مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

جولات تقريبية
القسم الثالث
 الدكتور محمّد علي آذرشب


أينما وجدت إثارة من جهاد آل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وجدت المجتمع الذي ينأى عن الصغائر وعن الطائفية والنظرات الضيقة، وينشد بفكره وعواطفه نحو آفاق الرسالة، فهذا البيت الكريم سجل في صفحات التاريخ مواقف عظيمة، تجعل كلّ المسلمين بمختلف مذاهبهم مدينين إليه في كلّ ما ورثوه من شخصية إسلامية.
إنهم وأتباعهم والسائرون على طريقهم يشكلون على مدى التاريخ، أعلام هدى، ومصابيح دجى، وعروة وثقى صانت الدين من تلاعب المتلاعبين، وأهواء المنحرفين، ولذلك نجد المسلمين بكل مذاهبهم، بل وأئمة مذاهب المسلمين بأجمعهم يرون في آل بيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ السند والملاذ والنجاة من الهلاك.
أقف في هذه الجولة بواحدة من بقاع آل محمّد، وهي "المغرب الأقصى"، فلقد زرتها ثانية مع وفد ترأسه الأمين العام لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وضم جمعاً من أعضاء المجمع بدعوة كريمة من علماء هذا الصقع، بل هذا الثغر الإسلامي الحبيب.
وجدت التحديات في هذا البلد كبيرة جداً.. فالمغرب لا يفصله عن الغرب إلاّ ميم
مضيق جبل طارق، فهو أمام العداء السافر التاريخي والسياسي والإعلامي وجهاً لوجه.
ولكن الإسلام فيه رغم كلّ ذلك بخير.. الروح الإسلاميّة  تغمر الحياة المغربية، ويعيشها الإنسان المغربي بكل فئاته. وما أثار انتباهنا أكثر باعتبارنا وفداً تقريبياً، تعالي المغاربة عن كلّ اختلاف طائفي وحساسيات مذهبية، رغم ما تلمسنا من محاولات خارجية لإثارة هذه الاختلافات والحساسيات.
وحين تفحصنا الأمر وجدناه يعود إلى ارتباط تاريخ هذا البلد بآل رسول الله. وهذه ظاهرة هامة من ظواهر "التقريب" يحسن أن نقف عندها ولو قليلاً.
إدريس الأول في زرهون:
حين تتجه إلى مدينة "فاس" من "الرباط"، يستوقفك قبل الوصول إليها ضريح في بقعة جميلة مزدانة بالأشجار أسمها "زرهون"، إنه ضريح إدريس بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
جاء إدريس إلى المغرب يدعو المغاربة للأنضمام إلى ثورة أخيه محمّد المسمى "النفس الزكية" في المدينة أيام خلافة المنصور العباسي (145هـ)، فأجابه خلق من الناس (1).
والمهم في هذا الداعية العلوي، نداؤه الذي وجهه إلى المغاربة يدعوهم فيه إلى إقامة الإسلام كما جاء به رسول الله، بعيداً عن تحريف الحكام الأمويين والعباسيين.
ونرى فيه روح التوحيد الخالص، والإسلام المحمدي النقي.
وهو وثيقة "تقريبية" هامة جداً، تعني فيما تعني أن مدرسة آل بيت رسول الله ليست طائفية ولا مذهبية، بل تنأى عن كلّ ما يفرق صفوف المسلمين، وتتحدث بلغة القرآن والسنة لا غير.
ولأهمية هذه الوثيقة التي نشرها أول مرة المرحوم المجاهد "علال الفاسي" ننقلها بنصها، ثم نشير إلى بعض ملاحظات علال الفاسي بشأنه(2).
 
الوثيقة التاريخية الهامة
"بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي جعل النصر لمن أطاعه، وعاقبة السوء لمن عند عنه، ولا إله إلاّ الله المتفرد بالوحدانية، الدال على ذلك بما أظهر من عجيب حكمته، ولطف تدبيره، الذي لا يدرك إلاّ أعلامه.
وصلى الله على محمّد عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، أحبه واصطفاه، واختاره وارتضاه، صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين.
أما بعد، فأني:
1 ـ أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ
2 ـ والى العدل في الرعية والقسم بالسوية، ورفع المظالم والأخذ بيد المظلوم.
3 ـ وإحياء السنة وإماتة البدعة، ونفاذ حكم الكتاب على القريب والبعيد.
4 ـ اذكروا الله في ملوك غيروا، وللأيمان خفروا، وعهود الله وميثاقة نقضوا، ولبني بيته قتلوا.
5 ـ وأذكركم الله في أرامل احتقرت، وحدود عطلت، وفي دماء بغير حق سفكت.
6 ـ فقد نبذوا الكتاب والإسلام، فلم يبق من الإسلام إلاّ أسمه، ولا من القرآن إلاّ رسمه.
7 ـ واعلموا عباد الله أن مما أوجب الله على أهل طاعته، المجاهرة لأهل عداوته ومعصيته، باليد وباللسان(3).
آ ـ فباللسان الدعاء إلى الله بالموعظة الحسنة، والنصيحة، والحض على طاعة الله،
والتوبة عن الذنوب بعد الإنابة والإقلاع، والنزوع عما يكرهه الله، والتواصي بالحق والصدق، والصبر والرحمة والرفق، والتناهي عن معاصي الله كلها، والتعليم والتقديم لمن استجاب لله ورسوله، حتّى تنفذ بصائرهم وتكمل، وتجتمع كلمتهم وتنتظم.
ب ـ فإذا اجتمع منهم من يكون للفاسد دافعاً، وللظالمين مقاوماً، وعلى البغي والعدوان قاهراً أظهروا دعوتهم، وندبوا العباد إلى طاعة ربهم، ودافعوا أهل الجور على ارتكاب ما حرم الله عليهم، وحالوا بين أهل المعاصي وبين العمل بها، فأن في معصية الله تلفا لمن ركبها، وإهلاكاً لمن عمل بها.
ج ـ ولا يؤنسنكم من علو الحق واضطهاده، قلة أنصاره، فأن في ما بدا من وحدة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، والأنبياء الداعين إلى الله قبله، وتكثيره إياهم بعد القلة، واعزازهم بعد الذلة، دليلاً بيناً وبرهاناً واضحاً قال الله عز وجل: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) (4).
وقال تعالى: (ولينصرن الله من ينصره، إنّ  الله لقوي عزيز((5). فنصر الله نبيه وكثر جنده وأظهر حزبه، وأنجز وعده، جزاءاً من الله سبحانه، وثواباً لفضله وصبره، وإيثاره طاعة ربه، ورأفته بعباده، ورحمته وحسن قيامه بالعدل والقسط، في تربية ومجاهدة أعدائهم، وزهده فيما زهده فيهم، ورغبته فيما يريده الله، ومواساته أصحابه، وسعة أخلاقه كما أدبه الله، وأمر العباد باتباعه، وسلوك سليم (كذا). والإقتداء لهدايته، واقتفاء أثره، فإذا فعلوا ذلك أنجز لهم ما وعدهم، كما قال عز وجل: (إنّ  تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم( (6).
قال تعالى: (إنّ  الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي((7).
وكما مدحهم وأثنى عليهم كما يقول: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون
بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله((8).
وقال عز وجل: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض((9).
د ـ وفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأضافه إلى الإيمان والإقرار لمعرفته، وأمر بالجهاد عليه، والدعاء إليه، قال تعالى:?قاتلوا الّذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق? (10).
وقرض قتال المعاندين على الحق، والمعتدين عليه، وعلى من آمن به، وصدق بكتابه، حتّى يعود إليه ويفيء، كما فرض قتال من كفر به وصد عنه، حتّى يؤمن به، ويعترف بشرائعه. قال تعالى (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فان بعث إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفي ء إلى أمر الله فان فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ  الله يجب المقسطين((11).
هـ فهذا عهد الله إليكم، وميثاقه عليكم بالتعاون على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، فرضاً من الله واجباً، وحكماً لازماً، فأين عن الله تذهبون وأنى تؤفكون؟.
و ـ وقد خانت جبابرة في الآفاق شرقاً وغرباً، وأظهروا الفساد، وامتلات الأرض ظلماً وجوراً، فليس للناس ملجأ، ولا لهم عند أعدائهم حسن رجاء.
فعسى أن تكونوا معاشر إخواننا من البربر، اليد الحاصدة للظلم والجور، وأنصار الكتاب والسنة، القائمين بحق المظلومين، من ذرية النبيين، فكونوا عند الله بمنزلة من جاهد مع المرسلين، ونصر الله مع النبيين.
8 ـ واعلموا معاشر البربر أني أتيتكم، وأنا المظلوم الملهوف الطريد الشريد، الخائف الموتور الذي كثر واتره، وقل ناصره، وقتل إخوته، وأبوه وجده، وأهلوه، فأجيبوا داعي الله، فقد دعاكم إلى الله، فأن الله عز وجل يقول: (ومن لا يجب داعي الله
فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء)(12).
أعاذنا الله وإياكم من الضلال، وهدانا وإياكم إلى سبيل الرشاد.
9 ـ وأنا إدريس بن عبدالله، بن الحسن، بن الحسن، بن علي بن أبي طالب، عم رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ، ورسول الله وعلي بن أبي طالب جداي، وحمزة سيد الشهداء، وجعفر الطيار في الجنة عماي، وخديجة الصديقة، وفاطمة بنت أسد الشفيقة جدتاي، وفاطمة بنت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وفاطمة بنت الحسين سيد ذراري النبيين أماي، والحسن والحسين ابنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ أبواي، ومحمد وابراهيم أبناء عبدالله المهدي والزكي أخواي.
10 ـ هذه دعوتي العادلة غير الجائرة، فمن أجابني فله مالي، وعليه ما علي، ومن أبي فحظه أخطأ، وسيرى ذلك عالم الغيب والشهادة أني لم أسفك له دماً، ولا استحللت محرماً، ولا مالاً، وأستشهدك يا أكبر الشاهدين، وأستشهد جبريل وميكائيل أني أول من اجاب وأناب.
فلبيك، اللهم لبيك، مزجي السحاب، وهازم الأحزاب، مصير الجبال سراباً، بعد أن كانت صماً صلاباً...أسألك النصر لولد نبيك، إنك على كلّ شيء قدير، والسلام وصلى الله على محمّد وآله وسلم".
 
ملاحظات علال الفاسي:
الغريب أن المجاهد بعد أن نشر الوثيقة استنتج منها أن إدريس الأول ما كان شيعياً، بل إماما من أئمة السنة، لما في خطبته من مفاهيم توحيدية لا تشبه ما عند "المعتزلة"، ولان الإمام مالكاً بايع أخاه محمداً، ومالك لا يبايع غير سني، ولأن العباسيين لو علموا أن إدريس كان شيعياً لشنعوا عليه في مؤامراتهم.
ومع تقديرنا الفائق للأستاذ المجاهد المرحوم علال، نرى أن كلامه هذا ينطلق من فهم تاريخي غير صحيح لمدرسة آل بيت رسول الله، أو سمها إنّ  شئت (التشيع).
ولو راجع الفاسي كتاب "نهج البلاغة" لرأى أن إدريس يتحدث عن صفات الله في ندائه كما يتحدث جده علي ـ عليه السلام ـ، لا يسلك في ذلك نهج الأشاعرة ولا المعتزلة، فمدرسة آل البيت أعرق من هذه الاختلافات في الأصول.
أما بيعة مالك لأخيه محمّد، فتدل على أن مالكاً وسائر فقهاء المدينة كانوا لا يؤمنون بشرعية الخلافة العباسية، ولا بصحة البيعة التي أخذت من الناس للخليفة العباسي، وإذا كان لابد من خليفة، فهذا البيت العلوي أحق بها. والنفس الزكية سمي بهذا الاسم لزهده ونسكه كما يقول المسعودي (13) وهو من سادات بني هاشم ورجالهم، فضلاً وشرفاً وديناً، وعلماً وشجاعة، وفصاحةً ورئاسة، وكرامة ونبلاً، كما يقول ابن الطقطقي (14).
ومن هنا فإنه حين أقبل أهالي المدينة على الإمام مالك بن أنس، يستفتونه في الخروج مع محمّد النفس الزكية، وقالوا له: إنّ  في أعناقنا بيعة لأبي جعفر (المنصور) قال مالك لهم: إنّما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين وكذلك انضم إلى محمّد النفس الزكية محمّد بن عجلان، وكانت له حلقة في مسجد النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يفتي الناس فيها ويحدثهم، حتّى إذا قامت الثورة شارك فيها وانضم إليه أيضاً عبدالله بن جعفر بن مخرمة، وكان من أبرز علماء المدينة في الفقه والحديث والفتوى(15).
والتاريخ يحدثنا عن مواقف أخرى لفقهاء المذاهب الإسلاميّة  وقفوها مناصرين ومؤيدين لثورات أهل البيت ولأئمة أهل البيت، مما يدل على تسامي مدرسة أهل بيت رسول الله على الخلافات المذهبية، وأستاذيتها وأبوتها لكل المسلمين.
ومن هنا ما كانت كلمة "أهل البيت" و"شيعة أهل البيت" مبغوضة لدى المسلمين حتّى يشنع العباسيون بها، على إدريس كما يقول الفاسي، فالعباسيون حصلوا
على قاعدتهم الشعبية الواسعة، في ثورتهم على الأمويين بهذه الشعارات الشيعية، وكان شيعة أهل البيت لا يمثلون فريقاً أمام أهل السنة، بل يمثلون في نظر المسلمين آنئذ الصفوة الطاهرة، التي تحمل الإسلام علماً وعملاً كما أراده الله لا كما أراده الأمويون.
 
إدريس بن إدريس ـ في فاس ـ:
ما كانت بيعة المراكشيين إدريس لمصلحة دنيوية، فقد ظلوا ملتزمين بها رغم فضل ثورة أخيه، وتعرضهم لسخط العباسيين. بل ظلوا ملتزمين بها حتّى بعد مماته. فحين توفي سنة (17 هجرية ) كان ابنه جنيناً في بطن أمه " كنزة"، فظل المراكشيون ينتظرون ولادته وترعرعه، حتّى إذا ولد وحمل اسم أبيه (إدريس الثاني) بايعه أهل المغرب سنة 188 هجرية. وكان من أعظم أعماله بناء مدينة " فاس" وفي عصره عرف المغرب باسم الأدارسه فقيل: بلد إدريس بن إدريس (16).
وإذا كان إدريس كلّ المغرب في زمانه، فأن مدينة إدريس اليوم (فاس) هي مغرب مصغر بكل تراثه الحضاري.
في أزقتها وأبنيتها القديمة التي بقيت مصونة من يد الدهر، تجد معالم حضارية تعيدك إلى القرنين الثاني والثالث الهجريين.
في إحدى تلك الأزقة تجد بابا يزدحم الناس عليه، بين خارج وداخل، وحين تدخله تجد الناس متحلقين زرافات ووحداناً حول ضريح إدريس بن إدريس وفي الصحن المحيط بالضريح، يأتون للزيارة من كلّ بلاد المغرب.
وفي زقاق آخر تنفتح باب خشبية أثرية قديمة على " جامعة القرويين"، دخلناها فوجدنا الطلاب ملتفين حول أساتذتهم، يقرأون العلوم الإسلاميّة  والعصرية بعد أن حفظوا القرآن قبل دخولهم الجامعة، وفي هذه الجامعة يدرس الطالب سبع سنوات مختلف ألوان المعرفة التي تؤهله للدعوة والإرشاد.
وهذه الجامعة تعتبر أقدم جامعة إسلامية في أفريقيا بنتها امرأة اسمها فاطمة بنت محمّد بن عبدالله الفهري سنة 245 هجرية ثم توالى عليها البناء، لتصبح اليوم أثراً عظيماً من آثار الحضارة الإسلاميّة.
 
المهدي بن تومرت في تين مل:
في سنة 43 هجرية استولى المرابطون على المغرب، وكان الحكام ضعافا، فدب الفساد في البلاد، وكثرت الخمور والمفاسد والموبقات.
وفي هذه الدولة الفاسدة ظهر مصلح من آل محمّد، هو أبو عبدالله محمّد بن عبدالله بن تومرت (تومرت اسم بربري) ينتسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ  كما يقول ابن خلكان (17).
ولد سنة 485 هجرية في جبل السوس في أقصى بلاد المغرب ثم رحل إلى المشرق لطلب العلم. وكان المشرق آنذاك قد تخلص من مخلفات العصر الأموي فكراً وفقهاً وعاطفة، واتجه نحو مدرسة أهل بيت رسول الله، وشاع هذا الاتجاه بشكل خاص بين العرفاء والمتصوفة وفقهاء الشافعية في العراق وإيران.
في بغداد قضى ثلاث سنوات في النظامية، ودرس فيها على الغزالي والكياهراسي، وفي مصر التقى بالطرطوشي الفقيه، ثم التحق بطوس ونيسابور في خراسان شرقي إيران، حيث الفقهاء الشافعية الموالون لآل البيت. ويقول ابن خلكان إنه "اطلع من علوم أهل البيت على كتاب يسمى الجفر"، ومهما كانت صحة الرواية فأنه من الواضح أن الرجل تشرب بروح الإصلاح العلوية الثائرة، وعاد إلى بلاده وهو قد بنى شخصيته الإسلاميّة  التي تأبى الرضوخ للانحراف والظلم. ويقول عنه ابن خلكان أيضاً:
"كان ورعاً ناسكاً، متقشفا مخشوشناً، مخلولقا كثير الإطراق، بساماً في وجوه الناس، مقبلا على العبادة، لا يصحبه من المتاع إلاّ عصاً وركوة وكان شجاعاً، فصيحاً في لسان العربي والمغربي، شديد الإنكار على الناس فيما يخالف الشرع "(18).
أول دخوله المغرب بعد عودته من المشرق كان في مدينة "المهدية"، وبدأ فيها أوّلاً بكسر أواني الخمر وآلات الطرب، وتدريس علوم الدين(19).
وبعد سلسلة نشاطات دخل ابن تومرت وتلميذه عبد المؤمن مدينة "مراكش" فقام هناك أيضاً بكسر أواني الخمر، واعتراض النساء السافرات وتوبيخهن "وكانت نساء المرابطين يسرن سافرات، وحدثت حادثة أدت إلى محاكمة ابن تومرت في بلاط علي بن يوسف، وهي اعتراض أخت أمير المسلمين في موكبها من لدن ابن تومرت الذي وبخها على سفورها، وأسقطها عن راحلتها.." (20).
ودخل ابن تومرت في مواجهة سياسة علنية مع السلطة، حين حشد أنصاره في "تين مل"(21)، وهي منطقة جبلية تقع مغرب مدينة "مراكش"، واستطاع أن يحقق انتصارات ساحقة، مركزاً على الإخلاص في عقيدة التوحيد، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أساس القرآن والسنة، وعلى الإعداد لظهور الإمام المهدي المنتظر.
وقد جمع الأحاديث المروية بشأن ظهور المهدي وأشاعها بين أتباعه. وفي كلّ هذه الاتجاهات الإصلاحية لابن تومرت يظهر فكر أهل البيت فيها واضحاً.
وينقل ابن خلكان عن صاحب كتاب "المغرب في أخبار أهل المغرب" أنّه  قال في حق ابن تومرت:
آثاره تنبيك عن أخباره  * * * *  حتّى كأنك بالعيان تراه
قدم في الثرى، وهمة في الثريا. ونفس ترى إراقة ماء الحياة دون إراقة ماء المحيا أغفل المرابطون حله وربطه، حتّى دب دبيب الفلق في الغسق، وترك في الدنيا دوياً أنشأ دولة لو شاهدها أبو مسلم لما كان لعزمه فيها بمسلم، وكان قوته من غزل أخت له، رغيفاً
في كلّ يوم بقليل من سمن أو زيت، ولم ينتقل عن هذا حين كثرت عليه الدنيا، ورأى أصحابه يوماً وقد مالت نفوسهم إلى كثرة ما غنموه، فأمر بضم ذلك جميعه وأحرقه، وقال: من كان يتبعني للدنيا فما له عندي إلاّ ما رأى، ومن تبعني للآخرة فجزاؤه عند الله..." (22).
واشتد به المرض سنة 524 هجرية، فتوفي رحمه الله ودفن في جامع "تين مل"، وواصل الحركة والقيادة بعده تلميذه عبد المؤمن بن علي، الذي فتح المغرب وشمال أفريقيا، وأوشك أن يفتح الأندلس لولا أن توفي سنة 558 هجرية وبقيت الدولة التي أسسها ابن تومرت (دولة الموحدين) حتّى سنة 668 هجرية.
 
على طاولة المحادثات مع علماء المغرب:
ذكرت أن الزيارة التقريبية الأخيرة للمغرب الأقصى كانت بدعوة من علماء المغرب، وكان في استقبال الوفد بالمطار جمع من العلماء على رأسهم الكبير الشيخ محمّد المكي الناصري رحمه الله وفي يومي الخميس والجمعة (19 و20 جمادى الأولى 1414هـ) عقدت اجتماعات بين الجانبين حضرها من الجانب المغربي:
الشيخ محمّد المكي الناصري: رئيس المجلس العلمي الإقليمي لعاصمة المملكة والأمين العام لرابطة علماء المغرب.
عبد الوهاب التازي سعود: عميد جامعة القرويين.
عباس الجراري: أستاذ بكلية الآداب بالرباط، عضو أكاديمية المملكة المغربية.
إدريس العلوي العبد لاوي: عضو أكاديمية المملكة المغربية.
شبيهنا حمداتي ماء العينين: عضو بالديوان الملكي عضو المجلس العلمي بالعيون، رئيس غرفة في المجلس الأعلى، أستاذ باحث في الفقه المقارن.
محمّد الكتاني: قيدوم (عميد) كلية الآداب بتطوان، عضو أكاديمية المملكة المغربية محمّد يسف: قيدوم (عميد) كلية الشريعة بفاس، أستاذ التعليم العالي بدار
الحديث الحسنية.
عبد الكريم الداودي: نائب رئيس المجلس العلمي، وأستاذ بكلية الشريعة بفاس.
محمّد الأزرق: مستشار بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة، وأستاذ كرسي الحديث بالرباط.
احمد الغازي الحسيني: أستاذ جامعي، ومدرس في جامع القرويين، ومن هيئة ركن المفتي.
حسن السايح: مدير قسم الحضارة الإسلاميّة  بالإيسيكو، أستاذ جامعي.
محمّد حكم: قاضي التوثيق بالرباط، ومستشار المجلس الأعلى سابقاً، وعضو المجلس العلمي، وأستاذ كرسي الفقه المالكي الآن.
كما حضرها من الجانب الإيراني أصحاب الفضيلة السادة: الشيخ محمّد  واعظ زاده الخراساني الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة.
والمولى إسحاق مدني مستشار فخامة رئيس الجمهورية الإسلاميّة  الإيرانية، عضو المجلس الأعلى للمجمع.
والسيد حسن رباني قائم مقام أمين المجمع.
والشيخ سلمان غفاري مساعد الشؤون الدولية للمجمع.
والدكتور تبرائيان المسؤول عن تنظيم برامج "جامعة المذاهب الإسلاميّة ".
ورضا رضائي عضو مجلس الشؤون الدولية للمجمع وكاتب هذه السطور.
ذكريات الشيخ المكي النصاري:
وفي بداية الجلسة تحدث الشيخ المكي الناصري، وهو على شيخوخته أطال الله عمره يتمتع بذاكرة قوية، وقدرة فائقة على إدارة الجلسات بحكمة واتزان، ومنطق قوي في الحجة، ونطق عربي في صوت مفعم بالرخامة والهدوء والسيطرة وحلق بنا في حديثه إلى ذكريات تقريبية قديمة تعود إلى سنة (1350 هجرية)، ففي تلك السنة انعقد مؤتمر
القدس برآسة الشيخ أمين الحسيني، وشارك هو فيه من المغرب، وشارك فيه من إيران سيد ضياء الدين الطباطبائي (طبعاً شارك في هذا المؤتمر علماء آخرون من إيران لم يذكر الشيخ الناصري أسماءهم).
كما اشترك من علماء الشيعة في هذا المؤتمر العلامة محمّد حسين كاشف الغطاء.
وتحدث الشيخ الناصري عن الجو الإسلامي التقريبي الذي ساد المؤتمر، وتحدث عن بهجته وسروره حين رأى صفوف المؤتمرين سنة وشيعة وقفوا لأداء الصلاة خلف عالم مجتهد شيعي هو الشيخ كاشف الغطاء.
ثم تحدث لنا عن تاريخ المغرب المرتبط بحب آل البيت، ومواقف المغاربة في نصرة أهل البيت، وهو حديث تلمسنا مصاديقه في تراث المغرب المشهود، وفي الخلق المغربي في السوق والشارع والمسجد والجامعة.
وخلال يومين من الأحاديث الودية تناول المجتمعون الموضوعات التالية كما جاء في البيان المشترك:
1 ـ التذكير بواقع المسلمين اليوم وما يعانونه من تكالب كلّ قوى الشر عليهم مما يحتم عليهم نبذ المجابهات فيها بينهم، والتخلي عن أي عمل من شأنه أن يعرض أمن المسلمين وقوتهم واستقرار مجتمعاتهم للخطر.
2 ـ ألح المتدخلون على ضرورة إبراز جميع القواسم الإسلاميّة  المشتركة، والتي تشكل إجماعاً بين مختلف المذاهب، وخصوصاً أهل السنة وإخوانهم الشيعة، ليقع التذاكر فيها، والعمل على الإستفادة منها لتكريس التقارب الإسلامي، وتوطيد التعاون بين جميع المسلمين، على أن هذه اللقاءات والحوارات ستبقى تحترم اعتناق أي بلد للمذهب الذي يختار.
3 ـ احترام كلّ طرف لما عند الطرف الآخر من المعتقد والتطبيق والمذهب.
4 ـ توجيه الدعوة أساساً لغير المسلمين، وترك الحرية لكل بلد في الطريقة التي يتبع للدعوة الإسلاميّة  داخل حدوده.
5 ـ العمل على جعل المسلمين رواد إسلام وقيم حضارية كفيلة باستمالة غير
المسلمين للإسلام، وقطع الطريق في وجه كلّ تحرك يسيء إلى الإسلام أو يشوه سمعته.
6 ـ قبول التعاون والتواصل بين السنة والشيعة، حتّى نزيح كلّ الدسائس التي يسربها أعداء الإسلام داخل صفوف المسلمين، وضرورة التساكن والحوار المخلص الصادق الذي كان هو سلوك السلف الصالح واتباع ذلك في أمن وأمان.
7 ـ إعداد كلّ فريق لورقة عمل خلال فترة زمنية كافية لإتمام ذلك، ثم يقع الاتصال من جديد، لتجتمع هذه اللجنة المشتركة، فتستخرج من تلك الورقتين برنامج عمل يكون موضوع ندوات ولقاءات قادمة.
8 ـ استنباط السلوك الصالح كمنهج يحتم التمسك بالقرآن والسنة، واحترام أمن المسلمين في كلّ مكان، والكف عن أي قول أو عمل يمس من حرمة المذاهب والفرق سواء منها السنية والشيعية.
وبعد انتهاء الجلسات كان للوفد الإيراني جولات في المغرب مليئة بالعطاء، توفرت له خلالها كلّ وسائل الراحة والتسهيل في الإقامة والتنقل والزيارات واللقاءات، زار خلالها المعالم العلمية والأثرية والتراثية الإسلاميّة  في مدن: الرباط، ومراكش، الدار البيضاء، وفاس وطنجة فالتقى بعلماء المدن، وزار المساجد والمكتبات والمراكز الثقافية وزار فيما زار جامعة القرويين، ودار الحديث الحسنية، وكلية الشريعة بفاس، ومسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء، ومركز الاسسكو في الرباط، وكان له مع الأساتذة والعلماء والعاملين في هذه المراكز العلمية والثقافية أحاديث تقريبية مفيدة مثمرة.
___________________________
1  ـ أنظر مروج الذهب، المسعودي 3: 294، الشافي 1: 142، الروض النضير 1: 94 ، شذرات الذهب 3: 159، مقاتل الطالبيين: 135، عيون الأخبار لابن قتيبة 1: 212، الحدائق الوردية 1: 318، مناقب الامام أبي حنيفة 1: 255.
2  ـ ذكر علال الفاسي أن هذه الوثيقة أخذها من كتاب مخطوط تحت عنوان "المرجع الشافي" لعبد الله بن حمزة من أئمة اليمن، والكتاب موجود باليمن. ونحن نقلناها من كتاب "المغرب عبر التاريخ" لإبراهيم حركات 1: 116 ـ 119.
3  ـ ننقل الوثيقة كما جاءت بترتيب علال الفاسي.
4  ـ آل عمران: 123.
5  ـ الحج: 40.
6  ـ محمّد: 7.
7  ـ النحل: 90.
8  ـ آل عمران 110.
9  ـ التوبه: 71.
10  ـ التوبة 29.
11  ـ الحجرات: 9.
12  ـ الأحقاف: 32.
13  ـ مروج الذهب 3: 295.
14  ـ الفخري في الآداب السلطانية والدول الإسلاميّة: 148.
15  ـ انظر: جهاد الشيعة، سيرة مختار الليثي: 130 ـ 131.
16  ـ مروج الذهب 3: 296.
17  ـ انظر ترجمته في وفيات الأعيان، رقم 688 في الجزء 5: 45 ـ 55.
18  ـ وفيات الأعيان 5: 46.
19  ـ المغرب عبر التاريخ 1: 249.
20  ـ المصدر نفسه: 251.
21  ـ يضبطها ياقوت بثلاث لامات (تين ملل): جبال بالمغرب بها قرى ومزارع يسكنها البربر، بين أولها ومراكش ثلاثة فراسخ (معجم البلدان 2: 69).
22  ـ ابن خلكان 5: 54.
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية