مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب تاريخ الغيبة الكبرى لسماحة آية الله الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

وهو يعطي تعليماته للحاكم عن طريق المراسلة ، فيما يحتاجه من البت في أمور الناس من المحاكمات وغيرها ، كما تنص على ذلك رواية المازندراني . وبذلك يكون له الإشراف المباشر على سائر هذه الدولة النموذجية ، ويبقى ذكره فيها حياً وقانونه نافذاً . وتتربى الأجيال على الإخلاص له وانتظار فرجه ، وهو أمر عام بين سائر أفراد الشعب هناك إلى حد لا يكادون يقسمون إلا به في كلامهم الاعتيادي .
فهذا هو الوصف العام لهذا المجتمع النموذجي الذي دلت عليه هاتان الروايتان . إلا أنهما لا يمكن أن يكون لهما جانب من الصحة على الإطلاق . وذلك لوجود عدة اعتراضات نذكر منها ثلاثة رئيسية :
الاعتراض الأول :
إن الكرة الأرضية الآن ، بل فيما قبل الآن مرت بعدة قرون ، قد عرفت شبراً شبراً ومسحت متراً متراً ، واطلع الناس على خفاياها وزواياها . وبالرغم من ذلك لم يجد أحد تلك المناطق ولا اطلع على وجود تلك الجزائر والمدن. ولو كانت موجودة لعرفت يقيناً ، ولكانت من أهم العالم الإسلامي . إذن فهي غير موجود قطعاص .
وأما الزعم بأنها برمتها مختفية عن الأنظار ، كما هو حال المهدي نفسه ، لو صحت أطروحة خفاء الشخص ... فهو ما حاول بعض الباحثين أن يقوله(1) مستشهداً بسعة قدرة الله تعالى ، وبما روي من أن رسول الله (ص) كان أحياناً يختفي عن كفار قريش في أثناء صلاته .
إلا أن هذا الاستدلال يثبت الإمكان العقلي لاختفاء هذه المدن ، ولكنه لا يثبت وقوعه فعلاً . ونحن نعترف بسعة قدرة الله تعالى على ذلك وما هو أهم منه وأوسع . إلا أننا ننفي وقوع ذلك خارجاً ، ونثبت الفرق بين اختفاء المهدي (ع) والنبي (ص) من ناحية ، واختفاء هذه البلدان من ناحية أخرى .
فإن اختفاء المهدي (ع) والنبي (ص) إنما يتحقق لتوقف حياتهما عليه تلك الحياة المذخورة لهداية الناس وإكمال الحجة عليهم ، فيتكون الاختفاء مطابقاً مع قانون المعجزات ، وهو أنه مهما توقف إكمال الحجة على المعجزة أوجدها الله جزماً ، وخرق بها النواميس الطبيعية ، ولا توجد المعجزة في خارج هذا الحد . وبذلك سبق أن نفينا الأطروحة الأولى ، لعدم احتياج المهدي (ع) في سلامته إلى الاختفاء الدائم .
(1) انظر النجم الثاقب ، ص 227 .


صفحة (76)


وأما بالنسبة إلى بلد أو مجتمع مسلم ، يختفي اختفاء شخصياً برمته ، كما يدعي هذا الباحث ... فليس الأمر فيه أن إقامة الحجة أو إكمالها متوقف على وجود المعجزة . فإن المفروض أن أفراد المجتمع قد اعتنقوا الإسلام وأخلصوا له وتمت حجته عليهم . فأي حجة تبقى بعد ذلك لنحتاج إلى المعجزة . وإنما المفروض أن سلامته من الأعداء متوقف على اختفائه ... إلا أن ذلك مما لا يعرف في الإسلام ، وهو خارج عن القانون العام لإقامة المعجزات . إذن فالمعجزة غير متحققة ، فلو كان موجوداً لكان ظاهراً لا محالة . ولو كان ظاهراً لكان معروفاً . وحيث أنه غير معروف ولا ظاهر ، إذن فهو غير موجود .
ولو صح اختفاء مجتمع ملسم لسلامته من الاعتداء ، لصح اختفاء مجتمعات مسلمة كثيرة تعرضت للغارات العديدة على مر التاريخ . على أن ذلك لم يحدث . ولو كان قانون المعجزات يوجب حدوث ذلك ، لحدث على أي حال .
وقد يقال : بأن لهذا المجتمع المفترض خصوصية كبرى تميزه عن سائر المجتمعات ، وهو وجود الإمام المهدي فيه، فمن الجائز أن يخصه الله تعالى بالاختفاء .
إلا أن هذه الفكرة غير صحيحة بالمرة . إذ لو توقفت سلامة الإمام عليه السلام وبقائه وغيبته ، على غياب هذه المدن ، لكان أمراً صحيحاً . إلا أن هذا التوقف غير موجود بالمرة ، إذ قد عرفنا بأن الإمام المهدي (ع) يمكنه أن يحرز سلامته وغيبته في أي مكان من العالم على كلا الأطروحتين الرئيسيتين . ومعه لا تبقى لذلك المجتمع أي خصوصية من هذه الناحية .
بل من المستطاع القول ، بالنسبة إلى ما ذكرناه من إتمام الحجة : أنه ليس فقط أن إقامة الحجة على هذا المجتمع لا يتوقف على اختفائه كما قلنا ، بل أن إكمال الحجة عليه يتوقف على ظهوره وكونه جزءاً من العالم البشري المنظور . وذلك انطلاقاً من قانون التمحيص الإلهي الثابت عقلاً ونقلاً ، على ما سنفصله في باب قادم من هذا التاريخ .


صفحة (77)


فإن الفرد المسلم والمجتمع المسلم ، كلما واجه التيارات الكافرة على مختلف مستوياتها ، وصمد تجاه الانحرافات الجائرة ، وضحى في سبيل دينه ، كلما يكون إيمانه أقوى وأرسخ ، وإرادته أمضى وأعظم . فاصطدامه مع الكفر والانحراف في حرب جسدية أو عقائدية ، جزء من المخطط الإلهي للتمحيص والامتحان ... وليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حيى عن بينة . وبذلك يكون إكمال الحجة متوقفاً على هذا الاصطدام ، وسنى في مستقبل هذا التاريخ أن يوم الظهور الموعود للمهدي (ع) مما يتوقف على هذا التمحيص . وهذا الاصطدام إنما يحدث والتمحيص إنما يتحقق ، فيما إذا كان المجتمع ظاهراً للعيان متفاعلاً مع العالم الخارجي ، دون ما إذا كان مرتاحاً في اختفائه منساقاً مع أحلامه .
إذن فالقانون العام للتمحيص وقانون المعجزات منافيان لاختفاء أي مجتمع مسلم وانعزاله عن العالم ، ومعه فلو كان هذا المجتمع موجوداً لكان ظاهراً . وحيث أنه غير ظاهر إذن فهو غير موجود .
وهذا هو مرادنا مما قلناه فيما سبق ، من أن هاتين الروايتين مبتنيتان على الأساس الذي تبتني عليه الأطروحة الأولى ، وقد عرفنا الآن أنه أسوأ حالاً وأشد بعداً من الأطروحة الأولى بكثير حيث برهنا على بطلان تلك الأطروحة بالاستغناء عنها بالأطروحة الثانية . وأما هذه المدن ، كفلا من قانوني المعجزات والتمحيص ، ينفيان اختفاءهما بالضرورة .
وليت شعري ، لم يلتفت هذا الباحث الذي يدعي اختفاء هذه المدن الكثيرة ، إلى أن سياق الروايتين الدالتين على وجودهما منافٍ مع هذه الفكرة : وذلك انطلاقاً من نقطتين أساسيتين :
النقطة الأولى :
ما نصت عليه رواية المازندراني ، من أن البحر الأبيض إنما سمي بذلك لوجود ماء صاف كماء الفرات حول الجزر، إذا دخلته سفن الأعداء غرقت بقدرة الله تعالى وبركة المهدي عليه السلام .
فإن هذه الجزر إذا كانت مختفية عن الأنظار . كيف يهتدي إليها الأعداء . بل يكفي اختفاؤها حماية لها كما هو واضح . فوجود مثل هذا الماء الصافي – لو صح – أدل دليل على عدم الاختفاء .


صفحة (78)


النقطة الثانية :
إن الاختفاء لو كان صحيحاً ، لكان اللازم أن لا تنكشف هذه الجزر لأحد من الخارج إلا لمن لديه القسم العالي من الإخلاص والوثاقة من المسلمين ، حيث يكون انكشافها لغير هؤلاء الأفراد مظنة للخطر ، وطريقاً محتملاً لهجوم الأعداء ، بشكل أو آخر .
في حين أن قافلة هذا الراوي في البحر ، وصلت إلى هذه الجزر ، بما فيها من مسلمين على اختلاف مستوياتهم ومذاهبهم ، وبما فيها من مسيحيين ! إذن فوجود هؤلاء يؤكد عدم الاختفاء .
الاعتراض الثاني :
إن هاتين الروايتين للانباري والمازندراني ، منافيتان ومعارضتان ، مع عدد من الأخبار الواردة بمضامين مختلفة ... تتفق كلها على نفي مضمون هاتين الروايتين ، كل من ناحيته الخاصة . ومن الثابت أنه كلما تعارض الخبر والخبران مع مجموعة ضخمة من الأخبار ، توجب القطع بمضمونها المشترك ، قدمت المجموعة الضخمة لا محالة، ولم يبق للخبر والخبرين أي اعتبار .
وتتمثل هذه المجموعة المعارضة في هذا الصدد ، في عدة أشكال من الأخبار :
الشكل الأول :
أخبار التمحيص والامتحان الإلهي ، كقول الإمام الباقر عليه السلام :
هيهات هيهات لا يكون فرجنا حتى تغربلوا ثم تغربلوا – يقول ثلاثاً – حتى يذهب الله تعالى الكدر ويبقى الصفو . وقول الإمام الصادق عليه السلام : والله لتميزن . والله لتمحصن . والله لتغربلن ، كما تعربل الزوان من القمح .
وهي أخبار كثيرة تدل على قانون الهي وقعت من أجله الغيبة الكبرى ، على ما سنوضح في مستقبل هذا التاريخ . وهو قانون عام على كل البشر ، وغير قابل للتخصيص باستثناء مجتمع أو عدة مجتمعات منه . وقد عرفنا أن الاختفاء عن الأنظار ينافي معنى الاختبار والتمحيص ، ويستلزم عدم شمول هذا القانون للمجتمع المختفي . ومعه تكون الأخبار الدالة على التمحيص دالة على نفي وجود مجتمع غير مشمول لهذا القانون .


صفحة (79)


الشكل الثاني :
ما دل على سكنى المهدي (ع) في أماكن أخرى غير ما دلت عليه هاتان الروايتان ، كالمدينة المنورة ، في أحد الأخبار التي سمعناها ، وكالبراري والقفار في خبر آخر سمعناه .
ونحن وإن كنا قد ناقشنا في هذين الخبرين ، إلا أن ذلك لا ينافي وقوعها طرفاً للمعارضة مع الروايتين ، ليشاركا مع المجموعة في إسقاطهما عن الاعتبار . على أن هناك أخبار أخرى تدل على سكنى المهدي (ع) في أماكن أخرى، غير ما سبق ، لا حاجة إلى الإفاضة فيها فعلاً .
الشكل الثالث :
الأخبار الكثيرة الدالة على مشاهدة المهدي (ع) في غير هذه المدن المفروضة ... بكثرة لا يستهان بها ، على ما سيأتي في الفصل الآتي .
فتدل هذه الأخبار ، على وجود المهدي (ع) ردحاً من الزمن ، خارج تلك المناطق المفروضة ، بل أن سكناه الغالبة ليست هناك . وهو معنى على خلاف ما ادعته هاتان الروايتان من سكناه ووجوده الغالب في تلك المناطق .
إذ لو كانت سكناه هناك حقاً ، لم يكن مقابلته في خارج تلك المناطق ، إلا على سبيل الصدفة أو نتيجة للمعجزة . وكلاهما لا يمكن افتراض وقوعه في المقام : أما الصدفة ، فلكثرة المشاهدات إلى حد يقطع بتعمد الإمام المهدي (ع) لها وليست على سبيل الصدفة . وأما المعجزة فلعدم انطباق المورد على قانون المعجزات ، لعدم انحصار سبب إقامة الحجة على هذه المعجزة التي تقوم من أجل المقابلة .
بل يمكن القول : بأن الانطباع العام الذي تعطيه أخبار المقابلات مع المهدي (ع) في غيبته الكبرى ، هو كونه ساكناً في العراق ، وإذا حصلت المقابلة في غير هذه البلاد ، فإنما هي لمصلحة مهمة اقتضتها . وهذا ما سيأتي التعرض له في الفصل الآتي مقروناً بالتبرير النظري الذي يبني عليه . ومن الواضح أن سكناه في العراق ينافي سكناه في تلك المدن المفروضة .


صفحة (80)


الشكل الرابع :
الخبر المتواتر عن النبي (ص) بألفاظ متقاربة ، من أن المهدي (ع) بعد ظهوره (يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً) .
وامتلاء الأرض جوراً وظلماً يستلزم أن أكر أهل الأرض بما فيهم أكثر أفراد المجتمع المسلم أيضاً ، أصبحوا ظالمين منحرفين ... بحيث لا يمكن افتراض وجود مجتمع كامل باق على إخلاصه الكامل للإسلام . ومثل هذا العموم المعطى في هذا الحديث غير قابل للتخصيص والاستثناء . ومعه فوجود مجتمع أو عدة مجتمعات برمتها باقية على إخلاصها للإسلام ، يكون معارضاً لذلك الخبر المتواتر لا محالة . ومهما تعارض الخبر الواحد مع المتواتر ، أخذنا بالمتواتر وطرحنا الخبر الواحد .
وقد يخطر في الذهن : أن المراد من الأرض التي تمتلئ ظلماً وجوراً ، في الحديث النبوي ، هو الأرض المنظورة ، كما هو الظاهر من لفظ الأرض ، دون الأرض المختفية ، كما دلت عليه هاتان الروايتان . ومعه فلا منافاة بين الحديث النبوي المتواتر وبينها .
وجواب ذلك : أننا عرفنا في الاعتراض الأول أن هاتين الروايتين دالتان على عدم اختفاء المدن التي تخبر عن وجودها . وإنما كان اختفاؤها رأياً لبعض الباحثين وقد ناقشناه . ومعه تكون هذه المدن – على تقدير وجودها – من الأرض المنظورة ، فيشملها الحديث النبوي ، فيدل على عدم وجودها .
وقد يخطر في الذهن أيضاً : أن هذه المجتمعات وجدت مخلصة للإسلام خلال الغيبة الكبرى ، وهذا لا ينافي كونها تصبح منحرفة بعد ذلك قبل ظهور المهدي (ع) ليصدق الحديث النبوي الشريف .
وجواب ذلك : إن هذه المجتمعات المفروضة ، قائمة على أساس الدوام والاستمرار في نظامها الإسلامي ، وغير قابلة للانحراف ، بعد الالتفاف إلى كونها تحت الإشراف الدائم للإمام المهدي (ع) نفسه ، كما نطقت به تانك الروايتان .
هذا ... وهناك غير هذه الأشكال من الروايات الصالحة لمعارضة الروايتين ، مما لا نريد الإطالة بذكره ، وهو لا يخفى على المتتبع المتأمل .


صفحة (81)


الاعتراض الثالث :
إن المجتمع المزعوم غير منسجم مع عدد من تعاليم الإسلام المهمة ، في تكوينه الفكري ونظامه الاجتماعي . فهو مجتمع إسلامي ناقص من حيث التطبيق . إذن فالمهدي (ع) لم يؤسسه إذ أن المجتمع الذي يكون المهدي (ع) مؤسساً له ومشرفاً عليه ، لا يكون إلا مجتمعاً كاملاً عادلاً من جميع الجهات . وخاصة بعد أن تتربى عدة أجيال تحت هذا الإشراف ، في جو من الصيانة والحفظ عن الأعداء ، كما هو المفروض في هذه المجتمعات .
ويمكن أن ننطلق إلى بيان هذا النقص عن طريق العوامل التي تدخلت في ذهن الراوي ، خلال روايته ، وقد مزج بينها مزجاً عجيباً ليعرف عن فكرته في تكوين المجتمع العادل و"المدينة الفاضلة" . ونقصد بالراوي كلاً من النباري والمازندراني اللذان رويا تينك الروايتين .
العامل الأول :
العامل الحضاري أو المدني – بالأصح – ، ذلك الذي كان يعيشه الراوي في القرنين السادس والسابع الهجريين . وقد اتضح تأثره بهذا العامل من عدة أمور ذكرها خلال الرواية :
الأمر الأول :
وجود أسوار وأبراج وقلاع للمدينة تجاه البحر ، فإن هذه هي وسيلة الدفاع الأساسية في تلك القرون .
الأمر الثاني :
وجود ماء صاف يوجب غرق السفن المعتدية . وقد كانت السفن البحرية أهم أساليب الهجوم في ذلك العصر .
الأمر الثالث :
إن الراوي أكد على وجود مساجد وحمامات وأسواق كثيرة ، وهي المؤسسات الأساسية المشار إليها في كل مدينة في ذلك الزمان . ولو كان الراوي يعرف المدارس والمستشفيات والجمعيات ونحو ذلك ، لقال أنها موجودة هناك أيضاً .


صفحة (82)


الأمر الرابع :
انعدام الإشارة إلى التجارة في كلتا الروايتين ، وظهورهما بانحصار سبل العيش بالزراعة تقريباً ، إلا ما كان من قبيل التجارات السوقية الصغيرة والحرف اليدوية .
الأمر الخامس :
التأكيد على وجود ريف واسع يحيط بكل مدينة ، يتكون من قرى كثيرة . وهذا هو الشكل الذي كانت عيه المدن بشكل أو آخر ، في عصر الراوي ، وكان الريف ناشئاً من الشكل الإقطاعي والطبقي للمجتمع ، ومن هنا حصل التمييز بين القرية والمدينة . وهو مما لا يعترف به نظام الإسلام .
وهناك أمور أخرى غير هذه ، لا حاجة إلى سردها .ونستطيع أن نؤكد أن المجتمع الذي يكون بإشراف المهدي(ع)، حيث تتربى الأجيال برأيه وقانونه ، لا يمكن أن يبقى ذو صبغة مدنية واطئة ، كما وصفة الراوي ... لا أقل من وجود فكرة مبسطة عن المدارس والمستشفيات والتجارة ، ومحاولة لتطوير وسائل الدفاع ، وتطوير القرى وتثقيف أهلها لكي يصل المجتمع إلى العدل الكامل .
العامل الثاني :
العامل الفكري أو الاتجاه السياسي المركوز في ذهن الرواي نتيجة لشكل الحكم السائد في الدول في تلك العصور .
فكما أن الدول كان في الأعم الأغلب محكومة لملوك مستبدين ، يكون الملك فيها هو الحاكم بأمره ، المطلق العنان في التصرف ، وليس له مجلس وزراء ولا برلمان ولا لجنة استشارية ولا هيئة قضائية ، ولا أي شيء من هذا القبيل . بل هو أما أن يمارس ذلك بنفسه إن استطاع ، وأما أن يهمل ذلك إهمالاً ... فكذلك ينبغي أن يكون المجتمع العادل ، في رأي الراوي .
مع أن هذا بعيد عن روح الإسلام كل البعد ، فإن الإسلام وإن كان يرى للرئيس صلاحية مطلقة في التصرف، إلا أنه لا توقع منه القيام فعلاً بكل شيء . بل أنه يزع صلاحياته على المؤمنين الموثوقين من شعبه ، كل حسب قابليته وموهبته . فهناك قضاة وهناك مستشارين وهناك سلطة تنفيذية كاملة ، بحسب ما يحتاجه كل ظرف من سلطات .


صفحة (83)


وهذا ما أسقطه الرواي بالمرة من مدينته الفاضلة . فيكون هذا المجتمع ناقصاً من حيث التطبيق الإسلامي نقصاناً كبيراً .
وقد يخطر في الذهن : بأن التدبير المباشر حيث كان موكولاً إلى المهدي (ع) عن طريق المراسلة ، فلا حاجة إلى كل هذه التشكيلات .
وجواب ذلك :
إن هذا الإشراف يقتضي الإمساك بالزمام الأعلى للدولة وتحديد سياستها العامة وقواعدها الكلية من الناحية القانونية والاجتماعية والعقائدية . وأما البت في جزيئات الأمور لملايين الناس ، فهو مما يتعذر إيجاده بالمراسلة كما هو معلوم ، إلا عن طريق المعجزة . المعجزة لا تكون هي الأساس أصلاً في العمل الإسلامي وقيادة الدول ، بعد تمامية الحجة على الناس .
وقد يخطر في الذهن ، أن النبي (ص) كان يقود الأمة الإسلامية بمفرده ، فكذلك ينبغي أن يكون عليه الرئيس الإسلامي في كل عصر .
وجوابه :
إن هناك فروقاً بين النبي (ص) وبين غيره عامة وهؤلاء الذين يحكمون هذا المدن المزعومة خاصة ، نذكر منها فرقين :
الفرق الأول :
إن المسلمين كانوا قلة نسبياً وكانت حاجاتهم بسيطة ودخلهم الاقتصادي واطئ ، فكانت القيادة الاجتماعية لشخص واحد عبقري كالنبي (ص) بمكان من الإمكان . وأما عند تكثر الناس وتعقد الحاجات وسعة الدولة، فلا يكون ذلك ممكناً بأي حال ، مهما كان القائد عبقرياً ، لوضوح ، استحالة النظر في مئات القضايا في وقت قصير .
الفرق الثاني :
إن النبي (ص) كان يقود مجتمعه بالصراحة والمواجهة ، على حين تقول الرواية أن المهدي (ع) يقود ذلك المجتمع بالمراسلة . ومن الواضح أن ما تنتجه المراسلة لا يمكن أن يصل إلى نتائج المواجهة بأي حال .


صفحة (84)


العامل الثالث :
العامل الفكري والاتجاه الاجتماعي للقواعد الشعبية المتدينة وعلمائها ، بشكل عام ، في حقبة من الغيبة الكبرى . ولا زال هذا الاتجاه موجوداً عن التقليديين من الناس .
ويتجلى تأثر الرواي بهذا العامل ، في عدة أمور :
الأمر الأول :
التركيز في العمل الإسلامي على جانب العبادات ، والإهمال الكامل أو الغالب للعلاقات الاجتماعية العامة ، ولوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ونحوها من المسؤوليات العامة في الإسلام ، مما هو قليل في مجتمعاتنا المسلمة منذ عهد غير قريب . ومن هذه الزاوية انطلق الراوي ، إلى مدينته الفاضلة ، فكانت لهذه المسؤوليات ، زاوية مهملة فيها .
الأمر الثاني :
الاقتصار في العمل الإسلامي عند العلماء التقليديين على التدريس وإقامة الجماعة والإفتاء إذا سألهم أحد ، ولا شيء غير ذلك ، ما عدا مصالح شخصية لا تمت إلى المجتمع بصلة .
إذن فينبغي أن يكون الرئيس الأعلى للمدينة الفاضلة ، مقتصراً في عمله على أمثال هذه الأمور ... باعتقاد هذا الرواي .
مع أن علماءنا ، وإن كان – في الأغلب – كذلك ، باعتبار ضعفهم وقصورهم عن تولي الحكم في المجتمع. وأما الرئيس الأعلى للدولة الإسلامية ، ففتواه هي القانون العام ، وتدريبه هو التوجيه السياسي العام لاطلاع الشعب على آلامهم وآمالهم وحلول مشاكلهم . ويقوم بنفسه أو نائبه الخاص بإقامة صلاة الجمعة وخطبتها . وأما تدريس العلوم العربية ، بل والفقة أيضاً ... وأما إقامة صلاة الجماعة في سائر الأيام ، فقد تكون مسؤوليات الرئيس وتعقد أعماله مانعاً عن الالتزام بها والاستمرار عليها . وإنما يوكل ذلك إلى غيره من ذوي الكفاءة الاسلامية ، كما يوكل القضاء أيضاً وجانب كبير من السلطة التنفيذية إليهم أيضاً . وكل ذلك مما لم يعرب عنه الراوي في مدينته ، فتكون مدينة ناقصة إسلامياً غير فاضلة .


صفحة (85)


الأمر الثالث :
ما هو موجود بين أغلب أهل المذاهب الإسلامية ، على اختلافها ، من التأكيد على الاتجاه المذهبي ، وغض النظر عن المفهوم الإسلامي العام . وهذا بعيد عن تعاليم الإسلام كل البعد . مع أن هذا موجود بوضوح في المجتمع المزعوم على مستويين :
المستوى الأول : الجدل المطول العميق الذي اهتم به الحاكم في المجتمع المفروض ... ذلك الجدل القائم على أساس مذهبي خالص . فقد كان مهتماً بإثبات صدق أحد المذاهب الإسلامية ضد المذاهب الأخرى ولم يكن مهتماً بإثبات صدق الإسلام ضد الأديان والمبادئ الأخرى ، في حين كان بين الحاضرين مسيحي أو عدة مسيحيين ، لم يفكر هذا الحاكم أن يناقشهم لإدخالهم في الإسلام . وهو من الأمور المؤسفة الشديدة الغرابة .
المستوى الثاني :
عدم تصدي المجتمع المفروض ، مع أنه يتخذ شكل الدولة الإسلامية ، إلى هداية العالم الخارجي ، لا بدعاية عامة ولا بحرب جهادية . مع أن من أوضح تعاليم الإسلام وواجباته هو ولاية الدولة الإسلامية على العالم ووجوب هدايته إلى الحق . ولم تكد تتخلى أي دولة إسلامية في التاريخ عن هذا الواجب ، بل طبقته بحسب الإمكان تطبيقاً واقعياً أو شكلياً . فما بال هذه الدولة المزعومة قد تخلت عن هذا الواجب المقدس .
العامل الرابع :
تأثر الراوي بما سمعه عن اتجاهات الأئمة المعصومين عليهم السلام وأعمالهم ، حال وجودهم قبل الغيبة .
ويظهر ذلك واضحاً في روايته في جهتين :


صفحة (86)


الناحية الأولى :
ما سمعه الرواي من إقامة الأئمة (ع) للمعجزات ونطقهم بالأخبار بالغيب . إذن فينبغي – في رأيه – أن يكون حاكم تلك البلاد المزعومة ، مظهراً للمعجزات وناطقاً بالمغيبات .
إلا أن ذلك لا يجب أن يكون موجوداً في الدولة الإسلامية ، فإن قيادتها وتدبير الأمور فيها لا يعود إلى المعجزة بحال، بعد تمامية الحجة على شعبها في أول دخول الإسلام إليهم أو دخولهم في الإسلام . وعلى ذلك قامت دولة النبي (ص) ، وحسبنا من ذلك قوله (ص) : إنما اقتضى بينكم بالبينات والإيمان . وهو حديث صحيح مستفيض ، يراد بالحصر فيه أنه (ص) لا يستعمل المعجزة وعلم الغيب المسبق في القضاء . وكذلك الحال في سائر تدابير الدولة ، فيما لا يعود إلى إقامة الحجة بصلة .
وقد يخطر في الذهن : أن الأخبار بالغيب الذي صدر من حاكم تلك البلاد ، حين نادات باسمه واسم أبيه ، كان من أجل إقامة الحجة عليه ، فيكون مطابقاً لقانون المعجزات .
وجواب ذلك : إن هذا أمر محتمل ، ولكن ينافيه وجود مناسبات أخرى لإقامة الحجة في ذلك المجتمع ، لم تقم فيها المعجزة . حيث كان هناك مسيحيون تجب هدايتهم إلى الإسلام ، وكان هناك مسلمون من مذاهب أخرى ، اضطر الحاكم إلى الدخول معهم في جدل طويل ، مع أنه كان يمكن أن يستغني بالمعجزة . ومن المعلوم أن هذه المناسبات أولى من مجرد أخبار المسافر باسمه مع كونه متديناً على نفس المذهب والدين.
الناحية الثانية :
ما سمعناه في تاريخ الغيبة الصغرى من تكريس الأئمة عليهم السلام ، الأعم الأغلب من جهودهم في قيادة قواعدهم ومواليهم ، وتدبير شؤونهم ومحاولة دفع الأخطار عنهم . إذن فينبغي أن تكون الدولة في عصر الغيبة على ذلك ، في رأي الراوي .


صفحة (87)


مع أن هذا الرأي مخدوش من جبهتين :
الأولى : أن الأئمة (ع) وإن كرسوا غالب جهودهم في سبيل ذلك الهدف ، إلا أن لهم أعمالاً كثيرة على المستوى الإسلامي العام في الارتباط بعملاء المذاهب الأخرى والتقرب إلى قواعدهم الشعبية ، كما سمعنا طرفاً منه في تاريخ الغيبة الصغرى ، وهذا مما لم يلتفت إليه الراوي ليطبق مجتمعه عليه .
الثانية : إن الأئمة عليهم السلام إنما كرسوا جهودهم في قواعدهم الشعبية ، باعتبار انعزالهم عن الحكم وبعدهم عن المستوى السياسي العالي ، بسبب ما كانوا يواجهونه من الضغط والمطاردة من الجهاز الحاكم يومئذ .
وأما "المدينة الفاضلة" التي تكلم عنها الراوي ، فهي – لو صحت – تمثل دولة إسلامية . والدولة الإسلامية يجب عليها أن تفرض سلطتها على كل المجتمع المسلم بما فيه من مذاهب واتجاهات بل وبما فيه من أديان... بشكل متساو ، وتستهدف المصلحة الإسلامية العليا بالنسبة إلى الجميع . وهذا حكم اتفقت عليه سائر المذاهب الإسلامية، وطبقته كل الدول المسلمة على مر التاريخ .
ولا يجوز للدولة الإسلامية أن تقصر سلطانها على الشعب الموافق لها في المذهب بأي حال من الأحوال . كما أراد هذا الراوي أن يقول .
ومعه فقد تحصل من هذا الاعتراض الثالث أن هناك ما لا يقل عن اثنتي عشرة جهة من جهات النقص المهمة في التطبيقات الإسلامية ، في هذه المدينة الفاضلة . وبعضها تكاد تكون من ضروريات الدين على مستوى الحكم الإسلامي العام .
إذن فهذا المجتمع المزعوم غير موجود ، إذ لو كان موجوداً وكان تحت الحكم المباشر للمهدي (ع) وقيادته، لما أمكن أن يكون ناقصاً بأي حال .
إذن ، فانطلاقاً من هذه الاعتراضات الثلاثة ، واعتراضات أخرى لا مجال لتفصيلها ، تسقط الروايتان للانباري والمازندراني عن الاعتبار ، ومعه فلا يبقى دليل تأسيس المهدي (ع) في غيبته الكبرى مجتمعاً نموذجياً . وإنما هو مذخور للقيام بدولة الحق والعدل في العالم كله في اليوم الموعود . عجل الله فرجه .


صفحة (88)


الفصل الرابع
في مقابلاته عليه السلام خلال غيبته الكبرى والمصالح والأهداف التي يتوخاها من ورائها
وينبغي أن ننطلق إلى الحديث عن ذلك في ضمن جهتين رئيسيتين ، باعتبار انقسام الحديث ، تارة إلى ما تقتضيه القواعد العامة من ذلك ، وأخرى إلى ما تدل عليه الروايات الناقلة لتفاصيل المقابلات .
الجهة الأولى :
فيما تقتضيه القواعد العامة من خصائص المقابلات :
ويقع الكلام في ذلك ، ضمن أمور :
الأمر الأول :
في أنه هل يرى المهدي (ع) على الدوام ، بحيث تستطيع أن تقابله وتحادثه متى سنح لك ذلك ، أو لا .
يختلف الجواب على مثل هذا السؤال ، نتيجة للأخذ بإحدى لأطروحتين الرئيسيتين السابقتين . فإن رأينا صحة أطروحة خفاء الشخص ، كان الجواب بالنفي لا محالة ، ما لم تتعلق مصلحة خاصة وإرادة من قبل المهدي (ع) في الظهور والمقابلة .


صفحة (89)


وقد سبق أن أشرنا أنه باء على الأخذ بهذه الأطروحة يكون الشيء الدائم هو الاختفاء الإعجازي ، وما هو الاستثناء هو الظهور الطبيعي المتقطع القليل وأما لو أخذنا بأطروحة خفاء العنوان ، وهي التي اخترناها واستدللنا على صحتها ، فهنا مستويات ثلاثة للمقابلة :
المستوى الأول :
مقابلة المهدي (ع) بشخصيته الثانية ، حال كونه مجهول الحقيقة مغفولاً عنه بالمرة .
وهذا المستوى متوفر دائماً للناس الذي يعايشونه في مجتمع أو الذين يصادفونه في أي مكان كان . طبقاً لمفهوم هذه الأطروحة .
المستوى الثاني :
مقابلة المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، مع عدم الالتفات إلى ذلك إلا بعد انتهاء المقابلة .
وهذا المستوى هو الذي سارت عليه المقابلات الاعتيادية المروية ، على ما سنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل مشفوعاً بالتبرير النظري له .
المستوى الثالث :
مقابلة المهدي (ع) بصفته الحقيقية ، مع الالتفات إلى ذلك في أثناء المقابلة . وهذا المستوى قليل في روايات المشاهدة جداً ، باعتبار كونه مخالفاً في الأغلب للمصلحة ، ومنافياً للغيبة التامة ، على ما سنسمع.
الأمر الثاني :
في كيفية المقابلة معه عليه السلام .
ويختلف ذلك أيضاً باختلاف الأطروحتين الرئيسيتين :
أما بناء على الأخذ بالأطروحة الأولى ، فتحتاج المقابلة إلى عدة معجزات ، بعد أن عرفنا أن مفهوم هذه الأطروحة يتضمن الاختفاء الإعجازي الدائم . ولا يمكن أن تحدث المقابلة مع استمرار الاختفاء بطبيعة الحال ، إذن فلا بد من حدوث عدة معجزات لإتمام الغرض من المقابلة .
المعجزة الأولى :
ظهوره بعد استمرار الاختفاء بكل استثنائي ، اقتضته مصلحة خاصة . وهذا الظهور يقطع الحالة الإعجازية الدائمة للاختفاء ، فيكون هو معجزة أيضاً .


صفحة (90)


المعجزة الثانية :
إقامة الحجة القاطعة على إثبات حقيقته وأنه هو المهدي (ع) . بحيث يثبت ذلك ولو بعد انتهاء المقابلة .
وهذه المعجزة ضرورية لإثبات حقيقته ، بعد العلم أن الرائي جاهل بالمرة بشكل الإمام المهدي (ع) وسحنته. ومن الواضح أنه لا يكفي للرائي مجرد إدعاء كونه هو المهدي المقصود ، بل يحتاج لا محالة إلى إقامة الحجة بالمعجزة لإثباته .
المعجزة الثالثة :
اختفاؤه بعد الظهور ، وعوده إلى حالة الاختفاء الأولى بعد أن يكون قد أنجز المطلوب من المقابلة .
فهذا ما تحتاجه المقابلة لو صحت الأطروحة الأولى .
وأما لو أخذنا بالأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، التي تقول : بأن الشيء الدام بالنسبة إلى المهدي (ع) هو الظهور الشخصي مع خفاء العنوان ، كما سبق أن أوضحناه ... فالمعجزة الأولى لا حاجة لها على الإطلاق . بل حسب المهدي (ع) أن يقابل الفرد كأي إنسان آخر ، وينجز ما هو المطلوب من مقابلته ، ويعرفه بحقيقته ، ولو بحسب النتيجة ، أي ولو بعد المقابلة .
كما لا حاجة ، في الأعم الأغلب إلى المعجزة الثالثة ، أعني الاختفاء بعد المقابلة . بل يكون ذهاب المهدي (ع) بعد انتهائها طبيعياً ، ولو بتخطيط مسبق يقوم به المهدي (ع) لأجل تنفيذ الذهاب بشكل لا يكون ملفتاً للنظر .
نعم ، لو وقع الإمام في ضيق وحرج عند مقابلته ، بحيث تعرضت غيبته العامة إلى الخطر ، كان لا بد له من الإخفاء الإعجازي ، وهو مطابق – في مثل ذلك – لقانون المعجزات ، لأن في حفظ غيبته تنفيذاً لليوم الموعود .
وأما المعجزة الثانية ، وهي التي تثبت بها حقيقته ... فهي مما لا بد منه في الأعم الأغلب جداً من المقابلات . لما أشرنا إليه من أن الفرد حيث لا يعرف المهدي بشخصه ولا يكفيه مجرد دعوى كونه هو المهدي (ع) ، كان لا بد من إقامة الحجة لإثبات صدقه ، والحجة لا تكون إلا بالمعجزة ، ومن هنا كانت هذه المعجزة مطابقة لقانون المعجزات.


صفحة (91)


نعم ، قد يستغنى أحياناً عن هذه المعجزة ، فيما إذا كان الشخص الرائي ممن يعرف المهدي (ع) بشخصه وعنوانه. كما لو كان رآه في مرة سابقة وقامت الحجة لديه على حقيقته ، ثم رآه ثانياً وعرفه ، فلا حاجة به إلى إقامة الحجة تارة أخرى . ومعه يكون لقاؤه مع المهدي عليه السلام طبيعياً جداً ، من دون أن تقع أي معجزة .
والمثال الواضح لذلك هو السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى . فإنهم يعرفون المهدي (ع) بشخصه وعنوانه ، ويأخذون منه التوقيعات . ومثاله في الغيبة الكبرى ما يظهر من بعض الروايات أن الخاصة من المخلصين يجتمعون بالمهدي (ع) ويعرفونه ، على ما سيأتي . كما يظهر من بعض الروايات أن السيد مهدي بحر العلوم كان كذلك أيضاً، على ما سنسمع في أخبار المقابلات .
الأمر الثالث :
ماهي المصالح المتوخاة والأهداف المطلوبة للمهدي عليه السلام من مقابلته للآخرين ، بمقدار ما تهدينا إليه القواعد العامة . وسنسمع في الجهة الثانية من هذا الفصل تفاصيل ذلك وتطبيقاته .
وما ينبغي أن يكون هدفاً له عليه السلام من المقابلات ، هو قيامه بالمسؤولية الإسلامية ، بأحد الأنحاء التي سبق أن ذكرناها في الفصل الثاني من هذا القسم من التاريخ ... فيما إذا انحصر تنفيذها على المقابلة مع الآخرين بالشخصية الحقيقية ، ولم يمكن القيام بها حال الاستتار والجهل بالعنوان . وكانت الواقعة مشمولة للشروط التي ذكرناها في ذلك الفصل لعمله الإسلامي المثمر في المجتمع ، سواء على الصعيد الخاص أو الصعيد العام .
فقد يكون هدفه إنقاذ شخص من ضرر وقع عليه أو إنقاذ مجتمع من تعسف ظالم عليه . أو هداية شخص وتقويمه من الانحراف العقائدي أو الكفر أو الانحراف السلوكي ، أو الدفاع عن شخص أو مجتمع ضد الانحراف ، أو نحو ذلك من الأهداف التي كنا قد حملنا عنها فكرة فيما سبق ... مع توفر شروط العمل فيها لا محالة .


صفحة (92)


الأمر الرابع :
في كيفية حضور الإمام المهدي (ع) للمقابلة الصريحة ، مع الآخرين .
وإنما يثار التساؤل عن ذلك ، باعتبار ما قد يخطر في الذهن من أنه إذا كان الشخص الذي يريد المهدي (ع) مقابلته بعيداً عنه ، بحيث يحتاج إلى سفر طويل . فما الذي يمكن له أن يفعله . وذلك بعد الالتفات إلى نقطتين :
النقطة الأولى :
إن بعد المسافة هو الغالب في موارد عمل الإمام عليه السلام ، لأنها متفرقة على وجه البسيطة . ومن هنا يضطر الإمام إلى السفر المتطاول دائماً لقضاء حوائج الناس وحل مشاكلهم .
النقطة الثانية :
أنه قد يكون في كثرة الأسفار خطر على غيبته ومظنة لانكشاف أمره ، وخاصة بعد أن فرض العمل عن طريق المقابلة بالشخصية الحقيقية .
والجواب على ذلك يكون بإعطاء عدة أساليب ممكنة للمقابلة ، وتذليل الصعوبة المشار إليها في السؤال . مع الاعتراف أنه إذا لم يكن شيء منها ممكناً ، وكان فيها خطر على غيبته ، فإن عليه السلام لا يمارس العمل ، لأن العمل نفسه وإن فرض جامعاً للشرائط ، إلا أن الطريق إليه متعذراً ومقدماته خطرة ، وإيجاد العمل بدون مقدماته ممتنع . إذن فينسد باب العمل جزماً .
وتتلخص الأساليب المحتملة في عدة وجوه تختلف باختلاف الموارد :
الوجه الأول :
أننا لا حاجة لأن نفترض كون الشخص الذي يريد المهدي مقابلته بعيداً . بل يمكن أن يكون قريباً ، يعيش في نفس المجتمع الذي يعيش المهدي (ع) فيه ... فلا يحتاج إلى سفر أو مضي مدة . سواء كان المهدي (ع) يعيش في ذلك المجتمع مختفياً ، طبقاً للأطروحة الأولى ، أو ظاهراً مجهول العنوان ، طبقاً للأطروحة الثانية .
ومعه لا مجال للسؤال عن صعوبة المقابلة بأي حال .


صفحة (93)


الوجه الثاني :
مجرد الصدفة ... وهو أمر محتمل في بعض المقابلات ، فيما إذا صادف المهدي (ع) في بعض أسفاره شخصاً أو أناساً محتاجين إلى العمل في سبيل إنقاذهم أو هدايتهم ... بشكل تتوفر فيه الشرائط .
وحمل جميع المقابلات على مجرد الصدفة ، غير ممكن لكثرة المقابلات على مر التاريخ ، بحيث نعلم أن عدداً مهماً منها كان نتيجة لتخطيط وتعمد من قبل المهدي (ع) ... إلا أن بعضها يمكن أن يكون قد حدث صدفة .
ومعه ، ففي مورد الصدفة لا حاجة إلى السؤال عن كيفية تجشم السفر أو استلزامه لانكشاف الغيبة . فإن المفروض إن السفر لم يكن لأجل المقابلة ، وإنما كان لأهداف أخرى خطط فيها بقاء الاختفاء واستمرار الغيبة .
الوجه الثالث :
إن المهدي (ع) إذ يعلم وجود مورد للعمل المثمر الحاصل على الشرائط في مكان بعيد عنه من العالم ، ويكون الطريق إليه مأموناً بالنسبة إليه ، فإنه يقصده قصداً ويسافر إليه عمداً بطريق طبيعي جداً ، ليقوم بالوظيفة الإسلامية المقدسة في أنحاء المعمورة .
وهذا ممكن للغاية ، مع التخطيط لدفع الأخطار المحتملة . حيث يكون للمهدي (ع) أن يسافر وأن يرجع بشخصيته الثانية ، ولا يكشف حقيقته إلا للفرد المنوي مقابلته .
ونحن بعد أن نلتفت إلى الوجوه الأخرى ،لا نجد هذا الوجه هو الغالب في المقبلات ،لكي يستلزم أن يكون المهدي(ع) مضطراً إلى السفر المتطاول المستمر في سبيل قضاء حوائج الناس ، كما فهمنا من السؤال .
وعلى أي حال ، فهذين الوجهين الثاني والثالث ، منسجمين أيضاً مع الأطروحتين الرئيسيتين ، فإن مصادفة مورد العمل أو قصده سفراً يمكن أن يكون مع اختفاء الشخص كما يمكن أن يكون مع خفاء العنوان .


صفحة (94)


الوجه الرابع :
اتخاذ المعجزة في قضاء الحاجة أو العمل في سبيل هداية أو دفع ظلامة . سواء من ناحية سرعة الوصول بشكل إعجازي إلى المناطق البعيدة من الأرض أو من أي ناحية أخرى تحتاج إلى الإعجاز .
وهذا الوجه منسجم مع كلتا الأطروحتين الرئيسيتين . ولكنه ، طبقاً لقانون المعجزات ، منحصر بما إذا تضمن العمل في بعض الموارد إقامة الحجة على الآخرين ، بإيجاد الهداية أو برفع بعض أشكال الظلم . ومن البعيد أن نتصوره متحققاً في قضاء حاجة شخصية مهما كانت الضرورة فيها قصوى ، ما لم يكن راجعاً إلى إقامة الحجة ، بنحو من الأنحاء .
وهذه المعجزة التي نتحدث عنها الآن ، هي غير تلك المعجزة التي يستعملها المهدي (ع) لإثبات حقيقته للآخرين . ومن هنا قد يحتاج إلى كلتا المعجزتين ، وقد يحتاج إلى إحداهما ، وقد يتكفل إنجاز كلا الغرضين: سرعة الوصول والكشف عن حقيقته ، بمعجزة واحدة . كما قد لا يحتاج إلى شيء منها أحياناً... ذلك باختلاف خصائص كل واقعة وكل شخص تطلب مقابلته .
وبهذا ينتهي المقصود من بيان ما تقتضيه القواعد في مقابلات المهدي (ع) ، فلا بد أن ننظر إلى الأخبار الخاصة لنرى مقدار ما تثبته من المشاهدة ، وهل أنه منسجم مع ما تمّ طبقاً للقواعد العامة أو لا .
الجهة الثانية :
في الأخبار الخاصة الدالة على مشاهدة الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى . وهي عدد ضخم يفوق حد التواتر بكثير ، بحيث نعلم ، لدى مراجعتها واستقرائها ، بعدم الكذب والوهم والخطأ فيها في الجملة . وإن كانت كل رواية لو روعيت وحدها لكانت قابلة لبعض المناقشات على ما سوف يأتي .
والحاصل منها في اليد ، ما يفوق المئة ، يذكر منها الشيخ المجلس في البحار(1) عدداً منها ، ويذكر منها الحدث النوري في النجم الثاقب مئة كاملة .
(1) الجزء الثالث عشر ، ص 143 وما بعدها .


صفحة (95)


وقد كتب أيضاً رسالة خاصة في ذلك سماها "جنة المأوى" ألحقت بالجزء الثالث عشر من البحار ، يذكر فيها تسعاً وخمسين حادثة وهناك على الألسن والمصادر ال أخرى ما يزيد على ذلك بكثير .
على أننا سبق أن ذكرنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) أنه يحتمل – إن لم يكن يطمئن أو يجزم – بأن هناك مقابلات غير مروية أساساً ، وأن المهدي عليه السلام يتصل بعدد من المؤمنين في العالم في كل جيل ، مع حرصهم على عدم التفوه بذلك وكتمه إلا الأبد ، تحت عوامل نفسيه مختلفة شرحناها هناك . بل من الممكن القول بأن المقابلات غير المروية أكثر بكثير من المقابلات المروية .
وعلى أي حال ، فينبغي أن نتكلم في ما وردنا من الأخبار ، من حيث تحميص أقسامها ، ومن حيث معطيات مدلولها، في ضمن عدة أمور :
الأمر الأول :
في تمحيص هذه الروايات ، ومعرفة أقسامها ، فأنها ليست على نسق واحد وأسلوب مطرد في مقابلة المهدي عليه السلام ، بل يختلف الحال فيها اختلافاً كبيراً . ومرد هذا الاختلاف إلى الاختلاف في ظروف الشخص الرائي ومقدار وثاقته وضعفه وسنح الهدف الذي يستهدفه الإمام من وراء المقابلة ، وطريقة التخطيط الذي يضمن به سلامته وإخفاء نفسه . وبذلك تكاد تختلف كل رواية عن الأخرى ... وما يمكن أن يعنون من الاختلافات هو ما نذكره في الأقسام التالية ، نذكره بنحو قابل للتداخل وإمكان اندراج رواية واحدة في أكثر من قسم واحد :
القسم الأول :
ما كان منها متضمناً لإسناد أكثر من معجزة واحدة للإمام المهدي عليه السلام : اثنتين أو ثلاث ... وقد تصل إلى أربع .
(1) انظر ص 647 وما بعدها .


صفحة (96)


وقد سبق أن ذكرنا أنه لا حاجة إلى المعجزة إلا بمقدار إقامة الحجة ، ويكون الزائد أمراً مستأنفاً لا يصدر عن الخالق الحكيم . ومعه لا بد من إسقاط المعجزات الزائدة عن ذلك عن نظر الاعتبار ، ما لم نجد لها وجوهاً للتصحيح ... وإن كان ذلك لا يسقط مجموع الرواية ولا الدلالة على مقابلة الإمام المهدي ، لما ذكرناه من أن سقوط بعض مدلول الرواية لا يقتضي سقوط الجميع .
إلا أننا لا نعدم وجوهاً للتصحيح :
الوجه الأول :
أننا وإن قلنا أن المعجزة منحصرة بمورد إقامة الحجة ، إلا أن ذلك كما يقتضي عدم زيادتها على ذلك يقتضي عدم نقصها عن هذا الحد أيضاً . فلا بد من إقامة المعجزة بنحو يقنع الفرد العادي ، وينتفي بها احتمال الصدفة والتزوير، ولا تكون قاصرة عن ذلك . وأما لو كانت المعجزة مختصرة وغير ملفتة للنظر ، فقد لا تحمل الفرد الاعتيادي على الاقتناع .
ومعه فقد تمس الحاجة – أحياناً – إلى ضم أكثر من معجزة واحدة إلى بعضها البعض ، لكي تحصل القناعة . وهذا هو الذي وقع في عدد من أخبار المشاهدة التي نحن بصدد الحديث عنها . وقد سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى كيف كان يقيم المهدي (ع) دلالتين منضمتين ، حيث يقول بعض المؤمنين لأخيه المؤمن : لا تغتم فإن لك في التوقيع إليك دلالتين : إحداهما : إعلانه إياك أن المال ألف دينار . والثانية : أمره إياك بمعاملة أبي الحسين الأسدي لعلمه بموت حاجز .
الوجه الثاني :
أن نفهم – ولو احتمالاً - : أن الإمام المهدي (ع) له اهتمام خاص بالشخص الذي يقابله ، بحيث يريد أن يقيم له حجة واضحة جداً . فيضم معجزة إلى معجزة ، حتى يتحقق ذلك . ويكون ذلك واقعاً في طريق إقامة الحجة عليه ، فينسجم مع قانون المعجزات .
الوجه الثالث :
أننا ذكرنا أنه قد يحتاج المهدي (ع) أحياناً إلى أكثر من معجزة واحدة ، لكي تكون إحداها للدلالة على حقيقته وتكون الأخرى للاختفاء الإعجازي لدى الحاجة .


صفحة (97)


وهذا صحيح ، لولا ما قلناه من أن الاختفاء يكون طبيعياً وغير ملفت للنظر على الأغلب ، وما سوف نقوله من أن معجزة واحدة كافية لإيجاد كلا الأثرين :
أعني الدلالة على حقيقته والاختفاء .
وعلى أي حال ، فلا بأس من تعدد المعجزة في الحادثة الواحدة ، ولكن إن ثبت أنها مما لا مبرر لها بحسب القواعد العامة ... فلا بد من طرحها عن مدلول الرواية ، وإن لم يكن طرحها ملازماً لطرح كل المدلول .
القسم الثاني :
ما كان منها مكرساً على قضاء الحاجات الشخصية ، وهو الأعم الأغلب من أخبار المشاهدة . وأما ما كان منها لقضاء حاجة عامة أو هداية مجتمع كامل أو إنقاذه من الظلم ونحو ذلك ... فهو قليل الوجود في هذه الروايات ، على ما سوف نشير إليه .
ونحن في فسحة واسعة – بعد كل الذي عرفناه – من حيث إمكان ذلك ، وتعقل صحته ومطابقته مع القواعد العامة. وذلك من أجل عدة وجوه :
الوجه الأول :
إن المهدي (ع) يكرس عمله الاجتماعي المثمر العام ، بصفته مختفياً ، او بشخصيته الثانية . وقد سبق أن حملنا فكرة كافية عن أسلوبه في ذلك . لأنه عليه السلام يرى أن ذلك أضمن لسلامته ، ومن ثم يكون أفسح فرصة لتعدده وكثرته وعمق تأثيره ، بدون أن يعرف أحد أن التأثير وارد من قبل المهدي (ع) ليكون منقولاً عنه في أي رواية من الروايات .
الوجه الثاني :
أن نحتمل – والاحتمال كاف في أمثال هذه الموارد ، كما برهنا عليه في المقدمة – : إن الإمام المهدي (ع) عمل أعمالاً عامة عديدة في خلال العصور بصفته الحقيقية . ولكنه لم ينقل خبره إلينا إلا بهذا المقدار القليل . وذلك : لأحد مانعين :
الأول : إن الإمام بنفسه يأمر الآخرين بالكتمان ، أما لتوقف غيبته على ذلك ، إن لتوقف نفس المخطط الإصلاحي عليه أحياناً . كما لو كان يتوقف على إقناع أشخاص من غير قواعده الشعبية .


صفحة (98)


الثاني : إن العمل الشخصي بطبيعته أكثر إلفاتاً للنظر وأجدر بالنقل والرواية من العمل الاجتماعي العام ، في نظر أولئك الرواة غير الواعين الذي ينظرون إلى الكون والحياة من زواياهم الخاصة ومصالحهم الضيقة . وقد كان البشر ولا يزالون محافظين على هذا المستوى الواطئ ، وسبقون كذلك إلى يوم ظهور المهدي (ع) وقيامه بالعدل التام .
ومن ثم كان العمل الاجتماعي مهملاص في نظر الرواة ، وكان العمل الشخصي مؤكداً عليه عندهم ومنقولاً بإسهاب في رواياتهم . ومن هنا لا نجد من الروايات الدالة على عمل المهدي (ع) في الحقل العام إلا القليل.
الوجه الثالث :
أن نفهم – كما فهمنا فيما سبق – إن عدداً من المظالم العامة والخاصة الموجودة في العالم على مر العصور ، لا يتوفر فيها الشرط الأول من الشرطين اللذين ذكرناهما وقلنا أن كل شيء يكون على هذا المستوى يجب إهماله تنفيذاً للمخطط الإلهي في حفظ المهدي (ع) ليوم الظهور الموعود .
الوجه الرابع :
أن نفهم – كما فهمنا فيما سبق أيضاً – : إن عدداً من أنحاء الظلم العام الساري في المجتمع على مر التاريخ ، لا يتوفر فيه الشرط الثاني من الشرطين السالفين ... بمعنى كونه دخيلاً في تحقيق وعي الأمة وإدراكها لمسؤولياتها الإسلامية تجاهواقعها وتجاه نفسها وربها ومستقبلها . وهذا هو أحد الشروط الأساسية في تحقق ظهور المهدي عليه السلام على ما سنعرف. إذن فالمهدي ، حرصاً على تحقق شرط الظهور ،لا يعمل على إزالة هذا الظلم العام.
وهذا بخلاف الحال في المظالم الخاصة ، فأنها لو لوحظت منفردة لا تكاد تؤثر في وعي الأمة .


صفحة (99)


وعلى أي حال ، فما لا يكون دخيلاً في وعي الأمة أو الفرد ، يمكن أن يسعى المهدي (ع) إلى إزالته مع توفر سائر الشرائط فيه . وحيث كان عدم التأثير متوفراً في الظلم الشخصي ، وغير متوفر في الظلم العام ، كان عمل المهدي (ع) في إزالة الظلم الشخصي أكثر منه في إزالة الظلم العام.
إذن ، فمن المنطقي جداص ، على أساس هذه الوجوه الأربعة ، المتوفر واحداً منها أو أكثر في كل مقابلة ، أن يصبح العمل العام للإمام المهدي (ع) أقل من العمل الخاص ، أو أن تكون روايته أقل على أقل تقدير .
القسم الثالث :
من روايات المشاهدة ، ما لا يظهر فيه الإمام المهدي (ع) على مسرح الحوادث بوضوح ، وذلك بالنسبة إلى الراوي – على أقل تقدير – . بل يقوم الدليل القطعي عند الراوي المتحدث أن شخصاً آخر رآه وعره أو رآه ولم يعرفه إلا بعد ذهابه .
وهذا القسم يمثل بعض ما ذكره الحاج النوري من الأخبار المئة في "النجم الثاقب" . وهو غير مضر بكونه من أخبار المشاهدة . فإننا لا نعني من المشاهدة : مشاهدة المتحدث عن نفسه والراوي عن رؤيته فقط ... بل مشاهدة أي إنسان للمهدي (ع) . وهذا ما تضمن هذه الروايات الأعراب عنه .
القسم الرابع :
الروايات التي تدل على وجود المهدي (ع) من دون أن يراه أحد ، لا بمعنى اختفائه اختفاء شخصياً ، بل بمعنى أن الناس قد يتوسلون إلى المهدي (ع) بالنداء والدعاء بأن يقضي حاجتهم ويتوسط إلى الله عز وجل في تذليل مشكلاتهم ، فتقضى حاجتهم وتحل مشاكلهم ، أما بشكل طبيعي اعتيادي ، وأما بشكل لم يكن متوقعاً لصاحب المشكلة أساساً ، بحيث يضطر إلى الإذعان والجزم بكونه حاصلاً نتيجة لدعاء المهدي (ع). وبذلك يثبت وجوده عليه السلام ، وعنايته بمن يتوسل إلى الله عز وجل في حل مشكلاته .
وهذا القسم يمثل بعض أخبار المشاهدة ، وهو موجود على مر التاريخ بالنسبة إلى الكثير من المضطرين والمحتاجين . فإن الإمام بقربه إلى الله تعالى وكماله لديه يكون مستجاب الدعوة ، فيمكنه أن يستعمل دعاءه في قضاء حوائج الآخرين ، حين يرى المصلحة في ذلك .


صفحة (100)


وهذا هو أبعد طريق عن الشبهة والخطر بالنسبة إليه ، كما هو واضح . كما أنه يكون عملاً من الأعمال المنتجة بصفته ذو تأثير حقيقي في الخارج . وإنما يسقط الدعاء من كونه عملاً منتجاً فيما إذا كان بعيداً عن الإخلاص وعن إدراك حقيقة المسؤولية ، ومن ثم يكون بعيداً عن الإجابة فلا يكون منتجاً .
القسم الخامس :
الأخبار التي تدل على أنه شارك في إقامة الحجة على افرد ، بعض ما رآه في المنام أيضاً ، مضافاً إلى الحوادث التي عاشها في اليقظة .
وهذا الأمر ليس بالبعيد مع اقتران خصيصتين :
الأولى : إذا كانت إقامة الحجة على مستوى المعجزة .
الثانية : أن يكون لبعض ما رآه أثر في عالم اليقظة ، ولم تكن الحادثة مقتصرة على المنام وحده .
وكلا الخصيصتين مجتمعتان في الأخبار المندرجة في هذا القسم مما سطر في المصادر أو شوهد بالوجدان أو سمع بالنقل . ومعه تندرج هذه الأخبار فيما يدل بالدلالة القطعية على وجود المهدي (ع) ، وإن لم تندرج في أخبار المشاهدة .
وأود أن أشير في المقام إلى أنه ليس هناك أي دليل عقلاً ولا شرعاً على بطلان كل الأحلام جملة وتفصيلا . نعم ، لا شك في أكثرها زائل ولا حقيقة له ، وإنما هو ناشئ عن نوازع نفسية لا شعورية لدى الفرد . ولكن مما لا شك فيه وجود الأحلام المطابقة للواقع ، والتي يجد الفرد تطبيقها في عالم اليقظة بنحو أو بآخر ، وإنكار ذلك مكابرة واضحة على الوجدان ، وأنت حر بإعطاء أي تفسير لذلك عدا الصدفة المحضة التي يقطع بعدمها نتيجة للكثرة الكاثرة من الأحلام الصادقة على مر التاريخ .
فإذا اقترن الحلم بأمر زائد على مجرد المطابقة للواقع ، كان – ولا شك- من قبيل المجزات ، كما لو دعا لك شخص في المنام فشفيت في اليقظة أو وعدك بتحقق أمر فتحقق ، أو أخبرك بشيء لم تكن تعلمه ، وكان حاصلاً حقيقة .
ومع ذلك لا نريد أن نثمن تلك الروايات التي تقتصر على مجرد المنام ، فان مثل ذلك غير موجود في أخبار المشاهدة على الاطلاق . وإنما يوجد قسم منها تشارك اليقظة والنوم في إيجاد المعجزة للدلالة على حقيقة المهدي. وهو من أوضح الدلائل على صقد المنام .


صفحة (101)


وعلى أي حال ، فهذا القسم قليل العدد في روايات المشاهدة . ولو قدر لنا إسقاط المنام عن نظر الاعتبار، لكان لنا في ما حدث في اليقظة حجة وكفاية .
القسم السادس :
الأخبار الدالة على الحاج النوري في ذلك روايتين ، كان المهدي (ع) في احداهما بصورة "سيد" يعرفه الراوي ويعرف كونه جاهلاً واطئ الفهم والثقافة. وقد فهم كونه هو المهدي (ع) لما ذلكر من أمور علمية مع إنكار ذلك الشخص أنه كان هو القائل لذلك (1) . وكان المهدي (ع) في الثانية في صورة "شيخ" يعرفه الراوي (2) .
وهاتان الروايتان ، ونحوهما ما يثبت تشكل الامام المهدي (ع) في سحنته وجسمه أشكالاً مختلفة ، بحيث من الممكن انطباقها على أشخاص بعينهم ... يختلف حسابهما بالنسبة إلى الأطروحتين الرئيسيتين السابقتين :
أما أطروحة خفاء الشخص ، فهي وإن لم تقتض ذلك علىوجه التعيين ، لامكان أن يراه الرائي عند ارتفاع خفائه بشكل موحد في كل المرات . ولكن قد يتخيل من يقول بهذه الأطروحة : بأن حال المهدي (ع) وغيبته ، لما كانت مبتنية على المعجزات ، كما هو مفروض هذه الأطروحة ، فمن الممكن أن تتوسع في المعجزات إلى كثير من خصوصيات الامام (ع) وأموره ، حتى فيما يرتبط بشكله وسحنته ... ما دام الله تعالى قادراً على كل شيء .
ولكن الواقع ، أننا إذا سرنا في هذا التصور عدة خطوات ، لواجهنا انحرافاً خطيراً وفهماً خاصاً باطلاً للتصورات والقواعد الاسلامية ، لسنا بصدد تفصيله .
(1) النجم الثاقب ، ص 368 وما بعدها . (2) المصدر ص 373 .


صفحة (102)


هذا ويراد بالسيد والشيخ من كان بزي رجال العلم الديني الاسلامي .غير أن السيد من كان من العلويين منهم والشيخ منهم من لم يكن كذلك .
والصحيح هو ما قلناه في تأسيس الأطروحة الثانية ،من قانون المعجزات ،وإن كون الله تعالى قادراً على كل شيء، لا يقتضي إيقاعه للمعجزات بعدد كبير وبدون مبرر واضح . بل لابد من اقتصاره على مورد إقامة الحجة ، وتربية البشر .
فإذا تمّ ذلك ، عرفنا أننا نعترف بإمكان ما قيل من تغير شكل الإمام-موقتاً – عند انحصار إقامة الحجة على ذلك أو توقف مستقبله الموعود عليه .غلا أن ذل كمما لا يكاد يوجد له مصداق أو تطبيق في أي مورد ن لما سبق أن عرفناه من إمكان إيجاد المقابلة وإنهائها بشكل طبيعي ، أو بإيجاد معجزة واحدة هي الاختفاء عند الضرورة ، مع الحفاظ على شكله الذي هو قوام شخصيته بين الناس . وإذا أمكن ذلك ، انتفت الحاجة إلى تغير الشكل بالمعجزة ، وإذا انتفت إليها الحاجة لم يكن لوجودها سبيل ، بحسب قانون المعجزات .
وينفي هذا المضمون أيضاً ، ما سبق أن سمعناه من أن عدداً من الأفراد يعرفون الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى وفي غيبته الكبرى ، بشكل وسحنة موحدة بالرغم مما قد يتغير من زيه وملبوسه.
القسم السابع :
من أخبار المشاهدة ما دل على مشاهدة المهدي (ع) في العراق أو وسطه وجنوبه على وجه خاص . وهذا يشمل الأعم الأغلب من أخبار المشاهدة .
ومع ، فقد يخطر في الذهن : أن هذا الاختصاص بمنطقة معينة من العالم مما لا يناسب الوظيفة الإسلامية التي عرفناها للمهدي طبقاً للأطروحة الرئيسية الثانية ... من تنفيذ عدد من مصالح المسلمين وحل مشاكلهم ، مما هو مستجمع للشرائط السابقة ، وخاصة مما يمت إلى قواعده الشعبية ومواليه بصلة . ومن المعلوم أن عمله في خصوص العراق ،يجعل هناك ضيقاً في نشاطه لا عن المسلمين فقط ،بل عن قواعده الشعبية في غير العراق أيضاً، فكيف نستطيع أن نفسر هذه الأخبار .
والجواب عن ذلك يكو من عدة وجوه :
الوجه الأول :
إن الأخبار المثبتة لمشاهدته عليه السلام في غير العراق، لا قصور فيها من حيث الدلالة على قيام المهدي بوظيفته الاسلامية في تلك البلاد . على ما سنسمع فيما يلي من البحث مفصلاً .


صفحة (103)


الوجه الثاني :
أننا ينبغي أن نلتفت إلى ما قلناه من أن هناك عدداً ضخماً من المشاهدات غير المروية، قد يفوق العدد المروي منها .
إذن ، فمن المحتمل أن يكون عدد مهم من المشاهدات واقع خارج العراق ، ولم تسنح الظروف – التي أشرنا إلى بعضها – بنقل أخبارها إلينا .
كما ينبغي أن لا ننسى ما قلناه من أن المهدي عليه السلام يعمل الأغلب من أعماله بشخصيته الثانية وبصفته فرداً عادياً في المجتمع ، ومثل هذه الأعمال تحصل ولا يردنا خبرها بطبيعة الحال . أو قد يصلنا الخبر ولا نعرف انتسابها إلى المهدي (ع) بحقيقته .
ومعه فالمهدي يمكنه أن يعمل في سائر البلاد التي يصل اليها ، سكناً أو سفراص ، من دون أن يثير حوله أي استفهام أو أن يصل إلى الآخرين عنه أي خبر .
الوجه الثالث :
إن غاية ما تدل عليه هذه الأخبار ، هو أن غالب سكنى المهدي (ع) هو في العراق . ومن المعلوم أن عمل الفرد يكثر في محل سكناه عنه في المناطق الأخرى .وخاصة فيما إذا كان يجد من بعض الأسفار صعوبة وخطراً علىنفسه أو إثارة للاستفهام عن حقيقته .
واختياره عليه السلام العراق للسكنى ، ممكن وقريب ، ولا ينافي أياً من الأطروحتين الرئيسيتين . وخاصة بعد أن كان هو بلد سكناه غالباً في غيبته الصغرى – كما عرفنا- . وفيه مساكن ومدافن جملة من آبائه الطاهرين عليهم السلام . وكان مركزاً لعدد مهم من الأعمال الاسلامية الكبرى في صدر الإسلام كواقعة كربلاء وغيرها . وسنعرف أيضاً في الكتاب الثالث من هذه الموسوعة أن العراق والكوفة على الخصوص، ستكون هي المنطلق الأساسي ، بعد ظهور المهدي (ع) لفتح العالم كله والعاصمة الرئيسية للدولة الإسلامية العالمية المهدوية .


صفحة (104)


وهنا يمكن أن يخطر في الذهن سؤالاتن ، لا بد من عرضهما مع محاولة الجواب عليهما :
السؤال الأول :
أنه لماذا كان العراق هو مركز الثقل في كل هذه الأعمال الكبرى ، ولم يكن غيره بهذه الصفة . مع العلم أننا نؤمن بتساوي البشر عامة والمسلمين خاصة وبتساوي المناطق واللغات تجاه التشريع الإسلامي والعدالة الإلهية . فما هو الوجه في ذلك ؟
والجواب عن ذلك : أن العراق لم يحتل هذا المركز المهم ، من أجل عنصرية معينة ، وإنما له من الصفات الواقعية التي تجعله المنطلق الوحدي في العالم لكل تلك الأعمال الكبرى .
ويمكن تلخيص خصائصه الرئيسية بما يلي :
الخصيصة الأولى :
إن العراق من الناحية الجغرافية ، يعتبر في وسط البلاد الإسلامية في عصر الغيبة ، ابتداءً بالهند وأندونيسيا وانتهاءً بمراكش وغرب أفريقيا عموماً .
الخصيصة الثاية :
إن العراق مسكن للقواعد الشعبية التي تؤمن بوجود المهدي (ع) وغيبته .
الخصيصة الثالثة :
إن العراق سيصبح الأرض التي تتمخض عن عدد غير قليل من القواد الرئيسيين للمهدي (ع) بعد ظهوره ، كما سيتضح من الكتاب الثالث من هذه الموسوعة ، بخلاف البلاد الإسلامية الأخرى ، فأنها تتمخض عن عدد قليل .
والسر في ذلك : ليس هو أفضلية العراق ككل على غيره ، وإنما ذلك باعتبار ما يمر به الشعب هناك من مآسٍ ومظالم أكثر من غيره من الشعوب المسلمة ، وسنعرف في ما يلي من هذا التاريخ أن زيادة الظلم يتمخض عن كثرة الإخلاص والمخلصين .


صفحة (105)


وبهذه الخصائص الثلاث ، يكون العراق ذا موقع أهم من الناحية الإسلامية من كثير من البلاد الإسلامية الأخرى : نعم ، ينبغي أن لا ننسى الجزء الأكبر من بلاد فارس فإنها أيضاً تتصف بنفس الخصائص . وحيث كانت مجاورة للعراق أمكن تعميم المنطقة بخصائصها إليها .
السؤال الثاني :
إن روايات المشاهدة وإن دلت على سكنى المهدي (ع) في العراق ، إلا أن هناك أموراً أخرى تدل على خلاف ذلك ، تكون معارضة مع هذه الروايات . فكيف نجمع بينهما .
الأمر الأول :
ما سبق أن ذكرناه طبقاً للأطروحة الرئيسية الثانية ، من أن خير وجه متصور يخطط المهدي (ع) لكي يبعد الأنظار عن نفسه والالتفاف إلى حقيقته ، هو أن يسكن في كل جيل مدينة إسلامية غير التي كان يسكنها وقلنا أنه لعله يسكن في كل خمسين سنة في مدينة من العالم الإسلامي .
ولكن الواقع أن هذا لا يعارض سكناه الغالبة في العراق خلال التاريخ ، وسكناه في عدد من مدن العراق أيضاً . فلا يكون معارضاً مع ما دلت عليه روايات المشاهدة .
الأمر الثاني :
الرواية السابقة التي دلت على اختياره المدينة المنورة للسكنى .
الأمر الثالث :
ما سمعناه من اختياره البراري والقفار وشعاب الجبال محلاً للسكن ، كما دلت عليه رواية علي بن مهزيار.
والجواب على كلا هذين الأمرين ، من وجهين :
الوجه الأول :
أننا سبق أن وجدنا المبررات الكافية لرفض الأخذ بكلا هاتين الروايتين ، ومعه ، فلا تكون معارضة ما دلت عليه روايات المشاهدة .


صفحة (106)


الوجه الثاني :
إن ما يدل عليه غالب روايات المشاهدة هو سكنى المهدي في غالب العصور المتأخرة في العراق ، ومعه ففي الإمكان افتراض سكناه في البراري والقفار . وخاصة بعد أن علمنا أن الحاجة إلى الانعزال والحماية قد ارتفعت بالمرة عن شخص المهدي عليه السلام ، في العصور المتأخرة .
فهذه هي جملة الأقسام في أخبار المشاهدة ، مع تمحيصها . ونكرر تارة أخرى أن كل رواية بمفردها ، قد تكون قابلة للمناقشة إلا أن العلم الحاصل من المجموع غير قابل للمناقشة ، ويكون نافياً للكذب والخطأ والوهم … ولو في بعضها على أقل تقدير .
الأمر الثاني :
من الكلام عن أخبار المشاهدة .
إن هناك إيراداً عاماً يمكن أن يرد على هذه الأخبار لو لوحظت النظرة الإسلامية العامة إلى المجتمع .
وحاصل هذا الإيراد : أننا لا نكاد نجد في أخبار المشاهدة ، في الغيبة الكبرى ، توجيهاً عاماً واعياً يقوله الإمام عليه السلام لأحد ممن يقابله ، سواء كان الغرض قضاء حاجة عامة أو قضاء حاجة خاصة .
مع أن يتبادر إلى التصور أن ما يفعله الإمام (ع) في أثناء المقابلة ، هو أن يربي من يقابله ويثقفه بالثقافة العامة الإسلامية الصحيحة ، ويلخص له في عدة كلمات القضايا الإسلامية المهمة التي تنير له الطريق وتحثه على السير القويم . والمشاركة في بناء المجتمع المسلم بناء صالحاً واسع الأثر بعيد النتيجة .
مع ان هذا لم يحدث ، إذ لو كان قد حدث لنقل في الأخبار ، مع أنه تكاد أن تكون خالية عنه ، ولو كان قد حدث لأصبح الفرد من أفضل الصالحين ، وأوسع العاملين ، ولرأينا آثاراً اجتماعية مهمة مترتبة على أعمال الذين شاهدوا المهدي (ع) ، وتابعيهم بإحسان ، مع أن ذلك لم يحدث !


صفحة (107)


فلماذا لم يقل المهدي (ع) مثل هذه التوجيهات ، وإذا كان قاله ، فلماذا لم ينقل إلينا ، أو لم يظهر أثره في المجتمع المسلم .
ونحن إذا استطعنا الجواب على ذلك ، فقد سرنا قدماً جديدة في تحديد سياسة الإمام المهدي (ع) تجاه الآخرين ممن قابلوه ، وممن لم يقابلوه أيضاً .
ويتم الجواب على ذلك ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
أننا عرفنا أن المهدي (ع) يعمل – مع اجتماع الشرائط – العمل النافع بصفته فرداً اعتيادياً في المجتمع . وفي مثل ذلك يكون له أن يقول ما يشاء ويفعل ما يريد ويمهد لتكميل الأفراد والمجتمعات ، من دون أن تعرف هويته الحقيقية . وربما كان الكثير ممن برزوا في العالم الإسلامي علماً وعملاً ، كانوا قد سمعوا التوجيه من المهدي (ع) بدون أن يعرفوه على الإطلاق .
النقطة الثانية :
إن المهدي (ع) قد يجتمع بالخاصة من المؤمنين به ، وهو ما سبق أن تصورناه بصفته أطروحة محتملة ، وتدل عليه بعض الأخبار أيضاً ، على ما سنسمع ، وباجتماعه معهم ، بالشكل الذي يعرفوه بحقيقته ، ينفتح لهم المجال الواسع لتلقي التعليمات منه عليه السلام ، والخوض في مناقشة المسائل الاجتماعية والاسلامية على صعيد واسع وواعٍ . ثم هم يطبقونه في حياتهم العملية ، من دون أن ينقلوا من هذا القبيل .
فإن كفى ذلك في قناعتنا في كفاية هذه التوجيهات ، عما نتوقعه من أخبار المشاهدة ، فهو المطلوب . وإن تنزّلنا عن هذه النقطة ، أمكننا الانتقال إلى ما يلي :
النقطة الثالثة :
إن المعهود من ديدن النبي (ص) ، والأئمة عليهم السلام ، هو إعطاء كل مقام مقاله ، وعدم المبادرة إلى البيان من دون سؤال . وإذا سألهم سائل عن بعض الحقائق العبادية أو الاجتماعية أو الكونية ، نظروا إلى مقدار مستوى السائل من حيث الثقافة ، وأعطوه من الجواب بمقدار ما يفهمه ويستطيع هضمه وتمثيله نفسياص وعقلياً . ولم يكونوا يحملونه جواباً يحوي من الحقائق ما لا يطيقه كاهله أو لا يسيغه عقله .


صفحة (108)


بل أن هذا الدين غير خاص بقادة الإسلام ، بل عام لكل عالم عندما يسأله جاهل ، وكل اختصاصي عندما يسأله عامي. فليس من المحتمل أن يجيب انشتاين بكل تفاصيل نظريته النسبية ، أو ببعض دقائقها ، لو سأله عنها شخص ، وإنما يكتفي في الإعراب عنها ، بإعطاء بعض العموميات .
وهذا هو المراد الجوهري ، مما ورد شرعاً وعرفاً ، من قولهم : خاطب الناس على قدر عقولهم . وهو أمر واضح في الأذهان في غاية الوضوح .
ومعه ، فلا ينبغي أن نتوقع من المهدي (ع) أن يسير بغير هذا الديدن الذي سار عليه آبؤه عليهم السلام . فهو لا محالة يقدر المستوى العقلي والثقافي للفرد قبل أن يوجه توجيهه أو يذكر كلامه .
فإذا علمنا أنه عليه السلام كان يواجه الناس لأغراض حل مشاكلهم العامة والخاصة ، بغض عن مستوياتهم الثقافية ، وعلمنا أن كثيراً من كان يواجههم ذو مستوى في الوعي والثقافة الإسلامية العامة واطئ إلى حد كبير ... لم نكن نتوقع – مع هذا – أن يذكر المهدي توجيهاً أو إرشاداً خارجاً عن حدود قضاء الحاجة وتذليل المشكلة ، مما يكون له آثار أخرى في المجتمع والحياة .
وهذه هي القاعدة الأساسية التي تفسر هذا الجانب من سياسة الإمام عليه السلام ، تجاه الآخرين .
النقطة الرابعة :
أننا لو غضضنا النظر عما قلناه في النقطة الثالثة ،وفرضنا أن المهدي (ع) يوجه البيانات إلى من يراه بشكل واسع، بقطع النظر عن مستواه الثقافي والفكري ... فنحن – مع ذلك – لا ينبغي أن نتوقع من هذه التوجيهات أن تصنع لنا الأبطال والمشاهير في العلم والعمل ... كما تخيل السائل الذي نناقشه الآن .


صفحة (109)


فإننا نعرف سلفاً أن المقابلة تكون قصيرة دائماً ، وغير مكرر على الأغلب ، ومكرسة – بطبيعة الحال – لأجل حل مشكلة معينة . إذن ، فماذا يبقى للتوجيهات العامة المتصوورة للإمام المهدي (ع) من الزمان ، إلا أقل القليل . فلو فرض أن الإمام عليه السلام اغتنم هذه الفرصة ، وتكلم مع الفرد مقدار ربع ساعة أو نصف ساعة على أكبر التقادير ، فإن هذا الكلام مهما كان مركزاً وكاملاً وعميقاً ، لا يمكن أن يصنع من الفرد العادي بطلاً من الأبطال ، أو شهيراً من المشاهير ، من الزاوية الإسلامية الحقة . فإن الأمر لا يخلو من أحد فرضين لا ثالث لهما . وهما : أن المهدي (ع) إما أن يريد تربية من يقابله وتثقيفه بشكل المعجزة ، وإما أن يريد ذلك بنحو طبيعي .
أما طريق المعجزة فهو منسد أساساً ، لعدم كون هذه المعجزة واقعة في طريق إقامة الحجة ، بعد فرض إيمان الفرد بالإسلام ، فلا يقتضي قانون المعجزات وجودها . على أنها لو وجدت للزم منها الجبر الباطل على ما هو يبرهن عليه في محله من بحوث العقائد في الإسلام .
وأما تربيته وتثقيفه بالطريق الطبيعي ، فمثل هذه التربية مما لا يمكن وجوده في زمان يسير ، وإنما يحتاج الإنسان في تكامله إلى زمان طويل وتجربة واسعة وتربية بطيئة حتى يتكامل وينضج نضجاً واقعياً . ولا يمكن أن يكون كلام الإمام (ع) – حتى لو فهمه واستوعب حقائقه – إلا خطوة واحدة في طريق تكامل الإنسان . ويبقى بينه وبين رفعته الحقيقية خطوات وخطوات .
على أن الكلام المركز القصير الذي فرضناه في السؤال ، مما يتعذر على الفرد العادي فهمه ويحول تركيزه وعمقه دون استيعابه . وأما إذا لم يكن مركزاً وعميقاً لم يكن منتجاً للنتائج المتوقعة في السؤال .
إذن ، فيتعين على المهدي (ع) – في حدود هذه النقطة الرابعة – أن يعرض عن التوجيهات صفحاً ، لعدم جدواها إلا بطريق إعجازي ، لا يمكن تحققه طبقاً لقانون المعجزات .
النقطة الخامسة :
أننا نحتمل – على الأقل – أن هذه التوجيهات العامة لو تكررت وأثرت لكان لها أبلغ الأثر في تغيير التاريخ الإسلامي بل التاريخ البشري ، وفاقاً لما قاله السائل ، بعد التنزل عن النقاط السابقة .


صفحة (110)


وهذا التغيير المتوقع ، مما لا يحتوي على مصلحة ، لأنه يؤخر يوم الظهور ويفوت شرطه الأساسي ، وهو مرور الأمة بأزمنة الظلم والجور ، حتى تتكامل عن تجربة وحنكة وقوة إرادة ، لا عن استخذال وتكاسل . ومعه فلا يمكن أن يقوم المهدي (ع) بذلك ، وإنما يقتصر على التوجيهات الصغيرة التي لا تبلغ هذا المستوى .
إذن ، فبلحاظ أي واحدة من هذه النقاط ، فضلاً عن مجموعها ، يكون من المنطقي أن نتصور خلو أخبار المشاهدة من التوجيهات العامة الواعية ، واقتصارها على ما هو المقصود من المقابلة ، ليس إلا .
مضافاً إلى أننا نعرف أن الرواة إذا كانوا من الخاصة المخلصين المتقبلين لتوجيهات المهدي (ع) ، فإنهم يحذفونها عند نقل الواقعة احتراماً لها وصوناً لمدلولها عن الانتشار ... كما يظهر من بعض روايات المشاهدة . واذا لم يكونوا من أولئك الخاصة ، فإنهم إما أن يحذفوا التوجيهات لعدم الاهتمام بها ، وإما أنهم ينقلونها بالمعنى الذي فهموه ، فتبدو لنا بشكل ممسوخ ذو طابع شخصي ضيق ، ولا تكاد تكون من التوجيهات العامة ، إذا عرضت بهذا الشكل .
هذا ، فيما إذا سلمنا ، ما افترضناه في السؤال من أن التوجيهات العامة لم ترد في روايات المشاهدة ... هذا وإن كان صحيحاً بشكل عام . ولكننا لا نعدم سماع ذلك أحياناً ، حين يجد المهدي (ع) مصلحة في التوجيه ، في الحدود الممكنة . وقد نستطيع أن نحمل فكرة عن ذلك فيما يلي من هذا الفصل .
الأمر الثالث :
هل أن مشاهدات المهدي عليه السلام على حقيقته ، في غيبته الكبرى ،يحتاج إلى درجة عالية من الإيمان والوثاقة، كما يميل إليه بعض الباحثين ، أو لا يحتاج .


صفحة (111)


لاشك أن تلك الدرجة العليا ، كانت شرطاً في مشاهدة صاحب الأمر المهدي (ع) في غيبته الصغرى ... كما عرفنا في تاريخها ، حيث لم يكن أبوه الإمام العسكري (ع) يطلع أحداً عليه إلا من الموثوقين الخاصين ، وكذلك كان ديدن المهدي (ع) بعد وفاة أبيه . ما عدا حوادث قليلة جداً ظهر عليه السلام للمنحرفين من أصحابه لمصالح معينة ، وبشكل مأمون النتيجة(1) .
وأما في عصر الغيبة الكبرى ... فلا شك أن الأغلب هو اختصاص المقابلة بالخاصة الموثوقين . كما لا شك في أن الإمام المهدي (ع) قد يخص بعض الموثوقين ، بأكثر من مقابلة واحدة ، ولعلها تصل إلى عدد مهم من المقابلات لدى عدد منهم .
كما لا شك في أن المصالح الإسلامية ، قد تقتضي ظهوراً للمنحرفين ، إذا كان بنحو مأمون النتيجة .
ومعه ، فينبغي أن يقال : أن نفس النسبة التي رأيناها في الغيبة الصغرى ، تتكرر بشكل أو آخر ، في الغبية الكبرى أيضاً ، بين الموثوقين والمنحرفين . وهذا كله واضح لا غبار عليه ... لا بحسب القواعد العامة ، ولا بحسب أخبار المشاهدة ، إذ أن المنقول من المقابلات مع غير الموثوقين ، مشابه لهذه النسبة تقريباً .
ولكن الذي ينبغي أن نلتفت إليه ، هو وجود فرق أساسي ما بين حال المهدي (ع) في غبيته الصغرى وحاله في غيبته الكبرى ، فهو في الكبرى أكثر أمناً وأبعد عن التفات الأذهان إليه فتفتح له فرصة أكبر في مقابلات الناس ، بما فيهم غير الموثوقين والمنحرفون أيضاً . مع الالتزام بتخطيط معين يضمن عدم الاطلاع على حقيقته إلا بعد الفراق .
وهذا واضح ، بعد أن عرفنا من مضادرة السلطات له في الغيبة الصغرى ، وهناك قسم من الناس يعرفونه ويعرفون والده ، وخاصة في القسم الأول من تلك الفترة . وأما في الغيبة الكبرى ، فقد ابتعدت الأنظار عنه، وخفي شكله بالمرة عن سائر البشر ، وأيست السلطات عن مطاردته ، بل أنكرت وجوده تماماً . وكل ذلك يكون في مصلحة حرية تنقلاته ومقابلاته ، كما هو واضح .
ومن هنا نكاد نشخص بوضوح ، أن نسبة مقابلاته مع غير الموثوقين ، أكثر إلى حد واضح من نسبتها في الغيبة الصغرى . وأما المنحرفون ، فالمقابلة معهم أقل من ذلك العدد بكثير ،ولا تكون إلا فيما إذا توقف عليه غرض كبير، ولم يمكن تنفيذه عن طريق المقابلة مع أحد الموثوقين أو غير المنحرفين .
(1) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 469 وص 5.6 وما بعدها .


صفحة (112)


الأمر الرابع :
في التخطيطات التي يضعها المهدي (ع) لأجل ضمان عدم التفات الرائي إلى حقيقته في أثناء المقابلة .
فإن المقابلة ، قد تقتضي ، بحسب المصلحة ، أن يكشف المهدي عن حقيقته في أثنائها . وقد يكون الرائي عارفاً له من مقابلة سابقة ، كما قد يحصل للموثوقين الخاصين . وقد تقتضي المقابلة أن لا يعرفه الرائي إلا بعد المفارقة، فيما إذا لم يكن بتلك الدرجة العليا من الوثاقة ، فضلاً عما إذا لم يكن موثوقاً أو كان منحرفاً .
ففي مثل ذلك يحتاج المهدي (ع) إلى التخطيط بنحو يدع الرائي غافلاً عن حقيقته إلى حين الفراق ، على أن يفهم بعد ذلك أن الذي كان قد رآه ... هو المهدي (ع) .
وأساليب التخطيط الذي كان يضعها المهدي (ع) في سبيل ذلك ، بحسب ما ورد في أخبار المشاهدة ، عديدة، يمكن تلخيصها فيما يلي :
الأسلوب الأول : إبداله لزيه وواسطة نقله :
فنراه كثيراً ما يكون مرتدياً العقال العربي ، على اختلاف الأشكال ، فتارة نراه بزي البدو(1)وثانية بزي مهيب لطيف(2) وثالثة بزي فلاح يحمل مسحاته(3) ورابعة بزي سيد جليل من رجال الدين(4) .
(1) النجم الثاقب ، ص 241 . (2) المصدر نفسه ، ص 359 . (3) المصدر نفسه ، 343 .
(4) المصدر نفسه ، ص 273 . .


صفحة (113)


كما أن واسطة نقله قد تكون هي الجمل في عدد من المرات(9) كما قد تكون هي الفرس(1) وقد يكون هو الحمار(2)، كما قد يواكب الرائي ماشياً(3) وقد لا تحتاج المقابلة إلى سير وانتقال(4) .
كما قد يأتي إلى المقابلة ، فارساً حاملاً رمحاً عند الحاجة(5) ، كما قد يبدو متكلماً بلهجة البدو مستعملاً نفس كلماتهم(6) . وثالثة يبدو متكلماً بلهجة اللبنانيين(7) ورابعة باللغة الفارسية(8) .
وقد نعرف ، سيراً مع الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان : أن الأزياء والهيئات التي يقابل بها المهدي (ع) من يريد إخفاء حقيقته عليه أثناء المقابلة ... ليس شيء منها هو الذي يكون عليه في حياته الاعتيادية بشخصيته الثانية ، لوضوح وجود احتمال كبير في انكشاف حقيقته ، لو ظهر لأحدهم في نفس المجتمع الذي يعيش فيه . إذن فلا بد للمهدي (ع) أن يخطط للمقابلة بابدال زيه لا محالة ، قبلها ، ضماناً على الحفاظ على سره وخفاء عنوانه .
الأسلوب الثاني :
إقامته للمعجزة التي تكون دالة على حقيقته ، بنحو لا تكاد تكون ملفتة للنظر في أثناء المقابلة ، بل لا يكاد يعرف الرائي أنها معجزة أصلاً إلا بعد الفراق ... حين يستذكرها ويحسب حسابها فيعرف أن ذلك العمل لا يمكن أن يقام به إلا بنحو إعجازي .
(1) المصدر نفسه ، ص 357 . (2) المصدر نفسه ، ص 343 . (3) المصدر نفسه ، ص 280 . (4) المصدر نفسه ، ص 228 .
(5) المصدر ، ص 370 . (6) المصدر ، ص 358 . (7) المصدر ، ص 235 . (8) المصدر ، ص 344 .(9) انظر – مثلاً – المصدر السابق ، ص 342


صفحة (114)


ويتجلى ذلك بوضوح في عدد من الروايات ، بقطع المسافة الطويلة بزمان قصير ، المسمى بطيّ الأرض براً أحياناً وبحراً أخرى . ومن المعلوم أن حساب طول المسافة إنما يكون بعد قطعها . ولعل أوضح الروايات في ذلك ، ما فهمه الرواي بعد فراق المهدي (ع) من أن الطريق الذي مشى فيه في زمان قصير نسبياً ، لا يمكن لأحد أن يسير فيه إلا بأضعاف تلك المدة ، ومن المتعذر أن ينجو أحد من السباع والوحوش في ذلك الطريق ، ولكنه نجا منها ووصل في زمان قليل(1) .
الأسلوب الثالث :
ابتعاده عن الرائي في أثناء الحادثة ، وقبل انتهاء حاجته ، وإيكال إنهائها إلى غيره ... هو أما نفس صاحب الحاجة كما في بعض المقابلات(2) وقد يكون هو خادم الإمام عليه السلام(3) ، وقد يكون هو شخص آخر عابر للطريق(4).
الأسلوب الرابع :
تجنب كل ما من شأنه إلفات النظر إلى حقيقته ، كالإشارة إلى عنوانه صراحة أو كناية ، أو إقامته لمعجزة كبيرة واضحة ملفتة للنظر ، كما هو واضح من عدد من روايات المقابلات . بل قد يتجنب الجواب لو سئل عن اسمه ومكانه ، ولا يجيب بما يدل على حقيقته .
الأسلوب الخامس :
وقوع الرائي والرائين أو إيقاعهم ، في ظروف وقتية خاصة ، بحيث يرتج عليه باب السؤال عن حقيقة المهدي واسمه وبلدته . وهذا واضح من عدد من الروايات ، فإن الرائي قد يكون مهتماً بحاجته جداً(5) أو مذهولاً نتيجة لالتفاته إلى معجزة واضحة أوجدها المهدي (ع)(6)، أو مشغولاً بنفسه كالصلاة أو المرض أو ضيق البال ونحو ذلك. ولا يخفي أن نفس تلك الغفلة التامة التي يكون بها الناس تجاه رؤية المهدي (ع) ، تلك الغفلة التي لا يمكن ارتفاعها إلا تحت تأثير قوي ... هي من أكبر الظروف ، بل أكبرها على الاطلاق ، مما يقتضي عدم معرفة الرائي بالمهدي (ع) في أثناء المقابلة ... إلا بعد أن يحسب حسابه بعد الفراق .
(1) المصدر ، ص 239 . (2) المصدر ، ص 238 . (3) المصدر ، ص 306 .
(4) المصدر ، ص 241 . (5) المصدر ، ص 242 . (6) المصدر ، ص 282 .


صفحة (115)


فهذه هي الأساليب العامة للتخطيط الذي يتخذ المهدي (ع) بعضها . حينما لا يجد من المصلحة معرفته في أثناء مقابلته . وهناك بعض الأساليب الخاصة المبعثرة في الروايات ، مما لا يمكن أدراجه تحت ضابط عام، ويطول بنا المقام في تعدادها .
الأمر الخامس :
في الأغراض والمقاصد العامة التي يقصدها المهدي (ع) من عمله خلال المقابلة . وتؤجل التعرض للمقاصد الخاصة إلى الأمر السادس الآتي .
والمقصود من الأغراض العامة ، ما يكون مستهدفاً لأثر إسلامي اجتماعي أكبر من الأفراد وأوسع . وهو الذي قلنا أنه قليل التحقق بالنسبة إلى العمل الفردي الخاص ، وذكرنا السبب في ذلك .
وستكون الفرصة خلال هذ الأمر الخامس وما بعده مفتوحة للاطلاع المختصر على تفاصيل بعض المقابلات، بالشكل الذي يناسب المقام . ولا نكون مسؤولين عن سرد القصص بتفاصيلها فليرجع فيها القارئ إلى مصادرها .
وتنقسم الأغراض والأهداف العامة في أعمال الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى ، إلى عدة أقسام :
الهدف الأول :
إنقاذ الشعب المسلم من براثن تعسف وظلم بعض حكامه المنحرفين ، وخاصة فيما يعود إلى قواعده الشعبية من الخير والسلامة .
فمن ذلك ما قام به الإمام المهدي من إنقاذ شعبه في البحرين ، من تعسف حاكميه الذين تنص الرواية على كونهم من عملاء الاستعمار ومن المنصوبين من قبل المستعمرين(1) .
(1) انظر تفاصيل هذه الحادثة في النجم الثاقب ، ص 314 وما بعدها . وفي البحار ، جـ 13 ، وص 149 .
وفي منتهي الأمال ، جـ 2 ، ص 316 وما بعدها .


صفحة (116)


حيث كان للوزير في تلك البلاد ، وهو بمنزلة رئيس الوزراء في عالم اليوم ... مكيدة كبيرة كادت أن تؤدي إلى إرهاب القواعد الشعبية للإمام المهدي (ع) إرهاباً غريباً بمعاملتهم معاملة الكفار الحربيين من أهل الكتاب ... أما بأن يدفعوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، أو أن تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وأطفالهم . وقد كان للإمام المهدي (ع) اليد الطولى في كشف هذه المكيدة ودفع هذا الشر المستطير .
الهدف الثاني :
إنقاذ الشعب المسلم من براثن الأشقياء والمعتدين ، وعصابات اللصوص المانعين عن الأعمال الإسلامية الخيِّرة .
فمن ذلك(1) : عمل الكبير الذي قام به المهدي عليه السلام من فتح الطريق إلى كربلاء المقدسة ، أمام زوار جده الإمام الحسين عليه السلام ، في النصف من شعبان .
وكانت عشيرة "عنيزة" تترصد لكل داخل إلى كربلاء وخارج منها ، وتتعهده بالسلب والنهب ، فكان الطريق إليها موصداً يخافه الناس . فلولا قيادة المهدي (ع) للزائرين في الطريق إلى كربلاء وتهديده لعشيرة عنيزة بالموت والدمار إذا حاولت الاعتداء ، لامتنع الناس عن الذهاب إلى زيارة الإمام سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، ولتعطل هذا الشعار الإسلامي الكبيرة . فمرحى للألطاف الكبرى التي يسبغها المهدي (ع) على أمته .
وكان ذلك خلال حكم الدولة العثمانية للعراق . وكان من قوادهم يومئذ : كنج محمد آغا وصفر آغا ... كما تنص الرواية على ذلك ، ولكنها – مع الأسف – تهمل التعرض إلى التاريخ المحدد للحوادث .
إلفات نظر الآخرين إلى عدم تحقق شروط الظهور الموعود . والتأكيد على أن الأمة لم تبلغ إلى المستوى المطلوب من الوعي والشعور بالمسؤولية الذي تستطيع معه أن تحمل عاتقها الآثار الكبرى في اليوم الموعود . ومعه فلا بد من أن يتأجل الظهور حيث الدلالة على قيام المهدي بوظيفته الاسلامية في تلك البلاد . على ما سنسمع فيما يلي من البحث مفصلاً .
(1) راجع تفصيل ذلك في النجم الثاقب ، ص 370 ومنتهى الأمال ، جـ 2 ، ص 326 .


صفحة (117)


إلى اليوم الذي يتحقق فيه هذا الشرط مهما تمادى الزمن وطالت المدة . وليس لأحد أن يقترح تقديمه أو يعين تاريخه ، سوى الله عز وجل .
وقد حصل التأكيد على هذا المفهوم الصحيح الواعي من قبل المهدي (ع) ، على ملأ من الناس في رواية أرويها عن ابي دام ظله ، لم أجدها في المصادر المتوفرة . ومن هنا أجد من الضروري أن أروي تفاصيلها باختصار ، لكي يتضح تماماً المعنى المقصود من هذه الرواية .
وذلك : إن الناس في البحرين ، في بعض الأزمنة ، لمقدار إحساسهم بالظلم وتعسف الظالمين ... تمنوا ظهور إمامهم المهدي (ع) بالسيف ظهوراً عالمياً عاماً ، لكي يجتث أساس الظلم لا من بلادهم فحسب بل من العالم كله .
فاتفقوا على اختيار جماعة من أعاظمهم زهداً وورعاً وعلماً ووثاقة ، فاجتمع هؤلاء واختاروا ثلاثة منهم ، واجتمع هؤلاء واختاروا واحداً هو أفضلهم على الإطلاق ، ليكون هو واسطتهم في الطلب إلى المهدي بالظهور .
فخرج هذا الشخص المختار ، إلى الضواحي والصحراء ، وأخذ بالتعبد والتوسل إلى الله تعالى وإلى المهدي (ع) بأن يقوم بالسيف ويظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً . وقضى في ذلك ثلاثة أيام بلياليها .
فلما كانت الليلة الأخيرة ، أقبل شخص وعرفه بنفسه أنه هو المهدي المنتظر ، وقد جاء إجابة لطلبه . وسأله عن حاجته ، فأخبره الرجل بأن قواعده العبية ومواليه في أشد التلهف والانتظار إلى ظهوره وقيام نوره . فأوعز إليه المهدي (ع) أن يبكر في غد إلى مكان عام عينه له ، ويأخذ معه عدداً من الغنم في الطابق الثاني على السطح ، ويعلن في الناس أن المهدي (ع) سيأتي في ساعة معينة ، عليهم أن يجتمعوا في أرض ذلك المكان . وقال له المهدي (ع) أيضاً : أنني سأكون على السطح في ذلك الحين .
وامتثل الرجل هذا الأمر ، وحلت الساعة الموعودة ، وكان الناس متجمهرين في المكان المعين على الأرض، وكان المهدي (ع) مع هذا الرجل وغنمه على السطح .


صفحة (118)


وهنا ذكر المهدي (ع) اسم شخص وطلب من الرجل أن يطل على الجماهير ويأمره بالحضور . فامتثل الأمل وأطل على الجمع ونادى باسم ذلك الرجل ... فسمع الناس وصعد الرجل على السطح . وبمجرد وصوله أمر المهدي (ع) صاحبنا أن يذبح واحداً من غنمه قرب الميزاب ، فما رأى الناس إلا الدم ينزل من الميزاب بغزارة . فاعتقدوا جازمين بأن المهدي (ع) أمر بذبح هذا الرجل الذي ناداه.
ثم نادى المهدي (ع) بنفس الطريقة رجلاً آخر ، وكان أيضاً من الأخيار الورعين . فصعد مضحياً بنفسه واضعاً في ذهنه الذبح أمام الميزاب ، وبعد أن وصل إلى السطح نزل الدم من الميزاب . ثم نادى شخصاً ثالثاً ورابعاً . وهنا أصبح الناس يرفضون الصعود ، بعد أن تأكدوا أن كل من يصعد سيراق دمه من الميزاب . وأصبحوا يفضلون حياتهم على أمر إمامهم .
وهنا التفت المهدي (ع) إلى صاحبنا وأفهمه بأنه معذور في عدم الظهور ما دام الناس على هذا الحال .
فمن هنا نفهم بوضوح ، كيف أن المهدي (ع) استهدف إفهام الأمة بشكل عملي غير قابل للشلك ، بأنها ليست على المستوى المطلوب من التضحية والشعور بالمسؤولية الإسلامية . وكشف أمامها واقعها بنحو أحسه كل فرد في نفسه وأنه على غير استعداد لإطاعة أمر إمامه (ع) إذا كان مستلزماً لإراقة دمه . وإذا كانت الأمة على هذا المستوى الوضيع لم يمكنها بحال أن تتكفل القيام بمهمام اليوم الموعود بقيادة المهدي (ع) .
وستأتي البرهنة التامة على صحة هذا الشرط ، من شرائط الظهور ، في القسم الثالث من هذا الكتاب .
الهدف الرابع :
إرجاعه عليه السلام للحجر الأسود إلى مكانه من الكعبة .
فأن القرامطة بعد أن قلعوه أثناء هجومهم على مكة المكرمة عام 317 للهجرة(1) ، ونقلوه إلى هجر ، وكان ذلك إبان الغيبة الصغرى .
(1) الكامل ، جـ 6 ، ص 204 .


صفحة (119)


كما عرفنا من تاريخها(1) بقي الحجر لديهم ثلاثين عاماً(2) أو يزيد . وأرجعوه إلى مكة عام 339(3) أو عام 337(4) كان المهدي (ع) هو الذي وضعه في مكانه وأقره على وضعه السابق ، كما ورد في أخبارنا (5) .
قال الراوي : لما وصلت إلى بغداد في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة عزمت على الحج وهي السنة التي رد القرامطة فيها الحجز في مكانه إلى البيت . كان أكثر همي الظفر بمن ينصب الحجز ، لأنه يمضي في أنباء الكتب قصة أخذه ، فأنه لا يضعه في مكانه إلا الحجة في الزمان.كما في زمان الحجاج وضعه زين العابين عليه السلام في مكانه (6).
وأوضح الرواي بأن الناس فشلوا في وضعه في محله ، زكلما وضعه انسان اضطرب الحجز ولم يستقم . فأقبل غلام أسمر اللون حسن الوجه فتناوله فوضعه في مكانه ، قاستقام كأنه لم يزل عنه . وعلت لذلك الأصوات .
ثم أن المهدي عليه السلام ، خرج من المسجد ولاحقه الرواي طالباً منه حاجة, فقضاها له ، وأقام الدلالة ساعتئذ على حقيقته.
وهذه خقيقة تمثل فجوة تاريخية، سكت عنها التاريخ العام، وقد ملأتها أخبارنا الخاصة بكل وضوح . وهو أمر لا يمكن نفيه إلا بنفي فكرة غيبة المهدي عليه السلام من أصلها . وهو خلاف ما هو المفروض في هذا التاريخ .
(1) تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 356 . (2) تاريخ الشعوب الإسلامية ، جـ 2 ، ص 75 . (3) الكامل ، جـ 6 ، ص 235 .
(4) الخرايج والجرايح ، ص 72 . (5) المصدر والصفحة وانظر منتخب الأثر ، ص 406 .
(6) انظر قصة وضعه (ع) للحجر الأسود في الخرايج والجرايح ، ص 29 .


صفحة (120)


نعم ، يبقى في الذهن سؤالان حول ذلك لا بد من عرضهما ومحاولة الجواب عليهما :
السؤال الأول :
أنه من أين ثبت أن الحجر لأسود لا يضعه في محله إلا الحجة في الزمان، كما ادعاه الراوي ؟
والواقع أننا لم نجد رواية تتكفل هذا المدلول الواسع . ولكننا إذا استعرضنا التاريخ المعروف ، لم نجد واضعاً للحجر إلا من الأنبياء والأولياء . فإبراهيم عليه السلام هو الذي وضع الحجر حين بنىالكعبة ووضع أسس البيت العتيق.ورسول الله صلى اله عليه وآله هو الذي وضع الحجر قبل نبوته حين بنيت الكعبة في الجاهلية واختلفت القبائل فيمن يضع الحجر والحادثة معروفة ، ومروية في التاريخ (1) .وحين أخرب الحجاج بن يوسف الكعبة المقدسة في صرغه مع عبد الله بن الزبير 000 أعادوا بناءها من جديد ، وكان واضع الحجر هو الإمام زين العابدين (2) .
وهذا الراوي في الرواية التي نناقشها ، ينسب وجو مثل هذه القاعدة العامة ، أعني أن الحجر الأسود لا يضعه إلا الحجة في الزمان 000 ينسبها إلى الكتب ، وظاهره كونها مسلمة الصحة ، فلعله كانت هناك ادلة أكثر واوثق قد بادت خلال التاريخ والله العالم بحقائق الأمور .
السؤال الثاني :
لو ثبتت هذه الفكرة كقاعدة عامة ، وصادق أن زال الحجز الأسود من مكانه في بعض عصور الغيبة الكبرى، فكيف يتسنى للمهدي (ع) إرجاعه ، وهو حجة الزمان، إلا بانكشاف أمره وارتفاع غيبته واطلاع الناس على شخصه .
والجواب على ذلك : أن أهم ما يمكن أن يكون ساتراً لشأنه وصائناً لسره حين وضعه الحجز، هو عدم معروفية هذه الفكرة لدى الناس وعدم اشتهارها بينهم، بل وعدم قيام دليل واضح عليها، كما سمعنا. ولغله من أجل ذلك لم يصدر في الشريعة الإسلامية مثل هذا الدليل الواضح على ذلك. ولعلك لاحظت من خلال هذه الرواية التي نناقشها أن الذي عرف هذه الفكرة هو واحد من الآلاف المحتشدة بما فيهم العلماء والكبراء. ومن هنا استطاع أن يشخص في واضع الحجر كونه هو المهدي (ع) .
(1) انظر- مثلا – الكامل ، جـ 2، ص 29. (2) انظر الخرايج والجرايح – ص 29 .


صفحة (121)


ومعه، فانطلاقاً مع خط الأطروحة الثانية : أطروحة خفاء العنوان ، يمكن أن نفترض أن الإمام عليه السلام في عصر غيبته ، يضع الحجر الأسود مع عمال البناء، ويكون آخر من يثبته ،ويبقى مجهول الحقيقة على طول الخط ، بل قد يكون معروفاً بشخصيته الثانية باسم آخر كفرد عادي في المجتمع . فيرى الرائي أن هذه الفكرة العامة قد انخرمت ، في حين أنه ليس واضع الحجر إلا ( المهدي) لو انكشف الستر وظهرت الحقيقة .
الأمر السادس :
في الأهداف والمقاصد الخاصة ، التي يقصدها الإمام (ع) خلال مقابلاته. مما يمت بالنفع – بشكل رئيسي ومباشر- إلى شخص معين أو أشخاص قلائل . سواء كان له – بشكل غير مباشر-نفع اجتماعي ملحوظ أو لم يكن .
والأهداف المندرجة تحت هذا العنوان متعددة وأمثلتها كثيرة ، نكتفي لكل منها بمثال واحد.
الهدف الأول :
هداية الشخص وتقويمه ، وضمه في النتيجة إلى الشعب المسلم الذي يؤمن بالمهدي(ع) ... بعد إجراز نيته والعزم على إتباع الهدى إن ظهر لديه .
مثاله: ذلك الشخص الذي ذهب لشراء السمن من الاعراب في أطراف الخلة ، فتخلف عن القافله وتاه في الصحراء. فكان مما قال في نفسه: أنني كنت أسمع من أمي أنها تقول: إن لنا إماماً حياً يكنى بأبي صالح يرشد التائهين ويغيث الملهوفين ويعين الضعفاء.
ثم أنه عاهد الله تعالى أنه إن استغاث به وأنجاه ، أن يتبع دين أمه . قال الراوي: ثم أنني ناديته واستغثت به . وفجأة رأيت شخصاَ يسير معي وعلى رأسه عمامة خضراء لونها كلون هذا - وأشار إلى الحشيش المزروع على النهر ... وأشار لي إلى الطريق . وقال لي : أنك ستصل بسرعة إلى قرية كل أهلها من الشيعة . فقلت له : يا سيدي ألا تأتي معي إلى هذه القرية .


صفحة (122)


فقال : لا ، لأن ألف شخص في أطراف البلاد يستغيثون بي ، ولا بد أن أنجيهم(1) .
الهدف الثاني :
انتصاره لأحد طرفي الجدل عند وقوع الجدل بين اثنين ، واقتضاء المصحلة الانتصار لأحد الطرفين .
مثاله : أن صديقين مسلمين مختلفين في المذهب ، وقع بينهما جدل مذهبي طويل ، في أحد المساجد بهمدان . ولم يستطع أحدهما أن يقنع الآخر مدعاه . فاقترح أحدهما أن يجعلا بينهما أول رجل يدخل المسجد حكماً . وخاف الآخر من هذا الاقتراح ، لأن أهل همدان كانوا على مذهب صاحبه ، لكنه قبل بالشرط تحت ضغط المجادلة والمباحثة .
وبمجرد أن قررا هذا الشرط ، دخل المسجد شاب تظهر على سيماه آثار الدلالة والنجابة ،وتظهر عليه معالم السفر. فتقدم إليه صاحب الاقتراح وأظهر له مذهبه ، واستدل عيه بعدة أدلة . وأقسم عليه بقسم مؤكد أن يظهر عقيدته بالنحو الذي عليه الواقع . فقرأ هذا الشاب بيتين من الشعر أظهر فيهما عقيدته بنحو لا يقبل الشك ، ثم غاب عن الأنظار . وكانت هذه هي المعجزة التي تثبت حقيقته وصحة مذهبه أيضاً. فاندهش الآخر من فصاحته وبلاغته ، واعتنق المذهب الذي انتصر له المهدي (ع)(2) .
الهدف الثالث :
حله لبعض المسائل المعضلة التي قد يشكل حلها على فطاحل العلماء .
مثاله : أن المحقق الأردبيلي ، وهو من أعظم العلماء تحقيقاً وورعاً حتى لقب بالمقدس الأردبيلي أيضاً .. أشكلت عليه مسائل ، فخرج في جوف الليل سائراً من النجف إلى مسجد الكوفة حيث لاقى المهدي (ع) في محراب أمير المؤمنين عليه السلام هناك ، وسأله عن مسائلة وعرف جوابها ، وعاد(3) .
(1) انظر النجم الثاقب ، ص 346 . (2) المصدر ، ص 331 .
(3) المصدر ، ص 334 ومنتهي الآمال ، جـ 2 ، ص 319 .


صفحة (123)


الهدف الرابع :
أخباره ببعض الأخبار السياسية المهمة في زمانها ، قبل أن يعرفها الناس ، نتيجة لضعف وسائل الإعلام في ذلك العصر .
مثاله : أن المهدي (ع) دخل في مجلس درس السيد مهي القزويني في الحلة ، فلم يعرفوه ، بالطبع ، واستمع إلى درسه . وحين انتهى الدرس ، سأله السيد المشار إليه : من أين جئت إلى الحلة . فقال : من بلد السليمانية . فقال السيد : منذ كم خرجت منها . فقال : في اليوم السابق . ولم أخرج منها حتى دخل فيها نجيب باشا فاتحاً ، وقد أخذها بقوة السيف . وأزال عنها أحمد باشا الباباني الذي كان متمرداً . وأجلس محله أخاه عبدالله باشا . وكان أحمد باشا المذكور قد خرج على طاعة الدولة العثمانية ، وادعى السلطنة لنفسه .
قال السيد : وكان والدي في السليمانية ، فبقيت متفكراً . ولم يكن قد وصل خبر هذا الفتح إلى حكام الحلة . ولم يحل في خاطري أن أسأله أنك كيف قلت : أني وصلت إلى الحلة وخرجت بالأمس من السليمانية . على حين أن بين السليمانية والحلة ، أكثر من عشرة أيام للراكب المجد .
قال : ثم ضبطنا تاريخ ذلك اليوم الذي أخبر فيه بفتح السليمانية ، ثم وصلت أنباء هذه البشارة إلى الحلة بعد عشرة أيام من ذلك اليوم وأعلنها حكام الحلة ،وحيوا الخبر بضربات المدفع ،كما كانوا يعملون عادة في أخبار الفتوحات(1).
أقول : من هنا نفهم أهمية هذا الخبر لدى سلطات العثمانيين في الحلة . ونعرف المصلحة المهمة التي تترتب على إيصال المهدي (ع) لهذا الخبر خلال مدة كانت في ذلك العصر إعجازية .
الهدف الخامس :
نصحه للآخرين ورفعه لمعنوياتهم ، وتوجيههم التوجيه الصالح ، بعد أن كانوا قد مروا في بعض الحالات الصعبة والمشكلات المحزنة بالنسبة إليهم .
(1) النجم الثاقب ، ص 367 وما بعدها .


صفحة (124)


مثاله : ما قاله بعض الرواة من مقابلته للمهدي (ع) في بعض طرقات الحلة – وقد عرف حقيقته بعد ذلك – ، فسلم عليه فرد عليه السلام ، وقال له فيما قال : لا تغتم بما ورد عليك من الخسران وذهاب المال في هذا العام . لأنك شخص يريد أن يمتحنك الله تعالى بالمال ، فرآك تؤدي الحق ، وما هو الواجب عليك من الحج . وأما المال هو عرض زائل يأتي ويذهب .
قال الراوي : وكنت قد خسرت في هذا العام خسراناً لم يطلع عليه أحد ، وسترته خوفاً من شهرة الانكسار الموجبة لتلف التجارة . فاغتممت في نفسي ، وقلت : سبحان الله ، شاع خبر انكساري بين الناس حتى وصل إلى الغرباء . ولكنني قلت في جوابه : الحمد لله على كل حال .
فقال : إن ما فاتك من المال سوف يعود عليك بسرعة بعد مدة ، وتعود إلى حالك الأول ، وستؤدي ديونك . قال الراوي : فسكت مفكراً في كلامه(1) .. إلى آخر الحديث .
الهدف السادس :
مساعدته المالية للآخرين :
مثاله : أن جماعة من أهل البحرين عزموا على ضيافة جماعة من المؤمنين ، بشكل متسلسل في كل مرة عند واحد منهم . وساروا في الضيافة ، حتى وصلت النوبة على أحدهم ، ولم يكن لديه شيء . فركبه من ذلك حزن وغم شديد ، فخرج من أحزانه إلى الصحراء في بعض الليالي ، فرأى شخصاً ... حتى ما إذا وصل إليه قال له : اذهب إلى التاجر الفلاني – وسماه - ، وقل له : يقول لك محمد بن الحسن : ادفع لي الاثنا عشر اشرفياً التي كنت نذرتها لنا . ثم اقبض المال منه واصرفه في ضيافتك .
(1) المصدر نفسه ، ص 366 وما بعدها .


صفحة (125)


فذهب ذلك الرجل إلى ذلك التاجر ، وبلغ الرسالة عن ذلك الشخص . فقال له التاجر : أقال لك محمد بن الحسن ، بنفسه . فقال البحراني : نعم . فقال التاجر : وهل عرفته ؟ قال : لا . فقال : ذاك صاحب الزمان عليه السلام ، وكنت نذرت هذا المال له . ثم أنه أكرم هذا البحراني وأعطاه المبلغ وطلب منه الدعاء(1) الخ الحديث .
الهدف السابع :
شفاؤه لأمراض مزمنة بعد أعجز عنها الأطباء ، وأخذت من صاحبها مأخذها العظيم .
مثاله : ما روي(2) عن السيد باقي عطوة العلوي الحسني: أن أباه عطوة كان لا يعترف بوجود الإمام المهدي (ع)، ويقول : إذا جاء الإمام وأبرأني من هذا المرض أصدق قولكم . ويكرر هذا القول . فبينما نحن مجمتعون في وقت العشاء الأخيرة صاح أبونا فأتيناه سراعاً . فقال : الحقوا الإمام ، في هذه الساعة خرج من عندي . فخرجنا فلم نر أحداً .
فجئنا إليه ، وقال : أنه دخل إليّ شخص ، وقال : يا عطوة ! فقلت : لبيك ، من أنت ؟ قال : أنا المهدي قد جئت إليك أن أشفي مرضك . ثم مد يده المباركة وعصر وركي وراح . فصار مثل الغزال . قال علي بن عيسى : سألت عن هذه القصة غير ابنه فأقر بها .
فانظر إلى المهدي (ع) كيف يقرن شفاءه للمرضى بإقامة الحجة على وجوده وإمامته ، بحيث لم يبقى لمنكرها أي شكل أو جدال .
الهدف الثامن :
هدايته للتائهين في الصحراء والمتخلفين عن الركب إلى مكان استقرارهم وأمنهم . وقد يقرن ذلك بإقامة الحجة على الرائي للتوصل إلى هدايته ، كما سمعنا في الهدف الأول . وأمثلته كثيرة ، نذكر الآن واحداً منها :
هو أن شخصاً ذهب إلى الحج مع جماعة قليلة عن طريق الإحساء . وعند الرجوع كان يقضي بعض الطريق راكباً وبعضه ماشياً . فاتفق في بعض المنازل أن طال سيره ولم يجد مركوباً . فلما نزلوا للراحة والنوم ، نام ذلك الرجل وطال به المنام من شدة التعب ، حى ارتحلت القافلة بدون أن تفحص عنه .
(1) المصدر ، ص 306 وما بعدها .
(2) انظر ينابيع المودة ، ط النجف ، ص 548 وكشف الغمة ، جـ 3 ، ص 287 ، وكتاب المهدي ، ص 145 ، ومنتهى الآمال جـ 2 ، ص 310 .


صفحة (126)


فلما لذعته حرارة الشمس استيقظ ، فلم ير أحداً ، فسار راجلاً ، وكان على يقين من الهلاك ، فاستغاث بالإمام المهدي عليه لاسلام ، فرأى في ذلك الحال رجلاً على هيئة أهل البادية راكباً جملاً .وقال له : يا فلان ، افترقت عن القافلة ؟ فقال : نعم . فقال : هل تحب أو أوصلك برفاقك ؟ قال فقلت : نعم ، والله . هذا مطلوبي وليس هناك شيء سواه . فاقترب مني وأناخ راحلته ، وجعلني رديفاً له ، وسار . فلم نسر إلا قليلاً حتى وصلنا إلى القافلة .
فما اقتربنا منها ، قال : هؤلاء رفقاؤك . ووضعني ، وذهب(1) .
الهدف التاسع :
تعليمه الأدعية والأذكار ذات المضامين العالية الصحيحة ، لعدد من الناس .
وأمثلة ذلك كثيرة ، مما يفهم منه اهتمام الإمام عليه السلام بالأدعية ، لا بصفتها تمتمات لا تسمن ولا تغني من جوع ، بل بصفتها نصوصاً ذات معان توجيهية تربوية ، ومسائل صالحة واعية ، سائرة في طريق الله تعالى .
ومن المعلوم أن أسلوب الدعاء أقرب إلى جوالتكتم والحذر ، من أي شيء آخر ، باعتبارها الوسيلة المعترف بمشروعيتها عموماً ، في الاتصال بالله عز وجل ، ولا يمكن لأي سلطة من السلطات المحاسبة على ذلك . ومن هنا رأينا الإمام زين العابدين عليه السلام قد اتخذ في تربية الأمة أسلوب الدعاء ، وضمن أدعيته أعلى المفاهيم وأجل الأساليب .
وكذلك سار الإمام المهدي (ع) في هذا الطريق ، وانتهج نفس المنهج فيما انتهجه من أعمال . فكان أن علم عدداً من الأفراد عدداً من الأدعية . من أهمها "دعاء الفرج" الذي يطلع الفرد على واقعه السيىء في عصور الفتن والانحراف ، ويفهمه أمله المنشود ويربطه بالله تعالى ارتباطاً عاطفياً إيمانياً وثيقاً ، إذ يقول: اللهم عظم البلاء وبرح الخفاء وانقطع الرجاء وانكشف الغطاء وضاقت الأرض ومنعت
(1) انظر النجم الثاقب ، ص 241 .


صفحة (127)

السماء . وإليك يا رب المشتكى وعليك المعول في الشدة والرخاء . اللهم فصل على محمد وآل محمد ، وأولى الأمر الذين فرضت علينا طاعتهم فعرفتنا بذلك منزلتهم . ففرج عنا بحقهم فرجاً عاجلاً قريباً كلمح البصر ، أو هو أقرب ... الخ الدعاء(1) .
الهدف العاشر :
حثه على تلاوة الأدعية الواردة عن آبائه المعصومين عليهم السلام ، بما فيها من مضامين عالية وحقائق واعية تربوية وفكرية .
وأوضح أمثلته : ذلك الرجل الذي انقطع عن ركبه في ليل عاصف وماطر بالثلج ، إذ رأى أمامه بستاناً وفيه فلاح بيده "مسحاة" يضرب بها الاشجار ليسقط عنها الثلج .
قال الراوي : فجاء نحوي ووقف قريباً مني ، وقال : من أنت ؟ فقلت : ذهب رفاقي وبقيت لا أعلم الطريق ، وقد تهت فيه . فقال لي بالفارسية : صل النافلة حتى تجد الطريق . قال : فاشتغلت بالنافلة . وبعد أن فرغب من التهجد، جاء وقال : ألم تذهب ؟ فقلت : والله لا أعرف الطريق . فقال : اقرأ الجامعة(2) . وأنا لم أكن حافظاً للجامعة ، وإلى الآن لست حافظاً لها بالرغم من زياراتي المكررة للعتبات المشرفة . ولكنني قمت من مكاني وقرات الجامعة بتمامها عن ظهر قلب .
ثم ظهر تارة أخرى ، وقال : ألم تذهب ، ألا زلت موجوداً . فلم أتمالك عن البكاء ،وقلت : نعم .. لا أعرف الطريق. فقال : اقرأ عاشوراً(3) . قال الراوي : وأنا غير حافظ لعاشورا ، وإلى الآن لست حافظاً لها . ولكنني وقفت واشتغلت بالزيارة ، فقرأتها بتمامها عن حفظ .
(1) المصدر السابق ، ص 263 .
(2) وهو الدعاء الذي يبدأ بقوله : السلام عليكم يا أهل بيت النبوة .. يزار به الإمام الحسين بن علي عليه السلام . انظر مفاتيح الجنان ، ص 544 وما بعدها .
(3) وهو الدعاء الذي يبدأ بقوله : السلام عليك يا ابا عبدالله .. يزار به الإمام الحسين بن علي عليه السلام . انظر مفاتيح الجنان ، ص 456 .


صفحة (128)


قال : فجاء مرة أخرى ، وقال : ألم تذهب ؟ فقلت : كلا ... لا زلت موجوداً هنا إلى الصباح . فقال : أنا الآن أوصلك بالقافلة . ثم ذهب وركب حماراً وحمل مسحاته على كتفه وجاء فأردفني به . قال الراوي : فوضع يده على ركبتي وقال : أنتم لماذا لا تقرأون عاشورا ؟ ... عاشورا ، عاشورا ، عاشورا ... كررها ثلاث مرات . ثم قال : أنتم لماذا لا تقرأون الجامعة ؟ الجامعة ، الجامعة ، الجامعة ثلاث مرات . وكان يدون في مسلكه .. وإذا به يلتفت إلى الوراء ويقول : أولئك أصحابك . إلى آخر الخبر(1) .
أقول : المراد من النافلة ، صلاة الليل ، كما فهم الحاج النوري(2) فإن الراوي أتى بها في الليل . وهذه الصلاة من أفضل المستحبات في الشريعة . وكل ما أمر به في هذه الرواية فهو من أفضل المستحبات ... على أن يفهم فهماً حقيقياً واعياً ، بصفته كجزء من كل ، مرتبط بالكيان العام للعمل الإسلامي في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته . ولهذا أمر المهدي (ع) بالالتزام بها أمراً مؤكداً ، بعد أن رأى الناس قد تسامحوا بها وتهاونوا في امتثالها .
وقوله له بعد كل عمل يقوم به الراوي : ألم تذهب ؟ إنما هو لاحتمال أن يكون الراوي التائه في خلال العمل يكون قد خطرت له فكرة للخلاص ، وخاصة بعد أن يكون قد توجه إلى الله تعالى وتوسل إليه . ولما رأى المهدي (ع) أن طرق النجاة مسدودة أمام هذا الرجل ، وأنه لا يفكر في إصابة الطريق ... أوصله بنفسه إلى قافلته . واستطاع المهدي (ع) أن يثبت حقيقته بعدة معجزات "مخففة" غير ملفته للنظر ، ذكرنا بعضها وأحلنا الباقي على المصدر الذي اعتمدناه .
فهذه عشرة أهداف ، مما يتوخاه الإمام المهدي (ع) في عمله من مقابلة الأفراد ... مما قد يكون له – في المدى البعيد – أعمق الأثر على صعيد اجتماعي عام وعدد من الأفراد كبير . وللمهدي (ع) أهداف أخرى ، تظهر لمن يراجع أخبار المشاهدة ، نعرض عنها آسفين ، توخياً للاختصار .
(1) انظر النجم الثاقب ، ص 343 ، ومفاتيح الجنان ، ص 551 . (2) انظر النجم الثاقب ، ص 344 .


صفحة (129)


وباستعراض هذه الأهداف ، نفهم بوضوح ، مطابقتها لما ينبغي أن يكون هدفه طبقاً للقواعد المامة . حيث ذكرنا أن مقتضاها هو عمله في تطبيق جملة من التعاليم الإسلامية مما يمكنه تطبيقه في أثناء الغيبة ، وكل هذه الأهداف التي استعرضناها لا شك كونها تطبيقات أمينة للتكاليف التي يمكنه تطبيقها في هذه الفترة ... وقد عرفنا أقسامها في بحث سابق .
الأمر السابع :
في أنه هل هناك أشخاص يرون الإمام المهدي (ع) ويعرفونه على حقيقته ، على مر الزمان ، أو ما داموا الحياة ، أو ليس هناك أحد من هذا القبيل .
ويمكن أن نتحدث عن ذلك على ثلاثة مستويات :
المستوى الأول :
فيما هو مقتضى القواعد العامة من ذلك .
وفي هذا الصدد ، يكون بالإمكان أن يقال : أنه بعد أن علمنا أن أحد الأسباب الرئيسية لاحتجاب المهدي (ع) هو الخوف على نفسه من القتل ، بمعنى ضوررة بقائه إلى اليوم الموعود ، فلو كان مكشوفاً معروفاً ، لقتله الأعداء ، كما قتلوا آباءه عليه السلام ، ولتعذر تنفيذ اليوم الموعود بنص القرآن الكريم ، وقد دلت على ذلك بعض الروايات.
فمن ذلك ما رواه الصدوق في إكمال الدين(1) بسنده إلى زرارة بن أيعن قال سمعت الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام يقول : إن للقائم غيبة قبل أن يقوم . قلت : ولم ذلك جعلت فداك ؟ قال : يخاف ... وأشار بيده إلى بطنه وعنقه .
(1) انظر اكمال الدين المخطوط .


صفحة (130)


وما رواه أيضاً بسنده إلى محمد بن مسلم الثقفي "الطحان" قال دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وآله . فقال لي مبتدئاً : يا محمد بن مسلم أن في القائم من آل محمد شبهاً من خمسة من الرسل ... إلى أن قال : وأما شبهه من موسى فدوام خوفه وطول غيبته الخ الحديث(1) .
وقال الشيخ الطوسي قدس سره : مما يقطع على أنه سبب لغيبة الإمام هو خوفه على نفسه من القتل بإخافة الظالمين إياه ، ومنعهم إياه من التصرف فيما جعل إليه التدبير والتصرف فيه(2) .
إذا عرفنا ذلك ، أمكن القول أن الغيبة والاحتجاب تدور مدار الخوف ، على الدوام . فمتى كان الخوف موجوداً كانت الغيبة سارية المفعول ، ومتى ارتفع الخوف ، لم يكن ثمة موجب للغيبة .
وارتفاع الخوف أما أن يكون ارتفاعاً كاملاً مطلقاً ، عند توفر العدة والعدد للمهدي عليه السلام ، فيوجب ارتفاع الغيبة والظهور الكامل حيث يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . وأما أن يكون ارتفاعه بالنسبة إلى شخص أو إلى جماعة فيوجب ارتفاع الغيبة عنهم خاصة ، ومن هنا يمكن للواحد منهم أن يرى المهدي (ع) ويعرفه بحقيقته على طول الخط .
وهذا ما يحدث للخاصة من الموثوقين الكاملين الناجحين في التمحيص الإلهي بالمعنى الذي سنسمعه في مستقبل هذا التاريخ . حيث لا يكون هناك احتمال القتل أو الوشاية أو التصريح أو التلميح على كل حال .
وقد يكون ارتفاع الخوف ، منحصراً في ساعة من الزمن ، فترتفع الغيبة خلال هذه الساعة ، وهذا ما يحدث في المقابلات التي سمعناها . ولكن قد يكون ارتفاع الغيبة مشروطاً بعدم اطلاع الرائي على الحقيقة إلا بعد الفراق ، كما رأينا في أغلب المقابلات .
ومعه فمن الممكن القول أن أي فرد يبلغ مرتبة الكمال المطلوب في التمحيص الإلهي ، فإنه يرى المهدي (ع) ويعرفه بحقيقته ، كما يرى أي شخص آخر . وإن كان هذا مما لا يمكن الاطلاع عليه من قبل الآخرين، لمدى التزام هؤلاء الناس بالكتم المطلق والسرية التامة .
(1) المصدر نفسه . (2) الغيبة : للشيخ الطوسي ، ص 61 .


صفحة (131)


ويمكن الاستدلال في هذا الصدد ، بما دل من الروايات بأن المهدي (ع) في تقية حتى يأذن الله تعالى له بالظهور التام . كالذي أخرجه الشيخ(1) بسنده عن علي بن إبراهيم بن مهزيار في مقابلته للمهدي (ع) أنه قال له فيما قال : والله مولاكم أظهر التقية فوكلها بي ، فأنا في التقية إلى يوم يؤذن لي ، فأخرج ، الخبر .
فإن التقية معناها اتقاء الضرر ، وهذا إنما يكون فيما إذا كان هناك خوف الضرر أو احتاله ، وأما في الأشخاص الموثوقين الكاملين ، فلا يوجد هذا الاحتمال ، فيرتفع سبب التقية ويكون الاحتجاب بلا موجب .
كما يمكن الاستدلال في هذا الصدد بما دل على أن المهدي (ع) بعيد خلال غيبته عن دار الظالمين ومجاورة المنحرفين ، كالذي ورد في نفس خبر علي بن إبراهيم ابن مهزيار السابق من قول الإمام المهدي (ع) : يا ابن المازيار ، أبي أبو محمد عهد إليّ أن لا أجاور قوماً غضب الله عليهم ولعنهم ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ، ولهم عذاب أليم . الخبر .
حيث عرفنا فيما سبق أن مجاورة المنحرفين بالشخصية الثانية لا محذور فيها ولا خطر منها ، وإنما تكون المجاورة معهم خطراً ، فيما إذا كانوا عارفين بحقيقة المهدي (ع) مطلعين على صفته الواقعية ، لأنهم حينئذ لا محالة يقتلونه على أي حال . إذن ، فمن لا يوجد في حقه هذا الاحتمال ، لا موجب للبعد عنه وترك مجاورته مع المعرفة بالحقيقة ، فإنه إذا ارتفع السبب ارتفع موجبه لا محالة . وذلك لا يكون إلا في الاصة الكاملين في الوثاقة والإيمان .
وهناك أشكال أخرى من الروايات ، يمكن الاستدلال بها في هذا الصدد ، نعرض عنها توخياً للاختصار .
وإذا تمّ لدينا أن مقتضى القاعدة هو عدم احتجاب المهدي (ع) عن خاصته ، أمكن لنا أن نفهم المستويين الآتيين على هذا الضوء .
(1) الغيبة ، ص 161 .


صفحة (132)


المستوى الثاني :
ما دل من أخبار المشاهدة خلال الغيبة الكبرى ، على وجود مرافق أو عدد من المرافقين مع المهدي عليه السلام ، كالقصة الثامنة والثالثين(1) والقصة الثالثة والثمانين(2) ، مما ذكره الحاج النوري في نجمه الثاقب ، ورواية اسماعيل بن الحسن الهرقلي(3) التي دلت على أنه رأى ثلاثة فرسان كان أحدهم المهدي عليه السلام بدلالة أقامها له ، وفيها دلالة على أن الفارسين الآخرين كانا يعرفان حقيقته بكل وضوح .
ومن ذلك ما دل على أن بعض الخاصة الموثوقين ، كانوا يرون المهدي (ع) ويعرفونه أينما صادفوه ، كالسيد مهدي بحر العلوم ، كما يظهر من الحكاية الثالثة والسبعين(4) من النجم الثاقب ، والقصتين اللتين يليانها .
ومن ذلك ما دل على أن المهدي (ع) يستصحب معه خاصته في أسفاره ويشركهم في أعماله . كالخبر الذي أرويه عن سيدنا الأستاذ آية الله السيد محمد باقر الصدر عن أستاذه وأستاذنا آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي ، وهما من أعاظم علماء العصر ومحققيهم أدام الله ظلهما عن أحد المؤمنين يسميه السيد الخوئي ويوثقه ويصفه بأنه من الإيمان والورع على حد عظيم وهو صاحب القصة ، وحيث أنها غير موجودة في المصادر فيحسن في هذا الصدد إعطاء نبذة كافية عنها .
كان هذا الرجل في أحد ال أيام عصراً في مسجد الكوفة ، وبينما هو يمشي محاذياً لغرفه المنتشرة في حائط سوره، رأى في إيوان كائن إمام أحد الغرف فراشاً مفروشاً وقد استلقى عليه شخص مهيب جليل ، وجلس بإزائه رجل آخر. قال : فتعجبت من وجودهما وسألت الرجل الجالس عن هذا المستلقي فأجاب : سيد العالم. قال : فاستهونت بجوابه وحسب أنه يريد كونه سيداً عالماً ، لأن العامة هناك ينطقون العالم بفتح الالم .
(1) ص 305 . (2) ص 354 . (4) ص 348 .
(3) انظر كشف الغمة ، ص 283 وما بعدها . وينابيع المودة ، ط النجف ، ص 546 . وكتاب المهدي ، ص 143.


صفحة (133)


ثم أن هذا الرجل مضى للوضوء والاشتغال بصلاة المغرب والعشاء والتهجد في محراب أمير المؤمنين عليه السلام، حتى اجهده التعب والنعس ، فاستلقى ونام . وحينما استيقظ وجد المسجد مضيئاً يقول : حتى أني أستطيع أن أقرأ الكتابة القرآنية المنقوشة في الطرف الآخر من المسجد . فظننت أن الفجر قد بزغ ، بل مضى بعد الفجر زمان غير قليل ، وأني تأخرت في النوم زائداً عن المعتاد .
فخرجت إلى الوضوء فوجدت في الدكة التي في وسط المسجد جماعة مقامة للصلاة ، يؤمها "سيد العالم" ويأتم به أناس كثيرون بأزياء مختلفة وجنسيات فعجبت من وجود هؤلاء في المسجد على خلاف العادة .
ثم أني أسبغت الوضوء والتحقت بالجماعة ، وصليت الصبح معهم ركعتين ، وحين انتهت الصلاة ، قام ذلك الرجل المشار إليه وتقدم إلى أمام الجماعة : سيد العالم ، وسأله عني قائلاً : هل نأخذ هذا الرجل معنا ؟ فأجاب سيد العالم: كلا ، فإن عليه تمحيصين لا بد أن يمر بهما .
وفجأة ، اختفى هذا الجمع ، وساد المسجد ظلام الليل ، وإذا بالفجر لم يبزغ بعد ، بل بقي إليه زمان ليس بالقليل .
وهذه القصة تدلنا على أمور عديدة ، يهمنا فعلاً منها أن هؤلاء الخاصة الذين جمعهم المهدي (ع) من محتلف أنحاء المعمورة ، استطاع أن يشركهم في أعماله وأسفاره ، بعد أن نجح كل فرد منهم في التمحيص الإلهي نجاحاً كاملاً . وأما صاحبنا راوي القصة ، فهو بالرغم من سمو كعبه في التقوى ، فإنه لم يبلغ تلك المنزلة الرفيعة ، التي بلغها هؤلاء ، ومن ثم رفض المهدي (ع) اشراكه في أعماله ، بل لعل الرجل لم يعرف حقيقة الأمر إلا بعد انتهائه .
وهذا مطابق لما قلناه على المستوى الاول ، من أن الموثوق الكامل ، لا يكون المهدي (ع) محتجباً عنه ، ولا غائباً بالنسبة إليه ، وإن كان لا يمكن أن نلم بذلك إلماماً .


صفحة (134)


المستوى الثالث :
ما دل من الروايات على أن مع المهدي (ص) حال غيبته فرداً أو أكثر ، ممن يقوم بخدمته ويؤدي بعض مهماته ، ويندرج في ذلك عدة روايات سبق أن سمعنا بعضها : منها : رواية المفضل بن عمر السابقة عن أبي عبدالله (ع) حيث يقول عن المهدي (ع) فيما يقول : لا يطلع على موضعه أحد من ولد ولا غيره إلا المولى الذي يلي أمره(1) .
وهذا واضح جداً في وجود خادم له يرعى شؤونه الخاصة ، ويعرفه على حقيقته . ويمكننا أن نفهم ، انطلاقاً من طروحة خفاء العنوان ، أن المهدي (ع) يعيش بشخصيته الثانية في المجتمع ، وبشخصيته الحقيقية مع خادمه . فقوله : لا يطلع على موضعه يراد به موضعه بصفته الحقيقية . ولا بد أن نفترض حتماً إن هذا الخادم من الموثوقين الكاملين ، الذين لا يمكن أن يصرحوا بذات نفوسهم مهما كلفهم الأمر .
ومنها : رواية أبي بصير السابقة عن أبي جعفر (ع) قال : لا بد لصاحب هذا الأمر من عزلة ولا بد من عزلته في قوة ، وما بثلاثين من وحشة ، ونعم المنزل طيبة(2) .
فإن ظاهرها كون هؤلاء الثلاثين من الخاصة المطلعين على حقيقته . وإن كانت مخالفة لأطروحة خفاء العنوان ، من حيث دلالتها على عزلة المهدي (ع) عن المجتمع ، بحيث لولا هؤلاء الثلاثين نفراً لكان ينبغي أن يستوحش من الانفراد . على حين تقول هذه الأطروحة أن المهدي (ع) يعيش في المجتمع كفرد عادي غير منعزل ، ولا موجب للوحشة سواء عرفه البعض أو جهلوه . وليس هذا مهماً ، بعد أن استدللنا على هذه الأطروحة بما فيه الكفاية بحيث لا يقوم ضدها مثل هذا الخبر .
هذا هو الكلام في الجهة الثانية من الفصل الرابع . وهي في الحديث عن الأخبار الخاصة الدالة على مشاهدة المهدي (ع) في غيبته الكبرى .
وبهذا ينتهي هذا الفصل الرابع ، من هذا القسم من التاريخ .
(1) الغيبة للشيخ الطوسي ، ص 102 . (2) نفس المصدر والصفحة .
صفحة(135)


الفصل الخامس
في مراسلة المهدي (ع) للشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي قدس سره
فقد تفرد الطبرسي في الاحتجاج بذكر كتابين أرسلهما الإمام المهدي (ع) إلى الشيخ المفيد ، يتضمنان بعض المطالب الصحيحة الواعية ، وبعض التنبؤات الرمزية على ما سنذكر .
وينبغي أن نتحدث عن هاتين الرسالتين ضمن عدة نواحٍ :
الناحية الأولى :
فيما ينبغي أن نعامل به هاتين الرسالتين ، بحسب القواعد العامة ،من حيث سندهما تارة ومن حيث مداليلهما أخرى. ومن هنا يقع الكلام في أمرين :
الأمر الأول :
في سند هاتين الرسالتين .
والملاحظ في هذا الصدد أن الطبرسي ذكرهما بدون سند ، ولم نجدهما في المصادر المتأخرة عنه فضلاً عن المتقدمة عليه . فهما روايتان مرسلتان وغير قابلتين للإثبات التاريخي من هذه الناحية .
إلا أن الذي يرجح الأخذ بهما عدة أسباب :
السبب الأول :
إرسال الطبرسي لهما إرسال المسلمات ، مما يدل أنه كان معتقداً بصحة سندهما ، وربما يكون قد حذفه لمدى شهرته ووضوحه ، كما فعل في كثير من روايات كتابه ، وإن كانت مصادر هذه الإسناد قد تلفت في العصور المتأخرة عنه . وهذا السبب يعطي ظناً كافياً بصحة السنة ، وإن كان لا يبلغ حد الإثبات التاريخي .


صفحة (137)


السبب الثاني :
تضمن الروايتين ، على ما سنسمع لتوجيهات عالية وتنبؤات صادقة . بحيث لو كنا علمنا بها قبل وقوع الحوادث المذكورة فيها ، لجزمنا بعدم إمكان صدورها إلا عن المهدي (ع) .
السبب الثالث :
إن المصلحة العامة تقتضي صدور هذه الرسائل ، في أول زمان الغيبة الكبرى ، وذلك لإحراز مصلحتين :
المصلحة الأولى :
إعطاء المهدي (ع) لقواعده الشعبية القواعد العامة والمفاهيم الأساسية التي ينبغي أن يعرفها الناس وتكون سارية المفعول خلال عصر الغيبة الكبرى . بحيث لولاها لكان من المحتمل أن يُساء التصرف في الدين ، وينغلق باب الوصول إلى الأهداف المطلوبة في الإسلام .
ومن الطبيعي أن يكون إبلاغ هذه القواعد والمفاهيم ، موقوتاً في أول الغيبة الكبرى ، لئلا يمر زمان كبير والناس غافلون عن مثل هذه التوجيهات .
المصلحة الثانية :
إعطاء المهدي (ع) القيادة الرئيسية من الناحية الإسلامية بيد العلماء الصالحين ، بعد أن انسحب هو منها من الناحية العملية ، وانتهى السفراء الخاصون أيضاً . فكان أهم العلماء الصالحين في ذلك العصر ، هو الشيخ المفيد، ومن هنا وجّه الرسالة إليه ، ليكون هو – بصفته عالماً صالحاً – المنطلق الأول لانتشار التعاليم العليا والتوجيهات الرئيسية .


صفحة (138)


وهذا خط كان قد بدأه الإمام العسكري (ع) حين أرسل لابن بابويه رسالة يعبر عنه بقوله : يا شيخي يا أبا الحسن. كما سبق أن سمعنا في تاريخ الغيبة الصغرى(1) .
وحيث نعلم أن الأسلوب الطبيعي لإيجاد هاتين المصلحتين ، منحصر بطريق المراسلة ، كما كان عليه الحال خلال الغيبة الصغرى ، يكون الظن عندئذ بصدور الظن أن هاتين الروايتين يصلحان للإثبات التاريخي ، بالرغم من الإرسال الذي يتصفان به .
الأمر الثاني : في مداليل هاتين الرسالتين :
ينقسم مدلولهما – بشكل رئيسي – إلى قسمين :
القسم الأول :
التوجيهات العامة التي يذكرها الإمام لقواعده الشعبية ، وكلها صحيحة ومتينة ، ما عدا أمور قليلة لا تخلو من المناقشة ، على ما سوف نشير . ولا يضرنا ذلك حتى لو أنكرنا صحة هذه الأمور ، فإن إنكار البعض لا يقتضي إنكار الكل ، كما سبق أن أكدنا عليه .
القسم الثاني :
التنبؤات بوقوع حوادث قريبة أو بعيدة بالنسبة إلى زمن صدور الرسالة . ويغلب على عبارات هذه التنبؤات، شكل الرمزية والغموض والكلية في المدلول ، بحيث يصعب تشخيصها علينا ، ونحن بهذا البعد الكبير ، وما لم نجده فالواقع الذي نحسه هو أن من قرأه في ذلك الزمن فهمه حق فهمه ، وخاصة وهو يعيش الحوادث ، التي أشار إليها المهدي في كتابه .
والرسالتان ، كما عرفنا ، غير خاصة بالشيخ المفيد ، وإن كان هو المرسل إليه ، وإنما هي عامة لكل الخواص من المؤمنين بالمهدي (ع) . ومعه لا تكون الحوادث المذكورة في الخطاب خاصة بالسنين التي عاشها الشيخ المفيد ، بل لعل عدداً من الحوادث كانت سوف تحصل بعد وفاته ، وبذلك ينفتح لنا مجال واسع للتعيين التاريخي للحوادث .
(1) انظر : ص 196 منه .


صفحة (139)


الناحية الثانية :
في بيان تاريخ صدور هذين الخطابين من حيث الزمان والمكان ، ونحو ذلك .
أما الرسالة الأولى فقد وصلت في أخواخر شهر صفر عام 410 ، أي قبل ثلاثة أعوام تقريباً من وفاة المرسل إليه الشيخ المفيد الذي توفي عام 413(1) .
والرسالة الأخرى مؤرخة في عام 412 أي قبل وفاته بعام واحد . ويكون قد مر ما يزيد على الثمانين عاماً بقليل على وفاة الشيخ علي بن محمد السمري ،السفير الرابع .. أي على انتهاء الغيبة الصغرى وبدء الغيبة الكبرى عام 326(2) .
وذكر موصل الكتاب الأول : أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز(3) . فنعرف من ذلك أن المهدي (ع) كان في ذلك الحين في نواحي الحجاز ، وقد أرسل هذه الرسالة من هناك بيد بعض خاصته .
والرسالة الثانية مؤرخة في غرة شوال(4) من العام المشار إليه . وقد وصلت يوم الخميس الثالث والعشرين من ذي الحجة في نفس العام(5) أي أنها بقيت في الطريق ، إلى المرسل إليه ثلاثة أشهر إلا سبعة أيام .
وكلا الخطابين مكتوبان بإملاء المهدي (ع) وخط غيره من بعض ثقاته ، كما يظهر من الرسالة الأولى ، وتنص عليه الرسالة الثانية . ولكنهما معاً مذيلان بأسطر قليلة بخط الإمام نفسه ، يشهد فيها بصحة هذا الكتاب ، ويأمر الشيخ المفيد بإخفاء الرسالة تاماً عن كل أحد . ولكن عليه أن يكتب عنها نسخة ليطلع عليها الموثوقين من أصحابه أو يبلغه لهم شفاها ليعملوا بما فيه .
(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 313 . (2) انظر تاريخ الغيبة الصغرى ، ص 413 . (3) الاحتجاج ، جـ2 ، ص 318 .
(4) المصدر ، ص 325 . (5) المصدر ، 324 .


صفحة (140)


الناحية الثانية :
في بيان نبذة عن الظروف التاريخية التي صدر في غضونها هذان الخطابان . بحسب ما دلنا عليه التاريخ الإسلامي العام . فإن ذلك مما سنحتاجه لدى الخوض في تفسير ما ذكره الخطاب من التنبؤات .
ويمكن تلخيص الكلام في هذه الظروف التاريخية في عدة نقاط :
النقطة الأولى :
كانت البلاد الإسلامية في ذلك الحين تعاني التفكك والتفسخ المؤسف ، في أواخر عهد البويهيين في بلاد فارس ، ورجوع أمرهم إلى القتال بين أمرائهم وقوادهم ، وبينهم وبين الأتراك الحاكمين لخراسان وما وراء النهر ، بعد الدولة السامانية .
وكان أمر الأندلس قد آل إلى التفرق والانحلال عام 407(1) . وأما مصر فقد استقل بها العلويون "الفاطميون" أولاد المهدوي الإفريقي . وكان أن توفي الحاكم بأمر الله عام 411 وولي بعده ابنه الظاهر(2). وتكاد مصر أن تكون أكثر البلاد استقراراً بأيديهم .
وأما الشمال الإفريقي ، فقد آل إلى التفرق وتنابذ الأمراء بعد أن غادره المعز لدين الله إلى مصر عام 341(3) حيث أسس الدولة الفاطمية فيها . وكان في الشمال الإفريقي حرب عام 406 ، تكشفت عن فوز أميرها باديس ، وخلفه بعده موته في نفس العام ابنه المعز(4) حتى مات عام 413(5) .
(1) الكامل ، جـ 7 ، ص 290 . (2) المصدر ، ص 304 . (3) الكامل ، جـ 6 ، ص 341 .
(4) المصدر ، جـ 7 ، ص 279 . (5) المصدر ، ص 313 .


صفحة (141)


وأما بغداد ، فلا زالت منذ عام 381 بيد القادر بالله العباسي . وكان قد رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام قبل خلافته ، وهو يقول له : هذا الأمر صائر إليك، ويطول عمرك فيه ، فأحسن إلى ولدي وشيعتي(1).
وكانت نقابة العلويين هناك قد صارت إلى الشريف المرتضى علم الهدى ، بعد وفاة نقيبها محمد بن الحسين الشري الرضي عام 406(2) .
حتى مكة لم تنج من الاغتشاش ، ففي عام 414 في النفر الأول يوم الجمعة ، قام رجل من مصر بإحدى يديه سيف مسلول وفي الأخرى دبوس وضرب الحجر الأسود ثلاث ضربات بالدبوس . وقال : إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي ، فليمنعني مانع من هذا ، فإني أريد أن أهدم البيت . فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه ، وكاد يفلت.فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله وقطعه الناس واحرقوه . وقتل ممـن اتهم بمصاحبته جماعة واحـرقوا(3) .
ولم تنج بغداد من اختلاط الأمور ، عام 416 بيد السراق والعيارين(4) وعام 417 بيد الأتراك حتى أحرقوا المنازل والدروب(5) .
النقطة الثانية :
كان أثر هذه الفتن سارياً إلى الحج نفسه ، فقد كان يعاني الحجاج صعوبات جمة ، إلى حد قد ينقطع الحج بالكلية ، كما حدث عام 401(6) وعامي 410 و 411(7) وعام 416(8) وعام 417(9) وعام 418(10) على التوالي .
(1) المصدر ، ص 149 . (2) المصدر ، ص 281 . (3) الكامل ، جـ 7 ، ص 314 . (4) المصدر ، ص 423 .
(5) المصدر ، ص 325 . (6) المصدر ، ص 256 . (7) المصدر ، ص 310 . (8) المصدر ، ص 324 .
(9) المصدر ، ص 327 . (10) المصدر ، ص 330 .


صفحة (142)


وكانت هناك سعايات حسنة عام 412 لأجل سلامة الحجاج(1) من قبل صاحب خراسان محمد بن سبستكين الملقب بيمين الدولة .
النقطة الثالثة :
أنه كانت تقع حوادث مؤسفة بين أهل الإسلام من المذاهب المختلفة .
والسبب الرئيسي في ذلك : هو أن الحكم كان محسوباً على الشيعة منذ تأسيس الدولة البويهية في فارس والعراق والدولة الحمدانية في حلب . وكان البويهيون هم المسيطرون على استخلاف الخليفة واستيزار الوزير . وكانوا يعطون لأهل مذهبهم الحرية الكاملة في إقامة شعائرهم والقيام بأعيادهم ومآتمهم . وكان هذا يحدث أثراً سيئاً لدى ذوي المذاهب الإسلامية الأخرى ، ولم يكن لديهم حكم مباشر ليتوقعوا من الحاكمين أن يحولوا دون هذه المظاهر .
فكان الشعب نفسه هو الذي يحاول أن يحول دون ذلك ، وخاصة حين يجد من الشيعة اندفاعاً طائفياً مؤسفاً، اغتناماً لفرصة الحرية المعطاة لهم . فكانت أيام المناسبات العامة تشهد حرباً عامة بين أهل الإسلام . ولعمري لو كان كال فريق منهم يشعر بمسؤوليته الإسلامية وإخوته الدينية ، لما عمل ما عمل ، ولما صدر منه ما صدر ، ولله في خلقه شؤون .
ولم يكن أهل المذاهب الأخرى ، ليجدوا الفرصة المواتية ، حال قوة الدولة البويهية وجبروتها . وإنما انفسح لهم المجال بشكل واضح في الفترة التي نؤرخ لها ، باعتبار ما آل إليه أمر البويهيين من التفرق والانحلال .
ولسنا نريد أن نطيل في وصف الحوادث . وحسبنا أن نعرف ، أنه قد حدث في بغداد في يوم عاشوراء عام 406 حوادث مؤسفة(2) ،وفي العام الذي يليه في واسط(3) وفي شمال إفريقيا حيث قتلت جميع الشيعة،كما ذكر التاريخ(4).
(1) المصدر ، ص 310 . (2) الكامل ، جـ 7 ، ص 281 . (3) المصدر ، ص 295 . (4) المصدر ، ص 294 .


صفحة (143)


وكذلك في بغداد في عام 408 أيضاً(1) واشتد عام 409 وحتى أدى إلى نفي أبي عبدالله النعمان الشيخ المفيد من بغداد(2) . وتكرر مثل ذلك في الكوفة عام 415(3) وفي بغداد أيضاً عام 422(4) .
النقطة الرابعة :
كانت الطبيعة أيضاً تشارك في الحوادث ، وكأنها تظهر الأسف على الظلم الساري على الأرض .
ففي عام 401 انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه . وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً ، وغرق كثير من بغداد والعراق(5) .
وفي عام 406 وقع بالبصرة وما جاورها وباء شديد ، حتى عجز الحفارون عن حفر القبور(6) وفيها نزل في حزيران مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد(7) .
وفي رمضان من عام 417 انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض ، فسمع له دوي عظيم (8) .
وفي العام الذي يليه سقط في العراق جميعه بَرَد يكون في الواحدة رطل أو رطلان ، وأصغره كالبيضة ، فأهلك الغلات ، ولم يسلم منها إلا القليل(9) .
وفي نفس العام في آخر تشرين الثاني ، هبت ريخ باردة في العراق جمد منها الماء والخل وبطل دوران الدواليب في جدة(10) .
(1) المصدر ، ص 299 . (2) المصدر ، ص 300 . (3) المصدر ، 316 . (4) المصدر ، ص 355 . (5) المصدر ، ص 256 .
(6) المصدر ، ص 281 . (7) المصدر والصفحة . (8) المصدر ن ص 327 . (9) المصدر ، ص 330 . (10) المصدر والصفحة .


صفحة (144)


وفي عام 421 سقط في البلاد بَرَد عظيم ، وكان أكثر في العراق فقلعت شجراً كباراً من الزيتون من شرقي النهروان وألقته على بعد من غربيها . وقلعت نخلة من أصلها وحملتها إلى دار بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دور ، وقلعت سقف المسجد الجامع ببعض القرى(1) .
الناحية الرابعة :
في استعراض نص الرسالة الأولى :
"للأخ السديد والولي الرشيد الشيخ المفيد أبي عبدالله محمد بن محمد بن النعمان ، أدام الله أعزازه ، من مستودع العهد المأخوذ على العباد .
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد ، سلام عليك أيها الولي المخلص في الدين ،المخصوص فينا باليقين .فأنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونسأل الصلاة على سيدنا ومولانا ونبينا محمد وآله الطاهرين .
ونُعلمك – أدام الله توفيقك لنصرة الحق ، وأجزل مثوبتك على نطقك عنا بالصدق - : أنه قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة وتكليفك ما تؤديه عنا إلى موالينا قِبَلَك ، أعزهم الله بطاعته ، وكفاهم المهم برعايته لهم وحراسته . فقف – أيدك الله بعونه على أعدائه المارقين من دينه – على ما أذكره وأعمل على تأديته إلى من تسكن إليه بما نرسمه إن شاء الله .
نحن وإن كنا ناوين(2) بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين ، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين . فأنا نحيط علماً بأنبائكم ولا يعزب عنا شيء من أخباركم ، ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .
(1) المصدر ، ص 343 . (2) في المصدر : ناوين بالنون الموحدة والظاهر كون ثاوين بالثاء المثلثة .


صفحة (145)


أنا غير مهملين لمراعاتكم ، ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم الأواء , وأصطلمكم الأعداء . فاتقوا الله جل جلاله ، وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم ، يهلك فيها من حم أجله ويحمى عنها من أدرك أمله . وهي إمارة لأزوف حركتنا ومبّاثتكم بأمرنا ونهينا . والله متم نوره ولو كره المشكرون .
اعتصموا بالتقية ، من شب نار الجاهلية ، يحششها عصب أموية ، يهول بها فرقة مهدية . أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن وسلك في الطعن منها السبل المرضية .
إذا حل جمادي الأولى من سنتكم هذه ، فاعتبروا بما يحدث فيه ، واستيقظوا من رقدتكم لما يكون في الذي يليه .
ستظهر لكم في السماء آية جلية ، ومن الأرض مثلها بالسوية . ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق. ويغلب من بعد على العراق طوائف عن الإسلام مرّاق ، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق . ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار ، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار .
ويتفق لمريدي الحج من الآفاق ما يأملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق . ولنا في تيسير حجهم على الاختيار منهم والوفاق ، شأن يظهر على نظام واتساق .
فليعمل كل أمرءٍ منكم بما يقربه من محبتنا ، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا ، فإن أمرنا بغتة فجأة ، حين لا تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابه ندم على حوبة .
والله يلهمكم الرشد ، وبلطف لكم في التوفيق برحمته .
وبعده يلي توقيع الإمام المهدي (ع) في ذيل الكتاب ، كما أشرنا إليه في الجهة الثانية من هذا الفصل(1) .
(1) انظر الاحتجاج ، جـ 2 ، ص 323 .


صفحة (146)


الناحية الخامسة :
في شرح المفاهيم والتنبؤات الرئيسية التي وردت في هذا الخطاب . ويمكن إعطاء تفاصيل ذلك ، ضمن عدة نقاط :
النقطة الأولى :
قوله (ع) : قد أذن لنا في تشريفك بالمكاتبة .
فإن المهدي (ع) لا يقوم بالعمل إلا بإدن الله تعالى ، وحيث صدر الإذن بإرسال هذا الكتاب ، فقد تصدى المهدي لإرساله .
ولفهم هذا الإذن أطروحتان :
الأولى : صدور الإذن المباشر من قبل الله عز وجل في كل واقعة واقعة . ذلك الإذن المستفاد بالإلهام ونحوه من مراتب العلوم التي يختص بها الإمام المعصوم (ع) كما دلت عليه بعض الأخبار .
الثانية : الإذن الإلهي المستفاد من بعض القواعد العامة التي يعرفها المهدي عليه السلام ، ويستطيع تطبيقها في كل مورد . تلك القواعد التي نعبر عنها باقتضاء المصلحة الإسلامية لشيء من الأشياء . فإذا أحرز المهدي (ع) ، وجود المصلحة في المراسلة مثلاً ، فقد أحرز وجود الإذن الإلهي بالعمل على طبق تلك المصلحة . ومعه يكون سبب الإذن، هو وجود المصلحة ليس إلا ، من دون إذن مباشر ، كما قالت الأطروحة الأولى .
وترجيح إحدى الأطروحتين على الأخرى موكول إلى القارئ .
النقطة الثانية :
قوله عليه السلام : أعزهم الله بطاعته .
وهو تنبيه إلى استلزام الخروج عن طاعة الله تعالى للذل والصغار ، واستلزام الالتزام بها للعز والشرف . فيجب الخروج من ذل معصية الله والدخول في عز طاعة الله تعالى .
وذلك واضح جداً بحسب مفاهيم الإسلام ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين . والخضوع لله تعالى هو الخضوع للحق من ناحية ، وخضوع مجانس لما خضع له الكون كله وهو القدرة الأزلية والحكمة اللانهائية ، وكلا الأمرين عدل وحق ن بمنطق العقل الصحيح .


صفحة (147)


على أن الخضوع لله عز وجل ، بمعنى الالتزام بأوامره ونواهيه وقصر السلوك عليها ، يغني الفرد عن اتباع سائر مصادر التشريع البشرية المنحرفة التي على الانزلاق إلى مهاوي الباطل ، وعلى رأسها المصالح الشخصية والقوانين الوضعية ... فيكون الفرد متعالياً عنها عزيزاً منيعاً من جهتها .
على حين أن البعد عن الالتزام بتعاليم الله العادلة ، يستلزم – لا محالة – وجود فراغ في السلوك ، يملؤه الفرد بأساليب الانحراف ، فيكون خاضعاً لمقتضياته ، وذليلاً أمامها . وهو معنى ذلة معصية الله عز وجل .
وهناك أكثر من معنى آخر ، لمعنى العزة في طاعة الله عز وجل ، لا حاجة إلى الإطالة ، بسبب بيانه .
وعلى أي حال ، فهذا هو المراد بقوله : أعزهم الله بطاعته . وبقوله : ومعرفتنا بالذل الذي أصابكم منذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ، ونبذوا العهد المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون .
فإن السلف الصالح كان عزيزاً بطاعة الله تعالى والالتزام بتعاليمه ، وكان شاسعاً – أي بعيداً – عن معصية الله عز وجل . وكان ملتزماً بالعهد الذي قطعوة أمام ربهم بالطاعة ، بصفتهم مسلمين إليه عارفين بأهمية تعاليمه .
فلما اتجه الخلف إلى ما كان السلف مبتعداً عنه ، وهو المعصية ومخالفة التعاليم الإسلامية ، أصبحوا أذلاء أمام مقتضيات الانحراف والمصالح الخاصة ، وبالتالي أمام أعداء الحق والإسلام . فأصبحوا مقصرين تجاه دينهم وعهد ربهم وأمتهم وأنفسهم .
ومن هنا نشعر – من وراء التعبير – بالمرارة والأسف الذي يعتلج في نفس الإمام المهدي (ع) من هذا الانحراف .
النقطة الثالثة :
قوله : نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين ، حسب الذي أرانا الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ، ما دامت دولة الدنيا للفاسقين .


صفحة (148)


وهذا البعد عن مساكن الظالمين ، لا ينافي أياً من الأطروحتين الرئيسيتين ، وكأن في هذا امتثالاً للأمر الذي ذكره المهدي لعلي بن مهزيار عن والده عليه السلام في أنه يسكن أقاصي الأرض وقفارها . وهو في ذلك المكان النائي يمكن أن يكون مختفي الشخص طبقاً لأطروحة خفاء الشخص ، أو ظاهر الشخص ، طبقاً لأطروحة خفاء العنوان .
وإذا كان مناسباً مع كلا الأطروحتين لم يكن نافياً لأي منهما ، ولا معيناً لإحداهما . وإن كان لا يخلو – على كلا الأطروحتين – من بعض المناقشات ، التي لا مجال للدخول في تفاصيلها .
وهذا الصلاح الذي يشير إليه في هذه العبارة ، يمت في الحقيقة إلى أصل الغيبة بصلة ، لا إلى مجرد النأي في المكان ،وإنما أخذ ذلك في السياق استطراقاً إلى الإشارة إلى مفهوم الغيبة نفسه . ومعه فالصلاح الذي رآه الله تعالى للمهدي وللمؤمنين به ، إنما هو في الغيبة نفسها . وهذا ما سيأتي تفصيله في القسم الثاني من هذا التاريخ.
النقطة الرابعة :
بيانه عليه السلام أنه يعيش على مستوى الأحداث ، يحيط علماً بكل الأنباء وتصله جميع الأخبار . حين قال: فأنا نحيط علماً بأنبائكم ، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم .


صفحة (149)


وهناك لإمكان اطلاعه على الأخبار ، عدة أطروحات :
الأطروحة الأولى :
أنه عليه السلام يعلم بالأخبار ويطلع على أفعال الناس ، عن طريق الإلهام الإلهي ، أو الطريق الإعجازي الميتافيزيقي . ويؤيد ذلك ما دل على أن أعمال البشر أجمعين برها وفاجرها تعرض على الإمام في كل يوم وليلة ، ليرى فيها رأيه . وهو قوله تعالى : }فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون| ، وهم الأئمة عليهم السلام ، على ما نطقت به هذه الروايات(1) .
ويمكن أن يؤيد ذلك بمفهوم اجتماعي إسلامي ، وحاصله : ضرورة كون الإمام مؤيداً بالإلهام ، وذلك انطلاقاً من ثلاث مقدمات :
المقدمة الأولى :
إن الله تعالى حين ينيط مهمة معينة بشخص ، لا بد أن يجعل فيه القابلية الشخصية لتنفيذها والقيام بمتطلباتها . ومن الواضح عدم إمكان إيكال المهمة إلى شخص قاصر عنها أو عاجز عن تنفيذها .
المقدمة الثانية :
إن الله تعالى أوكل إلى النبي (ص) أولاً وإلى خلفائه المعصومين ثانياً ، قيادة العالم ، بحيث لو سمنحت الظروف لأي واحد منهم أن يقوم بالفتح العالمي الكامل لوجب عليه ذلك ، ولباشر القيادة العالمية بنفسه .
إذن ، فكل واحد من المعصومين قائد عالمي معد – من الناحية النظرية على الأقل – للقيام بمهمته الكبرى. ومعه لا بد – طبقاً للمقدمة الأولى – أن يكون لكل واحد منهم القابليات الكافية للقيادة العالمية ، والقيام بمثل هذه المهمة العظيمة .
المقدمة الثالثة :
إن القيادة العالمية تتوقف عن الإلهام ، لا محالة . فإن قيادة العالم شيء في غاية الدقة والعمق والتعقيد . ونحن نرى أن الدول لا زالت تحكم جزءاً من العالم بهيئات كبيرة وأفراد كثيرة ، وتنظيمات دقيقة وقوانين صارمة ، ومع ذلك فهي كثيرة الفشل في أعمالها وأقوالها . فكيف من يحاول قيادة العالم بمجموعه ، بحيث ترجع المقاليد العامة للحكم إلى شخصه فقط ، من الناحية الفكرية والعملية معاً .
ومعه ، فهذه المهمة لا يمكن تنفيذها ، إلا بوجود الإلهام للقائد العالمي . وحيث أن المهدي (ع) هو أحد الأئمة المعصومين ، طبقاً للمذهب الإمامي ، وقد ثبت بالضرورة كونه هو القائد العالمي في يوم العدل الموعود طبقاً لضرورة الدين الإسلامي ، بل كل الأديان السماوية ... إذن فيتعين كونه مؤيداً بالإلهام من قبل الله عز وجل . وإذا كان مؤيداً بالإلهام من قبل الله عز وجل . وإذا كان مؤيداً بالإلهام ، فلا غرابة من اطلاعه على أعمال العباد وكونه على مستوى الأحداث .
وهذه الأطروحة ، منسجمة مع كلتا الأطروحتين الرئيسيتين السابقتين .
(1) انظر هذه الأخبار في الكافي لثقة الإسلام الكليني، باب: عرض الأعمال على النبي(ص) والأئمة عليهم السلام.


صفحة (150)

السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله