لسبب الثاني :
لتكامل الامام المهدي (ع) ما يحدث في عصر الغيبة من الانحراف والفتن .
فانه موجب لتكامله من جهتين :
الجهة الأولى :
ما يواجهه عليه السلام شخصيا من الظلم والانحراف ، انطلاقاً من الاطروحة الثانية التي ذكرناها في القسم الأول من هذا التاريخ ، وهي اطروحة خفاء العنوان ، التي تقول : ان المهدي (ع) خلال غيبته يعيش كفرد عادي في المجتمع .. إذن فهو يواجه ما يواجهه الآخرون من أنحاء الظلم والانحراف .. فيفضل على الافراد الممحصين الناجحين من ناحيتين رئيسيتين :
الناحية الأولى :
الرصيد العظيم الذي يملكه عليه السلام ، في التفسير الصحيح وردّ الفعل الصائب تجاهه ، على حين لا يصل الفرد الاعتيادي إلى ما يقارب في اقصى تكامله خلال حياته . واذا كان هذا الرصيد موجودا من اول الامر ، كان التكامل بالنسبة اليه اسرع واعمق انتاجا ، بشكل لا يقاس بالآخرين بطبيعة الحال .
الناحية الثانية:
طول الزمن ، وانحاء الظلم الكثيرة التي يواجهها المهدي (ع) خلال عمره الطويل . فلئن كان الفرد الاعتيادي يمكن ان يكون ممحصا خلال العشرات القليلة من السنين ، فكيف بمن يعيش في عالم التكامل عشرات العشرات من السنين .
وقد يخطر في الذهن : اننا ذكرنا فيا سبق ان تمحيص الفرد يؤثر فيه نتائج التمحيص للاجيال السابقة ، عن طريق قانون تلازم الاجيال ، فيغني ذلك عن الحياة الطويلة السابقة .
فنقول في جواب ذلك : اننا ذكرنا إلى جنب ذلك : ان قانون تلازم الاجيال لا يقتضي انتقال تجارب الاجيال السابقة إلى اللاحقة مئة بالمئة ، وان كان يشارك في ذلك مشاركة فعالة . فكيف يقاس ذلك بالتجارب التي ينالها الشخص نفسه ، والتكامل الذي يحرزه .
صفحة ( 430)
على ان الفرد يرد إلى عالم التمحيص فجا تماما ، يحتاج إلى تلقي تجارب السابقين أولاً ، والزيادة عليها من تجارب نفسه ثانياً . وهذا ملغى لدى الشخص الذي أحرز الكمال بنفسه سلفاً والتفسير الصحيح للحياة ، مما يغنيه عن تجشم تلك المتاعب وقضاء الوقت الطويل فيها ... بل هو يقضي الوقت المتبقي في التصاعد في درجات جديدة عليا من الكمال .
الجهة الثانية :
أنه يمكن أن يقال على شكل الأطروحة المحتملة : إن معاصرة المهدي (ع) التاريخية الطويلة ، للأجيال ، توجب له الإطلاع المباشر على قوانين تطور التاريخ وتسلسل حوادثه وما يؤثر في المجتمعات البشرية ونفوس الأفراد من مؤثرات سلبية وإيجابية ، مما لا يمكن التوصيل إليه عن طريق آخر أصلاً ، كمراجعة التواريخ المسجلة أو معاصرة الحقبة الزمانية خلال حياة قصيرة .
فإن التاريخ أضيق وأعجز من أن ينقل إلينا تفاصيل الحوادث بشكل دقيق وعميق ، ولا يمكن أن نعيش من خلال نفس الحوادث المؤرخة بشكل موضوعي خالص...وقد سبق أن برهنا على ذلك في مقدمة تاريخ الغيبة الصغرى(1).
وأما الحقبة الزمانية المعاصرة لحياة الفرد الاعتيادي ، فهي أيضاً أضيق وأعجز من أن تطلعه على التاريخ البشري العام ... وإنما يستنتج الفرد منها أموراً بمقدار قابليته ومستوى تفكيره وحدود الزمان والمكان التي يعيشها .
فلا يقاس كل ذلك ، بمن عاصر التاريخ كله وعاش خلال تقلباته وانطلاقاته خلال عصر الفتن والإنحراف ، واستطاع أن يربط الأسباب بمسبباتها ... فإنه يستطيع أن يلم بقوانين التاريخ بنظرة أوسع واشمل ، مما ييسر له إلى حد بعيد وضع المخططات ذات التأثير الفعال في أي ميدان من ميادين الحياة ، بعد ظهوره ، بل وحتى في عصر غيبته ، بعد الذي عرفناه ، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان ، من أن المهدي يعمل ـ في بعض الحدود ـ خلال غيبته، في مصلحة الإسلام والمسلمين .
ولا يبقى تجاه هذه الاطروحة من تساؤل، إلا ما دل من الأخبار على أن الإمـام متـى أراد أن يعلم أعلمه الله تعالى ذلـك(2).فإنه قد يقال : أنه لا حاجة إلى هذه الأطروحة بعد أن كان في إمكان الإمام المهدي (ع) أن يعلم بقوانين التاريخ تفصيلاً ، بل بحوادثه أيضاً و بمجرد أن يريد ذلك .
ـــــــــــــــــــ
(1) أنظر ص25 وما بعدها إلى عدة صفحات .
(2) أخرج الكليني في الكافي عدداً منها في باب بعنوان : أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا
صفحة ( 431)
ويمكت الجواب على هذا التساؤل على عدة مستويات ، تذكر منها مستويين:
المستوى الأول :
أنه ورد في الأخبار أن الله تعالى قد يحجب الالهام عن الالمام (ع) متى شائع . فمن ذلك : ما أخرجه الكُليني في الكافي (1) بسنده عن الإمام الباقر (ع) أنه قال : يبسط لنا العلم فنعمل ، ويقبض عنا فلا نعمل . ومعه فمن المحتمل ـ على أقل تقدير ـ أن تكون بعض القوانين العليا أو الكلية للتاريخ ، يحجب الالهام بها عن الإمام المهدي (ع) لكي يعيشها في الحياة ،ويستنتجها عن طريق التجارب الحسية المباشرة لتطورات التاريخ .
وإذا كان الإطلاع المباشر اكثر رسوخاً في النفس ، من العلم النظري ، كانت المصلحة متعلقة لا محالة ، بتحويل المهدي (ع) على حوادث التاريخ مباشرة ، وحجب الالهام عنه ،بهذا الخصوص ، لكي يكون أكثر كمالاً ، وأسهل تطبيقاً لليوم الموعود .
المستوى الثاني :
إن هذه القاعدة : إذا أراد الإمام أن يعلم أعلمه الله ذلك ، التي نطقت بها الأخبار ، بالرغم من عمقها وسعتها ، وأفضلية الواجد لها على كل الآخرين . إلا أنه ـ مع ذلك ـ لا ينبغي المبالغة في نتائجها .
فإن فيها نقطة ضعف رئيسية ، وهي تعليقها على الإرادة ،فإن الإمام إذا أراد أن يعلم أعلمه الله تعالى ، وأما إذا لم يرد أن يعلم فإن إعلام الله تعالى له لا يتحقق . فإذا استطعنا أن نضم إلى هذه القاعدة أمرين آخرين استطعنا أن نعرف كيف أنه لا ينبغي المبالغة في نتائجها .
ــــــــــــــــــــ
(1) انظر في الكافي ،باب : أن الأئمة إذا شاؤوا أن يعلموا علموا .
صفحة ( 432)
الأمر الأول:
إن الإمام عليه السلام ، بالرغم مما يستدل عليه في الفلسفة من استحالة الغفلة عليه ... لا يمكن الالتزام بكونه ملتفتاً إلى كل الأمور في الكون دفعة واحدة. فإن ذلك من خصائص الله عز وجل وحده .ولا يقوم ذلك البرهان بإثباته.
إذن فالغفلة ، بهذا المعنى ضرورية الثبوت للإمام بلا إشكال. ومع الغفلة لا يمكن أن يريد أن يعلم . فإن إرادة العلم تتوقف على الالتفات لا محالة ، وبدونه لا معنى لهذه الإرادة.
فإذا لم يرد الإمام أن يعلم ، لا تنطبق هذه القاعدة بطبيعة الحال ، وإعلام الله تعالى إياه لا يتحقق .
الأمر الثاني :
المظنون جداً ، ارتباط هذه القاعدة بالموارد الجزئية ،والحوادث المتجددة ، ففي كل حادث معين إذا لم يجد الإمام (ع) حلاً لمشكلته وأراد أن يعلم ذلك أعلمه الله تعالى إياه . وأما شمول هذه القاعدة لعمومات واسعة ، كالعلم بكل شيء أو بكل الحوادث في الأرض أو بكل التاريخ البشري مثلاً ، فمن المستبعد جداً أن الإمام يطلب من الله تعالى العلم بذلك دفعة واحدة . والمدلول العام للقاعدة الذي يعطيه سياقها ، يأبى شمولها لمثل ذلك .
فإذا تمّ هذا الأمران ، كان من المتعين للمهدي (ع) حين تتعلق المصلحة بإطلاعه على القوانين العامة للتاريخ ، أن يعيش هذا التاريخ ، وينظر تفاصيل حوادثه وترابطها وتسلسلها ، لكي يستنتج ، هو بفكره الثاقب وبالالهامات المتتابعة في كل واقعة ، ما يمكن التوصل إليه من هذه القوانين.
السبب الثالث :
من أسباب تكامل الإمام المهدي (ع) ،في تكامل ما بعد العصمة ... خلال غيبته : ما يقوم به عليه السلام من أعمال وتضحيات اختيارية في سبيل الإسلام والمسلمين .
صفحة ( 433)
ويتم الاطلاع على ذلك بعد ثبوت مقدمتين سبق أن عرفناهما :
المقدمة الأولى :
إن الفعل الاختياري للفرد يسعى به إلى الكمال والأكمل ، حسب مرتبته السابقة من الكمال . وقد سبق أن سميناه في تكامل ما قبل العصمة بالتمحيص الاختياري . فإن كان قائداً عالمياً ، معصوماً ، كان الكمال الذي يحوزه بتضحياته التي تكبر وتتسع تبعاً لاتساع مسؤولياته ... عظيماً وجليلاً .
المقدمة الثانية :
إن الإمام المهدي (ع) كما قلنا في أطروحة خفاء العنوان السابقة ، يقوم بالعمل في مصلحة الإسلام والمسلمين ، ضن شرائط عرفناها .
ينتج من هاتين المقدمتين ، إن ما يقدمه المهدي (ع) من أعمال في سبيل الله والإسلام ، يكون سبباً في تكامله المستمر ، من الكامل إلى الأكمل ، وخاصة فيما يعود إلى القرب الالهي والرقيّ المعنوي .
فإن قال قائل : إن ما يقوم به من هذه الأعمال ، هينة وقليلة بالنسبة إلى منزلته العليا ... بحيث لا تكاد تسبب له التكامل .
قلنا في جوابه : أولاً : أننا لو سلمنا ضآلة هذه الأعمال ، بالنسبة إليه ، لا نستطيع أن ننفي تكامله بمقدارها .... وإن أوجبت له تصاعداً قليلاً في درجات الكمال ... بعد أن عرفنا أن التضحيات الاختيارية سبب للتكامل على أي حال
ثانياً : إن الأعمال التي يقوم بها المهدي (ع) ليست بالقليلة ولا الهينة ، كيف وقد يتوفق عليها حفظ المجتمع الإسلامي ، ودفع البلاء عن المسلمين . وقد سبق أن سمعنا في رسالته التي أرسلها إلى الشيخ المفيد ، برواية الطبرسي في الاحتجاج (1) : أنا غير مهملين لمراعاتكم ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء واصطملكم الاعداء .
فهذه الاعمال ، بالرغم من ضآلتها النسبية لو قيست بأعمال يوم الظهور ... إلا أنها ذات أثر عظيم في نفس الوقت ،في إيجاد التكامل . وما يناله من الكمال تابع للنتائج التي يصل إليها ، لا الأسلوب الذي يقوم به . كما هو الحال في كل فرد عامل في سبيل الحق ، بل في كل عمل على الإطلاق ، فإنه تقاس الأعمال بالنتائج لا بالمقدمات .
(1) ص 323 ، جـ 2 .
صفحة ( 434)
فهذه هي الأسباب الثلاثة التي تسبب تصاعد المهدي (ع) في درجات الكمال خلال غيبته الكبرى ، بحسب معرفتنا لا بنحو الحصر الكامل . وإذا كان مبدأ التكامل وأقل مرابته هو قابلية قيادة العالم ، فكيف بالتكامل المضاعف الكبير الجليل الذي يحرزه ... مما يكون له أهم الأثر في تعميق التطبيقات الحكيمة التي يقوم بها المهدي (ع) في اليوم الموعود .
ملحوظة :
تختص بهذه الأسباب الثلاثة ، الأطروحة الأمامية لفهم المهدي (ع) القائمة على الإيمان بوجوده وغيبته .
وأما الفهم الآخر ، القائم على ولادته في آخر الزمان و فكما لم يستطع أن يستوعب قابليته لقيادة العالم ، كما عرفنا .... لا يستطيع هذا الفهم ايضاً أن يقول بتكامله إلا بالمقدار القليل الذي يتكامل به الفرد المؤمن الاعتيادي خلال حياته .
فإذا ضممنا كلا الأمرين : انفصال المهدي عن الوحي حتى بالواسطة ، مما يحجب عنه قابلية القيادة العالمية ، وعدم تكامله الطويل خلال الزمان ... لزمنا افتراض أن المهدي (ع) حين يولد في آخر الزمان ليس أكثر من فرد من المخلصين الممحصين الذين عرفنا عدداً من خصائصهم . وإذا كان القائد كذلك فكيف بالجنود ؟! ومعه يستحيل عليه ـ عادة ـ القيام بالمهمة الكبرى لليوم الموعود وتنفيذ الغرض الالهي الأكبر فيه .
إذن فهذا الفهم للمهدي (ع) مساوق مع إنكار اليوم الموعود من الناحية العملية ... وينحصر تنفيذ التخطيط الالهي لإيجاده ، بوجود الغيبة الطويلة لا محالة . ومن هنا تدخل الغيبة كجزء رئيسي في التخطيط الالهي الكبير .
هذه نهاية الكلام في الجانب الثلاث . وبه ينتهي الكلام عن المستوى الثاني في تكامل قابلية القيادة العالمية . وهو نهاية الكلام عن الجهة الرابعة في التخطيط الالهي الخاصة بإيجاد القائد .
وهو نهاية الفصل الأول عن شرائط الظهور .
صفحة ( 435)
الفصل الثاني
في علامات الظهور
ونتكلم في هذا الفصل ضمن عدة جهات :
الجهة الأولى :
في تحديد المنهج العام الذي نسير عليه تجاه الروايات الدالة على تعداد علامات الظهور .
ويقع الكلام في ذلك ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
سبق أن ذكرنا تفصيلاً في القسم الثاني من هذا التاريخ ، المنهج العام الذي نسير عليه تجاه روايات التنبؤ بمستقبل الزمان بشكل عام سواء منها ما دل على علامات الظهور أو على أشراط الساعة أو على انحراف الزمان ، ونحوها من الروايات . فيكون ذلك المنهج شاملاً لهذا الفصل جملة وتفصيلاً . وقد سبق ذلك ،ولا حاجة إلى التكرار.
وعلينا الآن أن نضيف إلى ذلك أمرين نلخصهما في النقطتين التاليتين :
النقطة الثانية :
إن الروايات التي تدل على حدوث حوادث معينة في مستقبل الزمان ، على ثلاثة أقسام :
القسم الأول :
ما ورد مربوطاً بظهور المهدي (ع) بنص الرواية . كما هو الحال في الأعم الأغلب من أخبار المصادر الأمامية . حيث كرست كلها تقريباً لذلك و وقلَّ فيها التعرض لامارات الساعة التي تحدث بعد الظهور .
صفحة ( 436)
القسم الثاني :
ما ورد مربوطاً بالساعة وقيام يوم القيامة ... وهو الأعم الأغلب من أخبار المصادر العامة ، حيث لم يربط بظهور المهدي (ع) منها إلا القليل نسبياً .
القسم الثالث :
ما ورد مهملاً من الناحيتين السابقتين ... بمعنى تكفل الرواية لبيان حدوث الحادثة من دون أن يفهم منها ارتباطها بالظهور وبقيام الساعة .
ولكل القسمين الأولين ، قسمان متشابهان :
أحدهما : ما دل على وقوع الحادثة قبل الظهور أو بعد قيام الساعة مباشرة .... بمعنى الفصل بينهما بأيام قليلة أو زمن قصير . كالذي ورد أن بين قتل النفس الزكية وبين ظهور المهدي (ع) خمسة عشر يوماً .... على ما سيأتي . أو ما ورد من أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق ... إذن فوجود شرار الخلق ، قبل قيامها بقليل .
ثانيهما : ما دل على وقوع الحادثة قبل الظهور أو قبل قيام الساعة ، بشكل يناسب وقوعها بفاصل زماني طويل . وليس في الرواية ما يدل على التقارب بينهما . كما ورد في بعض الروايات من قوله : لا تقوم الساعة حتى يحدث كذا وكذا . ومن قوله : لا يكون الذي تمدون إليه أعناقكم ( يعني الظهور ) حتى يحدث كذا وكذا ... ونحو هذا من الكلام .
فما كان مؤقتاص ومضبوطاً من العلامات ، كما لو دل الخبر على وقوع الحادثة قبل الظهور أو قبل الساعة مباشرة.... فلا كلام في ذلك . فإنه يمكن العمل بها واعتبارها إثباتاً تاريخياً كافياً لو انطبق عليها التشدد السَّندي الذي سرنا عليه .
وما لم يكن موقتاً بمثل هذا التوقيت ، كان الظاهر انفصال الحادثة بزمان كبير عن الوقت المحدد : الظهور أو الساعة ... قد يبلغ مئات السنين أو الآلاف .
صفحة ( 437)
حتى أن عدداً من الحوادث التي نسمع التنبؤ بها ، قد حدثت بالفعل ،وقد حدث بعضها قبل عدة قرون ... ولم يحدث إلى الآن الظهور فضلاً عن الساعة . فما ورد مربوطاً بالمهدي (ع), بشكل مباشر أو غير مباشر ، مما حدث أو لم يحدث ، هو في حقيقته من علامات قيام الساعة أيضاً .... باعتبار ما قلناه من أن مفهوم العلامة ليس إلا الحادثة التي جعلت منبهاً لناس عند حدوثها إلى حدوث ما يليها ، وكاشفة عنه . ومن المعلوم أن الحادثة المتقدمة على الظهور والكاشفة عنه ، كاشفة عن قيام الساعة أيضاً . إذن فمن الصحيح أن تنسب علامات الظهور إلى الساعة ، تجعل علامات عليها . كما ورد بالفعل في العديد من الروايات .
وما ورد مربوطاً بالساعة بشكل غير مباشر ولا قريب ، يمكن لنا جعله علامة على الظهور ، بنفس اعتبار التقابل السابق . وكذلك ما ورد مهملاً من الارتباط بالظهور والساعة ، أن نجعله من علامات الظهور أيضاً . ولا يبقى من علامات الساعة الخاصة بها ، إلا ما يقع قبل قيامها بقليل ، بحسب الخبر الدال عليه . وفي مثله يتعين أن يكون واقعاً بعد الظهور أيضاً .
فإن قال قائل : فإن هذه الحوادث التي جعلناها علامة على الظهور ، لا يتعين فيها ذلك . فإنها كما يحتمل حدوثها قبل الظهور لتكون علامة عليه ، يحتمل حدوثها بعده ، فلا تكون علامة عليه .
نقول : هناك عدة قرائن تدلنا على تقديم الأعم الأغلب من الحوادث الواردة في الأخبار ، متقدمة على الظهور ، وتصلح أن تكون علامة عليه . وإن ورد في الأخبار مربوطاً بقيام الساعة ، أو مهملاً عن الربط .
القرينة الأولى :
وجود الدليل التاريخي على وقوع الحادثة التي تنبأت بها الرواية . فإن معنى ذلك تقدمها على العصر الحاضر وهو دليل على تقدمها على الظهور أيضاً . ومثاله التنبؤ بهلاك الدولة العباسية ، ووجود الحروب الصليبية ... على ما سنذكر .
القرينة الثانية :
ارتباط الحادثة بعصر الفتن والانحراف ، كوجود الكذابين أو الدجال أوالحروف المنحرفة .وقد علمنا تقدم عصرالفتن على الظهور .... فيكون كل ما هو مرتبط بهذا العصر ، متقدم على الظهور أيضاً .
صفحة ( 438)
فإن قال قائل : فكيف علمنا بتقدم عصر الفتن على الظهور .... مع أن عدداً من الروايات السابقة الدالة على انحراف الزمان ، لم يكن مربوطاً بظهور المهدي (ع) بحسب صراحته ومدلوله المباشر .... وهو الأعم الأغلب من روايات العامة . فكيف نثبت تقدم عصر الفتن على الظهور بشكل مطلق .
قلنا : يمكن الجواب على ذلك ، في مستويين :
المستوى الأول :
إن تقدم عصر الفتن على الظهور ، أو عصر الظلم على العدل ، من واضحات الإسلام بل من واضحات كل من يؤمن باليوم الموعود والقاطع للظلم ، من أهل الأديان . إذن فكل ما دل على وجود الإنحراف ، فهو خاص بما قبل الظهور.
المستوى الثاني :
وجود عدد ضخم من الروايات تربط الفتن والإنحراف بما قبل الظهور ، بالصراحة ، والدلالة المباشرة ، فتكون هذه الروايات قرينة على أن المراد من الروايات الأخرى ، نفس هذا المضمون أيضاً . وقد سبق أن روينا كلا هذين الشكلين من الروايات في القسم الثاني من هذا التاريخ .
فإن قال قائل : فكيف نكون على يقين بأن مثل هذه الحوادث ناشئة من الإنحراف السابق على الظهور ... إذ لعلها من الحوادث الناشئة من الإنحراف السابق على قيام الساعة ، كما ورد في الأخبار ، بأن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق (1) .
قلنا له : إن مثل هذا الاحتمال فاقد الأهمية بالمرة ، وذلك لإمكان الجواب على عدة مستويات .
المستوى الأول :
إن ما دل على قيام الساعة على شرار الخلق . لا يثبت طبقاً للتشدد السندي ، ولا يكفي للإثبات التاريخي . على ما سنذكر في التاريخ القادم (2) .
(1) انظر الصواعق المحرقة ، ص 98 ، وغيبة الشيخ الطوسي ، ص 218.
(2) وهو الكتاب الثالث من هذه الموسوعة .
صفحة ( 439)
المستوى الثاني :
إن هذه الاخبارات الواسعة الكثيرة عن الفتن والإنحراف ، لا يحتمل أبداً أن تكون عائدة إلى ما قبل قيام الساعة. وإن السياق العام لهذه الروايات يأبى عن هذا الفهم تماماً ، كما هو واضح لمن راجعها .
مضافاً إلى أن الاتجاه العام لروايات التنبؤ بالمستقبل هو زيادة سرد الحوادث كلما كان الزمان المستقبل اقرب نسبياً وقلتها كان ذلك أبعد . ومن المعلوم أنعصر ما قبل الظهور أقرب بكثير من عصر ما قبل يوم القيامة . ومعه فمن غير المحتمل أن ترجع كل هذه الحوادث المروية إلى ذلك الزمان السحيق في البعد . بل يتعين رجوعه إلى عصر ما قبل الظهور بطبيعة الحال . وهو المطلوب . ويكفي لعصر ما قبل القيامة ، رواية واحدة أو اثنتان مثلاً ، تعربان عن أنها لا تقوم إلا على شرار الخلق .
المستوى الثالث :
إن هناك عدداً كبيراً من الروايات ، تربط حوادث الفتن والانحراف ربطاً مباشراً بما قبل الظهور . فتكون هذه الروايات قرينة على باقي الروايات .
أما الروايات التي تذكر الحادثة مهملة عن الربط ، فحملها واضح ،لانه م باب حمل المطلق على المقيد ، فكأن هذه الأخبار المهملة ذكرت الحادثة مربوطة بعصر ما قبل الظهور أيضاً .
وأما الروايات التي تربط نفس الحادثة بقيام الساعة ، وتجعلها من إماراتها . فباعتبار أن هذا الارتباط يناسب مع البعد الزمني الكبير كما عرفنا ، فيكون شاملاً لعصر ما قبل الظهور وما بعده . فيكون حدوث الحادثة ـ من زاوية هذه الروايات ـ في أي م العصرين محتملاً . فبدلالة ما دل على ارتباط الحادثة بعصر ما قبل الظهور ، يتعين الالتزام بوقوعها في العصر السابق على الظهور ، وينتفي احتمال وقوعها في العصر المتأخر عنه .
صفحة ( 440)
وبشكل برهاني آخر نقول : أننا إذا قلنا بتأخر مثل هذه الحادثة عن عصر الظهور ، فقد كذبنا بالروايات ، الدالة على تقدمها عليه ، وأخذنا بالروايات الدالة على تقدمها يوم القيامة . وإن قلنا بتقدم الحادثة على الظهور ، فقد أخذنا بكلا القسمين من الروايات ، فإن ما هو متقدم على الظهور متقدم على يوم القيامة بطبيعة الحال . والأخذ بقسم من الروايات أولى من تكذيب قسم منها . فيتعين القول بتقدم الحادثة على عصر الظهور ، أي الالتزام بوقوعها خلال عصر الغيبة الكبرى .
القرينة الرابعة :
قيام الدليل في كثير من الأحيان على تقدم الحادثة المعينة على بعض الحوادث المتقدمة على الظهور أوالمعاصرة له، فيكون ذلك الدليل بنفسه كافياً لإثبات وقوع تلك الحادثة المعينة قبل الظهور .
مثاله : ما ثبت في الروايات من تقدم وجود الدجال ، على نزول المسيح ، الذي هو بدوره معاصر مع الظهور . فيتعين أن يكون وجود الدجال متقدماً على الظهور ... إلى غير ذلك من الأمثلة .
فبهذه القرائن ونحوها يثبت أن الأعم الأغلب مما رواه العامة من الحوادث منسوبة ومربوطة بقيام الساعة ، هي في واقعها من علامات الظهور .
نعم لا يمكن تأسيس قاعدة عامة في ذلك ، بل لا بد من وجود إحدى هذه القرائن في كل مورد مورد وكل حادثة حادثة . وما لم تقم القرائن على تعيينه يبقى عصر وقوع الحادثة مجهولاً لا محالة .
النقطة الثالثة :
إن هذه القرائن التي ذكرناها لا تختص بتعيين زمن حدوث الحوادث ، بل تشمل ، بشكل وآخر ، سائر الخصائص والتفاصيل المعطاة في الروايات . إذ يمكن على الدوام جعل بعض الروايات قرينة على بعض ، لإثبات شيء أو نفيه ... وخاصة بعد الالتزام بالتشدد السندي الذي سرنا عليه .
صفحة ( 441)
الجهة الثانية :
في مفهوم العلامة وانقساماتها .
تتضمن العلامة ، كما سبق ، معنى الكشف والدلالة والآراءة بالنسبة إلى ما هي علامة عليه ... وهو الظهور فيما يهمنا الآن . وسنتكلم بعد قليل في سبب وجود هذا الكشف .
وتنقسم العلامات بهذا المفهوم ، إلى قسمين :
التقسيم الأول :
تقسيمها باعتبار ارتباطها بالتخطيط الالهي إلى قسمين :
أحدهما : الحوادث التي تكون مندرجة ضمن التخطيط الالهي . كحوادث الانحراف التي أصبحت علامات لظهور .
ثانيهما : الحوادث التي لا تكون مندرجة في هذا التخطيط ... بل تكتسب صبغة تكوينية مستقلة في وجودها عن الإنسان . كخسوف القمر في آخر الشهر ، وكسوف الشمس في وسطه ، ونحو ذلك مما ورد جعله علامة للظهور في الأخبار .
التقسيم الثاني :
تقسيمها من حيث القرب والبعد عن الظهور ، إلى قسمين :
أحدهما : ما كان قريباً إلى الظهور ، بحيث يمكن أن يعد من مقدماته الأخيرة . كقتل النفس الزكية ، كما ورد في الأخبار .
ثانيهما : ما يناسب ، بحسب دلالة الخبر الدال عليه ، مع الفاصل الزمني الطويل بينه وبين الظهور .
وإذا لاحظنا كلا التقسيمين ، كانت الاقسام أربعة:
الأول : ما كان مندرجاً في التخطيط الالهي وقريباً من الظهور كقتل النفس الزكية ، لو ثبت دليل نقله .
صفحة ( 442)
الثاني : ما كان مندرجاً في هذا التخطيط وبعدياً عن عصر الظهور . كوجود دولة العباسيين والحروب الصليبية .
الثالث : ما كان أمراً تكوينياً قريباً من الظهور ، كالكسوف والخسوف المشار إليه .
الرابع : ما كان أمراً تكوينياً بعيداً عن عصر الظهور ، كالذي ورد في الأخبار من حصول الفياضانات ووجود أسراب الجراد وشحة الأمطار في عصر الغيبة الكبرى .
ومن هنا يقع الكلام في هذه الأقسام لأجل التدقيق فيها من ناحية ، وبيان معنى سببيتها للكشف عن الظهور ، وأنها كيف ولماذا أصبحت علامة عليه . من ناحية ثانية .
أما العلامات المربوطة بالتخطيط الالهي بشكل عام ، فمن الواضح أن هذا التخطيط حيث كان مكرساً لأجل التقديم والتهيئة لليوم الموعود ، يوم ظهور المهدي (ع) ... فالفرد حين يعرف ذلك وحين يعرف أسلوب هذا التخطيط ، بالنحو الذي أسلفناه ، يستطيع أن يشخص من الحوادث ما هو مربوط به وما هو غير مربوط . وتكون الحوادث المندرجة فيه حاملة معنى التقديم والتهيئة ليوم الظهور ، بحسب معرفة الفرد المفكر ، فتكون كلها كاشفة عنه ومن علاماته لا محالة .
وتكون هذه العلامة مطابقة للقواعد الاولية ، لا بد من الإلتزام بها سواء ورد ذكرها في الروايات أو لا .... بعد أن تم البرهان على وجود التخطيط الالهي وصحته . وهذه هي المزية الرئيسية لهذا الشكل من الروايات عن غيرها .
على أنها قد وردت في الروايات بالفعل ... ويندرج في ذلك جميع ما أسلفناه من أخبار انحراف الزمان وأهله ، سواء منها ما ورد مربوطاً بالمهدي أو مربوطاً بالساعة ، أو مهملاً عن الارتباط ... كما برهنا عليه في الجهة السابقة .
صفحة ( 443)
وأما بالنسبة إلى الحوادث التكوينية التي بشرِّت الروايات بوقوعها قبل الظهور ولو بزمن طويل .... فالسر الأساسي في كاشفيتها عن الظهور وكونها علامة عليه ، هو أن النبي (ص) والأئمة (ع) يختارون بعض الحوادث الكبرى الملفتة للنظر مما يعلمون وقوعه في المستقبل ، بالوحي أوبالإلهام ، فيخبرون به مرتبطاً بالظهور ، حتى إذا ما وقعت الحادثة في الأزمان ثبت عند الجيل المعاصر لها والأجيال المتأخرة عنها صدق هذه الأخبار ، بالحس والوجدان ،فيثبت بالقطع واليقين صدق الأخبار بالظهور . وهذا هو معنى كاشفيتها عن الظهور ، وكونها علامة عليه
ومن هنا لا معنى لكون بعض هذه الحوادث علامة ، إلا إذا ورد في الروايات ذكره ،وجعل منها علامة على الظهور. وأما بدون ذلك ، فلا تكان تصلح الحوادث الكونية المبعثرة خلال العصور ، للكشف عن الظهور .
وأما بالنسبة إلى الحوادث الكونية القريبة من الظهور ، بحسب دلالة الأخبار، فالسر الأساسي في دلالتها على الظهور هو أن الله تعالى يوجد بعض الحوادث الكونية ، خصيصاً لأجل أن تصبح علامة على الظهور ، لأجل الفات نظر الناس إليه ، وخاصة أولئك المخلصين الممحصين الذين كانوا ولا زالوا ينتظرون الظهور .
إذن فهذ القسم من الروايات يكتسب علاميته من التخطيط الالهي الخاص لاجل إلفات النظر إلى الظهور .
إلا أن هذا القسم ، كسابقه ،لا يعرف كونه علامة على الظهور ما لم يرد ذكره في الروايات . لوضوح أن حدوث الحادثة مهما كان غريباً وملفتاً للنظر ،لا يكون علامة على الظهور ، بدون المعرفة المسبقة بذلك ... بواسطة نقلها في الأخبار .
فهذه هي جملة الأقسام لعلامات الظهور بما فيها من اختلاف في سببيتها في الكشف عن الظهور
الجهة الثالثة :
في مناقشة بعض الأسئلة والاشكالات التي قد ترد على علامات الظهور :
الاشكال الأول :
إن بعض العلامات المذكورة في الاخبار متضمنة للمعجزات وخوارق الطبيعة ... وهي مما لا يمكن حدوثها ،ومعه لا بد من الاقتصار على ما يقع بشكل طبيعي من العلامات .
والجواب على ذلك : إن قانون المعجزات هو الحكم الفاصل في ذلك ، وقد سبق أن لخصنا مضمونه . وبتطبيقه على العلامات نعرف أن كل علامة كانت واردة بشكل منحصر في مقام إقامة الحجة من قبل الله تعالى على البشر ، فهي ممكنة الوقوع بل ضرورية لا محالة ... ومطابقة للقواعد العامة المبرهن على صحتها في الإسلام .
صفحة ( 444)
وإن لم تكن العلامة المنقولة واقعة في هذا السبيل ، لم تكن مطابقة للقاعدة ولزم رفض دليلها ما لم يكن قطعياً . وليس في الإسلام دليل قطعي يدل علىذلك .
وإذا تصفحنا العلامات ، لم نجد منها ماهو قائم على اساس إعجازي و غير بعض الحوادث الكونية السابقة على الظهور ، كالخسوف والكسوف في غير أوانه والصيحة.... وسوف يأتي عند التعرض إلى تفاصيل العلامات ما هو متفق منها مع قانون المعجزات ، وما هو مخالف .
الاشكال الثاني :
إن كل علامات الظهور تتضمن أخباراً بالمستقبل ... فكيف يمكن أن نتأكد من صحتها ، مع أنه لا يمكن للبشر الاطلاع على المستقبل
والجواب على ذلك : أنه لا يمكن الاخبار بالمستقبل إلا عن طريق التعليم من قبل علام الغيوب جل شأنه ، إما بالوحي أو بما يمت إليه بصلة بواسطة أوبوسائط ، كما كانت عليه صفة النبي (ص) والأئمة المعصومين من بعده ، على ماهو الثابت في عقيدة الإسلام . وأما المناقشة في ذلك ، فهي تحتاج في جوابها إلى الاستدلال من جديد على أصل العقيدة ، وهو مما لا مجال له في هذا التاريخ .
إذن ، فما دام المعصوم (ع) عارفاً بحدوث المستقبل ، أمكنه الاخبار بها بطبيعة الحال وهناك من المصالح ما يدعو إلى ذلك و وهي أن تكتسب العلامات كاشفيتها المطلوبة على الظهور . فإننا قلنا بأن جملة منها يتوقف على الاخبار به وروده في الأخبار . ويكون في هذه الإخبارات مشاركة حقيقي في التخطيط الالهي لليوم الموعود .
ومعه ، فليس علينا إلا أن ننظر إلى ما وصلنا من هذه الأخبار ، فإن كانت إثباتاً تاريخياً كافياً للعلامة المعينة ، أمكن الأخذ به بطبيعة الحال . وإلا لزم رفضه ، لأنه غير كاف للاثبات ، لا لكونه موضعاً للمناقشة في اساسه النظري .
صفحة ( 445)
الاشكال الثالث :
إن علامات الظهور ، كما تكون منبهة للمخلصين الممحصين المؤيدين للمهدي (ع) ، فتعدهم نفسياً لاستقباله ومؤازرته . كذلك تكون العلامات منبهة لأعداء المهدي (ع) الذين من المحتمل أن يعدوا العدة ضده . وخاصة إذا حدثت العلامات القريبة من الظهور ، في يوم من الأيام . فيكون هذا التنبيه ضد مصلحة اليوم الموعود ، كما هو واضح . فكيف كان ذلك ؟!
والجواب على هذا الاشكال يتم على عدة مستويات :
المستوى الأول :
أننا إذا لاحظنا ما عليه البشر اليوم ، بل على الخط التاريخي ووجدنا أن هذا الاشكال غير ذي موضوع بالنسبة إلى أي فرد منهم .
أما منكرو اليوم الموعود ووجود المهدي اساساً ، باعتبار الاتجاه المادي أو غيره . فهم بطبيعة الحال ينكرون علائم الظهور جملة وتفصيلاً ، ولا يعتبرون شيئاً من الحوادث كاشفاً عنه أو دالاً عليه . وهم في نهاية الشوط لا يتوقعون الظهور لكي يستعدوا ضده بعدة أو عدد .
وأما المعترفون باليوم الموعود من أهل الأديان المختلفة ، فليس عندهم علامات له ولم يلتفتوا إلى أي تقديمات إليه أو كواشف عنه . ومعه يكون حالهم في عدم توقع الظهور حال منكريه .
ومثلهم من هذه الجهة ،المسلمون المنحرفون الذين ساروا على أساس مادي أو مصلحي في انحرافاتهم ، في عصر الفتن والانحراف .
ولا يبقى ـ بعد ذلك ـ إلا المسلمون المخلصون الذين يعتقدون بالمهدي (ع) وينتظرون ظهوره ، وهم على إحاطة ذهنية كاملة بالعلامات ، فهم الذين تلفتهم الحوادث إلى يوم الظهور ، وتعدهم نفسياً وإيمانياً واجتماعياً لاستقباله ومؤازرته ... بعد أن يكون التمحيص الالهي قد أثر اثره فيهم وأنتج نتيجته ، على أحد المستويات الأربعة السابقة .
صفحة ( 446)
المستوى الثاني :
إن هؤلاء المنحرفين أو الكافرين الذي يخشى من التفاتهم إلىعلائم الظهور ... لن يلتفتوا إليها ، وإن عرفوا مجملاً أن هناك أخباراً تدل على ذلك .
وتعود غفلتهم عن ذلك إلى عدة أسباب أهمها مايلي :
السبب الأول :
إن الإنحراف بنفسه يحمل الفرد على التشاغل بما تقتضيه مصالحه وانحرافه ... ويبتعد به عن الالتفات إلى النقاط المنبهة إلى الحق في الكون . ومن هنا قد تمر بعض العلائم أو كلها وهو في غفلة عن هذا ، قد جعل انحرافه من بين يديه سداً ومن خلفه سداً عن إدراك الحق والتفاعل معه .
السبب الثاني :
أنهم بعيدون نفسياً وفكرياً عن الفحص عن أخبار هذه العلامات في بطون الكتب والمصادر القديمة ، وعن الفحص عن وجودها الكوني أو الاجتماعي حي تحققها . بعد أن كانت الحياة قد أخذت بتلابيبهم واستغرقت أوقاتهم وجهودهم.
السبب الثالث :
إن هؤلاء حتى لو صادف أن اطلعوا على بعض الاخبار الناقلة لعلامات الظهور أو سمعوها على الأفواه .... فسوف لن يأخذوا منه محصلاً واضحاً أودليلاً موثوقاً ، بعدما عرفنا من اكتنافها بالرمزية وسيرها طبقاً لفهم الناس المعاصرين لعصر الصدور . مضافاً إلى تحقيق السند وتذليل سائر المشكلات التي يحتاج تذليها إلى فهم مترابط متكامل ، وهو مما يفقده الأعم الأغلب من البشر .
وحيث لا يفهم الفرد المراد ، لم يستطع تطبيق العلامة المخبر عنها . على هذه الحادثة أو تلك ، بل يبقى مردداً لديه على طول الخط ... وتبقى العلامات مشتبهة التطبيق في نظره .
السبب الرابع :
إن هؤلاء لو صادف أن رأوا علامة من علامات الظهور ، مهما كانت واضحة ، كالكسوف والخسوف في غير أوانه ... فإنهم سوف يفهمونها فهماً مادياً " علمياً " !! بحتاً ، فإن لم يجدوا حاولوا أن يفكروا في إيجاده . فإن لم يستطيعوا انتظرو أن يأتي العلم بجديد في هذا المضمار ! وأمامنا الآن محاولاتهم عن فهم وجود الحياة على الأرض، ولم يصلوا إلى الآن إلى نتيجة حاسمة ، ولم يقنعوا بعد ، باسنادها إلى غير المادة .... مع أن صراحتها المتيافيزيقية أضعاف الصراحة في علامات الظهور .
صفحة ( 447)
المستوى الثالث :
أنه لو فرضنا أن أعداء المهدي (ع) ضبطوا علامات الظهور ورأوها عند تحققها وفهموا مغزاها ، واستعدوا ضد المهدي (ع) . فإن الظهور ليس أمراً أتوماتيكياً قهرياً بعد حدوث العلامات مباشرة . بل هو أمر اختياري مخطط من قبل الله تعالى عز وجل . ومعه فمن الممكن تأجيل الظهور ولو لعدة سنوات ، حتى ينقطع الاستعداد . ولا يظهر المهدي (ع) إلا على حين غرة من أعدائه .
فإن قال قائل : فكيف بالعلامات التي دل الدليل على قربها من الظهور . فإن تخلفه عنها وتأجيله بعدها ، خلاف المفروض .
قلنا : يجاب على ذلك بوجهين :
الوجه الأول :
إن معنى القرب من الظهور ، ليس هو الفصل الزماني بعدة أيام فقط .... وما دل على ذلك يمكن طرحة بالتشدد السندي الذي نمشي عليه ، كما سيأتي في قتل النفس الزكية ... بل القرب الزماني ما يكون مقابلاً للتأخر لقرن أو عدة قرون .... ومعه تكون العشر أعوام والأقل والأكثر قريباً من الظهور . ومن المعلوم أن الاستعداد العسكري لا يبقى مركزاً طيلة هذه المدة.
الوجه الثاني :
إن الدلالات العديدة ، على ما سنذكر في التاريخ القادم ، تدلنا علىحصول الظهور في وقت يصعب جداً على أعداء المهدي (ع) مقابلته بالسلاح . ولو قابلوه فإن ظروفهم الإجتماعية والإقتصادية والطبيعية ، توجب لهم الهزيمة لا محالة .
ومعه فمن الممكن أن نفترض ، أو لا بد لنا أن ندرك أن هذه العلامات القريبة من الظهور ، لا تحدث إلا في زمان يعجز أعداء المهدي (ع) عن مقابلته بالسلاح ... وبعد أن تحدث يمكن أن يتبعها الظهور مباشرة ... وهم لا يستطيعون المقاومة ، ولو استطاعوا شيئاً ، فانهم سيفشلون حتماً .
هذا ، على أن كل من يؤمن بالله تعالى وباليوم الموعود ، يؤمن لا محالة بأن الله تعالى هو الضامن لتطبيق العدد المطلق في الأرض كلها في ذلك الحين ، تطبيقاً لغرضه الأساسي من إيجاد البشرية . وإذا كان الله هو الضامن ، فهو القادر على تنفيذه على كل حال ، ولن يحول دونه حائل .
صفحة ( 448)
* * *
الجهة الرابعة :
في تقسيمات عامة لهذه الروايات :
لنرى ما الذي يمكن الاستفادة منه والاستدلال به وما الذي لا يمكن .
والذي يمكن أن نلاحظه هو انقسام هذه الروايات ، الناقلة للعلامات ، إلى تقسيمين رئيسيين : الأول : منجهة ترتيبها الزماني . والثاني من جهة اعتماده على المعجزة .
ومن هنا ينبغي أن ينطلق الكلام من خلال ناحيتين :
الناحية الأولى : في الترتيب الزمني للحوادث .
ونتكلم في ذلك ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
في الحوادث التي دلنا التاريخ على حدوثها .
وذلك: أن النبي (ص) أو أحد الأئمة (ع) يخبر بوقوع بعض الحوادث قبل وقوعها ، مربوطة بالمهدي (ع) أو غير مربوطة ، فتحدث هذه الحوادث فعلاً .
فنجدها ونحن في العصر المتأخر ، قد حدثت وانتهت ونسمع التنبؤ بوقوعها أيضاً . وإن أكبر القرائن على صدق هذه الروايات هو حدوث الامور التي أخبرت بحدوثها ... ما لم يقم دليل خارجي على عدم صحتها في بعض الأحيان ، كما سنشير إليه .
ومن الطريف أن بعض التنبوءات قد قالها النبي (ص) وسجلها أهل الحديث في مصادرهم ، قبل حدوث الحادثة المطلوبة . ثم حدثت الحادثة فعلاً باليقين في التاريخ . بحيث نعلم جزماً أنها لم تسجل في المصادر بعد حدوثها . وهو لعمري لإحدى المعجزات التي تشارك في الدلالة على صدق العقيدة نفسها فضلاً عن إثبات المهدي (ع) . وأوضح أمثلة ذلك التنبؤ بالحروب الصليبية على ما سنذكره .
صفحة ( 449)
وما دل الدليل على حدوثه في التاريخ مما ورد التنبؤ بحدوثه ، عدة أمور :
الأمر الأول :
أخبار النبي (ص) بانحراف القيادة الإسلامية في المجتمع بعده . فمن ذلك : ما أخرجه مسلم في صحيحه (1) عن النبي (ص) أنه قال : أنه ستكون هنات وهنات . وأنه (2) قال : ستكون أمراء ، فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف فقد برئ ومن أنكر فقد سلم . وأنه قال (3) أنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون ... الحديث .
وعن حذيفة بن اليمان ، في حديث ... فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال :نعم وفيه دخن . قلت : وما دخنه ؟ قال : قوم يستنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر . فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر . قال: نعم . دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها (4) .
وعنه (ص) (5) : يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال ، قلوبهم قلوب الشياطين ، في جثمان إنس .
وأخرجت الصحاح الأخرى كالترمذي وابن ماجه والمصادر الأخرى كأحمد والحاكم ، مثل ذلك . غير أننا لا نذكر فيما أخرجه الصحيحان أو أحدهما ، إلا عنهما كما سبق .
وهذا ما حدث بالفعل بعد النبي (ص) حين قام الحكم في المجتمع المسلم على المصلحة والأثرة . وتفاصيل ذلك أشهر من أن يذكر . واستعمال المقاصف والخمور في بلاظ الخلفاء يكاد أن يكون من الواضحات ، يذكر في الكثير المصادر (6) . وما ذكرناه في تاريخ الغيبة الصغرى من ذلك كفاية لمن اكتفى (7) .
(1) جـ 2 ص 22 . (2) المصدر ص 23 . (3) نفس المصدر والصفحة . (4) المصدر ص 20 . (5) المصدر والصفحة .
(6) انظر ابن خلكان جـ 2 ص 234 وأبو الفداء جـ 1 ص 354 وابن الوردي جـ 1 ص 232 والمسعودي جـ 4 ص 11 والكامل جـ 6 ص 221 وغيرها . (7) انظر مثلاً ص 124 وص 347 .
صفحة ( 450)
الأمر الثاني :
أخبار النبي (ص) أو أحد الأئمة (ع) عن شؤون دولة بني العباس . وقد اتخذ ذلك في المصادر المتوفرة لدينا ، عدة أساليب :
الأسلوب الأول :
فيالتنديد ببني العباس والطعن فيهم من حيث انحرافهم وفسادهم وخروجهم عن جادة الحق . وقد اختصت المصادرالإمامية بذلك ، فيما نعلم :
فمن ذلك : ما رواه النعماني في غيبته (1) عن النبي (ص) ، أنه التفت إلى العباس فقال : يا عم ألا أخبرك بما خبرني به جبرئيل ؟ فقال : بلى ، يا رسول الله .
قال : قال لي : ويل لذريتك من ولد العباس . فقال : يا رسول الله ، أفلا أجتنب النساء . فقال : قد فرغ الله مماهو كائن .
وفي حديث آخر (2) : عن عبد الله بن عباس : قال : قال رسول الله (ص) لأبي : يا عباس ، ويل لولدي من ولدك، وويل لولدك من ولدي . فقال : يا رسول الله ، أفلا أجتنب النساء أوقال : أفلا أجب النساء . قال: إن علم الله قد مضى والأمور بيده . وإن الأمر سيكون في ولدي .
ودولة بني العباس ، واضحة للعيان في التاريخ . وما وقع بينها وبين أولاد علي وفاطمة : أولاد النبي عليه وعليهم الصلاة والسلام ، من الخلاف ،وما ذاقوه من بني العباس من التشريد والمطاردة والتعسف ، أوضح من أن يذكر وأشهر من أن يسطر . كما أن ما تكبده العباسيون من ثورات العلويين التي تعد بالعشرات خلال تاريخهم الطويل ، معروف وموصوف . وحسبك أنه قد أشغل الجزء المهم من مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني والكثير من فصول التاريخ الإسلامي . وقد حاولنا أن نستعرض بعضه في تاريخ الغيبة الصغرى ، في حدود ما يعود إلى تلك الفترة (3) .
(1) ص 131 . (2) المصدر والصفحة . (3) انظر ص 50 وما بعدها إلىعدة صفحات .
صفحة ( 451)
وهذا التقابل ،هو المصداق الواضح لقوله (ص) : ويل لولدي من ولدك وويل لولدك من ولدي .
وأما قوله (ص) : قد فرغ الله مما هو كائن ، أوأن علم الله قد مضى ، فأوضح ما يراد به هو الإشارة بطرف خفي إلى التخطيط ليوم الموعود ، باعتباره مستلزماً لوجود الإنحراف في المجتمع ، وليس من مصلحة التمحيص رفعه وتبديله قبل يوم الظهور . إذن فهذا التقابل ينبغي أن يكون قائماً ليشارك والتمحيص والتخطيط الالهيين .
وإنما لم يشر إلى ذلك صريحاً باعتبار عدم تحمل المستوى الثقافي لذلك العصر ، التصريح بمثل هذه القوانين العامة الالهية . وإنما زرقت هذه المفاهيم من خلال الكتاب والسنة تدريجاً .
وأوضح دليل على كون المراد هو ذلك ، قوله (ص) : وإن الأمر سيكون في ولدي . وذلك في يوم الظهور ، فان أول من يحكم حكماً عاماً نافذاً على العالم من ولد فاطمة وعلي عليهما السلام ، إنما الامام المهدي (ع) . وبحكمه ينتهي ذلك التقابل بين الفريقين
الأسلوب الثاني : الأخبار بهلاك بني العباس وزوال ملكهم .
كالخبر الذي ورد عن الامام الباقر عليه السلام في حديث أنه قال : ثم يملك بنو العباس فلا يزالون في عنفوان من الملك وغضارة من العيش ، حتى يختلفوا فيما بينهم فإذا اختلفوا ذهب ملكهم (1) .
ودولة العباسيين أسست بعد وفاة الامام الباقر (ع) بثمانية عشر عاماً ، حيث توفى عليه السلام عام 114 (2) وتولى أبو العباس السفاح ، أول خلفاء بني العباس خلافته عام 132 (3) .
_________________________
(1) غيبة النعماني ص 139 . (2) الارشاد للمفيد ص 245 . (3) مروج الذهب جـ 3 ص 251 .
صفحة ( 452)
وقد بدأ نجمهم بالأفول عند سيطرة الأتراك على الحكم . ثم انعزلوا تماما ًعن المشاركة الفعلية في الحكم في عصر البويهيين وعصر السلاجفة . حتى إذا لم يبق للخلافة أي هيبة أو قيادة ، وتضارب المجتمع المسلم في داخله ، أصبح طعمة سائغة لهجمات التتار بقيادة هولاكو المغولي . حيث سقط آخر خلفائهم عبدالله المستعصم بالله عام 656 (1) .
الأسلوب الثالث :
مدح العباسيين والثناء عليهم وتمجيد بعض خلفائهم . وقد اختصت برواية هذه الأخبار المصادر العامة . وليس في المصادر الامامية منها أثر .
فمن ذلك ما أخرجه الترمذي (2) عن ابن عباس قال : قال رسول الله (ص) للعباس : إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدك حتى أدعو لهم بدعوة ينفعك الله بها وولدك . فغدا وغدونا معه . فالبسنا كساء ثم قال : اللهم اغفر للقباس وولده مغفرة ظاهرة وباطنة لا تغادر ذنباً . اللهم احفظه في ولده .
قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه .
وقال في الصواعق (3) : وصح عن الحاكم ابن عباس رضي الله عنهما : منا أهل البيت أربعة : منا السفاح ومنا المنذر ومنا المنصور ومنا المهدي .
وعقب ابن حجر على ذلك بقوله : فإن أراد بأهل البيت ما يشمل جميع بني هاشم ، ويكون الثلاثة الأول من نسل العباس والأخير من نسل فاطمة ، فلا اشكال فيه . وإن أراد هؤلاء الأربعة من نسل العباس أمكن حمل المهدي في كلامه على ثالث خلفاء بني العباس ، لأنه فيهم كعمر بن عبد العزيز في بني أمية ، لما أوتيه من العدل والسيرة الحسنة .
ولأنه جاء في الصحيح أن اسم المهدي يوافق اسم النبي (ص) واسم أبيه اسم أبيه ، والمهدي هذا كذلك لأنه محمد بن عبد الله المنصور . ويؤيد ذلك خبر ابن عدي : المهدي من ولد العباسي عمي . لكن قال الذهبي : تفرد به محمد بي الوليد مولى بني هاشم ، وكان يضع الحديث (4) ونحن لنا ثلاثة تعليقات على هذه الأخبار .
________________________________
(1) دليل خارطة بغداد ص 277 . (2) جـ 5 ص 1319 . (3) ص 99 . (4) المصدر والصفحة .
صفحة ( 453)
التعليق الأول :
إن الحديث الثاني غير مروري عن النبي (ص) ، بل عن ابن عباس ، فلا يكون حجة أساساً ، ولا يصلح للاثبات العقائدي ولا التاريخي .
التعليق الثاني :
إن كل هذه الأخبار ، مما لا يمكن أن تثبت أمام التشدد السندي ، حتى مع وثاقة رواتها . لأن هناك قرينة عامة واضحة تدل على الوضع فيها جملة وتفصيلا . وهي ممالأتها الجهاز حاكم إطراؤه والثناء عليه ... وكل ما كان هكذا لا يمكن قبوله ، بعد التشدد . فانه ما أكثر الأحاديث التي وضعت لتأييد الملك وتشييد أركانه وإسباغ صفة الشرعية عليه ... مع شديد الأسف .
التعليق الثالث :
إن واضعي الحديثين الأخيرين ، يريدان القول : بأن المهدي الذي بشر به رسول الله (ص) هو المهدي بن المنصور العباسي ، ونرى ابن حجر يوافق على ذلك ويدافع عنه بالأدلة .
وحقيقة الأمر هو أن كثرة ما ورد عن النبي (ص) في المهدي من أحاديث وشهرتها بين الناس وانتظارهم للمهدي (ع) كمصلح للعالم .. انعكست على ذوي النفوس المنحرفة على شكل الطمع في أن ينال هو أن ولده هذا المنصب الالهي الكبير ، وان ينطبق عليه ثناء رسول الله (ص) وبشارته ، فمن هنا كثرت دعاوى المهدوية في التاريخ الاسلامي . ومن هنا أيضاً تصدى المنصور إلى تلقيب ولده بالمهدي إيهاماً لذلك ، وخاصة وهو يحتمل أنه سينال الخلافة في يوم من الأيام .
ثم أن كل هؤلاء تهاووا على صخرة الواقع ، حين لم يستطيعوا أن يقوموا بالمهمة الأساسية التي يؤمن بها للمهدي المنتظر كل من يؤمن به ، وهو إصلاح العالم بشكل شامل كامل . وقد سبق أن قلنا : إن عدم قيامهم بهذه المهمة وانقراضهم قبل ذلك ، أو دليل على كذب دعوى الفرد منهم أنه هو المهدي المنتظر .
وأما ما احتج به ابن حجر من أنه صح أن اسم أبيه اسم أبيه . فهو مما لم يصح ولم يثبت . وسوف نبحث عن ذلك في كتاب قادم من هذه الموسوعة .
صفحة ( 454)
ولعل من أوضح عدم صحة ذلك : إمكان ابتداع ذلك من قبل الكثيرين ، فان بامكان كل شخص اسمه عبدالله أن يسمي ولده محمد ويلقبه بالمهدي ، لكي تكون له أطماع في نيل القيادة أو الرئاسة العامة في المجتمع .
فاللازم ليس هو النظر إلى هذه الصفة بالتعيين ، مما ورد من صفات المهدي ، لكن نطبقها على الأشخاص . بل اللازم هو توخي مجموع الصفات والخصائص المتعلقة بالمهدي وتطبيقها على الفرد المدعي للمهدوية ، بما فيها من كونه من ولد فاطمة (ع) وبما فيها السيطرة على العالم خلال حياته . ولا شك أن هذه الأوصاف لا تنطبق على أي واحد من مدعي المهدوية إلى الآن في التاريخ .
الأسلوب الرابع :
أخبار النبي (ص) عن خروج الروايات السود من خراسان ، وجعلها إحدى علائم الظهور . والأخبار في ذلك كثيرة متظافرة بين الفريقين . وسيأتي نقلها وتمحيصها في جهة آتية من هذا الفصل .
والمهم الآن ، هو تمحيص وتحقيق هذا الاحتمال وهو أن يكون المراد بهذه الرايات ثورة أبي مسلم الخراساني على الأمويين ، تلك الثورة التي مهدت لقيام الدولة العباسية . ومعه فتكون هذه العلامة مما قد تحققت في الخارج ، وإن فصل بينها وبين الظهور زمان طويل . فان ذلك لا ينافي كونها علامة عليه ، كما سبق .
ويرجح هذا الاحتمال : ان شعار هذه الثورة كان هو السواد وبقي شعاراً للعباسيين بعدها .
ويرجحه أيضاً ما ورد في البحار (1) عن ركائز بن أبي ركاز الواسطي ، قال : قبل رجل رأس أبي عبد الله (الامام الصادق عليه السلام) ، فمس أبو عبد الله ثيابه وقال : ما رأيت كاليوم أشد بياضاً ولا أحسن منها . فقال : جعلت فداك هذه ثياب بلادنا ، وجئتك بخير من هذه . قال : فقال : يا معتب أقبضها منه . ثم خرج الرجل . فقال أبو عبد الله (ع) : صدق الوصف وقرب الوقت . هذا صاحب الرايات السود الذي يأتي بها من خراسان . ثم قال : يا معتب الحقه فسله ما اسمه . ثم قال : إن كان عبد الرحمن فهو والله هو . قال : فرجع معتب . فقال : قال اسمي عبد الرحمن . قال : فلما ولي ولد العباس ، نظر إليه ، فإذا هو عبد الرحمن أبو مسلم .
_________________________
(1) جـ 11 ص 142 .
صفحة ( 455)
ومن الصحيح تاريخياً أن اسم أبي مسلم عبد الرحمن ، وان الامام الصادق معاصر لثورته . وظاهر قوله : هذا صاحب الرايات السود ... كونه اشارة إلى ما ورد عن النبي (ص) بهذا المعنى ، وخاصة مع قوله (ع) : صدق الوصف وقرب الوقت . والمراد به قرب خروج الرايات السود أو قرب ثورة أبي مسلم الخراساني ، لا قرب ظهور المهدي (ع) وإن اقترن أخبار النبي (ص) بالبشارة بالمهدي عليه السلام .
إذن ، فهذا الاحتمال يكون راجحاً جداً ، لولا مناقشتين :
المناقشة الأولى :
إن رواة هذا الخبر مجاهيل ، فلا يثبت مؤداه ، فضلا ًعن التشدد السندي الذي التزمناه .
المناقشة الثانية :
معارضته بما ورد عن النبي (ص) أنه قال : "إذا رأيتم الرايات السود قد خرجت من خراسان فأتوها ولو حبواً على الثلج ، فإن فيها خليفة الله المهدي " . وفي حديث آخر أنه (ص) قال : "انَّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا ، وان أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء شديدا ًوتطريداً حتى يأتي قوم معهم رايات سود ...
حتى يدفعونها إلى رجلٍ من أهل بيتي فيملؤها قسطاً كما ملؤها جوراً . فمن أدرك ذلك فليأتهم ولو حبواً على الثلج، فان فيها خليفة الله المهدي " (1) .
وكلا هذين الخبرين ، واضحان في ارتباط ظهور المهدي (ع) بخروج الرايات السود ، حتى أن الخبر الأول يصرح أنه موجود ضمن حاملي هذه الرايات . مع أنه من المقطوع به في التاريخ ، وجود ما يزيد على ألف عام بين ثورة أبي مسلم وبين الظهور ، ولعله سيزيد على ذلك بكثير .
_____________________________________
(1) أنظر الخبرين في الصواعق المحرقة ، ص 98
صفحة ( 456)
إلا أن كلا هاتين المناقشتين لا تصحان :
أما المناقشة الأولى : فلا تصح لأن التشدد السندي الذي التزمناه خاص بأخبار التنبؤ عن المستقبل ، وليس عاماً لكل الأخبار . ومعه فهذا الخبر الذي نقلناه عن البحار لا يندرج ضمن هذا المنهج ،لأنه ليس من أخبار التنبؤ بالمستقبل . إذن فهو قابل إلى حد ما للاثبات التاريخي . وكونه مجهول الرواة لا يضر بذلك ، كما برهنا عليه في المنهج الذي أسسناه في أول تاريخ الغيبة الصغرى (1) .
وأما المناقشة الثانية : فالمعارضة بين الخبرين ، في الواقع ، تنتج فشل الخبرين الأخيرين وسقوطهما عن قابلية الاثبات التاريخي ، وسيكتب البقاء ، عندئذ للخبر الذي نقلناه عن البحار .
فاننا عند دوران الأمر بين صدق هذين الخبرين أو ذلك الخبر ، بحيث يتعين الالتزام بكذب أحدهما ... لا بد وأن نحسب حساب القرائن المؤيدة لأحد الخبرين .
والشيء الذي نريد أن نقوله ، بهذا الصدد هو : إن الجهاز العباسي الحاكم حين وجد أن هناك ارتباطاً بين خروج الرايات السود وبين ظهور المهدي (ع) على لسان رسول الله (ص) ، كما استفاضت الأخبار عنه (ص) على ما سوف نسمع ... أحبوا جعل هذا الارتباط وثيقاً وقريباً ، فجعلوا هذه الأخبار الدالة على ذلك ، لتكون موحية بأن المهدي المقصود هو المهدي العباسي ، لأنه هو المرتبط والقريب من ثورة أبي مسلم الخراساني وراياته السود ، بل هو مندرج في ضمنها بشكل وآخر ، كما جعلوا الحديث دالاً على ذلك .
والذي يدلنا على وضع هذين الحديثين ، ما قاله صاحب الصواعق نفسه حين أوردهما . فقد أورد أولاً قوله : "أنا أهل بيت اختار الله لنا " ... الخ ... وعلق عليه بقوله : "وفي سنده من هو سيء الحفظ مع اختلاطه في آخر عمره " . ثم أورد قوله "إذا رأيتم الرايات السود ..." الخ . ثم قال : "وفي سنده ضعيف له مناكير . وإنما أخرج له مسلم متابعة ، ولا حجة في هذا والذي قبله ، لو فرض أنهما صحيحان لمن زعم أن المهدي ثالث خلفاء بني العباس " (1) .
______________________________
(1) أنظر ص 47 . (2) الصواعق ص 98 .
صفحة ( 457)
ولم يطعن ابن حجر في هذين الحديثين ، من رواية كونهما دالين على وجود المهدي المنتظر (ع) ، فانه أورد الكثير من هذه الأخبار مؤيداً غير طاعن فيها . وإنما طعن فيهما لكونهما ضعيفين حفظاً لموضوعية البحث .
وأما طبقاً للتشدد السندي ، وقيام القرائن على عدم صحة هذين الحديثين ، باعتبار ما فيهما من تأييد للجهاز الحاكم آنذاك ، فينبغي إسقاطهما على كل حال ، كما عرفنا .
وعليه فالمظنون أن المراد بالرايات السود ، رايات أبي مسلم الخراساني ، فان ثورته بدأت من خراسان ، واتجهت إلى بغداد بأعلامها السود الخفاقة . وقد جعلت علامة على الظهور ، باعتبار أهميتها في التاريخ وإلفاقها نظر الجيل المعاصر والأجيال التي بعدها . ولا يضر بذلك الفعل الزماني الطويل بينها وبين الظهور ، كما أسلفنا ، شأنها في ذلك شأن العديد من العلائم التي ذكرت للظهور ، مما سبقت أو سيأتي الكلام عنها .
ولا يبقى في مقابل هذا الظن إلا احتمال أن يكون المراد بالرايات السود ، رايات أخرى تخرج من خراسان في مستقبل الدهر ، لا يكون بينها وبين الظهور إلا القليل . إلا القليل . إلا أن هذا الاحتمال مما لا يمكن اثباته بدليل .
وعلى أي حال ، فقد أصبحت أحاديث الرايات السود من أخبار علائم الظهور ، وفيها إشارة لدولة العباسيين ، وإن انتفى القرب الزمني بينهما . ومن هنا جعلنا هذه الأخبار أسلوباً رابعاً من أساليب التنبؤ بدولة بني العباس .
الأمر الثالث :
ما ورد من التنبؤ بزوال دولة بني أمية ، قبل زوالها ، بطبيعة الحال .
كالخبر الذي ورد عن الامام الباقر (ع) أنه قال:"يقوم القائم في وتر من السنين : تسع ، واحدة ، ثلاث ، خمس ". وقال : "إذا اختلف بنو أمية وذهب ملكهم " . الحديث (1) .
وقد عرفنا أن الامام الباقر (ع) قد توفي قبل زوال ملكهم وقيام دولة العباسيين ، بثمانية عشر عاماً .
______________________________
(1) غيبة النعماني ص 139 .
صفحة ( 458)
الأمر الرابع :
ما ورد من التنبؤ باختلاف أهل المشرق والمغرب .
كالذي ورد عن الامام الباقر (ع) أيضاً ،في نفس الحديث الأخير ،حيث قال : "واختلف أهل المشرق والمغرب "(1).
ولهذا الاختلاف أطروحتان ، قد يكون المراد أحدهما ، وقد يكون المراد كلاهما :
الأطروحة الأولى :
اختلاف أهل المشرق والمغرب في حدود البلاد الاسلامية ، وعلى الأساس الاسلامي بشكل عام .
وهذا ما حدث في التاريخ طويلاً ، حيث كان الشرق يحكمه العباسيون والغرب – بمعنى الأندلس الاسلامية – يحكمه الأمويون . كما أن المغرب – بمعنى الشَّمال الافريقي – حكمه المهدي الافريقي محمد بن عبيد الله ، حتى انتقلت ذريته إلى مصر ، وأسسوا الدولة الفاطمية . وفي كلا الحالتين ، كانوا منفصلين عن خلافة الشرق العباسية، ومناوئين لها .
الأطروحة الثانية :
ما حدث في العصر الحديث ، وهو ما زلنا نعيشه منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن ... من وجود الدولتين الكبيرتين في العالم ، التي تمثل احداهما زعامة ما يسمى بالشرق او الكتلة الشرقية ، وتمثل الأخرى زعامة ما يسمى بالغرب .
وإذا نظرنا إلى جذور هاتين الدولتين ، وجدنا للفكرتين اللتين تقومان عليهما : الرأسمالية والشيوعية ، جذوراً تاريخية تمتد حوالي قرنين من الزمن . وعلى أي حال فهما معاً وليدتا المد الحضاري الأوروبي الحديث ، القائم على الأساس المادي المحض المناقض للأديان جميعا ً، كما هو معروف من بحوث العقائد الفكرية عادة . وعلى أي حال ، فقد جعل هذا الاختلاف باحدى هاتين الأطروحتين ، من علائم الظهور, بصفته ملفته للنظر من ناحية, ومشاركا ً في الأنحراف المنتج للتمحيص, كما عرفنا من ناحية أخرى.
____________________
(1) المصدر نفسه .
صفحة ( 459)
الأمر الخامس :
التنبؤ بثورة صاحب الزِّنْج.
فمن ذلك: ما أخرجه الصدوق في الإكمال(1) عن ابن عباس عن رسول الله عن الله عز وجل في بعض كلامه مع رسوله في المعراج , حيث جعل ذلك من علامات الظهور فقال :" وخراب البصرة على يد رجل من ذريتك يتبعه الزنوج".
وقال في الإرشاد (2) :" وقد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي عليه السلام" , وعدد عدداً كبيراً منها , إلى أن قال :" وخروج العبيد عن طاعة سادا تهم وقتلهم مواليهم".
وكل ذلك مما حدث بالفعل على يد صاحب الزنج , كما سبق أن عرفنا في تاريخ الغيبة الصغرى(3) , وكيف انه عاث في المجتمع المسلم فساداً وكلف الدولة العباسية كثيراً , وكبد البصرة وكثيراً من المدن الأعاجيب من القتل والنهب والتشريد.
اسمه علي بن محمد, زعم انه علوي . ولم يكن-على ما يذكر التاريخ-كذلك. فان نسبه في عبد قيس و أمه من بني أسد بن خزيمة (4). وعلى أي حال فرواية الصدوق تؤيد كونه علوياً. على حين نجد الإمام العسكري (ع) برواية ابن شهر اشوب (5) ينفي ذلك ويقول : "وصاحب الزنج ليس منا أهل البيت".وقد سبق أن بحثنا ذلك في التاريخ السابق (6).
_________________________________________
(1) أنظر اكمال الدين المخطوط . (2) أنظر ص 337 . (3) أنظر ص 71 وما بعدها . (4) أنظر الكامل جـ 5 ص 346 .
(5) جـ 3 ص 529 . (6) أنظر تاريخ الغيبة الصغرى ص 184 وما بعدها .
صفحة ( 460)
وعلى أي حال , فمن المحتمل , أن يكون الإمام العسكري (ع) نفيه عن أهل البيت عقائدياً و فكرياً . كابن نوح الذي لم يكن من أهله لأنه عمل غير صالح , وان ارتبط به
نسبياً . والله العالم بحقائق الأمور .
الأمر السادس :
أخبار النبي (صلى الله عليه وسلم) بوقوع الحروب الصليبية .
وذلك: فيما أخرجه أبو داود و ابن ماجة في صحيحهما(1) بألفاظ متقاربة عن النبي (صلى الله عليه وسلم), واللفظ لأبي داود:" ستصالحون الروم صلحاً آمناً ,فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم , فتنصرون و تغنمون و تسلمون. ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول . فيرفع رجل من أهل النصرانية (2) الصليب . فيقول : غلب الصليب . فيغضب رجل من المسلمين (3) فيدقه . فعند ذلك تعذر الروم وتجتمع للملحمة ".
وأضاف أبو داود (4) بسند آخر :"ويثور المسلمون إلى أسلحتهم , فيقتلون , فيكر الله تلك العصابة بالشهادة ."
وأما ابن ماجة (5) فأضاف إلى الحديث الأول بسند ثان : "فيأتون تحت ثمانين غاية , تحت كل غاية اثنا عشر ألفا".
وهذا الحديث الشريف مطابق كل المطابقة مع فترة التاريخ الإسلامي . وقد قلنا أن أول دليل على صحة الأخبار وقوع ما أخبر به . و هذا الحديث من أوضح مصاديق ذلك , لأن مضمونه واقع في التاريخ بالقطع و اليقين .
ولئن كانت الأخبار التي أسلفناها في هذا الفصل ، قد سجلت في كتب الأخبار بعد وقوع حوادثها . فكان يمكن لبعض الماديين أن يطعنوا بصحة نسبتها إلى النبي (ص) ويزعموا أنها وضعت بعد حدوث الحادثة ... إلا أن هذا الحديث الشريف لا يحتمل فيه ذلك على الاطلاق . لأنه صدر عن النبي في صدر الاسلام ، قبل الحروب الصليبية بمئات السنين ، وسجل الحديث في المصادر قبل حدوثها بأكثر من قرنين من الزمن .
_______________________________
(1) أبو داود جـ 2 ص 425 وابن ماجة ص 1369 . (2) ابن ماجة : من أهل الصليب .
(3) ابن ماجة : فيقوم إليه . (4) المصدر والصفحة . (5) المصدر والصفحة .
صفحة ( 461)
فان أبا دواد توفي عام 275 (1) وابن ماجة توفي عام 273 (2). على حين سقطت القدس بيد الافرنج الصليبيين عام 492 (3) .
وهذه المصادر الحديثة متواترة عن أصحابها ،لا يحتمل الزيادة فيها فوق ما سجله مؤلفوها . وما زال أهل السنة من المسلمين يعتمدون عليها في الفقه والعقائد والتاريخ .
ومن هنا يمكن أن يعتبر ذلك من المعجزات التي تؤيد عقيدة الاسلام ، وصدق كلام النبي (ص) وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ... فضلاً عن إسنادها لفكرة وجود المهدي ، كما سبق أن أشرنا .
ونحن إذا لاحظنا المئة سنة أو الأكثر السابقة على الحروب الصليبية ، نجدها خالية عن الفتوحات الاسلامية تقريباً، وهادئة من جانب الروم تماماً ... ما عدا حركة الفتح تجاه الهند (4) . وما عدا بعض المناوشات المتقطعة التي تحدث بين المسلمين والروم ، والتي تكون فيها المبادءة من الروم عادة ، كالذي حدث
عام 361 (5) وعام 421 (6).وفيما سوى ذلك يمكن القول أن السلام أو الهدنة ، كانت سارية المفعول بين العسكرين .
وهذا هو المصداق الواضح لقول النبي (ص) – في الحديث - : " ستصالحون الروم صلحاً آمناً " . وليس المراد به ، ظاهراً ، المصالحة المتفق عليها بين المعسكرين .
__________________________________
(1) ابن خلكان جـ 2 ص 138 . (2) المصدر ص 407 . (3) الكامل جـ 8 ص 89 .
(4) انظر الفتوحات الاسلامية جـ 1 ص ... (5) الكامل جـ 7 ص 44 . (6) المصدر ص 241 .
صفحة ( 462)
ومعه لا يكون هذا الصلح أو الهدنة ، قائماً على أسام الموادة للذين كفروا أو الرضوخ لهم ليكون محرماً في الاسلام . وإنما السر في ذلك : هو أن جذوة الثورة الحرارية التي أوجدها النبي (ص) في المجتمع الاسلامي ، كما أشرنا إليها ، قد بدأت بالتنازل والخمول في تلك العصور . فكان انحراف المسلمين وتناسيهم لتعاليم دينهم ، وتفضيلهم لمصالحهم الضيقة ، قد أوجب إعراضهم عن الجهاد وتغافلهم عن احكامه والاكتفاء بواقعهم المرير الذي كان في ذلك الحين يعاني من أشد الأزمات والانقسامات في داخل الدولة الاسلامية الممزقة . وكانت الخلافة العباسية قد بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة .
وقد أدت هذه الهدنة المنحرفة مع الروم إلى تبادل بعض الثقة وحسن الظن بين المعسكرين . مما أوجب لهما معاً أن لا يجدا مانعاً عن الاتفاق أحياناً ، بل الاشتراك في عمل المصداق الواضح لقول النبي (ص) : :فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم ، فتنصرون وتغنمون وتسلمون " .
ولعل أوضح الحوادث صراحة في ذلك ، ما حدث عام 375 على ما يحدثنا التاريخ (1) من أنه وقع اختلاف بين ملوك الروم مع بعضهم ، فاستنجد بعض منهم بملوك الإسلام ، وذلك البعض هو "ورد" الرومي . وكان من أكابر رؤوسهم وقواد جيوشهم وعظماء بطارقتهم . فطمع في الملك ولا قدرة له على قتال المتنازعين . فكاتب أبا تغلب بن حمدان أمير حلب والموصل نيابة عن الخليفة ، واستنجد به وصاهره . فاجابه ابن حمدان واستجاش بالمسلمين من الثغور فحصل له جيش ضخم ، فقصد قتال الروم بذلك الجيش . فأخرجوا له جيشاً بعد جيش وهو يهزمهم ، فقوى جنانه فقصد القسطنطينية ، ومع تلك الجيوش "ورد" الرومي الطالب لتملك القسطنطينية .
فانظر كيف اتفق هذا الحمداني والرومي على حرب بقية الروم وانتصرا عليهم . كما قال النبي (ص) . وإن لم يدم هذا النصر طويلاً ، فانه حين أراد فتح مدينة القسطنطينية ،جمعوا له جيوشاً كثيرة وقاتلوه قتالاً شديدا حتى انهزم (1) .
ومما يدلنا على تبادل بعض الثقة بين المعسكرين حوادث أخرى :
منها : ان وردوا الرومي المذكور حين انهزم عن القسطنطينية ، فكر بأن يستند إلى عضد الدولة بالعراق ، فكاتبه ووعده ببذل الطاعة . فأجابه بجواب حسن ووعده بأن ينصره .
_________________________________
(1) الفتوحات الاسلامية جـ 1 ص 347 . (2) المصدر والصفحة .
صفحة ( 463)
فبلغ ذلك ملوك الروم . وكان ملكان منهما أخوين مشتركين في ملك القسطنطينية ، فكاتبا عضد الدولة وبعثا له بهدايا واستمالاه . فقوى في نفسه ترجيح جانبهما ، وأعرض عن نصر ورد الرومي ... إلى آخر
الحوادث (1) .
وهناك حوادث أخرى تدل على وجود هذه الثقة المتبادلة ، لا تخفى على المتتبع .
الروم والمسلمون نصر حقيقي وأكيد ، على حين عرفناه ان هذه الحروب التي ذكرناها كانت نهايتها الفرار .
قلنا : ان كل ما يدل عليه الحديث الشريف ، هو أنهم ينتصرون ويغنمون ويسلمون . ولا شك أن هذا قد حدث في الحروب السابقة على هجومهم على القسطنطينية ، وان انهزموا بعد هذا الهجوم .
وأما قوله (ص) : ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج ذي تلول . فليس فيه دلالة على أنهم راجعون بالنصر . والمرج المشار إليه ، كأنه كناية عن المنطقة التي صار إليها الجيش المهزوم .
وبعد فترة من ذلك قامت الحروب الصليبية ، من قبل أناس جدد غير أولئك المتعاهدين مع المسلمين . ومن هنا نجد الحديث الشريف يقول : "فيرفع رجل من أهل النصرانية الصليب . ولم يقل رجل منهم أي الروم . لأن رادة الحروب الصليبية كانوا غير أولئك الأسبقين ، بحوالي قرن وإن كان الجيل المتأخر من الروم البزنطيين قد اشترك فعلاً في تلك الحروب . ولا يكون بين رفع الصليب والانتصار المشترك أية علاقة مباشرة ، وإنما هو مجرد الترتيب الزمني .
ويكون معنى رفع الصليب من قبل أهل النصرانية ، وهم الأوروبيون الافرنج .. معناه اتخاذ الصليب شعاراً لهم ورمزاً لانتصارهم ، واستغلالهم الدين المسيحي لاستعمار المسلمين والتوصل إلى قتلهم واستغلال مواردهم واقتصادياتهم . ويكون قوله : "غلب الصليب" ، عبارة رمزية عن هذا الشعار ، متضمناً للتفاؤل بالنصر رفعاً لمعنويات الجيش المهاجم .
_____________________________
(1) المصدر جـ 1 ص 347 .
صفحة ( 464)
وهذا بالضبط هو الذي أعلن في ابتداء الهجوم الصليبي . إذ قالوا عند العزم عليه :
"وحق الانجيل هذا جيّد لنا ولهم – يعني الأوروبيين والصقالبة – وتصبح البلاد نصرانية" (1) . وقال أحد زعمائهم: "إذا عزمتم على جهاد المسلمين فأفضل ذلك فتح بيت المقدس ، تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر " (2) .
وكان ذلك عام 491 ، وقد استطاعوا أن يحققوا هدفهم هذا في العام المقبل . فقد احتلوا البيت المقدس بعد سلسلة من المذابح فيها وفي كل مدينة إسلامية مروا بها في طريقهم . حيث لم يكن مرادهم الفتح فقط ، بل التشفي من المسلمين ، وإبادتهم والانتقام من فتوحهم المظفرة .
ففي بلدة البيت المقدس نفسها كما يقول لنا التاريخ (3) : "ركب الناس السيف ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين ... وقتل الفرنج بالمسجد الأقصى ما يزيد على سبعين ألفاً منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم وعبادهم وزهادهم ، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف . وأخذوا من عند الصخرة نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم . وأخذوا تنوراً من فضة وزنه أربعون رطلاً بالشامي . وأخذوا من القناديل الصغار مئة وخمسين قنديلاً نقرة ، ومن الذهب نيفاً وعشرين قنديلاً ، وغنموا منه ما لا يقع عليه الاحصاء " .
وبقي البيت المقدس تحت الاحتلال المباشر للصليبيين ما يقرب من مئة عام ، توسعوا من خلالها إلى دمشق وبيروت وعكا ويافا وصيدا وصور وغيرها من المدن المسلمة . حتى سلط الله تعالى عليهم جماعة من عباده الشجعان بقيادة صلاح الدين الأيوبي . فأذاقوهم طعم الفرار والاندحار ، ونصر الله تعالى دينه وأعلى كلمته ، بعد دهر من المحنة والتمحيص .
وقد بدأ صلاح الدين بالأطـراف،فاسترجعها منهم ، في حروب قاسية ، حتى استطاع فتح البيت المـقدس عـام 583(4). بالصلح ، بعد حصار طويل ومناوشات طويلة ، أظهر فيها كل من المسلمين والافرنج غاية الاستبسال والصمود.
_______________________________________
(1) الكامل جـ 8 ص 185 . (2) المصدر والصفحة وانظر الفتوحات الاسلامية جـ 1 ص 500 .
(3) الكامل جـ 8 ص 189 والفتوحات جـ 1 ص 504 . (4) الكامل جـ 9 ص 175 وص 182 والفتوحات جـ 1 ص 520 .
صفحة ( 465)
وهذا هو المصداق الحقيقي القطعي لقول النبي (ص) – في الحديث الشريف - : " فيغضب رجل من المسلمين ، فيقوم إليه فيدقه " . يعن يقو مإلى الصليب فيدقه . وهذا الرجل هو صلاح الدين الأيوبي نفسه ، وغضبه المشار إليه في الحديث إنما هو لأجل الصليبيين بلاد الاسلام ، وبغاية تنظيفها منهم وإعلاء كلمة الاسلام فيها . والفكرة في أساسها من أعظم الأفكار الاسلامية شموخاً وإخلاصاً ومشروعية ، وإن كان التطبيق أحياناً ينطلق من زوايا منحرفة حادة .
وقوله : " يقوم إليه " ، يعني يتصدى لمعارضته ومقاومته ومنازلته . وقوله : "يدقه "، أي يكسر الصليب ويبيده وينفيه . وهو إخراج الصليبيين من بلاد الاسلام ، وإزالة حكمهم واحتلالهم عنها .
ولنا في تفسير هذه الحملات الظافرة ، بعد أن كانت جذوة الثورة الحرارية لدى المسلمين قد خمدت منذ قرنين من الزمن ، لنا فيها تفسيرات وبيانات ، يطول المقام بعرضها .
وقوله (ص) : "فعند ذلك تغدر الروم وتجتمع للملحمة " . كناية عن بدء عصر النهضة الحديثة في أوروبا . تلك النهضة التي بدأت جذور جرارتها والتحسس إليها من خلال الحروب الصليبية نفسها . فبينما كنا نجد الافرنج يستجيرون بالمسلمين ويتعاهدون معهم ويشتركون معاً في حروب ذات هدف موحد . وهذا معناه أن فكرة الاستعمار الأوروبي لم يكن لها وجود ، بل كانت أوروبا تنظر إلى المجتمع المسلم نظرة الند للند على أقل تقدير .
ولكن نهضة الحروب الصليبية هي التي أوجبت التحسس الأوروبي وإذاقتها طعم الانتصار والاثراء على حساب الشعوب الضعيفة ، وكل ما فعلته أوروبا بعد ذلك أنها جردت نهضتها عن العنصر الديني وأبدلته بالمفهوم المادي العلماني للعالم ، وهذا هو الفرق الأساسي بين النهضة الأوروبية الحديثة والنهضة الصليبية .
يشير إلى مثل هذا المفهوم بعض المؤرخين (1) ويقول : "إن تلك الحروب وإن هلك فيها كثير من النفوس ، وذهب فيها كثير من الأموال ، من غير حصول على المقصود ، "باعتبار فشل الافرنج واندحارهم في تلك الحروب ". لكنه أعقب نتائج نافعة لهم .
____________________________
(1) الفتوحات الاسلامية جـ1 ص 366 .
صفحة ( 466)
منها : انهم من ذلك الوقت شرعوا في ترتيب العساكر وتعلموا بمواصلتهم المسلمين صناعة التجارة والزراعة وكثيراً من العلوم العقلية والفلكية . والفوا التواريخ النافعة وتوسعوا في معرفة علم الفلك وألّفوا فيه ، وتخلقوا بأخلاق الحضر . وتعودوا الاسفار براً وبحراً لاكتشاف أحوال الأقطار ، واكتشفوا أمريكا في أسفارهم سنة 890 هجرية ، ولم تكن معلومة لأحد قط .
واكتسبوا أنواع الفروسية واللعب بالخيل والرماح ... وتعلموا أيضاً المشورة في الأحكام وعلموا أن الملك يفسد بالاستبداج وعدم المشورة فدونوا لهم أحكاماً وقوانين يرجعون إليها . واستكثروا من جمع كتب الاسلام وترجمتها بلسانهم ليعلموا معانيها ، فاخذوا منها ما يكون به صلاح الملك . واتخذوا مدارس لتعليم أنواع الفنون ، وعرفوا منها ما يكون به صلاح الملك.واتخذوا مدارسهم لتعليم أنواع الفنون، وعرفوا أن الملك لا ينتظم إلا بذلك كله". انتهى كلامه .
إذن فالأساس الذي أيقظ عندهم النهضة الحديثة على ضخامتها وجبروتها ، هو ما أوجبته الحروب الصليبية من الانفتاح على العالم والشعور بالمسؤولية تجاه الرقي والتقدم ، في الاتجاه الذي فهموه وطبقوه .
ونسبة الغدر إلى الروم ، باعتبار نقضهم لعهد الهدنة وإقرارهم لفكرة الحروب الصليبية .
ومعنى اجتماعها هو محاولة زرع الاتفاق بين شعوبها والشعور بالمسؤولية والهدف المشترك بينهم علمياً واقتصادياً وسياسياً ، كما سمعنا .
ولعل أوضح وألطف عبارة رمزية يمكن أن يعبر بها على هذا الغدر والاستعمار بما يحمل من تخطيطات فكرية وعقائدية وعسكرية واقتصادية ... ما قاله النبي (ص) : - برواية ابن ماجة – "فيأتون تحت ثمانين غاية ، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً " . وهذه الأرقام ليست للتحديد بل للتعبير عن مجرد الكثرة ، مع بيان اختلاف مراتبها ، فعدد الأفراد الذي يعملون تحت كل غاية أكثر عدداً من مجموع اختلاف مراتبها ، فعدد الأفراد الذين يعملون تحت كل غاية أكثر عدداً من مجموع الغايات .
صفحة ( 467)
وهذا هو الذي حصل فعلاً ، فقد جاءت أوروبا إلى الشرق المغلوب على أمره ، تحت عشرات الشعارات والمصالح بل المئات منها . وأما المؤيدين المغرورين بكل غاية من هذه الغايات ، والمتحمسين لها على اعتبارها الغاية القصوى في الكون بزعمهم ... فأفرادهم يعدون بالآلاف بل بالملايين .
ولكن النبي (ص) لم يكن يمكنه التصريح قبل أكثر من ألف عام لا بعشرين ألف . حفظاً لقانون : "كلم الناس على قدر عقولهم " .ولم يكن المجتمع يومئذ بقادر على تفهم شيء مما وقع بعد ذلك ، بأكثر مما صرح به الحديث الشريف . فان مجموع الممالئين لأوروبا بنص الحديث الشريف مائة وستون ألفاً من الناس .
وأما ما أضافه أبو داود إلى الحديث ، وهو قوله : "ويثور المسلمون إلى أسلحتهم ، فيقتتلون ، فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة .." فهو عبارة عن الثورات التي يقوم بها المسلمون خلال التاريخ ، ضد الملحمة الكبرى : الاستعمار والتعبير بالثورة أوضح قرينة على ذلك .
قوله : "فيقتتلون " ، يعني معسكر ومعسكر الروم ، أو المستعمرين .
إلا أن الاستعمار سيكون أقوى من أن يقهر ، والمسلمون الثائرون بالرغم من اندفاعهم واخلاصهم أقل عدداً وعدة من أن يستطيعوا الدفاع الحقيقي البليغ . بل هم لا محالة – على أفضل تقدير – سيتهاوون في ميدان الشهادة واحداً بعد الآخر "فيكرم الله تلك العصابة بالشهادة " .
ونحن إذا لاحظنا تاريخ الثورات التي قامت في بلاد الاسلام منذ تاريخ الاستعمار إلى ما بعد بداية القرن العشرين الميلادي ... نجدها قائمة على أساس إسلامي ، بشكل وآخر : كثورة الجزائر في بدايتها بقيادة الشيخ عبد القادر الجزائري ، وثورة العشرين في العراق بقيادة الشيخ محمد تقي الشيرازي .
وإنما أصبحت الثورات في العالم تقوم على أساس مادي صرف في العقدين الأخيرين تقريباً . وذلك تحت التأثير الأوروبي المادي الذي غزانا في عقر دارنا وسيطر على أفكارنا وحياتنا ، حين لم تجد بلاد الاسلام مقاومة حقيقية وجواباً عسكرياً حاسماً ، على المد المادي الجارف .
صفحة ( 468)
الأمر السابع : من العلامات التي تحققت في التاريخ ، مقاتلة الترك .
أخرج البخاري في كتاب الجهاد من صحيحة (1) عن رسول الله (ص) أنه قال : "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك، صغار الأعين حمر الوجوه ذلق الأنوف ، كأن وجوههم المجان المطرقة ..." الحديث . وقد عقد الترمذي وأبو داود وابن ماجة في صحاحهم أبواباً بهذا العنوان ، فراجع .
وهذا منه (ص) في الأرجح إشارة إلى وصول الفتح الاسلامي إلى بلاد الترك . وقد تحقق ذلك بعد وفاة النبي (ص) عام اثنين وعشرين للهجرة ، بقيادة عبد الرحمن بن ربيعة .
وذُلْف الأنوف : صغارها . يقال : ذَلِف الأنف إذا صغر واستوت أرنبته ، فصاحبه أذلف ، والمؤنث ذلفاء والجمع ذُلف بضم فسكون . والمجان جمع مجن وهو الترس . والمطرقة بضم الميم وتشديد الراء ، مأخوذ من الطرق ، يقال : طرّق الحديد إذا مدده ورققه . وهو كناية عن سعة الوجه .
ومن هنا ورد في بعض الأحاديث وصفهم بكونهم عراض الوجوه ، كالذي أخرجه ابن ماجة (2) : "لا تقوم الساعة حتى تقاتلون قوماً صغار الأعين عراض الوجوه " الحديث .
وأخرج مسلم عدة أحاديث بهذا المضمون (3) ولم يذكر فيها اسم الترك ، غير أنه يمكن أن يكون ما أخرجه البخاري قرينة عليه . فيكون ذلك مما تحقق في التاريخ الاسلامي .
الأمر الثامن : فتح القسطنطينية :
أخرج مسلم : أن رسول الله (ص) قال : " لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق او بدابق ، فيخرج اليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ " ... إلى أن يقول : "فيفتحون قسطنطينية" .. الخ . الحديث .
__________________________
(1) الفتوحات جـ1 ص 152 . (2) أنظر جـ 8 ن ص 175 وما بعدها . (3) أنظر جـ 8 ص 175 وما بعدها .
صفحة ( 469)
وهذا ما تحقق فعلاً ، بعد عدة قرون من تسجيله في المصادر الحديثة ، فضلاً عن زمن التنبؤ به من قَبِلِ النبي (ص) . فيكون من هذه الناحية ، كما قلنا في التنبؤ بالحروف الصليبية ، على مستوى المعجزات .
وفاتح القسطنطينية هو السلطان محمد الثاني بن السلطان مراد ، من أوائل الملوك العثمانيين ، الذين حكموا البلاد الاسلامية باسم الدين ردحاً طويلاً من الزمن . وقد تم الفتح ودخول المسلمين فيها عام 857 للهجرة (1) وسميت بعدئذ باسلامبول نسبة إلى الاسلام بعد النصرانية ، وأصبحت العاصمة الرئيسية للدولة العثمانية .
ونكرر هنا القول الذي ذكرناه في موقف صلاح الدين الأيوبي ... من أن فكرة الفتح أساساً مجيدة وعظيمة في الاسلام ، ومن هنا أعتبر النبي (ص) الجيش الفاتح " من خيار أهل الأرض يومئذ " . وهذا لا ينافي وجود نقاط ضعف في العقيدة أو السلوك من الجهات الأخرى .
لا يبقى بعد هذا الاحتمال أن يكون المقصود من الحديث النبوي هو أن فاتح القسطنطينية هو الامام المهدي (ع) بعد ظهوره ، كما ورد في بعض الأخبار (2) . وقد يستدل على ذلك بأطراء النبي (ص) على الفاتحين ، كما سمعنا ، فان أشد انطباقاً على أصحاب المهدي (ع) منه على الجيش العثماني بطبيعة الحال .
هذا الاحتمال غير صحيح ، لصراحة الحديث النبوي ، بان القسطنطينية تؤخذ من الروم ، وهو ما حدث في الفتح العثماني . وأما المهدي (ع) فسوف يفتحها تارة أخرى ، إلا أنه سوف يأخذها من المسلمين المنحرفين ، كما يأخذ سائر البلاد الاسلامية غيرها . وإنما ذكرت في الأخبار لأهميتها الجغرافية واستراتيجيتها العسكرية .
____________________________________
(1) الفتوحات ، جـ 2 ص 124 وما بعدها . (2) انظر كشف الغمة ، جـ 3 ، ص 264 .
صفحة ( 470)
ويؤيد ذلك ، قوله في الحديث النبوي عن الجيش الفاتح : "فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً . ويقتل ثلثهم أفضل الشهداء . ويفتح الثلث ... " الحديث (1) . وهذا الانقسام مما لا يمكن حدوثه في جيش المهدي الفاتح للعالم كله ، ببيعة الحال .
وأما وصفهم بكونهم من خيار أهل الأرض ، وإن شهداءهم أفضل الشهداء ... فقد عرفنا تفسيره الصحيح .
وعلى أي حال ، فهذه الأمور الثمانية ، هي أهم ما ورد في الأخبار من العلامات التي تحققت في التاريخ .
* * *
علامات أخرى متحققة :
بقيت هناك عدة علامات ذكرها الشيخ المفيد في الارشاد مختصراً ، وقال أنها وردت في الآثار وجاءت بها الأخبار . منها عدد قد تحقق في التاريخ ؛ أو يمكن حمله على مصاديق مفهومة متيقنة . وإنما عزلناها عن العلامات السابقة لأننا لم نجدها في الأخبار ، فيما عدا رواية المفيد لها مرسلاً بدون سند .
وتكون القاعدة العامة ، في التشدد السندي ، رفضها ما لم تقم قرائن واضحة على صدقها . وقد سبق أن قلنا أن أدل دليل على صدق الرواية تحقق مضمونها في الخارج على مدى التاريخ . وسنختار ما يمكن القول بتحققه فنذكره فيما يلي :
أولاً : مقتل الحسني :
ولا شك أن العشرات من ذرية الامام الحسن الزكي عليه السلام ، ثاروا في أيام الدولة الأموية والعباسية ، وواجهوا من القتل والتشريد من قبل السلطات الشيء الكثير ... كما هو أوضح من أن تدخل في تفاصيله . ولمن يراجع مقاتل الطالبيين لأبي الفرج خير المعرفة بذلك .
وإن في دولة طبرستان التي أسسها الحسن بن الحسني العلوي عام 250 ، والتي استطاعت الصمود ردحاً طويلاً من الدهر ، بالرغم من كيد الأعداء ، خير دليل على صمود هذه الذرية الطاهرة واستبسالهم ضد الظلم والطغيان .
_____________________________
(1) ص 336 وما بعدها .
صفحة ( 471)
نعم ، هناك احتمال أن يراد بالحسني : النفس الزكية التي ورد أنها تقتل قبل الظهور بخمس عشرة ليلة . إلا أنه ليس باحتمال وجيه ، لأن الخبر الدال على مقتل النفس الزكية في مثل ذلك الموعد ، غير مقبول بالتشدد السندي على ما سيأتي . كما أن كون النفس الزكية التي تقتل في ذلك الحين – لو صح – من أولاد الحسن عليه السلام ، أمر لا دليل عليه .
ثانياً : اختلاف بني العباس في الملك الدنيوي :
وحقيقته التاريخية أوضح أيضاً من أن يفاض في تفاصيلها وقد سبق في هذا التاريخ والذي قبله عن ذلك الشيء الكثير .
ثالثاً : إقبال رايات سود من قبل خراسان .
وقد عرفنا انطباق ذلك على ثورة أبي مسلم الخراساني . وفي هذه العلامة اخبار مسندة نرويها فيما بعد .
رابعاً : ظهور المغربي بمصر وتملكه الشامات :
ولعمري أن مصر قد غزت الشام واستولت عليها ، عدة مرات في التاريخ الاسلامي . كالذي فعله ابن طولون ثم المعز الفاطمي ثم إبراهيم باشا . ثم كان آخرها تلك المحاولة التي سميت باسم الجمهورية العربية المتحدة .
إلا أن المغربي من هؤلاء هو المعز الفاطمي،لأنه من ذرية المهدي العلوي الافريقي الذي نشر دعوته عام 396(1) في الشمال الافريقي . وبقيت دولته قائمة ، حتى انتقل عنها المعز معد بن اسماعيل إلى مصر عام 358 (2) . وأزال عنها كافورا الأخشيدي .
وفي نفس العام سارت جيوشه إلى طبرية ومنها إلى دمشق . واستولى عليها قائدة ابن فلاح عام 359 . وخطب فيها المعز واستقر فيها ملكه (3) .
فانظر كيف ظهر المغربي بمصر ، وملك الشامات ، طبقاً لهذه النبوءة .
___________________________________
(1) الكامل ، جـ 6 ، ص 133 . (2) ابن الوردي ، جـ 1 ، ص 308 . (3) المصدر ، ص 409 .
صفحة ( 472)
خامساً : نزول الترك الجزيرة :
وأرض الجزيرة هي أرض العراق فيما بين النهرين ، وهو اصطلاح قديم ومعروف .
وقد بقيت هذه الأرض تحت الحكم العثماني التركي ردحاً طويلاً من الزمن ، يبدأ من عام 941 هجرية ، ويستمر بقية القرن العاشر والقرون التي تليه حتى القرن الرابع عشر الحالي ، حيث سقط حكمهم عام 1335 هجرية ، بالاحتلال البريطاني للعراق (1) أثناء الحرب العالمية الأولى .
وهذه من التنبؤات التي حدثت بعد صدور الحديث وكتابته في المصادر بعدة قرون . حيث توفي الشيخ المفيد صاحب الارشاد عام 413 (2) . وحصل الاحتلال التركي للعراق بعده بخمسمئة وثمانية وعشرين عاماً . إذن فهو من هذه الناحية ، كعدد مما سبق ، تنبوءاً بالغيب على مستوى المعجزات .
سادساً : نزول الروم الرملة :
والروم في لغة عصر المعصومين عليهم السلام ، هم الأوروبيون بشكل عام ، كما سبق أن ذكر في تاريخ الغيبة الصغرى (3) . والرملة منطقة في مصر ومنطقة في الشام . وعلى كلا الحالين يكون هذا التنبوء اخباراً عن الاستعمار الفرنسي ، أما إلى مصر بقيادة نابليون بونابرت في حملته المشهورة ، أو إلى سوريا حيث بدأ الاحتلال الفرنسي فيها بإخراج العثمانيين عنها بعد الحرب العالمية الأولى .
وعلى أي حال ، فالنبّوءة واقعة وصحيحة على المستوى التاريخي . وهذه أيضاً من التنبؤات الاعجازية التي سجلت في المصادر قبل حدوثها بقرون .
سابعاً : خلع العرب اعنتها وتملكها البلاد ، وخروجها عن سلطان العجم :
وهو ما نعيشه في هذا العصر ، عصر الثورات في البلاد العربية بقصد التحرر من الاستعمار الأجنبي ، وسيطرة أشخاص من أهل البلاد على الحكم .
__________________________________
(1) دليل خارطة بغداد ، ص 286 إلى ص 295 . (2) أنظر الكني والألقاب ، جـ 3 ، ص 171 ، ط النجف 1376 – 1956 .
(3) أنظر ص 256 وما بعدها .
صفحة ( 473)
وخلع الاعنة تعبير مجازي أما عن الثورة أو عن الانحراف عن زمام الدين وأحكامه حلاً وتصريف الأمور تحت شعارات أخرى لا تمت إلى الدين بصلة . وكلاهما قد حدث فعلاً . والتعبير بالعرب ربما كان قرينة على ذلك ، حيث يمكن أن يدل على أن الثورات تقوم على أساس شعار العروبة لا على أساس الاسلام .
وتملكها البلاد يعني سيطرة الناس من أهل البلاد على الحكم . وخروجها عن سلطان العجم عبارة عن محاولتها التحرر من الاستعمار والخروج عن سيطرته . فان لفظ العجم غير مختص بالفرس ، كما يتخيل العامة ، بل يشمل كل شخص غير عربي ، مهما كانت لغته .
فانظر إلى هذا التنبؤ الذي لم يحدث إلا بعدما يزيد على الألف عام من صدوره وتسجيله في المصادر .
ثامناً : ثبق في الفرات ، حتى يدخل الماء في أزقة الكوفة :
يقال : ثبق النهر ، إذا كثر ماؤه وأسرع جريه . وهو عبارة أخرى عن الفيضان . وقد حصلت هذه النبوءة في العديد من السنين ، وشاهدت الكوفة مثل هذا الفيضان كثيراً . وقد عاصرنا بعض ذلك .
تاسعاً : عقد الجسر مما يلي الكرخ بمدينة بغداد :
كان الناس في بغداد ، خلال العصر العباسي بشكل عام ، يكتفون بجسر أو جسرين بين جانبي دجلة (1) في الأغلب. وأما اليوم فبين جانبي بغداد عدة جسور ، بعضها تجاه الكرخ وبعضها تجاه الرصافة .
ولم نستطع أن نتبين تاريخياً أن أول جسر عقد إلى جانب الكرخ ، كان في أي عام ومن قبل أي سلطة . وليس ذلك مهماً في حدود بحثنا .
عاشراً : اختلاف صنفين من العجم ، وسفك دماء كثيرة فيما بينهم :
وإذا كان المراد من العجم ، غير العرب من البشر ، كما قلنا ، كان كل حرب تقع بين معسكرين أو دولتين غير عربيتين ، يمكن أن يكون مصداقاً لهذه النبوءة .
___________________________________
(1) أنظر دليل خارطة بغداد ، ص 149 وص 193 .
صفحة ( 474)
ويكفينا أن نعرف أن مثل هذه الحروب لم تكن مهمة ولا لفتة للنظر عالمياً في زمن النبي (ص) والأئمة المعصومين(ع). وإنما تمخضت هذه الحروب في الأزمنة المتأخرة عن ذلك بعدة قرون .
ولسنا بحاجة إلى تحصيل المثال على ذلك ، من الحروب ... بعد الحروب التي وقعت بين ألمانيا وفرنسا أو بين بريطانيا أو بين تركيا واليونان ... أو غير ذلك خلال التاريخ الحديث .
بل يكفينا النظر إلى الحربين العالميتين الواقعتين في النصف الأول من القرن الحالي . فان كل واحدة منهما تمثل خلافاً دموياً بين عدة دول غير عربية . وقد تسببت إلى إزهاق الملايين من النفوس . وقد كانت أشد تأثيراً على بلاد الاسلام من الحروب الأوروبية الداخلية التي كانت تحدث بين الافرنج في العصور الأسبق منها .
نكتفي بهذا المقدار من التنبؤات المتحققة تاريخياً ، وهي بمجموعها الواقعة دليلاً قطعياً على صدق قائليها المعصومين (ع) ذلك الصدق الدال على صدق سائر أقوالهم بما فيه اخبارهم عن ظهور الامام المهدي (ع) .
وقد يخطر في الذهن هذا السؤال : وهو أننا باستعراض هذه العلامات تاريخياً ، بل حتى العلامات التي لم تقع ، مما سنذكره ... نرى أن أكثرها تدور حول المنطقة الاسلامية من العالم . وأما التعرض إلى الحوادث تقع في المناطق الأخرى فهو في غاية القلة . فماذا حدث هذا الاختصاص .
فنقول في جوابه : إن لهذا الاختصاص دخلاً أساسياً في التخطيط الالهي ليوم الظهور . فان المخلصين الممحصين الذين يتم إعدادهم لتكفل مسؤولية الظهور مع المهدي (ع) هم من المسلمين لا محالة . وهم الذين ينبغي أن تنبههم العلامات – كما قلنا – إلى تحقق الظهور . مضافاً إلى الأفراد المخلصين من المرتبتين الثانية والثالثة ، من مراتب الاخلاص التي قلناها .
ومعه فمن المنطق أن تختص هذه العلامات ، بالشكل الذي تحقق هذا الهدف ... وذلك لا يكون إلا إذا كانت تحدث في العالم الاسلامي ، أو تكون ملفتة لنظر المسلمين إن حدثت في الخارج . وعلى هذا درجت كل العلامات الواردة عن النبي (ص) والأئمة (ع) إيفاء لهذا الغرض .
وبهذا ينتهي الكلام في النقطة الأولى من الناحية الأولى ، وهو ما دل التاريخ على حدوثه من العلامات .
صفحة ( 475)
النقطة الثانية :
فيما يشك في حدوثه من العلامات .
وما يمكن ضبطه من أسباب الشك ، كقاعدة عامة ، سببان :
أحدهما : الشك في مدلول الرواية ، باعتبار العلم برمزيتها ، وإن المراد منها مصاديق لا تتضح من اللفظ بصراحة. ومن هنا لا يفهم بوضوح انطباقها على الحوادث التاريخية الحاصلة ... وعدمه .
ثانيهما : الشك في ماقاله التاريخ ، بمعنى احتمال أن يكون المشار إليه في بعض التنبوءات ، أموراً أهملها التاريخ، ولم يتعرض لها . وما أكثر ما أهمل التاريخ من الحوادث .
ويتدرج في ذلك عدد من الوقائع والحروب ، ونحوها ، المذكورة في هذه الروايات . وسنحمل عنها فكرة كافية في الجهة الآتية من الكلام ان شاء الله تعالى .
لا يوجد ما يحول دون هذا الشك ، سوى التدقيق الزائد في فهم الروايات ، ومحاولة تنظيمها منطقياً موافقاص لقواعد الاسلام ، كما سنحاول في الجهة الآتية . مع التدقيق في المصادر التاريخية ، وفهمها فهماً منظماً أيضاً . وما بقي من الشكوكات ، لو فرض ثبوتها بالتشدد ، فالأفضل إيكال علمها إلى الله عز وجل .
النقطة الثالثة :
فيما يشك في تقدمه على الظهور ، وتأخره عنه ، بأحد السببين السابقين .
ويكون تداركه بالتدقيق في الروايات وفهمها فهماً منظماً بما في ذلك الروايات التي تتحدث عن الحوادث السابقة على الظهور أو التي تتحدث عما يحدث بعده .
والضابط الذي يمكن التوصل إليه الآن ، قبل الوصول إلى تفاصيل الجهة الآتية : هو أن كل حادثة تدل على الانحراف أو على بعض نتائجه ، فهي متقدمة على الظهور ، باعتبارها مرتبطة بعصر الفتن والانحراف المسبب عن التمحيص الالهي ، كما سبق أن عرفنا .
صفحة ( 476)
وكل رواية تدل على حسن الزمان وحصول الرفاه فيه وتطبيق الاسلام ، فهو راجع إلى ما بعد الظهور . وقد أسلفنا ذلك ، وأقمنا القرينة على أن ما دل على الانحراف غير مربوط بالحوادث المباشرة لقيام الساعة ، بل بالحوادث السابقة على الظهور .
إلا أن ما يندرج ضمن هذا الشك قليل نسبياً ، مع تكفل الكثير من الروايات ، التصريح بهذا التوقيت .
النقطة الرابعة :
فيما يعلم بتأخره عن الظهور من الحوادث . وهو لا يكون من علامات الظهور بطبيعة الحال .
يندرج في ذلك : ما يقع بعد الظهور مباشرة أو ما ينتج عنه ، أو ما يقع بعده بتاريخ طويل ، أو ما يقع قبل الساعة مباشرة .وكل ذلك قد نفرض قيام الدليل على تعيينه الزمني ، كما هو الأغلب ، وقد نفرض الشك في ذلك وتعذر الاستدلال عليه ... فيبقى علمه إلى الله عز وجل .وكل ذلك مما سنذكر تفاصيله في التاريخ الاتي من هذه الموسوعة إن شاء الله تعالى .
وبهذا تنتهي الناحية الأولى من الجهة الرابعة ، في الترتيب الزمني للحوادث .
الناحية الثانية :
في انقسام علامات الظهور من ناحية وقوعها على الأسلوب الطبيعي أو الاعجازي .
وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام ، يقع الكلام فيها ضمن ثلاث نقاط :
النقطة الأولى :
في الحادث الطبيعي الذي لا إعجاز فيه . وإنما اكتسب علاميته وإماريته عن الظهور ، باعتباره حادثاً مهماً ملفتاً للنظر ، اختاره النبي (ص) أو أحد الأئمة عليهم السلام ، ليكون دالاً على الظهور .
يندرج في ذلك كل ما أسلفناه مما وقع من العلامات في التاريخ ، وكل الحوادث التي اكتسبت علاميتها ودلالتها باعتبار دخلها في التخطيط الالهي كما قلنا . كما يتدرج في ذلك كثير من العلامات المروية الأخرى ، كقتل النفس الزكية وخروج الدجال ، وعدد من الحروب المروية مما عرفناه ومما سنعرفه .
صفحة ( 477)
ولابد أن نلاحظ ، بهذا الصدد أن المراد من كونه طبيعياً ، هو أن الحادث المقصود حقيقة للرواية لم يقع عن طريق المعجزة . وقد تكون الدلالة المطابقية معه جنة ونار على الرمز ، توحي بوجود المعجزة ، كالخبر الذي ورد عن الدجال ان معه جنة ونار فناره جنة وجنته نار ، والخبر الذي ورد عن انحسار الفرات عن كنز من ذهب . ونحوه مما سيأتي مع تفسيره في الجهة الآتية .
النقطة الثانية :
ما كان قائماً على المعجزة بمقدار إقامة الحجة ، طبقاً لقانون المعجزات الذي ذكرناه .
ونحن في صدد حساب ذلك ، لابد أن نرجع فيه إلى كل مورد ، لنرى مطابقته لهذا القانون وعدمه . وهذا واضح .
وانما لابد الآن من الاشارة إلى ما سبق ان اشرنا إليه ، ولم نعط تفسيره الكامل . من ان المستفاد من بعض الروايات قيام بعض العلامات على الاعجاز ، خصيصا لتنبيه المخلصين الممحصين على الظهور . فما هو تفسير ذلك ؟.
ولعل اوضحها واصرحها في ذلك ما روته المصادر الامامية ، بسند يكاد يكون متشابها لولا اختلاف في نسخ النساخ ، عن ابي جعفر الباقر عليه السلام انه قال : - برواية الشيخ الطوسي (1) - : "آيتان تكونان قبل القائم ، لم تكونا منذ هبط آدم عليه السلام إلى الأرض . تنكسف الشمس في النصف من شهر رمضان والقمر في آخره .
فقال رجل : يا ابن رسول الله ، تنكسف الشمس في آخر الشهر ، والقمر في النصف ؟
فقال أبو جعفر : أني لأعلم بما تقول ، ولكنهما آيتان لم تكونا منذ هبط آدم عليه السلام " .
_______________________________
(1) الغيبة ، ص 270 وانظر الارشاد ص 339 وغيبة النعماني ص 144 .
صفحة ( 478)
وروى النعماني في غيبته (1) عن ابي جعفر عليه السلام ايضا انه قال : " ان بين يدي هذا الامر انكساف القمر لخمس تبقى والشمس لخمس عشرة ، وذلك في شهر رمضان ، وعنده يسقط حساب المنجمين " .
وبسند آخر عن أبي عبدالله الصادق عليه السلام انه قال : "علامة خروج المهدي كسوف الشمس في شهر رمضان في ثلاث عشرة واربع عشرة منه " .
ولا شك بامكان ذلك عقلا ، وليس بمستحيل فالكسوف الشمسي يقع بسبب توسط القمر بين الشمس والأرض . ومن الواضح انه لا فرق في النتيجة وهي اختفاء الشمس ، بين ان يكون القمر مظلما في آخر الشهر او ان يكون مضيئاً في وسطه .
كما ان خسوف القمر يحدث لتوسط الأرض بينه وبين ان يكون هلالا في اول الشهر او آخره ، وبين ان يكون بدرا في وسطه . غير ان الظل الارضي اذا صار على القسم المظلم من القمر لم يؤثر فيه شيء ولم يكن رؤيته . وأما اذا صار هذا الظل على القسم المضيء من القمر ، اي الهلال ، اثر فيه وذهب ببعضه او بجميعه .
فيحسب التجريد العقلي ممكن وبقدرة الله تعالى ممكن . وهو الذي خلق الكون ، وله التصرف فيه كيف يشاء . وانما الشيء الذي لابد ان نعرفه هو مطابقته لقانون المعجزات ، مع التأكد من كفاية هذه الاخبار للاثبات التاريخي مع التشدد السندي الذي تسير عليه
اما بحسب قانون المعجزات ، فلا شك ان في حدوث ذلك تأكيدا وترسيخا لفكرة المهدي (ع) في اذهان الناس ، لا عند المخلصين الممحصين فقط ، بل عند كل من يعرف بان هذه الآية ستقع قبل الظهور . وسيتحول العديد من الناس إلى أشد المؤمنين بالمهدي (ع) والمدافعين عنه ، ممن لم يكن قبل ذلك على هذا الايمان . أو بتعبير آخر : انه يوجب صعود درجات الاخلاص في انفس المخلصين لإحدى مراتب الاخلاص السابقة .
______________________
(1) ص 145 .
صفحة ( 479)
ولعل ظاهر هذه الروايات ، كون هذه الآية من الآيات القريبة من الظهور . ومعه يكون ايجادها ارشادا وتنبيها للمخلصين الممحصين بالاستعداد للقاء القائم المهدي (ع) والجهاد بين يديه . باعتبار ان الفرد منهم لا يشعر بنجاز شرط الظهور وتحقق كما قلنا . ولعله أيضا يغفل عن عدد العلامات التي تقع وقوعا طبيعيا او يجهل ارتباطها بالمهدي (ع) . ومن هنا كان لا بد للتنبيه القوي أن يقع لكي يهز كل الضمائر المخلصة .
ومن المعلوم ان التفات مجموع المخلصين الممحصين إلى قرب الظهور ووقوعه ضروري . لان المفروض ان عددهم بمقدار الحالة لا أكثر ، فان نقصوا كان ذلك مخلا بنجاح اليوم الموعود . ومن هنا انبثقت الحاجة إلى هاتين الآيتين .
واما من حيث كفاية هذه الاخبار للاثبات التاريخي ، فهي من حيث العدد متعاضدة ومتساندة في اثبات مؤداها . ومعه تكون مقبولة ، ما لم تَّتَنَافَ مع قانون المعجزات ، والاّ لزم رفضها . فلو جزمنا بتوقف اقامة الحجة ، او ايجاد اليوم الموعود عليها ، فهو ، والا كان قانون المعجزات منافيا مع هذه الروايات .
ونحن لا نستطيع الجزم بهذا التوقف لكفاية المعجزات الاخرى لاقامة الحجة واضطلاعها بالمهمة ، فلا يتعين الحاجة إلى هذه المعجزة بالتعيين .
نعم ، لو لم تكن هذه الظاهرة اعجازية ، بل كانت نادرة الوقوع جدا في الكون ، بحيث لم توجد في عمر البشرية الطويل وان كانت لعلها قد وجدت قبلها ، كما قد يستشعر من الرواية . ففي مثل ذلك تكون الروايات الدالة على حدوثها كافية للاثبات التاريخي .
الا ان هذا الفهم بعيد جدا ، بعد فرض حدوث الخسوف والكسوف النادرين في شهر واحد ، فتبقى الظاهرة اعجازية. ولتدقيق هذه الفكرة مجال آخر .
ولعل مما يتدرج ضمن هذه المعجزات : الصيحة والنداء ، مما لم نحمله على محمل طبيعي . ومنها الخسف بالبيداء اذا لم نحمله على العقاب الدنيوي المستعجل أو على حماية أهل الحق . وسيأتي التعرض إلى كل ذلك في الجهة الآتية ان شاء الله تعالى .
صفحة ( 480)
النقطة الثالثة:
ما دل على اقامة المعجزات أكثر مما يقتضيه قانون المعجزات .
واوضح ذلك واصرحه ما دل على قيام المعجزات من قبل انصار الباطل والمنحرفين عن الحق . وذلك أدهى وأمر من مجرد قيام المعجزة بلا موجب ، فان فيه تأييدا للباطل واغراء بالجهل يستحيل صدوره عن الله عز وجل .
فان قال قائل : ان مبرر مشروعية ذلك هو ان سبب التمحيص منقسم إلى قسمين : طبيقي واعجازي . ولعمري ان السبب الاعجازي أشد تمحيصا وآكد نتيجة . فان الايمان بكذب من قامت المعجزة على يديه من أصعب الاشياء.
قلنا : كلا ، فان هذا مما لا يستقيم بالبرهان . فان المحيص الموجب للتربية الحقيقية ، ليس هو الا ما كان عن سبب طبيعي وعن عيش حياتي طويل .
واما التمحيص الاعجازي ، فقد يكون ممكنا لو توقف عليه اتمام الحجة . يندرج في ذلك كل معجزات الانبياء فانه –لامحالة- محك للتمحيص والاختبار اذ يرى من يؤمن بنتائجها ممن يكفر بها .
واما المعجزة الموهمة بالباطل و المغررة للجاهل ، فغير ممكنة الصدورعن الله عز و جل بالبرهان . والايمان بكذب من قامت المعجزة على يدبه غير ممكن الا على اساس الانحراف . وذلك ليس الا للبرهان القائم على ان الله تعالى لا يظهر المعجزة على يد الكاذب ، كما برهن عليه في محله من العقائد الاسلامية .
فكيف يكون الباطل المستحيل طريقا للتمحيص و اقامة الحق ، و تربية المخلصين . و لعمري ان ذلك قائم على الفهم السيء لقوانين الاسلام .
اذن فلا بد من استعراض ما ورد من الروايات المتنبئة بحوادث من هذا القبيل لاجل التخلص عنها في الجهة الاتية . ولابد ان نلاحظ سلفا ان ما هو الميزان في الرفض و الاخذ بالرواية انما هو مقصودها الواقعي لا عبارتها الرمزية.
وسنذكر الان عددا مما خالف قانون المعجزات ، فما كان صريحا في ذلك رفضناه . و ما كان رمزيا باعتبار الفهم المتكامل للروايات الذي سوف ياتي في الجهة الاتية ، امكن الاخذ به على تقدير امكان اثباته بالتشدد السندي .
وبمكن تعداد المهم من ذلك ضمن الامور التالية :
الامر الاول :
طول عمر الدجال ، على اساس الطروحة الكلاسيكية المشهورة عنه .
حيث دل ما اخرجه مسلم في صحيحه من الروايات و غيره ، على ان الدجال هو ابن صائد ، وانه لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من طلبه شخصيا منه . بل هو ادعى الرسالة ، وحاول عمر بن الخطاب قتله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ان يكنه فلن تسلط عليه ، وان لم يكنه فلا خير لك في قتله "(1) وفي رواية اخرى :" ان يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله "(2) وفي رواية ثالثة : "فان يكن الذي تخاف فلـن تستطيع قتـله "(3).
والمراد : انه لو كان هو الدجال ، فهو غير قابل للقتل اساسا ، لان الله تعالى قد قدر له طول عمره . وهذا النص ، بالرغم من انه لا يعطي الجزم بان ابن صائد هو الدجال بالتعيين . ولكنه يدل بوضوح بان لو كان هو الدجال ، فهو ممن لابد من بقائه إلى حين قيامه وظهوره . وبما يؤيد ذلك ما أخرجه مسلم أيضا (4) عن رسول الله (ص) انه قال: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال " . لو فهمنا منه طول العمر .
ولا نريد ان نناقش في ان ابن صائد هو الدجال ام لا .فقد طعن في ذلك محمد بن يوسف الكنجي في كتابه البيان(5). وانكره ابن صائد نفسه ، فيما أخرجه مسلم عنه (6) قائلا : "يزعمون اني الدجال ، ألست سمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، انه لا يولد له قال الراوي : قلت: بلى قال : فقد ولد لي : اوليس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يدخل المدينة ولا مكة . قلت : بلى قال :" فقد ولدت بالمدينة و ها انا ذا اريد مكة".
_____________________________________
(1) صحيح مسلم ، جـ 8 ، ص 192 . (2) المصدر ، ص 189 . (3) المصدر ، ص 190 .
(4) المصدر ، ص 207 . (5) ص 108 . (6) جـ 8 ، ص 190 .
صفحة ( 482)
و مما يدل على طول عمر الدجال : حديث الجساسة ، الذي اخرجه عدد من الصحاح منهم مسلم(1) و فيه يقول : "الرجال انا المسيح ، واني اوشك ان يؤذن لي في الخروج فاسير في الارض فلا ادع قرية إلا هبطتها في اربعين ليلة غير مكة و طيبة فهما محرمتان علي كلتاهما ". فاذا علمنا انه لم يؤذن له بالخروج من حين عصر تميم الداري الى الان ، وهو ما يزيد على الالف عام .. عرفنا كيف يدل هذا الحديث على طول عمره .
ولعمري ان من العجب ان اخواننااهل السنة و الجماعة ، يؤمنون به و بالمصادر الحديثة التي دلت عليه . ولكنهم يستبعدون غيبة المهدي (ع) وطول عمره . مع قلة الروايات عن الدجال وطول عمره و تكاثرها عن المهدي (ع) لهداية العالم و تنفيذ الغرض الالهي الكبير ، وليس الدجال كذلك .
فالجماعة يرون الدجال شخصا طويل العمر ، غائبا منعزلا في جزيرة في البحر ، كما يدل عليه حديث الجساسة . واما المهدي (ع) فشخص يولد في زمانه . على حين ان الذي ينبغي ان يقال بكونه هو الحق عكس ذلك –لو مشينا على الاطروحة اللكلاسيكية لفهم الدجال- وهو ان المهدي طويل العمر و غائب عن الانظار بالشكل الذي ذكرناه في القسم الاول من هذا التاريخ و اما الدجال فشخص يولد في حينه .
فان المهدي (ع) مذخور لثورة الحق و تطبيق الغرض الالهي الكبير . فهل بالامكان ان يقال : ان الدجال مذخور لثورة الباطل و اغراء الناس بالجهل ؟ وهل يصح ان يكون هذا غرضا الهيا ، بشكل من الاشكال ؟؟
_____________________
(1) جـ 8 ، ص 205
صفحة ( 483)
وانما الصحيح ، انطلاقا من هذه الاطروحة ، كون الدجال شخصا اعتياديا منحرفا او كافرا يوفق لانتشار حكمه وسلطته على رقعة كبيرة من الارض .
فيكون كل من اتبعه على الباطل ، وكل من خالفه على الحق .
واما على الاطروحة المقابلة ، وهي التي تنفي ان يكون الدجال شخصيا بذاته وانما هو عبارة رمزية عن التيارات الكافرة والمنحرفة فكريا وسياسيا واقتصاديا .. فهذا ما سنعرضه بشكل تفصيلي في الجهة الآتية . وقد يكون من الدليل عليها ما ورد من طول عمر الدجال على أي حال .
الامر الثاني :
ما ورد من منع الدجال دخول الحرمين : مكة والمدينة ، بطريق اعجازي .
يدل عليه حديث الجساسة نفسه (1) اذ يقول فيه الدجال : "فلا أدع قرية الا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة فهما محرمتان عليّ كلتاهما . كلما أردت أن أدخل واحدة أو واحدا منهما استقبلني ملك بيده سيف صِلتاً يصدني عنها" .
وهذا الحديث غير صالح للاثبات التاريخي ، بعد التشدد السندي الذي اتخذناه .
وهو لا يوضح لماذا يحرم على الدجال دخول مكة والمدينة ، ولماذا يمنع عنهما منها اعجازيا . فان كلا الامرين لا يصحان .
فان هذه الحرمة لا يخلو حالها من احد شكلين :
الشكل الاول :
ان تكون حرمة تكوينية قهرية ، يخططها الله تعالى من أجل حفظ احترام البلدين المقدسين من ان يعبث الدجال فيهما فسادا .
وهذه الحرمة غير ثابتة لهذين البلدين جزما ، والا لما أمكن احراق الكعبة في عهد يزيد بن معاوية الاموي (2) ،
___________________________________
(1) المصدر والصفحة . (2) الكامل ، جـ 3 ، ص 354 .
صفحة ( 484)
ولا استباحة المدينة ثلاثة ايام في وقعه الحرة (1) ولا هجوم القرامطة على الكعبة وسفكهم الدماء في المسجد الحرام وخلعهم الحجر الأسود ونقله إلى هجر (2) .
واذا لم تكن مكة والمدينة محصنتين تحصينا إلهياً قهرياً ضد هذه الحوادث وامثالها ، فلا معنى لمنع الدجال عنهما بهذا الشكل على أي حال .
الشكل الثاني :
ان تكون الحرمة تكليفية ، تشبه في فكرتها حرمة القتل والسرقة ، مع امكان الفعل بحسب أصله . وتنشأ هذه الحرمة من أحد سببين محتملين ، ان تم أحدهما فهو ، والا كانت منتفية أيضا .
السبب الاول :
ان الدجال شخص كافر نجس ، كالكلب والخنزير في نظر الاسلام .
فيحرم عليه دخول الحرمين المقدسين .
ولا نريد ان نناقش في كفر الدجال ونجاسته ، الا ان حرمة دخوله ، على هذا التقرير ، من تكليف المسلمين ، فيجب عليهم دفعه عنها وصده عن دخولها ان استطاعوا . أما هو فلا يشعر بهذه الحرمة ، لانه كافر ، وهو خلاف ظاهر الحديث .
السبب الثاني :
ان يكون سبب الحرمة تحصين اهل مكة والمدينة من الغواية والانحراف الذي يعطيه الدجال .
وهذه الحرمة صحيحة ، وثابتة لمعطي الانحراف واخذه . الا انها غير مختصة باهل مكة ، بل شاملة لكل الناس . على انها قد شرعت لاجل وضع الناس تحت التمحيص ، ومن حيث اطاعة هذا التشريع وعصيانه ، بما في ذلك اهل الحرمين والدجال نفسه ، فلا معنى لان يكون التحصين مكتسبا اهمية وقوة فوق درجة التمحيص الالهي . ولئن كان الحرمان مقدسين في الاسلام ، فان ساكنيهما كسائر الناس ، لم يثبت لهما أفضلية عن الآخرين .
__________________________________
(1) المصدر ، ص 310 وما بعدها . (2) المصدر ، ص 204 وأنظر الغيبة الصغرى ص 360 .
صفحة ( 485)
ومعه فالصحيح ، ان الله تعالى اذا اراد منع الدجال من دخول مكة والمدينة ، بشكل لا يزيد المخطط العام للدعوة الالهية ، فانه يوجد أحد امرين :
الامر الاول :
ان يصرف الله تعالى ذهن الدجال وهمته اساسا عن غزو هاتين المدينتين أو دخولهما ، بشكل لا يستلزم الجبر ولا الاعجاز ، فمثلا يمكن أن تصبح ظروف الدجال بشكل يدرك بوضوح عدم مطابقة دخول المدينة ومكة مع مصالحة .
الامر الثاني :
ان يمنع الدجال من دخولهما من قبل المسلمين الصالحين ، عن طريق الحرب أو غيرها .
هذا كله طبقا للفهم الكلاسيكي للدجال .
الامر الثالث :
اختلاف الزمان عما هو عليه الآن .
فمن ذلك : ما اخرجه مسلم (1) عن رسول الله (ص) وقد تحدث عن أيام الدجال .قال الراوي : "قلنا يا رسول الله، وما لبثه في الأرض . قال : اربعون يوما ، يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة ، وسائر ايامه كايامكم . قلنا يا رسول الله ، فذلك اليوم الذي كالسنة ، اتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : لا . اقدروا له قدره " .
وكما روى طول الزمان روى قصره أيضا .
أخرج البخاري (2) عن النبي (ص) انه قال : "يتقارب الزمان .." الخ .
___________________________________
(1) جـ 8 ص 197 . (2) جـ 9 ، ص 61 .
صفحة ( 486)
وأخرج ابن ماجة (1) : قال رسول الله (ص) – وهو يتحدث عن الدجال - : "وان أيامه أربعون سنة ، كنصف سنة، والسنة كالشهر ، والسنة كالجمعة ، وآخر أيامه كالشررة ، يصبح أحدكم على باب المدينة ، فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي .فقيل له : يا رسول الله . كيف نصلي في تلك الايام القصار . قال : تقدرون فيها الصلاة ، كما تقدرونها في هذه الايام الطوال ، ثم صلوا " .
ويكفينا في بطلان الحديثين ، تنافيهما وتعارضهما في المدلول ، من حيث دلالة أحدهما على طول الزمن والآخر على قصره ، في نفس الوقت ، وهو عصر الدجال .
فان قال قائل : ليس الطول والقصر ،على وجه الحقيقة ، بل يراد به الكناية عن الجو النفسي الذي يعيشه المسلمون يومئذ . فانه من المحسوس وجدانا مع الأُنس والفرح ينقضي الزمان بسرعة ، فكأنه قد قصر ، ومع الهم والكمد ينقضي ببطء فكأنه قد طال .
قلنا : ان هذا التفسير يبطل الفهم الاعجازي للحديث ، ويجعل المسألة نفسية طبيعية .. لا انه لا يحل التعارض ، لتهافت الخبرين من حيث الدلالة على الجو النفسي يومئذ . والمفروض هو الحديث عن الجو العام لدعم المسلمين، فهل هو جو الفرح لكي يكون الزمن قصيرا كما دل عليه أحد الخبرين ، أو هو الحزن والكمد ، لكي يكون الزمن طويلا ، كما دل عليه الخبر الآخر . اذن فالتعارض لا زال موجودا .
فان قال قائل : لعل حركة الدجال تحدث في بلاد السويد والنرويج التي يختلف فيها نظام الايام عن نظامنا .
قلنا : هذا لا يمكن حمل الحديث عليه لوجهين :
الوجه الاول :
ان المفروض في الفهم الاعتيادي للدجال ، هو خروجه في بلاد الاسلام ، وما أخرجه ابن ماجة صريح في أن المسألة لا تعدو الحجاز والعراق والشام . فراجع ، في حين ان البلاد الاسكندنافية ليست في بلاد الاسلام .
_________________________
(1) جـ 2 ، ص 1362 .
صفحة ( 487)
الوجه الثاني :
ان النظام المعطي في الحديث للايام فذ في بابه فالحديث الذي يخبرنا عن طول الزمان يقول : ان يوما واحدا من أيام الدجال طوله كطول سنة واليوم الذي بعده كطول شهر واليوم الذي بعده طوله كطول اسبوع .
وباقي الايام إلى الآخر كأيامنا اعتيادية .
والحديث الذي يخبرنا عن القصر ، يقول : ان السنة نفسها تصغر تدريجا ، فتصبح أولا كطول ستة أشهر ، ثم طول شهر ثم كطول الاسبوع ، وهكذا حتى تبقى الايام في النهاية كالشرارة الواحدة ، وتكون السنة عبارة عن 360 شرارة . قد لا تعدو الساعة الواحدة الزمنية .
ومثل هذا النظام في الطول أو القصر ، لا يوجد في أي مناطق العالم كما هو معلوم .
فاذا عرفنا ان ايجاد هذا النظام الجديد في أيام الدجال ، بالمعجزة ، لا مبرر له ، بل يكون في مصلحة الدجال نفسه، عرفنا عدم صحة هذه الاخبار . ما لم تدخل في فهم منظم متكامل جديد ، سنذكره في الجهة الآتية انشاء الله تعالى.
الأمر الرابع :
قبل الدجال لمؤمن ثم احياؤه له .
فمن ذلك ما أخرجه مسلم (1) عن أبي سعيد الخدري ، قال : "حدثنا رسول الله (ص) حديثاً طويلاً عن الدجال ، فكان فيما حدثنا أن قال : يأتي وهو محرَّم عليه أن يدخل نقاب المدينة ، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة. فيخرج اليه يومئذ رجل هو خير الناس أو من خير الناس . فيقول له : أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله (ص) حديثه " .
_________________________________
(1) جـ 8 ، ص 199 وانظر البخاري ، جـ 9 ، ص 76 بلفظ مقارب جداً .
صفحة ( 488)
فيقول الدجال : "أرأيتم ان قتلت هذا ثم أحييته ، أتشكون في الأمر .
فيقولون : لا . قال : فيقلته ثم يحييه . فيقول حين يحييه : والله ما كنت فيك أشد قط بصيرة مني الآن . قال : فيريد الدجال أن يقتله ، فلا يسلط عليه " .
وفي حديث آخر لمسلم (1) عن رسول الله (ص) يقول فيه :"فان رآه المؤمن قال : يا أيها الناس ، هذا الدجال الذي ذكر رسول الله (ص) . قال : فيأمر الدجال به فيشج ، فيقول : خذوه وشجوه ، فيوسع بطنه وظهره ضرباً . قال : فيقول : أو ما تؤمن بي ، فيقول أنت المسيح الكذاب .
"قال : فيؤمر به فيؤشر بالمئشار من مفرقه حتى يفرّق بين رجليه . قال : ثم يمشي الدجال بين القطعتين . ثم يقول له : قم . فيستوي قائماً . قال : ثم يقول له أتؤمن بي . فيقول : ما ازددت فيك إلا بصيرة .
"ثم يقول : يا أيها الناس ، انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس . قال : فيأخذه الدجال ليذبحه ، فُيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاساً ، فلا يستطيع إليه سبيلاً .
فيأخذ بيديه ورجليه ، فيقذف به ، فيحسب الناس إنما قذفه في النار ، وإنما اُلقي في الجنة . فقال رسول الله (ص): هذا أعظم شهادة عند رب العالمين " .
وهذا المضمون الذي يدل عليه ظاهر العبارة ، بأن تمكين الله تعالى للدجال من إقامة المعجزات ، يراد به فضحه وكشف كفره وغلطته للناس عن طريق صمود هذا المؤمن أمامه .
إلا أن هذا الدفاع غير صحيح ، فأنه إنما يصح على تقدير انحصار أسلوب فضحه وكشف دجله بذلك . إلا أنه من المعلوم عدم انحصاره بذلك . إذ يمكن أن تكشف عنه أفعاله ،عن طريق التمحيص الذي يمر به ، فيوجب فض نفسه بنفسه ويجري إلى حتفه بظلفه ، كالذي نرى من المبادئ المنحرفة اليوم ، ومن بعض الجبابرة السابقين ، الذين لم يخلفوا بعدهم إلا الكراهة ، كالحجاج وطغرل بك وتيمورلنك واضرابهم . ومعه لا حاجة إلى إقامة المعجزات من أجل كشفه .
____________________
(1) جـ 8 ، ص 200 .
صفحة ( 489)
ويدلنا على ذلك قول المؤمن – في نفس الرواية - : "يا أيها الناس ، انه لا يفعل بعدي بأحد من الناس . يبشرهم بأنه لن يقتل أحداً بعده .ومعنى ذلك أن قتله للناس معروف فيهم مشهور بينهم ، والتذمر من ظلمه عام في المجتمع. حاله في ذلك حال سعيد بن جبير الذي دعا حين أراد الحجاج قتله قائلاً :اللهم لا تسلطه على أحد بعدي". في قضيته المشهورة . ومعه فلا حاجة إلى قيام المعجزة لكشفه .
هذا بحسب ظاهر العبارة . وأما حمل هذه الأحاديث على الرمز ، فهو في غاية الاشكال .
الأمر الخامس : ضخامة الحمار الذي يركبه الدجال :
وذلك : فيما رواه الصدوق في اكمال الدين (1) عن رسول الله (ص) يقول فيه . " أنه يخرج على حمار ما بين أذنيه ميل ، يخرج ومعه جنة ونار ، وجبل من خبز ونهر من ماء ..." الخ . الحديث .
ومن المعلوم أن ما بين أذني الحمار الاعتيادي لا يعدو عرض الأصبعين أو الثلاثة أصابع . فإذا كان هذا المكان منه بمقدار ميل ، فيكف بضخامة أجزء جسده الأخرى .
وهذا – بلا شك – من فوارق الطبيعة المنسوبة إلى أحد المبطلين ، وقد برهنا على عدم امكان الأخذ به أو التصديق به ، بحسب القواعد الاسلامية العامة .
نعم ، يمكن حمله على ما سيأتي في الجهة الآتية : عطفاً على عدد من الأمور التي أخرجها الصدوق من صفات الدجال ، مما يمكن حمله على الرمز ، ويندرج في الفهم المتكامل العام ، على ما سنوضح إن شاء الله .
وأما أن معه جبلاً من خبز ونهراً من ماء ، فهو معارض ، بما أخرجه الصحيحان (2) عن المغيرة بن شعبة أنه قال: - واللفظ للبخاري - : "ما سأل أحد النبي (ص) عن الدجال ما سألته : وأنه قال لي : ما يضرك منه ؟ قلت : لأنهم يقولون أن معه جبل خبز ونهر ماء . قال : هو أهون على الله من ذلك " .
______________________________
(1) أنظر النسخة المخطوطة . (2) البخاري ، جـ9 ص 74 ، ومسلم ، جـ 8 ، ص 200 .
صفحة ( 490)
وسيأتي تفسير ذلك ، بشكل يرتفع به التعارض بين هذين الخبرين ، فانتظر .
الأمر السادس :
ما أخرجه الصحيحان (1) عن رسول الله (ص) أنه قال : "لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الابل ببصرى " .
ومن الواضح أن ما يدل عليه ظاهر العبارة ، حادث معجز لا ربط له بإقامة الحجة ، فلا يكون الاخبار عنه قابلاً للتصديق .
إلا أن المظنون أنه يراد به ظهور المهدي (ع) نفسه . فانه يظهر في أرض الحجاز ، كما دلت عليه الروايات ، كما سيأتي في التاريخ القادم . وأما التعبير عنه بالنار فباعتبار كونه ناراً على المشركين والكافرين والمنحرفين . مع الاشارة إلى سعة ضوئه ونوره بمعنى عدله ولطفه ، بالمقدار الذي يفهمه الناس أيام عصر النبي (ص) من سعة الأرض ، وانه بين أرض الحجاز إلى بصرى الشام بون بعيد ومسافة مترامية .
والنص على أعناق الابل ، فيه دلالة على أن الابل متوجهة بوجهها وعنقها إلى مصدر النار والنور . ومعنى ذلك : ان المتوجّه إلى نور المهدي عليه السلام والمعتقد بهداه هو المستضيء بنوره والمهتدى بعدله وحكمه .
وأما كون الظهور من اشراط الساعة ، فواضح ، باعتبار كونه سابقاً عليها ، ولو بدهر طويل من الزمن .
الأمر السابع : النار التي تخرج من اليمن :
وذلك : فيما أخرجه مسلم (2) عن النبي (ص) في تعداد أشراط الساعة ، أنه قال : "وآخرها نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم " . وفي رواية أخرى : "ونار تخرج من قعر عدن ترحِّل الناس " . ونحوه ما رواه الشيخ في الغيبة (3) إلا أنه قال : " تسوق الناس إلى المحشر " .
__________________________________
(1) البخاري ، جـ 96 ، ص 73 ، ومسلم ، جـ 8 ، ص 180 . (2) جـ 8 ، ص 39 وكذلك الحديث الذي بعده .
(3) انظر ص 267 .
صفحة ( 491)
والظاهر أن هذا – على تقدير صحته – من أشراط الساعة المتأخرة عن الظهور ، والقريبة من يوم القيامة . كما تشير إليه الرواية الأولى ، مصرحة أنها آخر الآيات . ومعه يخرج عن محل بحثنا ، فلا حاجة إلى تمحيصه .
الأمر الثامن : أنه سوف يحسر الفرات عن كنز من ذهب :
أخرج الصيحان (1) بسند يكاد يكون مشتركاً وبلفظ واحد من النبي (ص) أنه قال : "يوشك الفرات أن يحسر عن كنز من ذهب ، فمن حفره فلا يأخذ منه شيئاً " .
وأخرها (2) بسند آخر يقول : عن جبل من ذهب . وأضاف مسلم (3) عليه :"يقتتل الناس عليه ، فيقتل من كل مئة تسعة وتسعون .ويقول كل رجل منهم : لعلي أكون أنا الذي أنجو "، ومثلها رواية أخرى أيضاً (4) . وأخرجت الصحاح الأخرى مثل ذلك ، غير أننا لا نروي عنها فيما أخرجاه .
ونحن إذا غضضنا النظر عن عدم إمكان إثبات مثل هذا المضمون ، بالتشدد السندي ، أمكننا أن نفهمه على عدة أطروحات :
الأطروحة الأولى :
ما هو ظاهر العبارة من أن ماء الفرات ينكشف ويزول عن محله ، فيظهر تحته أكداس عظيمة من الذهب ، فيطمع فيه الناس ويقتتلون على أخذه . والتكليف الاسلامي الواجب يومئذ – كما تصرح به الرواية الأولى - :" أن لا يشارك الفرد في الطمع ولا في الحرب ، بل عليه أن ينصرف عن الأخذ من هذا الذهب تماماً " .
وهذه الأطروحة لو صحت ، فهي لا تدل على حصول المعجزة ، في انحسار الفرات ، بل لعله ينحسر تحت ظروف طبيعية معينة ، كتغيير مجراه ، فيرى الناس تحته ذهباً كثيراً لم يكونوا يعلمون بوجوده .
إلا أن حصول ذلك بعيد جداً بالوجدان ، لا يكاد يكون محتملاً أصلاً .
________________________________
(1) البخاري ، جـ 9 ، ص 73 ، ومسلم جـ 8 ، ص 175 . (2) نفس المصدرين والصفحتين .
(3) جـ 8 ، ص 174 . (4) المصدر ، ص 175 .
صفحة ( 492)
الأطروحة الثانية :
أن يفسر هذا الحديث بمقدار الخيراتالعظيمة التي ينتجها هذا النهر المبارك ... أما بحمله على الخيرات الزراعية التي تحصل على جانبيه على مر التاريخ ، وقد تحصل في بعض السنين أضعاف ما تحصل في سنوات أخرى . وأما بحمل الخبر على أنه سيُستخرج من مياهه النفط المسمى بالذهب الأسود . ولعل هذا أنسب بما يعطيه الحديث من أن الكنز كامن في جوف الفرات أو تحت مائه ، وأنه لا يمكن استخراجه إلا بإزالة الماء بشكل من الأشكال .
ومعه ، يحمل اقتتال الناس على التنافس الاستعماري على منطقة الفرات طمعاً بكنوزه من قبل الدول الكبرى المتعددة ، هذا التنافس الذي كلف الكثير من الأموال والنفوس . وأما بقاء الواحد بالمئة من المتحاربين ، فلا بد أنه يحمل على المبالغة في كثرة القتلى لا على التحديد .
الأطروحة الثالثة :
أن يحمل الفرات على معنى الحق أو الدعوة الالهية ، بقرينة قوله عز من قائل :
" وهو الذي مرج البحرين : هذا عذب فرات بالحق والاجاج بالباطل ، وجعل بينهما برزخاً وحجراً
ومحجوراً " (1) . مع تفسير الفرات بالحق والاجاج بالباطل . بقرينة ورودها في سياق الحديث عن الدعوة الالهية، فيما سبقها من الآيات . قال الله تعالى : " ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا . فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهاداً كبيرا .وهو الذي مرج البحرين ... " الخ . ويحمل الحجر المحجور على الفاصل الذاتي البرهاني الذي لا يمكن خلطه بين الحق والباطل .
ويكون معنى انحسار الفرات عن الذهب ، اتضاح الحق بمقدار كبير وزيادة مخلصيه ومؤيديه ، في عصر الفتن والانحراف ... فيتصدى لهم جماعة من المنحرفين والكافرين ، فيقاتلهم المؤمنون دفاعاً عن أنفسهم فيكثر القتلى حتى يمكن أن يقال : على وجه المبالغة : أنه لم يبق من الناس المتحاربين ، إلا واحداً من المئة .
ويحمل النهي عن الأخذ من الذهب على لزوم عدم الاعتداء على الحق والمشاركة في الحرب ضده .
_____________________________
(1) الفرقان : 25/53 .
صفحة ( 493)
فإن صحت إحدى هذه الأطروحات الثلاث ، فهو وإن لم تصح كلها ، ولم يصح الخبر بالتشدد السندي ، فقد استرحنا منه ، وإن صح سنداً ولم نفهم مدلوله ، أوكلنا علمه إلى الله تعالى ورسوله .
الأمر التاسع : وقوع المسخ :
أخرج ابن ماجة (1) عن النبي (ص) : "بين يدي الساعة مسخ وخسف وقذف " . وفي حديث آخر : "ويكون في آخر أمتي خسف ومسخ وقذف " . وبهذا المضمون حديثان آخران .
وأخرج المفيد في الارشاد (2) عن أبي الحسن موسى (ع) في حديث قال : "والمسخ في أعداء الحق" .
وهذا المضمون لا يمكن أي يصمد للنقد . فان المسخ وإن كان ممكناً ومتحققاً في التاريخ ، كما نص عليه القرآن الكريم ... إلا أنه لا يقع في هذه الأمة ، للدليل الدال على أن العقوبات التي وقعت على الأمم السابقة لا يقع مثلها على هذه الأمة ، ومن هنا سميت بالأمة المرحومة .
نعم ، يمكن أن يحمل المسخ على الرمز ، من حيث انتقال الأفراد من الهداية إلى الضلال . وهو أمر صحيح ومتحقق في عدد من الأفراد . إلا أن حمل الروايات عليه خلاف الظاهر .
الأمر العاشر : رجوع الأموات إلى الدنيا :
اختص بذل الشيخ المفيد في الارشاد (3) ، حيث روى مرسلاً قائلاً : "قد جاءت الآثار بذكر علامات لزمان قيام القائم المهدي (ع) وحوادث تكون أمام قيامه وآيات ودلالات ... وعد منها : وأموات ينتشرون من القبور حتى يرجعوا إلى الدنيا ، فيتعارفون فيها ويتزاورون " .
_____________________________
(1) أنظر كل ما رويناه هنا عن ابن ماجة في جـ 2 ، ص 1349 ، وما بعدها . (2) ص 338 . (3) أنظر 337 .
صفحة ( 494)
وظاهره حدوث ذلك خلال عصر الغيبة الكبرى . ولعله من الآيات الخاصة المنبهة للمخلصين على قرب الظهور . ولكن مما يهون الخطب أن هذا الخبر مما لا يصلح للإثبات التاريخي ، لكونه مرسلاً ، ليس له سند .
فان قال قائل : فان هذا خير من أخبار الرجعة ، وهي كثيرة . وليس معنى الرجعة إلا رجوع الانسان إلى الحياة بعد الموت .
قلنا : أن الرجعة يقال بها عادة بعد الظهور ، وليس قبله . وهذا الخبر نص بوقوع قيام الأموات أمام قيام القائم (ع) أي قبله ، وهو مما لم يقل به أحد .
وأما تحقيق أخبار الرجعة وإعطاء الفهم المتكامل لها ، فسوف يأتي في التاريخ القادم إن شاء الله تعالى .
الأمر الحادي عشر : خروج الشمس من مغربها :
عد في الارشاد ، في نفس السياق السابق لعلامات الظهور ، عد منها : طلوعها من المغرب (1) .
وأخرج البخاري (2) عن رسول الله (ص) أنه قال : " لا تقوم الساعة ... حتى تطلع الشمس من مغربها . فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً" .
وأخرج مسلم عدة أحاديث مشابهة لهذا النص (3) . وأخرج أيضاً (4) : " أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها " .
وروى الشيخ في الغيبة (5) عن رسول الله (ص) أنه قال: " عشر علامات لا بد منها ... وعد منها :طلوع الشمس من مغربها " .
والظاهر أن هذه الآية من علامات الساعة المباشرة ، بدليل ربطها في الأحاديث بالزمن الذي لا ينفع نفساً إيمانها ، لم تكن آمنت من قبل . وهو يوم القيامة ، على التفسير المشهور .
___________________________
(1) ص 336 . (2) جـ 9 ، ص 74 . (3) جـ 1 ، ص 95 وما بعدها . (4) جـ 8 ، ص 202 .
(5) ص 267 .
صفحة ( 495)
ومعه فالشمس تخرج من مغربها عند خراب النظام في المجموعة الشمسية لدى اقتراب يوم القيامة .
وأما كونها من علامات الظهور ، بحيث تحدث خلال عصر الغيبة الكبرى ، فلم يثبت إلا بخبر الارشاد الذي قلنا أنه لا يكفي وحده للاثبات التاريخي .
وفي بعض الأخبار تفسير خروج الشمس من مغربها بظهور المهدي (ع) بعد غيبته . أخرج الصدوق في الاكمال(1) باسناده عن النزال بن سبرة قال خطبنا علي بن أبي طالب (ع) فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد وآله ثم قال: "سلوني أيها الناس قبل أن تفقدوني ، ثلاثاً . ققام إليه صعصعة بن صوحان فقال : يا أمير المؤمنين متى يخرج الدجال . فتحدث عنذئذ أمير المؤمنين عليه السلام وقال فيما قال : يقتله الله عز وجل بالشام ... على يد من يصلي عيسى المسيح بن مريم خلفه . وبعد أن انتهى من كلامه قال النزال بن سبرة فقلت لصعصعة بن صوحان : يا صعصعة ما عنى أمير المؤمنين (ع) بهذا القول . فقال صعصعة : يا سبرة ان الذي يصلي خلفه عيسى بن مريم هوالثاني عشر من العترة التاسع من ولد الحسين بن علي (ع) وهو الشمس الطالعة من مغربها ، يظهر عند الركن والمقام ، فيطهر الأرض ويضع ميزان العدل فلا يظلم أحد أحداً ... " الحديث .
وهذا التفسير أمر محتمل على أي حال ، بعد حمل التعبير على الرمز لا على الحقيقة . ولا ينافي ذلك ربطها بالآية الكريمة المشار إليها ، فانها أيضاً مفسرة بالظهور في بعض الأخبار على ما سوف يأتي التاريخ القادم . لكن يهون الخطب ان هذا الخبر الذي أخرجه الصدوق ، لا يثبت أمام التشدد السندي .
الأمر الثاني عشر : الصيحة :
وهو مما اختصت به المصادر الامامية ، وأكثرت من روايته وأكدت عليه .
فمن ذلك ، ما رواه النعماني في الغيبة (2) عن أمير المؤمنين (ع) أنه كان يتحدث عن بعض العلامات : قلنا "هل قبل هذا شيء من شيء أو بعده من شيء . فقال : صيحة في شهر رمضان ، تفزع اليقظان وتوقظ النائم وتخرج الفتاة من خدرها " .
____________________________
(1) انظر النسخة المخطوطة . (2) ص 137 .
صفحة ( 496)
وفي رواية أخرى (1) عنه عليه السلام أنه قال : - فيما قال – : " الفزعة في شهر رمضان . فقيل : وما الفزعة في شهر رمضان . فقال : أو ما سمعتم قول الله عز وجل في القرآن : ﴿ ان نشأ ننزل عليهم آية من السماء فظلت أعناقهم لها خاضعين . هي آية تخرج الفتاة من خدرها وتوقظ النائم وتفزع اليقظان ﴾ .
وعن (2) أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال : "للقائم خمس علامات ... وعد منها : الصيحة من السماء " .
وفي رواية أخرى (3) عن الامام الباقر عليه السلام – فيما قال - : "فتوقعوا الصيحة في شهر رمضان وخروج القائم ان الله يفعل ما يشاء " .
وفي الاحتجاج (4) في التوقيع الذي أخرجه السفير الرابع السمري قبل موته عن المهدي (ع) : - يقول فيه - : " فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحتة ، فهو كذاب مفتر " .
وروى الشيخ الصدوق في الاكمال (5) عن الامام الباقر عليه السلام في حديث عن المهدي عليه السلام ، قال : "ومن علامات خروجه ... وعد منها : وصيحة من السماء في شهر رمضان " .
وفي منتخب الأثر (6) عن ينابيع المودة عن أبي عبدالله عليه السلام : "خمس قبل قيام القائم من العلامات ... وقال في آخره : فتلوت هذه الآية – يعني قوله تعالى : أن نشأ ننزل عليهم من السماء .. الآية - ، فقلت : أهي الصيحة. قال : نعم ، لو كانت الصيحة خضعت أعناق أعداء الله عز وجل " .
__________________________________
(1) ص 133 . (2) المصدر والصفحة وانظر غيبة الشيخ ، ص 267 . (3) ص 135 .
(4) انظر ص 267 ، وانظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 633 وما بعدها . (5) انظر المصدر المخطوط .
(6) ص 454 ، وانظر الينابيع ، ص 426 .
صفحة ( 497)
ورواه أيضاً في تفسير البرهان (1) ضمن اثني عشر حديثاً من أخبار الصيحة .
وهذه الآية من القرآن ،لا تدل على وقوع الصيحة بالتعيين ، بل لا تدل على وقع شيء على التحقيق ، لتعليق الحدوث على مشيئة الله عز وجل . بل قد يقال : أنها تدل على عدم وقوع ما هو المعلق على المشيئة . لما أشار إليه الشيخ الطوسي(2) قائلاً : أخبره – يعني الله تعالى لنبيه (ص) – بأنه تلجئهم إلى الايمان . لكن ذلك نقيض الغرض بالتكليف ، لأنه تعالى لو فعل ذلك لما ذلك استحقوا ثوابا و لا مدحا . لان الملجا لا يستحق الثواب والمدح على فعله ، لانه بحكم المفعول به. اقول : واشار الى بعض هذا المعنى الطباطبائي في تفسير الميزان(3) .الا ان ذلك لا ينفي صحة مثل هذه الروايات ، لان الائمة عليهم السلام لم يستدلوا بالاية للدلالة على وقوع الصيحة ، بل للدلالة على امكانها بمشيئة الله عز وجل . واما وصول الايمان بسببها الى حد الالجاء و الخضوع القهري ، كما قال الشيخ الطوسي ، فهو مما لا نسلم به ، لوضوح حفظ الاختيار بعدها .إذ يتصور العقل أن ينبري بعض الماديين لتفسيرها على أساس مادي "علمي" !! فان الشبهات المادية في عصر الفتن والانحراف أوسع من أن تحصر . فمن آمن بما دلت عليه الصيحة بوضوح من إثبات دعوى المؤمنين ، كان مختاراً في فعله وتفكيره .
يكفينا من ذلك استدلال الأئمة (ع) في هذه الأخبار بالآية على إمكان الصيحة ، ولو صح كلام الشيخ كان هذا الاستدلال باطلاً ، لأنه يستحيل على الله تعالى أن يلجيء الفرد إلى الايمان . في حين أن هذه الأخبار كثيرة ، وقابلة للإثبات التاريخي .
_______________________________
(1) في تفسير سورة الشعراء ، في المجلد الثاني ، ص 762 . (2) تفسير التبيان ، جـ 8 ، ص 5 .
(3) جـ 1 ، ص 272 .
صفحة ( 498)
فإذ بطل الدليل على بطلانه ، كان ممكناً بقدرة الله تعالى ، فإذا دلت عليه هذه الطائفة الكبيرة من الأخبار ، كان أمراً صحيحاً وثابتاً ، وتكون الصيحة من الدلائل القريبة المنبهة على الظهور .
هذا ، ويبقى السؤال عن مضمون الصيحة . وهل هي مجرد صوت بلا معنى ، أو أنها كلام معنى ذو مدلول ، وما هو مدلوله . وسيأتي جواب ذلك في التاريخ القادم ، حيث نقيم القرائن على أن المراد بها النداء باسم المهدي (ع) وليست شيئاً آخر غيره .
الأمر الثالث عشر : الخسف في البيداء :
وهو مما استفاضت به أخبار الفريقين .
أخرج مسلم (1) عن أم سلمة عن رسول الله (ص) : "يعوذ عائذ بالبيت فيبعث إليه بعث ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم .فقلت : يا رسول الله ، فكيف بمن كان كارهاً ؟ قال : يخسف به معهم ، ولكنه يبعث يوم القيامة على نيته ".
وأخرج أيضاً عن حفصة أنها سمعت النبي (ص) يقول : "لَيَؤُمَّنَّ هذا البيت جيش يغزونه ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوسطهم وينادي أولهم آخرهم ، ثم يخسف بهم ، فلا يبقى إلا الشريد الذي يخبر عنهم " .
وفي حديث ثالث : أن رسول الله (ص) قال : "سيعوذ بهذا البيت – يعني الكعبة – قوم ليست لهم منعة ولا عدد ولا عدة . يبعث إليهم جيش ، حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بهم " .
وفي حديث رابع : " ان أناساً من أمتي يؤمنون بالبيت برجل من قريش قد لجأ بالبيت ، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم .فقلنا يا رسول الله ، إن الطريق قد يجمع الناس . قال : نعم ، فيهم المستبصر والمجبور وابن السبيل ، يهلكون مهلكاً واحداً ويصدرون شتى ، يبعثهم الله على نياتهم " .
وأخرج ابن ماجة والترمذي وأحمد الحاكم ، وغيرهم ، أحاديث في ذلك ، غير أننا لا نذكر هنا فيما أخرجه الشيخان أو احداهما ، توخياً للاختصار .
_________________________
(1) جـ 8 ، ص 167 ، وكذلك الاخبار الذي بعده .
صفحة ( 499)
ومن المصادر الامامية ، ما رواه النعماني في الغيبة(1) عن ابي عبدالله (ع) انه قال :"للقائم خمس علامات ، وعد منها : الخسف في البيداء ".
وفي خبرآخر(2) عنه عليه السلام قال الراوي : "قلت له :ما من علامة بين يدي هذا الأمر؟ فقال : بلى . قلت و ما هي ؟ قال: هلاك العباسي ...الى ان قال : والخسف في البيداء".
و في خبر آخر(3) عنه عليه السلام أنه قال :" من المحتوم الذي لابد أن يكون قبل قيام القائم ، خروج السفياني و خسف بالبيداء".
وذكر الشيخ المفيد (4) مما ذكر من العلامات قال: وخسف البيداء .
وفي منتخب الأثر (5) عن تفسير الكشاف في تفسير قوله تعالى (ولو ترى اذ فزعوا فلا فوت و أخذوا من مكان قريب).عن ابن عباس رضي الله عنهما :نزلت في خسف البيداء .و ذلك : ان ثمانين ألفاً يغزون الكعبة ليخربوها ، فاذا دخلوا البيداء خسف بهم.
وفيه أيضاً (6) عن مجمع البيان في تفسير الآية نفسها ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال: سمعت علي بن الحسين و الحسن بن الحسن بن علي يقولان : هو جيش البيداء يؤخذون من تحت أقدامهم .
و فيه أيضاً (7) عن أم سلمى ، تقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ عائذاً بالبيت ، فيبعث الله جيشاً حتى أذا كانوا بالبيداء- بيداء المدينة - خسف بهم .
__________________________________
(1) ص 133 ، وانظر غيبة الشيخ ، ص 267 . (2) غيبة النعماني ، ص 139 . (3) المصدر ، ص 141 .
(4) ص 334 . (5) ص 456 . (6) جـ 2 ، ص 875 ، في تفسير سورة سبأ . (7) المصدر والصفحة .
صفحة ( 500)
وخرج في تفسير البرهان عدداً من الأخبار الدالة على ذلك أيضاً ، منها : ما عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر عليه السلام ، قال :"يخرج القائم فيسير ...حتى ينتهي الى البيداء ، فيخرج جيش السفياني فيأمر الله عز و جل الأرض ، أن تأخذ بأقدامهم . وهو قوله عز و جل : (ولو ترى اذ فزعوا فلا فوت . وأخذوا من مكان قريب..)الحديث.
وهذا الخسف الموعود ، وان كان اعجازياً ، الا انه لا منافاة فيه مع "قانون المعجزات" بل منسجم معه تمام الانسجام .يتضح ذلك مما تدل عليه هذه الروايات نفسها من ان هذا الخسف انما يحدث لأجل انقاذ العائذ الذي يعوذ بالبيت ، او القوم الذين لا عدد لهم ولاعدة . ويكفينا ان نتصور ان هؤلاء القوم هم ممثلو الحق الحقيقيون الذين يتوقف عليهم النصر يوم الظهور سواء كان المهدي نفسه احدهم ، كما ربما تدل عليه الرواية الأولى مما ذكرناه و الأخيرة ، او لم يكن . يكفينا ذلك لنفهم ضرورة انقاذهم ولو بالنحو الاعجازي . وقد سبق ان قلنا : ان كل ما يتوقف عليه الظهور ، فهو مما لابد ان يحدث لكونه مرتبطاً بالغرض الالهي الأعلى لهداية البشر . و هو من أهم وأخص أشكال إقامة الحجة، والمطابقة مع قانون المعجزات.
وسيأتي في الجحهة الآتية مقدار ارتباطه بعصر الفتنة والانحراف، والتخطيط العام للعلامات.
فهذا هو المهم من العلامات الإعجازية التي يحتمل فيها الخروج عن قانون المعجزات والزيادة عليه. وقد ثبت أن عدداً كبيراً منها لا واقع له، لو فهمنا منه المعنى المطابقي غير الرمزي . وأن حدوث المسخ وإحياء الأموات قبل الظهور وطول عمر الدجال وضخامة حماره وقتله للمؤمن وإحياءه له ، مما لا أساس له. وإن انحسار الفرات عن الذهب ليس بإعجاز بل هو أمر طبيعي . وإن خروج الشمس من مغربها ليس من علامات الظهور، وإن الصيحة والخسف مطابقة لقانون المعجزات غير مخالفة له، وقد نطقت بها الأخبار الكثيرة ، فلا بد من الالتزام بها.
هذا تمام الكلام في النقطة الثالثة فيما دل على إقامة المعجزات أكثر مما يقتضيه القانون.
وبه ينتهي الكلام من الناحية الثانية في انقسام علامات الظهور من ناحية المعجزات.
صفحة ( 501 )
الجهة الخامسة
في تعداد مفردات العلامات، ومحاولة فهمها فهماً منظماً شاملاً
ويقع الكلام فيها ضمن ناحيتين أساستين، باعتبار تعداد مفردات العلامات المتبقية بعد الجرد السابق ، من ناحية ، ومحاولة إعطاء المفهوم العام المنظم المتكامل عن مجموعة العلامات أو عن أكثرها ، بمقدار الإمكان ، من ناحية ثانية.
ولا بد أن نبدأ بالتعداد أولاً ، لنحاول أن نفهم كل علامة مروية فهماً مستقلاً منفرداً ، لنرى في الناحية الثانية الآتية ارتباطها المجموعي مع العلامات الأخرى.
الناحية الأولى:
في تعداد مفردات العلامات ، غير ما سبق أن أوردنا فيه الروايات.
ونحن إذا حاولنا هذا التعداد ، لا ينبغي أن نتوخى الاستيعاب ، فإنه يوجب التطويل بلا طائل ، وإنما نذكر العلامات الرئيسية ، ونحاول تحديد مفهومها وتوقيتها وخصائصها الرئيسية . ونورد هذه العلامات ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى : خروج الرايات السود من خراسان :
وقد سبق أن تكلمنا عن مفهومها وحددناه بثورة أبي مسلم الخراساني . فلا بد أن نورد هنا بعض ما يدل عليها من الروايات ، كما وعدنا ، وبعضها ما يحتمل فيه العارضة مع هذا المفهوم على ما سنسمع .
فمن ذلك : ما أخرجه الترمذي (1) عن رسول الله (ص) أنه قال : " تخرج من خراسان رايات سود ، فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء " . قال الترمذي : "هذا حديث غريب حسن " .
وروى النعماني في الغيبة (2) عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال : انتظروا الفرج من ثلاث . فقيل يا أمير المؤمنين ، وما هن ؟ فقال : ... والرايات السود من خراسان .
__________________________________
(1) جـ 3 ، ص 362 . (2) ص 133 .
صفحة ( 502)
وعد في الارشاد (1) من العلامات التي وردت بها الآثار : "إقبال رايات سود من خراسان " .
وروى الشيخ في الغيبة (2) عن أبي جعفر (ع) قال : "تنزل الرايات السود التي تخرج من خراسان إلى الكوفة . فإذا ظهر المهدي (ع) بعث إليه بالبيعة ".
وهذا الخبر الأخير دال على قرب ظهور هذه الرايات من ظهور المهدي (ع) . إلا أنه بمفرده غير قابل للاثبات التاريخي ، مع التشدد السندي الذي سرنا عليه ، نعم ، لو فرض صحة الخبر لدل على عدم كون هذه الرايات هي رايات أبي مسلم الخراساني .
النقطة الثانية : قبل النفس الزكية :
وقد اختصت بذلك المصادر الامامية أو كادت ، ولم يذكر في صحاح العامة ما يدل على ذلك .
فمن ذلك : ما رواه النعماني (3) عن أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال : "للقائم خمس علامات ... وعد منها : قتل النفس الزكية " .
وأخرج النعماني أيضاً (4) والمفيد في الارشاد (5) والشيخ في الغيبة (6) عنه عليه السلام ، في تعداد أمور محتومة. منها : قتل النفس الزكية .
وروى النعماني أيضاً (7) عنه عليه السلام ، قال الراوي :
"قلت له : ما من علاقة بين يدي هذا الأمر ؟ فقال : بلى " .
"قلت : وما هي ؟ قال : هلاك العباسي ... وقتل النفس الزكية " .
_________________________________
(1) ص 336 . (2) ص 274 . (3) انظر غيبة النعماني ، ص 133 . (4) المصدر ، ص 134 .
(5) المصدر ، ص 134 . (6) ص 266 . (7) الغيبة ، ص 139 .
صفحة ( 503)
وأخرج المفيد في الارشاد (1) عن أبي جعفر الباقر (1) والشيخ في الغيبة (2) والصدوق في إكمال الدين (3) عن أبي عبد الله الصادق (ع) بلفظ متقارب – واللفظ للمفيد – أنه قال : "ليس بين قيام القائم عليه السلام وقتل النفس الزكية أكثر من خمس عشرة ليلة " .
وعد في الارشاد (4) مما جاءت به الآثار من العلامات لزمان قيام القائم ، قال : "وقتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين . وذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام " .
وروى الصدوق أيضاً (5)عن الامام الصادق (ع) ، قال:"خمس قبل قيام القائم .. وعد منها قتل النفس الزكية". وعنه (ع) أيضاً : "قبل قيام القائم خمس علامات محتومات ، وعد منها : قتل النفس الزكية ". في رواية أخرى في تعداد أمور محتومة عن الامام الباقر (ع) قال : وقتل النفس الزكية من المحتوم " .
إلى غير ذلك من الأخبار .
ولا بد أن نتكلم عن النفس الزكية ، ضمن عدة أمور :
الأمر الأول :
يراد بالنفس الزكية : النفس الكاملة الطيبة ، من زكا إذا نما وطاب . ويراد بالنمو في منطق الاسلام التكامل بالعلم والاخلاص والتضحية .
______________________________
(1) ص 339 . (2) ص 271 . (3) انظر المخطوط .
(4) ص 336 . (5) انظر هذا الحديث وما يليه من الاحاديث في النسخة المخطوطة من اكمال الدين .
صفحة ( 504)
ويمكن أن يراد – بالدقة – من الكمال أحد معنيين :
المعنى الأول:
ما هو المطلوب اسلامياً من الفرد المسلم من قوة الايمان والارادة واندفاع الاخلص والتضحية . ومعه يكون المراد بالنفس الزكية مع غض النظر عما يأتي في الأمر الثالث – شخصاً من المخلصين الممحصين في الغيبة الكبرى ، وأنه يقتل نتيجة للفتن والانحراف.
المعنى الثاني :
أن يكون المراد من الكمال – في هذا الصدد-: البراءة من القتل. فيكون مساوياً لقوله عز وجل :)أقتلت نفسا زكية بغير نفس،لقد جئت شيئا نكرا) (1).
ولعل التعبير بالنفس الزكية بالقرآن يوحي تماما بأن المراد من الأخبار نفس ذاك المعنى، وهو البراءة من القتل.
غير أن الذي يقرب المعنى الأول ، ويكون قرينة عليه ، هو أن المنساق والمتبادر من كل واحدة من هذه الروايات، إن المراد بالنفس الزكية رجل معين يكتسب مقتله أهميةخاصة. ولا شك أن هذا منسجم مع المعنى الأول. لأن مقتل الرجل المخلص والممحص ، لا يكون – عادة – إلا على صعيد عالٍ من مستويات العمل الإسلامي ، فيكون ملفتا للنظر اجتماعياً ، ومثيراً أسفاً إسلاميا عميقاً . بخلافه على المعنى الثاني ،إذ مجرد كون المقتول بريئا من القتل لا يكسبه أهمية خاصة ولا يكون مقتله ملفتاً للنظر ، على حين ينبغي أن تكون العلامة مما يعرف – عادة – بين الناس ، وإلا سقطت فائدة دلالتها على الظهور .
على انه هذا المعنى الثاني ، يمكن حمله على معنى كلي واسع. ويكون المراد: أن من آثارعصر الفتن والانحراف أن يقتل عدد من الناس بدون ذنب. وهذا ما حدث فعلاً على أعداد ضخمة من البشر على مر التاريخ.
فإذا كان المعنى الأول منسجما مع ما هو المنساق والمفهوم من هذه الروايات، دون المعنى الثاني ، تعين الحمل عليه. ولا تكون الآية قرينة عليه. لإمكان أن يكون المراد من النفس الزكية من الآية المعنى أيضاً، أو أن يختلف معنى الآية عن معنى الرواية.
_____________________________
(1) الكهف: 18/74 .
صفحة ( 505)
الأمر الثاني:
هل تقتل النفس الزكية بين الركن والمقام.
لا شك أن المركوزة في الأذهان والمتناقل على الألسن هو ذلك. حتى اعتبره صاحب " منتخب الاثرة"من المسلَّمات فقال (1): وقتل النفس الزكية: قتل محمد بن الحسن الذي يقتل بين الركن والمقام.
إلا أن ذلك لا يكاد يثبت بعد التشدد السندي الذي التزمناه، فقد أورد صاحب البحار حديثين لا يكادان يثبتان بعد هذا التشدد. وأما الارتكاز الذهني فلا يكفي للاثبات التاريخي أيضاً. فان حدث ذلك في مستقبل الزمان، كان دليل لنا عليه. مضافا إلى معارضته، بما رواه الشيخ المفيد في الارشاد من حدوث: قتل نفس زكية بظهر الكوفة في سبعين من الصالحين(2) وقد سمناه. وهذا الخبر وإن لم يكن له قابلية الاثبات ، إلا أننه ليس بأسوأ حالاً من خبر مقتله بين الركن والمقام، فيصلح لمعارضته، ومع المعارضة يتساقطان معا عن إمكان الاثبات التاريخي. وأما ما ذكره في الارشاد (3) أيضاً من حدوث: ذبح رجل هاشمي بين الركن والمقام، كما سمعنا. فهو لا يدل على المقصود. إذ قد لا يكون هذا الرجل الهاشمي ذكياً ممحصاً.
مضافاً إلى ضعف الخر وعدم كفايته للاثبات التاريخي.
الأمر الثالث:
إنطباق هذه الروايات على محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن أبي طالب ، أبي عد الله ، الملقب بالنفس الزكية ،الثئر في زمن أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي.
ولعمري أن هنالك ما يدل على هذا الانطباق ، فلو استطعنا أن ننفي القرائن الدالة على نفيه تعين الالتزام بإثباته وأن النفس الزكية المقصودة، هو هذا الثائر العلوي.
________________________________
(1) انظر المصدر،ص 454 (2) ص336. (3) نفس الصفحة .
صفحة ( 506)
ومن هنا يقع الكلام على مستويين:
المستوى الأول:
في القرائن الدالة على نفي هذا الانطباق. وإن النفس الزكية الموعودة هو غير هذا الثائر العلوي.
وهي عدة قرائن محتملة .
القرينة الأولى :
إن النفس الزكية لا بد أن تقتل بين الركن والمقام. وهذا الثائر العلوي لم يقتل هتاك.
وهذا على تقدير ثبوته قرينة كافية ، على نفي هذا الانطباق، إلا أنه مما لم يثت كما أسلفنا.
القرينة الثانية :
تأخر اخبار الأئمة عليهم السلام بهذه العلامة من علامات الظهور عن مقتل هذا الثائر العلوي. مما يدل على أن مقتل النفس الزكية يبقى متوقعا ومنتظراً بع مقتل النفس الزكية: الثائر. وهذ على تقدير ثبوته قرينة كافية أيضاً على نفي الانطباق. إلا أنه لم يثبت.
فان كل ما وجدناه من الروايات الدالة على هذه العلامة ، مروية عن الامامين الباقر والصادق عليهما السلام . أما الامم الاقر(ع) فعصره سابق على عصر العلوي الثائر. وأما الامام الصادق (ع) فهو معاصر للمنصور العباسي وللنفس الزكية الثائر. وكان عليه السلام ينفي لعد الله بن الحسن – والد النفس الزكية – نجاح ثورته وثورة ولديه، ويقطع أمله في نيل الخلافة ، ويقول له : " إن هذا الأمر ، والله ليس إليك ولا إلى انيك ، وإنما هو لهذا – يعني السفاح – ثم هذا – يعني المنصور – ثم لوالده من بعده ، لا يزال فيهم حتى يؤمروا الصبيان ويشاوروا النساء.
" فقال عبد الله : والله يا جعفر ، ما أطلعك الله على غيبة، وما قلت هذا إلا حسداً لابني. فقال: لا والله ، ما حسدت ابنك.وان هذا – يعني المنصور – يقتله على أحجار الزيت ،ثم يقتل أخا بعده بالطفوف ،وقوائم فرسه في الماء"(1).
وعلى أي حال ، فليس هناك أي دليل على صدور مثل هذه الروايات بعد هذا الثائر العلوي ان لم يكن المظنون خلافه.
____________________________
(1) مقاتل الطيبين، ص 189
صفحة ( 507)
القرينة الثالثة :
إن هذا الاثائر العلوي لم يكن زكيا ممحصاً ، إذ ، فلا بد ان نتوقع مقتل مخلص ممحص بعد ذلك ، غير هذا الثائر. والدليل على انحرافه ادعاؤه المهدوية ، فيما يروي عنه في مقاتل الطالبيين.
وقد قدم أبوه على أنه هو المهدي، بعد زوال الدولة الأموية وقبل تأسيس الدولة العباسية ، قائلاً في خطبة له في بني هاشم (1) " وقد علمتم أنا لم نزل نسمع أن هؤلاء القوم إذا قتل بعضهم بعضاً رج الأمر من أيديهم فقد قتلوا صاحبهم – يعني الوليد بن يزيد – فهلم نبايع محمداً ، فقد علمتم أنه المهدي.
فقال له الامام الصادق (ع) : "أنها والله ، ما هي اليك ولا إلى بنيك، ولكنها لهؤلاء ، وان ابنيك لمقتولان "(2) .
وكان محمد بن عبد الله بن الحسن، منذ كان صبياً ،يتوارى ويراسل الناس بالدعوة إلى نفسه،ويسمى بالمهدي (3).
ولسنا نريد أن ندخل في مناقشة ذلك ، ويكفينا اليقين بأنه قتل قبل أ، يملك العالم ، وهودليل كاف على كذب المدعي، كما قلنا ولكن المقصود أنه على هذا يكون زكيً ممحصاً غير هذا الثائر. والالتزام بانحراف هذا الثائر ، لو صح ذا النقل التاريخي ، أمر لا مناص منه . ولكنه لا ينفي كونه هو المقصود بالتنبؤ ، في علامات الظهور.
وأما تسنيته بالنفس الزكية ، فقد سماه بذلك من كان يعتقد بكونه زكياً ، حتى اشتهر به ، وقد استعمل لقبه في الروايات طبقا لشهرته.
_________________________
(1) المصدر، ص188. (2) المصدر، ص189 (3) المصدر،ص 177
صفحة ( 508)
وفي حديث آخر (1) :"إن رسول الله (ص) قال أن يكنه فلن تسلط عليه وإن لم يكنه، فلا خير لك في قتله"
القرينة الرابعة :
تقدم مقتل هذا الثائر العلوي على ولادة المهدي المنتظر عليه السلام. ومعه لا يصح جعله علامة على ظهوره. ومعه لا بد أن ننتظر مقتل شخص آخر يسمى أو يوصف بالنفس الزكية.
إلا أن هذه القرينة لا تصح ، لوضوح إمكان جعل العلامةساقة على ولادة المهدي (ع). بعد أن كان التخطيط الالهي لليوم الموعود ، لا يبدأ ببدء الاسلام فحسب ، بل ببدء البشرية من أولها. إذن فكل الارهاصات تشير إليه. وقد سمعنا جعل هلاك الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية وخروج الرايات السود من العلامات .... وكل ذلك مما حدث قبل ولادة المهدي عليه السلام.
القرينة الخامسة :
إن التنبؤ بمقتل النفس الزكية جاء في الروايات ، مقترناً أو متأخراً عن بعض ما يعلم بعدم حدوثه إلى الآن. إذن فيكون مقتضى الفهم العام من السياق أنه أيضاً لم يتحقق إلى الآن . ومعه يتبين أن لا يكون مشاراً به إلى قتل ذلك الثائر العلوي ، بل إلى مقتل رجل آخر ، يقتل في مستقبل الدهر.
فمن ذلك : رواية الخمس علامات ، كقول الامام الصادق عليه السلام :" للقائم خمس علامات ، السفياني واليماني والصيحة من السماء ، وقتل النفس الزكية والخسف بالبيداء" (1). ورواية تعداد الأمور المحتومة كقوله عليه السلام : " النداء من المحتوم والسفاني من المحتوم وقتل النفس الزكية من المحتوم ..... " الحديث (2).
ومن المعلوم أن خروج السفياني واليماني والصيحة مما لم يحدث ، إذن فقتل النفس الزكية ، مما لم يحدث أيضاً .
وهذا الكلام غير صحيح ، فان ما يقتضيه السياق هو عدم حدوث كل هذه الأسور عنج صدور الرواية. وهذا صحيح. ثم أن بعضها يسرع بالحدوث وبعضها يتأخر . وهذا لا يربط له بظهور الكلام وسياقه. وبخاصة أن العطف في الرواية بين العلامات بالواو، وهي ليست دالة على الترتيب ، مثل "أو" أو ثم، كما ينص النحاة.
________________________
(1) غيبة النعماني ، ص 133. (2) المصدر، ص 134.
صفحة ( 509)
القرينة السادسة:
مما سبق أن سمعناه من الخبر القائل : ليس بين قيام القائم وبين قتل النفسالزكية إلا خمس عشرة ليلة " . وحيث نعلم بالقطع واليقين تأخر الظهور عن مقتل ذلك الثائر العلوي لا بخمس عشرة ليلة، بل بأكثر من ألف فيتعين أن، لايكون التنبؤ منصباً على ذلك ، بل على مقتل رجل آخر.
إلا أن هذه القرينة غير صحيحة ، فان هذا الخبر وان تعدد في المصادر ، فقد رواه المفيد في الارشاد والشيخ في الغيبة والصدوق في إكمال الدين وغيرهم إلا أن ذلك يعود إلى راو واحد. فإنه مروي عن ثعلبة عن شعيب عن صالح. وقد وصف ثعلبه في الارشاد والاكمال بابن ميمون ووصف شعيب في الغيبة والارشاد بالحداد ، ووصف في الاكمال بالحذاء. ووصف صالح في الارشاد بابن ميثم وفي الاكمال بابن مولى بني العذراء.
وعلى أي حال ، فان هذا الخبر على أحسن تقدير خبر واحد ، وقد رفضنا التمسك بمثله في تشددنا السندي.
إذن فلم يثبت نفي هذه الفكرة وهي أ، النفس الزكية الموعو ليس هو النفس الزكية الثائر العلوي . بل يبقى ذلك محتملاً على أي حال ، وسنذكر في المستوى الثاني مثبتاته والقرائن الدالة على صحته.
المستوى الثاني:
فيما يدل من القرائن على ثبوت هذا الانطباق ...... وأن التنبؤ منصب على ثورة ذلك العلوي ، ليس إلا.
فمن ذلك : ما رواه الاصبهاني في المقاتل (1) بسنده عن محمد بن علي – الباقر عليه السلام- عن آبائه ، قال " النفس من ولد الحسن ".
_______________________________
(1) ص 184
صفحة ( 510)
وهذا الحديث واضح الدلالة في الاشارة إلى النفس الزكية المعهودالتنبؤ ها في الأخبار. وهو لم ينطبق إلا على الثائر العلوي ، بل قد قيل فيه خصيصاً ، كما هو ظاهره حيث أورده الأصفهاني في ترجمته.
ومن ذلك : ما رواه أيضاً (1) بسند إلى عبد الله بن موسى : "ان جماعة من علماء أهل المدينة أتو علياً بن الحسن، فذكروا له هذا الأمر – يعني المطالبة بالحكم – فقال : محمد بن عبد اللله أولى بهذا مني. فذكر حديثا طويلاً. قال : ثم أوقفني على أحجار الزيت فقال : ههنا تقتل النفس الزكية . قال : فرأيناه في ذلك الموضوع المشار إليه مقتولاً".
وما رواه أيضاً بسنده عن مسلم بن بشار، قال : (كنت محمد بن عبداللله، عند غنائم خشرم . فقال لي : ها هنا تقتل النفس الزكية – أقول :يعني نفسه - . قال : فقتل هناك ".
إذن فالنفس الزكية ليست إلا ذلك الثائر العلوي ، ولعمري أنها علامة مهمة وملفته للنظر ،
حيث اتسعت ثورته ، حتى خاف منها المنصور ، كما يتضح لمن راجع المقاتل ولا نريد أ، ندخل في تفاصيله.
النقطة الثالثة : ظهور الدجال:
وقد اختصت به المصادر العامة تقريبا ، وليس في المصادر الامامية إلا النزر القليل . وأما في مصادر العامة فالأخبار عنه وعن صفاته أكثر من أن تحصى ، وقد نسبت إليه كثيرا من الضرائب ، لا بد من تمحيصها بغض النظر عن حملها على الرمز – وهو ما سنتكلم عنه فيما بعد – لنرى ما يتم منها ، وما لا يتم . ونتكلم عن ذلك ضمن أمور :
الأمر الأول :
مقتضى القواعد العامة التي عرفناها ، لزوم الاعتراف بخروج الدجال ، اجمالاً .
لأن الأخبار الدالة على وجوده بالغة حد التواتر القطعي بلا شك . لكن صفاته وتفاصيل خصائصه لا تثبت ، لأنها واردة – في الأغلب – في أخبار آحاد لا يمكن بالتشدد السندي الأخذ بها . ومعه يكون هناك مجال كبير في حمله وحمل عدد من صفاته على الرمز ، على ما سوف يأتي .
______________________________
(1) المصدر والصفحة.
صفحة ( 511)
الأمر الثاني:
فيما أخرجتته المصادر العامة من صفاته .
ونحن نكتفي بما أخرجه الصحيحان توخيا لاختصار، ما لم تدع حاجة خاصة إلى التوسع.
أولاً : أن النبي (ص) حذر أمته منه.
أخرج البخاري(1) عن أنس قال : "قال (ص) : ما بعث نبي إلا أنذر أمته الأعور والكذاب . إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور". وأخرج مسلم (2) نحوه.
ثانياً: أن النبي (ص) استعاذ من فتنته:
أخرج البخاري (3) عن عائشة رضي اللله عنها ، قالت:"سمعت رسول الله (ص) يستعيذ في صلاته من فتنة الدجـال".
ثالثاً: أنه كافر.
أخرج البخاري(4) في الحديث السابق عن أنس : "وأن بين عينيه مكتوب : كافر" وأخرج مسلم(5) في
حديث :"مكتوب بين عينيه : كافر. يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ".
رابعاً: أنه يدعي الربوبية.
أخرج ابن ماجة (6) عن رسول الله (ص) في صفة الدجال. وفيه يقول : "أنه يقول :أنا ربكم ".
_____________________________
(1) جـ9 ، ص75-76. (2) جـ8، ص195. (3) جـ9، ص75.
(4) المصدر، ص76. (5) جـ8، ص195. (6) جـ2، ص1360.
صفحة ( 512)
وفيما أخرجه الصدوق من خبر الدجال (1) ما يدل على ذلك.
إذ يقول عن الدجال اننه :"ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين الخافقين من الجن والانس والشياطين . يقول:"إليًّ أوليائي ، أنا الذي خلق فسوى وقدّر فهدى ، أناربكم الأعلى".
وقد نوقشت دعواه هذه في الأخبار بعدة وجوه:
الوجه الأول :
قول النبي (ص)- فيما روى ابن ماجة-:" ولا ترون ربكم حتى تموتو". والمراد الاستدلال برؤيته في الحياة على عدم كونه إلها ً، لأن الله تعالى لا يرى.
الوجه الثاني:
قول النبي (ص) فيما سمعناه : "وأنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كاتب وغير كاتب".
الوجه الثالث:
" أنه يطعم الطعام ويمشي في الأسواق . وإن ربكم لا يطعم الطعام ولا يمشي في الأسواق ولا يزول تعالى الله عن ذلك علواً كبيراًَ" (2).
الوجه الرابع:
" أنه أعور وأن الله ليس بأعور ".
وقد أخرج الشيخان ذلك ، وهو مما يؤيد فكرة دعواه للربوبية ، بالرغم منأنهما لم يخرجا ما يدل عليها صريحاً.....إذ لا تصلح هذه الأخبار إلا لمناقشة هذه الدعوى، وإلا كان التأكيد على كونه أعور ، أمراً مستأنفاً.
أخرج البخاري (3) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال: " قام رسول الله (ص) في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم ذكر الدجال ، فقال : اني لأنذركموه. وما من نبي إلا وقد أنذر قومه . ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه . انه أعور، وأن الله ليس بأعور".
____________________________
(1) انظر المصدر المخطوط. (2) انظر اكمال الدين المخطوط. (3) جـ9 ،ص75.
صفحة ( 513)
وأخرج في حديث آخر (1) عن صفته أنه :رجل جسيم أحمر جعد الرأس أعور العين كأن عينه عنبة
طافية ".
وأخرج مسلم (2) في حديث :إلا أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور ". وفي حديث آخر : "الدجال أعور العين اليسرى". وفي حديثين آخرين : "أنه ممسوح العين".
وتجد هذا المضمون في سائر الصحاح وفي مسند أحمد ومستدرك الحاكم وغيرها ، بشكل مستفيض.
خامساً: طول عمره. وهو مما لم ينص عليه الشيخان في صحيحيهما صراحة. وقد أخرج مسلم ما يدل على ذلك بغير الصراحة. وهوأمران:
الأمر الأول:
حديث الجساسة(3) الذي يقول فيه الدجال عن نفسه: "أنا المسيح واني أوشك أن يؤذن لي في الخروج: فاخرج فأسير في الأرض فلا أدع قرية إلاهبطتها .....الخ". وحيث نعلم أن الدجال لم يؤذن له بالخروج إلى حد الآن ، إذنفهو لا زال باقياً إلى حد الآن ، وسيبقى إلى حين يؤذن له بالخروج.
الأمر الثاني :
أخبار ابن صياد التي تدل جملة منها أنه كان معاعصرا للنبي (ص) ولم يؤمن به .كالخبر الذي أخرجه مسلم(4) عن عبد الله قال : " كنا مع رسول الله (ص) فمررنا بصبيان فيهم ابن صياد ، ففر الصبيان وجلس ابن صياد. فكأن رسول الله (ص) كره ذلك . فقال له النبي (ص) : تربت يداك . أتشهد أني رسول الله ؟ فقال : لا بل أني رسول الله . فقال عمر بن الخطاب : ذرني يا رسول الله حتى أقتله . فقال رسول الله (ص) : ان يكن الذي ترى فلن تستطيع قتله".
___________________________________
(1) المصدر والصفحة. (2) جـ8،ص195 وكذلك ما بعده من الأخبار.
(3) المصدر، ص205. (4) نفس المصدر، ص189.
الصفحة (514)
ومن الواضح دلالة مثل هذا القول على وجود غرض إلهي في حفظ حياته ، والمنع عن قتله ، ليكون هو دجال المستقبل!!.
وبعض الأخبار التي أخرجها مسلم (2) تدل على تكذيب ابن صياد نفسه للشائعة التي تقول أنه الدجال ..... وقد سبق أن روينا بعضها .
سادساً : قتله للمؤمن واحياؤه له . وقد خرّج الشيطان ذلك ، وقد سبق ـن نقلناه وناقشناه.
سابعاً : "إن معه ماء وناراً".
فمن ذلك ما أخرجه البخاري(3) عن النبي (ص) أنه قال في الدجال : " أن معه ماء وناراً، فناره ماء بارد وماؤه نار".
وأخرج مسلم (4) : "إن الدجال يخرج وان معه ماء وناراً. فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب. فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً،فانه ماءعذب طيب".
وأخرج في حديث آخر :" أنه يجيئ معه مثل الجنة والنار ، فالتي يقول أنها الجنجة هي النار ".
ثامناً: "اختلاف نظان الزمان في عهد ". وقد سبق أن رويناه وناقشناه .
وتاسعاً:" أنه أهون على الله من ذلك ". وظاهره نفي أن يكون معه جبل خبز ونهر ماء . وقد سبق أن رويناه عن كلا الصحيحين .
___________________________
(1) المصدر والصفحة. (2)المصدر،ص190-191
(3)جـ9 ، ص75. (4)جـ8، ص196، وكذلك الحديث الذي بعده
صفحة ( 515)
عاشراً : ما رواه ابن ماجه (1) : " إن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت فتنب . وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه ، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت . وإن من فتنته أن يمر بالوحي فيصدقونه ، فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه وأمده خواصراً وأدره ضروعاً . وأنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه ، إلا مكة والمدينة .... " الحديث .
حادي عشر : " أنه ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال " .
أخرجه مسلم . وفي حديث آخر أنه قال : " أمر أكبر من الدجال " (2) .
ثاني عشر : " أنه يقلته المسيح عيسى بن مريم عند نزوله " .
وقد أخرج مسلم أكثر من حديث دال على ذلك . فمن ذلك (3) قوله (ص) عن الدجال : " فبينما هو كذلك ، إذ بعث الله المسيح بن مريم ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، بين مهرودتين .... فيطلبه حتى يدركه بباب لُد فيقتله " .
وفي حديث آخر قال رسول الله (ص) : " يخرج الدجال في أمتي أربعين .... فيبعث الله عيسى بن مريم ، كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه ، فيهلكه " .
فهذه هي المهم م صفات الدجال في المصادر العامة الأساسية .
الأمر الثالث : في تمحيص هذه الصفات :
لا شك أنه بغض النظر عن فهم رمزي شامل لهذه الأخبار ، لا يصح شيء من هذه الصفات تقريباً .فإننا إذا أخذنا بالتشديد السندي ، فالامر واضح ، لأن هذه الأخبار ـ في غالبها ـ آحاد لا يمكن الاعتماد عليها .
(1) جـ 2 , ص 1360 وما بعدها . (2) كلاهما في جـ 8 , ص 207 . (3) انظر جـ 8 , ص 198 .
صفحة ( 516)
وإن غضضنا النظر عن الشتدد ، نرى أن هذه المضامين اعجازية المحتوى منسوبة إلى الدجال وهو من أشد الناس كفراً وطغياناً . وقد سبق أن بينا عدم إمكان ذلك .
ولعمري ، إن كلتا نقطتي الضعف هاتين : ضعف السند وإيجاد المعجزات المنحرفة ، مستوعبتان للأعم الاغلب من هذه الصفات ، ما عدا صفات طفيفة ككونه أعور العينين !! فإنه مستفيض النقل في الأخبار .
ومعه يدور الأمر بين شيئين لا ثالث لهما ، فأما أن نرفض هذه الأخبار تماماً . وأما أن نحملها على معنى رمزي مخالف لظاهرها . ومن الواضح رجحان الحمل على المعنى الرمزي على الرفض التام . وبخاصة وأن مجموع هذه الأخبار متواتر عن النبي (ص) , ولا نحتمل فيه ـ وهو القائد الرائد للأمة الإٍسلامية ـ أن يربي الأمة على مثل هذه العجائب والسفاسف . فيتعين أن يكون المراد الحقيقي معان اجتماعية حقيقية واسعة ، عبرعنها النبي (ص) بمثل هذه التعابير طبقاً لقانون : حدث الناس على قدر عقولهم .آخذاً المستوى الفكري والثقافي لعصره بنظر الاعتبار. ومن هنا ينفتح باب الأطروحة الثانية لفهم الدجال . وهي التي سنتعرض لها في الناحية الثانية الآتية .
وعلى كل حال ، سواء رفضنا هذه الأخبار ، أو حملناها على غير ظاهرها ، فإن المفهوم ـ على كلا التقديرين ـ إن وجود الدجال أمر محق ، ولكنه ليس رجلاً معيناً متصفاً بهذه الصفات التي يدل عليها ظاهر هذه الأخبار . ولم يتحقق ذلك فيما سبق ، ولن يتحقق في المستقبل . وإنما هو عبارة عن ظواهر اجتماعية عالمية كافرة ، سيأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى .
النقطة الرابعة : ظهور السفياني :
وقد اختصت به المصادر الامامية ، وليس له في المصادر الأولى للعامة أي أثر... ولعل فيه تعويضاً عن فكرة الدجال الذي اختص به العامة أو كادوا ، لمبررات معينة ستأتي الإشارة إليها .
والأخبار عنه في المصادر الامامية ، وإن كانت كثيرة ، إلا أنها لا تبلغ بأي حال مقدار أخبار الدجال التي حفلت بها المصادر العامة . كما أنها خالية عن نسبة الامور الإعجازية إلى السفياني ، على ما سنعرف . وبذلك يندفع الاعتراض المهم الذي كان وارداً على أخبار الدجال ، من حيث عدم إمكان صدور المعجزة من أصحاب الفعالة والمنحرفين .
صفحة ( 517)
وتتم إيضاح فكرة السفياني ضمن أمور :
الأمر الاول : في الأخبار الدالة على وجوده وصفاته .
أولاً : في تسميته وإثبات أصل وجوده :
أخرج الشيخ في غيبته (1) عن أبي عبد الله الصادق (ع) ، أن أبا جعفر الباقر (ع) كان يقول : " خروج السفياني من المحتوم " . وفي خبر آخر (2) عن أمير المؤمنين (ع) قال : " قال رسول الله (ص) : عشر قبل الساعة لا بد منها : السفياني .... " الحديث .
وأخرج الصدوق في الإكمال نحواً من هذا الأخير (3) . وفي خبر آخر عن أبي عبد الله (ع) قال : " إن أمر السفياني من المحتوم " . وفي خبر آخر عنه (ع) : " قبل قيام القائم خمس علامات محتومات : اليماني والسفياني ... " الحديث .
وأخرج النعماني في غيبته (4) عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : " للقائم خمس علامات : السفياني ... الحديث .
وأخرج (5) أيضاً عنه عليه السلام , قال الراوي : قلت له : ما من علامة بين يدي هذا الأمر . فقال : بلى . قلت : وما هي ؟ قال : هلاك العباسي وخروج السفياني ... " الحديث .
وفي خبر آخر (6) عنه عليه السلام في تعداد علائم الظهور ، قال : " إذا اختلف ولد العباس ... وظهر السفياني ... " الحديث .
(1) المصدر والصفحة . (2) انظر المصدر المحفوظ . (3) المصدر ، ص 267 .
(4) انظر ص 133 . (5) المصدر ، ص 139 . (6) المصدر والصفحة .
صفحة ( 518)
وفي البيان الذي ختمت به الغيبة الصغرى ، وهو ما أخرجه السمري عن الامام المهدي (ع) يقول فيه (1) : " فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة ، فهو كذاب مفتر " .
إلى غير ذلك من الأخبار ... وهي بمقدار تكفي للاثبات التاريخي ، ومعه لا بد من الالتزام بوجود السفياني في الجملة .
ثانياً : اسمه ونسبه :
في خبر (2) عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال ك " يخرج ابن آكلة الأكباد عن الوادي اليابس . إلى أن قال : اسمه عثمان وأبوه عنبسة وهو من ولد أبي سفيان " .
وأخرج الشيخ (3) عن علي بن الحسين عليه السلام في حديث . قال : " ثم يخرج السفياني الملعون من الوادي اليابس ، وهو من ولد عنبسة بن أبي سفيان " .
ثالثاً : زمان خروجه على وجه الإجمال :
أخرج الشيخ (4) عن أبي عبد الله (ع) قال : " خروج الثلاثة : الخراساني والسفياني واليماني ، في سنة واحدة في شهر واحد ، في يوم واحد .... " الحديث .
وأخرج الصدوق (5) في إكمال الدين عنه عليه السلام ،قال :" ان أمر السفياني من المحتوم وخروجه في رجب ".
رابعاً : مكان خروجه :
أخرج الصدوق (6) عن أبي منصور البجلي ، قال : " سألت أبا عبد الله (ع) عن اسم السفياني ، فقال : وماتصنع باسمه ، إذا ملك كور الشام الخمس : دمشق وحمص وفلسطين والأردن وقنسرين ، فتوقعوا الفرج . قلت : يملك تسعة أشهر ؟ قال : لا . ولكن يملك ثمانية أشهر لا يزيد يوماً " .
(1) الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 7 . (2) انظر منتخب الأثر ، ص 457 عن إكمال الدين .
(3) انظر غيبة الشيخ ، ص 270 . (4) المصدر ، ص 271 . (5) انظر المصدر المخطوط . (6) المصدر المخطوط .
صفحة ( 519)
وأخرج النعماني (1) عن أبي جعفر محمد بن علي (ع) في حديث طويل يقول فيه : " لا بد لبني فلان (2) من أن يملكوا ، فإذا ملكوا ثم اختلفوا تفرق ملكهم وتشتت أمرهم ، حتى يخرج عليهم الخراساني والسفياني ، هذا من المشرق وهذا من المغرب ، يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان هذا من هنا ، وهذا من هنا ، حتى يكون هلاك بني فلان على أيديهما . أما أنهم لا يبقون منهم أحداً " .
ثم قال : " خروج السفياني واليماني والخراسني في سنةواحدة . في شهر واحد ، نظام كنظام الخرز ، يتبع بعضه بعضاً ... الخ " الحديث.
وأخرج أيضاً (3) عن أبي جعفر الباقر (ع) أنه قال : " لا بد أن يملك بنو العباس . فإذا ملكوا واختلفوا وتشتت أمرهم،خرج عليهم الخراساني والسفياني ، هذا من المشرق وهذا من المغرب يستبقان إلى الكوفة كفرسي رهان، هذا من ههنا وهذا من ههنا ، حتى يكون هلاكهم على أيديهما . أما أنهما لا يبقون منهم أحداً أبداً " .
خامساً : عقيدته :
يظهر من بعض الأخبار أنه مسيحي ، أو من صنائع المسيحييه .كالخبر الذي أخرجه الشيخ في الغيبة (4) . قال: " يقبل السفياني من بلاد الروم منتصراً في عنقه صليب ، وهو صاحب القوم " .
ويظهر من بعض الأخبار أنه من المسلمين المنحرفين المبغضين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام . كالذي أخرجه الشيخ (5) عن أبي عبد الله (ع) قال : " كأني بالسفياني ـ أو لصحاب السفياني ـ قد طرح رحله في رحبتكم بالكوفة ، فنادى مناديه : من جاء برأس شيعة علي فله ألف درهم . فيشب الجار على جاره ويقول هذا منهم . فيضرب عنقه ويأخذ ألف درهم . أما أن إمارتكم يؤمئذ لا تكون إلا لأولاد البغايا ... " الحديث .
(1) انظر غيبة النعماني ، ص 135 . (2) يعني بني العباس .
(3) المصدر السابق ، ص 137 . (4) ص 278 . (5) نفس المصدر ، ص 273 .
صفحة ( 520)
سادساً : إن الجيش الذي يخسف به في البيداء هو جيش السفياني نفسه : فمن ذلك من أخرجه النعماني (1) يسنده إلى الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام ، أنه قال في حديث ذكر فيه السفياني : " ويبعث السفياني بعثاً إلى المدينة فينفي المهدي منها إلى مكة فيبلغ أمير جيش السفياني أن المهدي قد خرج إلى مكة ، فيبعث جيشاً على أثره ، فلا يدركه حتى يدخل مكة خائفاً يترقب على سنة موسى بن عمران . قال : وينزل أمير جيش السفياني البيداء ، فينادي مناد من السماء : يا بيداء أبيدي القوم ، فيخسف بهم . فلا يفلت منهم إلا ثلاثة ... " الحديث .
ومن ذلك : ما رواه في منتخب الأثر (2) عن ينابيع المودة مروياً عن علي كرم الله وجهه في قوله تعالى : ﴿ولو ترى إذ فزعوا أفلا فوت ﴾ . قال : " قبيل قائمنا المهدي يخرج السفياني فيملك قدر حمل امرأة تسعة أشهر . ويأتي المدينة جيشه حتى إذا انتهى إلى البيداء خسف الله به " .
وما رواه أيضاً (3) عن البرهان في علامات مهدي آخر الزمان مروياً عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قال : " السفياني من ولد خالد بن يزيد بن أبي سفيان ... إلى أن قال : ويخرج رجل من أهل بيتي في الحرم فيبلغ السفياني ، فيبعث إليه جنداً من جنده ، فيهزمهم . فيسر إليه السفياني بمن معه . حتى إذا جاوزوا ببيداء من الأرض خسف بهم ، فلا ينجو منهم إلا المخبر عنهم " .
إلى غير ذلك من الاخبار.
(1) انظر الغيبة ، ص 149 وما بعدها . (2) ص 454 . (3) نفس المصدر ، ص 458 .
صفحة ( 521)
فإن صحت هذه الاخبار ، كانت كل الأخبار التي تتحدث عن الجيش الذي يخسف به في البيداء ، والتي هي مستفيضة بين الفريقين ، كانت دالة على بعض أعمال السفياني . وبخاصة وقد سمعنا من الأخبار التي أخرجتها صحاح العامة من ذلك : إن الخسف يكون بسبب تهديد الجيش لعائذٍ يعوذ بالبيت الحرام أو قوم لا عدة لهم يعوذون به . وها نحن نسمع هذه الاخبار تفسر هذا العائذ وهؤلاء القوم بالمهدي (ع) وأصحابه . وهو مطلب واضح لا غبار عليه ، إذ من يمكن أن يستحق هذا الدفاع الالهي عنه غيره عليه السلام .
إلا أن صعوبة واحدة تبقى ، وهي أن هذه الأخبار الأخيرة ، هل هي قابلة للإثبات التاريخي مع التشدد السندي أولاً . ومهما كان الجواب ، فالأمر موافق مع الاعتبار كما رأينا .
فهذه هي أهم الأوصاف التي ذكرت للسفياني في المصادر الامامية . ولا شك أن أكثرها لا يمكن إثبات تاريخياً بعد التشدد السندي .
نعم ، بعد حمل جملة منها على الرمزية ، من أجل أن تربط بالمضمون العام لعصر التمحيص والامتحان ... يكون مضمون أكثرها صحيحاً على ما سنرى .
الأمر الثاني :
في تمحيص دلالة هذه الأخبار بوجه عام ، مع غض النظر عن التشدد السندي والحمل الرمزي .
فإن في هذه الأخبار عدة نقاط ضعف ، مما يضعف احتمال صدروها عن المعصومين عليهم السلام ، ومن ثم إمكان الاخذ بها بصفتها صالحة للاثبات التاريخي .
النقطة الأولى .
التهافت من ناحية مدة ملك السفياني . إذ نسمع من أحد الأخبار أنه بمقدار حمل امرأة تسعة أشهر ومن خبر آخي نفي ذلك صراحة ، وأنه لا يملك أكثر من ثمانية أشهر .
النقطة الثانية :
إن من هذه الأخبار ما يدل على أن حركة السفياني مشاركة في زوال ملك بني العباس ، مع حرة الخراساني . وهذا يعني أنها قد حدثت وانتهت . لأن ملك العباسيين قد زال منذ أمد بعيد .
صفحة ( 522)
ولكن ينافي ذلك دلالة الأخرى على ارتباط حركة السفياني بالخسف ، فإن الخسف مما لم يحدث بعد قطعاً إلى حد الآن . ومعه يكون السفياني متأخراً عن دولة العباسيين بدهر طويل ، بحيث لا يمكن الارتباط بهم بأي شكل من الاشكال .
النقطة الثالثة :
أنه دلت بعض هذه الأخبار على أن زوال ملك بني العباس نتيجة لحركتين مضادتين متعاصرتين هما حركة الخراساني وحركة السفياني . ولم يعرف شيء من ذلك في التاريخ . وإنما الغزو المغولي هو الذي استأصلهم وأزال دولتهم ، وبقي بعدهم منفرداً بالحكم مدة من الزمن ، ولا يعرف له قرين آخر في المنطقة .
النقطة الرابعة :
التهافت في تعيين عقيدته كما سمعنا . وأنه هل هو من المسيحيين أو من المسلمين المنحرفين .
وقد يخطر في الذهن : أن الخبر الثاني الذي رويناه في عقيدته ، لم يدل على أنه من المسلمين وإنما دل على مطاردته لشيعة علي عليه السلام فلعله مسيحي يعمل ذلك إذن فلا تنافي بين الخبرين .
إلا أن هذا لا يصح ، لأكثر من جواب : أولاً : أن المسيحي مهما كان شديداً ضد المسلمين ، من البعيد جداً أن يخصص عدواته بشيعة علي دون غيرهم . وإنما هذا من عمل المسلمين المنحرفين عادة . وثانياً : أن الخبر الأول الدال على كونه مسيحياً ، غير قابل للاثبات التاريخي ، على كل تقدير ، لأنه ليس مروياً عن معصوم ، فإن الشيخ أخرجه بسنده عن بشر بن غالب قال : " يقبل السفياني ... " الخ . وليس فيه دلالة على أنه مروي عن أحد المعصومين عليهم السلام .
الأمر الثالث :
وقد يخطر في الذهن اتحاد شخصيتي الدجال والسفياني في رجل واحد . وخاصة بعد التشدد السندي الذي اتخذناه ، واسقاط تفاصيل أوصافهما عن الاعتبار . ولا يبقى ن المتيقن إلا أن كلا الاسمين عنوان لرجل منحرف خارج على تعاليم الإسلام ومفسد في مجتمع المسلمين ، ففي الإماكن انطباقهما على رجل واحدة وحركة واحدة.
صفحة ( 523)
ومما يؤيد ذلك ما عرفناه ، من أن التعبير بالدجال هو المتخذ في المصادر العامة عادة ، والتعبير بالسفياني هو المتخذ في مصادر الامامية ، ففي الإمكان افتراض أن يكون التعبيران معاً عن رجل واحد ، نظر إليه أصحاب كل مذهب من زاويتهم المذهبية الخاصة .
إلا أن هذا لا يكاد يصح ، لا على المستوى الرمزي ولا على المستوى الظاهر . عن الإسلام أساساً أو الكفر الصريح ، بسبب الشهوات واتباع المصالح الخاصة . والسفياني يمثل حركة القلاقل والشبهات في داخل نطاق المجتمع المسلم . على ما سنوضح فيما يأتي . ومن المعلوم أن هاتين الحركتين مستقلتان لا اتحاد بينهما على المستوى العام ، وإن اتفقنا في بعض النتائج ضد الإسلام
وأما على مستوى الأخذ بالظاهر ، فواضح أيضاً على مستويين :
المستوى الأول :
فيما إذا أخذنا بالتشدد السندي ورفضنا الأخذ بالصفات المنسوبة إلى هذين الشخصين ، فإنه يكفينا ظهور الاسمين في تعدد المسمين ، وإن جهلنا بصفاتهما . إذ لو كانا شخصاً واحداً لعبر عنه في الأخبار بتعبير واحد .
المستوى الثاني :
فيما إبذا لم نأخذ بالتشدد السندي ، وأخذنا بالصفات المنسوبة إليهما ، فيكون الفرق بينها أوضح وأصرح ، والتعدد أبين .
وأهم الفروق بينهما في حدود ما أعطته الأخبار التي سمعناها ، ما يلي :
أولاً : أن الدجال يفترض فيه طوله العمر ، دون السفياني .
ثانياً : إن الدجال يدعى بابن صائد ، والسفياني يدعى بعثمان بن عنبسة .
ثالثاً : إن السفيان من أولاد أبي سفيان ، دون الدجال .
رابعاً : إن الدجال يدعي الربوبية ، دون السفياني .
خامساً : إن الدجال كافر . وأما السفياني فلا نص في الأخبار يدل على ذلك ، إن لم يكن الظاهر كونه مسلماً .
صفحة ( 524)
سادساً : إن الدجال يملك كل قرية ويبهط كل وادي ، ما عدا مكة والمدينة . وظاهر ذلك أن حركته أوسع من حركة السفياني على سعتها .
سابعاً : إن الدجال أعور العينين . وأما السفياني فهو ذو عينين سليمتين .
وهذه الفروق ، يمكن أن تكون في غالبها فرقاً بين الحركتين على المستوى الرمزي الذي أشرنا إليه .
النقطة الخامسة : ظهور اليماني :
وقد اختصت به أيضاً المصادر الأمامية ،ووصفت حركته بأنها حق ... باعتبار كونه داعياً إلى المهدي عليه السلام .
روى النعماني (1) عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال : للقائم خمس علامات : السفيان واليماني ... " الخ الحديث .
وفي رواية أخرى عنه (ع) (2) في تعداد أمور محتومة ، قال : واليماني من المحتوم . وروى أيضاً (3) عن الإمام الرضا (ع) أنه قال : " قبل هذا الأمر : السفياني واليماني .... " الحديث .
وفي رواية أخرى (4) عن أبي جعفر محمد بن على (ع) في رواية طويلة ذكر فيها راية السفياني والخراساني ، ثم قال :" وليس في الرايات راية أهدى من راية اليماني . هي راية هدى ، لأنه يدعو إلى صاحبكم ، فإذا خرج اليماني حرم بيع السلام على الناس وكلهم مسلم . وإذا خرج اليماني فإنهض إليه ، فإن رأيته راية هدى ، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه ، فمن فعل ذلك ، فهو من أهل النار ، لأنه يدعو إلى الحق ، وإلى طريق مستقيم " .
(1) الغيبة ، ص 133 . (2) المصدر ، ص 134 . (3) المصدر والصفحة . (4) المصدر ، ص 135 .
صفحة ( 525)
وأخرج الشيخ (1) عن أبي عبد الله عليه السلام ، حديث الخمس علامات ، وعد منها : خروج اليماني .
وفي رواية أخرى (2) عن أي عبد الله (ع) قال : " خروج الثلاثة : الخراساني والسفياني واليماني في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد ، وليس فيها راية بأهدى من راية اليماني ، يهدي إلى الحق ".
وفي رواية أخرى (3) عن محمد بن مسلم قال : " يخرد قبل السفياني : مصري ويماني " .
إلى غير ذلك من الروايات في مختلف المصادر الامامية . وهي مستفيضة تقريباً ، وصالحة للاثبات التاريخي بالرغم من التشدد السندي الذي اتخذناه ، إذ ليس في مقابلها قرينة نافية . إلا أن ما يثبت بها هو حركة اليماني في الجملة ، وأما سائر الصفات ، بما فيها كونه على حق ، فهو مما لا يكاد يثبت بالتشدد السندي .
فإذا تم ذلك ، أمكن حمله على بعض الحركات التي حدثت في اليمن . فيكون من العلامات التي حدثت في التاريخ . وهذا هو المطابق لمنهجنا في الحبث . لكن لو افترضنا الاعتراف بكونه على حق ، واحتملنا أن يكون قائد الحركة يمانياً وإن لم تكن الحركة في اليمن ، أوكان منطلق الحركة اليمن ولم تقتصر عليها ، فتكون من الأمور الموعودة التي لا دليل على سبق حدوثها .
وأما على المستوى الرمزي ، فهي تمثل حركة أهل الحق في مقابل الانحراف والضلال الموجود في عصر الغيبة ، على ما سنذكره .
النقطة السادسة : خروج يأجوج ومأجوج :
أخرج مسلم وابن ماجه (4) عن النواس بن سمعان عن رسول الله (ص) حديثاً مطولاً يذكر في أوله الدجال وبعض صفاته وأفعاله . ثم يذكر نزول عيسى بن مريم عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق .
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ، ص 267 . (2) المصدر ، ص 271 . (3) جـ 8 ، ص 198 . (4) جـ 2 ، ص 1356 .
صفحة ( 526)
ثم يقول : ـ واللفظ برواية مسلم ـ : " فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى أني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم ، فحرر عبادي إلى الطور . ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون . فيمر أوائلهم على بحيرة طبريا ، فيشربون ما فيها ، ثم يمر آخرهم ، فيقولون : لقد كان في هذا ماء مرة .
" ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون راس الثور لأحدهم خيراً من مئة دينار لأحدكم اليوم . فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة .
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض ، فلا يجدون في الأرض موضع شبر ، إلا ملأه زهمهم ونتنهم . فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله .
" ثم يرسل الله مطراً لا يُكِنُّ منه بيت مدر ولا بر ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلقة . ثم يقال للأرض : انبتي ثمرتك وردي بركتك . فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها . ويبارك الله في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي ألفاً من الناس . واللقحة من البقر لتكفي القبيلة ، واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ " .
وأخرج مسلم بسند آخر (1) عن يزيد بن جابر نحو ما ذكرناه ، وازاد بعد قوله : " لقد كان بهذه مرة ماء . ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر وهو جبل بيت المقدس ، فيقولون : لقد قتلنا أهل الأرض ، هلم فلنقتل من في السماء . فيرمون بنشابهم إلى السماء ، فيرد الله عليهم نشابهم مخضوبة دماء " .
فهذه هي أفعال يأجوج ومأجوج بعد فتح ردمهم . وهي هي نهايتهم ، لو صح هذا الخبر . وحيث نعلم أن نزول عيسى عليه السلام ،يكون قريباً أو مقارناً لظهور المهدي عليه السلام ،فيكون خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم بدعوات المسيح عليه السلام ، سابقاً على الظهور ، أي في عهد الغيبة الكبرى .
(1) جـ 8 ، ص 199.
صفحة ( 527)
وإذا غضضنا النظر عن التشدد السندي ، كان المضمون العام لهذا الحديث أمراً محتملاً ، وقابلاً لتفسير قوله تعالى : ﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون . واقترب الوعد الحق ، فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفرو . يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا ، بل كنا ظالمين ﴾ (1) .... إذا أمكن تفسير الوعد الحق بظهور المهدي (ع) باعتبار ما قلناه من أن الغرض الأساسي لله تعالى من إيجاد خلقه ، متمثل بتحققه .
وواضح من الآية : أن فتح يأجوج ومأجوج سابق على الوعد الحق ... فيكون سابقاً على الظهور . تماماً كما فهمناه من الحديث . فيكون الحديث والآية متصادقان على معنى واحد متشرك ، مع غض النظر عن تفاصيل الحوادث التي أوردها الحديث .
ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل المراد من يأجوج ومأجوج وإثبات حقيقتهم وكيفية بناء السد ضدهم وفتحه . فإن لذلك مجال آخر . ويكفينا بهذا الصدد ظاهر القرآن الكريم . وهو خال من العجائب التي نسبت في عدد من المصادر إليهم .
فإن ما يدل عليه ظاهر الكتاب الكريم ، هو أنهم قوم بدائيون متوحشون كانوا يعيثون في الأرض الفساد ، فكان السد الذي بناه ذو القرنين سبباً لنجاه الناس منهم . وبقى هؤلاء وراء السد ، حتى إذا بلغوا من الكثرة في المستوى العقلي والحضاري ، ما يستطيعون به السيطرة على هذا السد ، فإنهم يخرجون إلى العالم مرة أخرى ويتجدد فسادهم، ويذوق البشر منهم الأمرين . كيف وهم أصبحوا حاقدين على البشر الآخرين من بناء السد ضدهم .
وسوف يصادف خروجهم من وراء السد ، الزمان السابق على يوم الظهور بقليل ، بمقتضى ما فهمناه من الآية الكريمة ، والحديث . وسوف نعرض أطروحة متكاملة عن فهم هؤلاء الناس في التاريخ القادم إن شاء الله تعالى.
والاشكال المهم الذي يحول دون هذا الفهم هو احتمال أن يراد بالوعد الحق يوم القيامة . ولعمري أنه أمر محتمل وإن كان سياق الآية مناسب تماماً مع افتراض كون المراد به يوم الظهور .
(1) 21 / 97 .
صفحة ( 528)
فإن احتمال الأولية في الوعد الحق في الآية ثلاثة :
الأول : أن يكون المراد به الوعد الالهي بفتح يأجوج ومأجوج ، من ردمها .
كما قد يفهم من قوله تعالى قال : ﴿ هذا رحمة من ربي ، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً ﴾ .
الثاني : أن يكون المراد به يوم القيامة .
الثالث : أن يراد به الوعد بظهور المهدي (ع) في اليوم الموعود .
أما الاحتمال الأول ، فهو بعيد عن ظهور الآية التي نتكلم عنها ، فإن ظاهرها تأخر الوعد الحق عن فتح يأجوج ومأجوج ، وإن فتحهم يكون عند اقتراب الوعد الحق ، لا عند نجازه .ومن المعلوم أنه لو كان المراد بالوعد الحق: الوعد بفتحهم ، لكان فتحهم تحقيقاً لذلك الوعد ، لا أنه يكون مقترباً .
إذن فالوعد بفتح يأجوج ومأجوج لو كان مراداً من قوله تعالى : ﴿ فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء ﴾ .... فهو غير مراد من قوله تعالى: ﴿ واقترب الوعد الحق ﴾ . بل المراد به وعد آخر متأخر زماناً عن الفتح .
ومعه يبقى هذا الوعد الحق ، مردداً بين الاحتمالين الآخريين .
وقد يمكن أن يستدل للاحتمال الثاني ، وهو أن يكون المراد من الوعد الحق : الوعد بيوم القيامة ... يستدل عليه من سياق الآيات التي وردت هذه الآية في ضمنها . وحيث يكون السياق متعرضاً إلى حوادث القيامة ، فيعرف أن الوعد الحق يراد به الوعد بالقيامة أيضاً .
قال الله تعالى: ﴿ واقترب الوعد الحق ، فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا . يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين . أنكم وما تعبدون من دون الله ، حصب جهنم أنتم لها واردون ﴾ . وكل ذلك يحدث في يوم القيامة ، فيكون دالاً على أن المراد من الوعد الحق هو ذلك .
إلا أنه يمكن لهذا المستدل أن يتنازل عن هذا الفهم ، إذا علم إمكان حمل الوعد الحق على ظهور المهدي (ع) بالرغم من هذا السياق . فإن تطبيق الأطروحة العادلة الكاملة بعد الظهور ، يصوغ المجتمع البشري بشكل جديد وقويم لا قبل للكافرين والمنحرفين به ، ومعه يكون من الطبيعي أن تكون " شاخصة أبصار الذين كفروا " . ومن الطبيعي أيضاً أن يقولوا في ذلك المجتمع الكريم : " يا ويلنا قد كنا " في عصر الغيبة الكبرى : عصر الفتن والانحراف : " في غفلة من هذا ، بل كنا ظالمين " فاشلين في التمحيص الالهي .
صفحة ( 529)
والتوبة لا تكون مقبولة من المنحرفين الراسبين في التمحيص ، بل سيبادر الامام المهدي (ع) لقتلهم واستئصالهم جملة وتفصيلاً على ما سيأتي في التاريخ القادم . ومن هنا يذهبون بسرعة إلى جهنم . طبقاً لقوله تعالى : " أنكم وما تعبدون " من أشخاص ومصالح ، كانت مقدسة من عهد الفتن والانحراف ، " ومن دون الله ، حصب جهنم أنتم لها ورادون " .
ليس هذا فقط . بل يمكن أن يكون قوله تعالى : ﴿ فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً ﴾ ... لا يراد به الوعد بفتح يأجوج ومأجوج ، بل الوعد بالظهور أيضاً .طبقاً لما فهمناه من الآية والحديث من أن فتح يأجوج ومأجوج يكون قبيل الظهور . ويكون المراد من مجيئه في الآية الكريمة ، المشارفة على المجيء ،ولو بقرينة الآية الأخرى .
هذا الكتاب قلناه كله ، بحسب الامكان والاحتمال . وأما صعود هذه الفكرة إلى مرتبة الاثبات التاريخي ،فهو متوقف على استظهارها جلياً من الآية ، ولا يكفي كونها مناسبة معها . فإن تساوى الاحتمالين في معنى الوعد الحق ، لا يعني إمكان استدلال على المطلوب . ومعه يكون تأييد الآية للحديث الشريف غير متحقق .
فيبقى الحديث بدون قرينة .ومعه لا يمكن أن يصمد أمام التشدد السندي ويسقط عن إمكان الإثبات التاريخي . ومع نبقى جاهلين بتقدم خروج يأجوج ومأجوج على عهد الظهور .
يبقى التساؤل عن مدى صحة التفاصيل الموجودة في الحديث ، ومدى إمكان الأخذ بها . والصحيح أنها لا تكاد تصلح للاثبات التاريخي . وهذا واضح إن أسقطنا الحديث تماماً . وأما إذا غضضنا النظر عن ذلك واعتبرنا الآية قرينة عليه ، وأخذنا به .فإننا إنما نأخذ بالحديث بمقدار مطابقته للآية ، وهو دلالته على فكرة تقدم خروج يأجوج ومأجوج على الظهور .وأما التفاصيل ، فتبقى غير ثابتة طبقاً للتشدد السندي ، ومعه لا يكون من المهم أن ننظر في تمحيص هذه التفاصيل .
* * *
صفحة (530)
فهذه جملة مهمة من علائم الظهور ، كما وردت في نصوص الأخبار .
تبقى بعض العلامات الأخرى ، التي يفهم من النصوص قربها الشديد للظهور ، كالنداء باسم المهدي (ع) ونزل عيسى بن مريم عليه السلام وغيره ... فهذا ما ينبغي تأجيله إلى التاريخ القادم ، تاريخ ما بعد الظهور .
الناحية الثانية :
في محاولة إعطاء المفهوم العام المنظم عن مجموع العلامات جهد الامكان ، بنحو يرتبط بالقواعد العامة التي عرفناها من قانون المعجزات وقانون التمحيص وشرائط الظهور ، ونحوها .
ويمكن التعرض إلى العلاقات على مستويات ثلاثة :
المستوى الأول :
ما يكون مندرجاً في ظواهر الانحراف العام ، الناتج عن تمحيص عصر الغيبة الكبرى . سواء ما وقع منه كدولة العباسيين والحروب الصليبية ، وما لم يقع كظهور الدجال والسفياني .
المستوى الثاني :
ما يكون مندرجاً في ظواهر الانحراف العام ، الناتج عن تمحيص عصر تقويمه قبل عصر الظهور . سواء ما وقع منها كثورات الحسنيين في عصر الخلافة ، أو مما لم يقع كحركة اليماني والنفس الزكية ، لو ثبت وجودها .
المستوى الثالث :
ما يكون على مستوى التنبيه الالهي الاعجازي على خطورة الانحراف وقرب الظهور ، كالصيحة والخسوف في آخر الشهر والكسوف في وسطه .
فلا بد من التكلم على كل هذه المستويات .
صفحة ( 531)
المستوى الأول :
ما يكون على مستوى الانحراف العام السائد في عصر الغيبة أسباباً له أو مسببات :
ويندرج في ذلك أكثر العلامات الواردة في الأخبار ، سواء ما حدث منها أو ما لم يحدث . فإنها جميعاً تعبر عن أشكال السلوك المنحرفة في المجتمع المنحرف . سواء حملنا هذه العلامات على وجهها الصريح أو على وجهها الرمزي .
أما إذا حملناها على صراحتها ، فالأمر واضح ، ولا يحتاج إلى مزيد كلام . سواء في ذلك انحراف القيادة الإسلامية ، بعد النبي (ص) أو حدوث دولة بني العباس أو خروج الرايات السود بقيادة أبي مسلم الخراساني . أو اختلاف أهل المشرق والمغرب أو ثورة صاحب الزنج أو الحروب الصليبية أو مقاتلة الترك أو نزول الترك بالجزيرة أو نزول الروم الرملة أو قتل النفس الزكية أوظهور الدجال والسفياني ، طبقاً للفهم الكلاسيكي لهما ... إلى آخر ما عددناه من أمثال هذه العلامات.
وأما إذا حملناها على أنها مسوقة الرمز ، فهو المهم الذي نستطيع به أن نقدم فهماً متكاملاً لمجموع العلامات . وإن كان سيكلفنا هذا الفهم الاستغناء عن بعض التفاصيل الواردة في الأحاديث . وقد سبق أن قلنا أن شيئاً من التفاصيل لم يثبت بعد التشدد السندي ، ولكنه بعد الحمل الرمزي ستكون أكثر التفاصيل قد تحققت في الخارج في التاريخ البشري . وكل ما تحقق في التاريخ فالأخبار عنه صادق كما سبق أن ذكرنا . وكل شيء من التفاصيل لا يدخل في هذا الفهم الرمزي العام ، يبقى لا دليل على ثبوته وصدقه ، ومن ثم يقتضي التشدد السندي نفيه .
وإن أهم وأعم ما يواجهنا في هذا الصدد ، مفهوم الدجال ، الذي يمثل الحركة أو الحركات المعادية للاسلام في عصر الغيبة عصر الفتن والانحراف .... بادئاً بالأسباب الرئيسية وهي الحضارة الأوروبية بما فيها من بهارج وهيبة وهيمنة على الرأي العام العالمي ، ومخططات واسعة... ومنتهياً إلى النتائج وهو خروج عدد من المسلمين عن الإسلام واعتناقهم المذاهب المنحرفة ، وما يعم الافراد والمجتمعات من ظلم وفساد .
فليس هناك ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة خلق منحرف أكبر من الدجال . باعبتار هيبة الحضارة الأوربية وعظمتها المادية ومخترعاتها وأسلحتها الفتاكة ، وتطرفها الكبير نحو سيطرة الإنسان والالحاد بالقدرة الالهية .... بشكل لم يعهد له مثيل في التاريخ ، ولن يكون له مثيل في المستقبل أيضاً . لأن المستقبل سيكون في مصلحة نصرة الحق والعدل .
صفحة ( 532)
ويؤيد هذا الفهم قوله في الخبر الآخر : " ليس ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة أمر أكبر من الدجال " .والتعبير بالأمر واضح في أن الدجال ليس رجلاً بعينه وإنما هو اتجاه حضاري معاد للاسلام .
" وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، وأن يأمر الأرض أن تنبت فتنبت " وكل هذا وغيره مما هو أهم منه من أنحاء السيطرة على المرافق الطبيعية مما أنتجته الحضارة الأوربية .
ولا يخفى ما في ذلك من الفتنة ، فإن أعداداً مهمة من أبناء الإسلام حين يجدون جمال المدينة الأورتبية ، فأنهم سوف يتخيلون صدق عقائدها وأفكارها ويتكوينها الحضاري بشكل عام . وهذا من أعظم الفتن والأوهام التي يعيشها الأفراد في العصور الحاضرة . وهي غير قائمة على أساس صحيح . إذ لا ملازمة بين التقدم التكتيكي المدني والتقدم العقائدي والفكري والأخلاقي .... يعني لا ملازمة بين الجانب الحضاري والجانب المدني في المجتمع فقد يكون المجتمع متقدماً إلى درجة كبيرة في الجانب المدني ومتأخراً إلى درجة كبيرة في الجانب الحضاري .... كما عليه المجتمع الأوربي . كما قد يكون العكس موجوداً أحياناً في مجتمع آخر .
" وإن من فتنته أن يمر بالوحي فيكذبونه ، فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت ، وإن من فتنته أن يمر بالوحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت فتنتب ، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمنه ، وأمدّه خواصراً وأدرّه ضروعاً " .
وهذا يعني على وجه التعيين : أن المكذب للمد المادي الأوربي والواقع أمام تياه يمنى بمصاعب وعقبات ويكون المال والقوة إلى جانب السائرين في ركابها المتملقين لها المتعاونين معها . والتعبير بالحي يعني النظر إلى المجتمع على العموم .
وهذا هو الصحيح بالنسبة إلى المجتمع المؤمن في التيار المادي ، إذ لو نظرنا إلى المستوى الفردي ، فقد يكون في إمكان الفرد المعارض أن ينال تحت ظروف معينة قسطاً من القوة والمال .
صفحة ( 533 )
والدجال أيضاً يدعي الربوبية إذ ينادي بأعلى صوته يسمع ما بين الخافقين ... يقول : " إليّ أوليائي ، أنا الذي خلق فسوى وقدر فهدى أنا ربكم الأعلى " .
وكل ذلك واضح جداً من سير الحضارة الأوربية وأسلوبها . فإنها ملأت الخافقين بوسائل الإعلام الحديثة بماديتها ، وعزلت البشر عن المصدر الالهي والعالم العلوي الميتافيزيقي ، فخسرت بذلك العدل والأخلاق والفكر الذي يتكلفه هذا المصدر . وأعلنت عوضاً عن ذلك ولايتها على البشرية وفرضت ايديولوجيَّتها على الأفكار وقوانينها على المجتمعات، بدلاً عن ولاية الله وقوانينه . وهذا يعني ادعاءها الربوبية على البشر أي أنها المالكة لشؤونهم من دون الله تعالى.
ومن الملحوظ في هذا الصدد ، أن الوارد في الخبر أن الدجال يدعي الربوبية ، لا أنه يدعي الالوهية ... والربوبية لا تحمل إلا المعنى الذي أشرنا إليه .
وأما دعوتها ، لأوليائها من أطراف الأرض ، ليتم تثقيفهم الفكري وتربيتهم الأخلاقية والسلوكية تحت إشرافها ، ولترتبط مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية بها ... فهذا أوضح من أن يذكر أو يسطر .
" ولا يبقى شيء من الأرض إلى وطئه وظهر عليه " وهو ما حدث فعلاً بالنسبة إلى شمل التفكير الأوربي في كل البسيطة . فليس هناك دولة في العالم اليوم لا تعترف بالاتجاهات العامة للفكر والقانون الأوربي . ونريد بأوربا كِلَيْ قسميها الرأسمالي والشيوعي . فان كليهما معاد للاسلام ، وممثل للدجال بأوضح صوره .
وأما استثناء مكة والمدينة من ذلك ، فقد يكون محمولاً على الصراحة ، وقد يكون محمولاً على الرمز . أما حملها على الصراحة ، فيعني أن سكان هاتين المدينتين المقدستين سوف لن يعمهما الفكر الاوربي والمد الحضاري المادي .بل يبقى سكانها متمسكين بالإسلام ، بمقدار ما يفهمونه ، صامدين تجاه الاغراء الأوربي إلى حين ظهور المهدي عليه السلام .
وأما حملها على الرمزية ، فهو يعني أن الفكرة الألهية المتمثلة بمكة ، والفكرة الإسلامية المتمثلة بالمدينة المنورة، لا تنحرف بتأثير المد الاوربي ، بل تبقى صامدة ، محفوظة في أذهان أهلها وإيمانهم . وهذا يدل على انحفاظ الحق في الجملة بين البشر ، وأن الانحراف لا يشمل البشر أجمعين ، وإن كانت نسبة أهل الحق إلى غيرهم ، كنسبة مكة والمدينة إلى سائر مدن العالم كله .
صفحة ( 534)
وهذا مطابق لما عرفناه من نتائج التخطيط الالهي ، ببقاء قلة من المخلصين الممحصين المندفعين في طريق الحق . وأكثرية من المنحرفين والكافرين .ويكون لأولئك القلة المناعة الكافية ضد التأثر بالأفكار المادية والشبهات المنحرفة . بل أن هذه الشبهات لتزيدهم وعياً وإيماناً وإخلاصاً .
وهذا هو معنى ما ورد في بعض أخبار الدجال من منعه عن مكة والمدينة بواسطة ملك بيده سيف مصلحت يصده عنها ، وأن على كل نقب ملائكة يحرسونها . فإن تشبيه العقيدة الإسلامية بالملك ومناعتها بالسيف مما لا يخفي لطفه . وأما كون الملائكة على كل نقب ، فهو يعني الإدراك الواعي للمؤمن بأن للاسلام حلاً لكل مشكلة وجواباً على كل شبهة ، فلا يمكن لشبهات الآخرين أن تغزو فكره أوتؤثر على ذهنه .
والدجال طويل العمر ، باق من زمن النبي (ص) حين لم يؤمن برسالته من ذلك الحين ، بل ادعى الرسالة دونه ، ولا زال على هذه الحالة إلى الآن .
فإن الدجال أو المادية ، تبدأ أسسها الأولى من زمن النبي (ص) حيث كان للمنافقين أثرهم الكبير في ادكاء أوراها ورفع شأنها . فكانوا النواة الأولى التي حددت تدريجاً سير التاريخ على شكله الحاضر ، بانحسار الإسلام عن وجه المجتمع في العالم وسيطرة المادية والمصلحية عليه .
إذن فالمنافقون الذين لم يؤمنوا برسالة النبي (ص) ، أولئك الذين كان مسلك الدجال والخداع مسلكهم إذ يظهرون غير ما يبطنون ، هم النواة الأولى للمادية المخادعة التي تظهر غير ما تبطن ، وتبرقع قضايا بمفاهيم العدل والمساواة . فهذا هو الدجال ، بوجوده الطويل .
ومن هنا نفهم معنى ادعائه للرسالة ، فإن المادية كانت ولا زالت تؤمن بفرض ولايتها على البشر ، غير أنها كانت في المجتمع النبوي ضعيفة التأثير جداً ، لا تستطيع الارتباط بأي انسان . ولكن حين أُذن للدجال المادي بالخروج ، في عصر النهضة الأوربية ، استطاعت المادية أن تفرض ولايتها وسلطتها على العالم .
صفحة ( 535 )
ومن هذا المنطلق نفهم بكل وضوح معنى أنه عند الدجال ماء ونار ، وماؤه في الحقيقة هو النار ، وناره هو الماء الزلال . وقال النبي (ص) ـ في الحديث ـ : " فمن أدرك ذلك فليقع في الذي يراه ناراً فأنه ماء عذب طيب " .
فإن ماء الدجال هو المغريات والمصالح الشخصية التي تتضمنها الحضارة المادية لمن تابعها وتعاون معها . وناره عبارة عن المصاعب والمتاعب والتضحيات الجسام التي يعانيها الفرد المؤمن الواقف بوجه تيار المادية الجارف . وتلك المصالح هي النار أو الظلم الحقيقي ، وهذه المصاعب هي الماء العذب أو العدل الحقيقي .
ومن الطبيعي أن النبي (ص) بصفته الداعية الأكبر للايمان الالهي ، ينصح المسلم بأن لا ينخدع بماء الدجال وبهارج الحضارة ومزالق المادية، وأن يلقي بنفسه فيما يراه ناراً ومصاعب ، فإنه ينال بذلك طريق الحق والعدل .
ونستطيع في هذا الصدد أن نفهم : أن نفس سياق الحديث ولهجته دال على ذلك . فإن قوله : " فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق ، وأما الذي يراه الناس ناراً فماء بارد عذب " . يكاد يكون أيضاً واضحاً في أنه ليس المراد به الماء والنار على وجه الحقيقة ، بل هو ماء ونار على وجه الرمز . وإلا لزمن نسبة المعجزات إلى المبطلين ، وقد برهنا على فساده .
ومن طريف ما نستطيع أن نلاحظه في المقام : أن النبي (ص) لم يقل في الخبر : أن الناس جميعاً حين يقعون في الماء فإنهم يجدونه ناراً أو حين يقعون في النار ، يجدونها ماء . بل يمكن أن نفهم أن بعض الناس وهم المؤمنون خاصة هم الذين يجدون ذلك . وإلا فإن أكثر الناس حين يقعون في ماء الدجال أو بهارج المادية لا يجدون إلا اللذة وتوفير المصلحة ، كما أنهم حين يقعون في المصاعب والمتاعب لا يجدون إلا الضيق والكمد .
والدجال أعور ، نعم بكل تأكيد ، من حيث أن الحضارة المادية تنظر إلى الكون بعين واحدة ، تنظر إلى مادته دون الروح والخلق الرفيع والمثل العليا . ومن يكون الأعور إلا غير المدرك للحقائق ربا صالحاً للولاية على البشرية ... وإنما تكون الولاية خاصة بمن ينظر إلى الكون بعينين سليمتين ، بما فيه من مادة وروح ويعطي كلل زاوية حقها الأصيل " وإن ربكم ليس بأعور " .
صفحة ( 536)
والدجال كافر ، لأنه مادي ومن أعداء الإسلام وأبعدهم عن الحق والصواب : " مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب " فإن هذه الكتابة ليست من جنس الكتابة ! وإنما هي تعبر عن معرفة المؤمنين بكفر المنحرفين ونفاقهم ، وهذا لا يتوقف على كون الإنسان قارئاً وكاتباً أو لم يكن . ومن المعلوم اختصاص هذه المعرفة بالمؤمنين " يقرؤه كل مؤمن " لأنهم يعرفون الميزان الحقيقي العادل لتقييم الناس . وأما المنحرفون ، فهم لا يقرأون هذه الكتابة ، وإن كانوا على درجة كبيرة من الثقافة . لأنهم مماثلون لغيرهم في الكفر والانحراف . ومن الطبيعي أن لا يرى الفرد أخاه في العقيدة كافراً .
ومن أجل هذا كله حذر النبي (ص) منه أمته واستعاذ من فتنته ، لأجل أن يأخذ المسلمون حذرهم على مدى التاريخ من النفاق والانحراف والمادية. بل قد يأخذ المسلمون حذرهم على مدى التاريخ من النفاق والانحراف والمادية . بل قد حذر كل الأنبياء أممهم من فتنة الدجال . لما سبق أن فهمنا أن المادية السابقة على الظهور هي من أعقد وأعمق الماديات على مدى التاريخ البشري " ما بين خلق آدم إلى يوم القيامة " وتشكل خطراً حقيقياً على كل الدعوات المخلصة للأنبياء أجمعين .
وهو بالرغم من ذلك كله ـ " أهون على الله من ذلك " باعتباره حقيراً أمام الحق والعدل . مهما كانت هيمنته الدنيوية وسعة سلطته . وليس وجوده قدراً قهرياً أو أثراً تكوينياً اضطرارياً ، وإنما وجد من أجل التمحيص والاخبتار، بالتخطيط الالهي العام ، وسوف يزول ، عندما يقتضي هذا التخطيط زواله ، عند الظهور ، وتطبيق يوم العدل الموعود.
ومن هنا نفهم أنه لا تعارض بين الخبر الدال على أن معه جبل خبز ونهر ماء ، والخبر الدال على أنه أهون على الله من ذلك . فإن هو أنه عند الله لا ينافي حصوله على السلطة والإغراء ، أخذاً بقانون التمحيص والامهال الالهي طبقاً لقوله تعالى : ﴿ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها ، أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً ؛ فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس . كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون﴾ (1) . فهذه هي الفكرة العامة الرمزية عن الدجال .
وأما السفياني ، فهو يمثل خط الانحراف في داخل المعسكر الإسلامي ، أو الفكرة الإسلامية العامة . يندرج في ذلك كل الحركات والعقائد الخاطئة التي تدعي الانتساب إلى الإسلام ، مما كان أو يكون إلى يوم الظهور الموعود .
(1) يونس 10 / 24 .
صفحة ( 537 )
ومن هنا اعتبر أبو طاهر القرمطلي ، في بعض الروايات : السفياني الأول ، والسفياني الموعود هو الثاني . مع أن هذا القرمطي لا ينتسب إلى أبي سفيان بحال . وإنما صفته الأساسية هو أنه قائد الحركة الكبيرة من حركات الانحراف في المجتمع الإسلامي . إذن فهو ينتسب إلى أبي سفيان عقيدة وإن لم ينتسب نسباً .
وفي الإمكان معرفة اتجاهه الكفري والعسكري ، مستنتجاً مما نسب إليه في الأخبار من الأفعال والمشاغبات في المجتمع المسلم . يكون آخرها إرساله الجيش ضد الجماعة الممثلين للحق المستجيرين بالبيت الحرام في مكة . وحينما يصل جيشه إلى البيداء يخسف بهم أجمعين ، لا ينجو منهم إلا المخبر .... حفظاً لحرمة البيت الحرام من ناحةي ، وحفظاً للجماعة الممحصين الذي يجب أن يقوموا بمهام اليوم الموعود . ولعل المهدي (ع) نفسه يكون من بينهم يومئذ .
وهذه الحركة بالذات تقوم بها بعض السلطات المنحرفة في المجتمع المسلم ، فهي أوضح أشكال الفكرة العامة للسفياني ، بالشكل الذي فهمناها .
وخروج السفياني من الوادي اليابس ، محمول على المستوى الفكري الذي يتصف به ، فإنه ينطلق فكرياً عن أيدولوجية ممحلة وضحلة وجافة . بمعنى أنها تتجافى الحق وتقوم على الفهم الخاطئ .
وعلى أي حال ، فكل من الدجال والسفياني ، طبقاً لهذا الفهم ، مما قد حدث في التاريخ فعلاً ، وليس أمراً منتظراً . نعم ، لم تصل حركة السفياني إلىنتائجه النهائية التي هي الخسف .
بقي علينا الحديث عن الفهم الرمزي ليأجوج ومأجود . وهذا ما أجلناه ، كما قلنا ، إلى التاريخ القادم ، لابتنائه على مقدمات لم تتوفر على عرضها في هذا التاريخ .
*****
صفحة ( 538)
المستوى الثاني :
ما يكون على مستوى مكافحة الانحراف وجهاده ومحاوله تقويمه .
يندرج في ذلك ما حدث في التاريخ ، كالثورات التي كانت تحصل في زمن الأمويين والعباسيين . وهي تعرف بمراجعة التاريخ العام ولسنا الآن بصدد تحليلها .
وإنما المهم محاولة فهم ما لم يحدث من ذلك . وهو أمران ، بحسب ما حددته الروايات :
الأمر الأول
خروج اليماني الذي رايته ودعوته قائمة على الحق ، إن ثبت ذلك بالتشدد السندي الذي تسير عليه .
وحينئذ ، فإما أن نحمله على المعنى النوعي الرمزي أو نحمله على المعنى الشخصي الصريح .
فإن حملناه على المعنى الشخصي ، بمعنى وجود شخص معين مناصر للحق متصف بهذه الصفات ... فهو مما لم يعهد حدوثه في التاريخ ، فيكون منتظراً .
وهذا هو الأقرب إلى ظاهر التعبير ، وخاصة مع اتصافه بكونه يمنياً .
وإن حملناه على المعنى النوعي الرمزي الدال على وجود حركات وثورات محقة في عصر الفتن والانحراف ، تدعو إلى الحق وتلتزم به ، وهذا مما حدث في التاريخ بكثرة ... منها الثورات الداعية إلى الرضا من آل محمد (ص) في عصر الخلافة .
ولعله يوجد في مستقبل الزمان حركات أخرى بشكل وآخر ، تحدث فتزعزع الانحراف ، ونثبت معنى البطولة والصمود في سبيل الحق .
وهذا يندرج في الحقيقة ، تحت معنى التمحيص الاختياري الذي سبق أن عرفناه ، وهو المتضمن للاعلاء الإرادي إلى درجة الاخلاص والصبر في نفس الفرد والمجتمع . والثأر للحق دائماً يكون على هذا المستوى الرفيع .
الأمر الثاني :
مقتل النفس الزكية ، فأنه أحد الثائرين في وجه الظلم والانحراف والطغيان ... ولا تكون ثورته ناجحة ، بل يكون ذلك سبباً لمقلته . وقد جعل مقتله علامة للظهور باعتبار أهميته وعمق فكرته .
سواء كان مما حدث فعلاً ، كما رجحناه ، أو مما لم يحدث ، كما هو مقتضى الفهم الكلاسيكي الذي تعضده بعض الروايات التي أخرجها في البحار ، كما سمعنا .
صفحة ( 539)
فإن كان مما حدث فيما سبق ، فقد عرفنا أنه هو محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب . وأنه أحد الثائرين بوجه الدولة العباسية في عصورها الأولى .
وإن كان مما لم يحدث ، فيكفينا مجرد التنبؤ بمقتله وأهميته لنعرف أنه مقتول بين الظالمين المنحرفين لا محالة . على أن مكان مقتله ، وهو ما بين الركن والمقام يدلنا على أهمية مقتله وخطورته بنظر قاتليه والمعتدين عليه ، حيث لا يكون بإمكانهم القبض عليه أو تأجيله أو اخراجه من المسجد الحرام ، بل يكون من مصلحتهم استعجال قتله هناك ،وهتك الحركة الإسلامية الكبرى لذلك المسجد المقدس . وما ذلك إلأ لعمق دعوته وصراحتها في الحق ، ومجافاتها لمسالك الظلم والانحراف .
وسوف نفصل الكلام ، طبقاً لهذا الفهم ، في التاريخ القادم ، وسنعرف أنه يصبح رسول المهدي (ع) إلى المسلمين , وأنه يقتل قبل ظهوره بقليل .
المستوى الثالث :
ما كان على مستوى التنبيه الالهي الإعجازي على خطورة الانحراف وقرب الظهور .
وأهم ما يندرج في ذلك : الصحية والنداء باسم المهدي (ع) وكسوف الشمس في وسط الشهر وخسوف القمر في آخره . وهي وإن كان بالإمكان حملها على الرمز ، إلا أنه بعيد . والمعتقد أن الدلالة عليها صريحة غير رمزية . وقد سبق أن عرفنا مالها من التأثير في تنبيه المؤمنين الممحصين على قرب الظهور ، ولزوم المبادرة إلى نصرة الإمام المهيد عليه السلام .
وأما المعجزات الأخرى المروية ، فليست على هذا المستوى الثالث : أما النار التي تخرج من الحجاز تضيء لها أعناق الابل في بصرى ، فقد حملناها على ظهور المهدي (ع) نفسه . ومعه لا معنى لادراجها في العلامات .
وأما النار التي تخرج من قعر عدن أومن اليمن ، تسوق الناس إلى المحشر ، فهي على تقدير ثبوتها بعد التشدد السندي ، من علامات القيامة المتأخرة عن الظهور ، لا من علامات الظهور نفسه . وكذلك خروج الشمس من مغربها ، إلا إذا حملنا ذلك على الرمز إلى ظهور المهدي (ع) نفسه ، كما سبق أن حاولنا أن نفهمه . وعلى كلا التقديرين ، فهو ليس من علامات الظهور .
صفحة ( 540)
وأما انحسار الفرات عن كنز من ذهب ، فقد تكلمنا عنه ، وعرفنا كونه أمراً طبيعياً غير اعجازي .
وأما رجوع الأموات إلى الدنيا ووقوع المسخ ، وظهور وجه وصدر في الشمس (1) وغيرها مما ذكرناه أو لم نذكره، فلم يثبت شيء منها بالتشدد السندي ، ومعه لا حاجة إلى محاولة حملها على المعنى الرمزي ، وإن كان ذلك في بعضها ممكناً .
فهذا هو الكلام ، في الناحية الثانية ، في تأسيس الفهم العام لعلامات الظهور . وقد علمنا بكل تفصيل ووضوح مقدار ارتباطها بعصر الفتن والانحراف ، وبالتالي بقانون التمحيص الالهي .
وبهذا ينتهي الكلام في الجهة الخامسة في تعداد مقررات العلامات ، ومحاولة فهمها فهماً منظماً شاملاً .
وبه ينتهي الكلام في الفصل الثاني في علامات الظهور .
وهو نهاية الحديث في القسم الثالث من هذا التاريخ .
وهذا غاية مقصودنا من بيان تاريخ الغيبة الكبرى . تم على يد مؤلفه المحتاج إلى رحمة ربه الكريم محمد بن محمد صادق بن محمد المهدي بن إسماعيل الصدر الموسوي .
والحمد الله أولاً وأخيراً وصلى الله على سيدنا ومولانا سيد الأنبياء والمرسلين وخاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين . وعجل الله فرج مهديّهم بقية الله في أرضه أمل المظلومين ونقمة الله على الظالمين والمطبق لشريعة سيد المرسلين. وجعلنا من المخلصين المعدَّين لنصرته في اليوم الموعود . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
8 رمضان 1390
9 تشرين الأول 1970
محمد الصدر
ــــــــــــــــــــــ
(1) الإرشاد , ص 337 .
صفحة ( 541)