علاجان للقيادة و الجماهير :
( المرجعيَّة الدينية المؤسَّسة و نظريَّة الاتّجاه و الدعم الموضوعي )



إن الشروع في أي عملية إصلاح عادةً ما تبدأ من رأس الهرم بأتجاه القاعدة وكنت قد طرحت علاجاً مناسباً لهذا التعدد والتفكك في المرجعيات والصفوف القيادية وكان هذا العلاج متمثلاً بأطروحة (المرجعية المؤسسة) والتي كان قد أسَّس لها فيلسوف القرن العشرين المفكر الإسلامي الكبير آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس الله خَفِيُّه) وقد أطلق عليها في حينها اسم (المرجعية الرشيدة) ثم طرحها بإضافات وتفصيل السيد محمد حسين فضل الله(دام ظلّه) وذلك بعد عقد من الزمن وأخيراً تشرَّفت أنا بتقديمها ولكن بصيغ وآليات معاصرة ونظم ومناهج حديثة مع علاج لأهم عقدةٍ في الأطروحة والتي لم تعالج من قِبَل المرجعين الكبيرين والتي تعتبر العقبة الرئيسية في هذه الأطروحة والتي تحول دون تحقيقها ألا وهي عقدة الزعامة أيّ زعامة المرجعية المؤسسة فجعلتها تنتظم بآليَّة الزعامة الدورية والنظام الدوري ويمكن أنْ يكون ذلك على مستوى المراجع أو على مستوى مندوبيهم وعلى غرار أنظمة مجلس الأمن الدولي أو دول الاتحاد الأوربي وعلى تفصيل ستجدونه في كتابي الموسوم بعنوان(محمد باقر الصدر والمرجعية المؤسَّسة)ولكنني الآن أُقدّم الأسلوب الثاني والأصعب من الإصلاح وهو الإصلاح العكسي لو صح التعبير والذي يبدأ من القاعدة باتجاه رأس الهرم وهذا الإصلاح كنت قد أسست ونظّرتْ له في اثنين من كتبي هما كتاب(عراق الصدرين والمؤامرة الكبرى) وكتاب(حوزة الصدرين بعد الإغتيال ).
وهذا الإصلاح الاجتماعي متمثل بنظريتي التي أسميتها بـ(نظرية الاتجاه والدعم الموضوعي)وهي نظرية اجتماعية لها آثار وأبعاد سياسية والتي تعني على النحو الإجمالي أن المجتمع يجب أن يتحشد بكل طاقاته البشرية والمادية ليدعم ويتجه باتجاه كل أطروحة تكمن فيها مصلحة الإسلام والمسلمين بغض النظر عن المصدر والجهة التي قدمت هذه الأطروحة فسواءٌ كانت هذه الأطروحة مقدمة مثلاً لا حصراً من قبل مكتب السيد الشهيد الصدر(قدس الله خَفِيُّه) أو مكتب السيد السيستاني(دام ظله) أو مكتب السيد الحائري(دام ظله) أو من المجلس الأعلى للثورة الإسلامية أو من جماعة الفضلاء أو من حزب الدعوة الإسلامية وغيرها من المرجعيات والعناوين الإسلامية الأخرى سواء كانت تنظيمات سياسية إسلامية أو أوساط حوزوية أو مراجع تقليد ,
إذن سيكون الدعم باتجاه الطرح وليس باتجاه المصدر والجهة المسؤولة عن ذلك الطرح ومن الجدير بالذكر أن لهذه النظرية جذرٌ وغطاء شرعي لو صح التعبير وهذا الغطاء الشرعي هو قول أمير المؤمنين(ع) ((لا تنظر إلى من قال وأنظر إلى ما قال))وكذلك قوله(ع)(( إعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال))وكذلك قوله (ع)((خذ الحكمة ولو من أهل النفاق))(شرح نهج البلاغة/ج18 ص333)وبالتالي ستكون هناك عدة مكاسب تصب في الصالح العام للإسلام والمسلمين منها :
1. المكسب الأول / إن المجتمع إذا تبنى هذه النظرية سيتخلص وإلى الأبد من حالة الصنمية وعبادة الأفراد التي يعيشها الآن وذلك لأنَّ كل شريحة في المجتمع اليوم تظن في جهة قيادية معينة أنها الحق المطلق وأن الآخرين على باطلٍ وضلال بالإجماع وهذا مفهوم خاطئ أكيداً لأنه يضفي صفة العصمة على غير أهلها لأنه واقعاً وبطبيعة الحال أن كل جهة من هذه الجهات المتصدية لقيادة المجتمع تكون لها إيجابيات وعليها سلبيات ما دامت مستمرة في العمل فلذلك يجب دعمها في إيجابياتها ونقدها نقداً بنّاءاَ من دون تجريح في سلبياتها .
2. المكسب الثاني / أن المجتمع إذا تبنى هذه النظرية وتثقفت الأجيال عليها سيؤدي ذلك إلى شحذ همم القيادات الإسلامية لتقديم أفضل العروض والأطروحات فتخلق حالة من التنافس الذي يؤدي إلى الإبداع لأنه بعكس ذلك قد تميل هذه القيادات إلى حالة الركود والسكينة لأنها مطمئنة بسبب حصولها على فئة من المجتمع مؤمنة بأفكارها وتتبنى نظرياتها وتمدها بمستلزمات البقاء على الساحة السياسية والاجتماعية إعلامياً ومادّيَّاً بينما هذه النظرية قد تجعل المجتمع اليوم مع جهة معينة في طرحٍ ما وقد تكون غداً مع جهة أخرى في طرحٍ آخر وبالتالي سيكون الضابط والمعيار والمقياس والمؤشر الذي يؤشر في بوصلة استقطاب الجماهير هو قيمة الأطروحة المقدمة وليس مصدر ذلك الطرح .
3. المكسب الثالث / سينشأ جيل مثقف ويمتلك من الوعي ما يجعله قادراً على فرز الألوان المتداخلة وتحديد مصداق المصلحة العليا للإسلام والمسلمين ومع تزايد هذا الوعي وتراكمه سيكوّن الأرض الخصبة التي من خلالها يزداد تكامل القاعدة الجماهيرية حتى ترتقي لفهم الأطروحة الإلهية العادلة المقترن تجسيدها بقدوم الإمام المهدي المنتظر(عج) وتكون قادرة على استيعابها وتجسيدها على أرض الواقع .
4. المكسب الرابع / هناك مكاسب سياسية واجتماعية أخرى لا يسع المقام لذكرها وتفصيلها ولزيادة الإطلاع يراجع الكتابين المذكورين قبل قليل .
وسأدعم نظريتي هذه برؤية كان قد تبناها السيد الشهيد محمد باقر الصدر(سلام الله عليه)في حياته الشريفة إذ جسد لنا أسمى آيات الإيثار والتفاني والتضحية في سبيل الله وخدمةً للإسلام والمسلمين وهو لم يكن إنساناً مكلفاً بسيطاً وهو المستوى الاجتماعي والعلمي الذي تخاطبه هذه النظرية ولكنه كان يمثل أحد أعظم عمالقة الفكر الإسلامي على مر العصور ومن أعظم المرجعيات التي تأسست في التاريخ الحديث ومع ذلك نراه يؤكد على الخواص من طلبتهِ لتبني هذا النهج الموضوعي في الانتماء والتأييد وبذلك حاول رضوان الله عليه أن يربي جيلاً من القادة ومن الجماهير تجسد وتتبنى هذا النهج في السلوك إذ يقول(قدس الله خَفِيُّه): ((يجب عليكم أن لا تتعاملوا مع هذه المرجعية(وقصد مرجعيتهِ)بروح عاطفية وشخصية،وأن لا تجعلوا ارتباطكم بي حاجزاً عن الموضوعية بل يجب أن يكون المقياس هو مصلحة الإسلام فأي مرجعية أخرى استطاعت أن تخدم الإسلام وتحقق له أهدافه يجب أن تقفوا معها وتدافعوا عنها وتذوبوا فيها،فلو أن مرجعية السيد الخميني مثلاً حققت ذلك،فلا يجوز أن يحول ارتباطكم بي عن الذوبان في مرجعيتهِ))(شهيد الأمة وشاهدها)/ج1 ص261) .
وكان هذا الكلام قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بعشر سنوات تقريباً وبعد انتصار الثورة الإسلامية المباركة بقيادة السيد الخميني(قدس الله خَفِيُّه)في إيران لم يألوا السيد الشهيد محمد باقر الصدر(قدس الله خَفِيُّه) جهداً في دعم وتأييد الثورة الإسلامية العملاقة بالرغم مما سبب له من مخاطر ومضاعفات سياسية وأمنية كانت سبباً رئيسياً لإستشهادهِ فيما بعد وقد اعترض عليه الكثير بسبب هذا التأييد وكان وجه الاعتراض هو المخاطر المحدقة بالسيد الشهيد محمد باقر الصدر(سلام الله عليه) من جهة ، والجهة الأخرى كان رأي المعترضين أنه لا ضرورة لهذا التنازل الكبير من قبل كيان مرجعية قائم ومتجذر في العراق ويمتد افقهُ إلى الأمة الإسلامية جمعاء الذي كان يمثله السيد الشهيد محمد باقر الصدر(سلام الله عليه) ولكنه كان يجاوب هؤلاء المعترضين القاصري النظر والمحدودي الأفق باستمرار بهذه العبارة ((لو أن السيد الخميني أمرني أن أسكن في قرية من قرى ايران أخدم فيها الإسلام لما ترددت في ذلك،إن السيد الخميني حقق ما كنت أسعى إلى تحقيقه))(شهيد الأمة وشاهدها/ج1 ص262) ،
وبهذه السلوكيات والمفاهيم التي جسّدها عظماء قيادات الأمة الإسلامية أصبح لزاماً على الأمة أن تتبع قادتها المخلصين إذا أرادت النجاة والسعادة في الدارين وإذا رامت الوصول إلى شاطئ الأمان بتحقيق رضا الرحمن .


 

              

 

الرئيسية