مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 
آيات شيطانية
جدلية الصراع بين الإسلام والغرب
 الدكتور رفعت سيد أحمد

نقد كتاب سلمان رشدي

عرض وتقويم مجيد جواد


 
مدخل البحث:
اعتبر كتاب "آيات شيطانية" أكثر الكتب إشارة للجدل في العصر الحديث، وأكثرها ضجيجاً وصخباً..، ولم يتأت هذا الضجيج من مكانة الكتاب أو كفاءة الكاتب، وإنّما  من ردود الفعل التي فجرتها فتوى الإمام الخميني ( في وجوب هدر دم الكاتب باعتباره "مرتداً" عن الدين، ويصح عليه حكم "المرتد" في الشريعة الإسلاميّة  بإجماع فقهاء الإسلام، وهو "القتل".
لم يكن الكتاب في حقيقته أكثر من رواية مهوسة طرح فيها الكاتب حقده على الدين الإسلامي الحنيف بإسفاف بالغ وتهافت فضيع؛ ليؤكد انتماءه إلى الحضارة الغربية وانسلاخه عن الدين، ويظهر نزعته المريضة في عقدة نقص واضحة، وفي حلقة يتيمة من حلقات الغزو الثقافي لاجتثاث جذور الصحوة الإسلاميّة  التي عمت كافة بلدان العالم الإسلامي بعد انتصار الثورة الإسلاميّة  في إيران.
ولم يكن الكتاب أيضاً بحثاً فكرياً، ولا دراسة علمية، ولا اجتهاداً دينياً يستحق التقويم والنقد والمراجعة، وإنّما  شتائم وسباب وهلوسة تخرج بالكامل عن كلّ ضوابط الخلق والأدب والالتزام...
أما الضجة التي افتعلت حول ما سمي بـ"حرية الرأي والتعبير" فلم تعد أكثر من شعار كاذب؛ للالتفاف على الفتوى التاريخية وتقويمها، والتغطية على كاتبها الذي أريد له ولروايته أن تكون مجساً باهتاً لاستحضار الهجمة الصليبية على الإسلام، واستعداد الموتورين وأعداء الدين على العملاق الإسلامي الذي انتفض ليزلزل أركان النظام العالمي الجديد ويقول قولته في هذا المقطع الحساس من صراع الغرب ضد المشروع النهضوي الإسلامي المعاصر.
فنترك الكتاب وعرضه وتحليله وردود الفعل التي رافقت صدوره إلى الدكتور "رفعت سيد أحمد"ليقول كلمته في الرواية الشيطانية ومالها وما عليها، وشعارنا: قوله سبحانه وتعالى:
(الّذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الّذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب((1).
 
جدلية الصراع...:
هذا هو العنوان الذي اختاره الدكتور "رفعت سيد أحمد" في نقده لكتاب المرتد "سلمان رشدي" ـ السيء الصيت ـ "الآيات الشيطانية". وأوضح في مقدمة الطبعة الثانية للكتاب: أن سلمان رشدي هذا وآياته الشيطانية ليس أكثر من مجرد (حلقة صغيرة وتافهة من حلقات المواجهة بين قيم الإسلام وبين ما يمكن تسميته تجاوزاً قيم الغرب).
وأن (فتوى الإمام الخميني رحمه الله بإهدار دم سلمان رشدي قد لمست جرحاً قديماً لم يندمل، هو جرح الحروب الصليبية..) فكانت فتوى صارخةً (لم تجامل ولم تنافق، بل واجهت بحدة جوهر الصراع..، وهو: صراع القيم والمبادئ بين الغرب والإسلام).
وفي معرض تعليق الكاتب حول فاعلية هذه الفتوى بعد وفاة الإمام الخميني ( أكد: أن الفتوى اكتسبت قدسية خاصة مثل: القداسة التي يضفيها الأتباع ـ عادة ـ على الوصايا التاريخية لزعمائهم، وهذا ما أشار إليه آية الله السيد الخامنئي "المرجع الديني الجديد" ـ حسب تعبير الدكتور رفعت ـ الذي قال في إجابة قاطعة وحاسمة حول هذه الفتوى:
 (إنّ  رصاصة انطلقت مكتوب عليها "سلمان رشدي"، ولابد لها أن تستقر في قلب الرجل ولا رجعة في ذلك).
وهذا يعني ـ والكلام هنا للمؤلف ـ: (أن مسألة اغتيال سلمان رشدي هي مسألة وقت ليس إلاّ).
وبعد هذه المقدمة افتتح الدكتور رفعت سيد أحمد كتابه النقدي بالآية القرآنية الكريمة: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتبع ملتهم((2). ثم اهدى الكتاب إلى (المستضعفين في الأرض، الّذين تؤرقهم سطوة الغرب، فلا يجدون سوى الإسلام ملجأ وملاذاً).
(إنّ  قضية رواية "آيات شيطانية" ساهمت من حيث لا تدري في استدعاء جوهر الصراع الكامن بين الغرب والإسلام، منذ الحروب الصليبية حتّى يومنا هذا...، وإنها أهالت التراب. ومن حيث لا تدري أيضاً على كلّ التحليلات الخائبة لبعض العلمانيين الغربيين الّذين ظلوا يتشدقون بها علينا طيلة قرنين من الزمان..، وأثبتت الوجه المضيء للإسلام كدين حيوي، ودين متمرد وباعث على الرفض الإنساني لكل قيم الظلم والاستغلال والعبودية والفوضوية المسماة خطأ بـ"حرية التعبير لدى الغرب")(3).
وقد قسم الكاتب كتابه إلى فصول ثلاثة:
الأول: جغرافية العالم الإسلامي وديونه باعتبار هما المدخل الموضوعي لفهم موقع الإسلام على خريطة الصراع الدولي.
الثاني: الغرب والإسلام: عداء تاريخي بين القيم باعتبار ذلك هو السياق الحقيقي لفهم موقع "الآيات الشيطانية" كإحدى حلقات الصراع المعاصرة.
الثالث: آيات شيطانية: الرواية "والأحداث، وردود الأفعال"، وذلك على اعتبار أن هذا الكتاب هو دليلنا المعاصر والجديد على قانون الصراع التاريخي بين الغرب والإسلام.
 
الفصل الأول
جغرافية تمتدّ وديون تتزايد
لقد أوجز الكاتب حديثه في هذا الفصل عن موقع العالم الإسلامي من الكرة الأرضية وأهميته، والذي يمتدّ بالنسبة لدوائر العرض إلى أكثر من (65) درجة عرضية، تشتمل على عدد كبير من الأقاليم المناخية والنباتية، تمتد من الإقليم الاستوائي جنوباً حتّى الإقليم المعتدل البارد شمالاً، وحيث تبلغ مساحته مجتمعة حوالي (32) مليون كيلومتر، أي: ما يزيد على مساحة الاتحاد السوفياتي ـ سابقاً ـ والولايات المتحدة بنسبة تصل إلى (30%) من مساحة العالم:، كما يتميز موقعه الجغرافي باستراتيجية خاصة جعلته يتحكم بمداخل المحيطات العالمية التالية:
أ ـ طريق جنوب شرق آسيا: من الخليج عبر الهلال الخصيب وموانىء ساحل الشام عبوراً إلى الموانئ الأوروبية.
ب ـ طريق جنوب شرق آسيا: إلى عدن في جنوب الجزيرة العربية، ومنها إلى موانئ، الشام، فالموانئ الأوروبية.
ج ـ طريق مصر: من المحيط الهندي عبر وادي النيل إلى الإسكندرية وموانئ أوروبا.
د ـ طريق الحرير: من شرق بلاد الصين إلى موانئ شرق البحر المتوسط عبر طشقند وسمرقند.
كما أضافت قناة السويس إلى طريق العالم الإسلامي المهمة شرياناً بالغ الأهمية في النقل والتجارة، فاختصرت المسافة من جهات المحيط الهادئ وغرب أوروبا بنسبة تصل إلى (60 %)(4).
ورغم هذا الموقع الستراتيجي المتميز والثروات الطبيعية الهائلة واحتياطي البترول البالغ (78%) فإن هناك فجوة هائلة بين الشمال "الغرب" والجنوب "الإسلام".
وضرب الكاتب أمثلة دقيقة على ذلك، كان منها على سبيل المثال: (أن متوسط دخل
الفرد السنوي في الشمال ـ حسب إحصاء عام (1987 م) بلغ (9417) دولاراً، بينما لم يصل في الجنوب إلاّ إلى (524) دولاراً، وبلغ متوسط نصيب الفرد من الإنفاق التعليمي السنوي في الشمال (490) دولاراً، فيما بلغ (28) دولاراً فقط للفرد في الجنوب بنسبة 1: 18 لصالح الشمال. كما يوجد طيب واحد لكل (380) نسمة في الشمال كمعدل، أما في الجنوب فهناك طبيب لكل (2140) نسمة من السكان.، وهكذ1 في كلّ مرافق الحياة الأخرى) (5).
وفي مقارنة بين أغنى دول الشمال ـ الولايات المتحدة الأمريكية مثلاً ـ وأفقر دول الجنوب ـ جمهورية مالي ـ فقد أشار الكاتب إلى (أن متوسط دخل الفرد السنوي في أمريكا يبلغ (185 /16) دولاراً، ولكنه لا يتجاوز في جمهورية مالي الـ(152) دولاراً.
ومتوسط عمر الفرد في الولايات المتحدة (73) سنة، وفي جمهورية مالي (39) سنة، كما تبلغ نسبة المتعلمين في الأولى (95%)، وفي الثانية لا تتجاوز الـ(50%)، وهكذا في الشؤون الأخرى) (6).
وفي هذا السياق ينتهي الكاتب إلى القول: (إنّ  جغرافية العالم الإسلامي تمتد وتتسع، ولكن ديونه وهمومه بالمقابل تتزايد، وهذه تربة خصبة لعمليات التبشير الديني والسياسي والحضاري ومن ثم تربة صالحة لحركة الاستعمار...) (7).
 
الفصل الثاني
الغرب والإسلام.. عداء تاريخي
ويؤكد الكاتب في الفصل الثاني من الكتاب: أن جوهر قضية "الآيات الشيطانية" هو: الصراع التاريخي بين قيم الإسلام التي تدعو إلى الحق والعدل والحرية والمساواة في أسمى صورها، وبين قيم الغرب التي تدعو إلى الاستعلاء والفوقية، واستعباد الناس، وإلى (الدونية) في أحط معانيها...، وليست حلقة رشدي سوى إحدى حلقات تشويه الإسلام
من قبل الغرب، ومن ثم الإجهاز عليه قيماً ومبادئ وحضارة... (8).
بعد ذلك تناول الكاتب الاتجاهات التاريخية للمسلمين تجاه الاستعمار الغربي، وصنفها إلى ثلاثة أصناف:
القلة التي رحبت بالمستعمرين، وتعاملت معهم إيجابياً مقابل جوائز ومكافئات دفعوا ثمنها الخنوع والذل والاستكانة.
وصنف قبل الاستعمار على مضض كأمر حتمي، نتيجة الانحطاط السياسي والأخلاقي الذي حل بالمسلمين.
وصنف ثالث قاوم وتحدى، وفي مقدمته: علماء الإسلام وإن كان بعضهم قد انسجم مع الحكام وأسبغ عليهم الشرعية ولكن معظمهم، وخاصة في مطلع السبعينات والثمانينات التي (شهدت تحولاًَ كيفياً في قيادة العلماء والفقهاء لحركة الإسلام الثوري) بقي على مقاومته وتحديه. وقد عزا الكاتب هذا التحول الثوري إلى النهضة في إيران، حيث قال:
(وكانت إيران أبرز تلك النماذج التي قادت الصراع برفض أي نموذج للحضارة الغربية في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وبرفض نظام الدولة القومية، والالتزام بالدولة الإسلاميّة  والوحدة الإسلاميّة، وأن تكون القيادة للعلماء الملتزمين؛ لأن الصراع مع الغرب هو: صراع مع قوى الكفر) (9).
ويستعرض الكاتب بعض مظاهر الصراع بين الغرب والإسلام، ويمر على التغريب الفكري خلال القرنين الماضيين ويعتبره أحد أسباب حركة الإحياء الإسلامي المعاصرة التي شهدت تعاظم الأداء السياسي خلال السبعينات، ورب ضارة نافعة.
ثم يعرج على مسألة الحجاب كظاهرة سياسية لحركة الصحوة الإسلاميّة  في عموم العالم الإسلامي. بعدها يتناول الأصول الصليبية للحضارة الغربية، وكيف انطلقت الجهود التبشيرية للنيل من الإسلام، وعبر ما كتبه الأدباء الغربيون، وتوظيف قدراتهم في التدليس، والتحريف لحقائق التاريخ، والحط من قيمة الإسلام والمسلمين (10).
ولم تكن حلقة رشدي هذه إلاّ نموذجاً جديداً من نماذج الإساءة إلى الإسلام
وتشويه قيمه ومقدساته..، وذلك بقصد احتواء الصحوة الإسلاميّة، وتفريغ الجهد الإسلامي بما ينسجم مع ما يسمى بـ"النظام العالمي الجديد".
ولعل ما وصل إليه الاستشراق في خلق أو إيجاد البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية البديلة في الشرق الإسلامي لم يكن كافياً لإتمام الغزو الصليبي الجديد، فجاءت الحملة الجديدة تحت عنوان "سلمان رشدي" وحرية التعبير؛ لأن الإسلام كان يمثل إزعاجاً متصلاً للغرب وللقيم الغربية... وكما أكد الدكتور إدوارد سعيد هذه الحقيقة حينما قال:
(فلا يمكن القول عن أي دين أو تجمعات ثقافية أنها تمثل تهديداً حقيقياً للحضارة الغربية بمثل التوكيد الشديد نفسه الذي يعتمد الآن عند الحديث عن الإسلام. وليس من قبيل الصدفة أن الاضطرابات التي تحدث الآن في العالم الإسلامي، والتي تتصل بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية أكثر مما تتصل اتصالاً أحادياً بالإسلام قد عرت الحدود الضيقة الاستشراقية الساذجة المتعلقة بالإسلاميين القدريين دون أن تولد بديلاً يحل محلها في الوقت نفسه...)؟
وليس أدل على هذا التشويه المقصود والإساءة المتعسفة من تلك القصص التي نسجت عن "ريتشارد قلب الأسد" والتي نظمت على شكل قصائد وملحمة منظومة تحكي جميع أحداث الحملة الصليبية الثالثة، وبأسلوب شعري أخاذ يصور المسلمين والشرق، ويفتعل الكثير من القصص والحكايات التي تسيء للمسلمين، وتدس عليهم وتجحف بحقهم، وإن كانت تصور بشاعة الغزو الصليبي وسلوك المحاربين النصارى لموازنة الإساءة والظهور بمظهر المراقب أو المؤرخ المنصف.
وامتدت هذه الحملة الثقافية في العصر الحديث، لتصل إلى الأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني، ويمتطي صهوة جوادها كبار المثقفين الغربيين والمستشرقين؛ لإكمال الدور وإتمام الهدف المقصود، وكان من بين الّذين مر عليهم الدكتور رفعت في كتابه عن الآيات الشيطانية واستشهد بهم هم:
1 ـ فولتير:
وقد كان من أبرز الكتاب والأدباء المشهورين في فترة (1694 ـ 1778م)، وقد وصف نبي الإنسانية الكريم عبر مسرحيته "محمّد" بأنه رجل فض ووحشي، وعديم
الضمير، ومجرد من المبادئ الأخلاقية، وأنه دجال وأفاك ومحتال، وغير ذلك مما يتقرف منه الذوق، وترفضه أبسط حقائق التاريخ التي تناولت هذا النبي العظيم وتحدثت عن سيرته وأخلاقه وإنسانيته. وليس أدل على ذلك من كونه الصادق الأمين قبل البعثة، وكونه من أشرف عائلة وقبيلة عرفها العرب، فضلاً عما ثبته القاصي والداني، والقريب والبعيد عما جاء به من قيم سماوية بالغة النبل، بدأ بالأخوة الإنسانية وتوحيد المعبود مروراً باحترام الإنسان لأخيه الإنسان، ولا فرق بين عربي ولا أعجمي إلاّ بالتقوى، وانتهاء بكل المعاني الإنسانية: في حقوق الإنسان، واحترام الجار، وحق الصديق، وإقراء الضيف، ونجدة المحتاج، ومواجهة الظالم، والانتصار للمظلوم، والوفاء بالعهد وصدق القول، وغير ذلك مما عرف من رسالات الأنبياء والصالحين والصديقين.
 
2 ـ هيجووجوته:
وتمتد هذه الأحقاد التي شكلت بالتأكيد خلفية مريضة لكاتب آيات شيطانية إلى الأديب الفرنسي هيجو (1802 ـ 1885م) الذي تناول المسلمين والعرب بالتعريض، واتهمهم بالوهن والخمول والهمجية والتخلف، وحيث سار على شاكلة الكاتب الألماني "جوته" (1749 ـ 1832م) الذي اتهم الإسلام بالرهبانية والتصوف المريض، متناسياً حضارة الإسلام التي عمت العالم، وقيم المسلمين الّذين بهرت أخلاقهم كلّ البلدان التي فتحوها وتعاملوا معها، ونقلوا لها معالم الإسلام العظيم.
 
لويس عوض:
كما امتد هذا الإجحاف ليصل إلى من سماهم الكاتب "المستشرقون العرب" من أمثال: الدكتور لويس عوض، الذي بلغ من القبح المشين ـ حسب تعبير الكاتب ـ أن تناول أحد رواد ظاهرة الإحياء الإسلامي بالشتم والتعريض، وهو السيد جمال الدين الأفغاني الأسد آبادي، واتهمه بالجاسوسية والغموض والتقية، وغير ذلك من التجديف والافتراء، ولم يفرق بين التقية وازدواج الشخصية، وخلط بين المجاراة والمدارة، ولم
يدرك أبعاد قولة النبي الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ: "وأمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم"(11).
كما فات على هذا الكاتب المسيحي الدور الكبير الذي اضطلع به السيد جمال الدين الأفغاني الأسد آبادي في حركة الإحياء الإسلامي، ودوره في الانبعاث الإسلامي الحضاري، والوقوف ضد الغزو الفكري والثقافي، وبشكل أصبح فيه هذا الرجل موضع افتخار واعتزاز لدى كافة أبناء الإسلام في المشروع النهضوي الإسلامي المعاصر.
 
شهادات دولية:
ولمعادلة هذه الحملات المسعورة على الإسلام والمسلمين استعرض الكاتب في نهاية هذا الفصل بعض الشهادات الدولية المعاصرة بحق الشريعة الإسلاميّة، التي جاءت في مؤتمر القانون الدولي المقارن المنعقد في لا هاي سنة (1932م)، والثاني الذي عقد في سنة (1937م)، وكذلك مؤتمر المحامين الدولي المنعقد سنة (1948م)، وما جاء في جمعية القانون الدولي العام، وأخيراً ما أورده الكاتب تحت عنوان "أسبوع الفقه الإسلامي في باريس عام 1951 م" الذي خصصته كلية الحقوق للاستماع إلى بحوث علماء الإسلام، والذي أشار فيه إلى ما قاله نقيب المحامين في باريس رئيس المؤتمر، وتعليقته الشهيرة على تلك البحوث:
(لا أدري، كيف أوفق بين ما كان يصور لنا من جمود الشريعة الإسلاميّة  والفقه الإسلامي، وعدم صلاحيتها كأساس لتشريعات متطورة، وبين ما سمعته في هذا المؤتمر الذي أثبت من غير شك عمق الشريعة الإسلاميّة  وأصالتها ودقتها وصلاحيتها لكل العصور وجميع الأحداث) (12).
بعدها أشار الكاتب إلى شهادة "ميشيل دي توب" أستاذ القانون الدولي العام في أكاديمية العلوم الدولية في لا هاي بهولندا، والذي شغل منصب وزير الخارجية الهولندي عام (1963 م) وكتب يقول:
(هذه هي القواعد التي جاءت بها الشريعة الإسلاميّة  لتخفيف وطأة الحروب، وتنظيم علاقات الدول، وتم العمل بموجبها من القرن السابع الميلادي إلى القرن الثالث
عشر..، فهي إذن أسبق ـ والكلام لميشيل دي توب ـ من كافة الأفكار والمبادئ القانونية التي بدأت تشق طريقها خلال الهمجية التي استولت على الحياة الدولية خلال القرن الثالث عشر، مما يدل على الأثر الكبير للقواعد الإسلاميّة  في القانون الدولي) (13).
 
الفصل الثالث
الآيات الشيطانية "السينوريوهات" والأحداث
وجاء الفصل الثالث والأخير من الكتاب ليدخل في صلب قضية "الآيات الشيطانية"، ويتناول سينوريوهات الأحداث ـ كما سماها الكاتب ـ وردود الأفعال حولها، وقال:
(لقد جعل الغرب من قضية سلمان رشدي قضيته، حيث أججت فيه روح الصليبية القديمة، وامتشق الغربيون في الدفاع عن الرواية وصاحبها كلّ الأسلحة المتاحة، واستدعوا فيها كلّ عدو وحاقد للإسلام والمسلمين، الأمر الذي دفع المجموعة الأوروبية إلى سحب سفرائها من طهران، احتجاجاً على الرد الإسلامي الصحيح والوحيد الذي أعلنه الإمام آية الله الخميني رحمه الله بإهدار دم الكاتب المرتد) (14).
وأضاف: (لقد استدعت القضية كلّ المخزون من الكراهية للإسلام في الغرب، وشحذت واستنفرت بالمقابل همم المسلمين النائمين مع حكامهم والمهتمين بأمور ثانوية وغير حياتية، ورب ضارة نافعة...، حيث فوجئ الغرب بهذا الرد العنيف للمسلمين في إنحاء العالم) (15).
 
الرواية...هلوسة وإسفاف:
وبعد هذه الآثار المعبرة بدأ الكاتب يعرف المحتوى العام للرواية، ويستعرض بعض ما جاء فيها، فقال: (آيات شيطانية، باختصار شديد: عبارة عن رواية قصصية خيالية، لا تنضبط وفق إطار فني واضح، وإنّما  هي: هلوسة عقلية وتاريخية فنية، تبدأ
بتخيل طائرة تنفجر بفعل إرهابي فوق الجزر البريطانية، فيموت ركابها وينجو اثنان:
أحدهما:"جبريل" رمز للخير، والآخر الشيطان رمز للشر.
وعلى مدى أكثر من (547) صفحة يسجل الكاتب أبشع أنواع القدح والتجريح والهزء بالإسلام ورسوله ومقدساته كافة، بصورة دعت الكثيرين من أعداء الإسلام أنفسهم إلى الاعتراف بجرم الكاتب في حق المسلمين. والمؤلف لم يترك رمزاً من رموز الإسلام إلاّ سبه وهتك حرمته بأبذأ الألفاظ، من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ، إلى القرآن، إلى الملائكة، إلى زوجات الرسول وصحابته..، وهو لم يترك لنا مجالاً للالتباس، وإنّما  أشار إلى الجميع بأسمائهم الصريحة...، وإمعاناً في ذم النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فإن أشار إليه بكلمة "ماهوند"، ومعناها: الشرير، أو النبي المزيف، وهو في الكتاب مصاب بالصرع والهلوسة، ولا يتورع عن فعل أي شيءٍ يحقق به غرضه.. (16). وهو خلاف كلّ ما ثبتته كتب التاريخ عن شخصية النبي الكريم، وما عرف عنه من نبل واستقامة ونزاهة ودماثة أخلاق لم يحصل على مثلها رجل، لا قبله ولا بعده وعلى امتداد العصور والأزمان.
وفي مستهل الكتاب أيضاً يصف سلمان رشدي المرتد سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ  أبو الأنبياء ـ عليهم السلام ـ بأنه......، ومن صلبه جاء الصحابة......، وخص سلمان الفارسي ( بصورة شائهة ومنفرة، وقال عنه أيضاً: إنه غشاش ونصاب...، وهكذا تطاول وتجاوز، حتّى طال زوجات النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ التي توزعت أسماؤهن على مجاميع من الغانيات اللاتي يعملن في بيوت......، لرجل أعمال يؤيد.........، وإن جبريل مخلوق بذيء تجري على لسانه شتائم الآخرين، وإنهم جميعاً أولاد..............
وبهذا الإسفاف يتطاول المرتد رشدي على النبي إبراهيم الخليل ـ عليه السلام ـ  وما عرف عنه من شجاعة ومروؤة وحمية، وكذلك على الصحابي الجليل (سلمان الفارسي) الذي وصفه النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بالقول: "سلمان منا أهل البيت" (17). وعلى زوجات النبي الطاهرات اللواتي عاضدن النبي ووقفن معه في تحمل أعباء الرسالة والانتصار للدين، وكفى مثلاً رائعة للأخلاق الفاضلة، والطهارة، والتضحية في سبيل الحق والقيم والمبادئ.
فتوى الإمام الخميني رحمه الله وردود الفعل:
بعد ذلك تناول الكاتب نص فتوى الإمام الخميني رحمه الله التي جاء فيها:
(إنني أبلغ جميع المسلمين في العالم بأن مؤلف الكتاب المعنون "الآيات الشيطانية" الذي ألف وطبع ونشر ضد الإسلام والنبي والقرآن، وكذلك ناشري الكتاب الواعين بمحتوياته قد حكموا بالموت، وعلى جميع المسلمين تنفيذ ذلك أينما وجدوهم؛ كي لا يجرؤ أحد بعد ذلك على إهانة الإسلام، ومن يقتل في هذا الطريق فهو شهيد).
ثم راح يناقش مواقف الإمام الخميني الثورية ونظرته إلى الغرب وأمريكا، وكيف أنّه  شخص الصراع الحضاري وأبعاده، وأن رأس الفساد فيه "الشيطان الأكبر" كما ندد بالعملاء الّذين (جعلوا من الشعب الإيراني أكثر ذلة من كلام أمريكا، فإذا داس أحدهم كلباً أمريكياً بعربته لن يسلم من العقاب، حتّى شاه إيران، أو داس كلبا أمريكيا لن يسلم من المساءلة لكن لو أن طباخاً أمريكياً داس رأس الشاهنشاه نفسه فليس لأحد حق التعرض له) (18).وهذه إشارة إلى الاتفاقية التي عقدها الشاه مع أمريكا، ومنحت بموجبها الحصانة الكاملة للأمريكان العاملين في إيران.
وحول فتوى الإمام هذه ـ التي أقامت الدنيا ولم تقعدها ـ أفرد الكاتب عدة صفحات من الكتاب؛ لاستعراض ردود الفعل التي عمت العالم من أقصاه إلى أقصاه، والتي رافقتها ضجة إعلامية استحوذت على الدوائر السياسية، وحشد لها القرار السياسي للدول الغربية كلّ أجهزته الدعائية والمخابراتية..، وكيف أن كلّ بقعة من بقاع العالم اهتزت مع هذه الفتوى، مؤيدة أو منددة أو متحفظة... بحيث لم تبق مؤسسة أو صحيفة أو جمعية أو حاكم دولة أو اتحاد إلاّ وقال قولته في هذه الفتوى، فضلاً عن المظاهرات والمسيرات، والاشتباكات التي عمت العالم كله وسقط فيها العشرات من القتلى والجرحى!
 فبعضهم وصف الفتوى بأنها تدخل في الشؤون الداخلية لبريطانيا، وهذا ما صرح به جيفري هاو يوم (16/2/1989م).
وبعضهم وصف الكاتب بأنه مثال لانفصام الشخصية، وأنه من الكتاب الّذين
ينتمون لحضارة ويكتبون في لغة حضارة أخرى، ويصابون بمرض الهوية، وتقديم الذات قرباناً للحضارة الطاغية... وأن الكتاب نوع من الزندقة التافهة، ولا يستحق هذا الصدى وإهدار الدماء) (19).
وقال آخرون: (إنّ  قتل سلمان رشدي يضع حداً للذين يبحثون عن الشهرة على حساب الإسلام ونبيه العظيم) (20). (وحكم الشرع فيه: أنّه  ارتد، وكفر كاتبه لا يحتمل التأويل) (21).
خلاصة الآراء المثيرة للجدل والتعليق عليها:
ولكن أكثر الآراء المثيرة للجدل هو: ما تناوله الكثيرون في كون الكتاب إساءة بالغة لمشاعر مليار مسلم، ولكن صاحبه لا يستحق عليه القتل وبفتوى تصدر من وراء البحار وينفذها إرهابيون. وطرحوا الأسباب التالية:
1 ـ إنه يجب أن يحاكم في محكمة أصولية، وإذا لم يحضر يصدر عليه الحكم غيابياً وفق الأصول القانونية.
2 ـ إنه يجب أن يساءل، ولعله يستتاب، وإذا تاب فيمكن أن يعفى عنه، أو يحكم بحكم اقل من الموت.
3 ـ إنّ  الفتوى لم تحترم حرية الرأي والتعبير المعمول بها في الغرب، وإنها قاسية وغير مقبولة في أجواء الحرية المعروفة هناك.
4 ـ إنّ  المبلغ الذي رصد لقاتل أخرج القضية من كونها مسألة شرعية إلى مسألة تجارية أدخلت القتلة ومحترف القتل في صفقة مالية رخيصة.
5 ـ يمكن مناقشه الكاتب والرد عليه بأسلوب هادئ وموضوعي بعيد عن الضجيج والانفعال، ولإجمال الرد على سطحية هذه الآراء يمكن القول:
1 ـ إنّ  الضجة التي رافقت الفتوى ودخول القضية إلى الدائرة السياسية لا يمكن
خلالها استدعاء أو محاكمة رجل تبنته الدوائر الغربية وشحذت له كلّ مقومات الحماية والدعم ووسائل الأمن.
2 ـ إنّ  قضية حكمه بالموت قضية شرعية يتفق عليها كلّ علماء الإسلام، وهي عقوبة المرتد، وإنه ليس جاهلاً فيعلم، ولكنه معاند ومكابر ويدرك جيداًً أن أبا الأنبياء ليس دجالاً، وأن خاتم النبيين ليس مهوساً، ولكنها القضية المالية (800) ألف دولار التي دفعت له من قبل دار النشر كأول قسط لبيع الذمة، وكذلك قضية الشعور بالنقص، وفقدان الهوية، وبيع الضمير، واقتحام الانتماء.
3 ـ إنّ  تقليعة "حرية الرأي والتعبير" المعمول بها في الغرب لابد لها من سقف، وإذا لم تكن مقدسات مليار مسلم هي السقف فهل بالإمكان التعريض بشرف الرئيس الأمريكي أو الملكة البريطانية زوراً وإفكاً وإدراج ذلك تحت عنوان حرية التعبير؟!
وإذا كان ذلك كذلك فلماذا جن جنون ملكة بريطانيا حتّى كادت تفقد صوابها واتزانها لمجرد سماعها بقرب نشر كتاب جديد كتبه خادم سابق في بلاط ملكة بريطانيا، يتعرض فيه هذا الكاتب وهو خادم عاش (31) عاماً في القصر الملكي، إلى ما شاهده من فضائح تتنكر لتعاليم كافة الأديان السماوية...؟! وإذا كان كتاب رشدي في دائرة حرية التعبير فلماذا لم يوضع هذا الكاتب في هذه الدائرة وهو إنجليزي الجنسية أيضاً ؟!
فما كان حال الإعلان عن هذا الكتاب إلاّ أن قامت قائمة بريطانيا، وانتفض المجتمع الإنجليزي وصارت الديمقراطية وحرية التعبير في خبر كان، باعتبار أن الكتاب يمس الشرف البريطاني، وشرف الملكة، وهيبة الملكية المعصومة...، ليس هذا فقط، بل أعلنت الملكة اليزابيث: أنها ستلجأ إلى القضاء وتحيل الكاتب "مالكو لم بار كر" إلى المحاكمة. فأين حرية الفكر ؟ وأين الديمقراطية؟ وأين حرية الرأي ؟ أم أن الأمور تكال هكذا دائماً بمكيالين، وأن الإنجليز يجوزو لهم ما لا يجوز لغيرهم، وأن الشرف يجزى والكرامة نسبية تمنح لهذا وتمنع عن ذاك حسب أهواء ومزاج الدوائر السياسية ؟!
وإذا كان هذا الاهتزاز قد عصف بملكة مغمورة أثار حفيظة المجتمع الإنجليزي، فكيف لا يثار أولا يثار مليار مسلم لكاتب مهوس تعرض لأقدس مقدسات المسلمين، وتطاول على أشرف وأنجب رجل، بل نبي عرفته سائر الأديان والبشرية منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة....؟!
هذا هو السؤال الذي نطلب الإجابة عليه من قبل دعاة الحرية وأنصار حقوق الإنسان في العالم.
4 ـ إنّ  الفتوى لم تذكر المال أو القضية المالية من قريب أو بعيد...، واقتصرت على ان من يموت في طريق قتل هذا المرتد فهو شهيد، ولكن آليات التنفيذ والحصانة التي منحت الكاتب من قبل الدوائر الغربية استدرجت بعض الناس ليطرحوا المسألة المالية في الموضوع.
5 ـ لقد وضعت الفتوى المدافعين عن الكاتب في مأزق صعب؛ (لأن منع الرواية ستكون تراجعاً عن حرية التعبير، بينما سيثير عدم منعها غضب المسلمين...، وأن هذا المأزق أغرب وأندر أزمة في التاريخ(22).
6 ـ إنّ  مسألة محاججة الكاتب والرد عليه بأسلوب هادئ قضية في منتهى السذاجة؛ لأن الكاتب يدرك جيداً أن كتابه ليس علمياً ولا تاريخيا ولا اجتهادياً أو فكريا، وإنّما  رواية خيالية وهلوسة طرح فيها إسقاطاته الهابطة؛ ليؤكد انتماءه الحضاري بعد فقدان هويته وانتمائه، وبالتالي فليس عاقل من يناقشه على أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ هل كان محتالاً ودجالاً أم لا ؟ وهل أن أمهات المؤمنين كن غانيات في بيوت... عند أحد السماسرة أم لا ؟...
وبالتالي، فإن أفضل طريقة للتعامل مع هذه الهرطقة هو: تنفيذ الحكم الإسلامي الذي أقره فقهاء الإسلام بالإجماع في موضوع المرتد، وبعدها يجري الحديث خارج دائرة هذا الحكم، وهذا ما أراد طرحه الامام الخميني، وألقى فيه الحجة على المسلمين.
7 ـ وكما حاول الغربيون نقل القضية من الدائرة الدينية إلى الدائرة السياسية بعد سحب سفرائهم من مدن إيران وتأليب الأجهزة العميلة لإطلاق بالونات إعلامية وسياسية ضد هذه الفتوى فإن الإمام الخميني،هو الآخر قذف بالكرة في ملعب الغرب عندما تدخل في الوقت المناسب لفضح المؤامرة الغربية ضد الإسلام، واستخدم الكتابة كوسيلة بارعة لتوحيد المسلمين في العالم وإطلاق غضبهم العفوي على من حاول ويحاول
الإساءة إلى الإسلام، ونبي الإسلام، ومقدسات المسلمين.
 
مواقف المفكرين والكتاب:
وفي الفصل الأخير من الكتاب وتحت عنوان: نماذج من مواقف بعض المفكرين والكتاب من القضية أشار الكاتب الكريم إلى مجموعة من مواقف هؤلاء المفكرين، وكان منهم:
فهمي هو يدي:  الّذين قال: (إنّ  سلمان رشدي رجل ارتد عن دينه وانخلع عنه تماماً، وذهب إلى أبعد مما ذهب غيره، حيث اختار أن يهين ويهتك كلّ رموز العقيدة التي انتمى إليها هو وأسرته زمناً، وإنه ـ أي: رشدي ـ عندما التحق بالغرب وانسحق أمامه، أراد أن يعزز انتماءه الجديد عبر هذا الإسفاف) (23).
وعن حرية الرأي قال هويدي: (إنّ  البذاءات التي شملها الكتاب لا تدخل تحت عنوان حرية الرأي بأي معيار؛ لأن الكتاب رواية وليس اجتهاداً فكرياً من أي نوع، كما أن الألفاظ التي وردت فيها لو أنها وجهت إلى أي فرد عادي لاعتبرها القضاء قذفاً وسباً علنياً جزاؤه الحبس والغرامة، فما بالك إذا وجه السب لمقدسات وعقائد ألف مليون مسلم؟) وأضاف:
(ولا أشك أن الألفاظ التي استخدمها الكاتب لو وجهت إلى أي أحد لانتفض وتوجه إلى أقرب مخفر للشرطة ليحرر محضراً بواقعة السب.. وأكثر مما أثار حفيظة فهمي هو يدي هو: التصريح الذي أدلى به نجيب محفوظ إلى صحيفة "هيرالد تربيون" الأمريكية حول فتوى الإمام الخميني ووصفه لها بأنها نوع من الإرهاب الثقافي، وأن رشدي إنّ  كان قد كتب شيئاً ضد الإسلام فهذا رأيه، ومن حقه أن يعبر عنه..، وإن لم يفت الدكتور رفعت سيد أحمد التذكير بأن نجيب محفوظ هذا كان قد حصل على جائزة نوبل للآداب، وأن هذه الجائزة لا تمنح لأي كان إلاّ إذا كان رمادياً في مبادئه، ومدارياً ومجارياً لمن يمنحها أو يشرف على منحها) (24).
أما النقطة الأخرى التي سجلها فهمي هويدي في الغضب الإسلامي 
المشروع ـ على حد تعبيره ـ فهي:
(إنّ  العالم الغربي تحرك بحكوماته ومنظماته السياسية جنباً إلى جنب مع المؤسسات الثقافية للدفاع عن قيمة يعتز بها هي "حرية التعبير" بصرف النظر عن رأينا في ضوابط ممارسة تلك الحرية، لكن مستوى الحركة في العالم الإسلامي ـ باستثناء إيران ـ كان دون ذلك بكثير. فقد ترك الأمر للمجالس الإسلاميّة  والمجامع الفقهية كأنما هي وحدها المعنية بالتعامل مع مختلف الإهانات التي توجه إلى الإسلام والمسلمين، وكأن المؤسسات السياسية ـ والكلام ما زال للأستاذ فهمي هويدي ـ ليست طرفاً في العدوان على عقيدة الأمة، وتلك مفارقة غريبة تدعو إلى التأمل والدهشة) (25).
 
الدكتور محمّد عمارة:
وعن احترام الغربيين أو تقديسهم غير المقدس لما يسمى بـ "حرية التعبير"، وأنهم لا يميزون بين مقدس وغير مقدس، وأن الحرية لديهم مبدأ ولا تعرف الحدود فقد علق عليه الدكتور محمّد عمارة قائلاً:
(إنّ  الغربيين في دفاعهم عن هذا الكتاب الذي يتخذ شكل الرواية إنّما  يلتزمون بأنهم يدافعون عن مبدأ الحرية، ونحن نسأل: هل يبيح الإنجليز لكاتب من الكتاب أن يهين العلم البريطاني؟). وأضاف: 0لقد حدث لدول في عالمنا العربي الإسلامي أن غزاها المستعمرون؛ لأن حاكمها أهان سفيراً لدولة أوروبية، فهل يكون الله ورسوله ودينه وقرآنه أهون من قطعة قماش هي علم دولة من دول الغرب ؟!).
ثم يضرب الدكتور عمارة مثلاً عن المقدس وغير المقدس في الحضارة الأوروبية، والفرق بين قيمنا وقيمهم، فيقول: (إنّ  الإسلام دين العقل، وهو يطلب من المرضى بالوساوس والشكوك ألا يعرضوا هذه العورات على الجمهور. أما في الحضارة الغربية ـ التي تبيح كشف العورة وإباحة أندية العراة ـ فإنهم لا يستنكرون إشاعة العورات الفكرية على الناس) (26).
 
الشيخ عبد الله المشد:
أما عن صمت المؤسسات الدينية الرسمية الإسلاميّة  فقد أشار الشيخ عبدالله المشد ـ رئيس لجنة الفتوى بالأزهر ـ قائلاً: (لقد كان واجباً أن يسارع الأزهر إلى تشكيل لجنة لدراسة الكتاب؛ لإعلان الرأي الإسلامي فيه وصاحبه، ولكن الأزهر غارق، ليس في العسل، ولكن في شيء أسود...).
الشيخ محمّد الغزالي:
وتساءل الشيخ محمّد الغزالي عن معنى حرية الفكر ودائرة هذه الحرية، فيقول: (هل من حرية الفكر أن يؤلف رجل كتاباً ينشره بين الأوروبيين يتهم فيه مريم البتول بأنها مومس، أو أن الإنسان الجليل عيسى بن مريم ـ عليه السلام ـ  بأنه شاذ؟).
ويضيف قائلاً: (إنّ  هذا المؤلف لو كان مسلما لاجتمع مؤتمر في الأزهر وقرر أنّه  مرتد عن الإسلام، ولما شذ على هذا القرار مسلم في طول العالم الإسلامي وعرضه).
 
إبراهيم سعدة:
ويسخر إبراهيم سعدة ـ رئيس تحرير صحيفة أخبار اليوم من مدعيات بريطانيا حول الحرية الفكرية والديمقراطية، ويعرف غضب الحكومة البريطانية الذي أقام الدنيا ولم يقعدها حول الكتاب الذي حاول أحد خدام القصر الملكي ـ وهو: مالكو لم باركر ـ نشره، والذي تحدث فيه عن الفضائح والمباذل الخلقية والإباحية غير المحدودة التي رآها في قصر الملكة البريطانية اليزابيث الثانية حين كان خادماً فيه لعدة سنوات..، ويتساءل:
(أين الديمقراطية التي تتشدق بها بريطانيا ؟ أين حرية الرأي والفكر التي تزعم بريطانيا أنها تدافع عنها حينما استنفرت كافة سلطاتها من أجل منع تداول الكتاب بحجة الحفاظ على كرامة وهيبة الأسرة الملكية المعصومة من الخطأ ؟ ولماذا أعلنت الملكة اليزابيث أنها تنوي أن تلجأ إلى القضاء الأمريكي بحجة أن الكتاب يلطخ هيبة الأسرة المالكة البريطانية؟).
 
 أنيس منصور:
وسخر أنيس منصور أيضاً من الرواية وكاتبها، والضجة التي أثيرت حولها، وقال: (إنّ  الرواية طويلة جداً، وإن أكثر المحدثين عنها لم يروها، وإن رأوها لم يقرأوها، وهي متداخلة الأحداث، متنوعة في درجات الشعور...، فلا تعرف على التحديد وأنت تقرأ إنّ  كان أشخاصها يتحدثون في نومهم، أو أنهم حالمين، أو مجانين...).
أما عن المواقف الرافضة للرواية المتحفظة من فتوى الإمام الخميني رحمه الله فقد سخر منها الكاتب الدكتور رفعت سيد أحمد، واعتبرها مواقف انتهازية مساومة، تعبر عن رطانة فارغة، ودعاوى للتعقل لا قيمة لها، حيث قال: (...نختار ـ على سبيل المثال ـ موقف الكاتب المصري أحمد بهاء الدين، الذي اعتاد أن يمسك العصا من الوسط دائماً، وفي أغلب مواقفه السياسية والثقافية في كافة العهود الحاكمة، وعليه، فإن لم يتشرف يوماً بالصدام مع أي حاكم، وكان دائماً الناصح الهادئ المتوازن، حتّى "آخر قطرة دم").
 
رب ضارة نافعة:
وخلاصة ما وصل إليه الكاتب، أو أراد الوصول إليه هو: أن رواية سلمان رشدي كانت ضارة نافعة...، وأنها ليست أكثر من حلقة من حلقات جدلية الصراع بين الإسلام والغرب، وقال:
(لقد فجر سلمان رشدي وبريطانيا والغرب بركانا إسلامياً كان راكداً، لقد أشعر هذا المؤلف المغمور مسلمي العالم بأن ثمة ما يخافون عليه ويعتزون به ويثورون لأجله هو الإسلام... فلم يتقبل المسلمون الإهانة دون أدنى حركة وببلادة وجمود كما توهم الغرب، ولكن فوجئ بتلك الحيوية الدافقة، والغضب العفوي للشعوب المسلمة. كما أن هذه الضارة بحاجة إلى جيل قرآني يقود هذه الأمة الإسلاميّة  الخاملة ويحركها، ويوقف أمثال سلمان رشدي عند حدودهم...) (27).
(كما أن هذا الجيل ـ والكلام ما زال للمؤلف ـ بانت بشائره في إيران بعد ثورتها
عام (1978م)، ولكنها بشائر لا تزال تقاوم وتجهض أوّلاً بأول، ونأمل أن تمتد إلى كافة أنحاء عالمنا الإسلامي، والى مواقعة الحية الثائرة...).
وخلاصة ما أراد تجليته الكاتب من عنوان كتابه "جدلية الصراع" هو: أن سلمان رشدي هذا إنّما  هو امتداد للصراع الحضاري بين الإسلام والغرب، وأن روايته لا تعدو أكثر من صيحة مبحوحة جديدة من صيحات الحروب الصليبية الغابرة، وأنها حلقة تافهة من حلقات الغزو الثقافي الاستكباري الجديد؛ وذلك لمواجهة المد الإسلامي والصحوة الإسلاميّة  المنطلقة من إيران.
أما ردود الفعل على فتوى الإمام الخميني بإهدار دم الكاتب والضجة الإعلامية التي رافقتها، ونفخ الجهاز الدعائي الغربي في تهويلها والنيل منها واتهام صاحبها بالإرهاب والتطرف فلم تكن سوى محاولات خائبة لامتصاص الغضب الجماهيري الذي عم الشارع الإسلامي وكبحه واحتوائه، حيث عبر عن تضامنه واصطفائه مع الإمام الراحل وفتواه التاريخية...
لقد استطاع الإمام الخميني ( بفتواه تلك تهشيم حلقة رشدي التي أريد لها أن تشد السلسلة الاستكبارية الصدئة، واستطاع أن يحشد حولها الكم الإسلامي الهادر الذي انتفض وتمرد، وأثبت أن محاولات الاستكبار لإيقاف الإعصار الإسلامي قد ولي زمانها، وأن المارد الإسلامي قد خرج من قمقمه؛ ليقول للعالم: إنّ  عصر الصحوة الإسلاميّة  قد بدأ، وإن عصر الجماهير قد لاح... وإن صيحات الشعوب الإسلاميّة  أكبر من أن تخنق.
 
___________________________
1  ـ الزمر: 18.
2  ـ البقرة: 120.
3  ـ راجع الصفحة: 6 من المصدر.
4  ـ انظر آيات شيطانية جدلية الصراع.
5  ـ انظر آيات شيطانية جدلية الصراع: 14.
6  ـ المصدر السابق: 18.
7  ـ راجع الصفحة: 18 من المصدر.
8  ـ راجع صفحة: 19 من المصدر.
9  ـ المصدر نفسه: 27.
10  ـ المصدر نفسه: 54.
11  ـ راجع المصدر: 60.
12  ـ  المصدر السابق: 64.
13  ـ راجع المصدر: 65.
14  ـ راجع المصدر: 67.
15  ـ نفس المصدر.
16  ـ راجع المصدر: 69.
17  ـ مستدرك الحاكم 3: 598 والبداية والنهاية 2: 180.
18  ـ راجع المصدر 77.
19  ـ سفير جامعة الدول العربية السيد حمادي الصيد في حديث اذاعي.
20  ـ هذا هو رأي الجماعة الإسلاميّة  في مصر، وعلى رأسهم الدكتور محمّد سيد طنطاوي.
21  ـ رأي الإخوان المسلمين في بيان نشر في صحيفة الشعب في (7/3/1989م)
22  ـ الشيخ الرفسنجاني ـ رئيس الجمهورية الإسلاميّة  الإيرانية ـ في خطبة له أثناء إقامة صلاة يوم الجمعة  بطهران (10/3/1989م).
23  ـ انظر المصدر: 152.
24  ـ المصدر السابق.
25  ـ انظر المصدر: 153.
26  ـ المصدر السابق: 106، عن صحيفة الوفد في (24/2/1989م).
27  ـ راجع المصدر: 177.
 
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية