مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب فقه الأخلاق لسماحة السيد الشهيد محمد صادق الصدر

الفقرة (1)

معاني الطهارة
لابدَّ لنا في أول كتاب الطهارة، من أن نعطي معنى الطهارة فقهياً، وإن كنا قد تحدثنا عنه بما فيه الكفاية في فصله الخاصِّ به من كتابنا [ما وراء الفقه][[106]].

وقد برهنا هناك: أنَّ الطهارة هي الحالة الناتجة عن زوال الدنس، إلا أنَّ الأدناس تختلف جداً، وباختلافها تختلف أنواع الطهارة ومعانيها مع رجوعها جميعاً إلى المعنى المشار إليه.

وقد برهنا هناك أنَّ عامَّة معاني الطهارة تعود إلى الطهارة المعنوية، ولا تختصُّ بالطهارة المادية التي هي زوال الدنس المادي، كالتراب وغيره عن اليد مثلاً، وإنما هذا أحد المعاني فقط من عددٍ كثيرٍ من المعاني التي تعود كلها إلى الجهة المعنوية.
ونعددها فيما يلي باختصار، مع شيءٍ من الإيضاح والإستشهاد بآي القرآن الكريم بعونه سبحانه.
1ـ الطهارة من الدنس المادِّي كما مثلنا.
2ـ الطهارة الخبثية، وهي حكميةٌ، يعني أنها ثابتةٌ بحكم الشارع المقدس. وتكون بعد التطهير من النجاسة الخبثية الناتجة عن أحد أعيان النجاسة، كالبول والمنيِّ والدم. وقد يحمل عليها قوله تعالى: [وثِياَبَكَ فَطَهِّرْ][[107]].
3ـ الطهارة الحدثية الناتجة عن الوضوء.
وقد عرفنا في المصدر المشار إليه أنَّ لها جهةً حكميةً ومعنويةً معاً. فالجهة الحكمية هي جواز الدخول في الصلاة، والمعنوية هي نورانية النفس التي تحصل بالوضوء. وقد نصَّ عليها في بعض الأخبار: [الوضوء على الوضوء نورٌ على نور][[108]].

وهي تحصل بارتفاع الحدث الأصغر باصطلاح الفقهاء. وهو مسببات أو موجبات الوضوء.
4ـ الطهارة الحدثية من الحدث الأكبر، وهي الناتجة عن الغسل، ومنها قوله تعالى:[وإنْ كُنتمْ جُنُباً فاطَّهَّرُوا][[109]].
5ـ انقطاع دم الحيض، فإنه من معاني الطهارة في اللغة، ومنه قوله تعالى: [ولا تَقرَبُوهُنَ حَتّى يَطْهُرنَ][[110]].
6ـ الإستنجاء من البول والغائط، فإنه من معاني الطهارة لغةً. ومنه قوله تعالى: [إِنّ الله يُحِبُ التَّوابينَ ويُحِبُ المُتطهِرِّينَ][[111]]. بقرينة ما ورد من مورد نزولها[[112]].
7ـ التنـزُّه عن الدنس والباطل، فإنه من معانيها اللغوية، ومنه قوله تعالى: [إنّيِ مُتَوفِّيكَ ورَافعُك إليَّ ومُطَهِرُّك مِنَ الّذِينَ كَفروُا][[113]].
8ـ التنزُّه عن الإثم وما لا يجمل، فإنه من معانيها في اللغة، كقوله تعالى: [أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ][[114]].
9ـ طهارة الأخلاق ونقائها من السوء والنفاق.
10ـ طهارة القلب وهداه، ومنه قوله تعالى: [ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ][[115]].
11ـ الطهارة التي تحصل بإقامة الحد، فإنه أيضاً من معانيها في اللغة.
12ـ الطهارة التي تحصل بالتوبة.
13ـ الطهارة التي تحصل بالعلوِّ عن الماديات، كالملائكة والأرواح العليا.
14ـ الطهارة التي تحصل بالختان، فإنه من معاني الطهارة في اللغة، باعتبار أنَّ وجود الغلفة قبل الختان نوعٌ من الدنس.
15ـ وقد تكون الطهارة للذات كلها، كقوله تعالى: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً][[116]].
16ـ وقد تكون الطهارة في الأموال، كقوله تعالى: [خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا][[117]]. على معنى تزكي وتطهر أموالهم، وإلا رجعت الطهارة إلى الذات.
17ـ وقد تكون الطهارة للصحف، كقوله تعالى: [رََسُولٌ مِن الله يَتلُو صُحُفاً مُطَهّرةً][[118]].
18ـ وقد تكون الطهارة للشراب، كقوله تعالى: [وَسَقَاهُمْ رَبهُّمْ شَرَاباً طَهُوراً][[119]].
19ـ وقد تكون الطهارة للبيت، وهو الكعبة المشرفة. كقوله تعالى: [وَطَهِّرْ بَيتِيَ للِطّائِفينَ وَالقَائِمينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ][[120]].
20ـ وقد تكون الطهارة للماء، كقوله تعالى: [وَأنزَلنَا مِن السَّمَاءِ ماءً طَهُوُرَاً][[121]].
21ـ وقد تكون بمعنى الحلِّيَّة والجواز، كقوله تعالى: [هُنَّ أطْهَرُ  لكُمْ][[122]].
22ـ وقد تكون الطهارة للثياب بمعنىً معنوي، يقال: رجلٌ طاهر الثياب أي منـزَّه،
ومنه قوله تعالى: [وثِياَبكَ فَطَهِّرْ][[123]].
إلى غير ذلك من موارد استعمالها، والمعنى الحقيقي المشترك بينها جميعاً هو ارتفاع الدنس أو الحالة الناتجة عن ذلك، وكلها ــ كما رأينا ــ  أمورٌ معنويةٌ أو حكمية، ولا يعود إلى معنى الدنس المادِّي منها إلا واحد.

الفقرة (2)

 في بعض أعمال المؤمن ما بين الطلوعين
 
أعني طلوع الفجر وطلوع الشمس، بما فيه من طهارةٍ ودعاءٍ وصلاة.
إعلم أنَّ النوم في هذه الفترة من الوقت مكروهٌ، وإنما هو مخصصٌ لذكر الله عزَّ وجل، بعد أن أخذ الجسم قسطه من النوم، ولم يحن وقت العمل والإرتزاق بعد، وقد ورد: [إنَّ الله سبحانه يقسم الأرزاق ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، فإياكم وتلك النـومة][[124]]. ومعه فينبغي أن يكون الفرد مستيقظاً ليحصل على رزقه. إلا أنَّ هذا الرزق المقصود لا شكَّ أنه أقرب إلى المعنويِّ منه إلى المادِّي، لوضوح وصول المادِّيِّ منه إلى اليقظ والنائم على حدٍّ سواء.
فإذا استيقظ الفرد آخرَ الليل فليذكر اللهَ سبحانه، والأفضل أن يكون ذلك أوَّل خاطرةٍ تخطر في ذهنه، ويقول: [الحمد لله الذي بعثني مـن مـرقدي هذا ولو شاء جعله سرمداً[[125]]. ويضيف: حمداً دائماً لا ينقطع أبداً و لا تحصي له الخلائق عدداً][[126]].
وليكن الإستيقاظ قبل الفجر بحدود ساعة، في زمانٍ يسع الطهارة وصلاة الليل، فإذا انتهت وبزغ الفجر صلى فريضة الصباح، وأتى بباقي الأعمال.
وروي أنَّ النبي 9 حين كان ينظر إلى السماء بعد استيقاظه، كان يقرأ هذه الآيات الواردة في آخر سورة آل عمران: [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ، الّذِينَ يَذكُرُونَ الله قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبهِم وَيَتَفكَّرُونَ فيِ خَلقِ السَّماواتِ وَالأرض، رَبّنَا ما خَلَقتَ هذَا باطِلاً سُبحانَكَ فقِنَا عَذَاب النَّارِ. رَبّنَا إِنّكَ مَن تُدخِلِ النَّارَ فَقَد أخزَيتَه وَمَا للِظّالمِينَ مِن أَنصَارٍ. رَبّنَا إنّنَا سَمِعنا مُنَادِياً يُنادِي لِلإيمان أَنَّ آمِنُوا بربكُمْ فآمَنَّا، رَبّنَا فَاغفِرْ لَنَا ذنوبنا وَكَفِّرْ عَنّاَ سَيِئّاتنا وَتَوَفَّناََ مَعَ الأبْراَرِ. رَبّنَا وآتِناَ مَا وَعَدتنا عَلى رُسُلِكَ ولا تُخْزِنَا يَومَ القِيَامةِ إِنّكَ لاَ تُخلِفُ المِيعَاد][[127]].
ومما يدعى به عند طلوع الفجر الصادق: [اللهمَّ أنت صاحبنا فصلِّ على محمدٍ وآله وأفضلْ علينا، اللهمَّ بنعمتك تتمُّ الصالحات فصلِّ على محمدٍ وآله وأتممها علينا. عائذاً بالله من النار. عائذاً بالله من النار عائذاً بالله من النار][[128]]. ثمَّ تقول: [يا فالقه من حيث لا أرى، ومخرجه من حيث أرى، صلِّ على محمدٍ وآله واجعل أوَّل يومنا هذا صلاحاً، وأوسطه فلاحاً، وآخره نجاحاً][129 ].
ثم تقول عشر مرات: [اللهمَّ إني أشهد أنه ما أصبح بي من نعمةٍ أو عافيةٍ في دينٍ أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها عليَّ حتى ترضى وبعد الرِّضا][[130]].
وقل إذا سمعت صوت الآذان عند الفجر: [اللهمَّ إني أسألك بإقبال نهارك، وإدبار ليلك، وحضور صلواتك، وأصوات دعاتك، وتسبيح ملائكتك، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تتوب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم][[131]].
وإذا أردت التخلي، فقدِّم رجلك اليسرى عند الدخول، وقل: [بسم الله وبالله أعوذ من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم][[132]]. وتبدأ بالتسمية إذا كشفتَ، وتتبع الأحكام الفقهية المعتبرة حال التخلي، كوجوب ستر العورة وحرمة استقبال القبلة واستدبارها. فإنَّ في ذلك احتقاراً لها والعياذُ بالله[[133]]. وترك الكلام إلا بذكر الله أو للضرورة، فإنَّ ذكر الله حسنٌ على كلِّ حال، وهو أجلُّ من أن يناله عيبٌ أو نقصانٌ من ذلك[134]].
ويستحبُّ أن تقول عند قضاء الحاجة: [اللهمَّ اجعلني طيباً في عافيةٍ، وأخرجه مني خبيثاً في عافية][[135]].
وقل إذا وقع نظرك على البراز:[اللهمَّ ارزقني الحلال وجنبني الحرام][[136]].
وروي: [إنَّ لله سبحانه ملكاً يلوي عنق الإنسان للنظر إلى ما خرج منه، ثمَّ يقول له: انظر إلى ما سعيت له كيف صار][[137]]. وفي الخروج عدة عبر ومواعظ، في نسبته إلى الله تارةً ونسبته إلى الفرد أخرى، لا حاجة إلى الدخول في تفاصيلها.
وإذا أردت أن تستنجي فاستبرئ أولاً. ثم أقرأ دعاء رؤية الماء: [الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً ولم يجعله نجساً][[138]].
وتقول عند الإستنجاء: [اللهمَّ حصِّن فرجي وأعفَّه واستر عورتي وحرِّمْني على النار][[139]].
وإذا فرغتَ وقمتَ، فامسح بطنك بيدك اليمنى وقل: [الحمد لله الذي أماط عني الأذى وهناني طعامي وشرابي وعافاني من البلوى][[140]].
ثم تخرج وتقدم رجلك اليمنى للخروج، وتقول: [الحمد لله الذي عرفني لذته، وأبقى في جسدي قوته، وأخرج عني أذاه. يا لها نعمةً يا لها نعمةً، يا لها نعمةً لا يقدر القادرون قدرَها][[141]].
ثم تبدأ بالإستياك، فإنه من المستحبات[[142]]. وهو أفضل أشكال تنظيف الأسنان دينياً. فإن لم يتيسر أمكن تنظيفها بأيِّ أسلوبٍ آخر. ولا شكَّ أنَّ الجمع بين الشكلين من التنظيف مطلوب. أما استعمال السواك فهو منصوصٌ في الأدلة، وأما التنظيف بالفرشاة فهو مشمولٌ للأمر بالنظافة.
وكذلك، فإنه يجزي الإصبع إذا لم يتيسر المسواك، وإذا كان ذلك خلال وضع الماء في الفم للمضمضة فهو أحسن.
وينبغي أن يجلس عند الوضوء مستقبلَ القبلة، ويضع الإناء على يمينه، ويقول إذا نظر إلى الماء: [الحمد لله الذي جعل الماء طهوراً ولم يجعله نجساً][[143]].
ثمَّ تغسل يدك بإراقة الماء عليها قبل إدخالها الإناء، فإن كانت متنجسةً كان هذا الغسل واجباً مقدمةً لصحة الوضوء، ولا يفرق في استحباب هذا الغسل بين الماء القليل أو الكثير، كالحنفية والأنهار.
ثمَّ تقول إذا أدخلتَ يدك في الإناء أو تحت الحنفية: [اللهمَّ اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين][[144]].
ثمَّ تمضمض ثلاثَ مرات، بجعل الماء في الفم وتحريكه وبزقِّه، ولكن إذا كان في الفم بعض الأجسام المحترمة كالرزِّ والخبز، وجب ـ على الأحوط ــ بلع ماء المضمضة. إلا أن تكون البالوعة طاهرة.
وتقول أثناء المضمضة: [اللهمَّ لقِّنِّي حجَّتي يوم ألقاك، وأطلق لساني بذكراك][[145]].
ثمَّ تستنشق ثلاثَ مرات، بسحب الماء في الأنف ثمَّ إرجاعه، وتقول: [اللهمَّ لا تحرم عليَّ ريحَ الجنة، واجعلني ممن يشمُّ ريحها وروحها وطيبها][[146]].
