مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان لسماحة السيد الشهيد محمد صادق الصدر

أما الآمر نفسه، حينئذ فإنه لا إشكال بتوجه العقاب عليه ولكنه غير عقاب الجريمة نفسها، وإنما يعاقد لانطباق عنان آخر عليه كإرادة الإفساد في الأرض الذي هو من المحرمات الإسلامية الكبرى،وعلامة
ذلك أنه يعاقب سواء فعل المأمور الفعل المقصود أو لا، غاية الأمر أنه بعد تنفيذ الجريمة يزداد عقابه بلا شك. أما بالنسبة إلى الموافق على الجريمة، فإن كان له عمل إيجابي في الموضوع كأن يوقع ضمن تواقيع واضعي خطة الجريمة مثلاً، فهو يعد أحد الآمرين بالجريمة، وتجري علهي نفس الأحكام السابقة. وإن كانت موافقته بمعنى سكوته بعد علمه بصدور الجريمة وغض نظره عنها، فإن ذلك لا يعني مشاركته في الجريمة إذ لعل سكوته ناشء عن مبررات صحيحة كالخوف – مثلاً_ ولكنه يجب عليه – وعلى كل مواطن – أن يمنع وقوع الجريمة بما أوتي من قوة وطول، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أولى الواجبات الإسلامية
ومما مضى يظهر الحكم الإسلامي بالنسبة إلى الذين ينفذون الأوامر التعسفية. فإن المنفذ اما أن لا يكون له إختيار ووجود مستقل في مقابل وجوده آمره كما مثلنا له بالطفل والمجنون، فليس عليه شيء ويكون العقاب كله منصباً على الآمر. وأما أن يكون مختاراً ومالكاً لشعوره وشخصيته في مقابل شعور الآمر وشخصيته، كما هو مقصود واضعي هذا الإعلان، فإنه – حتما – لا بد أن يترك عليه العقاب المناسب لجريمته، وخاصة وقد كان مأمورا من قبل دينه بالعصيان ولم يعص.
اما آمره فيبوء بإثم للامر فقط، كما مضى تفصيله
اما بالنسبة إلى وجوب إطاعة ا لإستدعاء أو الإيقاف، وإن الفرد يكون مذنباً إذا قاوم. فهو صادق بالنسبة إلى الحكومة الشرعية الإسلامية أيضاً، لأنها واجبة الإطاعة حسب القانون الإسلامي على كل فرد مسلم، وعليه فإن اي أمر تأمره الحكومة يجب ان يمتثل بما في ذلك الإستدعاء والتوقيف، ويكون العاصي للأمر مذنباً مستحقاً للعقاب. ولكن الحكومة الإسلامية لن تأمر إلا بما فيه صالح الفرد وصالح الأمة، بعد أن عرفنا مما سبق بشيء من التفصيل صفات الحاكم الشرعي الإسلامي : الإمام المعصوم (عليه السلام)، وعرفنا أن اوامره ليست إلا تنفيذا لقانون الإسلام الوارد في المورد الإلهي لسعادة البشرية وكماله.
(13)
المادة الثامنة : لا يجوز أن يفرض القانون من العقوبات إلى ما هو ضروري ضرورة جازمة وواضحة،ـ ولا يصح عقاب إنسان إلاّ بموجب القوانين الموضوعة والمذاعة قبل إرتكاب الجريمة، والمعمول بها شرع
تحتوي هذه المادة – كما هو واضح – على فقرتين، ينبغي أن نناقش كلا منهما على حدة.
اما الفقرة الأولى فكأن مقصود واضعيها هو أن الأشياء التي يعاقب عليها لا بد أن يوافق عليها الحق العام، ولا يجوز أن تكون جميع القضايا محرمة ويعاقب عليها (1) ، أي أن الأصل في الاشياء هو الإباحة، وليست المحرمات إلا إستثناءات من هذا الأصل، لا أن الأصل هو الحضر والمنع وتكون الإباحة إستثناء منه
اما بالنسبة إلى الإسلام فهو أيضاً يذهب إلى أصالة الإباحة بمعنى أن كل شيء مباح بحسب الأصل، وما المحرمات التي وردت في الشريعة إلا إستثناءات من هذا الأصل. ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله عز من قائل ((لكم ما في الأرض جميعاً))(2) ، ومن هنا كانت الأشياء التي ليست تحت حيازة أحد مباحة للمسلمين يملكها أول حائز لها مثل الطير في الهواء والسمك في الماء وغير ذلك، ومعنى ذلك أن ما في الأرض قد خلق لخدمة البشرية وسهولة معاشها، ولم يلحظ فيها فرد دون فرد، فالبشر جميعاً متساوون بالنسبة إليها تخدمهم بمجموعهم دون تمييز وتفضيل، وإنما يأخذ الفرد منها ما يحتاجه لتيسير أموره فيدخل ما أخذه في ملكه
_________________________
(1) محاضرات في التاريخ الحديث.
(2) البقرة آية (39).
هذا بالنسبة إلى الأموال وكذلك بالنسبة إلى أفعال الإنسان، فإن هناك قاعدة أصولية تذكر ويبرهن عليها في علم أصول الفقه هي (أصالة الإباحة)، بمعنى أن كل فعل من أفعال الإنسان مباح بالأصل، وليس محرماً كما إنه ليس بواجب، وإنما وردت المحرمات والواجبات كمستثنيات من هذه القاعدة، ومن ثم إذا شك شخص في وجوب أو حرمة فعل من أفعاله فإنه يدفع هذا الإحتمال بأصالة الإباحة تحت شروط معينة مذكورة في علم أصول الفقه
أما قولهم : (( لا يجوز أن يفرض القانون ........)) فهم إنما يريدون بهذا أن يحددوا الأسلوب الذي يجب أن يتبع عند سن القوانين وفقاً لرأيهم، وذلك لئلا يخرج واضعو القوانين عن الأصول التي يراها واضعو هذا الإعلان، ولئلا يضعوا قوانين تعسفية، ومن ثم نراهم يفرضون آراءهم علىالقوانين، لأن هذا الإعلان بصفته الثورية مقدم على القوانين، أي أنه يضع القواعد التي يجب أن يسير عليها واضعو القوانين أنفسهم
أما بالنسبة إلى الإسلام فقانونه قانون إلهي، ولا يحق لأحد أن يقترح عليه أو يغير منه شيئاً، وهو إنما يستمد جذوره من المصالح الحقيقية للبشر التي يراها الله (عز وعلا) بحكمته البالغة وعلمه اللانهائي
ومن هنا يتضح انه لا يجوز أن يفرض على قانون الإسلام أن تكون عقوباته صادرة بمقتضى الحس العام، فإن هذا الحس ليس هو الحكم في تشخيص الأفعال التي يجب أن يعاقب عليها أو يثاب. وإنما الحكم في ذلك هي المصالح الحقيقية للفرد والمجتمع. والذي يدرك هذه المصالح على حقيقتها هو الله (عز وعلا) ومن ألهمه ذلك بطريق خاص.
بالإضافة إلى أنه يرد عليه نفس ما سبق أن أوردناه على نظرية الإرادة العامة ل (روسو)، لأن العقاب في الحقيقة راجع أيضاً إلى مفهومي العدالة والظلم، وقد قلنا هناك إنهما مقومان عقليان، وإعتبار الحس العام أو الإرادة العامة حكماً فصلاً فيهما يؤدي إلى ضياعهما للإختلاف الذي يحدث في آراء الناس وإراداتهم وإحساسهم بين زمان وزمان.
أما بالنسبة إلى الفقرة الثانية من هذه المادة، وهي التي تنص على عدم جواز العقاب إلاّ بحسب القوانين الموضوعة والمذاعة قبل إرتكاب الجريمة والمعمول بها شرعاً. فإنها تعني أنه لا يجوز للقانون أن يكون ذا أثر رجعي Reiroactive ، أي أنه يشمل ما قبله. وهذا هو الأسلوب الفرنسي في سن القوانين(1) . وهذا عين ما يذهب إليه الإسلام، فإنه وإن لم يكن من المعقول صدور قوانين جديدة في الإسلام. إلا أنه يمكن أن يستدل عليه ب(أصالة البراءة) التي تعني براءة الذمة من الأمر المشكوك الوجوب أو الحرمة، وهي قاعدة تذكر في علم أصول الفقه، ويفرق
__________________________
(1) محاضرات في التأريخ الحديث
هناك بينها وبين أصالة الإباحة السالفة الذكر، ومن هنا فإن الحكم الشرعي إن لم يصل إلى المكلف، بعد بذل الوسع في الفحص عنه، أو إنه لم يكن هناك حكم شرعي في الواقع، فإنه ليس على المكلف أي تكليف. وهذا يشمل ما قبل صدور القوانين الجديدة – لو فرضت – فإن الفرد قبلها كان بريء الذمة من التكليف. كما إنه يمكن أن يستشهد لذلك، بإسلوب نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) في تبليغ الأحكام عندما كانت تترل متتابعة، فإن نزول الأمر لم يكن يعني تلافي ما فرط في السابق من أفعال تعد بحسب القانون الجديد ذنوبا، إلا بعض الأحكام الوضعية، أي الضمان ووجوب رد المسروق أو المصوب ونحوه، بالنسبة إلى الأموال، فإنه يجب الرد بمعنى أن الحكم الجديد يخبر السارق أن ذمته أشتغلت بما سرقه من حين سرقته، وإنه من الآن يجب عليه رده. وما هذا إلا لأن هذه الأمور إنسانية يدركها الضمير الإنساني قبل أن يحكم بها الشرع الإسلامي الحنيف. كما إن في القرآن ما يدل على ذلك بووضح، حيث إن الله (عز وجل) يذكر بعد تأكيده على الحكم أنه يجب أن يتبع من حين نزول الآية وليس على ما مضى عقاب، فمن ذلك أنه (عز وجل) قال بعد التشديد على حرمة الربا : (( .... فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله، ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون))(1) ومن ذلك قوله (عز وجل) بعد تبليغه حرمة الصيد في حال الإحرام : (( ....عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام))(2) . كما أن الكافر إذا أسلم فإنه لا يأمر بتلافي ما قد سلف منه من عصيان الأوامر الإسلامية، إلا الأحكام الوضعيةن رغم أن القانون موجود وساري المفعول على المسلمين : وذلك كما ورد عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم وآله : ((إن الإسلام يجب ما قبله))(3) أي بقطعه، فكأن الكافر يحيا حياة جديدة بعد إسلامه . ومن ذلك قوله (عز وعلا) : (( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف))(4) . وهذا هو الموافق للمنطق، لكي يطلع الناس على واجباتهم ويكونوا آمنين ومطمئنين ضمن حدود القانون، كما قا ل(جون لوك) اما اسلوب سن القوانين ذوات الآثار الرجعية فهو يدع ف يحيرة من أمره، يحتمل انه سوف يصدر في المستقبل قانون يشمل بالتحريم أحد الأفعال التي قام بها، وهذا تهديد للأفراد لا يمكن التخلص منه إلاّ بالإستغناء عن هذا الإسلوب في سن القوانين
__________________
(1) البقرة آية (275).
(2) المائدة آية (95)
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج18ص14
(4) الأنفال آية (38)
المادة التاسعة : يعد كل إنسان بريئاً ما لم تثبت إدانته. وإن إعتقد بضرورة توقيفه فالقانون يمنع تطبيق الإجراءات الشيديدة إلاّ ما كان منها ضروري لبضائه رهن أمر السلطة
وهذه المادة كسابقتها مكونة من فقرتين، كما هو بين، فينبغي ان نناقش كل فقرة منها بشكل مستقل:
اما الفقرة الأولى وهي التي تنص على إعتبار كل إنسان بريء قانونا ما لم تثبت إدانته، وهذا عين ما يذهب إليه الإسلام، ومن ثم فهو لا يعامل المتهم معاملة المجرم ما لم يثبت جرمه عن طريق القواعد الشرعية الثابتة، ويكون في أثناء محاكمته في حماية الدولة الإسلامية، ويعد كل من ينفذ عليه عقاب المجرم المتهم به معتدياً عليه مستحقاً للعقاب، ثم أنه إن ثبت جرمه بتلك القواعد الشرعية أدين به، وعوقب بما ينص الإسلام عليه من العقاب، وإلا أطلق سالماً لم يمسه أي أذى أو مكروه.
ويمكن أن نلمس الرحمة العظمى التي يسبغها الإسلام على الإنسانية بقوانينه هذه وغير هذه، إذا قارنا هذا الأسلوب من التشريع بما يجري في بعض البلدان من هذا العالم المترامي الأطراف، كالبلدان الشيوعية والمستعمرات الغربية من إلقاء القبض على شخص بمجرد الظن والتهمة، وإعتباره بدون تحقيق أو محاكمة من أخطر المجرمين المتمردين على كيان الدولة، ومعاملته كمجرم على هذا الأساس، اما الإسلام فإنه وإن إعتبر الظن بعد ظهور حال الشخص ظهوراً كافياً في إثارة التهمة حوله، حافزاً كافياً لإلقاء القبض عليه، إلا أنه، بالإضافة إلى كونه لا يعاقب كمجرم، لا يجوز أن يرى من أي أحد من حراسه أو مديري شؤونه أي إهانة لكرامته، و لاجرح لعواطفه، فضلاً عن الضرب، أو ما هو أشد منه ، وإلا كان الفاعل مجرماً مستحقاً للعقاب
ومن هذا يظهر أن الإسلام بقانونه الإلهي الرحيم يؤيد الفقرة الثانية من هذا الإعلان أيضاً. اما الإجراءات التي تضممن بقاءه رهن أمر السلطة، فالإسلام يعترف بها، إلا أنها غير ملازمة على الإطلاق لإهانته أو ضربه، بل لا تعني أكثر من تشديد الحراسة عليه في أغلب الأحيان
(15)
المادة العاشرة : لا يجوز إزعاج أحد بسب آرائه، حتى الدينية منها، بشرط ان لا تكون المجاهرة بها مخلة بالأمن العام الذي قرره القانون
وإنما أكد واضعو هذا الإعلان على حرية الرأي الديني، لأن ذلك ناتج من مسبقاتهم الذهنية الناشئة عن تأريهم القريب. فقد كانوا قد ذاقوا من الكنيسة أنواعاً من الجور والتعسف، وأنواعاً من الخرافات والمفاهيم الباطلة، هذه الخرافات وذلك الجور الذي تستعملها الكنيسة باسم الدين كعلى أساس أنه أمر إلهي مترل. وذلك لأن الكنيسة – في عهود أوربا المظلمة – كانتم منظممة إقطاعية تملك مساحات من الأراضي واسعة النطاق وتستخدم فيها أولئك الفلاحين الأقنان الذين يباعون مع الأرض ويشترون معها، تماماً كأي سيد إقطاعي. كما إن رجال الكنيسة كانوا يكونون إحدى الطبقتين المتمتعتين بالإمتيازات دون الطبقة الثالثة، وهم عامة الشعب. كما إن الكنيسة كانت تناصر الإقطاع بما لها من قوة دينية ودنيوية، يقول (جورج جرداق) : أما رجال الدين، ويقصد رجال الكنيسة والدين منهم براء، فقد كانت لهم يد في تبرير نظام التبعية هذا وكانوا يلعنون كل تابع لا يخضع الخضوع المطلق لسيده، ولو كان شريداً دنيئاً، ويصبون اللعنات الكثيرة بلهجة مقدسة، على رؤوس ((المارقين)) الذين كانوا يدفعون التابعين إلى ترك الطاعة المطلقة للأسياد، او إلى التمرد على هذا الظلم القائم(1) . كما إنها كانت تبث بين أتباعها كمية ضخمة من الخرافات والتدجيل، هذه الخرافات التي غضب منها حتى المسيحيون أنفسهم ك (مارتن لوثر) الذي انشق عن الكاثوليكية، واخترع لنفسه مذهباً جديداً سماه البروتستانتية.
_____________________
(1) علي والثورة الفرنسية ص 290
من هذا وغيره نستطيع أن نتميز بوضوح، لماذا صبت الثورة بمجرد انبثاقها جام غضبها على الكنيسة، ولماذا حاربتها محاربتها للإقطاع والجهل، لأنها – في الواقع - تمثل الإقطاع وتمثل الجهل كما إنها حاربت فيها كلا من الجانب الديني والدنيوي، لأن الكنيسة إستغلت الجانب الديني في سبيل الجانب الدنيوي أبشع إستغلال. فكان أول شيء عملته الثورة الفرنسية أن صادرت أموال الكنيسة وجعلتها مؤسسة خاضعة للدولة. وجعلت الجمعية الوطنية أملاك الكنيسة رصيداً للعملة الجديدة التي أصدرتها. ثم أصدرت دستوراً مدنياً لرجال الدين، فجعلتهم موظفين عند الدولة وأزالت عنهم صفة رجال الدين كطبقة وأصحاب نفوذ. ثم طلبوا إلى رجال الدين أن يقسموا على القانون(1) . يضاف إلى ما مضى، بخصوص – أعال الكنيسة – أن العقائد الأساسية التي تقوم عليها باطلة لا تقوم على برهان صحيح، كإيمان المسيحيين بالثالوث المقدس الذي أثبت الإسلام عن طريق العقل الذي لا شك في استحالته، وهو موجود في مواضعه من الكتب الإسلامية، وهذا نفسه ما التفت إليه جماعة من أنصار الثورة الفرنسية فعرفوا سخفه وبطلانه وتمردوا عليه، ومن ثم فقد قال جماعة نحن نعبد الكائن الأعظم، وقال جماعة أخرى : نحن نعبد العقل واحتفلوا له بصورة رسمية
_________________
(1) محاضرات في التاريخ الحديث
في كنسية(1) . ومثل هذه الكنيسة ذات هذه الأعمال وهذه العقائد هي أهل لأن تحارب، وأهل لأن تقف الثورة منها كما تشاء. ولكن الغلط الفاحش الذي يقوم به دعاة الإلحاد المتأثرون بالفكر الحديث على أبشع صوره، وبالشكل الذي هم يفهمونه، وبالشكل الذي يمثل مصالحهم الخاصة، دون أن يعرفوا ما قصد إليه الفكر الحديث بالضبط. إن الغلط الفاحش الذي يرتكبه هؤلاء هو إطلاق القول في الإعتراض على جميع الأديان، والدعوة إلى التخلي عنها جميعاً، كأن شرذمة معينة تنسب نفسها إلى دين من الأديان إذا تعسفت وأجرمت بحق شعبها ودينها، فكأن دينها مسؤول عما تفعل أو أن الأديان كلها مسؤولة عن ذلك، وكأن ديناً من الأديان – ولو فرضاً – إذا كان باطلاً وقد ذاق منه معتنقوه الوبال، فشددوا الخناق على رجاله، وتملصوا من عقائده، كأن كل الأديان يجب أن يشدد عليها الخناق، وأن يتملص الناس من عقائدها. وكأنهم لا يعلمون بأو اوربا إنما تمردت على المسيحية، وإنما شددت الخناق على رجال الكنيسة، تلك المسيحية المحرفة عن واقعها الذي نزل على عيسى بن مريم، على نبينا وعليه السلام، وأولئك الرجال الذين أكثروا في البلاد الفساد. وأنما عنت اوربا بالدين، ذلك الدين الذي تمردت عليه لأنه لم يكن بين ظهرانيها دين آخر حتى تستند
_____________
(1) محاضرات في التاريخ الحديث
عليه بعد خروجها عن المسيحية أو تستثنيه عن هجماتها، او حتى لتشركه في هجماتها وتمرداته
يا له من تقليد أعمى، حين ينظر دعاة الإلحاد إلى أوربا فيجدونها تتمرد على المسيحية، فيمتردون في بلادهم على الإسلام. ويرونها تخرج على تعاليم دينها، فيخرجون عن تعاليم دينهم. ويرونها تحتقر رجالها، فيحتقرون رجاله. كل ذلك عن طريق هذا التعميم الباطل الذي استعمل في إطلاق كلمية دين على المسيحية والإسلام، وهو وإن كان كذلك إلا انه لا يعني على الإطلاق من بطلان أحدهما بطلان الآخر، فلكل أسسه الفكرية وتعاليمه الخاصة، بل إن للإسلام أسسا فكرية راسخة رسوخ الخلود، وتعاليم عادلة واسعة سعة الفضاء وليس للمسيحية من التعاليم والأسس الفكرية ما يلصح لقيادة الإنسانية وللخلود
الم يعلم دعاة الإلحاد بأن اوربا قد ذاقت من المسيحية تجربة قاسية بشعة، ومن ثم فقد تمردت عليها، ولم يكن لها إلا أن تفعل ذلك، لأنه ليس إلا الأذلان العير والوتد من يقيم على لاضيم المراد به. أما دعاة الإلحاد من أبناء شرقنا المسلم فلم يمروا بتجربة فعالة لدينهم القويم لتريهم العدالة الإنسانية، والرفاه الإجتماعي، والصفات الخلقية والروحية السامية التي تسود المجتمع تحت لواء الإسلام. بل إن هؤلاء لم يعرفوا من أسس الإسلام وبراهنه وقواعده الرئيسية شيئاً، وذلك ناشئ من ضعف الدعوة الدينية التي يمارسها المسلمون المتمسكون بدينهم القويم، ولم ينظروا إلى الإسلام إلا من ناحية القشور السطحية التي يتمسك بها السواد الأعظم من المسلمين، والتي هي تحتاج إلى كثير من التصحيح والتعديل، وأنما انحرفت هذه العقائد العامية أيضاً وجمدت على هذا المستوى الضئيل، كأثر آخر لضعف الدعوة الدينية أيض
ألم يعلم دعاة الإلحاد أن الدين يكمن في النفوس إيماناً ويقيناً وإطمئنان ضمير، وفي اليقين والإطمئنان لذة لا يجدهما الفاقد لهما، ويحميهم من كثير من العقد النفسية والأمراض العقلية، ويخلق بين الشعب تراحماً وتعاطفاً ومحبة، ويصعد بمستواهم الثقافي والعقلي والخلقي إلى مرتبة سامية، ويحميهم من الإنحدار في مستوى الرذيلة والفساد، وهذا كله مما لا يمكن وجودها بأي شكل من الأشكال مع وجود الإنحلال العقائدي، والفتسخ الخلقي وتشتت الآراء والأهواء. الذي ينبغي أن يقال، بالنسبة إلى واضعي هذا القانون، إن إعترافهم بعدم جواز إزعاج أحد بسبب آرائه حتى الدينية منها، ليس فيه فسح للحرية الدينية. ولأننا إذا أمعنا النظر نجده يعني عكس ذلك تماماً من حيث إنه يعني أيضاً عدم جواز إزعاج الثورة في آرائها ضد الكنيسة أيضا، ونحن نعلم ما قد عملته الثورة من تنكيل بالكنيسية، كما أشرنا إليه فيما سبق، وليست الثورة إلاّ عبارة عن الجمعية الوطنية التي أصدرت هذا الإعلان بالذات. فمن المحال بلانسبة إلى وجهات نظرهم الخاصة أن يعطوا الحرية الدينية ويشجبوا أعمال الثورة ضد الكنيسة. إذن فلا تبقى هذه العبارة من الإعلان بالنسبة إلى الدين، أي المسيحية التي بين ظهرانيهم، إلا حبراً على ورق، وكلمة تقال للدعاية والتظليل
وبالطبع لا معنى للتحدث عن رأي الإسلام في الحرية الدينية الإسلامية، بل ينبغي التحدث عن حرية الإعتقاد بغير الدين الإسلامي، في الدولة الإسلامية المفترضة
إن هذا الشخص الذي يعتنق غير دين الإسلام، اما أن يكون كذلك من أصله أو مرتداً عن دين الله العزيز. فإن كان أصلياً فهو مدعو إلى إعتناق الدين الإسلامي ككل شخص غير مسلم فإن كل شخص رشيد مكلف عقلاً بالنظر في الأديان والتفحص عن الحق في خضم هذا الصراع العقائدي الرهيب في العلام، فإن الوصول إلى الحق لا شكك أنه أ:مل بكثير من الشك أو الركون إلى مبدأ باطل، وما دامت النفس التواقة بذاتها إلى الكمال، فعليها أن تفحص عن الرأي الصحيح لتعتنقه، ولا شك أنها سوف تصل بعد فحصها، إن أخلصت للحق من ناحية، وكانت سبل البحث متوفرة لديها من ناحية ثانية، وتجردت عن العوامل الإجتماعية المعيقة عن موضوعية البحث من ناحية ثالثة. فإنها حتما سوف تصل إلى الإسلام دين الله الخالد
ومن ناحية أخرى فإن الإسلام قرن أوامره بالإثابة على إطاعتها ونواهيه بالعقاب على عصيانها، ومعنى ذلك تولد الإحتمال ولو ضعيفاً في نفس الفرد المفكر الرشيد بالضرر، وهو الوقوع بالعذاب الذي توعد به الإسلام.
أي انه تولد مثل هذه القضية الشرطية في فكره : لو كان الإسلام صادقاً فإني حتما سأعاقب، والعقاب الذي توعد به الإسلام ضرر بالغ، إذن يجب أن يدفع هذا الإحتمال عن نفسي. ومعنى ذلك وجوب البحث عن أدلته وبراهينه لإثبات صحته، فإن كان صحيحاً إعتنقه وأزال عن نفسه الضرر، وإن لم يوفق إلى الإعتقاد بذلك، فقد دفع إحتمال الضرر، وما ذلك إلا لأن قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، قاعدة فطرية في نفس الإنسان يتبعها في كل حركاته وأقواله، فلن تطرق طريقاً تحتمل أن فيه لصا يسرقك أو وحشاً يعتدي على حياتك. ولذا تراك إذا إضطررت إلى الذهاب في مثل هذه الأماكن الخطرة كالغابات والأدغال، فإنك لا بد أن تترس بالسلاح لكي تحمي نفسك، لكي تذهب إحتمال الضرر عن نفسك
ومع صرف النظر عن الأدلة العقلية فإن قوانين الإسلام العادلة وأنظمته الرشيدة وتوجيهاته الإلهية القويمة، تلك الأنظمة والإرشادات التي قد تجد منها شيئاً في هذا البحث، فإن هذه القوانين لتحث الفرد على إعتناق الإسلام للفوز بالسعادة العظمى في الدنيا والآخرة، والإرتقاء في مراقي الكمال الروحي، والفوز برضا الله (عز وجل)، خالقه العظيم
أما بالنسبة إلى وجود غير المسلم بالأصل في الأراضي الإسلامية المحكومة للدولة الشرعية الإسلامية، فاما ان يكون هذا الفرد قد جاء من بلاد قبلنا بشروط الذمة التي اشترطتها عليهم الحكومة الإسلامية فاكانوا تحت سيطرتها وفي حمايتها، تلك الشروط المذكورة في محالها من كتب الفقه الإسلامي. فهذا الفرد يكون آمناً على نفسه وماله، محترماً بين المسلمين بالقدر الذي تسمح به قابليته الشخصية أن يحترم. واما أن يكون هذا الفرد قد هرب من بلاده لكي يأتي إلى بلاد الإسلام مستجيراً لاجئاً لمن يعلم في الإسلام من عدالة وإنصاف. فعلى الحكومة الإسلامية حماية هذا الفرد حتى تبلغه مأمنه، وذلك كما قال الله (عز وجل) لنبيه (صلى الله عليه وآله) : (( وإن أحد من المشركين استجارك فأجره، حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه، ذلك بأنهم قوم لا يعلمون))(1).
وغني عن التنويه لما في هذه الآية من الحكمة البالغة. فإن الكفر والإشراك بالله تعالى وسائر المبادئ الفكرية غير الإسلام، إنما تنشأ عن
_____________________________
(1) التوبة آية (6)
جهل الفرد أو الجماعة بالحق وبالبرهان الصحيح وقصورهم عن بلوغهم إلى مصالحهم الحقيقية. فإذا استجار بالنبي (صلى الله عليه وآله) فرد منهم، فينبغي له أن يجبره، فإن الذمة مصونة في الإسلام، ولا يجوز نقض العهود ما لم ينقض الطرف الآخر، كما يقول الله (عز وعلا) : (( إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين))(1). ومن ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله) يستبقيه قبل أن يبلغه مأمنه ليسمع كلام الله تعالى، ولتهز أوقار قلبه تلك المعاني الروحانية المقدسة، ولتفتح أبواب عقله تلك الحكمة الإلهية البالغة، وليرى بأم عينيه ما عليه الإسلام من سعادة ورفاه، وخلق رفيع، ومجتمع نبيل، ونفوس متحابة متعاطفة، وما فيه من قوانين عادلة، ونظم حكيمة، وليتشبع هو بكل هذه الأمور، وليرجع إلى مأمنه فيتكلم عما رأى وسمع وليدعو غلى الإسلام في مجتمعه الكافر. اما إذا كان هذا الفرد، قد جاء من بلد معاد للإسلام، فإنه – حتماً – سوف يعرض نفسه للقتل، إ، لم يخرج هرباً من البلاد، ولم يكن للدولة الإسلامية إلا أن تقتله لئلا يكون فيها جاسوساً لبلاده، ويبث في مجتمعها العقائد الفاسدة أو يبذر بين الأفراد روح الضغينة والفساد أما بالنسبة إلى الشخص الذي خاه حظه وتسافلت به نفسه، فارتد عن دين الإسلام
____________________
(1) التوية آية (7)
الحنيف، ولا يمكن أن ينشأ إلا عن الجهل بأسس الإسلام الحقيقية.
فإن هذا الشخص اما أن يكون مرتداً ملياً أو مرتداً فطريا، حسب ما يصطلح عليه الفقهاء المسلمون والمرتد الملي هو الذي لم يكن مسلماً بالأصل ثم اسلم ثم ارتد على عقبه فكفر، واما الفطري فهو المرتد عن الإسلام الأصلي. اما المرتد الملي فيستتاب وينتظر به المدة التي يحتمل فيها رجوعه عن غيه إلى الصواب فإن رجع وإلا قتل. واما المرتد الفطري فإن كان رجلا، فإنه يكون كما قال الإمام الباقر (عليه السلام)، كما في صحيحه محم دبن مسلم : ((من رغب عن الإسلام وكفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وآله بعد إسلامه، فلا توبة له وقد وجب قتله، وبانت منه إمراته ويقسم ما ترك على ولده .واما المرأة فلا تقتل وإن كانت ردتهاعن فطرة بل تحبس دائما وتضرب في أوقات لاصلاة بحسب ما يراه الحاكم كافياً لارتداعها ،وتستعمل في الحبس بأسوء الأعمالن وتلبس أخش الثياب وتطعم أجشب الطعام إلى أن تتوب أو تموت))(1)
مما مضى يمكن أن نعرف رأي الإسلام بالفقرة الثانية من هذه المادة، وهو الذي ينص على ألا تكون المجاهرة بالآراء – التي اعتبرها الإعلان حرة – مخلة بالأمن العام الذي قرره القانون. فإن الأمن العام الذي
_______________________
(1) اللمعة الدمشقية ، كتاب الحدود ص368 ج2
قرره القانون الإسلامي هو المحافظة على التعاليم الإسلامية، والدولة الإسلامية والأخلاق الإجتاعية الإسلامية، وملخص القول المحافظة على كل قانون من قوانين الإسلا م ونصائحه وإرشاداته. وقد قام الإسلام في سبيل ذلك يمنع بقاء أي شخص غير مسلم في بلاده إلاّ إذا كان الإسلام ذمة وعهداً معه، وإنما ينتظر مع هؤلاء ماداموا محتفظين هم بالعهد، فإن فكروا في يوم من الأيام بنقض العهد والتمرد على الإسلام وبذر الشقاق والعقائد الفاسدة بين المسلمين، فإنهم يعودون محاربين للإسلام. والمحارب لا بد أن يقتل بإجماع المذاهب القانونية والإنسانية، دفاعاً عن النفس ودفاعاً عن الدين الإلهي الحنيف
(16)
المادة الحادية عشر : حرية نشر الأفكار. والأفكار أثمن حقوق الإنسان، فلكل مواطن أن يتكلم ويكتب بحرية، على أن يكون مسؤولاً عن إساءة إستعال هذه الحرية، في الأحوال التي يقررها القانون
حق الحرية هو من أهم الحقوق التي أثبتها الفكر الحديث للإنسان الحديث، ومن هنا عبر عنه واضعو هذا الإعلان بأنه أثمن حقوق الإنسان، واكدوا علهي مراراً في إعلانهم. وانما أكد الفكر الحديث على هذا الحق وإنما أكد هذا الإعلان عليه، بسبب ما مر عليه في عصوره المظلمة من جور وتعسف، وكم للأفواه، وتقييد للحريات، لئلا ينبس أحدهم ببنت شفه ضد النظم الإقطاعية والملكية الفاسدة، فيكونوا خطراً ضد هذه الأنظمة الظالمة. وكان يذوق كل مفكر يحاول أن يقول أو يعترض أنواع التنكيل والعذاب حتى الموت بصورة تقشعر من تصورهم الأبدان
ومن جراء هذا الضغط حصل الإنفجار مروعاً شديداً، بحيث إعتقد ان حق الحرية أثمن من حق الحياة، وأثمن من النظام، وأثمن من الأخلاق لو تعارض معها، ومن ثم فقد ذهبوا بالحرية كل مذهب، ونكلوا بأولئك تنكيل، حيث كان مجموع ما قتل في تكل الفترة نحو عشرين ألف شخص(1). وكان ذلك في سنة 1792 إلى سنة 1794. وكذلك ما زلنا نرى أثر هذه الحرية التي حصل عليها الأوروبيون، من تحلل خلقي وإجتماعي وتفشي العقائد الإلحادية والدعوات المتضاربة المتناقضة في المجتمعات الأوربية وغير الأوربية، بل إن كل مفكر يبرز إلى الوجود يكون له رأي جديد ووجهة نظر جديدة، وتفسير جديد للكون والحياة مما يجعل الناس ف يحيرة من امرهم بعد ان تتبعثر عقائدهم
__________________
(1) محاضرات في التأريخ الحديث
ويضيع معهم يقينهم واطمئنانهم. وكان من جملة تلك الدعوات الإلحادية، الدعوة الماركسية التي وجدت من الإنفجار الثوري الذي حصل في موسكو على أثر الضغط القيصري التعسفي على الشعب الروسي، مستنقعاً خصباً للتوالد والإنتشار. ومما ينبغي الإشارة إليه أن البرجوازية التي أصدرت هذاالإعلان لم تكن تقصد بالحرية إلاّ مصالحخها الشخصية وما تضمن به الدعوة إلى افكارها ومذاهبها في الحياة. فإذا وصلت هذه النظرية إلى الحد الذي تطبق فيه على من سواهم من الشعب الفرنسي، وقفوا منها موقفاً صلباً متعنتاً، فلم يكونوا بأي حال يقبلون الإعتراض على أساليبهم وأفكارهم الضارة بمصالح العمال والفلاحين من قبل هذه الجماعات أنفسها. ومن هنا نرى أن الحرية قد أصحبت بالنسبة إليهم أمراً يستغله البرجوازيون لمصالحهم الخاصة، ويحلم به الفلاحون والعمال كل لمصلحته الخاصة أيض
وإثبات حق الحرية في كل دولة العالم أجمع، إنما هو بما لا ينافي مبادئها الأساسية وقوانينها الرئيسية ، ثم هي تعطي الحرية لما سوى ذلك. ومن ثم فإننا نرى أن الدول المؤسسة على أساس مذهب معين ووجهة نظر خاصة، كالدول الشيوعية، تفتقد فيها الحرية بالنسبة إلى مناقشة وجهة النظر التي تتبناها الدولة. ومن هنا نرى أن الدولة كلما قلت فيها المبادئ الأساسية ازدادت نسبة الحرية فيها، وصارت قوانينها عرضة للمناقشة والتغيير أكثر من غيرها. ولكن معنى ذلك في عين الوقت إلا تكون الدولة مهتمة بتطبيق القانون الحق، وإنما تطبق في بلادها كل قانون حصلت عليه إرادة أكثرية الشعب
والواقع أن أطلاق العنان للحرية المطلقة في نشر الأفكار لا يعني إلا بلبلة الأذهان، وضياع الحق من الوسط الفكري، واختلاطه بأكوام نتنة من الباطل. وجعل الرجل العادي متحيراً لا يدري إلى أين يتجه لكثره الأصوات والدعوات التي يراها تنطلق حوله، لذا نراه يتوجه نحو الصوت الأقوى والدعاية الأوسع، ولا تعني الحرية أيضاً إلا هذا الصراع الدائم الرهيب بين المذاهب والأفكار المتضاربة، ذلك الصراع الذي لا يقف على مدى الزمان، ولن يمكن الحد من غلوائه ما دامت الحرية نافذة المفعول في البلاد. هذا الصراع الذي يترتب عليه كثير من المفاسد والأضرار الإجتماعية والنفسية والدينية والأخلاقية، والذي ربما سبب نشر مذهب باطل، واقتضى ظهور شرذمة فاسدة في حين يختفي الأناس الصالحون والمذهب الحق تحت الرماد
ومن ثم فإننا نرى الحكومات الحديثة لم تستطع أن تحفظ الأمن والنظام وسيادة القانون في بلادها، ولم يمكنها الإحتفاظ بسيطرتها وهيبتها، إلا بعد أن جعلت على الحرية قيودا كثيرة مستمدة – في كل دولة- من قوانينها الرئيسية ومبادئها الأساسية. وحتى هذا الإعلان نفسه قد اشترط على الحرية أن يكون صاحب الرأي مسؤولاً عن إساءة إستعمال الحرية في الأحوال التي يقررها القانون، ولم يكن يستطيع واضعو هذا الإعلان، ولم تكن تستطيع الحكومات إلا أن تفعل ذلك بعد أن علمت ما في الحرية المطلقة من فساد وإنحلال.
بعد كل ما مضى نعرف أن الدولة الإسلامية لم تقيد الحرية إلا بحسب وجهة نظرها الخاصة، وفي ضمن نطاق عقليتها العامة، وقوانينها الإلهية، التي تستهدف نشر العدل والسعادة بين ربوع المجتمع. والاسلام قد أدرك بثاقب نظره وبالغ حكمته تعذر الحياة مع الحرية المطلقة، وتعذر الوصول إلى الحق مع حرية نشر الآراء، في حين أن الحياة والوصول إلى الحق أثمن ما لدى الإنسان من أهداف، إذن فلا بد من تقييد الحرية بشكل من الأشكال. وليس منالمنطقي حينئذ أن تقيد الحرية بقوانين ظالمة لأنه يكون قد نشر من الجور أكثر مما قصده من العدل. فلا بد إذن من تنظيم القيود على الحرية بشكل عادل يضمن سعادة المجتمع ورفاهه..
وهكذا كان، وهكذا صدرت القوانين عن الله (عز وجل) العالم بحقائق المصالح الإنسانية والمطلع على سرائر البشر وغرائزهم. لتنشر العدل والسلام بين بني الإنسان
وما دمنا قد عرفنا أن العدل لا بد أن يسود في البلاد، وأن العدل لا يمكن إلا أن يكون واحدا، لأن الإنسانية واحدة ولأن غرائزها وميولها وأمالها وآلامها واحدة، وإن هذا المذهب العادل الواحد لا يمكن أن تدركه إلا الحكمة الإلهية الانهائية، وإن الله (عز وجل) قد تفضل علينا فعرفنا بنفسه وبتعاليمه، وما دمنا قد علمنا أن الحرية تنافي العدل، وتنافي سيادة هذا المبدأ الواحد العادل في ربوع الإنسانية، لما تسببه من إضطراب وبلبة وتستت في الآراء والأهواء. إذن فلا بد من سيادة العدل بدل سيادة الحرية، وإنما تبقى الحرية سارية المفعول في ضمن هذا المذهب العادل.
وهكذا فعلل الإسلام، وهكذا فعلت الدول ضمن نطاق قوانينها التي تراها عادلة وفي صالح شعبها، وهكذا عملت الدول المذهبية كالدول الشيوعية في ضمن نطاق مذهبها المعين.
والإسلام بعد هذا، أي بعد سيادة العدل الذي هو عبارة عنسيادة الأخلاق الفاضلة، والمبادئ النبيلة، والتعاطف، والتراحم، والإحترام المتبادلبين الناس، والمسامحات \، والإيثار، والضمان الإجتماعي، إلى غير هذه المبادئ التي نادى بها الإسلام، بعد هذا كله يجيز الإسلام نشر الآراء والتكلم بحرية تامةضمن نطاق المناقشة البناءة المخلصة التي تهدف إلىمصلحة المجتمع والدين الإسلامي. ومنثم فقد ورد عن أبي الأئمة الهداة امير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال : ((سل تفقها ولا تسأل تعنتا))(1) أي سل لكي تفهم وجه الحق لا لأجل ان تهدم رأي غيرك
____________
(1)
وتحتقره وتظهر أنه باطل على كل حال. بالإضافة إلى ما قد أسلفناه في مناقشة المادة الثالثة من هذا الإعلان من ترحيب الإسلام بالمناقشة المخلصة البناءة التي ترمى إلى شد أزر الرأي الشخصي، ونصح الفرد وإنتشاله من وهدة المشاكل، ولذلك قال سيدنا وملانا أمير المؤمنين ( عليه السلام) : ((من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها))(1)
(17)
المادة الثانية عشر : يستوجب ضمان حقوق الإنسان والمواطن قوة عامة، فهذه القوة تنشأ لمصلحة المجموع لا لمصلحة من توكل إليهم إدارتها.
يقول واضعو هذه المادة : إنه لا بد من ضمان حقوق الإنسان والمواطن، وهي الحقوقن التي سبق أن عددوها في المادة الثانية من هذا الإعلان، وهي الحرية، والتملك، والطمانينة، ومقاومة الظلم على الشكل الذي يفهمونه منها، والذي يمثل مصالحهم البرجوازية الخاصة، ولا بد من ضمان هذه المصالح الرجوازية من قوة تمارس الضغط على ا لعمال إذا هم خرجوا عن واجباتهم. والمقصود من هذه القوة هي السجون
_________________
(1)
والمحاكم والقوات المسلحة. وهذه القوة تنشأ لمصلحة المجموع أي لمصلحة الطبقة البرجوازية لا لمصلحة من توكل إليهم إدارتها كالقائد العام للجيش، والقاي ، ومدير السجن، فإن على هؤلاء أن يخضعوا لأوامر البرجوازيين وإلا ذاقوا وبال أمرهم. وهذا مما لا يمكن أن ينطبق على وجهة النظر الإسلامية تماماً، لأننا قد عرفنا أنه لم تشرع العقوبة بالسجن في الإسلام إلا نادراً. كما إنه هذه الأمور الأربعة التي يحرص على ضمانها البرجوازيون ليست هي المثل العليا في افسلام. فإنه قد سبق أن قررنا في المادة الثانية رأي الإسلام في هذه الحقوق. وإنما الذي ينبغي صيانته في نظر الإسلام، وتجنيد هذه القوى للدفاع عنه، هو العدل والنظام، وسيادة الأخلاق، والعقائد الإسلامية في ربوع المجتمع وبالتلخيص هي تعاليمه التي تضمن سعادة المجتمع ورفاه الإنسانية
وهذه القوة العامة في الدولة الإسلامية إنما تنشأ لخدمة الإسلام ومصلحة المجتمع، وسيادة القانون والنظام فيه. لا لمصلحة من توكل إليهم إدارتها، فإن هؤلاء المشرفين عليها إنما هم – كسائر موظفي الدولة الإسلامية – مسؤولون عن أعمالهم ومراقبون عليها من قبل الله (عز وجل) والإمام، رئيس الدولة الإسلامية، ومن قبل الأمة الإسلامية وضمير الفرد الإسلامي، كما سوف نفصله في المادة الرابعة عشر من هذا الإعلان إنشاء الله تعالى. وهم مسؤولون عن كل زلة أو سوء إستعمال سلطة، أو ظلم يمكن أن يصدر منهم.
ومما ينبغي ملاحظته أن الشعب المتشبع بروح الإسلام هو القوة العامة الأساسية في الدول الإسلامية، فليست هذه القوة التي يعنيها واضعو هذا الإعلان بالنسبة إلىالمجتمع الإسلامي، إلا قوة إحتياطية تراقب ما يمكن أن يقع من الزلل والخطأ ، وإلا فان الفرد الذي ربي تربية إسلامية حتى امتزج دين الله القويم وتعاليمه الحكيمةبلحمه ودمه، وصارت جزءاً سامياً من نفسه، وصار أمتثال التعاليم الإسلامية عادة طيبة له، ولمس في نفسه اللذة الكبرى التي يجدها الفرد في الخشوع لله (عز وجل)، وفي التعاطف والتراحم والمحبة بين الناس. مثل هذا الفرد، هو عباة عن طميع المواطنين في المجتمع افسلامي، يستحتيل عادة صدور الذنوب والهفوات والمفاسد منه، إلا ما شذ وندر من الحالات
(18)
المادة الثالثة عشر : لتأمين نفقات القوة العامة، ونفقات الإدارة، يجب جباية الضرائب العامة، ويجب توزيع هذه الضرائب على كل المواطنين بالسواء كل على حسب طاقته.
يقول وضعو هذه المادة : إنه يجب لأجل الصرف على القوة العامة : السجون، والمحاكم، والقوات المسلحة. ولأجل تأمين نفقات الإدارة في الدولة : تجب جباية الضرائب العامة، ويحب ان تكون هذه الضرائب عامة وموزعة على كل المواطنين بالسوية، كل على حسب مقدار طاقته المالية، ودخله، فيوضع على كل دخل من الدخول نسبة معينة متساوية من الضريبة
هكذا أراد واضعو هذا الإعلان أن يضمنوا العدالة في سن الضرائب، وحاولوا أ، لا يقع الإحجاف على أحد أو جماعة دون غيرهم ، ذلكالإجحاف الذي ذاقوا منه في عهودهم السابقة الأمر الشديد، وقد ارادوا من هذه العدالة بوجه خصا، ألا تؤثر الضرائب على مصالحهم التجارية والصناعية، لأنهم يعلمون أنه لا بد أن يكونوا مشمولين لقانون الضرائب، ولا يصح لهم أن يكونا كالطبقات السابقة صااحبة الإمتيازات التي ثاروا عليها وسحقوها، ومن ثم فلا بد أن يحتاطوا لأجل حفظ مصالحهم من أن تؤثر عليها الضرائب
ولكن هذا التحديد الذي وضعوه على الضرائب بحقيقته، هو اقصر باعا، وأبسط تأثيرا ً من أن يؤثر على رؤوس الأموال الضخمة التي يحتكرها هولاء البرجوازيون، تلك الأموال التي يريد الإسلام بسنه لضرائبه أن يحد من غلوائها . وكيف يكون مؤثراً بعد أن كان هذا التحديد موضوعا بعناية تامة لكي لا يكون مؤثراً في مثل هذه المجالات. ومن ثم نعرف أن الإسلام كان في وضع ضرائبه أبعد نظرا، وأوسع أفقا، وأصلح للبشرية ، من هذه القواعد الضيقة التي يضعها هؤلاء البرجوازيون.
ففي كل من وضع الضرائب نفسها، ومن توزيعها مصالح ومصالح يهدف بها اسلام إلى رقي المجتمع ورفاهه
فإن في وضع الضرائب تحديدا لرأس المال، وإشعاراً للفرد بالمسؤولية بالنسبة إلى أمواله أمام الله (عز وجل) كما هو مسؤول عن شؤونه الأخرى أمامه. وترويضاً للنفس على طاعة الله (عز وجل) حينما يشعر الفرد أنه يعطي هذه الأموال قربة لوجه الله الكريم، وطاعة لأمره العزيز عن طيب خاطر وراة ضميرن وحثا للفرد على معونة مجتمعه وإكرام الفقراء والمساهمة في أمال الدولة ، تلك الدولة التي لم تنبثق إلا لخدمة المجتمع والإسلام. وثواباً ضمنه الله تعالى للفرد الذي يعطي هذا القسط من أمواله، ذلك الثواب المتمثل في رضاء الله ( عز وجل) والقرب المعنوي منه (عز وعلا) من ناحية، والفوز بالجنية والنعيم المقيم في الدار الأخرى من ناحية ثانية.
وفي توزيع الضرائب مصالح كثيرة للمجتمع الإسلامي فهي إعانة للفقراء والمساكين والمنقطع بهم، وحرية للأرقاء يشترون بها من مواليهم ويعتقون وفك لدين المدينين، وتربية إسلامية صالحة لليتامى ، وتقريب لقلوب الكافرين إلى الإسلام حين يعطون من هذه الضرائب فيذكرونللإسلام فضله وعدله. ومن صارفها كل عمل يرضى به الله ( عز وجل) يكون في صالح الإسلام أو الامسلمين كبناء المساجد والمدارس والجسور والشوارع والمستشفيات ولامكتبات، وما إلى ذلك من المرافق العامة. فإن بقي بعد ذلك شيء، كان بيد الإمام المعصوم (عليه السلام) يتصرف به ما يشاء، وهو بعصمته لن يتصرف إلا على حسب المصلحة الحقيقية للمسملمين وللإسلام
ومن هنا نرى أن هذه الضرائب التي تجبى ليس للدولة منها إلا جزء يسير منها، لا كما حلم به واضعو هذا الإعلان، من جبايتها لأجل أن تدخل في جيوبهم أثناء تسنمهم المناصب في البلاد.
بل إن هذا الجزء الصغير إنما يصرف أيضاً في صالح المجتمع الإسلامي من ضمان سير أمور الدولة على ما يرام وتطبيق قوانينها بصورة عادلة وصحيحة.
وللضرائب الإسلامية نظام وضعه الإسلام، لكي يحد من التلاعب الذي قد يتدخل في جباية الضرائب أو توزيعها، وهوما يسمى بإصطلاح الفقهاء بالزكاة والخمس. وهو نظام دقيق مفصل مذكور في محله من الفقه الإسلامي . ويمكن أن نلاحظ – إذا تصفحنا النظام – أن من خصائصه جعل الضريبة على رأس المال بالإضافة إلىجعلها على الربح.
.وفي ذلك حد من تضحم الثروة اكثر من اقتصار الضريبة على الربح مع التحفظ على رأس المال، لأن هذا المال الذي يبقى عند صاحبه سوف ينتج أضعاف ما أخذ منه، اما لو وضعت الضريبة عليه مباشرة لكان في ذلك حداً حاسماً لتضخم الثروة.
كما يمكن أن نلاحظأن ليس في هذا النظام ضرائب تصاعدية تزيد نسبتها كلما زاد المال. بل الضرائب الإسلامية اما ثابتة النسبة عند زيادة المال، واما ان تكون (تنازلية)تقل نسبتها. بزيادةالمال. كما نلاحظ قلة الكمية المدفوعة في الضريبة على نحو العموم، فإن منها ما يكون جزءاً واحداً من أربعين جزء، كما في زكاة الذهب والفضة، ومنها ما يكون عشراً أو نصف العشر كما في زكاة الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وأكبر نسبة مفروضة من الضريبة هي الخمس.
ولكن رغم هذه الضآلة في كمية الضرائب، فإنه يمكننا أن نلاحظ بأدنى تفكير، كميات ألموال التي يمكن أن تجبى بموجب هذه الضرائب، وكم سوف ينتفع منها المجتمع الإسلامي؟ تصور كم ستكون الأموال الناتجة إذا أخرج الخمس من أرباح التجار ومن المعادن والجواهر، وما أخرج من البح رعن طريق الغوص، وما أخرج من المناجم، ومن الأموال المختلطة بالحرام ، ومن الأموال التي اكتسبت عن طريق الربا والإحتكار، والقيام بالفعاليات المحرمة إسلاميا كاحتراف البغاء أو الغناء، وغير ذلك مما يجب فيه الخمس. وتصور ما إذا أخرج كل زارع زكاة زرعه، وكل راع زكاة أنعامه، وكل مصرف وتاجر زكاة ما يملك من مسكوك الذهب والفضة وغير ذلك مما تجب فيه الزكاة. كم من الأموال سوف تجتمع حينئذ، ثم توزع مجاناً على مستحقيها من الفقراء والمساكين واليتامى والمحتاجن والعبيد الأرقاء، ممن قد عددنا بعضهم على نحو الإجمال فيما سبق، كما يوزع على المصالح العامة وتعمير المرافق العامة ثم يصرف باقيه على مصالح الدولة .
كما إننا نلاحظ، حول هذه الضرائب ، تلك اللفتات الرحيمة التي أوردها الإسلام في شروط وجوب دفع الضرائب، مما ميجعل دفعها سهلاً يسيراً من ناحية، وقليلاً من ناحية أخرى، وفي ذلك تيسير للمالك إلى أكبر حد ممكن. فقد اشترط الإسلام في زكاة الأنعام السوم والحول، فلا زكاة عليها إن أتعب مالكها نفسه على إطعامها وتربيتها، أو كانت في ملكه مدة أقل من العام الكامل. واشترط في دفع العشر من الغلات الأربع أن يكون الزرع قد سقي بطريقة طبيعية كالمطر أو من نهر مجاور فائض أو أنه امتص الماء بواسطة جذوره في الأرض. اما إذا كان المالك قد تكلف له السقاية وبذل عليها مالاً وجهداً فلا يجب أن يدفع إلا نصف العشر. واشترط في وجوب الخمس في مال التجارة أن يخرج صاحب المال أولاً مقدار ما يصرفه على نفسه وعياله بحسب متوسط حاله وبالشكل الائق به عادة، على ألا يكون باذخا مبذرا والا وجب دفع الضريبة على المال الذي يذهب في هذا السبيل أيضاً.
من كل ما مضى نعرف كيف وبأية طريقة حكيمة ورحيمة، طبق الإسلام ما شرطه هذا الإعلان من أنه يجب ألا تكون الضريبة أكثر من طاقة الإنسان. كما نعرف أهداف الإسلام السامية العميقة في سن الضرائب، إنها ليست فقط، كما توصل إليه ذهن واضعي هذا الإعلان من الصرف على القوة العامة والإدارة، بل غنه ينبغي أخذ الضرائب لكثير من المصالح الإجتماعية والدينية، تلك المصالح التي أرجو أن قد لا حظتها فيما سبق، والتي من جملتها لاصرف على القوة العامة والإدارة
(19)

السابق       التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله