لمادة الرابعةعشر : لجميع المواطنين الحق في أن
يثبتوا بأنفسهم أو بواسطة نوابهم، من ضرورة الضرائب العامة، وأن
يقبلوا بها برضاهم، ويراقبوا إنفاقها، ويحددوا نسبتها ومقدارها،
وكيفية جبايتها ومدتها.
وقد جاء واضعو هذا الإعلان بالشروط المذكورة في القسم الأخير من
هذه المادة والتي تخص إطلاع الشعب على الضرائب التي تفرض عليه.
لما لديهم من مسبقات ذهنية مستقاة من تأريخهم السابق المباشر، الذي
عاصروه والذي كان ممتدا في اوربا من قبلهم طوال قرون. فإن الضرائب
في تلك العصور الأوربية المظلمة كانت لصالح الملك أو الإقطاعي، لا
لصالح الصرف على الشعب وتمويل القوة العامة والإدارة . ومن ثم فإن
الشعب لم يكن يأخذ له صوت فيها(1) تى يتثبتوا من ضرورتها أو يقبلوا
بها برضاهم.
كما إنه لم تكن نسبتها ولا مقدارها ولا مدتها ولا كيفية جبايتها
محددة. فربما طلب الملك في يوم من الأيام نسبة معينة من الضريبة،
وربما طلب في يوم آخر مقداراً معيناً من المال لا بد أن يجمعوه من
بينهم. كا إنها كانت تجبى في الفصل الزراعي أو تجبيها جماعة
معينة(2) إلى آخر ما هنالك من أساليب الفوضى والفساد. ولهذا أراد
واضعو هذا الإعلان أن يسدوا باب هذا الأضطراب لما يجلبه عليهم من
وبال وخراب في حياتهم الإقتصادية.
والإسلام بصفته نظاماً إلهيا، فهو لا يعترف بالتمثيل البرلماني.
لأنه يضع قوانينه حسب المصالح الحقيقية للإنسانية تلك المصالح التي
يعلمها الله (عز وجل) بحكمته البالغة اللانهائية، والتي سبق أن
أكدنا أن العقل البشري
__________________
(1) انظر ما قلناه في مبدأ هذا البحث منطريقة التصويت في مجلس
الطبقات العامة.
(2) محاضرات في التاريخ الحديث، الدكتور فاضل حسين
قاصر عن إدراكها بخصوصيتها، لما فيها من ملابسان نفسية شعورية ولا
شعورية وعواطف وإعتبارات لا يمكن أن يطلع عليها أي واضع بشري
لقانون مهما كان محيطاً بأحوال المجتمع وسكانه.
والتمثيل البرلمماني إنما شرع لأجل التأكد من صحة وعدالةالقانون من
ناحيةن ولكي يطبق على الشعب برضاهم فلا يكونوا محكومين بسلطة
غاشمة. ولكن ما دام هذا القانون عادلاً في حين وضعه. وا دام
المسلم، بصفته مسلماً راض بالأخذ بهذا القانون وتطبيقه لما يرى فيه
من العدالة والخلود. إذن فلا حاجة تبقى لدى الشعب المسلم إلى
التصويت على أي قانون من القوانين الإسلامية
بالإضافة إلى ما سبق أن أكدناه أن إرادة الفرد المسلم وحريته بيد
خالقه لا يملك منها شيءا، فالله (عز وعلا) هو الذي يوجهه ويقوده
إلى الحق بقوانينه وتعاليمه. ولم تشرع الإنتخابات البرلمانية إلا
على أساس الإعتراف بحق الفرد في أن يحكم نفسه، وهو منتف أساساً في
الدولة الإسلامية ولدى الفرد المسلم
المادة الخامسة عشر : للهيأة الإجتماعية أن تحاسب كل موظف عمومي،
عن أعماله
يقصد واضعو هذا الإعلان، ومن الموظف العمومي، ا لموظف في دوائر
الدولة، في مقابل الموظف في شركة أو منظمة أو حزب. اما بالنسبة إلى
رأي الإسلام في محتوى هذه المادة، فهو يوضع موضع التفصيل. لا ن هذا
الموظف العمومي اما ان يقصد منه رئيس الدولة الإسلامية، الإمام
المعصوم (عليه السلام) . واما ان يقصد من سواه من الموظفين في
الدولة. اما الإمام ا لمعصوم (عليه افضل التحية والسلامن)، فهو
بعصمته وطهارة نفسه وقربه من الله (عز وجل)، غني عن المراقبة
والمحاسبة . فإن الذي ينبغي ان يحاسب هو الشخص الذي يحتمل في شأنه
الخطأ والهفوة، اما الإمام المعصوم (عليه السلام)، الذي يستحيل
عليه ذلك بما لديه من الملكة القدسية الروحانية، والتي يبرهن علهيا
في محلها من الأدلة الإسلامية، فإنه أجل قدراً وأعظم نفساً من ان
يحاسب على أعماله ، فإن هذه العصمة هي التي جعلته أهلاً لتولي هذا
المنصب العظيم. بالإضافة إلى إننا نتساءل عن الشخص أو عن الجماعة
أو عن الشعب الذي يتولى مراقبته مع أنه أفضل أهل عصره جميعا،
وأدقهم نظراً، وأوسعهم ذهنا، وأبعدهم بالطرق الصالحة التي ينبغي أن
تطبق بها القوانين الإلهية، التي فوض إليه تطبيقها. فإن الشعب لن
يجد من هو خير منه رايا، ولا أصوب منه وجهة نظر، بعد أن أختاره
الله (عز وعلا) ليكون حجة على عباده. ولن يكون ما يقترح عليه، من
قبل ذوي العقول الأنانية القاصرة، إلا دون ما يرى من حيث العمق
والرشد
واما إذا كان المقصود من الموظف العمومي، سائر موظفي الدولة، غير
رئيس الدولة الإسلامية. فإن أي موظف من هذه الدولة تتوجه إليه
الرقابة الشديدة من عدة جهات، ولكل جهة منها من السلطة والقوة في
معاقبة الفرد، وبصورة فعالة وعميقة، الشيء الكثير. وعليه فهو
مراقب:
1- من قبل الله (عز وجل)، الذي خلقه وانعم عليه بالحياة والعقل
والمال، وسهل له سبل المعيشة، ووضع في خدمته الأرض والحيوان
والمزروعات وكل العوامل الطبيعية، وشرع له من التعالمي والأنظمة ما
يسمو به إلى درجات الكمال، وعلمه من القيم والأخلاقية والروحية ما
تيسر له صفاء نفسه وسمو روحه. فهو مراقب من قبله (عز وجل) في جميع
حركاته وسكناته، ومسؤول عن جميع أخطائه وهفواته. يجزيه عليها
بعدالته أو يغفرها له برحمته.
2- وهو مراقب من ضميره الإسلامي. فإن الإسلام يصهر نفس المسلم في
بوتقته، ويجعل من عواطفه وملكاته النفسية مزاجاً إسلامياً رائعاً،
ويوجهها في سبيل الدين والخير وخدمة المجموع. وخاصة وقد تربى مثل
هذا الفرد في أحضان المجتمع الإسلامي الخاشع لله (عز وعلا) المطيع
لأوامره الحكيمة، والصمير إنما يتكون عن طريق الشحن فيه من القيم
والإعتبارات، عن طريق المجتمع الذي يتربى فيه الفرد، ويترعرع فيه
عقله وتنضج فيه نفسه. ومن ثم فهو يكون مرآة للمجتمع الذي تكون فيه،
يأمر صاحبه وينهاه عن مستلزمات ذلك المجتمع وآدابه، ومن ثم فكلما
كان المجتمع مهذباً فاضلاً تسوده العادات الطيبة والقوانين
العادلة، كان الضمير أهدى لصاحبة وأوصل به إلى طريق الخير
ومن ثم كان الضمير الذي تربى بين أحضان المجتمع الإسلامي ضميراً
إسلامياً، يهدي للحق ويرشد إلى السداد، كما يراه الإسلام بحكمته
البالغة. والضمير هو أقوى وأقرب قوى الرقابة من الفرد، وأبعد أثراً
من كل التأثيرات الخارجية علىنفس الفرد وتصرفاته
3- وهو مراقب من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام) رئيس الدولة
الإسلامية، الذي جعله في هذا المنصب ليخدم مواطنيه ويقضي حوائجهم،
ويسعى في سبيل مصالحهم، ويخلص أداء واجبه في سبيل شعبه وأمته. فإذا
صدر منه أدنى تقصير أو إسفاف، يكون عرضه للوم والتأنيب من قبل
الإمام (عليه السلام). فإذا انصاع إلى الحق فقد اهتدى، وإلا عزل عن
منصبه، وعوقب بما يستحقه، على حسب القوانين الإلهية العادلة. ويؤتى
بدله بشخص آخر يحل محله، يكون أخدم لشعبه وأخلص لدينه ولواجباته.
ونجد من تلك المواعظ والتوجيهات، التي يبعثها الإمام (عليه
السلام)، إلى موظفيه وعماله ليحثهم لى الخير ويجزهم عن الشر، نجد
من ذلك في نهج البلاغة الشيء الكثير. فقد كان إسلوب الإمام أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، في الحكم، إسلوباً
إسلامياً مثالثاً، تجسدت فيه قوانين الإسلام وتعاليمه بما فيها من
عدالة وإرشاد وصلابة في سبيل الحق
فقد كان (عليه السلام)، يؤكد على إبداء النصيحة والتوجيه إلى عماله
الذين يبعثهم ليحكموا الأقطار الإسلامية، ويشدد عليهم في التأنيب
عند أدنى زلة أو موبقة ينحرف فيها عن الدين أو يخرج بها على حقوق
الأمة، وذلك لما يعلمه في ثاقب بصيرته، من أن ذلك أقوم لعماله،
وأجدى من توجيه أعمالهم حتى تكون مطابقة للحق وتعاليم الإسلام
فمن النصائح والتوجيهات التي بعثها الإمام أمير المؤمنين ( عليه
السلام)، هو عهده المشهور إلى الأشتر النخعي، عندما ولاه على مصر.
ذلك العهد الجامع لصفات الحكم الصحيح وإسلوب القيادة العادل،
وخير الوجوه التي ينبغي أن يكون بها سلوك الحكام في معاملتهم مع
الناس وتصريف شؤون الدولة. يبدأه عليه السلام قائلً : ((بسم الله
الرحمن الرحيم هذا ما أمر به عبد الله ، علي ، امير المؤمنين مالك
بن الحارث الأشتر في عهده إليه حين ولاه مصر، جباية خرااجها، وجهاد
عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها. أمره بتقوى الله وإيثار
طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه، التي لا يسعد
أحد إلا باتباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله
سبحانه بقلبه ويده ولسانه، فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره،
وإعزاز من أعزه، وأمره أن يكسر نفسه من الشهوات، ويزعها عند
الجمحات، فإن النفس أمارة بالسوء إلا ما رحم الله))(1).
ومما يندرج في المقام ذلك التأنيب العنيف الذي بعثه إلى عثمان بن
حنيف) عامله على لابصرة، وقد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها
فمضى إليها، في حين أنه ينبغي للحاكم العادل أن يعف عن مثل هذه
الأساليب المادية الدنيئة وألا يبيع قلبه لقاء وليمة أو نقود. قال
(عليه السلام) : ((أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية
أهل البصرة دعالك إلى مادبة فأسرعت اليها، تستطاب لك الألوان،
وتنقل إليك
__________________________
(1) نهج البلاغة ص909 ج2
الجفان، وما ظننت أنك تتجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو، وغنيهم
مدعو. فأنظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما أشتبه عليك علمه
فالفظه، وما ايقنت بطيب وجوهه فنل منه))(1)
ومن ذلك، ما كتبه (عليه السلام) إلى (مصقلة بن هبيرة الشيباني) وهو
عامله على (اردشير خره)، وهو من أعنف كتبه وأشدها تأنيباُ للحاكم
المتجاوز على تعاليم دينه، والظالم لرعيته. قال (سلام الله عليه) :
((بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد اسخطت الهك واغضبت إمامك أنك
تقسم في المسلمين الذي حازته رماحهم وخيولهم واريقت عليه دماؤهم
فيمن اعتامك(2) من أعراب قومك فو الذي فلق الحبة وبراً النسمة لئن
كان ذلك حقاً لتجدن بك علي هوانا ولتخفن عندي ميزاناً فلا تستهن
بحق ربك ولا تصلح دنياك بمحق دينك فتكون من الآخسرين أعمالا))(3).
4- والموظف في الدولة الإسلامية، مراقب أيضاً، من قبل أمته وشعبه
الذي يتولى فيه بعض الأعمال والإدارات، فإن ذلك من البديهيات
الإسلامية، وهذه الرقابة، هي الأسلوب الوحيد الذي التفت إليه واضعو
_________________________________
(1) نهج البلاغة ص92 ج2
(2) اعتامك : اختارك.
(3) نهج البلاغة ص89 ج2
هذا الإعلان، من أساليب الرقابة، وذلك لأنهم إنما يمثلون مصالحهم
وواقعهم وتأريخهم الخاص، وكل ذلك أبعد ما يكون عن الأفق الواسع
الذي أرتقى إليه الإسلام بتعاليمه الحكيمة
فلكل مواطن ان يرفع ضد أي موظف، في الدولة الإسلامية، شكوى حول أي
خروج على تعاليم الدين أو صلاح الأمة، وسوف تسمع دعواه برحابة صدر،
طبقاً لما عهده أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مالك الأشتر، حيث
يأمره في عهده المشهور قائلا : (( واجعل لذوي الحاجات منك قسما
تفرغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عاما، فتتواضع فيه لله الذي
خلقك ، وتقعد(1) عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك
متكلمهم غير متتعتع ، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) يقول في غير موطن : (لن تقدس أمة(2) لا يؤخد للضعيف فيها حقه
من القوي غير متتعتع) ثم احتمل الخرق منه والعي، ونح عنهم الضيق
والأنف، يبسطالله عليك بذلك رحمته، ويوجب لك ثواب طاعته))(3)
ثم إن الإمام (عليه السلام) ينظر في شكوى المشتكي، ويفحص عن حال
الموظف بدقة، فإن ثبت أنه قام بمخالفة لتعاليم الإسلام أو ظلم لبعض
_______________________________
(1) أي تأمرهم بالقعود عنهم وعدم التعرض لهم.
(2) لن تقدس : لن تطهر
(3) النهج ص135 ج2
أفراد شعبه، أنبه أو أقصاه عن منصبه وعاقبه، إن كان ذنبه يستحق
العقاب. وإلا رد المشتكي رداً جميلاً، وبقي الموظف في منصبه لخدمة
مصلحة الإسلام العلي
ولعلنا نستطيع أن نستشهد لهذه الرقابة الشعبية الإسلامية ببعض
الحوادث التأريخية، كالذي كان يقوم به (ابو ذر) عليه الرحمة
والرضوان) ، لما أعطى (عثمان) (مروان بن الحكم) وغيره بيوت المال،
واختص (زيد بن ثابت ) بشء منها. جعل ابو ذر يقول بين الناس وفي
الطرقات ولاشوارع : بشر الكافرين بعذاب أليم، يرفع بذلك صوته ويتلو
قوله تعالى : ((والذين يكنزون الذهب والفضة لا ينفقونها في سبيل
الله، فبشرهم بعذاب أليم))(1)
(21)
المادة السادسة عشر : كل هيأة إجتماعية لا تكون الحقوق مصونة فيها،
ولا تضمن فصل السلطات، تعتبر محرومة من الدستور. كان الفيلسوف
السياسي (منتوسكيو) أول من توسع في شرح نظرية (فصل السلطات)
والتنويه بأهميتها في كتابه (روح القوانين) ومن
__________________
(1) شرح النهج لأبن أبي الحديد ص256 ج8
رأي (منوسكيو) أنه يجب أن تفصل كل من السلطات الثلاث : التشريعية،
والتفيذية، والقضائية، عن الأخرى فصلاً تاماً، وإلا حاولت إحداها
التدخل في أعمال الأخرى او السيطرة عليها بأية وسيلة، وإلا انعدم
كل ضمان للحرية الفردية
ويشرح (منتوسيكو) رأيه على النحو الآتي : إذا اجتمعت السلطتان
التشريعية والتنفيذية في نفس الشخص أو نفسص الهيأة فلا حرية. ذلك
أنه يعرض عندئذ خطر قيام نفس الملك أو نفس المجلس بسن قوانين ظالمة
وتنفيذها بطرق مجحفة. وكذلك لن تكون ثمة حرية إذا لم تكن السلطة
القضائية منفصلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية. ولو إنها انضمت
للسلطة التشريعية لغدت حياة الأفراد وحرياتهم تحت رحمة الأهواء
ذلك لأن القاضي يغدو عندئذ مشرعاً. ولو أنضمت للسلطة التنفيذية
لأصبح القاضي قوة الظالم المتعسف(1).
فكأن واضعي هذا الإعلان كانوا متأثرين بأفكار منتوسيكو(2) وقد نقد
الاستاذ (محمد عبد الله عنان) هذه النظرية، على طريقة الفكر
الحديث، بعد أن نقل ملخصاً عنها وهو الذي نقلناه فيما سبق، قال :
(( وقد كان لهذه النظرية في القرن الثامن ع شر وقع عميق، وقد تأثرت
بها دساتير
____________________________
(1) المذاهب الإجتماعية الحديثة ص39
(2) محاضرات في التاريخ الحديث .
الولايات الأمريكية منذ تحريرها. على أنها ما لبثت أن تضاءلت أمام
تجارب القرن التاسع عشر، وتبدو اليوم أعرق النظم الديمقراطية ، وقد
تشابكت فيها السلطات الثلاث، بأوضاع وحدود معينة. وليس أدل على ذلك
مما هو ملحوظ في نظام الحكم الإنجليزي من أن السلطة التنفيذية، وهي
الوزارة، تزاول سلطة الحكم وإعداد مشاريع القوانين. فإن الوزارة
بأغلبيتها الحزبية البرلمانية، تستطيع أن تحصل على إقرار هذه
القوانين على يد الهيأة التشريعية. وهنا تبدو نظرية فصل السلطات
ضئيلة الأثر. ولا يمكن أن يقال إن الحريات قد أهدرت في ظل نظام
برلماني يقوم على أساس الأغلبية الحزبية)). ولم يعلم الأستاذ أن ما
ذكره لا يمكن أن يرد نظرية فصل السلطات أو يدحض ما قامت عليه من
دليل، فإننا ,غن كنا لا نستطيع الآن أن نناقش بالتفصيل خصوصيات
النظام البرلماني القائم على أساس الأغلبية الحزبية ، لان ذلك
يحتاج إلى سعة في القول لا يتحمله المقام. ولكننا نقول بنحو
الإيجاز : إن طريقة التصويت هذه تؤدي إلى نوع من الدكتاتورية أيضا.
غاية الأمر أنها مغطاة بأغشية كثيرة براقة من الأسماء والصفات. فإن
ما ذكروه من وضع الوزراء للقوانين، واخذ اغلبيتهم الحزبية
البرلمانية عليها لا يعدو أن يكون أكثر من دكتاتورية حزبية ضيقة،
وذلك لأن جماعة من الحزب هم الوزراء تضع القانون، وجماعة أخرى من
الحزب نفسه وهم النواب، تصادق عليه ويطبق القانون على الشعب طبقاً
لرأي أحد أحزابه
اما الزعم بأن اكثرية البرلمان تمثل أكثرية الشعب، إذن فمن الحق أن
يطبق القانون على الشعب بقرار أكثرية ممثليه، فباطل. لأنه حتى مع
غض النظر عن التساؤل عن معنى كون كل فرد من البرلمان ممثلاً للعدد
الذي أصبح نائباً عنه، وعلى أي أساس صحيح يبتني هذا التمثيل، فإن
الأكثرية البرلمانية لا تحصل لحزب، حتى تحت النظم الديمقراطية
المثاية، إلا تحت عوامل نفسية وعاطفية وإجتماعية كثيرة وكثيرة جداً
تلامزم عملية التصويت وتؤثر فيها آثاراً مختلفة
بالإضافةإلى ان نسبة معينة من الشعب هي التي يحق لها التصويت دون
من سواهم ممن لم تجتمع فيهم مالشروط. ثم إنه هناك نسبة معينة ممن
يحق لهم التصويت يعتبر إحرازها إحرازاً للأكثرية، ثم هناك نسبة
معينة من النواب تنعقد بهم الجلسة الرسمية للبرلما، وهناك نسبة
معينة من الحاضرين يخرج بها القانون إلى الوجود ويصبح نافد المفعول
على الشعب. فلو فرضنا أن كل هذه النسب ا×ذت بأقل مقدار ممكن تصبح
بها نسبة قانونية، فإنه حتى مع صحة التمثيل وضمان الديمقراطية .
فإن القانون سوف يصدر بأصوات ممثلي شرذمة صغيرة من الشعب. في أقل
القليل أن يصادف أكثرية ساحقة في إحدى هذه النسب فضلاً عن جميعه
ومن هنا نعرف أنه لا بد من فصل السلطات الثلاث في الدول الإعتيادية
غير الإلهية، والتي يتولى فيها كلا من السلطات الثلاث أفراد
عاديون، وإلا ذاق الشعب أنواعاً من الظلم والتعسف
أما بالنسبة إلى الدول الإسلامية، فليس هناك سلطة تشريعية لأن كل
الجهات في الدولة خاضعة لله (عز وعلا) ومؤتمرة بأمره، ومتمسكة
بتعاليمه.
إذن فالقوانين في هذه الدولة منفصلة أساساً عن كل من السلطة
التنفيذية والقضائية، ليس لأحد التحكم بها أو تغييرها فكل من
القاضي الشرعي والحاكم الشرعي يقومان بتنفيذ القوانين الإلهية
بأمانة وإخلاص
أما بالنسبة إلى الفصل بين السلطتين التنفيذية والقضائية، فهو غير
موجود في الإسلام. فإن الإمام العصوم (عليه السلام)، هو الذي من
حقه أن يحكم بين الناس كقاض، وهو الذي ينفذ الأحكام، كما إنه هو
الذي يدير شؤون الدولة . فإن كانت تمنعه أشغاله عن النظر فيها أو
كان البلد بعيداً، أو في زمان الغيبة، كزماننا هذا، نصب الإمام من
يختاره لأجل فض المرافعات بين الناس. ومن حق القاضي المنصوب أن
ينفذ الأحكم التي يصدرها بحق المجرمين. ولكن ذلك لا يعني التعسف
والظلم
في الدولة الإسلامية كما يمكن أن يعينه في الدول الأخرى، فإننا إذا
عرفنا صفات الإمام المعصوم (عليه السلام) ، تلك الصفات التي سبق أن
اشرنا إليها أكثر من مرة، وعرفنا من الذي يمكن أن ينصبه الإمام
ليكون قاضياً بين المسلمين، وكيف أن هذا القاضي مراقب أيضاً من قبل
الجهات التي عددناها في المادة الرابعة عشر من هذا الإعلان، تحاسبه
على أي شطط أو خروج على تعاليم ا لإسلام في تحريه أو محاكمته أو في
صدور حكمه أو في تنفيذه الحكم. فإذا بأن انه قد ظلم شخصا، أو تعسف
بالحكم ضد أحد، أو خرج علىلاقواعد الإسلامية الموضوعة للقضاء، فإنه
يعرض نفسه لغضب الله تعالى عليه وغضب إمامه وأمته. بالإضافة إلى ان
للفرد المظلوم الحق أن يعرض الدعوى على محكمة ثانية لتقوم، اذا ثبت
جرمه، بمعاقبته على جرمه. اما كون أن الهيأة الإجتماعية التي لا
تكون الحقوق مصونة فيها، لا يضمن فيها الفصل بين سلطاتها الثلاث،
تكون محرومة من الدستور، طبقاً لما اعتبره هذا الإعلان.
فكأن حرمانها من الدستور بمترلة العقاب، يريد أن يترله واضعو هذا
الإعلان على مثل هذه البيأة التي تستهين بالحقوق الإنسانية، أي
بإعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي وضعه هؤلاء البرجوازيون على حسب
مصالحهم الخاصة، والتي تستهين بفصل السلطات التي هي جوهر
الديمقراطية في رأي (منتوسيكو). والحرمان من الدستور أمر مرعب يعني
أن يعامل واضعو هذا الإعلان تلك الهيأة الإجتماعية بالظلم والتعسف
بالأمور الخارجة عن الدستور بحدة أن هذه الهيأة الإجتماعية غير
مشمولة للدستور لأن الحقوق غير مصونةفيها و لا تضمن فصل السلطانت!
وكان الولى بواضعي هذه الإعلان أن يترفقوا مع هذه الهيأة
الإجتماعية ويأخذوها بالإحسان، فإنها هيأة إجتماعية ((ضالة))! وكان
خيراً لهم لو قرروا الإصرار على تطبيق الدستور في ربوعها، وإلزامها
بحقوق الإنسان، حتى تهندي لرأيهم، وترجع إلى أوامرهم ومتطلباتهم
اما بالنسبة إلى الإسلام فإن الهيأة الإجتماعية التي تتمرد على بعض
تعاليمه فإنها في الواقع متمردة عليه نفسه، فإن تعاليم الإسلام
وحدة متماسكة يشد بعضها بعضاً وتأزر أحدها الأخرى، وتؤتي ثمارها
مجتمعة
كأحسن ما تكون الثمار، واما تطبيق بعض تعاليمه، فلا يمكن أن يثمر
الثمر المرجو كما لو طبق في ضمن أخوانه من التعاليم الإسلامية، بل
إنه إنما يثمر بالمقدار الذي تسمح له الظروف السائدة المنبثقة من
غير الإسلام أن يثمر. ولكن مع ذلك يجب تطبيق حتى الأمر الواحد من
أوامر الإسلام فإن لكل امر ونهي ثواباً وعقاباً مستقلين، بالإضافة
إلى ما يجرى من ذلك من تطبيق جميع التعاليم الإسلامية في يوم من
الأيام لو اخلص المسلمون للأخذ بدينهم القويم وفهموه حق فهمه.
ولكن الإسلام لا يعاق هذه الهيأة المتمردة بحرمانها من الدستور، بل
إنه يوجه إلى أفرادها المواعظ والإرشاد، والتفكير بالله ( عز وجل)
ولاثواب والعقاب، والقيم الإسلامية المختلفة، والتعالمي الإلهية
العادلة، حتى تفي إلى امر الهل تعالى . وهذه الهيأة الإجتماعية لا
بد أن تتأثر بهذه الدعاية المتضمنة للدعوة إلى الله (عز وعلا)
والوصول إلى الكمال الرفيع، ولو بعد مرور بعض الوقت مهما كانت موجة
الإلحاد قوية ومستشرية. وإن لم تجد هذه المواعظ البليغة نفعاً، وإن
لم تهز منهم الضمائر والأفكار، فإن على الدولة الإسلامية أن تخضع
هذه الهيأة الإجتماعية عن طريق القوة والسلاح، دفاعاً عن الحق
الضائع والتعاليم الإلهية المهدرة . لكي ترغم هذه الهيأة
الإجتماعية إلى أمر الله (عز وجل)
(22)
المادة السابعة عشر : الملكية الخاصة هي حق مقدس لا ينقض. فلا يجوز
أن تنتزع من أ؛د، إلا عندما تقضي بذلك المصلحة العامة الثابتة
شرعاً، وبشرط أن يمحنح مقدماً تعويضاً عادل
وهذه المادة أهم مادة في إعلان حقوق الإنسان والمواطن هذا، بالنسبة
إلى مصالح واضعيه، وذلك لأنها تمثل جوهر فلسفة البرجوازية. حيث
إنها تعترف بحق الملكية وتعتبره حقاً مقدساً لا ينقض. وإضفاء هذه
الصفات على هذا الحق يعني أن واضعي هذا الحق يعني أن واضعي هذا
الإعلان قد أعطوا حق التملك صفة إلهية دينية لأهميته، فلا يجوز أن
تنتزع الملكية من أحد، إلا أن عندما تقضي بذلك المصلحة العامة أي
المصلحة البرجوازية الثابتة شرعاً، أي في القوانين التي يضعونها
بأنفسهم لتطبق في بلادهم، والتي تمثل مصلحتهم وفلسفتهم الخاصة.
وبشرط ان يمنح مقدما أي قبل أن تأخذ منه الضرائب تعويضاً عادلاً
(1).
اما كون أن الملكية حق مقدس لا ينقض ، فلا بد أن يوضع لمناقشته
موضع التفصيل: فإنه اما أن يقصد منه كون أن للانسان الحق في أن
يملك شيئا ما، في مقابل أن لا يحق له أن يملك أي شيء. واما أن بقصد
منه أن لا يقف دون تملك لأكبر كمية منالمال عائق، وأن يكون للفرد
الحق بإمتلاك أية كمية منالمال مهما زادت وتضخمت، في مقابل ما يوضع
من النظم والقوانين للحد من هذا الإستشراء البغيض
اما بالنسبة إلى المعنى الأول، فهو وإن لم يكن مقصوداً لواضعي هذا
القانون لأن المصالح البرجوازية إنما تقتضي المعنى الثاني، كما هو
واضح، إلا اننا ينبغي أن نتناول كلا الوجهين بشيء من النقد. فإذا
كان المقصود من حق الملكية في مقابلها سلبها سلبا تاماً، بحيث لا
يحق للفرد
_______________________________________
(1) مقتبس عن محاضرات في التاريخ الحديث، الدكتور فاضل حسين
أن يملك أي شيء، فحقاً أن هذا الحق ثابت لا ينقض، كا تريد النظرية
الشيوعية أن تقوله، فإن التملك غريزة فطرية في نفس نالإنسان،
وواجهها منذ أن واجه وجوده، فإن كون هذا الشيء راجع إلى هذا الشخص
أو ذاك هو أمر من البديهيات الإنسانية التي لا يمكن للإنسانية
التخلي عنها.
وباستعمال هذا الحق يشعر الإنسان بالسعادة والإطمئنان والحرية،
وإنه متحكم في شؤون نفسه وعائلته، مسيطر على ما لديه من متاع، حر
في أن يبيع وأن يشتري ما يشاء . ولذا نص علم النفس على أ، من غرائز
الإنسان الأساسية غريزة التملك أو الحيازة أوالسيطرة، حتى إن
(أدلر) اعتبرها الحافز الرئيسي للسلوك الإنساني، ووضع على أساس هذه
النظرية آراءه ونظرياته بعد أن انشق على استاذه (سيكموند فرويد)
زعيم مدرسة التحليل النفسي
وتخلف هذا لاحق من الإنسان يحدث عنده كثيراُ من العقد النفسية
والإنفعالات العاطفية الحادة، وتجعله معرضاً لأنواع من الأمراض
النفسية والعقلية، من حيث شعور الإنسان بأنه لا يملك أبسط حق ينبغي
أن يكون لديه، بالإضافة إلى أنه دافع غريزي والدافع الغريزي، يتطلب
الإشباع فإن بقي خاوياً فإنه يعرض صاحبه إلى أمراض نفسية وعقلية
كثيرة، تجعل الفرد بعد حدوثها، عالة على المجتمع لا يهتدي إلىوجه
الصواب في أعماله. بالإضافة إلى شعرو الإنسان بأنه محكوم طول عمره
إلى سلطة قاهرة تملك علهي حتى طعامه وشرابه والأدوات الضرورية
لأبسط أنواع الحياة. فهل يوجد تهديد للحياة الإجتماعية أعظم من هذا
التهديد، إذا كان كل فرد معرضاً لمثل هذا الشعور لمثل هذه الأمراض
النفسية والعقلية
بالإضافة إلى ما يحدثه منع هذا الحق، الذي يعني تكدس الأموال عند
الدولة ، من إستيلاء زمرة معينة علىجميع الثروة القومية دون أي فرد
من الشعب، وتكون بذلك مسيطرة على أرواح الناس كما هي مسيطرة على
أعمالهم، ويكفي لها في أن تجبر شخصها بالقيام بعمل ما، أن تهدده
بمنع الطعام والشراب عنه فيقوم بالعمل طائعاً خاضعاً، وفي ذلك
دكتاتورية ورأسمالية لم تشهدها حتى الدول الرأسمالية نفسها.
بالإضافة إلى ما يحدثه منع هذا الحق، من هدر لنبوغ النوابغ، وعلم
العلماء، وعمل العمال الماهرين، ومساواتهم بسار الشعب في الأجر،
وتحديده بالحاجات الضرورية وهي متساوية بين الناس عادة.
وقد كان هذا هو العائق الرئيسي عن تطبيق الشيوعية المتطرفة، فإنه
بدا واضحاً إستحالة ذلك بعد وجود هذه الغريزة في نفس الإنسان، وما
يخلفه منعها من آثار سيئة، ومن انعدام وجود الداعي عند العامل
الماهر أو النابغة لأن يعمل مهارته أو نبوغه بعد أن كان أجره مساوي
لأجر الآخرين.
ولهذا السبب نفسه باءت الستالينية بالفشل، وهي التي تدعو إلى
الجمود على التعاليم الشيوعية كما وضعها (ماركس) و (انجلر) ضمن
افقهم وأوضعاهم الإجتماعية والنفسية والفكرية التي اتصفوا بها قبل
قرن من الزمان. في حين بدت في الأفق دعوة جديدة إلى إخضاع التعاليم
الشيوعية إلى الأوضاع المتطورة والمستلزمات البشرية الحالية. هذا
في واقعة سقوط من البرج الشيوعي العاجي، وخروج على التعاليم
الشيوعية، بعد الإصطدام العنيف مع الواقع البشري
وكان من أثر هذه الدعوة الجديدة أن أعيد التفاضل بين الناس في حدود
ضئيلة، وأعيد تشريع حق التملك لأكثر من ضروريات الحياة. مع بقاء
جميع وسائل الإنتاج في يد الدولة تستخدم فيها العال، الذي لا يجدون
من موارد الرزق غير ذلك، كما كان يستعمل الإقطاعي فلاحيه الأقنان
وإما إذا كان المقصود من كون حق التملك مقدساً لا ينقض، أي يكون
للفرد الحق في تملك أكبر كمية ممكنة منالمال، مهما كان ذلك تعسفاً
وإعتداءاً على حقوق الآخرين. فقد اصبح الآن مثل هذا الحق أقرب إلى
الفكاهة التي تثير السخرية من كونها قاعدة إنسانية متبعة في
المجتماعات المتمدنة، بعد أن ذاقت البشرية بعد الثورة الصناعية إلى
الآن، الكثير من كوارث وأهوال الراسمالية في وسائلها التعسفية
السافلة من أجل حصولها على المال، وتوسيع تجارتها وصناعتها، كما
عانت البشرية الويل من نتائجها الموجعة الوخيمة، من تكدس الثروة
عند زمرة معينة من الناس، وبقاء أغلبية الشعب في حاجة شديدة،
يضطرون معها إلى الخضوع إلى أوامر هؤلاء الرأسماليين والإنصياع
لأوامرهم في إستخدامهم في مصالحهم التجارية والصناعية. ومن ثم نرى
الحكومات بعد هذا الإصطدام المرير بالواقع، اضطرت إلى فرضها
لاضرائب وجعلها تصاعدية، وفرض بعض القيود والشروط على انتاج
والتوزيع في سبل كبح جماح تكدس الثروة.
اما الإسلام فهو أقرب إلى الواقع من كل هذين المذهبين المتطرفين،
بل إنه هو الواقع نفسه بأفضل صوره. فهو يعترف بالملكية الخاصة،
ويأمن عن هذا الطريق من مساوئ إلغائها، وهو يضع عليها ضرائب
وشروطاً، تضمن وقوفها عند حد غير مجحف بالمجتمع، وهو في عين الوقت
لا يضر صاحبه ولا يمنعه من التمتع الجميل الهادئ بالحياة. وبذلك
يتخلص الإسلام من مساوئ تكدس الثروة بيد واحدة او جماعة. وهو أيضاً
يعترف بملكية الدولة جزءاً معيناً منالمال مما يجبى إليها من
الضرائب والخراج بعد أن يصرف باقيه في مصارفه الخاصة، ويوزع على
مستحقيه من الفقراء واليتامى والارقاء وغيرهم . وبهذا يستفيد
الإسلام من الملكية العامة أو التأميم الذي تنادي به الإشتراكية،
ولكن في حدود معينة ليس فيها سطو على أموال الآخرين، وإستيلاء على
ممتلكاتهم تعسفاً. ولكنه في عين الوقت يعين كثيراً في بناء
المشاريع العامة ولاصرف على القوة العامة وإدارة الدولة.
اما ما قاله واضعو هذه المادة من أن الملكية الخاصة لا يجوز أن
تنتزع من أحد إلا عندما تقضي بذلك المصلحة العامة الثابتة شرعا،
وبشرط أن يمنح مقدماُ تعويضاً عادلاً. فهل يعني إنتزاع الملكية سلب
هذا الحق عن الفرد بحيث يصبح محظوراً عليه أن يملك أي شيء، فإن هذا
بالإضافة إلى أنه يسبب الشماكل والأمراض التي ناقشناها قبل قليل،
فهو مما لا يمكن أن تقضي به المصلحة العامة ولا يمكن أن يقول به
قانون منصف مراع لطبيعة الإنسان . كما إنه لا معنى حينئذ أن يمنح
الفرد تعويضاً لأنه لا يمكنه أن يتملكه بعد فرض سل هذا الحق
((المقدس) عنه
ام إن المقصود من ذلك سلب ملكية الشخص عن بعض ما يمتلكه من المال
عن طريق سن الضرائب أو غيرها. وهذا وإن كان مما تقره المصلحة
العامة ويقره الشرع في كل منالقانون الوضعي والقانون الإسلامي، إلا
إنه لا معنى لأن يمنح مقدماً أو مؤخراً تعويضاً مهما كان نوعه،
لإنتفاء فائدة أخذ الضريبة منه، فإن ما أخذ منه سوف يرجع إليه عن
طريق هذا التعويض. ولعمري أن هذا الاشتراط غريب جداً، فإنه لم تفرض
الضرائب إذا لم تكن مؤثرة على اتساع الثروة، لولا أننا نعرف مقدماً
أن هؤلاء قوم برجوازينو يخشون على أموالهم، وعلى اتساع ثروتهم
وتجارتهم وصناعتهم، ومن ثم يشترطون مثل هذا الشرط الغريب لئلا تمس
أمورهم المالية بسوء
اما بالنسبة إلى الإسلام فهو إلى جانب إعترافه بالملكية الفردية
التي هي غريزة فطرية في الإنسان. لكي يتسنى للبر أن يعيشوا
بأموالهم الخاصة عيشة مرفهة، وأن يملكوا حرياتهم، ولا يكونوا
خاضعين لتعسف الآخرين. إلى جانب ذلك وضع العوائق المتعددة في سبيل
تحديد الثروة، والوقوف أما تضخمها وإستشرائها لما يعلمه من الفساد
الذي تجره الرأسمالية على المجتمع الإنساني . وليست الضرائب هي
السبيل الوحيد الذي حارب بها الإسلام تضخم الثروات، بل هناك أحكام
معينة ساعدت على ذلك فمنها: الكفارات التي يجب أن يعطيها مرتكبو
أفعالاً معينة من المعاصي الإسلامية، وهناك الديات التي يعطيها
مرتكبو أنواع أخرى من المحرمات في الإسلام، كما إن هناك في الإسلام
تحريم للربا الذي يؤدي إلى الإثراء غير المشروع على حساب الآخرين،
وهناك تحريم الإحتكار ، وتحريم الإكتساب بجملة من البضائع
والأعمال، مما يضر بالأخلاق والآداب العامة وصفاء النفس ويعارض
التعاليم الإسلامية.
كما إن هناك النداء الإسلامي العام لإعطاء الال إستحباباً في سبيل
الله (عز وعلا)، للفقراء، والمحتاجين، واليتامى، والمرضى، وفي سبيل
الصالح العام، وبناء المرافق العامة، ولاقيام بالشعائر الدينية،
إلى غير ذلك من المناسبات الكثيرة التي يجدها من يريد أن يتقرب
بماله إلى الله (عز وجل).
والله تعالى وعد هذا الفرد بالثواب الجزيل وبأن يهبه من رضاه، قربه
المعنوي منه (عز وعلا) .
من كل هذا نرى أن الأموال التي يأخذها الإسلام من الفرد عن طريق
الإيجاب او ا لإستحباب إنما يأخذها لصالح المجتمع برمته، وطبقاً
للمصلحة العامة الحقيقية، بدون ملاحظة طبقة أو جنس دون جنس أو
جماعة دون جماعة، فمن صالح الإغنياء أن يؤخذ منهم المال لئلا
يكونوا ظلمة متعسفين، وليشعروا ولو بصورة بسيطة بالآم الفقراء
وآمالهم، وليحصلوا على لاثواب الذي وعدهم الله تعالى به. ومن صالح
الفقراء و المحتاجين أن يوزع عليهم فائض أموال الأغنياء لكي
يستطيعوا أن يعيشوا برفاه وبكرامة من دون أن يكون لأحد منة عليهم
سوى الله (عز وجل)، ومن صالح المجتمع أن يسعد فقراؤه وأن تسد حوائج
محتاجيه ويعتق أرقاؤه ويربى يتاماه على أحسن إسلوب إسلامي مهذب
كما إنه من صالح المجتمع أيضاً أن تبتنى فيه المساجد، والمدارس،
والمكتبات، والمستشفيات وغيرها. ومن صالح الدولة أن تحصل على ما
تصرفه على موظفيها وعلى شؤونها وإداراته
وبالطبع فإن الإسلام أبعد نظراً من أن يعطي لقاء ما أخذ من الضرائب
عوضاً، لأنه بذلك ينقض غرضه الأساسي من فرض الضرائب وهو محاربة
تضخم الثروة، حيث إنه يعود المال إلى صاحبه عن طريق العوض، بل
تنتقض جميع تلك الفوائد التي عددناها لفرض الضرائب، حيث لا يبقى من
المال ما يوزع على الفقراء أو يصرف في شؤون الدولة بعد أن ينفق في
تسديد الأعواض
(23)
وختاما أرجو مخلصا، ان لا تكون قد سئمت من هذه الجولة التي تجشمت
عنائها، ولك الشكر أثناء تجوالك في ربوع إعلان حقوق الإنسان
والمواطن الفرنسي. لأني أعلم أنك صادفت في أثناء جولتك هذه ما يهز
القلن ويخاطب العقل، ويسيطر على الضمير، وينبع من الفطرة والوجدان،
من تعاليم إسلامية حكيمة، وأحكام إليهة عادلة، وإطلعت على بعض صفات
الفرد المسلم، وسمات الدولة الشرعية الإسلامية
ورأيت وجهة النظر الإسلامية في حقوق الإنسان والمواطن، وما يبديه
الإسلام في سبيل ذلك من توجيه وإرشاد يرقى بالإنسانية إلى السعادة
والكمال. ورأيت بشء من التفصيل البون الشاسع بين هذا الإعلان
الفرنسي ذي الصبغة البرجوازية الضيقة، وبين الدستور الإسلامي
الخالد العادل، وما فيه، من سعة أفق وعمق تفكير وحكمة بالغة. كما
إطلعت بوضوح على مدى السعادة التي تكتنف البشرية لو أتبعت أحكام
الإسلام وطبقت تعاليمه وإرشاداته، وسارت الإنسانية في حل مشاكلها
وتصريف شؤونها تحت ظل لوائه الوارف لكي ترقى في مدارج الكمال
والسعادة والرفاه والخلود
كما إطلعت على رأي الإسلام في جملة من الآراء التي يتبناها الفكر
الحديث، كالحرية والديمقراطية والتمثيل البرلمان والعقد الإجتماعي،
إلىغير هذه المفاهيم ، ووجهات النظر التي حاولت بإخلاص عرهضا عرضاً
موضوعياً، ثم نقدها على أساس إسلامي صحيح، لكي يتبين الفرق بين
الأفكار البشرية الضيقة وبين الدين الإلهي الخالد.
وغاية ما أوده هو أن أكون قد إستطعت في هذا البحث أن أطلعك على بعض
مزايا هذا الدين لاقيم الذي جاء به سيد المرسلين ورسول رب
العالمين، نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله)، والذي نشره
بكد يمينه وعرق جبينه، وضحى في سبيله بنفسه وبنفوس آله الكرام
(عليهم أفضل التحية والسلام)، وبنفوس كثير من أتباعه المخلصين
وهذا إنما يضحي في سبيل الله الذي خصه بالرسالة، وحباه بالكرامة في
سبيل هذا البشر ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الصراط
المستقيم
أرجو من الله العلي العظيم أن ينظرني بعين رضاه ورحمته، وأن يوفق
الإسلام والمسلمين بما يحب ويرضى، وأن يجعل هذا الجهد المتواضع
قربه خالصة لوجهة الكريم، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير
دعنا قبل الوداع نرتل معاً بخشوع، قوله عز من قائل : (( ربنا إننا
سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آموا بربكم فآمنا . ربنا فاغفر لنا
ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا وءاتنا مام
وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد))
محمد الصدر
النجف الأشرف العراق
1/8/1382
21/12/1962