ... الوعد بإعطاء القيادة العلمية والتوجيه البشري العام بيد
الزمرة المؤمنة الصالحة ، التي كانت في عصور الظلم والفساد مضطهدة خائفة .. الوعد
الذي تظهر به نتائج جهود كل الانبياء والاوصياء والشهداء والصالحين وتتكلل كل
متاعبهم بالنجاح .. الوعد الذي يتم بتخطيط من الله عز وجل وتنفيذ من قبل القائد
الأكبر الحجة المهدي عليه السلام .
ولا يخفى ما في الانتظار المنسجم مع المبادىء الاسلامية العليا، من الأثر الايجابي
على نفس المؤمن وسلوكه. اذا تصورنا ما في اليأس والقنوط من أثر سلبي عليه ، في
اضعاف معنوياته وكبح جماحه والكفكفة من نشاطه .. إذا لم يكن لنشاطه أمل يرجى أو
نتيجة تقصد. على حين ان هذا الانتظار أو الأمل يعطيه الدفع الثوري ، الكافي ايماناً
وسلوكاُ لكي ينخرط الفرد في سلك الأنبياء والشهداء والصالحين .. ويشارك بمقدار جهده
بتمهيد المقدمات ليوم الله الموعود .
المفهوم الثالث: إعطاء القيادة العامة في زمن الغيبة إلى العلماء بالله ، الذين
يمثلون خط الإمام عليه السلام .. ذلك المفهوم الذي أعطاه الامام الصادق عليه السلام
صيغته التشريعية بقوله : ينظر ان من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا
وحرامنا وعرف احكامنا ، فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً .
ــــــــــــــــــــــــ
(1) النور 24 /55 .
صفحة (218)
فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه،فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد ، والراد علينا راد
على الله وهو على حد الشرك بالله (1).
اوضحه واعطاه صيغته الاجتماعية الكاملة الامام الهادي عليه السلام حين قال : لولا
من يبقى بعد غيبة قائمكم عليه السلام من العلماء الداعين اليه والدالين عليه ،
والذابين عن دينه بحجج الله ، والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك ابليس ومردته ،
ومن فخاخ النواصب ، لما بقي أحد إلا عن دين الله .. ولكنهم الذين يمسكون ازمة قلوب
ضعفاء شيعتنا كما يمسك صاحب السفينة سكانها . أولئك هم الافضلون عند الله عز وجل
(2).
والاساس العام الذي تقوم عليه هذه البيانات ، هو : ان المسلمين الممثلين لخط الأئمة
عليهم السلام وقواعدهم الشعبية الكبرى يجب ان لا تبقى - في زمن الغيبة وانقطاع
القيادة المعصومة ومصدر التشريع - خلية عن المرشد والموجه والفكر المدبر .. يعطيهم
تعاليم دينهم ويرتفع بمستوى ايمانهم وعقيدتهم، ويشرح لهم اسلامهم ، ويوجههم في
سلوكهم إلى العدل والصلاح ورضاء الله عز وجل. فإن من هذه الجماهير - ان لم يكن
الأكثر - من يكون ضعيف الايمان والارادة ، يحتاج في تصعيد مستواه الروحي وعمله
لايماني إلى مرشد وموجه، وإلا كان لقمة سائغة لمردة ابليس وشباكه من اعداء الدين
والمنحرفين وذوي الأغراض الشخصية والمصالح الظالمة.
ــــــــــــــــــــ
(1) الوسائل ، كتاب القضاء ج 3 ص 424 .
(2) الاحتجاج ج 2 ص 260 .
صفحة (219)
ومن هنا نرى الامام العسكري عليه السلام أيضاً يؤكد على ذلك ، فإن ابن بابويه حلقة
من سلسلة العلماء الصالحين ، فهو يريد ان يشجعه أكبر تشجيع ويجعل له بين قواعده
الشعبية عنواناً كبيراً وأمراً نافذاً فيقول له تارة : يا شيخي يا أبا الحسن .
ويقول له تارة اخرى : وأمر شيعتي بالصبر . فكأن مراسلته مراسلة للجميع وتبليغه
بالتعليم تبليغ للكل ، لأنه هو المشرف على مصالح هذه الجماهير الموالية للائمة
عليهم ، في عصرة الخاص الذي سيكون من عصور الغيبة في أول وجودها .
المفهوم الرابع : ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده .. والعاقبة للمتقين .
فليست الأرض لأي حاكم من البشر، وانما هي بإرادة الله وإدارته .. انها لله وإذا
كانت لله فهو الذي يعطيها لمن يشاء من عباده .. وقد شاء الله تعالى أن يكون ميراث
الأرض والحكم النهائي فيها للمتقين ليكونوا خير خلف لشر سلف ، فتملئ الأرض بهم
عدلاً بعد ان ملئت جوراً . وإذا كانت هذه هي ارادة الله ، فالمؤمن لا بد له ان يخضع
لها ويقوم بمتطباتها .
اذن فليست عصور الظلم والانحراف ، التي تعيشها في عصور الغيبة - بالرغم من وضوحها
في الاذهان ورسوخها في النفوس - ليست إلا نتيجة للامهال الالهي الذي قدره لعمر أي
حضارة من الحضارات قال الله تعالى :" وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها
رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بنعم الله .. فأذاقها الله لياس الجوع والخوف بما
كانوا يصنعون" (1) .
ــــــــــــــــــــ
(1) السورة 16 - 112 .
صفحة (220)
وقال عز وجل: "ولا يحسبن الذين كفروا انما نملي لهم خيراً لأنفسهم .. انما نملي لهم
ليزدادوا اثماً ولهم عذاب مهين" (1) .
فليس هذا الكفر والانحراف قدراً اضطرارياً أو وضعاً جبرياً ، يجب الاعبراف به
والخضوع لتياره .. بل هو مهلة لهم وفسحة في حياة حضارتهم ، حتى يستكملوا انحرافهم
ويتمرسوا في ظلمهم وتتم الحجة الدامعة عليهم .. فإذا اراد الله بعلى تنفيذ وعده
العظيم ، اخذهم بذنوبهم والبسهم نفس اللباس الذي كانوا بضطهدون به المؤمنين: لباس
الجوع والخوف ، وأورث الأرض لعباده الصالحين يتبؤون فيها حيث يشاؤون ، تحت راية
المهدي عليه السلام ، ولنعم عقبى المتقين.
اقول: ومثل هذا الشكل من البيان بجميع مفاهيمه ، مما يختص به الامام العسكري عليه
السلام ، ولم يكن ليصدر عن أحد من آبائه عليهم السلام لمدى البعد الزمني بين عصورهم
وعصر الغيبة ، وانما يصدره الامام العسكري بصفته الامام الاخير فيما قبل عصر
الغيبة، والخطط المباشر لها والسؤول الأكبر عن تطبيق مستلزماتها . مما يستدعي
التفصيل والتأكيد أكثر من ذي قبل بطبيعة الحال .
النقطة الثانية : من موقفه عليه السلام تجاه الغيبة:
احتجابه عن الناس، إلا عن خاصة اصحابه ، وايكال تبليغ الأحكام والتعليمات إلى اسلوب
المكاتبات والتوقيعات بينه وبين أصحابه ، وإزجاء حاجاتهم بواسطة عدد من خاصته .
ـــــــــــــــــــــ
(1) السورة 2 - 178 .)
صفحة (221)
لأنه عليه السلام كان يعلم ان المنهج العام لابنه المهدي (ع) في غيبته الصغرى سيسير
على هذا النسق، وهو أحتجاب شخص الامام مع ايصال التعليمات بواسطة الخاصة. وهو أمر -
كما قلنا - قد يبدو غيباً على الأذهان إذا بدأه المهدي عليه السلام بدون سابقة ،
ولعل مضاعفات غير محمودة تنتج من استغاب الناس من ذلك . اذن فلا بد من اتخاذ منهج
خاص لتهيئة الذهنية العامة لاستساغة هذا الأسلوب وحسن تقبله .
أما جعل الوكلاء وإيصاء الناس بالرجوع اليهم في مسائلهم ومشاكلهم فهو مما اعتاد
عليه الناس ردحاً من الزمن ، تحت ظل آبائه عليهم السلام . فإنه لم يكن يمكن
الارتباط بالبلاد البعيدة ذات القواعد الشعبية الموالية إلا عن هذا الطريق.وانما
تنحصر المشكلة في الاحتجاب ومخاطبة الناس - على طول الخط - عن طريق المكتبات وقبض
الأموال - على الدوام - عن طريق الوكلاء وهو الأمر الذي ينبغي بهيئة الذهنية العامة
له وزرعه في المجتمع من جديد.
وكان قد بدأ بالتخطيط لذلك - بعض الشيء - الامام الهادي عليه السلام ، ليكون تعودهم
على هذا المسلك بدريحياً وطيئاً موافقاً للفهم العام لدى الناس . روى المسعودي(1)
ان الامام الهادي عليه السلام كان يحتجب عن كثير من مواليه إلا عن عدد قليل من
خواصه. وحين افضى الأمر إلى الامام الحسن العسكري عليه السلام ، كان يتكلم من وراء
الستار مع الخواص وغيرهم ، إلا في الأوقات التي يركب فيها إلى دار السلطان .
ـــــــــــــــــــــ
(1) اثبات الوصية ص 262 وانظر منتهى الامال ج 3 ص 565 .)
صفحة (222)
ونحن في حدود التاريخ الذي استعرضناه ، قد نجد في عبارة المسعودي شيئاً من المبالغة
، بعد ان وجدنا الامام العسكري ، يذهب إلى دار السلطان (البلاط) كل اثنين وخميس
ويزور الوزير عبيد الله بن خاقان ويزور أصحابه في السجن .. ونحو ذلك. إلا اننا إلى
جانب ذلك ، حملنا من تاريخه عليه السلام فكرة واضحة ، عن سيره على هذا المخطط
وإتصاله بأصحابه عن طريق الكتب والمراسلات. حتى اعتاد أصحابه على ذلك وأصبح المفروض
عند مواليه ان الأتصال به والسؤال منه لا يكون إلا عن طريق المراسلة. وقد مرت بنا
كثير من الشواهد على ذلك.
فهذا تختلج في صدره مسألتان يريد الكتاب - الكتابة - بهما اليه عليه السلام(1) وأبو
هاشم الجعفري يكتب اليه شاكياً ضيق الحبس وكلب الحديد(2) . والامام يكتب إلى أصحابه
مبشراً لهم ومحذراً بموت المعتز(3) أكثر من مرة وبموت المهتدي(4) أيضاً ومخبراً لهم
عن موت الزبيري (5) ويكتب لهم عن رأيه في صاحب الزنج وعن وصفه لقضاء المهدي القائم
في دولته ويعطي لمحمد بن إبراهيم خمسمأة درهم ولابيه ثلثمأة من وراء الباب بواسطة
غلامه(6) . وقد سبق ان سمعنا كل ذلك وشواهده أكثر من أن تحصى .
ــــــــــــــــــــ
(1) الارشاد ص 323 . (2) المصدر ص 322 .
(3) انظر مثلا - كشف الغمة ج 3 ص 207 .
(4) المصدر ج 3 ص 204 . (5) كشف الغمة ج 3 ص 207 .
(6) المناقب ج 3 ص 537 .)
صفحة (223)
ولاجل ذلك يدخل عليه أحمد بن اسحاق ، وهو من خاصته ، فيطلب اليه ان يكتب لينظر إلى
خطه فيعرفة عند وروده ليكون آمناً من التدنيس والتزوير. فيكتب له الامام (ع) في
ورقة. ثم يلفت نظره إلى احتمال تغير القلم في كتاباته عليه السلام، قائلاً: يا أحمد
أن الخط سيختلف عليك ما بين القلم الغليظ والقلم الدقيق.فلا تشكن (1) .
وكان غاية أمل جمهور مواليه في رؤيته عليه السلام .. هو الجلوس في الطريق ، في وقت
مروره ذاهباً إلى البلاط وراجعاً منه . فمن ذلك مما سمعناه من مجيء الوفد من
الأهواز ومقابلته في الطريق حين رجوغ موكب المعتمد من توديع الموفق حين خروجه لحرب
الزنج .
وسمعنا عن ذلك الشخص الذي اثرت فيه شبهة الثنويه، فلقيه الامام في طريق رجوعه من
زيارة البلاط وأشار اليه بسبابته : أحد أحد .
ويجلس شخص من الموالين للامام عليه السلام ، في أحد الشوارع فيرى الامام ماراً حين
خروجه من منزله قاصداً مجلس الخليفة . فيفكر في نفسه أنه لو صاح الآن بأعلى صوته
معلناً بالحق الذي يعتقدة مصرحاً بإمامة هذا الامام على البشر اجمعين ، فماذا سوف
يحدث ؟!
ــــــــــــــــ
(1) المناقب ج 3 ص 533 .)
صفحة (224)
قال الراوي: فقلت في نفسي : ترى ان صحت : ايها الناس هذا حجة الله عليكم ، فعرفوه .
يقتلوني؟ .. فلما دنا مني أوما بإصبعه السبابة على فيه أن اسكت . ثم يراه هذا الرجل
فيما يرى النائم محذراً له من القتل وموجباً عليه الكتمان قائلاً : انما هو الكتمان
أو القتل ، فاتق الله على نفسك (1) .
ومما يندرج في هذا الصدد إفهامه عليه السلام لأحد أصحابه وهو راكب في الطريق ..
بالاشارة انه يرزق ولداً ولكنه ليس بذكر .. فولدت زوجته ابنة(2) . وذلك العباسي
الذي يجلس للإمام على قارعة الطريق ويشكو له الحاجة ويحلف له: انه ليس عنده درهم
فما فوقه ولا غداء ولا عشاء. قال : فقال : تحلف بالله كاذباً وقد دفنت مأتي دينار .
وليس قولي هذا دفعاً لك عن العطيه . با غلام اعطة ما معك فأعطاني مآئة دينار(3) .
إذن فالامام عليه السلام كان سائراً على طبق مخطط الاحتجاب ، تعويداً لأصحابه
وقواعده الشعبية على فكرة الغيبة واسلوبها ، ورفعاً لإستغرابهم الذي كان سيحدث لو
لم يكن هذا المخطط .
ولعلنا تستطيع - بهذا الصدد - ان نحمل فكرة واضحة من ان فكرة عيبة الامام المهدي
عليه السلام هي بذاتها بكرة احتجاب ابيه ، وان اسلوبهما في قيادتهما واحد من
الناحية الكيفية لا يختلف .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) اتظر الخرايج والجرايح ص 59 .
(2) انظر كشف الغمة ج 3 ص 216 .
(3) الارشاد ص 323 والاعلام ص 352 وكشف الغمة ج 3 ص 203 .
صفحة (225)
نعم ، غيبة المهدي ، من الناحية الكمية أشد من احتجاب ابيه وأكثر حذراً وابعد عن
الناس . فالامام العسكري عليه السلام كان يراه جملة من الناس من أصحابه وغيرهم عند
زيارته للبلاط ، على حين ان المهدي عليه السلام لا يراه إلا اقل القليل على طول
التاريخ . كما ان الامام العسكري توفي ودفن بمشهد ومرأى من الجميع، على حين صمن
المخطط الالهي طول العمر لإبنه المهدي عليه السلام. وكان الامام العسكري (ع) معروف
الشكل والهيئة لدى الناس. وأما الحجة في غيبته الكبرى، من دون ان تحمل إي فكرة عن
شكل المهدي وسحنته وهيئته وجسمه .. إلى غير ذلك من الفروق .
النقطة الثالثة : اتخاذه نظام الوكلاء :
ليس الامام العسكري (ع) أول من سن هذا النظام وانما كان موجوداً في زمان ابيه
الامام الهادي (ع) وما قبله، وكان ذلك أحد الطرق الرئيسية لإتصالهم عليهم السلام
بقواعدهم الشعبية وقضائهم لحوائجهم ، واتصال القواعد الشعبية بهم . وارسال الأموال
، والحقوق الاسلامية اليهم.
وحيث اتخذ الامام العسكري (ع) مسلك الاحتجاب الذي عرفناه كان إلى نظام الوكالة أقرب
وله الزم، واتخذه بشكل يشمل أكثر الأمور أو جميعها ، مما يتصل بامور المجتمع حتى في
داخل المدينة التي يسكنها الامام (ع) نفسها . فكانت عامة اتصالاته وتوقيعاته
والأموال التي تصل اليه ، ما عدا القليل .. يتم عن طريق الوكلاء .
صفحة (226)
واعلى واهم من يندرج في هذه القائمة لمدى وثاقته وعظم شأنه: عثمان ين سعيد العمري
الزيات أو السمان، الذي سيصبح الوكيل الأول لولده المهدي (ع). وانما يقال له السمان
لأنه كان يتجر السمن تغطية على هذا الأمر ، يعني على نشاطه في مصلحة الامام عليه
السلام . وكان الشيعة إذا حملوا إلى أبي محمد (ع) ما يجب عليهم في الاسلام من
الاموال ، نفذوا إلى ابي عمرو ، فيحعله في جراب السمن وزقاقه ، ويحمله إلى ابي محمد
(ع) تقية وخوفاً ، وحماية للمال عن انظار الحاكمين ، لأنهم إذا عرفوه ، صادروه ،
كما سمعنا ما فعله المتوكل في الأموال التي علم وصولها إلى الامام الهادي (ع) .
وقد اثنى الامام الهادي والامام العسكري عليهما السلام على السمان ثناء عاطراً ،
كقول الامام الهادي فيه : هذا أبو عمر والثقة الأمين . ما قاله لكم فعني يقوله وما
أداه فعنى يؤديه(1) وقوله: العمري ثقتي فما أدى فعني يؤدي وما قال لك فعني يقول ،
فاسمع له واطع . فإنه الثقة المأمون (2) .
وقول الامام العسكري (ع) فيه: هذا أبو عمر والثقة الأمين ، ثقة الماضي ، وثقتي في
المحيا والممات . فما قاله فعني يقوله وما أدى اليكم فعني يؤديه (3) .
ـــــــــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي 215 . (2) المصدر ص 219
(3) المصدر ص 215
صفحة (227)
وقوله في العمري وابنه محمد بن عثمان : العمري وابنه ثقتان ، فما أديا فعني يؤديان،
وما قالا فعني يقولان. فسمع لهما واطعهما ، فإنهما الثقتان المأمونان . قال أبو
العباس الحميري : فكنا كثيرأً ما نتذاكر هذا القول ، ونتواصف جلالة محل أبي عمرو
(1).
وهذا الرجل الجليل وابنه ، سوف يكونان وكيلين عن الامام المهدي (ع) في غيبته
الصغرى. ولن يكون ذلك نشازاً على الأذهان ، بعد ان كانا بهذه المنزلة والرفعة عند
ابيه وجده عليهما السلام وعند الجماهير الموالية لهما.
وقد عرفنا ما لأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري واحمد بن اسحاق الأشعري ، من عظم
قدرهم لدى الامام العسكري (ع) ووثاقتهم عنده . وكانا يمارسان أعمال الوكالة عنده
أيضاً كما تدل عليه بعض الروايات . ومن وكلائه أيضاً محمد بن أحمد بن جعفر ، وجعفر
بن سهيل الصيقل(2) .
وسنجد ان نظام الاحتجاب والوكلاء هو الذي سيكون ساري المفعول في الغيبة الصغرى ،
بعد ان اعتاد الناس عليه ، في مسلك الامامين العسكريين عليهما السلام ، وخاصة الحسن
الاخير عليه السلام.
ــــــــــــــــــــ
(1) المصدر ص 219 و 215
(2) مناقب آل أبي طالب ص 525 ج 2
صفحة (218)
هل مات الامام مقتولاً ؟
لم يبق لدينا الآن مما يدخل ضمن غرضنا من تاريخ الامام الحسن العسكري ، إلا التعرض
لوفاته . وهذا ما نرجئه إلى الفصل القادم فإنه الصق به كما سيأتي .
وإنما الذي نود الاشارة اليه ، هو انه هل من المستطاع القول أن الأئمة عيهم السلام
جميعاً ماتوا مستشهدين على أيدي خلفاء زمانهم وبتسبيب من قبلهم .. بحيث ان الامام
الهادي عليه السلام قتله المعتز والامام العسكري عليه السلام قتله المعتمد ... أو
لا يمكن ذلك . وقد يمكن القول - لو انكرناه - : ان الامام مات حتف انفه .
وما يمكن به اثبات استشهاد الامام أحد وجوه ثلاثة محتملة:
الوجه الأول: الاستناد إلى ما روي عن الامام الصادق عليه السلام : ما منا إلا مقتول
أو شهيد(1) فجميع الأئمة عليهم السلام انما يخرجون من الدنيا بالقتل أو الشهادة ،
وليس فيهم من يموت حتف اتفه.
والقاتل لهم على طول الخط .. هو الحكام الذين كانوا دائماً على حذر من الأئمة عليهم
السلام ومن نشاطهم الاسلامي . لأنهم عليهم السلام كانوا يمثلون دائماً جبهة
المعارضة الصامدة ضد الانحراف الاساسي عن تعاليم الاسلام الذي تمثله الخلافة
الاموية والعباسية ، ومن ثم تنسب وفاة كل امام - مع عدم وجود اثبات تاريخي آخر -
إلى الخليفة الذي توفي في عصره .
ــــــــــــــــ
(1) اعلام الورى ص 349 .
صفحة (229)
فالامام الهادي عليه السلام توفي في عصر المعتز، قد قتله المعتز أو تسبب إلى موته
بالسم بشكل من الاشكال. والامام العسكري الذي توفي في عصر المعتمد ، قد قتله
المعتمد وتسبب إلى ذلك بالسم من طرف خفي .
وعلى هذا الوجه اعتمد جملة من علمائنا قدس الله ارواحهم . قال الطبرسي (1) : وذهب
كثيراً من أصحابنا إلى انه - يعني الامام العسكري عليه السلام - مضى مسموماً ،
وكذلك أبوه وجده وجميع الأئمة عليهم السلام ، خرجوا من الدنيا بالشهادة . ثم ذكر
الطبرسي استشهادهم بالحديث المنقول عن الامام الصادق (ع) . ثم قال : والله أعلم
بحقيقة ذلك .
أقول: وهذا يتوقف على صحة هذا الحديث وثبوته. ولعل في اعتماد علمائنا عليه ما يرجح
ثبوته .. والله العلم.
الوجه الثاني: الانطلاق من الفكرة القائلة : بان الامام المعصوم عليه السلام ، خلقه
الله تعالى كاملاً في بنيته الجسمية وتركيبه البدني معتدلاً من جميع الجهات. ولا
يمكن ان يصيبه الموت أو التلف إلا بعارض خارجي من قتل ونحوه . وأما لو لم يحدث عليه
حادث فإنه قابل للبقاء إبد الدهر دون هرم ولا موت .
ـــــــــــــــــــــ
(1) اعلام الورى ص 349 .
صفحة (230)
وإستنتجوا من هذه الفكرة ثلاث نتائج :
النتيجة الأولى : ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، لا بد وان تكون وفاته
مسببةعن القتل ، فإنه لم يكن قابلاً للموت التلقائي وخاصة في مثل العمر الذي مات
فيه . واختلفوا في سبب قتله ، فقال جمهور اخواننا أهل السنة ان السم الذي اكله في
الذراع الذي قدمته له اليهودية ، اثر فيه بعد عدة سنوات. وقال بعض الخاصة انه (ص)
مات نتيجة لعمل تخريبي مباشر من قبل بعض المنافقين .
النتيجة الثانية : ان الأئمة عليهم السلام جميعاً ، ماتوا بسبب القتل ، ضرباً
بالسيف أو تناولاً للسم . فما كان من تلك الأسباب معروفاً وثابتاً تاريخياً، كان
مؤيداً لهذه الفكرة التي انطلقنا منها، وما لم يكن له اثبات تاريخي، صارت هذه
الفكرة اثباتاً له.
النتيجة الثالثة: ان الحجة المهدي المنتظر عليه السلام ، حيث انه لم يصب بحادث
تخريبي يودي بحياته، فهو باق في الحياة. وسوف تستمر حياته ما دام لم يصب بسوء. واما
موته بعد ظهوره وقيامه بدولة الحق ، فيكون بالقتل أيضاً ، على ما ورد في رواياتنا ،
على ما سنذكره في محله من بحوثنا الأتية (1) .
بل ان بقاء الحجة المهدي ، طوال هذه المئات من السنين ، يكفي اثباتاً لهذه الفكرة ،
عند من يريد ان يأخذ بمدلولها. فإنه عليه السلام إمام معصوم ، وكل إمام معصوم غير
قابل للموت والفناء إلا بعارض خارجي كالقتل ، ومن هنا لا يكون عليه السلام قابلاً
للموت مهما طال الزمن ، بعد احراز عدم طروء شيء من الحوادث عليه .
ـــــــــــــــــــــ
(1) في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة .
صفحة (231)
والذي أود ان أشير اليه: ان هذه الفكرة ، لا تنافي قوله تعالى: "كل نفس ذائقة
الموت" . ولا تكون هذه الآية دليلاً على بطلانها. لأن الآية تعرب عن موت كل حي ،
وهو ما يتحقق في الخارج حتى للمعصومين عليهم السلام قبل يوم القيامة على أي حال .
وليس المدعي فيهم الخلود أو ضرورة الحياة ، وانما المدعي هو وجود قابلية الحياة لدى
المعصوم ما لم يحدث حادث يوجب الموت. ومعه يكون تطبيق هذه الآية بالنسبة إلى
المعصومين هو طرو الحوادث الني تودب الوفاة .
وعلى أي حال، فإن هذه الفكرة تحتاج إلى اثبات، ولم أجد في حدود تتبعي ، نصاً في
الكتاب أو السنة يدل عليها. لكن قد يستدل لها بالرواية التي ذكرناها في الوجه الأول
: ما منا إلا مقتول أو شهيد . إذا كان المستفاد منها عدم امكان موتهم إلا بطريق
الشهادة والقتل .
كما قد يستشهد لهذه الفكرة بما روي عن الامام العسكري عليه السلام من قوله : ولسنا
كالناس فنتعب كما يتعبون (1) بإعتبار ان ذلك انما هو لإجل توفر القوة البدنية بشكل
غير متوفر في سائر الناس . ولازم ذلك ان الناس بقواهم العادية يكونون قابلين للموت
، واما إذا كانت هذه القوه العليا موجودة فيكون فيها مقتضى الحياة، ولا تكون قابلة
للموت إلا بمؤثر خارجي وحادث طاريء .
ــــــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج 2 ص 534 ورجال الكئسي ص 481 .
صفحة (232)
الوجه الثالث : لاستشهاد الائمة عليهم السلام . وهو وجه خاص بالمتأخرين منهم عليه
السلام .
وذلك : نظراً إلى ان الامام الجواد والامام الهادي والامام العسكري عليهم السلام ،
لم يكتب لهم أن يعمروا ، بل وافتهم المنية وهم في آبان شبابهم على اختلاف اعمارهم .
فالامام الجواد كان له يوم قبض خمس وعشرون سنة واشهر(1) والامام الهادي له احدى
واربعون سنة(2) والامام العسكري له ثمان وعشرون سنة (3) على ما عرفنا من تاريخ
ولادته ووفاته. والغالب حتى في الفرد العادي، هو ان يعمر أكثر من ذلك ، خاصة في
الامامين: الجواد والعسكري عليهما السلام . بل أن في عصرنا الحاضر من الشباب في هذا
العمر من يعتبر نفسه غير خارج من دور الطفولة بعد!! ولو سألته عما بقي لديه من
العمر لم يشك في كونه خمسون أو ستون سنة على أقل تقدير.
إذن فلماذا توفي هؤلاء الائمة بهذا العمر القصير؟ ليس لذلك إلا احد سببين: احدهما:
المرض . والآخر : القتل من قبل السلطات . أما المرض فهو غير محتمل لأحد أمور ثلاثة
:
الأمر الأول : انه غير منقول عن الامام الجواد والامام الهادي عليهما السلام ،
وانما نقل قي الامام العسكري
(ع) انه كان معتلاً قبل وفاته على ما سوف نقول في حينه. ولكننا لم تحرز أن هذه
العلة مستقلة عن الفعل التخريبي من قبل السلطات . اذ لعلها ناشئة من السم المدفوع
اليه ، وهذا الاحتمال لا دافع له ، وهو المقصود.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الارشاد ص 307 . (2) المصدر ص 314 .
(3) المصدر ص 325 .
صفحة ( 233 )
الأمر الثاني: انه إذا كان المرض القتل في إبان الشباب محتملاً في واحد بعينه ، فهو
غير محتمل في ثلاثة ، كلهم يموتون صدفة بسبب مرض يصيبهم في زهرة العمر ، من دون سبب
مشترك أو علة وراثية ونحو ذلك.
الأمر الثالث: القاعدة التي اعطيت في الوجه الثاني: القائلة بان جسم الامام غير
قابل للتلف إلا بعارض خارجي. ولا أقل من إحتمالهما. فإذا بطل احتمال المرض ، غير
المستند إلى التخريب ، بأحد هذه الوجوه أو جميعها ، تعين السبب الآخر للموت وهو
وفاته شهيداً بيد السلطات الحاكمة يومئذ ، إذ ليس هناك سبب آخر محتمل كسقوط شيء
عليه أو وقوعه من شاهق أو قتله بيد لص مثلاً ، فإن كل ذلك مما لم يقل به أحد .
وكلنا يعرف شأن السلطات الحاكمة يومئذ . فإننا بعد ان نحمل فكرة مفصلة عن ذلك ، من
وقوف الأئمة عليهم السلام موقف المعارضة ضد انحرافات الحكام. ومن الحقد الوراثي عند
الحكام ضد الخط الذي يمثله الأئمة عليهم السلام.وكانت كل مصادر القوة والسلاح ونفوذ
الحكم بيد الخلفاء ولم يكن بيد الأئمة ولا أصحابهم شيء. وانما كانوا يمثلون دور
المعرضة بشكل أعزل لا يراد به إلا العدل الاسلامي ورضاء الله عز وجل .
صفحة (234)
أقول ولعل هذا الوجه الثالث على استشهاد الأئمة هو أقرب هذه الوجوه إلى الوجدان ،
فإنه يورث القطع بنتيجته وهي استشهاد الأئمة عليهم السلام بيد السلطات الحاكمة ،
سواء كان السبب المباشر لذلك هو الخليفة نفسه ، بإعتبار كونه المسؤول الرئيسي في
المحافظة على كيان الخلافة العباسية، أو غيره من صنائعه أو المسيطرين عليه ، كبعض
الموالي والأتراك أو القواد أو القضاة .
وأما إذا لم تتم عند أحد هذه الوجوه ، وتوخينا الاثبات الخاص على كل إمام بمفرده
انه مقتول أو شهيد . فسوف لن يسعفنا التاريخ بطائل . حتى ان الشيخ المفيد في
الارشاد يقول عن الامام الجواد عليه السلام : وقيل انه مضى مسموماً ولم يثبت بذلك
عندي خبر(1) .
واما الامام الهادي عليه السلام فنجد بعض من تعرض لوفاته يذكر انه: قيل انه مات
مسموماً ، كإبن الجوزي في تذكرته(2) والمسعودي في المروج(3) وقال عنه الطبرسي: انه
استشهد(4) وقال ابن شهر اشوب : انه استشهد مسموماً. وأضاف: وقال ابن بابويه : وسمه
المعتمد(5). أقول : وهذا غير محتمل لما عرفنا من ان الامام الهادي عليه السلام توفي
في أيام المعتز قبل خلافة المعتمد بسنتين وذلك في عام 254هـ واستخلف المعتمد عام
256 هـ .
ـــــــــــــــــــــ
(1) انظر ص 307 . (2) ص 375 .
(3) ص 86 ج 5 . (4) اعلام الورى ص 339 .
(5) الماقب ص 506 ج 3 .
صفحة (235)
وعرفنا ان الامام الذي توفي في أيام خلافة المعتمد هو الامام العسكري عليه السلام .
اذن فهذا النقل سهو أما من ابن بابويه أو من ابن شهر أشوب رضي الله تعالى عنهما .
واما المفيد في الارشاد والاربلي في كشف الغمة وابن خلكان في تاريخه وسائر مؤلفي
التاريخ العام ممن تعرض لوفاة الامام الهادي كابن الأثير وابي الفداء وابن الوردي
وابن العماد ، فلم يذكروا لوفاته سبباً .
ونفس هذا الموقف يقفه هؤلاء جميعاً بالنسبة إلى الامام الحسن العسكري عليه السلام .
يضاف اليهم ابن الجوزي فإيه أيضاً لم يصرح هنا بشيء . وقال ابن شهر أشوب : ويقال
انه استشهد (1) . وأما الطبرسي فقد عرفنا موقفه من ذهاب كثير من الأصحاب إلى انه
عليه السلام ذهب مسموماً للحديث الوارد عن الامام الصادق (ع). وكان تعليق الطبرسي
على ذلك قوله: والله أعلم بحقيقة الحال . مما بدل على عدم تأكده منه ، على أقل
تقدير . وعلى أي حال . فإنه ان اعوزنا التاريخ ، كفانا ما اثبتناه من القرائن
العامة على ذلك . والله من وراء القصد .
ــــــــــــــــ
(1) الماقب ج 3 ص 536 .
صفحة (236)
الفصل الرابع
في تَاريخ الإمَام المهْدي (ع)
خِلالْ حـَيَاة أبيَه
وهذا الفصل في حقيقته مكمل للقسم الأول من الكتاب ولتاريخ الامام العسكري (ع)
بالذات ، حيث يعرض إلى موقفه عليه السلام من ولده مفصلاً ، ثم إلى وفاته عليه
السلام وإلى النتائج التي ترتبت على ذلك حيث يبدأ تاريخ الغيبة الصغرى الذي تعقد له
القسم الثاني الآتي أن شاء الله تعالى .
عرض عام :
تميزنا بوضوح خلال سيرنا التاريخي، الظروف التي عاشها الامامين العسكريين عليهما
السلام وولد فيها الامام المهدي (ع). فالبلد سامراء عاصمة الدولة العباسية يومذاك .
وابوه وجده عليهما اللام ، قد قهرا من قبل السلطات على الاقامة في سامراء تطبيقاً
لسياسة التقريب إلى البلاط .. التي عرفناها .
وهما عليهما السلام يتكقلان الاصلاح الاسلامي مهما وسعهما الأمر. ويمثلان جانب
المعارضة الصامدة أمام انحراف الحكام عن الخط الرسالي الذي جاء به نبي الاسلام
(ص)... بالشكل الذي لا يتنافى مع سياسة الملاينة التي اتخذاها تجاه الدولة .
صفحة (237)
وهما يقومان في عين الوقت بالرعاية العامة لمصالح أصحابها ومواليهما في شؤونهم
العامة دائماً والخاصة في كثير من الاحيان. ويكون النشاط في الغالب سرياً محاطاً
بالكتمان والرمزية قولاً وعملاً. ويختص الصيح منه بالخاص من الأصحاب الذين تعرف
منهم قوة الارادة والصمود أمام ضغط الحكام .
والامامين عليهما السلام يقبضان الاموال ويوزعانها بحسب الامكان عن طريق الوكلاء
المنتشرين لهم في مختلف بقاع البلاد الاسلامية. والوفود ترد بين حين وآخر من
الموالين لهم في الأطراف حاملة المال والمسائل من بلادهم لأجل تسليمها وتبليغها
للامام عليه السلام .
واما السلطات، بما فيهم الخليفة نفسه، على اختلاف شخصه وبما فيهم الأتراك والموالي،
وخاصة القواد منهم. وكذلك العباسيون بشكل عام وعلى رأسهم الموفق طلحة بن المتوكل .
وكذلك الوزراء والقضاة كإبن ابي داؤد وابن أكثم وابن ابي الشوارب وغيرهم .. كل
هؤلاء يمثل خطاً واحداً من الناحية السياسية والاجتماعية ، اساسه الانتفاع المصلحي
من الدولة القائمة المتمثلة بالخلافة العباسية . والحرص عليها أشد الحرص ، حفاظاً
على مصالحهم ومنافعهم . فكان ذلك موجباً لحذر السلطات الدائم والتوجس المستمر من كل
قول أو فعل يصدر من الامام عليه السلام أو من احد اصحابه .. فكان السجن والأغلال هو
النهاية الطبيعية لكل من يفكر في ولاء الامام أو التعامل الاجتماعي معه.
صفحة (238)
بل ان الأمر ليشتد ويتأزم أحياناً فينتهي الامر إلى القاء القبض على الامام نفسه.
ومن المعلوم ان القاء القبض على القائد ، هو سجن لكل مبادئه ومثله وقواعده الشعبية
وتحد لها. ويبقى الامام مسجوناً مدة ، ثم يخرج ليسجن مرة ثانية .
وكانت السلطات تحاول جاهدة عزل القواعد الشعبية ، للأمام عن الحياة السياسية
والاجتماعية والاقتصادية ، فكان الفرد منهم يعاني الخوف والفقر والمرض ، من دون ان
يجد ناصراً أو معيناً سوى ادعية امامه عليه السلام وقلوب اخوانه.
على اننا عرفنا ان الامام لم يكن مريداً الاستيلاء على السلطة في ذلك المجتمع
المنحرف .. وانما كان غاية همه رعاية مصالح أصاحبه وادارة شؤونهم .. وكان هذا
النشاط هو الذي يثير السلطات وينفرها ، منظماً إلى وهمها الخاطيء بإحتمال أخذ
الامام بحقه الذي يعتقده مشروعاً في الاستيلاء على السلطة .. فكانت تبذل الجهود
الجبارة ضد ذلك.
وقد استطاع الأمامان عليهما السلام ، بالرغم من كل ذلك ومن سياسة المراقبة والتقريب
إلى البلاط .. ان يخفيا نشاطهما ويسترا الاموال والواردة اليهما والصادرة عنهما
والتعاليم التي تبلغ من قبلهما. وبذلك استطاعا أن يأمنا قسطاً كبيراً من العذاب
الذي كان يصيبهما وأصحابهما لولا ذلك ، وان يحققا كثيراً من المصالح التي كانت مما
يحال دونهما بغير ذلك.
صفحة (239)
على ان السلطات بمختلف طبقات حكامها وموظفيها وأهل الأمر النافذ فيها ، وعلى
تفاوتهم في التعصب أو حسن التفكير .. كانوا يعرفون في قرار قلوبهم وداخل نفوسهم ،
حق الامام ويحترمونه بالغ الاحترام ويعتبرونه خير خلق الله في عصره بما له من
العبادة والعلم والاخلاق والنسب .. لا يختلف في ذلك الموالون عن غيرهم، ولا الخلفاء
عمن سواهم. وبخاصة المعتمد الذي رأيناه - في ابان احساسه بالضعف - يأتي إلى الامام
العسكري عليه السلام بنفسه ويتوسل اليه ان يدعو له بالبقاء في الخلافة مدة عشرين
عام .. فيجيبه الامام إلى طلبه ويدعو له.
وهذا الخليفة العباسي، هو الذي عاصر ايام الامام المهدي عليه السلام من أولها ،
وتوفي الامام العسكري عليه السلام في أيامه . وهو الذي تصدى للفحص عن تركه الامام
وورثته ومراقبة الحوامل من نسائه على ما سنذكر .. وكل ذلك يدل على انه يعرف الحي
ويخاف منه .. ويفرق من فكرة المهدي ووجوده .. لعلمه انه الامام القائم بالحق الساحق
للإنحراف والمنحرفين من الحكام والمحكومين .
وقد كانت أفكار المسلمين وبخاصة الموالين للأئمة عليهم السلام ، مليئة بالاعتقاد
بوجود المهدي (ع) للتبليغ المستمر المتواتر منذ زمان النبي (ص). إلى زمان الامام
الحسن العسكري (ع). يتعاضد في ذلك سائر المذاهب الاسلامية . ففي عين الوقت الذي
يبلغ الامامان العسكريان عليهما السلام عن ولدهما المهدي (ع) ..
صفحة (240)
يكتب البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة في صحاحهم اخباره وكلهم يعيشون في
تلك الفترة من الزمن أو متقدمون عليها قليلاً(1) .. يروون هذه الأخبار عن النبي (ص)
جيلاً بعد جيل .
ولم يكن ليفوت الامامين العسكريين (ع) التمهيد المباشر لغيبة الامام المهدي (ع)
وتعويد أصحابهم فكراً سلوكاً عليها ، وذلك باتخاذ تظام الوكلاء أولاً وتخطيط
الاحتجاب عن الناس ثانياً .. وكلا الامرين سوف يكون مطبقاً في الغيبة الصغرى للمهدي
عليه السلام قليلاً مجملاً لبعده النسبي عن عهد المهدي عليه السلام . وقد تكفل القس
الأكبر من ذلك أبوه الامام العسكري عليه السلام .
فهذه هي الظروف العامة والخاصة التي ولد فيها الامام المهدي ، وقد عرفنا لكل فقرة
منها شواهد ودلائل استعرضناها بالتفصيل .
أم المهدي(ع) :
يحسن بنا، وقد عرفنا تفاصيل ابيه وجده عليهما السلام. ان نحمل فكرة كافية عن امه
الراضية المرضية المجاهدة كما وردت في التاريخ بشكل عام وفي مصادر الخاصة بشكل خاص
.
ـــــــــــــــ
(1) فمن المتقدمين عليها البخاري صاحب الصحيح المتوفي عام 256 . ومسلم صاحب الصحيح
المتوفي عام 261 . ومن المعاصرين لهذه الفترة ابن ماجة القزويني المتوفي عام 273
وأبو داود السجستاني المتوفي عام 275 وأبو عيسى الترمذي المتوفي عام 279 ( أنظر
وفيات الاعيان وغيره ) .
صفحة (241)
كانت رضي الله عنها قبيل حملها بولدها المهدي (ع) امة مملوكة جلبت بواسطة الفتح
الاسلامي الذي كان جارياً على قدم وساق في تلك العصور من بعض مدن الكفر إلى سامراء
، ودخلت في ملكية بعض أفراد اسرة الامام العسكري عليه السلام .
وكانت تسمى في ذلك المجتمع بأماء مختلفة، فهي: ريحانة ونرجس وسوسن وصقيل . وان كان
الغالب عليما بين أفراد العائلة : نرجس . ويعود تعدد اسمائها إلى أحد أسباب :
السبب الاول: صلة الحب والرحمة بالجارية من قبل مالكها ، فهو يناديها بأفضل الأسماء
لديه واجملها في ذوقه. ولذا كان جملة منها من أسماء الأزهار . لكن لا على ان يكون
كل ذلك اسمها الحقيقي .. بل على اساس ان يحتفظ بالاسم الحقيقي في نفسه ويناديها بأي
اسم شاء .. تودداً واستلطافاً .. واذ تسامع الناس بإختلاف النداء زعموا ان لها
أسماء كثيرة ، ووردنا في التاريخ ذلك .
كذلك كان حال الجواري المحضيات عند مواليهن ... ولعله يكون منطبقاً على أم المهدي
عليه السلام .
السبب الثاني: ان المجتمع في ذلك الحين ، إذ كان يجلب العبد أو الأمة بطريق السبي
من البلاد البعيدة التي لا يحمل عنها وعن لغتها أي فكرة محددة ... ويكون للمالك حق
التصرف فيه ، يستخدمه ويبيعه ويشتريه .. ولا يشعر بوجود شخصية هذا العبد أو ارادته
، أو أن يكون في مستقبل الدهر علماً من الاعلام ..
صفحة (242)
لكي يجب ويرسم معالم شخصيته لكي تبقى واضحة المعالم في اذهان مؤرخيه ، بل ان العبد
حين يجلب، يعجز العربي عن نطق اسمه الأصلي غالباً ، لقيامه على لغة اجنبيه لا يقوى
على تلفظ كلماتها ،، وهو لا يهتم بأن بصنع لعبده أو أمته أسماً معيناً ، وانما حسبه
ان يدعوه باللغة العربية بأي لفظ جرى على لسانه ، ومن هنا تكونت عادة في ذلك
المجتمع ، باسباغ عدة اسماء على العبيد ، فكان ان اخذت اسرة الامام العسكري (ع)
بهذه العادة ، واسبغت على هذه الجارية عدة اسماء ، حتى اننا رأينا الاسرة اذ وجدت
ان اثر الحمل لا يظهر عليها ، على ما سنسمع ، لم تتحاش عن إسباغ اسم جديد عليها ،
هو صقيل.
السبب الثالث : انها رضوان الله عليها عاشت تخطيطاً خاصاً ، في تبديل اسمها بين
آونة واخرى ، ودعائها بعدة اسماء في وقت واحد أ، في اوقات مختلفة ، عاشت ذلك منذ
دخلت هذه العائلة الكريمة ، لأنها ستصبح أماً للمهدي (ع) وسترى المطاردة والاضطهاد
من قبل السلطات وستعيش في السجن مدة من الزمن ... اذن فيجب القيام بهذا المخطط
تجاهها إمعاناً في الحذر وزيادة في التوقي عليها وعلى ابنها ، ولاجل أن يختلط في
ذهن السلطات ان صاحبة أي من هذه الاسماء هي المسجونة وأي منها هي الحامل وأي منها
هو الوالدة وهكذا ... حيث يكون المفهوم لدى السلطات كون الأسماء لنساء كثيرات ،
ويغفلون عن احتمال تعددها في شخص امرأة واحدة .
صفحة (243)
وهذا الاحتمال الثالث ، هو - بلا شك - الاحتمال الراجح في ام المهدي ( ع ) .
وإذ نريد ان نعرف أول مالك لهذه الجارية من اسرة الامام عليه السلام .. تواجهنا
فرضيتان ، بإعتبار اختلاف الأخبار الواردة عن ذلك ، اجدهما : انها كانت ملكاً
للامام الهادي عليه السلام ، وثانيتهما : انها كانت ملكاً لحكيمة اخت الهادي رضي
الله عنها ، ولكل من الفرضيتين خبر وقصة ...
الفرضية الاولى : انها دخلت أولاً في ملكية الامام على الهادي (ع)، وهو الذي قام
بتزويجها لابنه العسكري عليه السلام .
وذلك : ان الامام عليه السلام حين يريد ان يحصل على زوجة اينه : ام المهدي (ع) ،
يدعو نخاساً من بائعي العبيد موالياً له قد علمه أحكام الرقيق وفقهه في تجارته،
يدعى بشر بن سليمان النخاس ... يدعوه فيأمره بالسفر من سامراء إلى بغداد ويحدد له
الزمان والمكان والبائع ، ويصف له الجارية وبغض سلوكها ، فمن ذلك: انها تمتنع من
السفور ولمس من يحاول لمسها ، وإذ يضر بها النخاس ، تصرخ بالرومية صرخة ، قال
الامام : فاعلم انها تقول : واهتك ستراه! .. ومن ذلك:انها تنطق العربية بطلاقة
ويعطيه الامام عليه السلام صرة من النقود وكتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية
ومختوم بخاتمه الخاص.
صفحة (244)
ويذهب بشر النخاس إلى بغداد ويشاهد كل ما حدده له الامام ، ورآه تدفع عن نفسها
المشترين بضراوة قائلة لأحدهم : لو برزت في زي سليمان وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي
فيك رعبة .. فأشفق على مالك ، فيقول بائعها النخاس: فما الحيلة ولا بد من بيعك ،
فتقول الجارية : وما العجلة ، ولا بد من اختيار مبتاع يسكن قلبي إلى أمانته ، وهنا
يقوم بشر إلى بائعها ويقدم له الكتاب ويأمره بدفعه إلى الجارية قائلاً : انه لبعض
الاشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاءه ، فناولها
لتتأمل منه اخلاق صاحبه فإن مالت اليه ورضيت به فانا وكيله في ابتياعها منك، وقد
جرى كل ذلك بحسب وصف الامام وامره وتخطيطه.
وإذ تقرأ الكتاب ، ينقلب منها الحال انقلاباً عجيباً ، فتبكي بكاء شديداً ، وتقول
لبائعها : بعني من صاحب هذا الكتاب ، فإن امتنعت قتلت نفسي ، وتحلف بالايمان
المحرجة المغلظة على ذلك ، واذ يرى بائعها ذلك يطلب من بشر النخاس ثمناً كبيراً ،
فتطول المعاملة بينهما حتى يستقر الثمن على مقادار ما في الصرة التي حملها من
الامام ، فيعطيه للبائغ ويستلم الجارية ، ويذهب بها إلى الحجرة التي كان يأوي اليها
في بغداد .
وإلى هنا رأينا في هذه الجارية أربعة أوصاف يندر وجود واحد منها فضلاً عن المجموع
في جارية مسبية حديثة العهد بهذا المجتمع ، وكل منها جار على خلاف السلوك الاعتيادي
للعبيد ، فهي : أولاً : تنطق العربية بطلاقة ، وثانياً : تمتنع من السفور وتتحاشى
يد اللامس ، وثالثاً ترفض أي مشتر يتقدم لشرائها، وتقترح على بائعها أن تعين هي
مشتريها لأجل أن يسكن قلبها إلى أمانته .
صفحة (245)
ورابعاً: انها رغبت رغبةً شديدة بالامام عليه السلام ، وبكيت وهددت بالانتحار إذا
لم يبعها منه . فماذا قرأت في الكتاب وكيف حصل لها معه هذه الرابطة القوية والرغبة
الأكيدة ؟!.
كل ذلك يراقبه بشر النخاس ويعجب منه. وتتولد في ذهنه علامات استفهام كبيرة! وتتأكد
هذه العلامات وضوحاً حين رآها انها بمجرد أن استقر بها المقام في غرفته في بغداد ..
اخرجت كتاب الامام (ع) من جيبها وصارت تلثمه وتضعه على خدها وتطبقه على جفونها
وتمسحه على بدنها . فيقول لها متعجبأً منها : اتلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه ؟! .
وإذ تجيبه عن سؤاله .. تراها تغطيه بياناً ضافياً ، عن تاريخها وأحوالها ، يفسر كل
تصرفاتها الحالية .. نلخص منه المهم فيما يلي: انها مليكة بنت يشوعاء بن قيصر ملك
الروم . وامها من ولد أحد الحواريين المنتسب إلى وصي المسيح شمعون.
ويحدث في يوم من الأيام ان يحاول جدها القيصر تزويجها من ابن اخيه، فيعقد لذلك أعظم
مجالسه ابهة وجلالة واكثرها من حيث عدد الحاضرين وأسخاها من حيث الذهب والجواهر
الموزعة على أطراف المكان وعلى العرش الموضوع هناك المهيء للعريس الجديد .. فبينما
يصعد ابن اخيه على العرش تتساقط الصلبان وتنهار الاعمدة ويخر الصاعد مغشياً عليه .
ويتشائم القيصر والاساقفة ، ويبادره كبيرهم قائلاً : ايها الملك اعفنا من ملاقات
هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني .
صفحة (246)
وعلى أي حال .. فهي ترى في تلك الليلة فيما يرى النائم انه انعقد في قصر جدها
القيصر مجلس متكون من المسيح شمعون وعدة من الحواريين . ويدخل محمد صلى الله عليه
وآله وجماعة معه وعدد من سبنيه فيخف المسيح لإستقبال معتنقاً له فيقول له نبي
الاسلام (ص) : يا روح الله اني جئتك خاطباً من وصيك شمعون فتاته مليكة لإبني هذا .
تقول: وأومى بيده إلى ابي محمد صاحب هذا الكتاب. فنظر المسيح إلى شمعون فقال : قد
اتاك الشرف ، تصل رحمك برحم رسول الله وسلامه عليه قال : قد فعلت . فصعدوا ذلك
المنبر وخطب محمد (ص) وزوجني من ابنه .. وشهد المسيح عليه السلام وشهد بنو محمد (ص)
والحواريون .
وعلى اثر هذا الحلم يعلق في نفسها حب الامام العسكري ابي محمد عليه السلام ، بالرغم
من انها تخاف ان تقص هذه الرؤيا على ابيها وجدها مخافة القتل . ثم انها تصاب على
اثر حرمانها من حبيبها بمرض شديد ، ويحضر لها جدها كل الأطباء فلا يفهمون من دائها
شيئاً. ويطول بها الداء .. فيقترح عليها جدها ان تقترح عليه شيئاً ترغبه لكي ينفذ
لها رغبتها عسى أن تحس بالسعادة في مرضها . فتقول له : يا جدي أرى أبواب الفرج علي
مغلقة ، فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من اسارى المسلمين وفككت عنهم الاغلال وتصدقت
عليهم ومنيتهم بالخلاص .. رجوت ان يهب المسيح وامه في عافية وشفاء . فينفذ لها جدها
القيصر رغبتها .. فتتجلد في إظهار الصحة وتتنارل يسيراً من الطعام . فيسر جدها
بتحسن حالتها ويزيد في اكرام الاسارى واعزازهم .
صفحة (247)
ثم انه يزورها في المنام بعد أربع ليال : مريم بنت عمران وفاطمة بنت محمد عليهما
السلام . فتقوم العذراء بتعريف الزهراء لمليكه قائلة : هذه سيدة النساء أم زوجك ابي
محمد عليه السلام . وإذ تعرفها مليكة تتعلق بها وتبكي وتشكو اليها امتناع ابي محمد
(ع) من زيارتها فتجيبها الزهراء عليها السلام : ان ابني ابي محمد لا يزورك وانت
مشركة بالله على دين مذهب النصارى. ثم تأمرها بأن تشهد الشهادتين ، فيدفعها الحب
والشوق إلى امتثال هذا الأمر. وتدخل في الاسلام في عالم الرؤيا. واذ تسمع منها
الزهراء (ع) ذلك ، تضمها إلى صدرها وتعدها بزيارة ابي محمد لها.
وبعد ذلك يبدأ أبو محمد بزيارتها كل ليلة ، بدون اسثناء . قائلاً لها : ما كان
تأخيري عنك إلا لشركك ، وإذ قد اسلمت فأني زائرك كل ليلة .. إلى أن يجمع الله شملنا
في العيان .
ثم ان أبا محمد عليه السلام يخبرها في بعض زياراته ، بأن جدها سيجرد جيشاً لقتال
المسلمين في موعد حدده لها. وأمرها أبو محمد (ع) - وهو يريد ان يخطط لها طريق
الاجتماع به في العيان - أمرها ان تتنكر في زي الخدم وتخرج من طريق معين لتلحق
بطلائع الجيش الأسلامي ، ليأسروها وينقلوها إلى بلادهم . ففعلت ذلك حتى وصلت إلى
بشر النخاس . وأنكرت في غضون ذلك شخصيتها ، ولم تخبر أحداً بإنتسابها إلى قيصر
الروم ، وإذ يسألها مالكها عن اسمها : تدعي ان اسمها : نرجس . اذن فهي التي اختارت
لنفسها هذا الاسم.
صفحة (248)
وإذ تنتهي الجارية في قصتها إلى هذا الحد .. يستطيع بشر النخاس ان يفسر كل تصرفاتها
، ما عدا معرفتها للغة العربية. فيسألها عن ذلك فتخبره بانه بلغ من ولوع جدها وحمله
اياها على تعلم الآدب ان عين لها امرأة ترجمان تزورها صباحاً ومساء وتفيدها اللغة
العربية ، حتى استمر عليها لسانها واستقام.
ويذهب بها بشر النخاس إلى سامراء ويدخلها على الامام الهادي عليه السلام . فيقول
لها : كيف أراك الله عز الاسلام وذل النصرانية وسرف أهل بيت محمد (ص). قالت : كيف
اصف يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به مني.
ثم يتصدى الامام عليه السلام لإمتحانها وسبر اعوار ايمانها ومعرفة درة اخلاصها .
فنظر كيف يخيرها بين العاجل والآجل .. بين الدنيا والدين .. إذ يقول لها : فإني
اريد أن اكرمك : فأيما احب اليك عشرة آلاف درهم أم بُشرى لك بها شرف الابد . قالت :
بل الشرف . واذ وجدها الامام واعية لموقفها مضحية في سبيله بكل عال ورخيص . قال لها
: فأبشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً
وجوراً . قالت: ممن؟. قال عليه السلام متسائلاً : ممن خطبك رسول الله صلى الله عليه
وآله ؟ - وعين لها الوقت - قالت: من المسيح ووصيه. قال : فممن زوجك المسيح ووصيه؟
قالت . من ابنك ابي محمد . قال فهل تعرفينه. قالت : فهل خلوت ليلة من زيارته اياي
منذ الليلة التي اسلمت فيها على يد سيدة نساء العالمين ، أمه.
صفحة (249)
وعندئذ يستدعي الامام الهادي عليه السلام ، اخته حكيمة ويأمرها بأن تأخذ ترجس إلى
منزلها وتعلمها أحكام الاسلام . ويقول : فإني قد زوجت ابي محمد الحسن عليه السلام
وأم القائم عليه السلام (1) .
وأود ان اعلق على هذا الخبر بعدة تعليقات:
التعليق الأول: اننا نستطيع أن نعين تاريخ شراء الجارية وزواج الامام العسكري (ع)
بها . فإنه كان في زمان الامام الهادي عليه السلام ، وقد أراد ان يزوج ابنه الحسن
عليه السلام قبل ان يتوفى عام 254هـ . ليولد من هذه المرأة الجليلة مهدي هذه الأمة
القائم بدولة الحق. وسيأتي ان ولادة المهدي (ع) كانت بعد وفاة جده الهادي (ع). فإذا
استطعنا ان تعرف انه لم يمر زمان طويل بين زواجها كان في نفس هذا العام 254 هـ .
التعليق الثاني:انه قد يورد على هذا الحديث بعض الاعتراضات التي يمكن الجواب عنها
على أصولنا الأعتقادية، ويبقى الجواب عنها عند من لا يؤمن بهذه الأصول معلقاً على
التسليم بها على اننا سنقول اننا غير ملزمين بإعتبار هذا الخبر إثباتاًًًًًًً
تاريخياً كافياً.
ــــــــــــــــــــــ
(1) انظر اكمال الدين للشيخ الصدوق ( نسخة مخطوطة ) . وانظر الغيبة للشيخ الطوسي ص
124 وما بعدها المناقب ج 3 ص 538 وما بعده
صفحة (250)
الإعتراض الأول : أنه متضمن لعلم الامام الهادي عليه السلام بأمور غائبة غير منظورة
. في حين ان الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
والجواب على ذلك : انه بعد فرض ثبوت امامته ، يكون ذلك ممكناً في حقه. ونحن لا ندعي
علمه بالغيب مباشرة كعلم الله عز وجل . وإنما ندعي ان الامام إذا أراد ان يعله
شيئاً اعلمه الله تعالى اياه ، كما نطقت بذلك بعض الأخبار.
والمصلحة الرئيسية من الناحية الاجتماعية ، في ذلك هي ان الامام قائداً لأمة ورئيس
لدولة وموكول اليه تطبيق العدل الاسلامي الالهي على البشرية. فأحسن طريق لنجاح عمله
وقيادته، من الناحيتين النظرية والعملية معاً ، وهو منصوب لتطبيق أعلى أهداف
الاسلام وممثل لأحد أيام الله الكبرى التي اخذها الله تعالى بنظر الاعتبار في كونه.
الاعتراض الثاني: ان الايمان بمضمون هذا الحديث ، متوقف على الايمان بالاحلام . وهو
خرافة من الخرافات.
والجواب عن ذلك : يكون بأحد أمور ثلاثة :
أولاً: ان ما هو الخرافة ، هو الايمان المطلق بصدق جميع الاحلام ، وهذا لم يقل به
مفكر ، ولا هو الذي تدعيه ولا يتوقف عليه صحة هذا الحديث . وانما الشيء الذي لا شك
فيه هو صحة بعض الاحلام وتحققها في الواقع . وهذا أمر ضروري لمن راجع حوادث الحياة
ونظر في الكتب المؤلفة في ذلك كدار السلام للحاج ميرزا حسين النوري والاحلام
للدكتور علي الوردي . وغيرها .
صفحة (251)