ونية الوضوء يمكن أن تكون عند البدء بغسل اليد، أو البدء بغسل الوجه. والأقوى فقهياً: أنه يكفي فيها القصد والداعي، يعني أن يعلم أنه ماذا يفعل، بحيث إذا سئل عنه استطاع الجواب، فإن كان بحيث يتأمل ويتردد عندئذٍ كانت نيته باطلة. وقد سبق أن تحدثنا عن تفاصيل النية في باب مقدمة العبادات، والوضوء عبادةٌ، فيحتاج إلى نيةٍ لا محالة.
فإذا نويت فابدأ بغسل الوجه بالمقدار المعتبر فقهياً، وقل خلاله: [اللهمَّ بيِّضْ وجهي يوم تسود الوجه، ولا تسوِّدْ وجهي يوم تبيضُّ الوجوه][[147]].
ويكفي في غسل الوجه كفٌّ واحدةٌ مليئةٌ بالماء، فإن كانت ثلاثة أكفٍّ كان ذلك إسباغاً، وكذلك في اليد اليمنى واليسرى، والغسلة الثانية فيها سنةٌ، والثالثة بدعة، إلا أن يؤتى بها للتقية، فلا تكون مبطلة. والأحوط ترك الغسلة الثانية لليسرى، والإكتفاء بالمرَّة[[148]].فإذا غسلت اليد اليمنى فقل خلاله: [اللهمَّ اعطِني كتابي بيميني، والخلدَ في الجنان بيساري، وحاسبني حسابا يسيراً][[149]].وإذا غسلت اليد اليسرى فقل: [اللهمَّ لا تعطِني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري، ولا تجعلها مغلولةً إلى عنقي، وأعوذ بك من مقطعات النيران][[150]].ثمَّ تمسح مقدَّمَ رأسِك ببلَّة باطن كفِّك اليمنى وتقول خلالها: [اللهمَّ غشِّني برحمتِك وبركاتِك][[151]].ثمَّ امسح ظهر قدمك الأيمن ببلَّة كفِّك اليمنى، وقل: [اللهمَّ ثبتني على الصراط يوم تزلُّ الأقدام][[152]]. ثمَّ امسح ظهر قدمك الأيسر ببلَّة كفِّك اليسرى، وقل: [واجعل سعيي فيما يرضيك عني يا ذا الجلال والإكرام][[153]]. وقل إذا فرغت من الوضوء: [اللهمَّ إني أسألك تمامَ الوضوء وتمامَ الصلاة وتمامَ رضوانِك والجنة]، وتقول: [الحمد لله ربِّ العالمين][[154]].هذا ولا ينبغي للفرد العاديِّ أن يستصعب الوضوء، باعتبار وجود هذه الأدعية فيه، فإنها مستحبةٌ وتركها ممكن، فإن كانت صعبةً عليه فليقتصر على ماهو الواجب من أعمال الوضوء.
وينبغي أن نلتفت إلى أنَّ صورة الوضوء هذه ذكرناها الآن فيما بين الطلوعين، إلا أنها هي ذاتها في كلِّ مرةٍ يتوضأ فيها المؤمن، وينبغي أن يكون الفرد في كلِّ أوقاته على غسلٍ ووضوء، أو قل: على طهارة تامَّة. فإنه مرويٌّ وله آثارٌ مهمة، منها ما ورد في الروايات من: [أنك إذا متَّ متَّ شهيدا][[155]]. وأسهل أساليب ذلك عملياً هو المبادرة إلى رفع الحدث كلَّما حصل، والوضوء على الوضوء مطلوبٌ إجمالاً، وخاصةً عند حصول بعض الفعاليات الدنيوية، وكذلك عند إرادة الدخول في أيِّ صلاة، وكذلك ـ حسب فهمي ـ عند حصول بعض المحرمات من الفرد كالكذب والغيبة وغيرها.
ولا ينبغي أن ننسى بهذا الصدد استحباب تثنية الغسلات، والأحوط عدم التثنية باليسرى احتياطاً لها في المسح. وكذلك اليمنى إذا أراد المسح بها من دون أن يستعملها في غسل اليسرى. وكذلك الوجه لأخذ البلل منه عند جفاف بلل اليد.
ويستحبُّ أن يبدأ الرجل بظاهر ذراعيه في الغسلة الأولى، وفي الثانية بباطنهما، والمرأة بالعكس[[156]].
هذا، وأما كيفية صلاة الليل ونافلة الصبح وصلاة الصبح ومستحباتها وتعقيباتها، فهذا ما سيأتي في كتاب الصلاة.

الفقرة (3)

أثر الغسل معنوياً
 
تحتوي فكرة الأغسال الواجبة من الجانب المعنوي أو الأخلاقي على تطهير الجسد كلِّه مما علق به من دنس الحدث الأكبر، وهو بإزاء الذنوب الكبيرة.
فإنه كما انَّ الحدث مقسمٌ إلى كبيرٍ وصغيرٍ، أو أكبر وأصغر، فإنَّ الذنوب مقسمةٌ إلى أكبر وأصغر أيضاً، فيكون الحدث الأكبر مشبهاً للذنب الأكبر، والحدث الأصغر مشبهاً للذنب الصغير أو المعصية الصغيرة، وكلها من نوع الأدناس في الفهم الشرعيِّ والمتشرعيِّ على أيَّة حال، وآثارها على النفس غير محمودة، فينبغي المبادرة إلى إزالتها.
أو قل: إنها غير محمودةٍ لا سبباً ولا نتيجةً. وكلامنا الآن عن أنَّ الحدث بكلِّ أشكاله لا يكون إلا عن شهوةٍ أو منقصة، فالأحداث الصغيرة ـ غيرَ النوم ـ  ناتجةٌ عن الجهاز الهضمي، ومن المعلوم أنَّ عامة الأكل والشرب  غير الضروري ناتجٌ عن شهوةٍ ولذة. أما النوم بصفته حدثاً أصغر فهو ناتجٌ أيضاً عن شهوةٍ ولذة، والضروريُّ منه ناتجٌ عن منقصةٍ، أعني عدم تحمل السهر أو عدم إمكانه، وكذلك الضروريُّ من الطعام والشراب ناتجٌ عن منقصة، وهي عدم تحمل الجوع أو عدم إمكان استمراره.
وكذلك الأحداث الكبيرة، فإنَّ حصول الجنابة عن الشهوة الجنسية أوضح من الشمس وأبين من الشمس، وأما أحداث الدم بأنواعها عند المرأة، فإنها عن منقصةٍ في التركيب الطبيعيِّ لجسمها، أرادها الله سبحانه لها لمصلحةٍ في علمه وحكمته، والمرتكز متشرعياً ودينياً أنها لو لم تكن ناقصةً لما حدث فيها دم.
أما تغسيل الأموات، فله عدة وجوهٍ محتملة، نذكر منها اثنين: وهما لا يخرجان عن القاعدة التي عرفناها:
الوجه الأول: أن يكون الموت نفسه حدثاً للفرد، أو منقصةً له، وحيث لا يمكن تلافيه بإرجاع الحياة، أمكن تلافيه بما أمرت به الشريعة من الغسل.
بل ظاهر الشريعة: انه أشدُّ منقصةً من غيره، لأنه لا يطهر إلا بثلاثة أغسال، في حين يطهر الفرد من الأحداث الأخرى بغسلٍ واحد.
وكون الموت منقصةً ليس غريباً، بعد وضوح كونه سلباً لكلِّ فعاليات الحياة، إلى حدٍّ أصبح لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، وأصبحت جـثـتـه من قبيل الأقذار التي يجب  إبعادها أو العورة التي يجب سترها، ومن هنا سميت بالسوءة في القرآن الكريم بقوله تعالى: [يُوارِي سَوءةَ أَخيهِ][[157]].
الوجه الثاني: انَّ الميت مقبلٌ على مواجهة الآخرة، لأنَّ الموتَ هو آخر الدنيا وأوَّل الآخرة، فينبغي أن يتخفَّف من الأثقال التي لحقته في الدنيا، ويتطهر من الأدناس والأرجاس التي تحملها منها، وذلك يكون بالأغسال، وكلَّما كانت الأغسال أكثر، كان التطهير آكد.
وعلى أيِّ حال، فهذه وجوهٌ من [الحكمة] التي ندركها للأحكام الفقهية، وليست [علَّةً] لها على المصطلح الفقهي، ولذا وجب تغسيل من لا منقصةَ فيه كالمعصومين.
أما غُسْلُ مسِّ الميت، فيبدو من ظاهر الشريعة أنه مجردُ تعبُّد، وليس أنَّ المسَّ يحدث حدثاً في الحيّ.
نعم، يمكن أن يقال: إنَّ الغالب في المسِّ أن يكون بشهوةٍ ناتجةٍ عن الحزن على الموت، أو الشوق إلى الميت، أو الحرص على عدم ابتعاده عن أهله ونحو ذلك، فيكون الغسل لازماً على هذا الأساس.
تبقى الإشارة إلى ما ندركه من الفرق بين الحدث الأكبر والأصغر، ويبدو أنَّ ما ورد[[158]]: [من أنَّ الجنابة تخرج من كلِّ البدن]، هو مفتاح الحلِّ في المقام، فالحدث الأكبر يخرج من كلِّ البدن، فيجب غسله كلُّه. والحدث الأصغر يخرج من عضوه المعيَّن فلا يجب إلا غسل أعضاء معينة في الوضوء.
وهذا واضح في الجنابة، لأنَّ الجسم كلَّه يتكهرب بالشهوة، ويكون على حالٍ أخرى خارجةٍ عن مساره الإعتيادي، كما إنه واضحٌ في الموت، لأنَّ الجسم كلَّه يموت.
وكذلك لا ينبغي أن يكون خفياً في الدماء الثلاثة، لأنَّ الدم موزعٌ في الجسم كلِّه، وخروجه من موضعٍ معينٍ إنما يعني خروجه من الجسم كلِّه عن طريق هذا المجرى.
ولا ينبغي أن يخطر في الذهن: أنَّ الدم يخرج من الرحم لا من الجسم كلِّه، فإننا نجيب: انَّ الرحم إنما جمع الدم من الجسم، وليس دمه مستقلاً عن دم الجسم.
بقي الإلماع إلى أمرين:
الأمر الأول: إنه في مسِّ الميت هل يحدث نقصٌ في الجسم كلِّه ليجب غسله كلُّه أم لا؟.
 ويمكن أن يجاب ذلك بأحد وجهين:
الوجه الأول: ما قلناهُ من أنَّ غسل مسِّ الميت ثابتٌ بالتعبُّد، وخارجٌ عن معنى الحدث الأكبر.
الوجه الثاني: انَّ التأثير هنا يكون معنوياً أو روحياً، لا جسدياً أو نفسياً، بمعنىً معينٍ لا حاجة إلى الإفاضة فيه.
الأمر الثاني: انَّ الأحداث الصغيرة الموجبة للوضوء ذاتُ ارتباطٍ بعضوٍ معين، هو إما العضو الظاهري، وإما الجهاز الهضمي، وغير مربوطٍ ارتباطاً أساسياً بغيره من الأعضاء، أو قل إنه لا يخرج من الجسم كلِّه.
إلا أنَّ حدثاً واحداً صغيراً يبقى، يبدو أنه يحصل في الجسم كلِّه وهو النوم، فكانت هذه [الحكمة] المشار إليها تقتضي فيه الغسل وليس الوضوء.
 ويمكن أن يجاب عن ذلك بأحد وجوه:
الوجه الأول: إنَّ ما قلناهُ إنما هو من قبيل [الحكمة] لا [العلة]، والحكمة قد تختلف أحياناً بخلاف العلة، كما ثبت في الفقه، فيمكن هنا التعبُّد بالوضوء بالرغم من سيطرة النوم على الجسم كلِّه.
الوجه الثاني: إنَّ الظاهر أنَّ النوم يسيطر على الجسم كلِّه، إلا أنه في الواقع ليس كذلك، بل هو يسيطر على الشعور فقط، أو قل على المخّ، ويكون باقي التأثير من باب التسبيب.
الوجه الثالث: إنه يستفاد من عدة ألسنةٍ وبياناتٍ في السنة الواردة، ليس هنا محلُّ تعدادها، يستفاد: أنَّ الحدث ليس هو النوم بل هو الإستيقاظ منه، وإنما أشير إلى النوم باعتباره الملازم المساوي مع الإستيقاظ.
ومن الواضح أنَّ الإستيقاظ كمالٌ وليس نقصاً، لنقول: انه مؤثرٌ على جزء البدن أو كلِّه، فهو لا يؤثر بالنقص على أيِّ شيء، ويكون وجوب الوضوء عنده أو اعتباره حدثاً أمراً تعبدياًً صرفاً.

الفقرة (4)

الأغسال المجزية عن الوضوء.
الصحيح فقهياً هو أنَّ الأغسال الواجبة كلَّها تغني عن الوضوء، إلا أغسال المستحاضة المتوسطة والكبيرة على وجه الفقهي . وإلا غسل مس الميت على وجه آخر[[159]].
والمهمُّ هو أنَّ الدليل المعتبر دلَّ على أنَّ نوع الغسل عموماً مجزئٌ عن الوضوء، ويعني ذلك شموله للواجب والمستحبّ، إلا إذا دلَّ الدليلُ على الخلاف، أي على وجوب الوضوء مع الغسل في مورده.
 ويمكن أن تتلخَّص المستثنيات في ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: ما أشير إليه في الوجهين في غسل المستحاضة ومسِّ الميت إن كانا تامَّينِ فقهياً.
الوجه الثاني: الغسل المستحبُّ الذي ثبت بأدلَّة التسامح بأدلَّة السنن، فإنه يجب معه الوضوء رجاءاً أو احتياطاً، لأنَّ دليله غيرُ كافٍ، وأدلة التسامح نفسها لا تثبت هذه الجهة.
الوجه الثالث: إنه لم يثبت فقهياً وجود الإستحباب في الكون على الطهارة في الغسل كما ثبت في الوضوء، كما لم تثبت مشروعية الغسل على الغسل كما ثبت في الوضوء، فإن حصل مثل ذلك، ولو رجاء المطلوبية، لزم الوضوء بعده.
 

الهوامش

الفهرس || السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله