مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب تاريخ الغيبة الصغرى لسماحة آية الله الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

يقول : فلم ألبث أن أتوني بشمعة ، فنزلت فوجدت عليه جبة صوف وقلنسوة منها وسجادته على حصير بين يديه وهو مقبل على القبلة . فقال لي : دونك البيوت - يعني الغرف - فدخلتها وفتشتها ، فلم أجد فيها شيئاً ، ووجدت البدرة مختومة بخاتم أمام المتوكل وكيساً مختوماً معه، فقال لي أبو الحسن عليه السلام : دونك المصلى فارفعه ، فوجدت سيفاً في جفن ملبوس . فأخذت ذلك ...إلى آخر الرواية كما سمعناها.
ويضطر هذا المتجسس ، في نهاية الشوط إلى الإعتذار من الإمام (ع) بكونه مأموراً . فيتلو الإمام قوله تعالى: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون" (1)وفي حادثة أخرى : يصل إلى المتوكل خبر مال يصل من قم ، وهي إحدى مراكز الولاء للإمام علي (ع) ..إليه عليه السلام ، فيأمر وزيره الفتح بن خاقان أن يراقب الوضع ويأتي بالخبر ، فيرسل الوزير بعض مأموريه يدعى أبو موسى إلى الإمام ، فيجلس في مجلسه ساكتاً ، فيطالبه الإمام بتبليغ رسالة المتوكل قائلاً: لا يكون إلا خيراً .. يا أبا موسى ، لم لم تعد الرسالة الأولة ، فيجيب أبو موسى : أجللتك يا سيدي ، فيدله الإمام بكل وضوح على طريق الإطلاع على هذا الماال وييسر له السبيل إلى ذلك بقوله : المال يجيء الليل وليس يصلون إليه . فبت عندي.
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص311 وانظر الفصول المهمة لأبن الصباغ ص298 وما بعدها بتغيير قليل


صفحة (151)

إنما يجيء المال ليلاً تخفياً عن عيون الدولة ، ولكن ما الحيلة بعد اطلاع الدولة عليه ، وتحديد سياسة الدولة بالسلبية وعلى أي حال ، يبات أبو موسى عنده ، وحين يجيء الليل يشتغل الإمام بالصلاة ، مدة من الزمن ..وبينما هو في الركوع في إحدى صلواته ، إذ يقطعه بالسلام قبل إتمام ركعات الصلاة ،ويقول لأبي موسى : قد جاء الرجل ومعه مال وقد منعه الخادم الوصول إليّ ، فاخرج فخذ ما معه (1).
النقطة الرابعة :
إلقاء القبض على الإمام علي عليه السلام حين ضاق المتوكل ذرعاً بحقده على الإمام وبنشاط الإمام الذي لم يكن بمستطاعه التعرف عليه بسعة ووضوح ، وقد بذل كل ما بوسعه ولا زال إلى الجانب المهم من ذلك النشاط غامضاً عنه يظن به الظنون ولا يمكنه أن يحيط بمحتواه . وقد حمل المتوكل توجسه وحقده على أن يزج الإمام في السجن ، وذلك في الأيام الأخيرة من خلافته.
ولا يخفى ما في ذلك من التحدي للقواعد الشعبية والجماهير الواسعة المؤمنة بالإمام قائداً ورائداً وموجهاً وإماماً . فإن سجن القائد بمنزلة سجن كل قواعده الشعبية ،ويكون تحدياً لها وللمبدأ الذي يتخذه والهدف الذي يهدفه ،وهذا ما لم يكن للمتوكل منه مانع ، وهو الذي خرب قبر الحسين عليه السلام ومنع الزوار عنه ، على ما سمعنا.
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ص515 وما بعدها.


صفحة (152)

وقد وردت في سجن الإمام روايتان تتفقان على وقوع ذلك في وقت واحد قبل ثلاثة أيام من موت المتوكل ، ولكنها تختلف في جملة من التفاصيل .
الرواية الأولى : أنه حين قبض المتوكل على الإمام (ع) سلمه إلى علي بن كركر ليزج به في السجن ويراقبه فيه، فصادف ان سمعه بغا او وصيف - الشك من الراوي- ،وهما القائدان التركيان المتنفذان في الدولة يومئذ، على ما عرفنا في التاريخ العام ، سمع الإمام وهو في السجن يزمزم قائلاً : أنا أكرم على الله من ناقة صالح " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب" لا يفصح بالآية ولا بالكلام .ولم يفهم هذا القائد التركي مراد الإمام .فسأل عنه ، وكان المسؤول هو راوي هذه الرواية . قال الراوي : قلت :أعزك الله ،، توعد . انظر ما يكون بعد ثلاثة أيام .فلما كان من الغد أطلقه واعتذر إليه .
فلما كان في اليوم الثالث : ثار عليه الأتراك ،ومنهم باغر ويغلون واوتامش ، وقتلوه وأقعدوا ولده المنتصر مكانه (1).
ويطيب لي ان أعلق على هذه الرواية بأمرين :
أحدهما: أن وعيد الإمام كان رمزياً إلى حد كبير ، إلى حد لم يفهمه القائد التركي .. وكان من الأهمية في الدولة ، بحيث أن الراوي حين فسره خاف أن يصرح بما فهمه بوضوح وإنما اختصر كلامه اختصاراً خشية أن يناله ضرر، ولا زال المتوكل في الحياة والحكم .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر احلام الورى ص346


صفحة (153)

ثانيهما: أننا نستطيع أن نعرف بالدقة تاريخ هذا التوعد الذي ذكره الإمام حال سجنه ، وهو اليوم الثاني لعيد الفطر من شهر ايلول عام 247 للهجرة .وقد قتل المتوكل والفتح بن خاقان بيد باغر ويغلون وجماعة من الأتراك ، في مجلس شرابه ليلة الرابع من شوال في نفس العام (1) ولم يكن بغا ولا وصيف ممن شارك في قتله ، وسلموا على ابنه المنتصر بالخلافة.
الرواية الثانية: أن المتوكل دفع الإمام أبا لحسن الهادي عليه السلام إلى سعيد الحاجب - الذي عرفناه - ليقتله. فوضعه سعيد في السجن حتى يتم قتله ،وحين قدم الراوي إلى سامراء في ذلك الحين دخل على سعيد. وكان سعيد يعلم بكونه موالياً للإمام علي (ع) . فقال له :أتحب أن تنظر إلى إلهك . يقصد بذلك الإمام استهزاء واستصغاراً . ولكن الراوي كان غافلا فلم يفهم وأجاب : سبحان الله إلهي لا تدركه الأبصار .
فأوضح سعيد مراده قائلاً :هذا الذي تزعمون أنه إمامكم . فصادف ذلك رغبة في نفس الراوي ، إلا أنه أجاب بحذر قائلاً ك ما أكره ذلك ، فأفهمه سعيد القصد من سجن الإمام (ع) وقال : وقد أمرني المتوكل بقتله وأنا فاعله ، وعنده صاحب البريد فقال : إذا خرج فادخل إليه .
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص303


صفحة (154)

وحين يخرج صاحب البريد من الإمام (ع) يدخل الراوي في الدار
- يعني الغرفة - التي حبس فيها الإمام ، فيرى قبراً يحفر ، قال: فدخلت وسلمت وبكيت بكاء شديداً ،فقال : ما يبكيك؟ قلت : لما أرى قال: لا تبك فإنه لا يتم لهم في ذلك .فسكن ما بي .فقال ك إنه لا يلبث من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رايته .قال : والله ما مضى يومان حتى قتل.(1)

وهذه الواية لا تنافي الرواية الأولى ، في التوقيت ، فإن المراد من قتله في يومين : قتله بعد يومين : قتله بعد يومين ويكون سفك دمه في اليوم الثالث ، وهو نفس الموعد في الرواية الأولى .كما لا تنافي بينهما في تعيين من دفع المتوكل الإمام إليه ،إذ من الممكن أن نفترض أن المسؤول عن قتله هو سعيد الحاجب والمشرف عليه في سجنه هو علي بن كرر الذي تذكره الرواية الأولى كما أن خلو الأول من ذكر كون الغرض هو قتل الإمام ليس تنافياً صريحاً ، إذ من الممكن أن نفترض أن الغرض هو ذلك .
ولكنه لم يرد في تلك الرواية لنسيان الراوي لتفاصيل الحادثة ، أو خوفه من بعض سامعيه في ذكر محاولة المتوكل لقتل الإمام أو غير ذلك من الأسباب.
إلا أن الرواية الأولى ارجح من الثانية على أي حال .فإن الثانية تتضمن مضعفاً لإحتمال صحتها غير موجود في الأولى وذلك أنها نسبت للإمام (ع) قوله:أنه لا يلبث من يومين حتى يسفك الله دمه ودم صاحبه الذي رأيته. فيقع السؤال عن صاحبه الذي قصده .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الخرايج والجرايج ص59


صفحة (155)

وظاهر الكلام أن المراد به سعيد الحاجب ، لأنه هو الذي كان الراوي قد رآه .
مع أن سعيد لم يقتل مع المتوكل ، بل بقي حياً حتى سنة 257 حين أرسله المعتمد لحرب الزنج * وإنما قتل معه الفتح بن خاقان .فلا بد أن نفترض فرضاً مخالفاً لظاهر الكلام :أن الراوي كان قد رأى الفتح بن خاقان أيضاً ، وأنه فهم من كلام الإمام ذلك ،والله العالم.
كما أن الرواية الأولى تتضمن مرجحاً لإحتمال صحتها ،وهو تسمية من باشر قتل المتكل من الأتراك ، وهو مطابق للتاريخ العام بشكل عام، وقد ذكرنا في المقدمة أن هذا يصلح قرينة على صحة الرواية ، كما يصلح مرجحاً للأخذ بها عند التعارض ،ولكننا بعد إسقاط الأضعف في مقدرار التعارض يمكن أن نأخذ بها في مداليلها وتواريخها الأخرى .
خاتمة المطاف :
لا بد لنا في نهاية الحديث عن تاريخ إمامنا الهادي عليه السلام ، أن نشير إلى موقفين له مهمين ، يشار إليهما في التاريخ بشكل موجز يكاد يكون عابراً .
الموقف الأول: موقفه عليه السلام من الموالي عامة والأتراك خاصة ،وهم من كانت العاصمة العباسية الجديدة :سامراء تزخر بهم ، وقد عرفنا مما سبق مدى تأثيرهم على السلطة وسيطرتهم على الخلفاء ، تنصيباً وعزلاً واختياراً وقتلاً .وكان الخليفة يضطر إلى أن يأخذهم بنظر الإعتبار كل الإعتبار.
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص361.


صفحة (156)

ولا يخفانا قبل كل شيء ، أن هؤلاء الموالي لم يكونوا من الموالين للإمام ولا من قواعده الشعبية .بل كان أكثرهم الغالب ضده ومختلفين معه في المبدأ والمنهج ،ومن المسايرين لمبدأ الدولة ومناهجها ، والمنتفعين من الخلافة العباسية . وكان جملة منهم قواداً متنفذين بيدهم إعلان الحرب والسلم مع أي شخص في أطراف الدولة .وكانوا يخوضون الحروب في الغالب في الجيش الممثل للدولة وهو المنتتصر في الحرب غالباً ، وبذلك يغتنم الأتراك ومن إليهم أموالاً طائلة ، من الثراء على حساب المظلومين المقهورين تحت الحروب.
ولم يكن الإمام (ع) ليوافق على تصرفاتهم التي لم تكن قائمة على شيء من تعاليم الدين والعدل الإسلامي الصحيح ، وبخاصة أنه يعلم موقفهم ضده وضد مواليه ، حتى كان الخليفة العباسي يستخدمهم في الكبس على دار الإمام وحبسه وإزعاجه كما عرفنا .
ومن هنا ينبثق موقف الإمام (ع) حيث كان يحاول ، بحسب الإمكان ، وببطء ،وحذر ، لإقامة الحجة عليهم وإفهامهم صدق مبدئه وعدالة قضيته .ولا يخفى ما في ذلك من الفائدة المباشرة للإمام وأصحابه ومواليه ،فإنه بنشاطه هذا يخفف من غلواء المندفع منهم ضده ويقرب المعتدل منهم إليه ، أو يجعل الفرد منهم يشك في حال نفسه ويعيد النظر في سلوكه وشأنه.
ونستطيع أن نقسم موقف الإمام (ع) منهم إ لى نقطتين ، باعتبار موقفه من عامتهم تارة وموقفه من كبرائهم وقوادهم أخرى.


صفحة (157)


النقطة الاولى : في موقف الامام عليه السلام من جمهور الموالي وعامتهم في العاصمة العباسية.
ومن المستطاع القول بأن جهوده المستمرة اثمرت بعض الشيء في تقريب بعضهم اليه وايمانهم بفضله وربما بامامته . وكانت جهود الإمام عليه السلام متواصلة في ذلك.
فمن ذلك : أنه مر به تركي : فكلمه بالتركية .فنزل عن فرسه فقبل حافر دابته .قال الراوي: فحلفت التركي أنه ما قال لك الرجل؟ قال: هذا كتابي باسم سميت به في صغري ببلاد الترك ، ما علمه أحد إلا الساعة (1)، ولعلك لاحظت معي هذا التأثير الكبير الذي استطاع الإمام ان يصهر به التركي ، بإقامته هذه المعجزة البسيطة له. ومن ذلك : ما عن علي بن مهزيار - وهو من ثقات الائمة عليهم السلام ومعتمديهم - قال: ارسلت إلى ابي الحسن الثالث - يعني الامام الهادي (ع) - غلامي وكان صقلبياً. فرجع الغلام الي متعجباً . فقلت له : مالك يا بني؟ فقال: و كيف لا اتعجب ؟ ما زال يكلمني بالصقلبية كانه واحد منا ،وانما اراد بهذا الكتمان عن القوم (2).
ولعلك لاحظت معي، ان الامام استطاع بتكلمه بتلك اللغة ان يحصل على فائدتين : احدهما : التاثير على الغلام واكتساب اعجابه وتعجبه من اطلاع الامام ومعرفته ، ان لم يعتبرها معجزة من معاجزه.
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج3 ص512
(2) المصدر و الصفحة


صفحة (158)

ثانيهما: انه بهذا الاسلوب اخفة مضمون الكلام عمن لا يريد اطلاعه عليه من عيون الدولة. فتراه يتكلم مع الغلام بلغته مع كونه عالما بكونه يحسن اللغة.
النقطة الثانية : موقفه عليه السلام من كبرائهم وقوادهم .ولا يخفى ما في الموقف الايجابي منهم من الدقة والحرج ،فانهم بصفتهم ممثلين للجهاز الحاكم ، يكون الحذر منه حذرا منهم ايضا. وبخاصة ان اكثرهم ينهج نهج اعدائه والطعن في شأنه.
ومن ثم لا نجد موقفا منقولا في التاريخ للامام عليه السلام تجاههم. ما عدا موقفه من بغا الكبير ، الذي كان يعتبره واحداً من اثنين او ثلاثة من القواد الاتراك ومتنفذيهم .فانه كان يملك تجاه الامام موقفاً معتدلاً ويشفق على قضيته بعض الشيء ، وربما انتج ذلك احياناً استعمال مركزه في رفع بعض الظلامات عنه وعن اصحابه.
يقول المسعودي (1) : وكان بغا كثير التعاطف والبر على الطالبين
ثم ينقل له تعطفاً على بعض الطالبين ،حيث كان قد حاول قتل عامل المعتصم على الكوفة ،فأمر المعتصم بغا هذا بإلقائه إلى السباع ..فلم يلقه .
إلا أنه امره بان يجهد الا يظهر في ايام المعتصم ..فوعده بذلك.
وكان هذا النشاط البناء لهذا القائد التركي ، في قضاء حولئج المؤمنين ، يرد مورد الرضا في نظر النبي (ص) .ومن هنا نسمع بغا
ــــــــــــــــــــ
1-المروج ج4 ص76


صفحة (159)

يقول: رايت في نومي النبي (ص) ومعه جماعة من اصحابه. فقال لي: يا بغا احسنت إلى رجل من امتي ، فدعا لك بدعوات استجيبت له فيك. قال: فقلت يا رسول الله ومن ذلك الرجل ؟ قال : الذي خلصته من السباع فقلت : يا رسول الله .سل ربك أن يطيل عمري .
فرفع يديه نحو السماء وقال : اللهم أطل عمره وأتم أجله .فقلت: يا رسول الله ، خمس وتسعون سنة .فقال رجل كان بين يديه : ويوقي من الآفات ، فقلت للرجل: من انت .قال: أنا علي بن ابي طالب .
فاستيقظت من نومي ،أنا أقول : علي بن أبي طالب .
ومهما كان رأيك في صدق الاحلام وكذبها ،فإننا وجدنا بغا يعيش نيفا وتسعين سنة حتى توفي عام 248 (1) وفي نقل آخر انه كان حياً عام 153 حين قتل وصيف التركي(2)..... وعلى أي حال فهذا لا يعدو ان يكون مرجحاً لطول عمره.
وينقل التاريخ للامام الهادي عليه السلام موقفاً واحداً اتجاه بغا الكبير يدل على التأييد الضمني له، وذلك اثناء وجود الإمام في الدينة المنورة قبل انتقاله إلى سامراء ، فإنه في عام 230 هـ أغار الأعراب من بني سليم على المدينة ونهبوا الأسواق وقتلوا النفوس ،ولم يفلح حاكم المدينة في دفعهم رغم القتال الشديد ،بل انتصروا فازداد شرهم واستفحل امرهم .فوجه إليهم الواثق العباسي بغا الكبير ففرقهم وقتل منهم وأسر آخرين وانهزم الباقون (3).
ــــــــــــــــــــ
(1) المصدر والصفحة (2) المصدر ج4ص75
(3) الكامل لإبن الأثير ج5ص335


صفحة (160)

وبالطبع فإن مثل هذه الحوادث المؤسفة تؤلم قلوب الناس وبخاصة قلب المؤمن الذي يشعر بتعاليم الاسلام والمسؤولية الدينية .فكيف بحال الامام عليه السلام ... ومن ثم نرى الامام حين ورود بغا بجيشه الى المدية. نراه يقول لاصحابه : اخرجوا بنا حتى ننظر الى تعبئة هذا التركي .يقول الراوي :فخرجنا فوقفنا.(1)

وكان الامام (ع) بصفته الرئيس والموجه لأصحابه ومواليه يريد أن يشجع بغا ويؤيده ضد هذا العمل التخريبي المؤسف ،وإن كان التاريخ قد أهمل تماماً ، ما إذا وقع بين الإمام وبغا شيء من الكلام أو بين أصحابهما شيء من المداولات .
الموقف الثاني : للإمام عليه السلام تمهيده لغيبة حفيده محمد بن الحسن بن علي الحجة المنتظر ،وذلك بتحضير الذهنية العامة لدى قواعده الشعبية ، لتقبل فكرة الغيبة .
وتبليغ الإمام عن ذلك كان منصباً على مواليه ومقتصراً على أصحابه الخاصين ، ولم يكن يعم الآخرين ،لأنهم لم يكونوا يؤمنون بتسلسل خط الأئمة الإثني عشر ، إذن فيكون تبليغهم بذلك تبليغاً بلا موضوع.
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص270
(2) انظر الإعلام الورى ص243 وكشف الغمة ص178 ج3


صفحة (161)

ويلاحظ في تبليغ الإمام عليه السلام التخطيط لحماية الحجة المهدي عند غيبته . فكلام الإمام حوله محاط بهالة من القدسية والغموض ، ومشفوع بالتأكيد المتزايد بأنه لا يحل لأحد ذكر اسمه .وذلك توصلاً إلى عدم تسر به إلى الجهاز الحاكم .
وقد وردت عنه - بهذا الصدد- عدة أحاديث نقتصر على بعضها:
فمن ذلك قوله (ع) - في كلام له : ومن بعدي الحسن ابني .فكيف للناس بالخلف من بعده ، قال الراوي : فقلت :وكيف ذلك يا مولاي .
قال: لأنه لا يرى شخص هو لا يحل ذكر اسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطا وعدلا ،كما ملئت جوراً وظلماً
ومن غامض قوله (ع) في ذلك :إذا رفع علمكم من بين أظهركم فتوقعوا الفرج من تحت أقدامكم .وقوله .فإني لكم بالخلف بعد الخلف (1).
ولا يخفى ما في الغموض من مصلحة خفاء المهدي (ع) حتى من أصحابه ومواليه .فإن المستوى العام الذي يجب ان يشتركوا فيه هو الإيمان بوجوده ،وأنه الثاني بعد الإمام الهادي (ع) وهو معنى : الخلف بعد الخلف .إلا أن معرفتهم بالتفاصيل فهو مما لا سبيل إليه، لأن أفراد أصحابه ومواليه يختلفون في مقدار ضبطهم وصمودهم أمام الإغراء والتهديد ،فإذا عرفنا أن الدولة كانت مستعدة لبذل المستحيل ومختلف أساليب الإغراء والتهديد في سبيل القبض عليه ، لعلمنا أنه يجب أن
ــــــــــــــــــــ
(1) نظر الإكمال المخطوط وانظر الخبر الأول في الكافي المخطوط.


صفحة (162)

يبقى اسم المهدي (ع) ومكانه وسائر أموره غامضة ومختفية حتى عن كثير من الموالين ، لما يخشى من ضعفهم أمام الجهاز الحاكم.
ولذا سنرى الإمام الحسن العسكري لا يعرض ابنه المهدي (ع) إلا على القليل من أصحابه بالمقدار الذي تقوم به الحجة على الناس مع الضمان الكامل لنجاته من براثن الجهاز الحاكم ، فكان موقف المهدي عليه السلام تمهيداً لموقف ابنهالإمام العسكري عليه السلام من ذلك ، وتهيئة للذهنية العامة تجاهه.


صفحة (163)

الفصل الثالث
تاريخ الإمام الحسن بن علي العسكري

ولد عليه السلام بالمدينة عام (232)(1) وانتقل مع أبيه إلى سامراء بأمر المتوكل - على ما عرفنا - عام 234 هـ(2) وعمره حوالي العامين .ومن ثم فقد قضى القسط الأهم من حياته في العاصمة العباسية ، وواكب في العقدين الأولين من حياته ،وهي فترة معاصرته لابيه، جميع الظروف ولاملابسات والمولقف التي كان يواجهها أبوه عليه السلام أو يقوم بها ،وكان يتلقى ذلك بصمت وضبط واتقان استعداداً لتولي الأمانة بعد والده.
وإذ توفي والده الإمام الهادي (ع) عام 254 هـ في أيام المعتز العباسي ،قبل خلعه بعام واحد سنة 255 هـ(3) ..يكون عمره عليه السلام آنئذ ، حين تسلمه مركز الإمامة الفعلية الموالية والمؤمنين بقيادته ..اثنين وعشرين عاماً.
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص315 وأعلام الورى ص349 والإتحاف ص68 وغيرها.
(2) انظر ابن خلكان ج2 ص453 والطبري ج11 ص157 والكامل ج5ص339 وابن الوردي ج1 ص333 والإتحاف ص68 والإرشاد ص307 واعلام الورى ص239 والمناقب ص505
(3) الكامل ج5 ص341


صفحة (165)

وقد واكب في عصر إمامته عليه السلام ، عاماً واحداً من أيام المعتز ، ثم المهتدي حتى ثار عليه الأتراك وقتلوه عام 256هـ (1).ثم واكب من أيام المعتمد حوالي أربعة أعوام حتى توفي عليه السلام عام 260هـ (2).
على حين استمر المعتمد في الحكم إلى عام 279 هـ ، حيث خرج من سامراء وقتل، وبذلك انتهت هذه البلدة عن كونها عاصمة للخلافة العباسية ، وعادت الخلافة إلى بغداد ..، قد سبق في الفصل الأول أن حملنا عن ذلك فكرة كافية.
موقفه(ع) تجاه الأحداث العامة:
وهنا نواجه نفس الفجوة التاريخية التي كنا نواجهها في تاريخ الإمام الهادي عليه السلام .وهو عدم ورود تعليقات الإمام العسكري (ع) على جملة من الحوادث العالمية في أيامه .وقد أعطينا فيما سبق المبررات الواقعية لذلك مفصلاً.
والمهم أن نعرف أنه واكب عصر الإمام العسكري (ع) العديد من الحوادث المهمة المختصة به ، فالعام الأول من إمامته عليه السلام هو العام الأول لبدء دولة أحمد بن طولون في مصر .حيث بدأت بتولية الحكم على مصر والياً من قبل احد الأتراك هو بابكيال ...أولاً .ثم آخر منهم هو ياركوج(3) حيث استعمله الأخير على ديار مصر كلها وسلطة عليها فقوي أمره وعلا شأنه ودامت أيامه.
ــــــــــــــــــــ
(1) المصدر ص355
(2)انظر ابن خلكان ج1 ص372والكامل ج5373 وابن الوردي ج1 ص232 والإتحاف ص68 واعلام الورى 349 والمناقب ص524- والفصول المهمة ص307.
(3) الكامل ج5 ص339.


صفحة (166)

وفي ايامه عليه السلام ، كانت سيطرة الحسن بن زيد العلوي على طبرستان ، في ثورته الكبرى ضد السلطة التي دامت عدة سنوات ، وما قام به وما نفذ ضده من حروب.
ويتكلل كل ذلك ، من ناحية الأهمية بالنسبة إلى الكيان العباسي القائم بل لشعب المنطقة كله، بظهور صاحب الزنج بثورته العارمة الصاخبة التي عرفناها فيما سبق وقد استمرت حوالي الخمسة عشر عاماً.
وسنجد للإمام (ع) تعليقاً بسيطاً على صاحب الزنج .أما الحوادث الأخرى فلم نسمع منه عليها تعليقاً .وإنما كان كأبيه يقتصر في نشاطه بصفته إماماً موالياً لمواليه وأصحابه مشرفاً على مصالحهم العقائدية والإجتماعية مضافاً إلى تمهيده المباشر لغيبة ولده الحجة بن الحسن المهدي عليه السلام.
ومن الغريب المؤسف، أن ظروفاً صعبة نراها تمر على الخلافة العباسية في هذا العصر بالذات . ضعفت فيها الخلافة ، وسيطرعلى الحكم الموالي والأتراك وجماعة آخرين كالموفق طلحة بن المتوكل .ونرى المهتدي يتحنث ويتشبه بعمر بن عبد العزيز في بني امية ، وينصب قبة للمظالم ويتقرب إلى الله بما يعتقده من خدمة الناس وقضاء حوائجهم(1) كل ذلك لم يوجب خفة الضغط الموجه ضد الإمام وأصحابه ومواليه ، بل كان في ازدياد مستمر وتصاعد كبير ، على ما نرى من المعتمد عند وفاة الإمام العسكري وتقسيم أمواله وبدأ الغيبة الصغرى على ما سنسمع، بالرغم مما كان يتمتع به النعتمد من سلبية وانصراف عن شؤون الدولة .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الكامل ج5 ص357والمروج ج4 ص103


صفحة (167)

والسبب في ذلك واضح وهو أن التوجس من الإمام وأصحابه والخوف من تحركاته ، لو كان مقتصراً على شخص الخليفة أو بطانته لهان الأمر ، ولاستطاع الإمام بكثير من الوسائل إخفاء نشاطه وبث تعاليمه بعيداً عن أنظار الدولة .ولكن الأمر ليس كذلك ، بل كان هذا التوجس والإنحراف متمثلاً في خط اجتماعي عام لم يكن الخليفة إلا أحد أفراده ... يضم كل من سيطر على الدولة وكسر شوكة الخلافة ، كالموفق نفسه وجماعة الأتراك والموالي في اكثر قوادهم وعامتهم. كما يضم ، إلى جانب ذلك ، عدداً كبيراً من المصلحين والمنتفعين و" أعضاء الشرف" في جهاز الدولة الكبير.
فكان هذا الخط الإجتماعي العام يتعاون ويتضامن ضد الخط العام الذي تمثله قيادة الإمام عليه السلام .ويحاول بكل صراحة وجد أن يبعد الإمام وأصحابه عن المسرح السياسي والإجتماعي ويعد عليهم انفاسهم ويحاسبهم على القليل والكثير .فمن ثم لا ينبغي أن نتوقع خفة الضغط بتوالي الأعوام ، بل شدته وترسخه وعمق تأثيره.
وعلى أي حال ، فينبغي أن نكون على ذكر من ذلك ، في مستقبل البحث فإنه يمثل أحد الأسباب المهمة لحدوث الغيبة.
تفاصيل مواقفه:
إذا نظرنا إلى مواقفه وأعماله عليه السلام ، نجدها امتداداً طبيعياً لمواقف وأعمال والده عليه السلام ، كما هو غير خفي لدى مقارنة بعضها من بعض ،ومعرفة أنها تستقى من معين واحد وتتجه اتجاهاً متشابهاً .


صفحة (168)

ونستطيع أن نقسم مواقفه عليه السلام إلى أربعة :
الموقف الأول: موقفه تجاه من لا يؤمن بإمامته ، حكاماً ومحكومين كإقامة الحجة عليهم أو تعليقه على بعض أعمالهم.
الموقف الثاني : جهاده العلمي في رد الشبهات وإيضاح الحق.
الموقف الثالث: موقفه من أصحابه ، محذراً لهم من الوقوع في الشرك العباسي ، أو معيناً لهم على نوائب الدهر.
الموقف الرابع : تمهيده لغيبة ولده قائم آل محمد (ص) .
فلا بد من الدخول في تفاصيل هذه المواقف :
الموقف الأول: موقفه تجاه من لا يؤمن بإمامته :
ومن خلال تفاصيل هذا الموقف يمكن أن نضع يدنا على عدة نقاط : النقطة الأولى: موقفه من خلفاء عصره :
كانت السياسة العباسية تجاه الأئمة عليهم السلام ، تلك السياسة التي سنها المأمون تجاه الإمام الجواد وطبقها المتوكل نجاه الإمام الهادي ،وهي ربط الإمام بالبلاط ودمجه بالحاشية توصلاً إلى دوام مراقبته ودقة الإطلاع على أمره وفصله عن قواعده الشعبية الموالية له ..كانت هذه السياسة سارية المفعول تجاه الإمام العسكري ، فكان كوالده محجوزاً في سامراء مسؤولاً عن الذهاب إلى بلاط الخلافة كل اثنين وخميس.(1)

(1) المناقب ج3 ص533


صفحة (169)

إلا أن علاقته بالخلفاء كانت باحتراس وحذر مضاعفين ،وكانت خالية من الضجيج الذي كان يثار حول والده عليه السلام بل كانت تقام بشكل روتيني رتيب ، تمسكاً بتلك السياسة العامة بدون أن ينقل خبر في التاريخ عن تفاصيل العلاقات بينه وبين كل واحد من خلفاء عصره.
وإنما اقتصر التاريخ على نقل تنبؤات الإمام عليه السلام ، بموت من مات في عصره من الخلفاء ،وهم اثنان : المعتز والمهتدي.
أما بالنسبة إلى المعتز، فنجد الإمام عليه السلام يكتب إلى أحد أصحابه قبل موت المعتز بنحو من عشرين يوماً:الزم بيتك حتى يحدث الحادث . فيتخيل الرجل أن المراد الإشارة إلى حادث آخر.. فلما قتل بريحة كتب إليه: قد حدث الحادث فما تأمرني . فكتب الإمام إليه :
ليس هذا الحادث .الحادث الآخر ، فكان من المعتز ما كان(1). وكلنا يعرف ما الذي كان ، من مقتل المعتز عام 255هـ بيد الأتراك على اساس ضيق ذات يده عن دفع الرواتب والأرزاق ،وبخل أمه عن إمداده بالمال ، على ما سمعنا من التاريخ العام في الفصل الأول.
ــــــــــــــــــــ
(2) المناقب ج3 ص536


صفحة (170)

لاحظ معي قول الراوي : فكان من المعتز ما كان، بما فيه من تعمد الإغماض وبعد الإشارة إلى مقتل المعتز. كما أن تعبير الإمام عن ذلك أشد غموضاً .وقد عرفنا إلى الآن تفاصيل الظروف التي اوجبت إغماض العبارتين
ومثله في الغموض تنبؤه الآخر بقتل المعتز ، حيث يروي أن المعتز أمر سعيداً الحاجب بقتل الإمام بعيداً عن عيون الناس.
قائلاً له : أخرج يا محمد إلى الكوفة ثم اضرب عنقه في الطريق . قال الراوي :فجاء توقيعه عليه السلام إلينا - يعني إلى أصحابه -: الذي سمعتموه تكفونه . فخلع المعتز بعد ثلاث وقتل(1).
ولا يخفى ما في هذه العبارة الغامضة تجاه الجهاز الحاكم ، من وضوح تجاه أصحابه عليه السلام ،ورفع لمعنوياتهم، أن يعلموا أن إمامهم وقائدهم المهدد سيقى على قيد الحياة .وأن الذي هدده هو الذي سيبوء بالفناء والدمار. مضافاً إلى أنها ستكون دليلاً جديداً على إيمانهم وصدق مقاعدهم ، عند تحقق النبوءة فتزيدهم قوة في العمل وتحملاً للتضحية في سبيل الحق .
وأما بالنسبة إلى المهتدي العباسي ، فما قد يلاحظه التاريخ من كونه متخنثاً متديناً ، يتشبه بعمر بن عبد العزيز، وكان يواصل الصيام وكان يركع ويسجد إلى أن يدركه الصبح(2) وأنه بنى القبة للمظالم جلس فيها للعام والخص وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرم الشراب ونهى عن القيان واظهر العدل(3).....هذا وإن كان تقدماً نحو الحق بالنسبة إلى أسلافه وتخلصاً عن كثير من العثرات والإنحرافات التي وقعوا فيها ، إلا أنه على أي حال حق بمقدار فهمه وإدراكه ...حق مبتور ناقص .. لا يمكن أن يكون هو التطبيق الصحيح للإسلام .
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج3 ص531 (2) المروج ج4 ص103
(3) المصدر ص96


صفحة (171)

ومن ثم وقف الناس منه موقف الرافض المستنكر ، وذلك انطلاقاً من إحدى وجهتي النظر :
وجهة النظر الأولى :
وجهة من يجعل آلهه هواه، ويستصعب الحق والعدل ويستكين إلى اللهو واللعب الذي عودهم عليه الخلفاء السابقون. فكان مسلك هذا الرجل ضيقاً عليه وإحراجاً لموقفه . يمثل هذه الوجهة أكثر الشعب وأكثر القواد والوزراء والمنتفعين .بقول المسعودي : فثقلت وطأته على العامة والخاصة ، فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه(1).
وجهة النظر الثانية:
وجهة الإمام لحقيقة المشكلة الاجتماعية من ناحية وللعدل الاسلامي من ناحية اخرى. فليست المشكلة الاساسية في المجتمع ،ما ادركه المهتدي من سوء القضاء او انصراف الخليفة عن مصالح الناس او كثرة البذخ في البلاط او زيادة مكتسبات القواد ورواتبهم . فان كل ذلك وإن كان ظالماً خارجاً عن حكم الاسلام .الا ان ذلك كله فرع الحقيقة الكبرى للمشكلة ،وهو انحراف المجتمع اساساً عن العدل الاسلامي وعدم وعيه له وعدم استعداده لتطبيقه والتضحية في سبيله.
والحل لا بد ان ينطلق من محاولة ايجاد الوعي وتثقيف الناس ،حتى يخضعوا للحكم العادل ويكون طيباً على نفوسهم.
ــــــــــــــــــــ
(1)المروج ج4ص96


صفحة (172)

كما ان العدل الاسلامي ليس هو ما يقضي به المهتدي . فإنه على أي حال ليس جامعاً لشرائط القاضي العادل في الاسلام. وبالنتيجة فإن هذا الرجل هو ثمرة لخط طويل ، منحرف - في نظر الإمام (ع) - وغاصب للحق الأولي الذي يؤمن به الإمام لنفسه ولآبائه .ومن ثم لم تكن سيرة المهتدي لتشفع تجاه الإمام بحيث يخرج بها هذا الرجل عن كونه ظالماً إلى كونه عادلاً.
زد على ذلك ، أم هذا الرجل الذي يدعي العدل ، قد مارس سجن الإمام عليه السلام ، إذن فهو - على ما هو عليه - ممثل للحقد التقليدي للدولة العباسية تجاه الإمام . وقد صرح الإمام في سجنه لأحد أصحابه المسجونين معه قائلاً: في هذه الليلة يبتر الله عمره. قال الراوي : فلما أصبحنا ، شغب الأتراك وقتل المهتدي وولي المعتمد مكانه(1) .وإذا رجعنا إلى التاريخ العام نرى كيف أن الأتراك بقيادة بابكيال قاتلوه وحاججوه على سيرته وعزلوه وقتلوه.
ومن طريف ما قالوا له: أن الرسول (ص) كان مع قوم قد زهدوا في الدنيا ورغبوا في الآخرة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم.
وأنت إنما رجالك ما بين تركي وخزرجي وفرعاني ومغربي وغير ذلك من انواع المعاجم ..لا يعلمون ما يجب عليهم من امر آخرتهم ،وإنما غرضهم ما استعجلوه من هذه الدنيا، فكيف تحملهم على ما ذكرت من الواضحة(2).
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج3ص535 (2) المروج ج4ص99


صفحة (173)

ومن طريف ما فعل يومئذ: أنه بعد انهزام جيشه في قتال الأتراك ، دخل سامراء وحده مستغيثاً بالعامة مستنصراً للناس ، وهو ينادي : يا معشر المسلمين أنا أمير المؤمنين قاتلوا عن خليفتكم .فلم يجبه أحد من العامة إلى ذلك (1).
ونسمع للإمام تنبأ آخر عن موت المهتدي أسبق من ذلك التنبؤ بأيام مقروناً بتعليق سياسي. وذلك :ان المهتدي بعد ان استفحل الامر بينه وبين الموالي ،عزم على استئصالهم(2) وحلف قائلاً :لاجلينهم عن جديد الارض. فخطر في ذهن بعض اصحاب الامام ان انشغال المهتدي بذلك يصرفه عن ملاحقة الامام وتهديده له. فكتب الى الامام :
يا سيدي ، الحمد لله الذي شغله عنك ، فقد بلغني أنه يتهددك.
فانظر بما اجاب ... انه اذ يعيش الجو السياسي آنئذ يرى بوضوح ان الموالي اقوى من المهتدي واكثر عدة وعدداً. وإذا فهم الموالي قصده ضدهم.. فما اسهل من قتلهم اياه . ومن ثم يكون تهديده لهم جناية من نفسه على نفسه وقطعاً لعمره ، من دون ان يترتب غرضه.
فقد وقع الإمام بخطه: ذاك أقصر لعمره .عد من يومك هذا خمسة أيام ويقتل في اليوم السادس ، بعد هوان واستخفاف يمر به(3) . يشير إلى القتال والمناقشات وعدم خروج الناس لنصرته .. فكان كما قال(4).
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5ص356
(2) على ما تقول الرواية - في تاريخنا الخاص - وهو امر غير معروف من التاريخ العام .وإن كان من القرائن الإجتماعية قائمة على صحته .
(3) أعلام الورى ص356 (4) الإرشاد ص324


صفحة (174)

موقف المعتمد تجاه الإمام :
نرى للمعتمد موقفاً غريباً لم يسبق لأحد من اسلافه أن قام به ، وهو موقف التذلل لإمام والتضرع إليه .
فإنه كان يكفي لهذا الرجل أدنى تفكير ..ليتوصل إلى الشك في بقائه في الخلافة يوماً أو بعض يوم فضلاً عن العام والأعوام .إذ يكفي أن يستعرض آجال أسلافه من الخلفاء وكيف كتبها الموالي والأتراك بسيوفهم وآرائهم. ليدرك ضعف موقف الخلافة بشكل عام لا في السيطرة على الحكم فقط ، بل في السيطرة على الخلافة نفسها. إذن فهو بصفته سائراً في هذا الخط ، فلا يكون احسن حالاً من أسلافه ، بل قد يكون - في نظره- أسوأ حالاً باعتبار كونه مغلوباً على أمره مسلوباً عن التصرف بالكلية على حين أقوى منه وأكثر حرية وأنفذ حكماً.
لذا فقد وجد أقرب طريق لدفع الشر المستطير عن نفسه وضمان طول عمره وامتداد حكمه .ولا زال في أول اعوام خلافته ، وأن يقصد الإمام عليه السلام في داره ويتضرع إليه ويسأله ان يدعو له بالبقاء عشرين سنة في الخلافة ، فيجيبه الإمام قائلاً : مد الله في عمرك (1).
ــــــــــــــــــــ
(1) الناقب ص530ج3


صفحة (175)

انظر إلى هذه المدة التي حددها لنفسه ... إنها اقصى همة المعتمد وأبعد أهدافه !! ومهما يكن رأيك في الدعاء .. فإننا نجد أن مدة خلافته زادت على العشرين بثلاث سنين من عام 256هـ إلى عام 279هـ. كما يطلعنا على ذلك التاريخ العام .على حين لم يبق المتوكل - وهو أقوى خلفاء تلك الفترة - في الحكم غير خمسة عشر عاماً ،من عام 232هـ إلى عام 247هـ.
ولعل السر في زيادة الثلاث سنين على العشرين هو أنه عاش بعد دعاء الإمام عشرين سنة .ولذلك تشير الرواية قائلة : فأجيب - يعني الإمام - وتوفى- المعتمد- بعد عشرين سنة(1) مع افتراض ان المعتد طلب الدعاء من الإمام بعد ثلاث سنين من خلافته ، يعني عام 259هـ.
وهو أول عام لإحساسه بالضعف نتيجة لبدء سيطرة الموفق على دفة الحكم والإدارة ، بعد أن عقد له المعتمد بنفسه وعينه قائداً لحرب صاحب الزنج قبل هذا التاريخ بعام أي سنة 258هـ.
ولكننا نستطيع الآن أن نرى بوضوح السر الطبيعي لإستجابة دعاء الإمام عليه السلام .فإن المعتمد كان واهماً في كون ضعفه وانصرافه عن الحكم موجباً لقلة مدته وقصر عمره. فإن القوم من الأتراك وغيرهم إنما كانوا يقتلون أسلافه نتيجة لغضبهم من تصرفاتهم وأقوالهم.وأما إذا كان الخليفة نكرة سلبياً لا قول له ولا فعل ...فهو الأمل الأساسي لهم لكي تنثني لهم الوسادة وتتفتح أمامهم الفرصة في التصرف التام في شؤون البلاد .ولعل المعتمد قد فهم ذلك - لا شعورياً على الأقل .
ــــــــــــــــــــ
(1) نفس المصدر والصفحة.


صفحة (176)

ففضل بقاءه في الخلافة على السعي إلى تطبيق المصالح الإسلامية العليا ومن ثم استكان للذل والإنعزال .وبهذا أمكن استجابة الدعاء وبقاء المعتمد في الخلافة هذه المدة المتطاولة التي تزيد على تاريخ وفاة الإمام العسكري بحوالي تسعة أعوام.
ولعلك لاحظت معي أيضاً ، كيف أن المعتمد يعرف موطن الحق ويؤمن في باطن نفسه بصحة موقف الإمام (ع) وعدالة قضيته، وإن كانت شؤون الملك العباسي قد أخذت بخناق المعتمد واوجبت غلظته على الامام (ع) وعلى اصحابه واما لو لم يكن المعتمد مؤمنا بذلك لما وجد أي داع في نفسه لمثل هذا الطلب والتضرع ،ولاختار شخصاً آخر للقيام بمثل هذه المهمة.
فليكن هذا على ذكر منك فإنه ينفعنا في تفسير جملة من تصرفات المعتمد عند وفاة الامام العسكري عليه السيلام.
واما موقف الامام (ع) في استجابته لطلب المعتمد في الدعاء له.
فقد كان واضحاً كل الوضوح ، فهو:
اولاً: لم يرد اعلان التمرد والخلاف على الدولة ، للذي عرفناه من سياسته وسياسة ابيه عليهما السلام. وكان رفضه لطلب الخليفة بالدعاء له تجسيداً لموقف التمرد والخلاف على الدولة ، بشكل او بآخر ، وهو ما لا يريده الإمام عليه السلام.


صفحة (177)

ثانياً : كان يريد عليه السلام اثبات الحجة على هذا الرجل وعلى غيره ممن يعرف هذه الواقعة ، حين يرى الناس، وبخاصة الخليفة نفسه، في نهاية حياته، أنه قد استجيب الدعاء وقد استمرت مدة حكمه بالفعل عشرين سنة ، فيتأكد بذلك من عدالة قضية الإمام وانحراف الخط الحاكم.
وقد يخطر في الذهن كان هذا الدعاء من الإمام (ع) يستوجب طول عمر شخص يعتقد الإمام نفسه ظالماً منحرفاً ، وجوابه: أن الإمام كان يعلم أن المعتمد متى وافته المنية - سواء طال زمانه ام قصر - فلن يخلفه شخص إلا مثله من حيث الفكرة والإتجاه .ولم يكن الإمام على ما عرفنا يخطط لنيل الحكم لكي يكون موت المعتمد موجباً لفوز الأمة الإسلامية بالحكم الإسلامي بقيادة الإمام عليه السلام. إذن فيتمحظ الموقف في حصول على المصالح التي اشرنا إليها ،وهي إقامة الحجة ضد موقف المعتمد ، لإثبات عدالة قضية الإمام وأصحابه.
خلط تاريخي:
والذي نود أن نشير إليه ، ونحن في صدد الكلام عن موقف الإمام من الخلفاء .أنه وقع في هذا الصدد بعض التخليط في الروايات ، حيث نذكر موقفاً للإمام العسكري عليه السلام تجاه المستعين(1) .وهذا لا يمكن أن يكون صحيحاً .فإن هذا الإمام وإن كان معاصراً لعهد المستعين إلا أن ذلك كان في زمان حياة أبيه عليه السلام قبل توليه الإمامة الفعلية، ونحن نعرف من العقائد الإسلامية أن كل إمام يبقى في زمان أبيه صامتاً غير ذي نشاط، وإنما يبدأ علاقاته ونشاطه كله بعد موت أبيه وتوليه الإمامة الفعلية لمواليه.؟
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص321 وكشف الغمة 220)


صفحة (178)

فهذه الروايات إما أن تكون مكذوبة ، من قبل الرواة أو انها تحتوي على تحريف وتخليط بين أسماء الخلفاء ، فإنه قد يحصل مثل هذا الإشتباه لمدى الإتشابه اللفظي بين القابهم. او انه حصل الاشتباه في اسم الامام عليه السلام ، إذ قد يكون الموقف لأبيه وقد نسب تشابه اللفظي بين القابهم. او انه حصل الاشتباه في اسم الامام عليه السلام ، إذ قد يكون الموقف لأبيه وقد نسب إليه .باعتبار أن كليهما كان يسمى بالإمام العسكري ،وإن كان هذا اللقب على الحسن بن علي عليه السلام أشهر .
ومثله ما روى من علاقته عليه السلام بالمتوكل(1) فإنه لم يكن معاصراً لعصر إمامته عليه السلام. وقد التفت الإربلي في كشف الغمة(2) إلى هذا التخليط ونسبه إلى غلط الرواة والنساخ ثم قال: وللتحقيق حكم. أقول : وعلى أي حال تسقط هذه الروايات عن كونها صالحة للإثبات التاريخي.
النقطة الثانية : موقف الإمام العسكري من وزراء عصره.
نجد للإمام عليه السلام موقفاً حافلاً مع الوزير عبيد الله بن يحيى بن خاقان ، الذي استوزره المعتمد في اول تسلمه الحكم عام 256هـ(3) وله مجلس قصير معه يرويه لإبنه أحمد .
ــــــــــــــــــــ
(1)انظر المناقب ج3 ص220 (2)انظر ج3 ص220
(3)انظر الكامل ج5ص358والمروج ج4 ص111
(4)انظر في الإرشاد ص318 وأعلام الورى ص357 وغيرها.


صفحة (179)

وكان شديد النصب والإنحراف عن أهل البيت عليهم السلام .ومع ذلك نسمعه يقول: ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا ، في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم لإياه على ذوي السن منهم والخطر .وكذلك كانت حاله على القواد والوزراء زعامة الناس .
ونحن إذ نسمع هذا المدح وألاكبار من أحمد بن عبيد الله ، نعرف أثر هذا المجلس الذي سيرويه بنفسه ، وتغير عقيدته من النصب إلى الحب ، ولكنه على أي حال لم يؤمن بالإمامة.
وإذ يفكر الإمام العسكري عليه السلام أن يزور عبيد الله بن خاقان ابان وزارته ، فإنه يتوخى عدة مصالح ومبررات كلها أو بعضها:
أحدهما: أن هذه الزيارة امتداد لتلك السياسة القديمة التي سار فيها المتوكل تجاه أبيه ، من التقريب إلى البلاط، والدمج بالحاشية .ولم يكن الإمام بسلبيته ، مريداً الخروج على هذه السياسة أو الإحتجاج ضدها.
ثانيهما: إن الإمام كان يستهدف من وراء هذه الزيارة بعض مصالح أصحابه، أما تأليفاً لقلب هذا الوزير تجاههم ، أو أنه كان قاصداً إليه بحاجة مهمة معينة ، لم يذكرها له ، إنقطاع مجلسه معه بدخول أبي أحمد الموفق زائراً للوزير على ما سنذكر .


صفحة (180)

ثالثهما: أن هذا الوزير كان يحترم الإمام ويعتقد بقدسيته وعظمته وجدارته ، كما يدل عليه كلامه الذي سنسمعه عنه ، وكان الامام عليه السلام يعلم منه ذلك .فذهب لزيارته تأييداً لهذه الجهة في نفسه وإذكاءً لهذا النور في قلبه، كأنه يريد أن يفهم الدولة بشكل عملي أنه عليه السلام إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم وانحراف الصادر من رجال الحكم ، فإنه عليه السلام يعطي التأييد لكل حق ، أينما وجد الحق وليس له عداوة شخصية مع أحد ، فإنه قضية أمة ودين ، وهي أعلى وأوسع من الأشخاص والأرقام.
وقد اختار الإمام عليه السلام أن تكون زيارته في مجلسه العام لكي يحقق ذلك الهدف ، ولئلا تكون زيارة خاصة قد تثير الشكوك .
وكان مجلس الوزير محتشماً مهيباً باحتشام الوزير وهيبته فكان لا يكنى أحد بحضرته ولا يمشي مستقبلاً أو مودعاً أحداً ولا يجوز الدخول إليه إلا بعد إذنه الخاص.
وفي أثناء جلوسه في مجلسه ، وولده أحمد يقف خلفه إذ يدخل حجابه قائلين: أبو محمد بن الرضا بالباب. فيأخذ هذا الخبر اهتماماً في نفس الوزير ويقول بصوت عال محاولاً إسماع الزائر الكريم :أئذنوا له. قال ولده أحمد: فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا بحضرة أبي ، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يكنى.
يقول : فدخل رجل حسن القامة جميل الوجه جيد البدن ، حديث السن ، له جلالة وهيئة حسنة. أقول: كان عمره في أول وزارة عبيد الله بن خاقان أربعاً وعشرين سنة .وإنما استجلب عمره انتباه أحمد ، باعتبار كثرة ما رأى له من تبجيل واحترام ، مما لا يكون غالباً للفتى في مثل عمره عليه السلام ، بحسب فهم هذا الرجل وتصوره.


صفحة (181)

قال أحمد: فلما نظر إليه أبي ، قام فمشى إليه خطأ .ولا أعلمه فعل أحد بأحد من بني هاشم والقواد .فلما دنى منه عانقه وقبل وجهه وصدره ،وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذ يكان عليه وجلس على جنبه مقبلاً عليه بوجهه، وجعل يكلمه ويفديه بنفسه. أقول: ولا يخفى أثر هذا الإحترام على مجموع الحاضرين ، في مثل هذا المجلس المحتشم.
وبخاصة في نفس أحمد بن عبيد الله ، الذي كان متعجباً مما يرى من أبيه.
وبعد برهة قصيرة إذ دخل الحاجب معلناً عن مجيء الموفق "طلحة بن المتوكل" الذي يكلفه المعتمد يومئذ بقتال صاحب الزنج.
وكان الموفق إذا دخل على هذا الوزير تقدمه حجابه وخاصة قواده ، فوقفوا يمين مجلس الوزير والدار على شكل صفين من حين دخول الموفق إلى حين خروجه.
وكان الوزير لا يزال مقبلاً على ابي محمد عليه السلام يحدثه حين سمع بمجيء الموفق . وهو يعلم كل العلم بما في عثور الموفق على الإمام في هذا المجلس من الخطر عليه وعلى الإمام معاً .فأراد أن يعرفه بكل أدب واحترام قبل دخول الموفق .فقال له "إذا شئت ، جعلني الله فداك يكنى بذلك عن طلب القيام منه ثن عانقه وأمر حجابه بالأخذ بيد الإمام وراء أحد الصفين ، ليكون في إمكانهم أن يخرجوه خلسة .


صفحة (182)

وأما احمد بن عبيد الله فقد بقي قلقاً متفكراً في أمر أبيه وأمر الإمام ، حتى استغل فرصة سانحة لأبيه فاستأذنه بالسؤال وقال: يا أبه! من الرجل الذي رأيتك بالغداة ، فعلت به ما فعلت من الإجلال والكرامة والتبجيل. وفديته بنفسك وأبويك .قال: فقال: يا بني ذاك أمام الرافضة الحسن بن علي المعروف بابن الرضا ،ثم سكت وأنا ساكت . ثم قال: - وانظر إلى ما قال ! :- يا بني لو زالت الإمامة عن خلفائنا بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره لفضله وعفافه وصيانته وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه .ولو رأيت أباه رأيت رجلاً جزلاً نبيلاً فاضلاً .
وهذا يدل بكل وضوح ، على الذي عرفناه في تاريخ الإمام الهادي عليه السلام ،من أن عظمة الإمام وعدالة قضيته قد تمشت في قلوب الناس وأفكارهم ، نتيجة لجهود الإمام المتظافرة ، فلم تدع حتى المنتفعين من الدولة والمنخرطين في سلكها ، فضلاً عن جمهور العامة وسائر الناس.
قال أحمد: فلم تكن لي همة بعد ذلم إلا السؤال عن خبره والبحث عن أمره ،فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء ،وسائر الناس ، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على اهل بيته ومشايخه. فعظم قدره عندي . إذ لم أر له ولياً ولا عدواً إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه .


صفحة (183)

النقطة الثالثة : موقف الإمام من صاحب الزنج . نستطيع أن نحلل موقف صاحب الزنج نفسه إلى ثلاثة أمور:
الأول : خروج على الدولة العباسية وخلافتها.
الثاني: زعمه الإنتساب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .حيث زعم أنه علي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(1).
الثالث: خروجه على القانون الإجتماعي السائد بما فيه تعاليم الدين الإسلامي نفسه ، من قتله الرجال وسلبه الأموال وإحراقه المدن وسبيه النساء ، كل ذلك بالجملة وبلا حساب ولأعداد الآلاف لا الآحاد والعشرات.
أما ألأمر الثالث : فموقف الإمام عليه السلام منه واضح كل الوضوح وهو الإستنكار والرفض التام القاطع لكل تلك الأعمال، على أساس منافاتها الفاضحة لعدالة الدين وتعاليم سيد المرسلين ، تلك التعاليم التي يمثل قمتها العليا في نظره - على الأقل - .
ونحن في غنى في معرفة ذلك عو وروده في الروايات .وستأتي الإشارة إلى سبب سكوت الإمام عنه ، مضافاً إلى وضوحه وأخذه مسلماً ومفروض الصحة بينه وبين أصحابه.
وأما الأمر الثاني: فهو الذي وردنا عن الإمام عليه السلام نفيه فإنه بصفته أعظم فرد في عصره من الذرية العلوية، يكون هو المسؤول عن إيضاح نسبة هذا المدعي وبطلانها .وبخاصة بعد أن توجه السؤال إليه في ذلك.
ــــــــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص346 وغيره.)


صفحة (184)

فأجاب قائلاً : - ضمن كلام له- : وصاحب الزنج ليس منا أهل البيت (1).
ولا يخفى ما في تجريده عن هذه الصفة من سوق رائجة عند الناس ، فإن العقل والشرع وإن حكما بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى" وإنه لا نقص في الأب إذا كان أحد ذريته منحرفاً ظالماً .كيف وإن إبراهيم الخليل على نبينا وعليه السلام كان له ذرية ظالمون، أخرجهم الله تعالى عن عهده بقوله عز من قائل" لا ينال عهدي الظالمون : .إلا أن الجمهور سوف يقول ما يشاء ويلوك العلويين بما هم منه براء .ومن ثم نستطيع أن نتصور أثر ادعاء صاحب الزنج الإنتساب إليهم ،وأثر تكذيب الإمام (ع) إياه.
ولم يسأل الإمام عن التفاصيل السياسية لثورة الزنج لعدم تحمله مسؤولية بيانها باعتباره ليس حاكماً ولا في طريق الحكم .وكل من يكون كذلك لا يكون مسؤولاً عن بيان آرائه السياسية كما أسلفنا.
مضافاً إلى أن نقد صاحب الزنج في تفاصيله يحتوي على تأييد ضمني للدولة ،وبخاصة إذا عرفنا أن المنازل له في حومة القتال هو الموفق الذي خشي عبيد الله بن خاقان ان يجتمع بالإمام في مجلسه - فاستنكار ثورة الزنج يجب أن يعطى من قبل الإمام بحذر بالغ بشكل لا يستشعر منه ذلك التأييد .فإن الأمر الأول الذي ذكرناه لصاحب الزنج وهو خروجه على الدولة العباسية ووقوفه منها موقف المعارض ، أمر يتبغي المحافظة على معنويته .
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج3 ص529)


صفحة (185)

من حيث كونه مؤدياً إلى إضعاف الحكم وكسر شوكته. وهذا معنى الفكرة القائلة :بأن المعارضين - مهما اختلفوا- يشتركون في مناوئة الوضع القائم.
على ان هناك فائدة أخرى قد ينالها الإمام وأصحابه من وراء حركة الزنج .فهي في نظرهم وإن كانت واقعاً مؤسفاً إلا أنها حقيقة واقعة يمكن استغلالها .وذلك، لأن الدولة لم تكن من القوة بحيث يمكن أن تحارب في جبهتين ،وأن تعطي لكل جاهة ثقلها المطلوب.
إذن فاتجاهها لحرب الزنج يعني - إلى حد ما - خفة الضغط على الإمام وأصحابه .ولكننا يجب ألا نبالغ في ذلك فإن الدولة كانت تبذل المستحيل في سبيل صد نشاط الإمام والوقوف ضده ، بل أنها أتراه- في واقعه - أشد خطراً وابعد أثراً من الزنج .وهي - على أي حال - لا تتكلف تجاه الإمام وأصحابه حرباً حقيقية وإنما غاية ما تتكلفه هو البذل على التجسس والسجن والتشريد ، وهو أنر لا ينافي القيام بالحرب في جبهة أخرى .
النقطة الرابعة : موقف الإمام من ساجنيه .
وأقصد بهم من يتولى سجته والإشراف عليه من قبل الدولة ، فقد كان عليه السلام يقيم عليهم الحجة الواضحة التي يجعلهم بها يؤمنون به أعمق الإيمان ، وبالتالي، بجريمة من أمر بسجنه ورضي به.
إلا أنه كان يقيم الحجة بطريق غير مباشر، لا يستخدم فيه الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..وإنما يقيمها بأفعاله ...بعبادته ... بزهده ... بالآيات التي يتعمد إقامتها أمامهم بكل بساطة وهدوؤ .


صفحة (186)

ومن ثم نرى أن السجان حين يؤمن به ، يختص إيمانه بشخص الإمام من دون ثقافة تفصيلية ، تلك الثقافة التي لم تكن متوفرة عند أمثال هؤلاء إلا بأقل القليل .ما لم يفترض ان الإمام يستطيع أن يزرق إليه بالكناية ولباقة التعبير بعض التوجيهات ، وخاصة بعد أن أصبح السجان وهو عين الدولة عليه - موالياً له لا يحتمل في شأنه أن يشي به.
فمن ذلك أنه حبس أبو محمد عليه السلام عند علي بن اوتامش، وهو أحد الأتراك في العاصمة العباسية ، وكان شديد العداوة لآل محمد عليهم السلام غليظاً على آل أبي طالب ..فما أقام إلا يوماً حتى وضع خديه له، وكان لا يرفع بصره إجلالاً وإعظاماً ،وخرج من عنده وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم قولاً فيه(1).
وهذه الرواية ، والتي نذكرها بعدها أيضاً، تهملان ذكر الخليفة الذي أمر بسجن الإمام هذا من فجوات التاريخ التي يصعب الوقوف فيها على امر يقين .
ومن ذلك أنه عندما حبس الإمام عليه السلام ، دخل العباسيون على صالح بن وصيف فقالوا له : ضيق عليه. فلم يستنكر ابن وصيف ذلك، إلا أنه اراد أن يعلن اعتذاره عن عجز عن التضييق عليه ، فقال: وكلت به رجلين من شر من قدرا عليه :علي بن بارمش واقتامش ...فقد صارا من العبادة والصلاة إلى أمر عظيم يضعان خديهما له.
ــــــــــــــــــــ
(1) كشف الغمة ج3 ص302


صفحة (187)

ثم إن ابن وصيف أمر بإحضارهما لإستجوابهما أمام النفر العباسيين عن هذا لتغير الذي طرأ عليهما .فقال لهما: ويحكما! ما شأنكما في شأن هذا الرجل؟ فانظر بماذا أجابا وكيف يكون قولهما دعاية تلقائية صافية للإمام (ع) أمام هؤلاء المتعنتين .فقد قالا: ما نقول في رجل يقوم الليل كله، ويصوم النهار لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة .فإذا نظرنا إليه ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من أنفسنا(1).
ولعلك لاحظت معي معنى عجز الدولة عن التضييق عليه في سجنه .فإن أمرنا تجاه الإمام الثائر دار بين شيئين : فأما أن تقتصر في الإشراف عليه على فرد أو أفراد معينين يواكبون كل الأيام التي يقضيها الإمام في سجنه، فهؤلاء سيصبحون بعد قليل من الإندفاع تجاه الإمام بحيث يعد من المستحيل إقناعهم بتعذيبه والتضييق عليه، فلربما قدموا نفوسهم دونه أو عذابهم على راحته ، أو اشتغلوا بالعبادة عن تنفيذ ما يوجه إليهم من أمر بهذا الخصوص. وإما أن ترى الدولة ضرورة تجنب ذلك فتستعين بكثيرين يقوم كل يوم واحد أو أكثر في الإشراف على السجن. فهذا يكون أنكى عليها ، لأن هؤلاء برمتهم سيؤمنون بالإمام ،ويصبحون- بشكل أو بآخر - من قواعده الشعبية ومؤيديه.
ثم أنه من المعتقد أن كلتا الروايتين تعربان عن حادثة واحدة لسجن الإمام عليه السلام ، إلا أن الثانية توسعت في النقل أكثر فاقتصرت الأولى على بيان حال علي بن اوتامش مع الإمام .
ــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج3ص530)


صفحة (188)

فإذا تم احتمال: أن يكون المراد من علي بن بارمش في الرواية الثانية هو علي بن اوتامش نفسه، مع حصول التحريف في نقله.إذا تم ذلك لم يبق أي تهافت بين الروايتين - أما صالح بنوصيف فلم يكن هو السجان وإنما كان بمنزلة مدير السجن ،اما الإشرا ف المباشر فلعلي بن أوتامش وصاحبه.
النقطة الخامسة : موقفه عليه السلام من عامة من لا يؤمن بإمامته ، وبخاصة الموالي والأتراك ، لأجل إقامة الحق أو دفع الشبهات ،ونحن هنا في غنى عن الإشارة إلى ما سبق أن عرفتاه في تاريخ أبيه عليه السلام ،من أهمية هذا الموقف في زيادة المخلصين له وتوسيع قواعده الشعبية ... وبالتالي: بذر الشك في نفوس الناس من الحكم العباسي البائد.
فمن ذلك أن أبا محمد عليه السلام كان كثيراً ما يكلم غلمانه بلغاتهم وفيهم ترك وروم وصقالبة ، قال الراوي: فتعجبت من ذلك .وقلت: هذا ولد بالمدينة ولم يظهر لأحد حتى مضى أبو الحسن عليه السلام ، ولا رآه أحد ، فكيف هذا ؟ وبينما يحدث نفسه بذلك إذ أقبل الإمام (ع) عليه وقال له :إن الله عز وجل ابان حجته من سائر خلقه وأعطاه معرفة كل شيء. فهو يعرف اللغات والأنساب والحوادث .ولولا ذلك لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق.(1)

فقد دلت هذه الرواية على امور رئيسية ثلاثة:
الأمر الأول: أن الإمام عليه السلام كان يمتلك غلماناً كثيرين .
ولعلك تتوسع في الظن إلى الإعتقاد بأنه كان يملك إلى جانب ذلك ما يوازيه ويقضيه من الدار الواسعة والأموال والعلاقات .
ــــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد ص322 وما بعدها.


صفحة (189)

وهذا ، لو فرضت صحته فهو ناشيء من أحد منشأين:
المنشأ الأول : ما سبق أن عرفناه من السياسة التي اتبعها العباسيون تجاهه وتجاه والده وجده عليهم السلام ، تلك السياسة التي كانت قائمة - بحسب التحليل - على ركائز ثلاثة :أولها : تقريت الإمام من البلاط والدمج بالحاشية .
ثانيها : مراقبته والفحص عن أموره صغيرها وكبيرها جملة وتفصيلاً.
ثالثها : إكرامه ، واحترامه ظاهراً ، لأجل ذر الرماد في عيون الناس وإسكات من يحاول الإحتجاج على مراقبته ومضايقته.
ومن الطبيعي أن يحتاج تقريبه من البلاط إلى حياة مرفهة توازي كل من هو قريب من البلاط ومندمج في الحاشية .ولا يمكن أن تدرك الدولة العباسية غير ذلك ، كما أن الدولة كلما شددت على المراقبة والمطاردة احتاجت إلى رماد أكثر لتذره في عيون الناس بطبيعة الحال.
ومن الطبيعي أن نتصور ان الإمام قد حصل على عدد من هؤلاء الغلمان نتيجة لهذه السياسة .والإمام يتقبلها لأمرين:الأول: تمشياً مع سياسته السلبية تجاه الدولة وتجنباً لإثارة الخلاف معها. الثاني: كون ذلك في مصلحة العبيد أنفسهم ،من حيث إنقاذهم من براثن الباطل والإنحراف وانتقالهم إلى طريق معرفة الحق ..،سيرهم في طريق الإنعتاق في نهاية الشوط .


صفحة (190)

المنشأ الثاني : ما عرفناه أيضاً من أن الإمام عليه السلام بصفته الرئيس الأعلى لمواليه والمؤمنين به يستقطب ، بحسب الإمكان ، كميات الأموال التي كانت ترد إليه من الأطراف من الحقوق الشرعية وغيرها مما يرسله مواليه، وكان يصرف القسم الأكبر منها على المصالح الإجتماعية والإسلامية لأصحابه ومواليه. وقد يبقى عنده - بعد ذلك - كمية من الأموال التي يستطيع الحصول بها على عدد من العبيد ، لأجل مصالحه العامة والخاصة ومصالح العبيد أنفسهم أيضاً.
ولا يفوتنا في هذا المجال أن نحتمل - على الأقل - أن جملة الأموال قد ترد إليه - حين ترد- على شكل عبيد لا على شكل نقود . فيكون ذلك موجباً لتكدسهم لديه.
على ان الرواية عبرت بالغلمان ، والغلام في اللغة : العبد والأجير ..فربما كان عدد منهم أحراراً ولم يكونوا عبيداً .كان يستأجرهم للقيام بأمور معينة تعود إلى مصالحه الخاصة والعامة ، والرواية لم تدل على اجتماعهم دفعة واحدة ليقال :أي حاجة إلى هذا المقدار من الإجراء يومياً.
الأمر الثاني: مما يلاحظ دلالة الرواية عليه كما قلناه أن القاعدة العامة تقتضي كون الإمام خلال حياة أبيه أن يكون منعزلاً عن المسؤولية فارغاً عن شؤون القيادة وأعمالها ،وتطبيقاً لهذه القاعدة كان الإمام الهادي عليه السلام يحجب ابنه عن المجتمع ويبعده عن العلاقات العامة .
وكان التركيز على الإمام العسكري (ع) من هذه الناحية أشد ، تهيئة الذهنية العامة لتقبل احتجابه تقديماً لتهيئتها لغيبة الإمام المهدي عليه السلام ، على ما سوف نشير إليه.


صفحة (191)

الأمر الثالث: أن الإمام عليه السلام ، مضافاً إلى هدايته لغلمانه الموالي ولإقامة الحجة عليهم ،فإنه أقام الحجة على الرواي أيضاً ، بعد أن تعجب من معرفة الإمام بمختلف اللغات ،وكان حاصل مراد الإمام في جوابه: أن الإمام يجب أن يكون المثال الأعلى للشعب المسلم وخير أفراد الأمة الإسلامية، إذا فرض أنه كان جاهلاً باللغات - مثلاً- فإنه يكون مشتركاً مع سائر الأفراد في هذا الجهل وليس له عليهم مزية. وهو معنى قوله عليه السلام : لم يكن بين الحجة والمحجوج فرق، ومن ثم جعل الله تعالى للإمام هذه الخصوصية وهي العلم بكل شيء ، حتى يتحقق فعلاً أنه أفضل سائر الأمة الإسلامية.
ويندرج في هذه النقطة من مواقف الإمام عليه السلام .
ما روى من أن رجلاً بالأهواز ناظر رجلاً من التنويه ، بقصد افحامه وإقامة الدليل الإسلامي الصحيح ضده. ولكنه كان ضعيف الثقافة الإسلامية ، فبدل أن يؤثر فيه تأثر منه،وقويت حجة ذلك الثنوي في نفس الرجل ،ثم أن قدم سامرا...يقول:
فحين رأيت أبا محمد أومأ بسبابته :أحد أحد .فخررت مغشياً علي(1).
أقول :إنما تكون هذه الإشارة دليلاً على المطلوب ، مع أنها تكرار لنفس الدعوى بدون زيادة ..باعتبار أن الإمام استطاع استعمال المعجزة لإثبات الحجة ، فيكون في مستطاع هذا الرجل لأن يقول في نفسه :بأن هذا الإمام قطعي الصدق باعتبار معجزته - وهي علمه بما في نفسي بدون سابق معرفة- وهو يرشدني إلى أن الرب الذي وهبه هذا العلم رب واحد لا إله إلا هو إذن فيثبت المطلوب ، بالدليل الإنسي باصطلاح الفلاسفة.
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر المناقب ج3 ص530 وكشف الغمة ج3 ص215)


صفحة (192)

ويندرج في هذه النقطة ايضاً ،ما روي من إقامته للحجة على رجل من وفد جاء إلى سامراء من الأهواز من موالي الإمام علي عليه السلام.
وقد صادف يوم وصول اوفد ، يوم خروج السلطان إلى صاحب البصرة - على حد تعبير الرواية يعني خروج الموفق لمنازلة صاحب الزنج الذي كان مسيطراً على منطقة البصرة والأهواز ، وكان الإمام العسكري(ع) خارجاً من موكب السلطان .أقول: وهذا تطبيق جزئي لسياسة دمج الإمام بحاشية البلاط .
وإذ يرجع الإمام يمر في طريقه على جماعة الوفد ،وحين يقرب منهم يقف ويمد يده إلى قلنسوته فينتزعها عن رأسه ويمسكها بيده ويمر بيده الأخرى على رأسه ، ثم يلتفت إلى رجل من الحاضرين فيبتسم في وجهه ... ويكون لهذا الموقف بالغ التأثير في نفس الرجل ، فيبادر إلى القول كأشهد أنك حجة الله وخيرته ، قال الراوي : فقلنا : يا هذا ما شأنك .
قال : كنت شاكاً فيه. فقلت في نفسي :إن رجع وأخذ القلنسوة من رأسه قلت بإمامته(1).
ويطيب لي ان أعلق على هذه الرواية بما يلي :
أولاً أننا نستطيع أن نحدد تاريخ مجيء هذا الوفد من الأهواز إلى سامراء . بعد أن عرفنا أنه وقع في اليوم الذي عقد فيه المعتمد للموفق قائداً لحرب الزنج .ونحن نعرف من التاريخ العام أن ذلك قد وقع في ربيع الأول من عام 258 هـ ...
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الخرايج والجرايج ص64 وغيره.)


صفحة (193)

وأن المعتمد قد ركب معه يشيعه حين خروجه(1) ومن هنا نعرف أن الإمام (ع) كان في موكب المعتمد.
ثانياً: إن القواعد الشعبية الموالية للإمام عليه السلام ، قد اتسعت وشملت كثيراً من المناطق الإسلامية .وكانوا يرجعون في تحديد وضعهم الديني والإجتماعي والإقتصادي إلى الإمام .ويتم ذلك بأحد طريقين :
الطريق الأول: إرسال الوفود ، لنقل الأموال التي تحصل من الحقوق والضرائب الإسلامية وتسليمها إلى الإمام ، ولنقل الإستفتاءات والأسئلة حول مختلف الأحوال الشخصية والإجتماعية والعقائدية من اهل البلاد ، ومعرفة جوابها من الإمام .وقد ورد هذا الوفد من الأهواز ليقوم بمثل هذه المهمة.
الطريق الثاني: الإتصال بوكلاء الأئمة عليهم السلام : فإنه كان لهم وكلاء في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية ، وفي كل منطقة تخضع للإمام بالولاء، يكون الوكيل مشرفاً عاماً على مصالحهم في حدود تعاليم الإمام وقواعد الشريعة الإسلامية. وسيأتي من الأخبار الكثيرة الدالة على ذلك.
ثالثاً: لعلك لاحظت معي كيفية إقامة الحجة على هذا الرجل على شكل سري لا يطلع عليه غيره ، ولا يمكن أن يدخل تحت رقابه أو ضبط. ولو لن ينبس الرجل ببنت شفة لبقيت الحجة مكتومة من غيره إلى الأبد. وبهذا قد حصل الإمام موالياً متيقناً بإمامته ، من دون دخوله تحت طائلة رقابة الدولة .
ـــــــــــــــ
(1) الكامل ج5 ص365-231


صفحة (194)

الموقف الثاني: جهاده العلمي: من حيث قيامه بمسؤوليته الإسلامية في رد الشبهات وإقامته الحق ، بطريق المناقشة العلمية والجدل الموضوعي.
او إصدار البيانات العلمية أو تأليف الكتب ونحو ذلك.
فمن ذلك موقف الإمام عليه السلام من الكندي " أبي يوسف يعقوب بن اسحق" فيلسوف العراق في زمانه ، حين أخذ في التأليف في تناقض القرآن ، وشغل نفسه بذلك وتفرد به في منزله ، فسلط الإمام عليه أحد طلابه بكلام قال له : جعله يتوب ويحرق أوراقه .
وملخص الفكرة التي بذرها الإمام في ذهن هذا الفيلسوف ، بعد أن وصفه لتلميذه كأنه رجل (يفهم إذا سمع) ... هو احتمال أن يكون المراد بالآيات القرآنية غير المعاني التي فهمها وذهب إليها.
وحين ذكر له تلميذه هذا الإحتمال فكر في نفسه ورأى ذلك محتملاً في اللغة وسائغاً في النظر. فقال: أقسمت عليك ألا تخبرني من أين لك.فقال :إنه شيء عرض بقلبي فأورته عليك .فقال : كلا ، ما مثلك من اهتدى إلى هذا ،ولا من بلغ هذه المنزلة ،فأخبرني من أين لك هذا. فقال: الآن جئت به. وما كان ليخرج مثل هذا إلا من ذلك البيت ،ثم إنه دعا بالنار ولأحرق جميع ما كان الفه (1).
ـــــــــــــــ
(1) المناقب ج3ص526


صفحة (195)

وهذه الرواية تدل على ان الكندي مر بمرحلة فكرية لم يكن يعترف فيها بالإسلام ،وهو وإن كان أمراً محتملاً، إلا أننا لا نستطيع التشبت بهذه الرواية ضد الكندي . فإنها من المراسيل التي لا تصلح للإثبات التاريخي(1). ولم نجدها في المصادر الأخرى لتاريخنا الخاص ، كما لم نجد ما يوازيها في تاريخ الكندي نفسه، في حدود ما أطلعنا عليه من مصادر .
ومن بياناته العلمية إيضاحه لأبي هاشم الجعفري ،وهو من خاصة أصحابه مسألة خلق القرآن(2) وله عليه السلام بيانات تفصيلية في تفسير القرآن وفي عصمة الملائكة وفي الأخلا ق الفاضلة(3).
ويذكر له ابن شهاب آشوب(4)، مرسلاً ، بياناً ضافياً ، أرسله عليه السلام إلى علي بن الحسين بن بابويه القمي، وهو من أجلة علمائنا المتقدمين فقهاً ووثاقة ، يخاطبه فيه : يا شيخي يا أبا الحسن ، ونحن نعرف أن ابن بابويه توفي عام 329هـ(5) فتكون وفاته بعد وفاة الإمام العسكري عليه السلام المتوفي عام 260هـ بتسع وستين عاماً ، فمن المحتمل أنه عليه الرحمة عاصر الإمام شاباًفي نحو العشرين من العمر ، وكان وهو في مقتبل العمر شيخاً جليلاً له المرتبة الفضلى التي تؤهله لأن يخاطبه الإمام بهذا الأسلوب والله العالم بحقائق الأمور.
وعلى أي حال ، فالإمام - حسب الرواية - يؤكد في بيانه هذا على غيبة ولده الإمام المنتظر عليه السلام ، وعلى الخلق الذي ينبغي أن يتحلى به الفرد المسلم في أيام الغيبة ،وهو الصبر وانتظار الفرج .
ـــــــــــــــ
(1) قالة يرويها ابن شهر أشوب في المناقب عن ابي القاسم الكوفي في كتاب ( التبديل ) مرسلة - بدون سند ـ
(2) المناقب ج3 ص535 (3) الإحتجاج ج2 ص250 وما بعدها
(4) المناقب ج3 ص527 (5) الكنى والألقاب ج1 ص218


صفحة (196)

فيكون هذا البيان إحدى تمهيداته عليه السلام للغيبة ، وسوف نعرض لها في مستقبل البحث.
ونسب إليه أيضاً ، بشكل غير موثوق ، التفسير المشهور: بتفسير الإمام العسكري . وهو يحتوي على تفسير سورتي الحمد والبقرة بإستطرادرت كثيرة حول مناقشات دينية أو مذهبية أو روايات تاريخية وغير ذلك ، وهو ـ على أي حال ـ ليس بقلم الإمام عليه السلام بل بتقرير بعض طلابه عن تدريسه إياه . فكان عليه السلام يدرس الطالب حسب ما يراه مناسباً مع فهمه ،وكان الطالب يتلقى عنه ويكتب ما يفهمه منه. ومن هنا جاء مستوى التفسير منخفضاً عن مستوى الإمام بكثير .على أن روايته ضعيفة ، لا تصلح للإثبات التاريخي.
ونسب إليه أيضاً كتاب ترجمة في جهة رسالة المقنعة . يشتمل على اكثر من علم الحلال والحرام .ألفه سنة خمس وخمسين ومأتين . وأوله: أخبرني علي بن محمد بن موسى(1) يعني والده عليه السلام .إذن فهو كتاب في الفقه بنحو الرواية .
وإذا نظرنا نجد أن المقتعة متاب في الفقه للشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان ، احد مشايخ الطائفة الإجلاء وعلمائها القدماء .
المتولد سنة 336هـ والمتوفي عام 413هـ . وقد كتب عليه الشيخ محمد بن الحسن الطوسي قدس الله روحه شرحه المشهور الموسوم بتهذيب الأحكام.
ـــــــــــــــ
(1) المناقب ج3 ص525


صفحة (197)

فخرج فتاواه كلها من الأخبار. أقول: وهذا الكتاب لا يناسب أن يكون هو المقصود لوجود البعد الزمني بينهما ، إذ كانت ولادة الشيخ المفيد متأخرة عن وفاة الإمام العسكري عليه السلام بست وسبعين سنة ،ولا نعلم بوجود كتاب آخر بهذا أفسم في عصره عليه السلام.
على انه لم يعرف معنى قوله: كتاب ترجمة في جهة رسالة المقنعة .
فهل هو نقل لهذا الكتاب من لغة أخرى أو هو استدراك عايها أو رد عليها أو تخريج لفتاواها أو أنه مكتوب على غرارها ..كل ذلك وغيره محتمل ..والله العالم .على أن الرواية في المناقب مرسلة غير قابلة للإثبات التاريخي .وهذا الكتاب غير موجود في اليد فعلاً، ومعه فلا يمكن نسبته إلى الإمام عليه السلام.
الموقف الثالث: موقفه عليه السلام تجاه أصحابه .محذراً لهم من الوقوع في الشرك العباسي أو معيناً لهم على توائب الدهر من الناحية الإقتصادية والإجتماعية .
والإمام عليه السلام في هذا الموقف يمارس نشاطه ، بصفته إماماً لمواليه، والمسؤول الأعلى عن مصالحهم واغراضهم الإسلامية .
وينقسم هذا الموقف إلى قسمين :
القسم الأول : قضاء الإمام للحاجات الشخصية الخاصة بأصحابه .
كإرشادهم إلى حقيقة عقائدية أو الدعاء لهم بمجيء ولد أو الإقتراح عليهم بتسميته أو الدعاء بالشفاء من المرض أو إعطائهم كميات محدودة من المال ، ونحو ذلك .وهو ما يخرج بنا استقصاؤه عن الغرض المقصود.


صفحة (198)

القسم الثاني: وقوف الإمام لمصالح أصحابه وشد أزرهم من الناحية الإجتماعية أو السياسية، الإقتصادية ،وهذا ما نحاول استعراضه فيما يلي وتحديده في عدة نقاط:
النقطة الأولى: تحذيره عليه السلام لأصحابه من الوقوع في الشرك العباسي أو تبشيره لهم من النجاة منه ، فهنا - باعتبار ذلك ـ جانبان:
الجانب الأول : تحذيره عليه السلام إياهم من الوقوع في الشرك العباسي أو تهيئته الوسائل للنجاة منه.
فمن ذلك ما سبق في موقفه عليه السلام مع الخلفاء أنه كتب إلى أحد أصحابه قبل موت المعتز بنحو عشرين يوماً : إلزم بيتك حتى يحدث الحادث(1) يعني بذلك موت المعتز .وكأنه عليه السلام كان يرى عليه خطراً يحيط به لو أن الرجل خرج من منزلة في حياة المعتز.
ومن ذلك، أنه كتب بنفس المناسبة ،وهو موت المعتز ، إلى محمد بن علي السمري ،وهو من خاصة أصحابه ورابع نواب ولده الحجة المهدي في غيبته الصغرى ،كتب إلأيه مخاطباً أصحابه: فتنة تضلكم. فكونوا على اهبة. قال السمري :فلما كان بعد ثلاثة أيام وقع بين بني هاشم وكانت لهم هنه لها شأن. فكتبت إليه :أهي هذه؟ قال: لا . ولكن غير هذه فاحترسوا . فلما كان بعد أيام كان من أمر المعتز ما كان(2) .
ـــــــــــــــ
(1) المناقب ج3ص536
(2) كشف الغمة ج3ص207


صفحة (199)

ويلاحظ في هذه الرواية عدة أمور:
طريق الخطابات المكتوبة وعدم المواجهة والمشافهة . ويندرج هذا ضمن التخطيط الذي كان يتبعه عليه السلام للتمهيد إلى الغيبة ، على ما أشرنا وسيأتي تفصيله .
الأمر الثاني : أنه ما الذي وقع بين بني هاشم ، حين كانت لهم هنة ذات شأن؟ .. لم يشأ الراوي الافصاح عن ذلك ولم يشأ التاريخ بيانه أيضاً . ولعل تزاعاً أو شغباً وقع بينهم نتيجة لمصالح خاصة أو انحراف لدى بعضهم .. فكان لهم نتيجة لوقوع هذا الحادث هنه .. يعني قد إتضحت أمام الآخرين احدى نقاط الضعف التي كان ينبغي ان تختفي عنهم وأن يرتفع الهاشميون عن مستواها فيما بينهم .
الأمر الثالث : اننا نستطيع أن تفهم من قوله : فكان من المعتز بعد امامة الامام العسكري عليه السلام .
ولكننا ينبغي أن نلوذ بالصمت تجاه السؤال عنه المصلحة التي يراها الامام في تحذيره لأصحابه من موت المعتز. وما الذي كان يحدث لأصحابه حين موت المعتز زيادة على حالهم الجارية آنئذ ، لو لم يأخذوا حذرهم ؟ .. هذا مما لا يستطاع الجواب عنه تاريخياً ، وإنما هو موكول إلى الظروف والملابسات التي يقدرها الامام عليه السلام في العصر الذي يعيشه.


صفحة (200)

ولعلنا نستطيع أن نقدم لذلك اطروحتين محتملتين :
الاطروحة الأولى : ان الدول حين انتهاء رئاسة شخص وابتداء رئاسة خلفه ، تكون عادة في ضعف وهبوط . ويكون في هذه الفترة من الهبوط نشاط ملحوظ للحاشية والبطانة والوزراء ونحوهم لأجل صيانة أساس الحكم والكيان القئم عند تبدل الرئيس . وهذه الفترة كانت تعيشها الأمة الاسلامية بين كل خليفتين . وباطبع .. يكون الجزء الأكبر من الحذر والمراقبة موجهاً ضد الامام وأصحابه ، بصفتهم أهم الجهات المعارضة للدولة .
وحيث كانت سياسة الامام عليه السلام قائمة على نوع من السلبية تجاه الدولة .. فقد أمر أصحابه بالصمت والكف عن النشاط الاعتيادي ، ما دامت الدولة في حالة بأهب وحذر ، ريثما يعود المياه إلى مجاريها ، ويستتب الأمر للخليفة الجديد .
الاطروحة الثانية: ان مراد الامام التحذير مما وقع عام 254هـ حيث أوقع مفلح - وهو أحد القواد الموالين للحكومة - بأهل قم فقتل منهم مقتلة عظيمة(1). ونحن نعرف ما في قم من القواعد الشعبية المهمة للامام عليه السلام وبينهم الكبراء والعلماء والأعيان. وهذا العام هو أول أعوام تولي الامام العسكري للأمامة بعد أبيه.
ومن هنا نستطيع ان نفترض ان تحذير الامام كان مرسلاً إلى قم قبيل وقوع هذا الحادث ، لأجل ان يأخذ أصحابه اهبتهم تجاهه. وهذا الحادث وان نسب في الرواية - على فرض ارادته - إلى المعتز ، حين قال الراوي : فكان من أمر المعتز ما كان . إلا انه لا ينافي قيام (مفلح) به ، فان القائد انما يقوم باعماله انطلاقاً من اوامر الخليفة ، فصح نسبته اليه .
ــــــــــــــــــــ
1- الكامل ج ه ص 339 .


صفحة (201)

الجانب الثاني: تبشيره عليه السلام لأصحابه بالنجاة من بعض ما كان بقع عليهم من الحيف والسجن ونحوه .
ولا يخفى ما في ذلك من رفع لمعنوياتهم ، وتجديد لاستعدادهم إلى العمل الجديد .. وتركيز ايمانهم بسبب تحقيق التبوءة بالبشارة
فمن ذلك: ان الامام حين يكون هو وبعض اصحابه في سجن المهتدي العباسي يقول لأحدهم : في هذه الليلة يبتر الله عمره. قال الراوي : فلما أصبحنا شعب الأتراك وقتل المهتدي وولي المعتمد مكانه . وقد سبق الحديث في ذلك .
ومن ذلك: موقفه عليه السلام تجاه جماعة من أصحابه كانوا رهن الاعتقال تحت اشراف صالح بن وصيف . وهم : ابو هاشم الجعفري وداود بن القاسم والحسن بن محمد العقيقي ومحمد ين ابراهيم العمري وغيرهم . فبينما هم فيه إذ يدخل عليهم الامام ومعه اخوه جعفر. فيخف الجماعة لاستقباله والترحيب به فيقول لهم فيما يقول-: لولا ان فيكم من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرج عنكم . ويومي إلى جمحي كان معهم في الحبس يدعي أنه علوي ، ويأمره بالخروج فيخرج . قال الراوي: فقال أبو محمد : هذا ليس منكم فاحذروه ، فان في ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما تقولون فيه ...


صفحة (202)

فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة يذكرنا فيها بكل عظيمة(1).
ولعلك تلاحظ مقدار صرامة الدولة في ملاحقة أصحاب الامام عليه السلام وملاحقتهم ، حتى في اثناء الاعتقال، حيث وضعت عليهم عيناً يرفع عنهم التقارير إلى الدولة من دون أن يعلموا بهويته. وقد كان بارعاً في أداء عنله بادعاء كونه علوياً لئلا يكون لهم حرج في التكلم أمامه .
ومن هنا نرى ان الامام يكشقه أولاً لأصحابه أمام هذا الرجل نفسه ، ثم يحذرهم منه ، ثم يخبرهم بالتقرير الذي يحمله. أما تفتيش ثياب الرجل فهو (خطوة ثورية) لم تكن بأمر الامام لمنافاتها لمنهج السلبية .. وانما كان ارتجالاً من أحد اصحابه حيث حمله الغضب من هذا الرجل على ذلك . ولم يردعه الامام لأجل الاظهار العملي لصدق قوله عند استخراج التقرير منه .
وسيكون هذا درساً عملياً لهذه الجماعة الصالحة لم يكونوا يعرفوه قبل ذلك ، وهو امكان ملاحقة الدولة لهم بالرقابة السرية حتى في السجن ، واحتمال أن يكون احد المسجونين عيناً عليهم . ومن هنا يكون لزاماً عليهم تطبيق سياسة السلبية حتى في مثل هذه المواطن.
وهناك أمثلة اخرى لمواقف الامام هذه ، يطول بنا المقام عند استيعابها، على اننا لسنا في مقام التفصيل والاستيعاب.
ــــــــــــــــ
(1) أنظر كشف الغمة ج 3 ص 222 . والمناقب ج 3 ص 536 . وأعلام الورى ص 354 ونور الأبصار ص 166 وما بعده


صفحة (203)

النقطة الثانية: من موقف الامام تجاه أصحابه: مساعدته لهم بالامداد المالي لأجل مصالحهم الشخصية والعامة.
ونجن عرفنا فيما سبق الموارد المالية للامام عليه السلام ، حينما تكلمنا عنها في الامام الهادي (ع) . وقلنا انها تتكون من الأموال التي تجلب طبقاً للأحكام الاسلامية من مختلف بقاع بلاد الاسلام التي تحتوي على قواعده الشعبية ، بواسطة الوكلاء المنتشرين فيها .
وبالرغم من محاولة اخفاء هذه الناحية اخفاءً تاماً ، من قبل جانب الامام من جهة وجانب السلطات من جهة اخرى ، والسرية التامة التي كانت تكتنف كثيراً منها. إلا انه وردنا - بالرغم من ذلك - المقدار الكافي لتكوين فكرة واضحة.
فالامام عليه السلام يقبض من بعض الرسل اربعة آلاف دينار(1) ومن آخرين مائة وستون صرة من الذهب والفضة(2) وبدفع رسول آخر ما معه من المال إرى المبارك خادم الامام بامر منه عليه السلام ، وكان قد حمله من الموانلين في جرجان(3) وستبقى هذه الأموال ترد إلى حين وفاة الامام وبعده فمنها مال جليل جمعه محمد بن إبراهيم بن مهزيار(4) ومنها سبعمأة دينار يأتي بها أحد الموالين(5) وثماينة عشر قيراطاً من...
ــــــــــــــــــــ
(1) كشف الغمة ج 3 ص 216 . (2) الاحتجاج ج 2 ص 269 .
(3) كشف الغمة ج 3 ص 217 . (4) الارشاد ص 331 .
(5) اعلام الورى ص 420 .


صفحة (204)

الذهب وحبة يأتي بها شخص آخر(1) . فكن على ذكر من ذلك ، فإنه يشكل احدى النقاط الرئيسية لنشاط نواب الحجة المهدي عليه السلام بعد الامام العسكري عليه السلام .
وإذ يتشكل من هذه الواردات المال الضخم الذي يمكنه أن يسد حاجات الآلاف من المحتاجين ويمول العشرات من المشاريع الاجتماعية الضخمة .. نرى الامام الهادي عليه السلام فيما سبق يبذل في احدى اعطياته تسعين الفاً من الدنانير لثلاثة من أصحابه . وترى الامام العسكري الآن يبذل ما يفوق هذا الرقم باكثر من ضعفة ، حيث وصل الرقم غلى مآتي الف دينار ، اعطاه لاثنين من مواليه .
فقد حج أبو طاهر بن بلبل ، فنظر إلى علي بن جعفر الهمداني وهو ينفق النفقات في الحجاز ، والرواية وان لم تصرح بالوجوه التي كان ينفق فيها هذه الأموال، حفاظاً على منهج الكتمان . إلا ان ضخامة الارقام تلنا على كونه مشروعاً اجتماعياً ضخماً أو عدة مشاريع، واقرار الامام اياه وامداده له يدل على اخلاصه وتوفر المصلحة الاسلامية فيه .
ـــــــــــــــــــ
(1) الخراج والجرايح ص 113 .
(2) انظر المناقب ج 3 ص 526 .


صفحة (205)

وتستطيع أن تلاحظ بوضوح ، كيف استطاع الامام ، وهو المضطهد الممتحن مع كل مواليه ، ان يقبض هذه الأموال من مواردها وان يعطيها في مصادرها طبقاً للمصالح التي يراها ، بشكل تقف الدولة العباسية تجاه عاجزة مكتوفة الأيدي عن منعه ، بالرغم من بذل اقصى وسعها في ذلك . ولا زال في الذهن ما سمعناه في تاريخ الامام الهادي كيف انها تحاول السيطرة على كل مال يرد اليه ، حتى ولو وصل في جوف الليل . مع ذلك استطاع الامام العسكري (ع) ان يسيطر وان يكون له زمام المبادرة إلى ذلك ، باعتبار مسلك السرية والرمزية الذي يلتزمه. الأطراف في الأخذ بهذا المسلك.
وعلى أي حال، فهذا مثال لعطائه الضخم ومساعداته الاجتماعية الكبرى . وأما اعطياته على المستوى الخاص، فاكثر من أن تحصى : فمنها : سبيكة من الذهب بقدر بنحو خمسمائة دينار اعطاها الامام عليه السلام لابي هاشم الجعفري ، إذ شكا اليه الحاجة . وقال : خذها يا إبا هشم واعذرنا.
ومنها: المئة دينار التي أرسلها اليه أيضاً مرفقة بكتاب يقول عليه السلام فيه: إذا كانت لك حاجة فلا تستح ولا تحتشم وأطلبها تأتيك على ما تحب إن شاء الله (1) .
ـــــــــــــــــــ
(1) انزرهما في الارشاد ص 322 .


صفحة (206)

ومنها: أيضاً الخمسمائة درهم التي أعطاها لعلي بن ابراهيم والثلاثمئة التي أعطاها لإبنه محمد .. اعطاهما دون أن يقابلهما .. أوصلها اليهما خادمه(1). وهذا جزء من مخطط الاحتجاب الذي كان يسير عليه الامام العسكري علية السلام تمهيداً لغيبة ولده المهدي (ع) وقد سبق ان عرفنا صوراً منه أيضاً .
النقطة الثالثة : موقفة (ع) في نصح أصحابه وتوجيههم ورفع معنوياتهم .
إذ هم في معمعة التضحية الاجتماعية الكبرى .. تلك التوجيهات التي تشكل حجر الزاوية في تأجيج نار الايمان ونور الاخلاص وعاطفة العقيدة عند أصحابه ومواليه ، وزرع روح التضحية والجهاد فيهم .. وهم أحووج ما يكونون إلى التضحية والجهاد .
وهذا التعليم والتوجيه كان مستمراً من كل أمام من آبائه عليهم السلام تجاه مواليه وأصحابه في عصره ، بالشكل الذي يتلائم وحوادث ومتطلبات ذلك العصر . ومن هنا نجد ان الامام العسكري يشارك آباءه في هذا التعليم الايماني والتوجيه الجهادي ، حفاظاً على الخط العريض ، وسيراً على المخطط الكبير الذي التزموه عليهم السلام . فنجد أن شخصاً من أصحابه يكتب اليه يشكو اليه الفقر . وقد سبق ان سمعنا شكايات عديدة مماثلة ، ونحن نعرف منشأها بوضوح .. ان الفرد من أصحاب الامام عليه السلام لو ذاب في الدولة وساير الحكام وباعهم ضميره ونشاطه ، لنال عندهم المال الوفير والعيش الرغيد والجاه العريض ، وانما عانت هذه الزمرة المضطهدة الفقر ، باعتبار ما تحاوله الدولة العباسية على استمرار من ابعادهم عن المسرح الاجتمافي والاقتصادي والسياسي ، وتواجه أمامها لديهم صموداً ونبلاً وإرادة . فكانوا ينزلون عمومهم وآلامهم بقائدهم الأعلى وموجههم الأكبر .. امامهم العسكري (ع) .
ـــــــــــــــــــ
(1) انظر المناقب ج 3 ص 537 .


صفحة (207) فكان تارة يتبرع بالمال ، كما سمعنا، واخرى يقوم بالتوجيه الفكري العقائدي ، لأجل تصعيد روح التضحية والجهاد والصبر على المصاعب في سبيل الحق الكبير والهدف العظيم ، تحت قيادتة الرشيدة ، فيقول : الفقر معنا خير من الغنى مع غيرنا . والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا .. ونحن كهف لمن أعتصم بنا . من احبنا كان معنا في السنام الأعلى ومن انحرف عنا فإلى النار(1) .
ومن ذلك ان اباهاشم ، وقد عرفناه من خاصة أصحاب الامام عليه السلام ، حين يرى معالم الانحراف في المجتمع واتباع المصالح والشهوات ، وهو يعلم ان حزب الله هم المفلحون وان حزب الشيطان من أصحاب السعير .. يقول : اللهم اجعلني في حزبك وفي زمرته ان كنت بالله مؤمناً ولرسوله مصدقاً وباوليائه عارفاً ولهم تابعاً .. ثم ابشر(2) .. فهذا هو الانسان الذي يكون في حزب الله .. عادلاً واعياً .. يمثل في عقيدته وسلوكه المستوى العالي للتطبيق الاسلامي العادل .. ومن ثم يستحق البشارة ببلوغ قصده ونيل الرضا به ، والخلود في الجنة في منتهى شوطه .
ــــــــــــــــــــ
(1) كشف الغمة ج 3 ص 211 .
(2) اعلام الورى ص 355 .


صفحة (208)ولا يخفى ان هذه التعاليم الاسلامية الواعية ، لم يكن يبلغها الامام إلا للخاصة من أصحابه ، الذين يتحلون بالصمود تجاه الضغط الحكومي والحفاظ على هذه التعاليم وعدم بثها في متاهات الانزلاق والشبهات .
أما سائر القواعد الشعبية الموالية ، فكانت محرومة بشكل عام ، من هذا التوجيه العالي الواعي . وذلك لعدة أسباب اهمها امران: اولهما: ما خطته الدولة للامام من الانفصال عن قواعده الشعبية بتقريبه إلى البلاط ودمجه في الحاشية وقد كان رفض ذلك من قبله عليه السلام منافياً لسياسة السلبية تجاه الدولة التي اختطها وآباؤه منقبله. وثانيهما: ان الفرد العادي لهذه القواعد يعيش المعترك بكل ثقله ، ويصف عادة بضعف الارادة تجاه التيار الحكومي. فمن المحتمل ان يتسرب منه هذا التوجيه الواعي المضاد للدولة و(الخارج على القانون!!) إلى الجهات الحاكمة . وهو ما لا يريده الامام عليه السلام .

الموقف الرابع: تمهيده عليه السلام لغيبة ولده المهدي (ع) .
ان الامام الحسن العسكري عليه السلام حين يعلم بكل وضوح تعلق الارادة الالهية الازلية بغيبة ولده لأجل أن يكون مذخوراً لاقامة دولة الحق وتطبيق العدل الاسلامي على الانسانية . والأخذ بيد المستضعفين في الأرض والموتورين من دول الظلم والانحراف ... ليتبؤا فيها حيث يشؤون .. يبدل خوفهم أمناً .. يعبدون الله لا يشركون به شيئاً .. فيؤسسوا بذلك دولة المؤمنين المتقين الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .


صفحة (209)حين يعلم عليه السلام بذلك .. يعرف ان عليه جهداً مضاعفاً ونشاطاً متزايداً في التمهيد لغيبة ولده . والسبب في ذلك: ان البشر - بشكل عام - مربوطون في مدركاتهم بالحس والعادة التي يعيشونها وفي حدود الزمان والمكان. ومن الصعب على الشخص الاعتيادي ان ينظر نظراً معمقاً تدريدياً، أسمى من هذه الحدود ، ما لم يطلع الفرد على البرهان الصحيح المدعم بالايمان الراسخ القائل: بأن الكون أوسع من العالم المنظور ومن حدود الزمان والمكان .. وان في عالم الوجود قوى كبرى وارادات واسعة ، تستقي تدبيرها وادارة شؤونها من الارادة الازلية والحكمة اللانهائية .. من الله تعالى .
والانسان كلما سما روحياً ، وتعمق فكرياً ، استطاع استجلاء هذه الحقيقة الكبرى أكثر ، كما انه كلما تسافل روحياً وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وتغافل هن صوت عقله .. كلما كان ابعد من ذلك وأكثر انشداداً إلى حسة وعادته .
ولم يكن المجتمع الذي يعيشه الامام عليه السلام .. لم يكن - بشكل عام - إلا متكونا من الانسان المتسافل روحياً المشدود إلى مصالحه وخدمة ذاته واتحرافه بعيداً عن عمق الايمان وهن سمو الروح ودقة الفكر. لا يختلف في ذلك الحاكم هن المحكوم والمولى هن العبد . ولعل فيما استعرضناه في الفصل الأول من التاريخ العام لهذا العصر ما يعطي فكرة واضحة عن ذلك .


صفحة (210)نعم .. يستثنى من ذلك - بشكل وآخر - رجال الفكر في ذلك العصر وقادة النهضة العلمية فيه .. بما فيهم أصحاب الأئمة عليهم السلام الذين تربوا على توجيهات الامام العسكري وآبائه عليهم السلام . إلا أن ذلك لا يكفي في تحقيق الغرض المنشود ، فان فكرة الغيبة يجب ان تكون عامة بين سائر الناس وليست خاصة برجال العلم والفكر والنظر.
والغيبة ، التي يجد الامام نفسه مسؤولاً عن التخطيط لها ، حادث قليل النظير في تاريخ البشرية ويحتوي إلى حد كبير على عنصر غيبي، خارج عن حدود المحسوس والمعتاد من الحياة فان عنصر اختفاء المهدي (ع) وان امكن تفسيره تفسيراً طبيعياً (1) إلا ان طون عمره متمحض بالارادة الالهية الخاصة وبالعامل الروحي النازل من فوق الكون المنظور .. لأجل حفظ مصلحة الاسلام العليا ، وانجاز يوم الله الموعود .
اذن فستكون الغيبة التي يمهد لها الامام العسكري (ع) أمراً غريباً على الاذهان بعيداً عن الطباع ، يحتاج إلى تكرار وتفهيم وجهد مضاعف كبير.
وكانت الارهاصات المسبقة والتبليغات المتوالية عن المهدي .. متتابعة متواترة عن النبي (ص) .. رواها مؤلفوا الصحاح وهم معاصرون أو متقدمون على هذه الفترة بما فيهم البخاري ومسلم واحمد بن حنبل . ومتتابعة متواتره عن الأئمة عليهم السلام يرثها أصحابهم جيلاً بعد جيل حتى أصبحت من ضروريات المذهب بل من قطعيات الاسلام .. وكان كل امام يقوم بدوره الكافي في التبليغ والارشاد إلى هذه الفكرة الكبرى .
ــــــــــــــــــــــ
(1) على ما سوف يأتي في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة .


صفحة (211)وقد كان لكل هذه التبليغات أثرها الكبير في ترسيخ فكرة المهدي في نفوس المسلمين بشكل عام .. يأخذ كل فرد منهم ما يناسبه منها بحسب عمق ايمانه وسعة تفكيره واتجاه مذهبهه في الاسلام . وستعرف انها استطاعت أن تثير اهنمام السلطة الحاكمة بشكل حاد ومركز، لا بالايمان بها، بل بالوقوف ضدها ومحاولة القضاء عليها.
فالامام العسكري عليه السلام ، وهو يواجه المسلمين بهذه الفكرة ، يجد بالرغم من اخلادهم إلى مصالحهم ونحرافهم وحدود حسهم .. يجد عندهم مسبقات ذهنير وقاعدة فكرية مشحونة بالايمان بفكرة المهدي والاعتقاد بإمكان وقوعها ، مما يجعل له ارضية ممهدة للسير من قبله بهذا الشوط إلى نهايته.
وانما الأمر الكبير الذي يتحمل الامام العسكري عليه السلام مؤوليته ، بصفته والداً مباشراً للمهدي (ع) .. هو فكرة التطبيق وانهم قد اظلهم زمان الغيبة وأوشكت على الوجود والتنفيذ . وهو أمر صعب بالنسبة إلى الفرد العادي استطيع ان اسميه ب (الصدمة الايمانية) . فإن هناك فرقاً كبيراً في منطق ايمان الفرد العامدي بين ايمانه بالغيب بشكل مؤجل لا يعلم امده إلا الله تعالى ولا يكاد يحس الفرد بأثره في الحياة .. وبين الايمان بالغيب مع اعتقاد تنفيذه في زمان معاصر ويكفيك ان تتصور نفسك وحالتك الايمانية الوجدانية إذا اخبرك شخص لا تشك بصدقه بقرب حدوث يوم القيامة مثلاً أو قرب موتك مثلاً . فإن مثل هذا الخبر يعتبر صدمة للايمان لأنه يحتاج إلى مؤونة زائدة وقوة مضاعفة من الايمان والارادة والتفكير .. ويحتاج الفرد فيه إلى حشد كل ما في نفسه من قوى الايمان ومقدمات البرهان . بالشكل الذي يسعفه بالقناعة بأمر غيبي كهذا .


صفحة (212)ومن ثم كان غلى الامام ان يبذل جهداً مضاعفاً لتخفيف هذه الصدمة وتذليلها ، وتهية الذهنية العامة لتقبل الفكرة الجديدة ، وتعويد أصحابه على الالتزام بما تتطلبه الغيبة من انحاء من العقيدة والسلوك . وخاصة وهو يريد تربية جيل واع . متحمل للمسؤولية تجاه ذلك ليكون هو البذرة الاساسية لتربية الاجيال الآتية ، التي ستبني بجهدها - الغث والسمين - تاريخ الغيبيتين : الصغرى والكبرى .
فإذا عطفنا على ذلك ، ما عرفناه من ظروف الامام وأصحابه ، والمعانات الصعبة التي كانوا يعيشونها من قبل الدولة. واخذنا بنظر الاعتبار ان فكرة المهدي - وهي الفكرة الاصلاحية الثورية الكبرى - تعتبر في منطق الحكام ، امراً مخوفاً يهدد كيانهم ويقض مضاجعهم ، ويعتبر التصريح بها والدعوة اليها خروجاً على قانونهم وتمرداً على أساس دولتهم .. على حين كان الامام قد اتخذ سياسة السلبية والسالمة مع الدولة، وعدم مصارحتها بالخلاف .
من كل ذلك نستطيع ان نتميز بكل وضوح دقة مهمة الامام عليه السلام وصعوبة موقفه ، في التوفيق بين سلبيته تجاه الدولة ، وبين ايضاح فكرة المهدي للجيال .


صفحة (213)ومن ثم سار الامام على مخطط معين ، توصل به إلى كلا الغرضين وحقق كلا الهدفين كما سنرى ونستطيع ان نقسم نشاط الامام عليه السلام حول ذلك إلى قسمين: أحدهما: نشاطه بلحاظ ولادة المهدي (ع) وتربيته وصيانته وحجبه عن أعين الناس مع إظهاره لبعض خاصته ونحو ذلك. ثانيهما: بيانه لفكرة الغيبة وافهام الناس تكليفهم ومسؤوليتهم الاسلامية تجاهها . وتعويدهم على متطلباتها .
أما القسم الأول فمن المستحسن ارجاء الحديث عنه إلى الفصل الرابع الآتي حين نتعرض لتاريخ المهدي عليه السلام خلال حياة أبيه ، وسنرى حينئذ المواقف التفصيلية التي اتخذها الامام العسكري عليه السلام تجاه ولده .
وأما القسم الثاني فهو الذي يحسن التعرض له في المقام ، وهو ما يعود إلى موقفه عليه السلام تجاه الآخرين في مخططه للتمهيد للغيبة ، بإعتبار المهام الكيرى التي أشرنا اليها .
ويمكن تحديد نشاطه عليه السلام في هذا السبيل ضمن نقاط ثلاث: النقطة الاولى: تعاليمه وبياناته عن المهدي، كحلقة من تبليغات آبائه واجداده عنه عليه السلام . مع زيادة جديدة تخص الامام العسكري (ع) بصفته الوالد المباشر للمهدي والمخطط الأخير لغيبته .


صفحة (214)وتتخذ هذه البيانات على لسان الامام أشكالاً ثلاثة :
الشكل الأول : بيان علم كبيانات آبائه عليهم السلام ، في صفات المهدي بعد ظهوره وقيامه في دولة الحق.
فمن ذلك قول الامام العسكري عليه السلام في جوابه لبعض أصحابه حين سأله عن القائم إذا قام بم يقضي واين مجلسه الذي يقضي فيه . فكتب عليه السلام : سأل البينة (1).
واود أن أشير في هذه الرواية إلى جهتين:
الجهة الأولى: ان السؤال والجوب بين السائل والامام (ع) كان بطريق المكاتبة لا المشافهة. وهذا تطبيق لسياسة الامام في الاحتجاب تمهيداً لفكرة الغيبة على ما سنعرف .
الجهة الثانية : ان المزية الرئيسية لقضاء داود عليه السلام هو عدم المطالبة بالبينة ، حيث تراه قال للمدعي: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجة (2) . من دون ان يلتفت إلى صاحبه فيسأله عن رأيه ولا ان يطالب المدعي بالبينة المثبتة لدعواه.
وعلى أي حال ، فتطبيق ذلك من قبل المهدي عليه السلام يتوقف الجزم به على صحة هذه الروايات التي اعربت عنه. وفي بعضها ما يدل على انه عليه السلام يقوم بذلك بعد ظهوره مرة واحدة امتحاناً لأصحابه وستيثاقاً منهم ؛ كما كانت نفس الحادثة بالنسبة إلى النبي داوود عليه السلام امتحاناً له (وظن داوود إنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب) . ولعلنا نعرض إلى تفصيل ذلك في بعض بحوثنا الآتية (3) .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر الارشاد ص 323 . (2) الورة 38/24 .
(3) انظر الكتاب الثالي من هذه الموسوعة .


صفحة (215)الشكل الثاني: ان يتخذ بيان الامام (ع) عن المهدي شكل النقد السياسي لبعض الأوضاع القائمة آنئذ ، مقترنة بفكرة ان المهدي (ع) حينما يظهر فانه بأمر بتغييرها . وكل ما يأمر المهدي بتغيره فهو باطل للتسالم على كون حكمه قائماً على العدل الاسلامي ، كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله .
فمن ذلك قوله علية السلام: اذا خرج القائم يأمر بهدم المنابر والمقاصير التي في المساجد .. والمقاصير غرف معينة بناها الخلفاء في المساجد حتى يصلّوا فيها بإمامة الجماعة منفصلين عن جماعتهم ، لأجل حفظ غرضين من اغراضهم هما الأمن اثناء الصلاة من الاعتداء وزرع الهيبة في نفوس الآخرين. وهذا العمل مما يعتقد الامام بطلانه ، ولا زال من واضحات الفقه الامامي فساد الجماعة إذا صليت بإنفصال الامام عن المأمومين . ومن ثم يكون من الحق ان يأمر المهدي بإزالة ذلك عن الوجود .
غير اننا نجد الراوي لم يفهم الوجه في ذلك ، وتساءل في نفسه مستغرباً : لأي معنى هذا ، فيقبل عليه الامام ويقول : معنى هذا انها محدثة مبتدعة لم يبنها نبي ولا حجة (1) .
الشكل الثالث: ان يتخذ بيان الامام شكل الوصية العامة والنصيحة التوجيهية الكبيرة، لقواعده الشعبية. وإعطائهم الفكرة الصحيحة الحقة، فيما هو تكليفهم الاسلامي في سلوكهم النفسي والاجتماعي، تجاه ما سيعانونه ، من غيبة امامهم وانقطاعهم عن القيادة المعصومة ردحاً من الدهر.
ـــــــــــــــــــــ
(1) المناقب ج 3 ص 536 .


 صفحة (216)

 

السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله