مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية


حجية الاستحسان عند المذاهب الإسلاميّة
 الشيخ سامي الغريري


 
المقدمة
يكاد يقطع الإنسان المسلم بأن المسلمين اليوم بأمس الحاجة إلى رص الصفوف، ولا يتم ذلك إلاّ من خلال تلاقح الأفكار، والتقاء العقول النيرة التي تزيل ظلام التخلف الفكري أمام معطيات الحياة الفكرية، من خلال بحوث مقارنة في علم الأصول والفقه على غرار ما فعله العلامة المحقق السيد محمّد تقي الحكيم في كتابه: الأصول العامة للفقه المقارن؛ لأن الأدلة التي تستنبط منها الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين نوعان: نوع اتفق جمهور المسلمين على أنّه  مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، ونوع اختلف العلماء في اعتباره مصدراً تشريعياً.
فنحن بحاجة ماسة لأن يفهم كلّ منا الآخر، ويتم ذلك التفاهم بطرح شتى البحوث في الفقه والأصول كي يزال الجمود الذي خيم على عقول البعض لفترات زمنية، ومن ثم يحصل التفاعل المطلوب، وتلتقي الأفكار الناضجة.
وبحث الاستحسان هذا قد اشتهر عند الأحناف الأخذ به، حتّى أن المتفحص في
كتبهم كثيراً ما يجد هذه العبارة: (الحكم في هذه المسألة قياساً كذا، واستحساناً كذا) وقد اعتبروه دليلاً خامساً في الشرع يترك به مقتضى القياس؛ لأنه أحد نوعي القياس، فهو قياس خفي في مقابل القياس الجلي، ويسمى كذلك إشارة إلى أنّه أولى بالعمل به كما قال البزدوي.
لقد كان الأخذ بالاستحسان مثار بحث العلماء، فبعد ما أقره المالكية والحنابلة واشتهر به الحنفية عدة الشافعية والظاهرية بدعة وتشريعاً في الدين، ولذا قال الشافعي عبارته المشهورة ـ فيما تنقل في كتب الأصول وإن لم تكن في كتابه "الرسالة" ـ: (من استحسن فقد شرع (1) أي: وضع شرعاً جديداً.
إنّ  هذا البحث يعرض لهذه المسألة، ويناقش الآراء فيها، ويحاول الوصول إلى رأي ناضج وسنوزع البحث على المطالب التالية:
 
المطلب الأول
 حقيقة الاستحسان
 الاستحسان في اللغة:
الاستحسان مأخوذ من الحسن (2)، ومصدره: استحسن، أي: الشيء عده حسناً (3)، سواء كان الشيء من الأمور الحسية أو المعنوية (4). يقال: استحسن الطعام، ويقال: هذا ما استحسنه المسلمون، أي: رأوه حسناً.
وليس الخلاف بين العلماء في جواز استعمال لفظ الاستحسان (5) لوروده في القرآن
والسنة النبوية وعبارات بعض الفقهاء، وإنّما  وقع الخلاف في معناه وتعريفه الإصطلاحي، والذي عرف بعدة تعاريف لا يخلو بعضها من إبهام وغموض، وهي أقرب إلى تعاريف الأدباء التي يغلب عليها طابع السجع(6). والتعريف الذي يمكن أن تنتهي إليه أكثر التعاريف هو: الأخذ بأقوى الدليلين(7).
وقد عرض الشوكاني عدة تعاريف للإستحسان من غير نسبة إلى قائلها كما عرض الخفيف قسماً منها ناسباً كلّ تعريف إلى قائله ومذهبه(8).
فيطلق تارة على ما يميل إليه الإنسان ويهواه من الصور والمعاني وإن كان مستقبحاً عند غيره، أو يستحسنه المجتهد بعقله (9). والأحكام لا تؤخذ بالتشهي والهوى، وهذا مما اتفقت كلمة العلماء على منعه.
ويطلق تارة أخرى على أنه: عبارة عن دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على إظهاره، لعدم مساعدة العبارة عنه(10). وهذا مردود؛ لأن كلمة "ينقدح" للمجتهد تعني: أنّه  شاك في اعتباره كدليل، والأحكام الشرعية لا تثبت بالشك أصلاً.
وكثيراً ما جرت كلمة الاستحسان على السنة الحنفية منفردة أو مقرونة بالقياس فقد عرفوه (بأنه العدول عن موجب قياس إلى قياس أقوى منه، أو هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه) (11).
والحقيقة أن هذا التعريف غير جامع ولا مانع؛ لأنه لا يشمل الاستحسان الثابت بدليل آخر غير القياس: كالاستحسان الثابت بالإجماع أو الضرورة
عند من يقول بذلك ويشترط في التعريف: أن يكون شاملاً لجميع الأفراد، مانعاً من دخول الغير فيه.
وعرفه البعض الآخر: (بأنه قياس خفي لا يتبادر إلى الفهم في مقابل قياس جلي)(12)، ولعل ذلك ما نسميه بـ"التبادر البدوي "، ولا حجية فيه، وهذا أيضاً غير شامل لجميع الأنواع لإرادة القياس الأصولي، وليس الأمر مقصوراً عليه، بل كما يكون هذا القياس يكون غيره: كالدليل العام، أو القاعدة المقررة عند البعض.
ومنهم من عرفه: (بأنه كلّ دليل شرعي مقابله قياس جلي، سواء كان نصاً أو إجماعاً أو ضرورة، أم قياساً خفياً) (13). والواقع: أن حصر الاستحسان بهذه الأمور الأربعة غير صحيح، بل ربما يكون بالعرف وبالمصلحة أيضاً.
وعرفه الكرخي: (أنّه  العدول عن حكم في مسألة بمثل حكمه في نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى منه) (14). وهذا يوجب كون العدول عن العموم إلى الخصوص، والمنسوخ إلى الناسخ استحساناً.
وعرفه أبو الحسين: (وهو ترك وجهٍ من وجوه الاجتهاد غير شامل شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه، وهو حكم طارئ على الأول) (15) خرج بالأول: التخصيص والنسخ. وبالثاني: الحكم بأقوى القياسين، فإنه ليس في حكم الطارئ، ولو كان في حكمه لكان استحساناً.
وعلق محمّد بن السحن على ذلك قائلاً: (تركت الاستحسان للقياس، كما لو قرأ آية سجدةٍ في آخر سورة فالقياس الاكتفاء بالركوع، والاستحسان: أن يسجد ثم يركع؛ لأن سماه استحساناً؛ لأن الاستحسان وحده وإن كان أقوى من القياس لكن أنضم إلى القياس شيء آخر، وترجيح المجموع عليه، فإنه تعالى أقام الركوع مقام السجود في قوله
تعالى: (وخر راكعاً وأناب((16).
وهذا يقتضي أن كون جميع الشريعة استحساناً فوجب أن يُزاد فيه مغايرة ذلك الوجه للبراءة الأصلية، وبهذا يكون تعريفه (ترك وجه من وجوه الاجتهاد مغاير للبراءة الأصلية والعمومات اللفظية لوجه أقوى منه، وهو في حكم الطارئ على الأول) (17).
ثم قال: (إنّ  أصحابنا أنكروا الاستحسان على الأحناف، والخلاف ليس في اللفظ لو روده في قوله تعالى: (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها((18) وقوله تعالى: (فيتبعون أحسنه((19) وقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن"(20). ولا معنى له إنّ  لم يرد فيه إجماع. وقول الشافعي في المتعة: (أستحسن أن يكون ثلاثين درهماً) (21). وفي الشفعة: (أستحسن أن يثبت للشفيع الشفعة إلى ثلاثة أيام) (22). وفي المكاتب: (أستحسن أن يترك عليه شيء) (23). بل في المعنى، وهو: أن القياس إذا كان قائماً في صورة الاستحسان متروكاً فيها معمولاً به في غيرها لزم تخصيص العلة، وهذا عند جمهور المحققين باطل، فبطل الاستحسان.
وعرفه الغزالي بقوله: للاستحسان ثلاثة معان:
1 ـ إنه الذي يسبق إلى الفهم، أي: ما يستحسنه المجتهد بعقله.
2 ـ إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة، ولا يقدر على إبرازه وإظهاره. ولعل ما يقابل ذلك في اصطلاح الفقهاء الإمامية بـ "الذوق الفقهي"، إلاّ أن
حجيته تتوقف على حجية المنقدح منه، فلا معنى لجعله أصلاً قائماً بنفسه(24).
3 ـ وهو منقول عن الكرخي، وبعض أصحاب أبي حنيفة ك أنّه  قول بدليل يندرج تحته أجناس:
منها: العدول بحكم مسألة عن نظائرها بدليل خاص من القرآن،
ومنها: أن يعدل بها عن نظائرها بدليل السنة(25).
وقريب من هذا التعريف وغيره في البعد عن فن التعريف ما نسب إلى المالكية من أنّه : (الإلتفات إلى المصلحة والعدول) (26).
وذكر السرخسي عدة تعاريف في مبسوطه منها:
1 ـ القياس والاستحسان في الحقيقة قياسان:
أحدهما: جلي ضعيف أثره، فسمي "قياساً".
والآخر: قوي أثره، فسمي "استحساناً"، أي: قياساً مستحسناً.
2 ـ الاستحسان: ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس.
3 ـ الاستحسان: طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى به الخاص والعام.
4 ـ الاستحسان: الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة.
5 ـ الاستحسان: الأخذ بالسماحة وانتقاء ما فيه الراحة(27).
وهذه التعاريف مؤداها واحد وإن اختلف التعبير، ولا تندرج في الضوابط العلمية.
وقال الإمام مالك: (الاستحسان: هو العمل بأقوى الدليلين، أو الأخذ بمصلحة جزئية في مقابل دليل كلي، فهو إذا تقديم الاستدلال المرسل على القياس) (28).
وقال ابن العربي: (الاستحسان: إيثار ترك مقتضى الدليل، والترخيص على طريق الاستثناء لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته) (29). ثم قسمه إلى أربعة أقسام: (وهي ترك الدليل للعرف، وتركه للإجماع، وتركه للمصلحة، وتركه للتيسير ودفع المشقة وإيثار التوسعة) (30).
وعرفه ابن رشد (الاستحسان الذي يكثر استعماله هو: طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع) (31).
قال الشاطبي: (وهذه تعريفات قريب بعضها من بعض، وإذا كان هذا معناه عن مالك وابي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة البتة؛ لأن الأدلة تقيد بعضها بعضاً، ويخصص بعضها بعضاً، كما في أدلة السنة مع أدلة القرآن، ولا يريد الشافعي مثل هذا أصلاً، فلا حجة في تسميته استحساناً لمبتدع على حال) (32).
وذكر ابن قدامة معان ثلاثة للاستحسان:
1 ـ العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص من كتاب اوسنة.
2 ـ ما يستحسنه المجتهد بعقله.
3 ـ دليل ينقدح في نفس المجتهد لا يقدر على التعبير عنه(33).
وهذه التعاريف ـ كما يذكر السيد محمّد تقي الحكيم ـ يختلف حالها من حيث التعميم والتخصيص، فبعضها تخصصه بتقديم قياس على قياس، وبعضها تجعله عاماً إلى تقديم مختلف الأدلة بعضها على بعض، وبعضها لا يتعرض إلى عالم تقديم الأدلة أصلاً، بل
يؤخذ به لمجرد الاستحسان والانقداح النفسي.
المطلب الثاني

آراء الفقهاء في اعتبار الاستحسان مصدراً من مصادر التشريع:
لو تصفحنا في كتب الأصول لو جدنا تقسيم الفقهاء الاستحسان في اعتباره إلى ثلاثة فرق:
الفريق الأول: يعتبره ويعترف بحجيته، وعلى رأس هذا الفريق إمامان من أئمة الفقه الإسلامي:
فمالك يروى عنه أنّه  كان يقول: (الاستحسان تسعة أعشار العلم) (34).
وقال محمّد بن الحسن ـ تلميذ أبي حنيفة ت 186 هـ ـ عن أبي حنيفة: (إنّ  أصحابه كانوا ينازعونه المقاييس، فإذا قال: أستحسن لم يلحق به أحد، ولقد كان يقيس ما استقام له القياس، فإذا قبح القياس استحسن) (35).
واعتبره أساساً للاجتهاد بقوله: (من كان عالماً بالكتاب والسنة وبقول أصحاب الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وبما استحسن فقهاء المسلمين وسعه أن يجتهد برأيه فيما ابتلي به) (36).
وروي عن أصبغ بن فرج المالكي: (أن الاستحسان أغلب في الفقه من القياس) (37). وكما يوافق الحنفية المالكية في اعتباره وحجيته كمصدر تشريعي وإضفاء الأهمية الواسعة عليه يوافقهم أيضاً الحنابلة، فقد نقل ذلك الجلال المحلي، ووافقه على ذلك العطار في حاشيته(38). كما نقله الآمدي (39) وابن الحاجب (40)، لكن المالكية اقتصروا
على المصلحة المرسلة، إذ أنهم يقولون بها (41).
والحقيقة: أن هناك الكثير من أنواع الخلاف قد يبدأ واقعياً، ثم تأتي القيود والتعديلات لتنفيه، أو يعود لفظياً على أساس اختلاف زوايا النظر، وهذا ما نراه واضحاً ودقيقاً في الاستحسان عند من يراه حجة.
فإن مالكاً حين يقول: (الاستحسان تسعة أعشار العلم) فهو يقصد القول بأقوى الدليلين: كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر(42).
وقال ابن الأنباري: (الذي يظهر من مذهب مالك: القول بالاستحسان الذي حاصله: استعمال مسألة جزئية في مقابلة قياس كلي) (43).
ونقل عن ابن السمعاني: (أن الخلاف لفظي، فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به وأن الاستحسان بالعدول عن دليل إلى دليل أقوى منه لا ينكره أحد) (44). إذ نراه يشمل أبواب التزاحم والتعارض، والحكومة والورود والتخصيص، وغير ذلك مما يشكل قوام علم الأصول، فلا غرو إذا كان الاستحسان تسعة أعشار العلم هذا هو مذهب أهل البيت ـ عليهم السلام ـ، بل هو سنة العقلاء ولا يشكل أصلاً في مقابل الأصول الأخرى، إلاّ إذا فسر بمعنى "الانقداح النفسي" وهو باطل قطعاً.
أما الحنفية ـ ما عدا الطحاوي ـ فقد (تمسكوا بالقياس وبالغوا في الأخذ به، حتّى أنهم جعلوه مقياساً لجميع الأحكام، سواء كانت من المنصوص عليها أم لم تكن، فإذا كان في الأمر دليل أقوى من القياس ـ كنص من الكتاب أو السنة أو الإجماع ـ تركوا القياس، وأخذوا بالدليل الأقوى استحساناً) (45).
وقال القاضي يعقوب: (القول بالاستحسان مذهب أحمد، وهو: أن تترك حكماً إلى
حكم هو أولى منه) (46).
وإن كان البناني نقل بأن الحنابلة أنكروه(47).
وقال الشوكاني ـ وهو من المتأخرين وسبقه بالقول القفال ـ: (إنّ  كان المراد بالاستحسان: ما دلت عليه الأصول بمعانيها فهو حسن لقيام الحجة به، وهذا لا ننكره ونقول به، وإذا كان ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه من غير حجةٍ فهو محظور، والقول به غير سائغ) (48).
وخلاصته عند هؤلاء: أنه استعمال مصلحةٍ جزئيةٍ في موضعٍ يعارضه فيها قياس عام، ومثلوا لذلك بعدة أمثلة:
منها: أن المشتري لو اشترى سلعةً على أنّه  بالخيار ثلاثة أيام ثم مات في أثناء المدة فإن خيار الشرط يورث عند المالكية (49)، فإن اتفق الورثة على فسخ العقد فسخ، وإن اتفقوا على إمضائه مضى عليهم أجمعين، ولكن لو اختلفوا وقبل من رضي بالإمضاء أن يأخذ نصيب من رد فإن العقد يمضي على البائع استحساناً؛ وذلك لأن البيع قد بت من جانبه، فلا يهمه من يؤول إليه ما دام وارث(50).
وقد التزم بعض الأولين من تلامذة مالك وأبي حنيفة بالاستحسان ودافعوا عنه، وتبعهم بعض المتأخرين فقالوا: إنّ  أبا حنيفة أجل قدراً وأشد ورعاً من أن يقول في الدين بالتشهي.
ثم قالوا: إنّ  المخالفين لا ينكرون على أبي حنيفة الاستحسان بالأثر أو بالإجماع أو بالضرورة؛ لأن ترك القياس بهذه الدلائل مستحسن بالاتفاق، وإنّما  أنكروا عليه الاستحسان بالرأي فإنه ترك للقياس بالتشهي (51).
ومن خلال العبارات السابقة يمكن فهم الحقيقة التالية: أن الاستحسان المبتني على
مجرد الميل النفسي عند المجتهد ـ وهذا الميل انتزعه من عدة أدلة وإن لم يكن لمجموعها جامع واحد ـ فهذا بحد ذاته لا يشكل لنا أصلاً ودليلاً مستقلاً قائماً بذاته.
أما إذا كان ناشئاً من نفس الميل الشخصي غير المعتمد على الدليل الشرعي فهو كما قال الشافعي: تشريع محض وتشهي.
وأما إذا كان الميل ناشئاً من ترجيح أحد الدليلين فهذا يكون مندرجاً تحت مباحث الألفاظ، ومتداخلاً في بقية المصادر الأخرى: كالسنة مثلاً، ولا يتولد منه أصل تشريعي.
الفريق الثاني: الفريق المنكر للاستحسان، فهو لا يعترف بحجيته، ويظم هذا الفريق الشافعية والظاهرية والمعتزلة وفقهاء الشيعة قاطبة(52).
فقد نقل أن الشافعي قال: (من استحسن فقد شرع) (53). وجاء في الرسالة للشافعي: (أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر). وفي مقام آخر يقول: (إنّ  حلال الله وحرامه أولى أن لا يقال فيه بالتعسف ولا الاستحسان أبداً، إنّما  الاستحسان تلذذ، ولا يقول فيه إلاّ عالم بالأخبار، عاقل بالتشبيه عليها) (54).
وقد خصص الشافعي فصلاً من كتابه"الأم" لإبطال الاستحسان، وقال: (الاستحسان باطل) (55).وقال في الرسالة: (وإنّما  الاستحسان تلذذ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم، ولجاز أن يشرع في الدين في كلّ باب، وأن يخرج كلّ أحد لنفسه شرعاً)وقد اعتبره الغزالي في ميدان التشريع هوساً؛ لأنه خلط ووهم وخيال (56).
لكن الآمدي يقول: (إنّ  الشافعي قد أخذ بالاستحسان واعتبره مصدراً من 
مصادر التشريع الإسلامي) (57).
وقال ابن حزم الظاهري: (الحق حق وإن استقبحه الناس، والباطل باطل وإن استحسنه الناس، فصح أن الاستحسان شهوة واتباع للهوى وضلال، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان) (58). وقال أيضاً: (من المحال أن يكون الحق فيما استحسنا دون برهان؛ لأنه لو كان ذلك لكان الله تعالى يكلفنا مالا نطيق، ولبطلت الحقائق)(59).
أما الشوكاني من الزيدية قال بعد أن ناقش أدلة الاستحسان: (بمجموع ما ذكرنا: إنّ  ذكر الاستحسان في بحث مستقل لافائدة منه أصلاً؛ لأنه إنّ  كان راجعاً إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار، وإن كان خارجاً عنها فليس من الشرع في شيء، بل هو من التقول على هذا الشريعة بما لم يكن فيها تارة، وبما يضادها أخرى) (60).
والمعروف هنا: أن هذه السبل كلها تنبع من عنصر "الرأي"، وقد نشط في المائة الثانية للهجرة، وقوي حتّى عاد رابع الأصول الثلاثة: الكتاب والسنة، والإجماع، وقد بالغوا فيه حتّى قدموه على الإجماع أحياناً، بل رويت به بعض الأحاديث، أو أولت به الآيات (61). (ومن الطبيعي أن ابن حزم ينفي كلّ أنواع الاستحسان، ماعدا مسألة تقديم أقوى الدليلين، وذلك بحكم مذهبه في التمسك بحرفية النصر، دون التعدي عنها إلى الرأي والاجتهاد) (62).
أما مدرسة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ فقد قاومت الرأي والقياس أيضاً بشدة، وجاءت شتى الأحاديث تناقش العمل به، وترده.
وقد تابعهم على ذلك فقهاء الظاهرية في إنكار الرأي بكل سبله، كما أدت تلك المقاومة والرد إلى أن يتجه أهل الرأي إلى وضع الحدود والقيود التي كادت أن تسد منافذه أحياناً، أو تقربه مما يعرف لدى مدرسة أهل البيت به "تنقيح المناط" واستظهار
عموم العلة، مما كاد أن يوفق بين المدرستين(63) كما سيتضح فيما بعد.
أما الفريق الثالث: فقد فصل نظراً لتحديد مفهوم الاستحسان: فإن عرف بأنه (الأخذ باقوى الدليلين ) فهو حجة، ولا مانع من الأخذ به، إلاّ أن عده أصلاً في مقابل الكتاب والسنة ودليل العقل لا وجه لرجوعه إليها؛ لأن الأخذ بالأقوى منها أخذ بأحدها لا محالة. وإن عرف بـ (ما يقع في الوهم من استقباح الشيء أو استحسانه من غير حجة ثابتة) فالأخذ به محظور؛ لعدم الدليل على حجيته، والشك في الحجية كاف للقطع بعدمه(64).
ولنطرح هذه المحاكمات جانباً، ونقف أمام الاستحسان بما أراد كلّ فريق، وهل هو أصل من أصول التشريع الإسلامي أم لا ؟
 

المطلب الثالث

أدلة المثبتين
 
استدل المثبتون للاستحسان بأدلة: بعضها من الكتاب، وبعضها الآخر من السنة، والثالث من الإجماع، والرابع من العقل، ونعرض لهذه الأدلة، ثم نناقشها دليلاً دليلاً وكما يلي:
 

أوّلاً: أدلتهم من الكتاب:
 استدلوا بآيتين من كتاب الله وزعموا دلالتهما على ذلك.
أ ـ قال تعالى: (الّذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه((65).
ب ـ وقال تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم((66).
 
 
فالأولى: مدحت وألزمت باتباع الأحسن، والمدح والإلزام علامة الحجية، ويوجبان الجزم بحجية المستحسن بالفتح.
والثانية: يفهم منها: أنّه  سبحانه وتعالى مدح أناساً تعرض عليهم قضايا فيها الحسن والأحسن، فيختارون الأحسن.
ويرد على هذا الاستدلال بـ:
1 ـ إنّ  الآيتين استعملت لفظ "الأحسن" بمفهومه اللغوي، وهذا لا علاقة له بالاصطلاح المتأخر، فالآيتان أجنبيتان عنه.
2 ـ إنّ  المجال في أحسنية حكم على حكم يعني: الإطلاع على الملاكات، ولا سبيل للعقل على ذلك، بل يقدم الأهم على المهم.
3 ـ إنّ  الآية الأولى وإن مدحت المستمعين إلاّ أنها افترضت أن هناك أقوالاً بعضها أحسن من بعض، فإذا كانت صادرة من الشارع فالأهمية بكونها أحسن هو من شؤون الكتاب والسنة(67).
4 ـ إنّ  التأمل في سياق الآية الثانية لا يبقي مجالاً لتقديم الأهم على المهم، وإنّما  استعملت لفظ التفضيل لتعم الصفة على كلّ ما أنزل منه تعالى، أو تحبذ التوبة بقرينة ذكر العقاب.
5 ـ إنّ  الآيتين أجنبيتان عن حجية الاستحسان، ولو بدلت لفظة "الأحسن" بلفظة "أنهم يعملون بالاستحسان في مجالات الاستنباط" لا يستقيم المعنى بحال(68).
ورد الغزالي على هذا الاستدلال بالآية: (قلنا اتباع أحسن ما أنزال الينا هو ابتاع الأدلة، فبينوا لنا أن هذا مما أنزل الينا، فضلاً عن أن يكون أحسنه) (69) وهو بهذا يتحدث عن قاعدة تقول: "إنّ  القضية لا تثبت موضوعها" فالآية لا يمكن أن تعين الاستحسان
نفسه مما أنزل أو مما لم ينزل.
وأجاب الغزالي بجواب آخر قائلاً: (لا يلزم عن ظاهر هذا اتباع استحسان العامي والطفل والمعتوه لعموم اللفظ، فإن قلتم: المراد به: بعض الاستحسانات وهو استحسان من هو أهل للنظر فكذلك نقول: المراد: كلّ استحسان صدر عن أدلة الشرع، و إلاّ فأي وجه لاعتبار أهل النظر في الأدلة مع الاستغناء عن النظر).
إنّ  قيد أهل النظر عرفي واضح، ولذا فهو يشكل قرينة ارتكازية للإطلاق هنا، فلا يتم جواب الغزالي(70).
 

ثانياً: أدلتهم من السنة النبوية:
أ ـ استدلوا بما رواه عبدالله بن مسعود أنّه  قال: "إنّ  الله ـ عز وجل ـ نظر في قلوب عباده فاختار محمداً ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد فاختار له أصحاباً، فجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح"(71). 
واستدلالهم بهذه الرواية لأصول مختلفة؛ لأن الأمر يفيد رجحان مصلحة الوجود؛ لامتناع الأمر بما فيه مفسدة راجحة أو مساوية، والإذن في تركه إذن في تفويت المصلحة الخالصة، وأنه قبح عرفاً فكذا شرعاً، وقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ: "ما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح" ترك العمل به في المندوبات، فيبقى فيما عداها.
ولا يقال: إلزام المكلف استيفاء المصلحة الخالصة لنفسه قبيح عرفاً فكذلك شرعاً؛ لأن هذا ينفي أصل التكليف.
ولكن يناقش هذا الاستدلال بأمور:
1 ـ إنّ  هذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق؛ لأنه إنّما  يكون إثبات إجماع المسلمين فقط؛ لأنه لم يقل: ما رآه بعض المسلمين حسناً فهو حسن، وإنّما  فيه: ما رآه المسلمون، فهذا هو الإجماع الذي لا يجوز خلافه لو تيقن، وليس ما رآه بعض المسلمين أولى بالاتباع مما عند غيرهم من المسلمين، ولو كان ذلك لكنا مأمورين بالشيء وضده، ونفعل شيئاً ونتركه معاً، وهذا محال.
2 ـ هذه الرواية موقوفة على ابن مسعود، وربما كانت كلاماً له(72) وليست حديثاً للرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، بالإضافة إلى ذلك أنها من أخبار الآحاد التي لا تثبت بها الأصول كما يقول الغزالي.
3 ـ لو صحت تلك الرواية فهي تأكيد لقاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع (73) ولا يمكن الأخذ بمضمونها حسب الظاهر.
4 ـ قد يراد بها: العرف الشائع بين المسلمين، وهو الظاهر، وهذا يعني: الرجوع إلى عرف المتشرعة.
ب ـ قيل: إنه ثبت عدول الشارع في بعض الوقائع عن موجب القياس أو عن تعميم الحكم جلباً للمصلحة ودرءاً للمفسدة. فقد نهى ـ صلى الله عليه وآله ـ عن بيع المعدوم بقوله: "لا تبع ما ليس عندك"، ثم عدل فرخص في بيع السلم مراعاة لمصلحة الناس، ويرشد إلى ذلك قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم وزن معلوم إلى أجل معلوم"، وهذا يعني: تجويز الاستحسان.
وجوابه: أن ثبوته كان بالأدلة المتفق عليها بأنها حجة؛ لأنه:
إما أن يثبت بالأثر: كالسلم والإجارة، وعدم فساد صوم من أكل ناسياً.
وإما بالإجماع: كالاستصناع عند من يقول به.
وإما بالضرورة: كطهارة الحياض والآبار بعد تنجسها.
وإما بالعرف: كرد الأيمان إلى العرف.
وإما بالمصلحة: كتضمين الأجير المشترك(74).
ولكن الرد على مثل هذا الاستدلال أيضاً سهل، فإنه كيف يعتبر ما سمي هنا "بالعدل" دالا على علة العدول وهو الاستحسان؟
إنّ  هذا الدليل لا يعرض إلاّ سنة جرى عليها الشارع، وهو بيان بعض العمومات، ثم المجيء بمخصص يكشف عن أن العموم لم يكن من قبل على سعته، وهل هذا إلاّ العمل بالسنة المخصصة ؟ وأين هو من جعل الاستحسان أصلاً في قبال الأصول ؟(75).
 

ثالثا: أدلتهم من الإجماع:
استدلوا بإجماع الأمة: وهو أن يترك القياس في مسألة لانعقاد الإجماع على غير ما يؤدي إليه؛ وذلك كانعقاد إجماع المسلمين على صحة عقد الاستصناع، فإن القياس كان يوجب بطلانه؛ لأن محل العقد معدوم وقت إنشاء العقد.
ويستدل أيضاً على الأخذ بالاستحسان: دخول الحمام، وشرب الماء من أيدي السقائين، من غير تقدير لزمان المكث، وتقدير الماء والأجرة.
والعمل يدل عليه في كلّ الأزمان على صحته، وتعارفوا على عقده، فكان ذلك إجماعاً أو عرفاً عاماً يترك به القياس، وكان عدولاً عن دليل إلى أقوى منه.
ورد هذا الاستدلال: أن هذا الإجماع لو صح وجوده فهو قائم على هذه الإحكام بالخصوص، لا على استحسانها، فضلاً عن قيامها على كلّ استحسان، ولا أقل من اقتصاره على هذه المواد بحكم كونه من الأدلة اللبية التي يقتصر فيها على القدر المتيقن.
ولكن الظاهر أن مثل هذا الإجماع لا أساس له، وإنّما  قامت السيرة على هذه الأحكام،
وهي مستمرة على جريان ذلك إلى زمن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مع علمه به وتقريره لهم عليه(76).
 

المطلب الرابع

أدلة النافين للاستحسان
إنّ  من أبرز نفاة الاستحسان هو: الشافعي كما اشتهر في بطون الكتب، ولكن صاحب كتاب "الرأي في الفقه الإسلامي" يقول: (إنّ  الذي ينفي الاستحسان بكل أنواعه هو: ابن حزم الظاهري، لا الشافعي، باعتبار أنّه  يرد في كلام الشافعي أحياناً: إني أستحسن) (77) وإنّما  الشافعي نفى القسم الأخير ـ وهو ماينقدح في النفس ـ من معاني الاستحسان، إلاّ أن الظاهر من كلامه: أنّه  ينفي الاستحسان العقلي أيضاً. قد صور اعتراض الشافعي على الاستحسان باشكالات وهي:
1 ـ ثبت أن المشرع حكيم، ولم يترك أمراً من الأمور الدنيوية سدى من غير بيان، قال تعالى: (أيحسب الإنسان أن يترك سدى((78) فقد بين الأحكام في القرآن أو السنة، وما لم يبينه فيهما تركه للأدلة الأخرى، وأوجب على المسلم اتباع حكمه سبحانه وتعالى: (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول((79). والحكم الاستحساني ليس داخلاً في القسمين، وإنّما  هو تصرف حسب الهوى والميل، ويناقض تلك الآية الكريمة.
والآية الثانية: "فإن تنازعتم.." تأمر بالطاعة لله وللرسول وتنهى عن اتباع الهوى والاستحسان ليس كتاباً ولا سنة ولا رداً للكتاب والسنة، وإنّما  هو أمر غير ذلك، وهو تزيد عليهما، فلا يقبل إلاّ بدليل منهما على قبوله، ولا دليل عليه.
وقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ: "ما من واقعة إلاّ ولله فيها حكم" (80) والطريق إلى الحكم: إما أن يكون النص أو القياس ـ عند من يأخذ به ـ ولا طريق غيرهما، وهو تعبير آخر عن الرد
السابق الذكر.
2 ـ لو كان الاستحسان جائزاً من المجتهد ـ وهو لا يعتمد على نص ولا حمل على النص، بل يعتمد على الفعل وحده ـ جاز لغيره أن يستحسن، ويقال في الواقعة الواحدة ضروب من الفتيا؛ لأن العقل متواجد عند غير العلماء بالكتاب والسنة، بل ربما كان منهم من يفوق عقول هؤلاء، فإن كان جائزاً عندهم فقد أهملوا أنفسهم، وحكموا حيث شاؤو(81).
وهذه الاشكالات قابلة للمناقشة، فهي في الواقع ترديد للمدعى، إذ التركيز في الخلاف يدور حول وجود طريق آخر غير النص ـ الكتاب والسنة ـ والقياس، ولا مانع أن يكون الاستحسان سبيلاً آخر، ومن هنا يقول الغزالي: (لا شك أنّا نجوز ورود التعبد باتباعه عقلاً، بل لو ورد، في الشرع: بأن ما سبق إلى أوهامكم أو استحسنتموه بعقولكم أو سبق أوهام العوام ـ مثلاً ـ فهو حكم الله عليكم لجوزناه"(82).
أما الوجه الثاني: فلو تم لأغلق باب الاجتهاد، فليس الاختلاف في الفتيا يصلح دليلاً للرد على الاستحسان، ولكن الظاهر ـ كما نبه إليه العلامة السيد الحكيم ـ (83) أنّه  يسير إلى القسم الأخير، وهو ما ينقدح في النفس، ولا ريب في أن هذا القسم يؤدي إلى الفوضى كما تنبه له الشافعي، وهو بهذا مرفوض إسلامياً، بل يؤدي إلى التلاعب بمقدسات الإسلام.
أما الغزالي: فإنه يرد الاستحسان بمسلكين:
1 ـ إنّ  الاستحسان جائز الحجية عقلاً، ونحن نسلم للشرع حتّى لو عبدنا بأوهام العوام، ولكن ما الدليل عليه ؟ أهو ضرورة العقل وهو خلاف الحقيقة؟
فيجب إذا أن يكون هناك سمع قطعي؛ لأن ما بالغير يجب أن ينتهي إلى ما بالذات، و إلاّ تسلسل الأمر، بل لم تنقل الحجية له حتّى أخبار الآحاد، ولو نقلت فإن الأصل لا يثبت عنده بخبر الواحد بحجة إنّ  جعل الاستحسان مدركاً من مدارك أحكام الله تعالى
بمنزلة الكتاب والسنة والإجماع، وأصلاً من الأصول، فلا يثبت بخبر الواحد، ومهما انتفى الدليل أوجب النفي. وكان الغزالي يريد بهذا ما شاع لدى الأصوليين من أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها.
وهذا الدليل تام في نفسه، إلاّ أن ادعاء عدم كفاية خبر الواحد لإثبات حجية الأصل مما لا وجه له بعد القبول بقيام الدليل القطعي على حجية خبر الواحد، ذلك أنّه  يقطه التسلسل المشار إليه.
2 ـ إنا نعلم بأن الأمة أجمعت على أن العالم ليس له أن يحكم بهواه، وذلك قبل أن ياتوهم بهذا الأصل، والاستحسان مصداق للهوى والشهوة.
لكن هذا الدليل ـ أيضاً ـ تكرار للمدعى، وبعد هذا وذاك من عبارات الشافعي في الاستحسان وذمه له وكذلك قول الروياني: بأنّه  شرع غير الشرع ـ وبطلانه ـ يتبين لنا فيما يلي (84).
أ ـ لا يجوز الحكم إلاّ بالنص أو بما يقاس على النص؛ لأن في غير ذلك شرعاً بالهوى وقد قال سبحانه وتعالى: ?وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم?(85).
ب ـ إنّ  الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما كان يفتي بالاستحسان، وإنّما  كان ينتظر الوحي، ولو استحسن لما كان مخطئاً؛ لأنه لا ينطق عن الهوى.
ج ـ الاستحسان أساسه العقل، فيه يستوي العالم والجاهل، فلو جاز لأحد الاستحسان لجاز لكل إنسان أن يشرع لنفسه شرعاً جديداً.
د ـ إنّ  الاستحسان ليس بحجة مستقلة خارجة عن الأدلة الأربعة المتفق عليها.
بل يرجع إلى تقديم قياس على قياس، أو استثناء مسألة جزئية من القواعد الكلية (86).
هـ إنّ  النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ما كان يفتي باستحسانه، وهو الذي كان ما ينطق عن الهوى، فقد سئل ـ صلى الله عليه وآله ـ  عن الرجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فلم يفت ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  باستحسانه، بل انتظر حتّى نزل الوحي عليه بآية التطهير وكفارته.
وـ إن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ استنكر على الصحابة الّذين غابوا عنه، وأفتوا باستحسانهم كما في قصة أسامة وقتله للرجل الذي قال: "لا إله إلاّ الله " تحت حر السيف وكذلك الصحابة الّذين أحرقوا مشركاً لاذ بشجرة.
زـ إنّ  الاستحسان لا ضابط له، ولا مقاييس له يقاس بها الحق من الباطل كالقياس. لو جاز ذلك لكان فرطاً.
وقد ذهب المحدث الاسترابادي ـ وهو من الشيعة الإمامية ـ إلى إبطال الاستحسان ورفضه وعدم العمل به، مستدلا على ذلك باثني عشر وجهاً منها (87).
1 ـ عدم ظهور دلالة بالاعتماد عليه.
2 ـ إنّ  التمسك بالذي مدركه غير منضبط كثيراً ما تقع فيه التعارضات والاضطرابات.
3 ـ العمل به يوجب الفرقة بين الأمة.
4 ـ منافاة الشريعة مع القول بذلك.
5 ـ إنه يفضي إلى الفتن والحروب.
 

الحكم عند تعارض القياس والاستحسان:
 إنّ  للمذهب الحنفي مسألة خاض فيها علماء التخريج من ذلك المذهب، وهي الظروف والأحوال التي يتعارض فيها القياس مع الاستحسان؛ لأن الترجيح بينهما يكون بقوة الأثر، لا بالخفاء والظهور، فإذا قوي أثر القياس رجح على الاستحسان، والعكس صحيح.
والمسألة هنا فيها رأيان:
1 ـ إنّ  الأخذ بالاستحسان أرجح من القياس.
2 ـ ومن سلك مسلك القياس قد أخذ بقول مرجوح.
فإذا كان موجب القياس في الولاية على المجنون جنوناً عارضاً بعد البلوغ أن تكون الولاية لمن يعينه القاضي، باعتبار أن ولاية الأب قد انتهت بعد بلوغه وأصبح رشيداً لكن الاستحسان عند أبي حنيفة: أن تعود ولاية الأب لعودة سببها وهو الجنون(88).
والذي يظهر من التتبع: أن موجب القياس لا يمكن أن يكون قولاً لأبي حنيفة؛ لأنه لم يؤثر عنه أنّه  رآه قولاً، بل إنه يترك القياس إلى الاستحسان إذا قبح القياس. ومن أنواع الاستحسان هو: ترك القياس للحديث أو للإجماع وليس للقياس موضع إزاء النص أو الإجماع.
ولقد صرح السرخسي بخطأ من يقول: إنّ  موجب القياس قول في المذهب الحنفي: إنّ  كان في الموضع استحسان(89).
ومثل ذلك أيضاً: سؤر سباع الطير؛ كالصقر والحدأة بالنسبة للحكم بطهارة سؤرها، فمقتضى القياس تكون نجسة السؤر، قياساً على سؤر البهائم: كالفهد والأسد والنمر؛ لأن لحم كلّ منهما نجس، فسؤر كلّ منهما نجس، فكذلك الصقر والحدأة؛ لأن الحكم باعتبار اللحم؛ لاختلاطه باللعاب المتولد من لحم نجس.
أما مقتضى الاستحسان: طهارتها قياساً على الآدمي؛ لأنهما غير مأكولي اللحم، فيقدم الاستحسان على القياس؛ لأنه أقوى تأثيراً، بعكس سباع الطير؛ لأنها تشرب
بمنقارها، وهو عظم طاهر جاف لا رطوبة فيه وغير نجس، فلا ينجس الماء بملاقاته(90).
أما إذا ضعف تأثيره وقوي تأثير مقابله الذي هو القياس فإنه يقدم عندهم القياس على الاستحسان، مثال ذلك: أن القارئ إذا تلا آية السجدة في صلاته فإنه يركع بها إنّ  شاء ركوعاً غير ركوع الصلاة، ثم يعود إلى محض القيام أو ركوع الصلاة على خلاف بينهم في ذلك.
ثم يقولون: إنّ  له السجود إذا شاء، إلاّ أن الركوع يحتاج إلى النية دون السجدة، وإذا كان في وسط السورة ينبغي أن يسجد لها، ثم يقوم فيقرأ ما بقي، فإن ركع في موضع السجدة أجزأه، فإن ختم السورة ثم ركع لم يجزئه؛ لأنها صارت في الذمة، فلا تتأدى بالركوع ولا بالسجدة الصلاتية.
وهنا يقولون: بأن الركوع يقوم مقام سجدة التلاوة، ويجزئ عنها قياساً؛ لأن الركوع والسجود متشابهان في معنى الخضوع، وفي الاستحسان لا يجوز؛ لأنا أمرنا بالسجود، والقياس أولى بالعمل؛ لقوة أثره الباطن.
والمسألة الثانية التي اختلف فيها علماء الأحناف هي: تعدية الحكم المستحسن الثابت بطريق القياس الخفي يصح أن يعدى بواسطة القياس إلى واقعة أخرى مثل: تحالف البائع والمشتري إذا اختلفا في مقدار الثمن قبل قبض المبيع، فلو مات البائع والمشتري قبل قبض المبيع واختلف ورثتهما في مقدار الثمن تحالفاً قياساً، ويتعدى هذا التحالف من المبيع إلى الإجارة قبل استيفاء المعقود عليه.
ونوقشت هذه المسألة بما يلي:
1 ـ إنّ  الحكم الذي يعدى بالقياس هو الحكم الثابت بالنص، لا الثابت بالقياس؛ لأنه يشترط في القياس أن يكون حكم الأصل ثابتاً بالكتاب أو السنة.
2 ـ إنّ  إثبات التحالف بين ورثة البائع والمشتري إنّما  هو تطبيق للحكم الكلي لكل متداعيين وليس بالقياس. وبهذا يتبين ضعف ووهن ما قرره الحنفية.
 
___________________
1  ـ شرح تنقيح الفصول للقرافي: 415 ـ 452، كتاب الحدود لأبي وليد الباجي: 65.
2  ـ كشف الأسرار للبزدوي 4: 112.
3  ـ الأحكام للآمدي 4: 211.
4  ـ سلم الوصول: 296.
5  ـ الأحكام للآمدي 3: 136، وشرح الأسنوي 3: 168، وأصول السرخسي 2: 200.
6  ـ الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمّد تقي الحكيم: 361.
7  ـ الموافقات للشاطبي 4: 117.
8  ـ إرشاد الفحول للشوكاني: 240 وأسباب اختلاف الفقهاء: 236، ومصادر التشريع الإسلامي: 58.
9  ـ المستصفى للغزالي 1: 137.
10  ـ الأحكام للآمدي 4: 212، والمستصفى 1: 138، وشرح الأسنوي 3: 168، وإرشاد الفحول: 211، واللمع للشيرازي: 66، والمدخل إلى مذهب أحمد: 135، وغاية الوصول: 139.
11  ـ كشف الأسرار على أصول اليزدوي 2: 1123، وشرح العضد على مختصر المنتهى 2: 822، وغاية الوصول 139 والتعريفات للجرجاني: 13 والكشاف للتهانوي 2: 39 ـ 391 تعليل الأحكام لمصطفى الشلبي 330 ـ 331.
12  ـ أصول الفقه للبرديسي: 290.
13  ـ المصدر السابق.
14  ـ كشف الأسرار على أصول البزدوي 2: 123.
15  ـ الأحكام في أصول الأحكام 4: 392، وشرح الأسنوي 3: 188، والمحصول 2: 560.
16  ـ المحصول في علم الأصول 2: 177، والآية: 24 من سورة (ص).
17  ـ المبسوط للسرخسي 1: 145.
18  ـ الأعراف: 145.
19  ـ الزمر: 18.
20  ـ رواه أحمد بن حنبل عن ابن عباس في كتاب "السنة": 217.
21  ـ شرح المحلى على جمع الجوامع 2: 288.
22  ـ غاية الوصول: 140.
23  ـ أصول السرخسي 2: 200.
24  ـ الإسلام وأساس التشريع لعبد المحسن فضل الله: 124.
25  ـ تاريخ الفقه الإسلامي للدكتور محمّد يوسف موسى: 256.
26  ـ فلسفة التشريع في الإسلام: 174.
27  ـ المبسوط 1: 145.
28  ـ كشف الأسرار 2: 1124، وغاية الوصول: 140.
29  ـ الاعتصام 2: 320.
30  ـ فلسفة التشريع في الإسلام: 174، وأصول الفقه لأبي زهرة: 263.
31  ـ أصول الفقه لأبي زهرة: 263، وأصول الفقه الإسلامي للزحيلي 2: 738.
32  ـ الموافقات للشاطبي 4: 208 ـ 214، والاعتصام 2: 139.
33  ـ مصادر التشريع الإسلامي: 58.
34  ـ الاعتصام 2: 137، وروضة الناظر 1: 407، والموافقات 4: 118، والمدخل إلى الفقه الإسلامي: 257، والمدخل إلى مذهب احمد بن حنبل: 135، وإرشاد الفحول للشوكاني: 223.
35  ـ الأسنوي 3 ك 168، 171، وأصول الاستنباط: 264.
36  ـ المدخل إلى الفقه الإسلامي: 257، وإرشاد الفحول للشوكاني: 223، وتعليل الأحكام لمصطفى الشلبي: 330.
37  ـ أصول الفقه للبرديسي: 302.
38  ـ حاشية العطار: 213.
39  ـ الأحكام للآمدي 4: 260.
40  ـ شرح العضد على مختصر المنتهى 2: 243.
41  ـ الاعتصام 2: 116، وبداية المجتهد 2: 152، ومختصر المنتهى: 220.
42  ـ أحكام الفصول في أحكام الأصول لأبي الوليد الباجي: 687.
43  ـ موسوعة الفقه الإسلامي 6: 40.
44  ـ المبسوط للسرخسي 10: 145.
45  ـ المصدر السابق.
46  ـ روضة الناظر: 58. والأحكام 3: 136.
47  ـ حاشية البناني 2: 353، ومختصر المنتهى: 220.
48  ـ إرشاد الفحول: 223، كشف الأسرار 4: 1123.
49  ـ راجع تردد الإمام مالك في الاستحسان: إرشاد الفحول للشوكاني: 240.
50  ـ الاعتصام 2: 326، وأصول الفقه لأبي زهرة: 263.
51  ـ كشف الأسرار 4: 1123.
52  ـ المبادئ العامة للفقه الجعفري: 298، أصول الاستنباط: 264، الأصول العامة: 263، الأسنوي 3: 171 ـ 168.
53  ـ الأم 7: 373، شرح تنقيح الفصول للقرافي: 415، كتاب الحدود لأبي وليد الباجي: 65، كشف الأسرار 4: 1124.
54  ـ مقدمة الجزء الأول من الأم: 70.
55  ـ الام 7: 373.
56  ـ الرسالة: 507 وما بعدها، المستصفى 1: 138.
57  ـ الآمدي في الأحكام 4: 137.
58  ـ ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان: 50 الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم 6: 759.
59  ـ الأحكام لابن حزم 2: 759.
60  ـ إرشاد الفحول: 241.
61  ـ مقدمة إبطال القياس لابن حزم.
62  ـ الأحكام 6: 757.
63  ـ  مجلة التوحيد، السنة الأولى، العدد السادس، ضمن مقال للشيخ التسخيري: 72.
64  ـ الأصول العامة: 377، إرشاد الفحول: 241.
65  ـ الزمر: 18.
66  ـ الزمر: 55.
67  ـ الأصول العامة للفقه المقارن: 374.
68  ـ مجلة التوحيد السنة الأولى العدد السادس، ضمن مقال الشيخ التسخيري: 74.
69  ـ المستصفى: 138.
70  ـ مجلة التوحيد، العدد السادس، السنة الأولى، ضمن مقال التسخيري: 74.
71  ـ رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ورواه البيهقي في كتاب المدخل، وفي كتاب الاعتقاد ورواه الطيالسي في مسنده، البزاز في مسنده، و الطبراني في الكبير، وأحمد موقوفاً على ابن مسعود، وانظر الزيلعي 4: 133، وكشف الخفاء 2: 188، ورواه أحمد في كتاب السنة، وليس في المسند.
72  ـ إبطال القياس والرأي: 50.
73  ـ الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمّد تقي الحكيم: 375.
74  ـ كشف الأسرار 2: 1125.
75  ـ الأصول العامة للفقه المقارن، محمّد تقي الحكيم: 375.
76  ـ الأحكام للآمدي 3: 38، الأصول العامة للفقه المقارن للعلامة الحكيم.
77  ـ الرأي في الفقه الإسلامي.
78  ـ القيامة: 36.
79  ـ النساء: 59.
80  ـ المحصول في علم أصول الفقه 2: 565.
81  ـ فلسفة التشريع الإسلامي: 174، وأصول الفقه للبرديسي: 304، والأصول العامة للفقه المقارن: 376.
82  ـ المستصفى 1: 138 طبعة مصر.
83  ـ الأصول العامة للفقه المقارن: 377
84  ـ  راجع ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان لابن حزم: 50، الإحكام لابن حزم 6: 759، كشف الأسرار 2: 1125، والرسالة للشافعي: 507، الأم للشافعي 7: 277، المبادئ العامة للفقه الجعفري: 298، أصول الاستنباط: 264، الأصول العامة للفقه المقارن: 363، الأسنوي 3: 168 ـ 171، الاعتصام 2: 137، روضة الناظر لابن قدامة 1: 407.
85  ـ المائدة: 49.
86  ـ نهاية السؤول مع البدخشي 3: 137، اللمع للشيرازي: 68، وشرح تنقيح الفصول: 451.
87  ـ الفوائد المدنية للاسترابادي: 90 ـ 149.
88  ـ كشف الأسرار 2: 1122، مسلم الثبوت 2: 279، أصول السرخسي 2: 203 مرآة الأصول شرح مرقاة الوصول 2: 236، التلويح على التوضيح 2: 82، أصول الفقه للخضري: 325.
89  ـ التقرير والتحبير 3: 223، وفواتح الرحموت 2: 223، ومسلم الثبوت 2: 279.
90  ـ التقرير والتحبير، وشرح التحرير لابن أمير الحاج 2: 223، وأصول السرخسي 2: 203.

 
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية