مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

الحديث الصحيح
ماجد الغرباوي (*)


استأثرت السنة (1) الشريفة باهتمام المسلمين منذ وقت مبكر جداً، فحظيت بالمرتبة الثانية بعد القرآن الكريم في سلم أو لوياتهم؛ باعتبارها المصدر الثاني للتشريع، بل أهم المصادر وأغناها مطلقاً، لتوافرها على ثروة طائلة من النصوص التشريعية والأخلاقية، التي استغرقت في بيان الحكم الشرعي وتفصيله.
فحاجة الفقيه إليها تفوق حاجته إلى المصادر الأخرى: القرآن، الإجماع، العقل.
أما آيات الأحكام في القرآن الكريم: فهي بالإضافة إلى كونها محدودة العدد ولا تفي بحاجة الفقيه، لتزايد حاجة الإنسان المستمرة إلى الأحكام، فإنها لا يمكن الاستقلال بها في استنباط الحكم الشرعي، إلاّ إذا كانت صريحة في موردها، و إلاّ فهي تلتئم مع السنة في بيان الحكم الشرعي؛ لأنها إما مجملة تفسر بالسنة أو مطلقة تقيد بها، أو عامة تخصص بها.
وأما الإجماع الحجة، فلم يثبت إلاّ في موارد محدودة، لغلبة استناد المجمعين
على دليل معين، فيكون الإجماع مدركياً وليس بحجة أو لثبوت تأخر زمان انعقاده مما يفقده الحجية لعدم توافره على الشروط اللازمة لها.
والعقل: "قاصر عن إدراك ملاكات الأحكام، وعللها التامة إلاّ في موارد نادرة لا محيص له من الحكم بها، كحسن العدل، وقبح الظلم"(2).
لذا فالسنة ملأت آفاق التشريع، واستقلت به في مواطن كثيرة جداً.
كما أنها وقفت إلى جانب القرآن الكريم، في أداء مهمته الرسالية، فكانت مفصلة للكتاب، وشارحة له، كما قال تعالى: ?وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون?(3).
وقال: ?وما أنزلنا عليك الكتاب إلاّ لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون? (4).
وعنيت الأمة الإسلاميّة  بتعهد السنة وحفظها، ورواية الحديث وتحمله، فروى لنا المسلمون الأوائل ما ضاقت به الموسوعات الحديثية رغم تعددها، حتّى صنف الشيعة الإمامية أربعمائة كتاب تسمى بالأصول (5) خلال القرون الثلاث الأولى للهجرة، والتي جمعت في القرنين الرابع والخامس، من قبل المشايخ الثلاثة (6)، في كتب أربعة، هي: الكافي، من لا يحضره الفقيه، التهذيب، الاستبصار.
إضافة إلى الكتب الحديثية الأخرى: الصحاح، والمسانيد، والسنن، والمصنفات.. وقد دونوا فيها ما ورد عن الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ، والأئمة ـ عليهم السلام ـ من الأحاديث في كافة شؤون الحياة المتنوعة.
ولم تقف عنايتهم بالحديث على روايته وتدوينه فقط، بل تشبثوا بكل وسيلة للمحافظة عليه وصيانته من التحريف، فانتهوا إلى تأسيس قواعد تسمى "بعلوم الحديث"، كان لها دور إيجابي في حفظ تراثنا الحديثي، وساهمت مساهمة فعالة في تأكيد العلمية والموضوعية في دراسة الحديث والتفقه به (7). حتّى قيل إنه لم ينقض القرن الأول إلاّ وقد وجدت أنواع من علوم (8) لحديث، منها:
1 ـ الحديث المرفوع.
2 ـ الحديث الموقوف.
3 ـ الحديث المقطوع.
4 ـ الحديث المتصل.
5 ـ الحديث المرسل.
6 ـ الحديث المنقطع.
7 ـ الحديث المدلس.
وتطورت علوم الحديث بعد ذلك تطوراً هائلاً، حتّى عد ابن الصلاح، المتوفى سنه 643 هـ خمسة وستين نوعاً منها، ثم قال: "وذلك آخرها، وليس بآخر الممكن في ذلك، فإنه قابل للتنويع إلى ما لا يحصى..." (9).
 
تقسيم الحديث:
قسم الحديث بلحاظات مختلفة إلى عدة أقسام، فقد قسم الحديث بلحاظ عدد رواته إلى متواتر وخبر آحاد. وبلحاظ أوصاف الرواة، من العدالة والضبط والإيمان وعدمها، إلى به صحيح، وقوي، وحسن، وضعيف.
وبحسب اتصاله بالمعصوم وعدمه إلى: مسند، ومعلق، ومقطوع، ومنقطع، ومرسل.
وباعتبار ما يعرض إلى: معنعن، ومضمر، وعالي ومسلسل.
وبلحاظ المروي إلى: معلل، ومدرج، ومدلس، ومقلوب، ومصحف.
وبلحاظ الراوي إلى: المتفق والمفترق، والمؤتلف والمختلف، والمتشابه، رواية الأقران، رواية الأكابر عن الأصاغر وهكذا إلى غيرها من التقسيمات الأخرى.
وما يهمنا في هذه الدراسة تناول مصطلح الحديث الصحيح عند المدرستين.
الحديث الصحيح:
عرف علماء الدراية الحديث الصحيح بتعاريف، تختلف باختلاف الشروط المفترض توافرها في الحديث لكي يكون صحيحاً.
فقد عرفه ابن الصلاح (المتوفى 643 هـ) في كتابه علوم الحديث، بأنه: (الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاًً ولا معللاً).
فشرائط صحة الحديث على ضوء هذا التعريف هي:
1 ـ الإسناد: أي، أن يكون الحديث متصل الإسناد من راويه إلى منتهاه. وبذلك يخرج المرسل والمنقطع بأي نوع من أنواع الانقطاع؛ لاحتمال ضعف الواسطة الساقطة (واحداً أو أكثر)، فلا يكون الحديث صحيحاً حينئذٍ.
 2 ـ عدالة الرواة: والعدالة، ملكة نفسانية تبعث على التقوى، وتحجز صاحبها عن ارتكاب المعاصي، والكذب. ومقوماتها: الإسلام، البلوغ، العقل، السلامة من أسباب
الفسق وخوارم المروءة فخرج بهذا الشرط الحديث الموضوع.
3 ـ الضبط: أي أن يكون الراوي حافظاً إنّ  حدث من حفظه، ضابطاً لكتابه إنّ  حدث منه. وهذا يستلزم أن يكون الراوي متيقظاً غير مغفل ولا متساهل.
3 ـ عدم الشذوذ: والشذوذ، وهو أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما رواه غيره من الثقاة فهذا الشذوذ يكشف عن وجود وهم في رواية هذا الحديث يسقطه عن الاعتبار.
4 ـ عدم الإعلال: أي سلامة الحديث من وجود علة خفية تقدح في صحته، وإن كان سليماً من العلة ظاهراً.
وبذلك خرج الحديث المعلل؛ لأنه ليس صحيحاً.
وقد أشكل النواوي وغيره على التعريف، بان لفظ "المسند" الوارد في التعريف يقيد الحديث الصحيح بالمرفوع إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فقط؛ لأن شرط المسند ـ كما هو مختار ابن الصلاح (10). ـ أن يكون مرفوعاً، مع أن الحكم بالصحة يشمل المرفوع والموقوف معاً لذلك عدل النواوي في التقريب عن ذلك، وعرف الحديث الصحيح بقوله: "هو ما اتصل سنده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة"(11).
كما اعترف آخرون على قيد (عدم الشذوذ) الوارد في التعريف، بأن إسناد الحديث إذا كان مستوفياً لشروط الصحة، من الاتصال والعدالة والضبط، فقد انتفت عنه العلة الظاهرة، (وإذا انتفى كونه معلولاً فما المانع من الحكم بصحته ؟. فمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه أو أكثر عدداً لا يستلزم الضعف، بل يكون من باب صحيح وأصح)، ثم قال: "ولم يرو مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة، وإنّما  الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة.
وأمثلة ذلك موجودة في الصحيحين وغيرها" (13).
وستتضح وجاهة هذا الإشكال عند التعرض لإشكالات مدرسة أهل البيت على التعريف المذكور.
وشدد الحاكم النيسابوري (المتوفى سنة 405 هـ) في كتابه ( معرفة علوم الحديث) في تعريف الحديث الصحيح، فقال: "وصفة الحديث الصحيح أن يرويه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ صحابي زائل عنه اسم الجهالة، وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا، كالشهادة على الشهادة"(12).
 
الحديث الصحيح عند مدرسة أهل البيت:
هناك اصطلاحان مختلفان للحديث الصحيح عند مدرسة أهل البيت.
الأول: اصطلاح القدماء. والثاني: اصطلاح المتأخرين. وسوف نتعرض لبيان المسوغات الموضوعية لاستخدام الاصطلاح في معناه المحدد عند كلّ منهما على انفصال
 
مصطلح الصحيح عند القدماء:
تسالم القدماء على تسمية الحديث المحفوف بقرائن الصحة صحيحاً، بقطع النظر عن شرائط الصحة المتعارفة عند المتأخرين (الاتصال، العدالة، الضبط).
فسواء كان الحديث متصل الإسناد أو مرسلاً، وسواء كان الراوي عادلاً ضابطاً أو ليس كذلك، فمادام الحديث محتفا بقرائن الصحة، المعتبرة عندهم، يعد الحديث صحيحاً، وحجة يعمل بمؤداه.
قال الشيخ المفيد (المتوفى 413 هـ): (والأخبار الموصلة إلى العلم بما ذكرناه ثلاثة أخبار: خبر متواتر، وخبر واحد معه قرينة تشهد بصدقه، وخبر مرسل في الإسناد يعمل
به أهل الحق على الاتفاق) (13).
وقال الشيخ الطوسي (المتوفى 460 هـ): (وما ليس بمتواتر على ضربين، فضرب منه يوجب العلم أيضاً، وهو: كلّ خبر تقترن إليه قرينة توجب العلم، وما يجري هذا المجرى يجب أيضاً العمل به) (14).
أما تلك القرائن فهي:
1 ـ موافقة القرآن الكريم.
2 ـ موافقة السنة الشريفة.
3 ـ موافقة العقل.
4 ـ موافقة إجماع الطائفة(15).
وقد حكى السيد حسن الصدر إجماع القدماء على ذلك (16).
وليست هذه الطريقة في تصحيح الأحاديث تساهلاً يؤاخذ القدماء عليه، بل إنّ  التوسعة في مفهوم الصحة من قبلهم يشمل، إضافة إلى صحيح السند، الحديث الضعيف إذا احتف بقرائن الصحة ـ تعود إلى طبيعة الفترة التي دونت فيها الموسوعات الحديثية (350 هـ ـ 450 هـ) من قبل المشايخ الثلاثة، حيث أن الأصول والكتب التي جمعت منها تلك الموسوعات، هي كتب وأصول حديثية مشهورة ومعتبرة عند الطائفة.وقد عرض بعضها على الأئمة الأطهار وصححوها. كما أن أصحابها معروفون بالوثاقة والخبرة في الحديث وروايته وتحمله. وقد دونوا فيها الأحاديث التي رووها، مباشره أو غير مباشرة عن الأئمة ـ عليهم السلام ـ
وإن بعض هذه الكتب والأصول كانت في متناول أيدي المشايخ الثلاثة، ورووا
عنها مباشرة.
لذا فهم بحاجة إلى إثبات وجود الرواية في أحد تلك الكتب أو الأصول الصحيحة المعتبرة، ليحكموا بصحتها (إذا لم يكن هنا لك ما يوجب تضعيفها). وهذا كما يتأتى عن طريق السند الصحيح، يثبت بالشواهد والقرائن المعتبرة إذا حفت الخبر.
يقول الشيخ حسن بن الشهيد الثاني: (وتوسعوا في طرق الروايات، وأوردوا في كتبهم ما اقتضى رأيهم إيراده، من غير التفات إلى التفرقة بين صحيح الطريق وضعيفة.. اعتمادا منهم في الغالب على القرائن المقتضية لقبول ما دخل الضعف طريقة..." (17)، لذا "لم يكن للصحيح كثير مزية توجب له التميز باصطلاح أو غيره) (18).
ويقول: (لاستغنائهم عنه ـ أي عن مصطلح الصحيح ـ في الغالب، بكثرة القرائن الدالة على صدق الخبر، وإن اشتمل طريقة على ضعف) (19).
وهذا الاستعراض المتقدم "للصحيح" لا يعني أن تصحيح الروايات، على ضوء مباني مدرسة أهل البيت، يقتصر عل هذه الطريقة فقط، بل إنّ  الصحيح بمعناه الاصطلاحي في علم الدراية كثير في الكتب الحديثية الأربعة.
 
مصطلح الصحيح عند المتأخرين:
عرف الشهيد الثاني (المتوفى 965 هـ) الحديث الصحيح، بأنه: ( ما اتصل سنده إلى
المعصوم بنقل الإمامي العدل، عن مثله، في جميع الطبقات... وإن اعتراه شذوذ) (20).
وقال الشيخ البهائي (المتوفى 1030 هـ): (ثم سلسلة المسند: إما إماميون ممدوحون بالتعديل، فصحيح، وإن شذ) (21).
 
فشرائط صحة الحديث على ضوء هذين التعريفين هي:
1 ـ اتصال السند: أي أن يكون كلّ واحد من رواة الحديث قد تلقاه ممن فوقه من الرواة إلى أن يبلغ منتهاه، وهو المعصوم (النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أو الإمام ـ عليه السلام ـ  ) وبذلك خرج المرسل والمنقطع بأي نوع من أنواع الانقطاع.
2 ـ عدالة الرواة: والعدالة عند الشهيد الثاني تعني: أن يكون الراوي (سليماً من أسباب الفسق، التي هي فعل الكبائر، أو الإصرار على الصغائر، وخواررم المروءة) (22).
كما ينبغي عدالة جميع الرواة وفي جميع الطبقات، لذلك خرج الحسن عن حد الصحيح.
3 ـ أن يكون الراوي إمامياً: فخرج بهذا القيد غير الإمامي وإن كان عادلاً، أي خرج الحديث الموثق.
فهذه الشروط الثلاثة الواردة في تعريف الشهيد الثاني: (اتصال السند، عدالة الرواة، ان يكون الراوي إمامياً متفق عليها عندهم وأما القيود الأخرى الواردة في تعريف ابن الصلاح، أي (الضبط، عدم الشذوذ، عدم الإعلال)، فقد قبلها بعضهم، وناقش فيها البعض الآخر وفي ما يلي موجز لأهم تلك المناقشات.
أوّلاً: الضبط.
أما من اعتبر هذا القيد في التعريف، فهو الشيخ حسين بن عبد الصمد العاملي (المتوفى 984 هـ)، الذي عرف الصحيح بقوله: (وهو ما اتصل سنده بالعدل الإمامي
الضابط عن مثله حتّى يصل إلى المعصوم من غير شذوذ ولا علة) (23).
وتبعه على ذلك الشيخ حسن العاملي، حيث اعترض على تعريف والده الشهيد الثاني للصحيح: بأن الضبط شرط في قبول خبر الواحد، فلا وجه لعدم التعرض له في التعريف، وقد ذكره العامة في تعريفهم(24).
وأما من أسقط قيد (الضبط) من التعريف، فلا يعني ذلك عدم اعتباره له، وإنّما  قالوا بأن الضبط هو من لوازم العدالة، وأن عدالة الراوي تستبطن ضبطه لما يرويه فمع ذكرها في التعريف يصبح ذكره إما لغواً، أو من باب التأكيد لا شرطاً فيه.
قال الشهيد الثاني: (وضبطه لما يرويه بمعنى كونه: حافظاً له متيقظاً غير مغفل، إنّ  حدث من حفظه، ضابطاً لكتابه، حافظاً له من الغلط والتصحيف والتحريف إنّ  حدث منه، عارفاً بما يختل به المعنى، إنّ  روى به...، وفي الحقيقية: اعتبار العدالة يغني عن هذا، لان العدل لا يجازف برواية ما ليس بمضبوط على الوجه المعتبر، وتخصيصه تأكيد، أو جري على العادة) (25).
ويرى البعض أن "الضبط" مغاير للعدالة، لذا جعلوه شرطاً آخر، يراد منه الأمن من غلبة السهو والغفلة، الموجبة لكثرة وقوع الخلل في النقل على سبيل الخطأ دون العمد.
وبهذا يتبين أن الضبط على جميع الأقوال شرط في صحة الحديث، سواء قلنا إنّ  الضبط ملازم للعدالة أو مغير لها.
ثانياً: عدم الشذوذ:
المراد بالشاذ هو: (ما رواه الراوي الثقة، مخالفاً لما رواه الجمهور، أي الأكثر) (26).
وقد تسالم أغلب المتأخرين على عدم اعتباره قيداً في التعريف، ولم يشذ أحد منهم سوى الشيخ حسن العاملي(27).
وأما الشيخ حسين بن عبد الصمد الذي قال في تعريف الصحيح ـ كما ذكرنا سابقاً ـ: (هو ما اتصل سنده بالعدل الأمامي الضابط عن مثله، حتّى يصل إلى المعصوم من غير شذوذ ولا علة)، قال بعد ذلك: (ومن رأينا كلامه من أصحابنا لم يعتبر هذين القيدين، وقد اعتبر هما أكثر محدثي العامة.
وعدم اعتبار الشذوذ أجود، إذ لا مانع أن يقال صحيح شاذا أو شاذ صحيح، وهو المنكر كما يأتي) (28).
وقد عللوا عدم اعتبار قيد "عدم الشذوذ" في التعريف، أن الملحوظ في إطلاق التسمية هو حال الرواة، والشذوذ أمر آخر مسقط للخبر عن الحجية، أو (أن عدم الشذوذ شرط في اعتبار الخبر، لا في تسميته صحيحاً) (29).
ثالثاً: عدم الإعلال:
والمراد من ذلك، سلامة الحديث من علة تقدح في صحته، أي خلوه من الأسباب الخفية الغامضة الفادحة، رغم سلامة ظاهره، في متنه أو سنده.
 ولا يتمكن من معرفة ذلك إلاّ الماهر العارف بالأخبار، كالإرسال فيما ظاهره الاتصال، أو دخول حديث في حديث.
وقد أكد الشيخ حسين بن عبد الصمد على عدم تسمية المعلل صحيحاً، سواء كانت العلة في سنده أو متنه، قال:
(وأما المعلل فغير صحيح أما إذا كانت العلة في السند فظاهر، وأما إذا كانت في المتن فكذلك، لأن المتن حينئذ يكون غير صحيح لما فيه من الخلل بالعلة، فيعلم أو يغلب على الظن أنّه  على ما هو عليه من كلامهم. نعم يقال فيه صحيح السند.
فالصحيح على هذا ما صح سنده من الضعف والقطع، ومتنه من العلة. وكيف كان
هو اختلاف في الاصطلاح)(30).
أما من ناقش في ذلك فباعتبار أن ما ظهر كونه منقطعاً، أو شك في اتصاله، لا يصح الحكم بأنه متصل السند إلى المعصوم ـ عليه السلام ـ، مع أن ظاهر التعريف حصول اليقين بالاتصال، وهذا ليس كذلك إذا فالمعلل بهذا المعنى خارج عن حد الصحيح.
وأما عيب المتن كالمخالفة الصريحة للعقل أو الحسن فلا مدخلية له بهذا الاصطلاح (31)، أي أن المصطلح ناظر إلى سند الحديث، وإطلاق الصحة وعدمها متوقف على توافر الشروط في السند فقط، لا في السند والمتن معاً. لذا يؤكد الشهيد الثاني أن اعتبار هذا القيد وعدم اعتباره لاختلاف المصطلح، قال:
(وهذه العلة عند الجمهور مانعة من صحة الحديث على تقدير كون ظاهرها الصحة لولا ذلك.
ومن ثم شرطوا في تعريف الصحيح: سلامته من العلة. وأما أصحابنا فلم يشترطوا السلامة منها، وحينئذ: فقد ينقسم الصحيح إلى معلل وغيره، وإن رد المعلل كما يرد الصحيح الشاذ.
وبعضهم وافقنا على هذا أيضاً، والاختلاف في مجرد الاصطلاح) (32).
مصطلح الصحيح بين المدرستين:
تبين من خلال البحث، أن مصطلح الحديث يعد من المصطلحات المتفق عليها إلى حد ما.
وإذا كان هناك اختلاف في بعض القيود فمرده إلى الاختلاف في مفهومه؛ لأن المدرسة الأولى ترى أن مفهوم الصحيح يصدق على متصل السند بنقل العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذاً ولا معللاً.
وأما المدرسة الثانية، فترى أن مفهوم الصحيح يصدق على متصل السند إلى
المعصوم ـ عليه السلام ـ  بنقل العدل الإمامي، بغض النظر عن حال المتن، لذلك لم يشترطوا القيود الأخرى في التعريف.
أما النقاط المتفق عليها بينهم فهي:
1 ـ اتصال السند من راويه إلى منتهاه.
2 ـ عدالة الرواة وفي جميع الطبقات.
3 ـ الضبط إما باعتباره قيداً مستقلاً على مباني المدرسة الأولى، وبعض من قال به من أتباع المدرسة الثانية.
وإما باعتباره ملازماً للعدالة.
 
نقاط الاختلاف:
1 ـ عدم الشذوذ والإعلال على مباني المدرسة الأولى، وقلنا إنه اختلاف في مجرد الاصطلاح، قال الشهيد الثاني:
(... والخلاف في مجرد الاصطلاح، و إلاّ فقد يقبلون الخبر الشاذ والمعلل، ونحن قد لا نقبلهما، وإن دخلا في الصحيح بحسب العوارض) (33).
2 ـ أن يكون الراوي أمامياً على مباني المدرسة الثانية. وأرادوا به الاحتراز عن الموثق، أي رواية الثقة المخالف، وإن كان من الشيعة والحديث الموثق حجة لكن لا يسمى صحيحاً لذا قد يكون الحديث موثقاً عندنا وصحيحاً عندهم فيكون حجة على كلا الرأيين، وإن اختلفت التسمية.
قال الشهيد الثاني: "وشمل تعريفهم ـ بإطلاق العدل ـ جميع فرق المسلمين.فقبلوا رواية المخالف العدل، ما لم يبلغ خلافه حد الكفر، أو يكون ذا بدعة ويروي ما يقوي بدعته، على اصح أقوالهم.
وبهذا الاعتبار كثرت أحاديثهم الصحيحة وقلت أحاديثنا الصحيحة. مضافاً إلى
ما اكتفوا به في العدالة من الاكتفاء بعدم ظهور الفسق، والبناء على ظاهر حال المسلم.
فالأخبار الحسنة والموثقة عندنا صحيحة عندهم، مع سلامتها من المانعين المذكورين) (34).
 
حكم الصحيح:
1 ـ الحديث الصحيح: حجة وصالح للتنجيز والتعذير عند الجميع، إذا توافرت فيه شروط الصحة، ولم يبتل بالمعارض.
2 ـ الحديث الصحيح الشاذ أو المعلل: ليس حجة، وإن يسمى صحيحاً عند المدرسة الثانية.
 
مصطلح آخر للصحيح عند المدرسة الثانية:
توصف بعض الأحاديث بالصحة رغم أنها غير مستوفية لبعض شروطها، كأن يطرأ إرسال على حديث متصل السند بالعدل الإمامي، كقولهم: (روى ابن أبي عمير في الصحيح كذا). فالطريق من راويه إلى ابن أبي عمير صحيح، لكن ابن أبي عمير يرويه مرسلاً عن المعصوم ـ عليه السلام ـ.
أو يطلقون الصحيح على بعض الأحاديث المروية عن غير الأمامي بسبب صحة السند إليه، فيقولون: (في صحيحة فلان).
وهذه الموارد وغيرها خارجة عن تعريف الصحيح الاصطلاحي، وإنّما  أرادوا حكم الصحيح دون المصطلح.
 
الكتب الصحاح:
حكم اتباع المدرسة الأولى بصحة جميع الأحاديث الواردة في الصحيحين (صحيح البخاري، صحيح مسلم)، رغم التصريح بضعف جملة منها.
قال ابن الصلاح: (وكتاباهما كتاب البخاري، ومسلم أصح الكتب بعد كتاب الله العزيز) (35).، وقال:
(وأما ما لم يكن في لفظه جزم وحكم، مثل: روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كذا وكذا، أو روي عن فلان كذا، أو: عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كذا  وكذا، فهذا وما أشبهه من الألفاظ ليس في شيء منه حكم منه بصحة ذلك عمن ذكره عنه؛ لأن مثل هذه العبارات تستعمل في الحديث الضعيف أيضاً، ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله، إشعاراً  يؤنس به ويركن إليه، والله أعلم) (36).
وحكم الأخباريون من أتباع المدرسة الثانية بصحة جميع الأحاديث الواردة في الكتب الأربعة، حتّى شجبوا تنويع الحديث، "وعدوه من البدع التي يحرم العمل بها، وبسطوا البحث في إبطاله..." (37).
وقد جمد كلا الطرفين على ما ورد في هذه الكتب، فتسبب ذلك في قبولها جميعاً، وتحملوا أعباء التأويل بسبب التعارض بين الأخبار، واضطروا إلى تبني آراء يستبعد صدورها عن المعصوم ـ عليه السلام ـ  (النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أو الإمام ـ عليه السلام ـ  )، لمخالفتها القرآن الكريم، وابتعادها عن روح الشريعة السمحاء.
ولكن أتباع المدرسة الثانية ـ من غير الأخباريين ـ تعاملوا مع الكتب الحديثية تعاملاً جديداً. وعمدوا إلى دراسة الروايات الواردة دراسة مفصلة، متناً وسنداً، فلم يقبلوا منها إلاّ ما ثبت ـ بالدليل ـ صدوره عن المعصوم، وكان صريحاً أو ظاهراً في دلالته واعتبروا مؤلفي هذه الكتب مجتهدين، قد يصيبوا وقد يخطأوا، فليس ما يفضي إليه اجتهادهم حجة عليهم.
كما أن ما اعتمدوه من قرائن لتصحيح الأخبار، قد لا تصلح للقرينية على ذلك لو أطلعنا عليها الآن.
يقول الشيخ حسن العاملي: (فلما اندرست تلك الآثار واستقلت الأسانيد بالأخبار، اضطر المتاخرون إلى تمييز الخالي من الريب، وتعيين البعيد عن الشك، فأصطلحوا على ما قدمنا بيانه) (38).
وليس الحكم خاصاً بالكتب الشيعية فقط، بل هذا هو رأي مدرسة أهل البيت بجميع كتب الصحاح.
يقول السيد محي الدين الغريفي: (وإن غاية ما يقال في اعتبار صحاح أهل السنة:
إنّ  مؤلفيها قد اجتهدوا في صحة أخبارها، فالبخاري اجتهد في صحة الأحاديث التي أثبتها في صحيحه، وهكذا كلّ مؤلف اجتهد في صحة أحاديث كتابه، وقلدهم خلفهم في ذلك) (39).
ولو قدر للمدرسة الأولى أن تنتهج منهج المدرسة الثانية في توثيق الأخبار، لاتسعت خطى التقارب بين المذاهب الإسلاميّة. فنرجو من الله تعالى أن يوفقنا لذلك.
 ___________________________
1  ـ قول المعصوم وفعله وتقريره.  (*) كاتب إسلامي ـ العراق.
2  ـ قواعد الحديث السيد محي الدين الغريفي، قم، مكتبة المفيد: 9.
3  ـ النحل: 44.
4  ـ النحل: 64.
5  ـ معالم العلماء، المازندراني، النجف، المطبعة الحيدرية: 3 نقلاً عن الشيخ المفيد المتوفى سنة 413 هـ. واقرأ عن الأصول الأربعمائة بحثاً مستوعباً في دائرة المعارف الشيعية للسيد حسن الأميني م 1: ج 5: 32ـ45.
6  ـ الشيخ الكليني، محمّد بن يعقوب الكليني، المتوفى سنة 328 ـ 329 هـ، الشيخ الصدوق، محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي، المتوفى سنة 381 هـ. الشيخ الطوسي، محمّد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 460 هـ.
7  ـ للتفصيل: راجع دراستنا "علوم الحديث.. نشأتها وتطورها"، مجلة الفكر الجديد، لندن، دار الإسلام، س 1 ع 3، ايلول 1992 م: 73.
8  ـ منهج النقد في علوم الحديث، الدكتور عنتر نور الدين، دمشق، دار الفكر، ط 3: 57.
9  ـ ابن الصلاح، أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري، علوم الحديث (المشهور بمقدمة ابن الصلاح)، تحقيق الدكتور نور الدين عنتر، دمشق، دار الفكر، ص 11.
10  ـ علوم الحديث: 42.
11  ـ السيوطي، جلال الدين، تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي،تحقيق: د. أحمد عمر هاشم، ط دار الكتاب العربي 1: 43.
12  ـ الحاكم النيسابوري، أبو عبدالله، كتاب معرفة علوم الحديث، تحقيق: السيد معظم حسين، أم ـ أي، دي ـ فل (أكسن)، ط حيدر آباد ـ الهند، ص 77.
13  ـ الشيخ المفيد، محمّد بن محمّد بن النعمان، التذكرة بأصول الفقه، ط المؤتمر العالمي للشيخ المفيد، المجلد التاسع من مصنفات الشيخ المفيد: 28.
14  ـ الطوسي، محمّد بن الحسن، الاستبصار، طهران، دار الكتب الإسلاميّة، ط 4، 1: 3.
15  ـ للتفصيل راجع: الطوسي، محمّد بن الحسن، عدة الأصول، تحقيق مهدي نجف، مؤسسة آل البيت، ج1، ص 367.
16  ـ انظر: الصدر، السيد حسن، نهاية الدراية في شرح الوجيزة، ط بومبي: 14.
17  ـ الشيخ حسن، منتقى الجمان، ط قم ـ جماعة العلماء 1: 2.
18  ـ المصدر السابق: 14.
19  ـ المصدر السابق: 14.
ويقول الشيخ البهائي: "الاصطلاح على تخصيص هذا النوع من الحديث باسم الصحيح لم يكن متعارفاً بين قدماء علمائنا رضوان الله عليهم، بل كانوا يطلقون الصحيح على ما يعتمدونه ويعملون به وإن اشتمل سنده على غير الامامي، كما أجمعوا على تصحيح ما يصح عن عبد الله بن بكير، وهو قطحي، وعن أبان بن عثمان، وهو ناووسي، والمتأخرون كالعلامة وغيره قد يطلقون على ذلك اسم الصحيح أيضاً ولا بأس به". انظر: الشيخ البهائي، محمّد بن الحسين بن عبد الصمد، الوجيزة، تحقيق: ماجد الغرباوي، مجلة تراثنا، العدد 33 ـ 33، س 8 ذو الحجة 1413 هـ ص 419، الهامش رقم: 19.
20  ـ شرح البداية في علم الدراية، ضبط نصه السيد محمّد رضا الحسيني الجلالي، قم، ط منشورات الفيروز آبادي: 21.
21  ـ الوجيزة: 419.
22  ـ شرح البداية: 68.
23  ـ العاملي، الشيخ حسين بن عبد الصمد، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار، تحقيق: السيد عبد اللطيف الكوهكمري، ط قم: 93.
24  ـ منتقى الجمان 1: 5.
25  ـ شرح البداية: 68.
26  ـ شرح البداية: 38.
27  ـ للتفصيل: راجع منتقى الجمان 1: 7.
28  ـ وصول الأخبار: 93.
29  ـ المامقاني، الشيخ عبد الله، مقباس الهداية في علم الدراية، تحقيق محمّد رضا المامقاني، قم، مؤسسة آل البيت، ط 1، ج1: 153.
30  ـ وصول الأخيار: 93.
31  ـ للتفصيل : راجع مقباس الهداية: 154.
32  ـ شرح البداية: 53.
33  ـ شرح البداية: 22.
34  ـ شرح البداية: 22.
35  ـ علوم الحديث: 19.
36  ـ علوم الحديث: 25.
37  ـ قواعد الحديث: 17.
38  ـ منتقى الجمان 1: 14.
39  ـ قواعد الحديث: 147.

 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية