مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 الإسلام في مواجهة التيارات الهدامة
الشيخ سامي الغريري


كثر حديث الناس حول الحضارة والتحضر، حتى استغلها من لا يريد للإسلام والمسلمين خيراً..، وتنادوا بالحضارة والتحضر، ساترين بذلك موجة التبشير الحديث والغزو الفكري المخطط له من قبل الاستكبار العالمي، الذي يستهدف هذه الأمة في أغلى ما عندها: عقيدتها ومثلها..، وقيمها وأخلاقها.
فالعالم الإسلامي اليوم على مفترق الطرق، يتطلع إلى بناء نهضة على أسس سليمة، ويبحث عن الطريق التي تدفع بعملية تقدمه إلى الأمام، إلاّ أنه مع ذلك تتقاذفه تيارات متباينة. فهو يرى نفسه مشدوداً إلى إسلامه، متشبثاً بشخصيته وذاتيته من جهة... وهو يرى متأثراً بالتيارات العالمية العاصفة به، منساقاً إلى السير في ركابها من جهة أخرى.
فالمعضلات المتزايدة أصبحت تتحكم فيه مثل ما تتحكم في جميع الأمم والشعوب النامية...، والقادة ـ المسؤولون ـ يبحثون عن حلول للخروج من هذه المعضلات. فتارة يأخذون حلولاً من الشرق، وأخرى يطلبونها من الغرب، ولكنها لا تعطي العطاء المطلوب؛ لأنها لا تعالج الأمراض الحقيقية في المجتمع الإسلامي وكل هذه التحديات الغربية للإسلام تتضاعف وتتكاثر، ولسان حالها يقول: (هاهو الدواء يوجد لدينا فخذوا به إنّ أردتم النجاح).
ومن المعلوم: أنّ أوروبا عاشت صراعاً حاداً وقوياً في القرون الأربعة الأخيرة، استلزم فيها أنّ تنبذ كل ارتباط مع الدين..، ودفعها أنّ تسير في تنظيم شؤون حياتها على أساس فصل الدين عن الدولة، معتبرة ذلك هو الحل الوحيد الذي يقيها المعضلات والمآسي التي كانت تعاني منها. والاقتناع بهذه النظرية أصبح يعكس مفعوله على بعض المثقفين من المسلمين ثقافة غربية.
والواقع أنّ أخطر ما يعانيه العالم الإسلامي اليوم هو: الانعكاسات التي ترد عليه من الغرب المسيحي، والتي تعمل جاهدة على أنّ تبث روحها فيه، فتجتث كل ارتباط بينه وبين أصالته ودينه.
إنّ هناك صراعاً حقيقياً وعميقاً بين حضارتين: حضارة غربية تريد أنّ تفرض نفوذها وسيطرتها الشاملة في العالم الإسلامي، وحضارة إسلامية عريقة وأصيلة تريد أنّ تحتفظ بشخصيتها ومفاهيهمها وتأثيراتها. فإذا كانت الحضارة تريد أنّ تقطع علاقتها مع كل أصيل فإن الحضارة الإسلاميّة لا تقبل أنّ تنصاع لهذه القطيعة؛ لأنها تنشد الكمال والتقدم، والاستفادة من التطور العلمي، وتريد أنّ تبقى مرتبطة كل الارتباط بمفاهيمها وفي حلبة هذا الصراع يعيش العالم الإسلامي فالمفكرون المسلمون الواعون لمسؤولياتهم يدركون الأخطار التي تهدد مصير أمتهم الإسلاميّة، ومصير حضارتهم وقيمهم إنّ هم انساقوا مع هذه التيارات الدخيلة عليهم...، وهم يدعون إلى النهوض والأخذ بالأسباب الحقيقية لهذا لنهوض، والاستفادة مما أعطته وتعطيه الحضارة الغربية من ابتكارات وتقدم في ميدان العلم والتكنولوجيا وما إلى ذلك، ولكنهم في الوقت نفسه لا يقبلون أنّ يتنكروا لذاتيتهم وشخصيتهم وحقيقتهم، ويعتبرون أنّ التنكر لذلك قضاء على وجودهم، ومحو لشخصيتهم، وخسران لمستقبلهم.
إنّ المفكرين المسلمين يدركون أنهم مطالبون بالذود عن حقائق دينهم والاستمداد منها، والاستمرار في الارتباط بها مثل ماهم مطالبون بالتفتح للاستفادة من النظريات العلمية، واستعمال طاقاتهم وإمكانياتهم للدفع بها وتجديدها والتقدم فيها؛ لأنهم يعتقدون أنّ المسلم الحق لا يقبل أنّ تسبقه الأحداث وتتجاوزه الحياة، كما لا يليق به أنّ يبقى في مؤخرة الركب الحضاري؛ لأنه مطالب ـ باعتباره مسلماً ـ بأن يمد الحياة الإنسانية، ويسير في الآفاق؛ ليستفيد ويفيد، وليزيد في سعادة بني الإنسان بابتكاراته
ومعارفه وخدماته؛ لأن عدم الزيادة يقتضي التوقف والتوقف ينتج عنه التراجع، والتراجع يؤدي حتماً إلى الانحطاط إنّ لم يؤد إلى الموت.
إنّ هذا التوازن يقضي على الهوة السحيقة التي خلقتها النظريات المادية الحديثة والقديمة التي أتى معها الدمار والخراب، والفراغ الروحي والقلق اللذين أصبحا يهددان سعادة المجتمع الإنساني.
إنّ هذه النظريات أصبح لها أنصار وحواريون يأخذون بها، ويعملون على تطبيقها، ويكافحون في سبيل الإقناع بها. ومن المؤسف أنّ نجد بعض المثقفين من المسلمين قد تأثروا بهذه النظريات واعتنقوها، وصارواهم بدورهم يعملون على نشرها وتعميمها في بعض المجتمعات الإسلاميّة، جاهلين أو متجاهلين النتائج الخطيرة التي ستحل بمجتمعاتهم وأوطانهم إنّ انساقوا معها وساروا في ركبها.
إنّ المفكرين المسلمين مطالبون بتغيير جذري لحياة المجتمع الإسلامي، بحيث تتجه الحياة الاجتماعية اتجاها اسلاميا صحيحاً متوازناً. فالتغيير المطلوب لحياة مجتمعنا لا يتنكر للتقدم العلمي والتكنولوجي، كما لا يتنكر للحقائق التي تزيدنا ارتباطاً بالإسلام وتعاليمه.
لقد واجه الإسلام ثقافات جاءت من مصادر غير إسلامية، وقد انتقلت تلك الثقافات في مختلف حقولها إلى المجتمع الإسلامي فلاقت بعض الاصطدام والتردد، ثم أنطلقت وأصبحت جزءاً من الثقافة الإسلاميّة، وتوسعت ونشطت حتى كأن المجتمع الإسلامي أصبح صاحب تلك الثقافة، فأدى الأمانة بدوره إلى العالم الإسلامي.
إنّ الدين الإسلامي كان ولا يزال قوياً في قلوب أتباعه بسبب نجاحهم في الحياة الاجتماعية. قد قدمت الثقافة الإسلاميّة للعالم ثروة كبرى، وزودت الثقافة الحديثة بتراث لا يمكن تناسيه؛ لأن ثقافة الإسلام تحرك الإنسان حركة دائمة نحو التقدم الحديثة بتراث لا يمكن تناسيه؛ لا، ثقافة الإسلام تحرك الإنسان حركة دائمة نحو التقدم في شتى مجالات التطور العقلي، وتتحمل كل جديد وكل معرفة بقلب مشتاق، وتعتبرها سلوكاً إلى الله تعالى ومعرفة له وكمالاً للإنسان.
(إنّ الإسلام يحتفظ بثوريته؛ لأنه دين الشعوب المستضعفه، دين الشعوب الثائرة،الدين الذي يتعرض للاضطهاد والمحاربة على يد صليبية أوروبا الحديثة) (1).
إنّ الوحدة هي الميزة المهمة في ثقافتنا، والتي معناها: النشاط الثقافي في أي حقل من حقول الثقافة، يجب أنّ تنسجم مع النشاطات في وحدة منسقة تعكس في سمع المثقف أنّ الإسلام يرحب بكل حرية فكرية إيجابية، وكل تطوير عقلي من شأنه المساهمة وجلب النفع والخير للإنسانية، ويعتبر كل هذا جزءاً من رسالة الإنسان في الحياة وواجباً من واجباتها.
إنّ الوحدة الإسلاميّة تجمع آمال الشعوب الإسلاميّة وتساعد على التخلص من السيطرة الأوربية، والتبشير عامل مهم في كسر شوكة هذه الحركة، من أجل ذلك يجب أنّ نحول بالتبشير اتجاه المسلمين عن الوحدة الإسلاميّة (2).
إنّ أخشى ما يخشاه العالم الغربي هو: أنّ تتحقق الوحدة الإسلاميّة، (إنّ الوحدة الإسلاميّة نائمة، ولكن يجب أنّ نضع في حسابنا أنّ النائم قد يستيقظ) (3).
قال بن غوريون: (إنّ أخشى ما نخشاه أنّ يظهر في العالم الإسلامي محمّد جديد) (4).
لقد كان الصراع بين الحضارات والثقافات وما يزال أمراً قائماً في تجارب البشر كالصراع بين الأفراد والأمم. وكانت الحضارة الإسلاميّة قد سيطرت على معظم العالم القديم، وهضمت كل ثقافاته، ومنحتها حياة جديدة؛ لتلائم التطور الكبير الذي عاشته البشرية. وأن من طبيعة البشر الإعجاب بالقوي المنتصر والتسليم له، وبهذا ينتشر كثير من أفكار الغالبين وعاداتهم بين الشعوب المغلوبة بواقع من الضعف. ورغم أنّ الغالبين يسندون وجودهم القوي بأساليب مختلفة من وسائل القهر والإلزام إلاّ أنهم ما كانوا يبلغون من أمرهم ما يصبون إليه لولا استعداد المغلوبين للتخلي عما في أيديهم، والتسليم وأخذ ما يمليه عليهم الغالبون عنوةً.
ولعل من مخزيات القدر أنّ يأخذ المسلمون خاصة وأهل الشرق عامةً عن الغربيين ما يجب أنّ يعتقده الإنسان عن الدين.
كتب أحد المستشرقين وهو المسيوشاتلييه(5). قال: (ينبغي لفرنسا أنّ يكون
عملها في الشرق مبنياً قبل كل شيءٍ على قواعد التربية العقلية؛ ليتسنى لها توسيع نطاق هذا العمل والتثبت في قاعدته. ويجدر بنا لتحقيق ذلك بالفعل أنّ لا نقتصر على المشروعات الخاصة التي يقوم بها الرهبان المبشرون وغيرهم؛ لأن هذه المشروعات التي يقوم بها الأفراد هي مجهودات ضئيلة بالنسبة للغرض العام الذي نتوخاه، وهو غرض لا يمكن الوصول إليه إلاّ بالتعليم الذي يكون تحت الجامعات الفرنسية؛ نظراً لما اختص به هذا التعليم من الوسائل الفعلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة. وأنا أرجو أنّ يخرج هذا التعليم من الوسائل الفعلية والعلمية المبنية على قوة الإرادة. وأنا أرجو أنّ يخرج هذا التعليم إلى حيز الفعل؛ ليبث في دين الإسلام التعاليم المستمدة من المدرسة والجامعة الفرنسية) (6). ونتيجة لهذا السلوك التقريبي فإن شبكات المؤامرات العدائية والمخططات الإجرامية قد شملت العالم الإسلامي بكامله، وهي تستهدف المسلمين في عقائدهم الإيمانية، وشعائرهم الدينية قبل كل شيءٍ وتحويلهم عن السلوك المثالي، وهدم كيانهم الإسلامي بالوسائل الإغرائية تارة وبالأساليب العلمية تارة أخرى، ولم تجدهم نفعاً مطلوباً، ورأوا أنّ دائرة نفوذ الإيمان لا تزال تتسع رغم تلك الجهود المبذولة لذلك الغرض، مما أثار حفيظتهم وزاد من حنقهم وحقدهم على المسلمين، وبالأخص حينما لمسوا آثار صحوةٍ دينيةٍ تعم مجتمعاتهم وطبقاتهم في كل بلد.
لقد كان أولئك الدعاة إلى الاستعمار والممهدين له، يوصون بالاعتماد على قواعد التربية العقلية لزعزعة الثقة بالتعاليم الإسلاميّة؛ ليخرجوا لنا مثقفين ينتسبون للمجموعة الإسلاميّة، ولكنهم يبثون في الدين الإسلامي الآراء والتعاليم الغربية التي هي في صميمها وواقعها حرب على الإسلام، وتنكر للمبادئ والتعاليم التي أتى بها سيد الأنام عليه وعلى آلة الصلاة والسلام.
فهذا صما مونويل زويمر ـ مؤسس مجلة "العالم الإسلامي" التي تصدر باللغة الإنجليزية ـ يكتب قائلاً: (إنّ لنتيجة إرساليات التبشير في البلاد الإسلاميّة مزيتين: مزية تشييد ومزية هدم، أو بالأحزى مزيتي تحليل وتركيب، والأمر الذي لا مرية فيه هو: أنّ المبشرين قد أخطأوا في التقدير بالتغيير الذي أخذ يدخل على عقائد المسلمين ومبادئهم الخلقية في البلاد الإسلاميّة.
لقد كان الهدف الأساسي من الحملات التبشيرية ولا يزال هو: تحويل شعوب العالم الإسلامي عن حضارتها وثقافاتها واستبدالها ـ ما أمكن ـ بهذا اللون أو ذاك من ألوان الثقافة الغربية المقيتة، ولكنهم عجزوا عن ذلك؛ لرسوخ الثقافة الإسلاميّة في عقول المسلمين ونفوسهم، فابتدعوا أسلوباً آخر وغير مباشرٍ؛ وذلك بغزو الثقافة الإسلاميّة من الداخل، ودفع المسلمين إلى تجاوز أطراف منها واستبدالها ببديل غربي.
وليس من الصدفة أنّ تلتقي الامبريالية مع الصهيونية العالميتين في حربهم المشؤومة والخاسرة ضد حضارة الإسلام وثقافته، والتي تقف سداً منيعاً أمام الغزو الفكري البغيض.
هذا، وأن التعاون بين الاستعمار والصليبية كان وثيقاً للقضاء على الوجود الإسلامي بديار الإسلام، وأنهم كانوا يدبرون أمرهم؛ ليصلوا إلى تحقيق ذلك عن طريق المدرسة والتبشير، وعن طريق التربية العقلية ونشر الثقافة، وعن طريق المثقفين بالثقافة الأجنبية، والمتلمذين على الأساتذة الأجانب، وحسب رأيهم فإن الشعوب الإسلاميّة لا تتطور ولا تتدرج في مدارج الحضارة الحقيقية إلاّ إذا ابتعدت عن الإسلام.
قال "مسيووليام جيبور بالكران": (متى توارى القرآن ومدينة مكة عن بلاد العرب يمكننا ـ حينئذٍ ـ أنّ نرى العربي يتدرج في سبيل الحضارة التي لم يبعده عنها إلاّ محمّد وكتابه) (7).
وقال المؤرخ "جبون": (بقوةٍ واحدةٍ ونجاحٍ واحدٍ زحف الإسلام على خلفاء أغسطس (في الروم) واصطخر (في فارس)، وأصبحت الدولتان المتنافستان في ساعة واحدة فريسة لعدو لم يزل موضع الازدراء منهما، فعلى الغرب أنّ لا ينسى ذلك) (8).
وقال المؤرخ الأمريكي "ستودارد": (كاد يكون نبأ نشوء الإسلام النبأ الأعجب الذي دون في تاريخ الإنسان، لقد ظهر الإسلام في أمةٍ كانت قبل ذلك العهد متضعضعة الكيان، وفي بلاد منحطة الشأن، فلم يمض على ظهوره عشرة عقود حتى انتشر في نصف الأرض،ممزقاً مماليك عالية الذرى، مترامية الأطراف، وهادماً أدياناً قديمةً كرت عليها الحقب والأجبال، ومغيراً ما بنفوس الأمم والأقوام، وبانياً عالماً حديثاً متراص الأركان، هو عالم الإسلام" (9).
وقال المؤرخ "هـ. أ. ل فيشر": (لم يكن هنالك في جزيرة العرب قبل الإسلام أثر لحكومة عربية أو جيش منتظم، أو لطموح سياسي عام، كان العرب شعراء خياليين محاربين، وتجاراً لم يكونوا سياسيين. إنهم لم يجدوا في دينهم قوة تثبتهم أو توحدهم. إنهم كانوا على نظام منحط من الشرك... ولكن بعد مائة سنة منه انتزعوا أفريقيا من البيزنطيين والبربر، وإسبانيا من الفوط، هددوا فرنسا في الغرب، والقسطنطينية في الشرق، ووجدت الدول النصرانية من أقصى أوروبا إلى أقصاها، منذرة مهددة بحضارةٍ شرقية مبنية على دين شرقي، ألا وهو الإسلام) (10).
وقال المؤرخ الشيوعي "م. ن، روى": (كل نبي جاء بمعجزات آية لما يقول، وبرهانا على صدقه، ولكن محمّد ـ صلى الله عليه وآله ـ هو أعظم الأنبياء وأجلهم، إذ كان انتشار الإسلام أكبر آيات الأنبياء، وأروعها إعجاباً وخرقاً للعادة، فعلى العالم أنّ يستعد للمواجهة) (11).
وهذه المبشرة "آناميليجان" تقول: (إنّ المدارس أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير التعليم المسيحي، وهذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذي سيصبحون يوماً ما قادة أوطانهم) (12).
ويقول "المستر تروز" رئيس الجامعة الأمريكية في بيروت: (لقد أدى البرهان إلى أنّ التعليم أثمن وسيلةٍ استغلها المبشرون الأمريكيون في سعيهم لتغيير الدول العربية، ومنها: سوريا ولبنان).
ويقول المبشر "جون تكلي": (يجب أنّ نشجع على إنشاء المدارس، وأن نشجع ـ على الأخص ـ التعليم الغربي. إنّ كثيرين من المسلمين قد زعزع اعتقادهم حينما تعلموا اللغة الإنجليزية. إنّ الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي مقدس أمراً صعباً جداً).
وقد كتب "شارل دوفوكو" فقال: (لا شك أنّ هذه المدرسة المسيحية لن يدخلها إلاّ عدد قليل من الأطفال العرب، لكن الأطفال البرابرة الذين ينحدرون من سلالة طيبة هم على كامل الاستعداد للتأثر بالفكرة اللاتينية التي عرفتها من قبل وسيدخلونها كلهم).
أما الأستاذ "جب" ـ كبير المستشرقين الإنجليز ـ يقول: (الواقع أننا إذا أردنا أنّ نعرف المقياس الحقيقي للنفوذ الغربي ولمدى تغلغل الثقافة الغربية في الإسلام كان علينا أنّ ننظر إلى ما وراء المظاهر المسيحية، علينا أنّ نبحث عن الآراء الجديدة، ما للحركات المستحدثة التي ابتكرت بدافع من التأثير بالأساليب الغربية بعد أنّ تهضم وتصبح جزءاً حقيقياً من الدول الإسلاميّة فتتخذ شكلاً يلائم ظروفها) (13).
ويعقب الدكتور"محمّد حسين" على ما قاله الأستاذ "جب" فيقول: (ويلاحظ "جب" أنّ النشاط الثقافي والتعليمي قد ترك في المسلمين ـ من غير وعي منهم ـ أثراً جعلهم يبدون في مظهر هم العام لا دينيين إلى حد بعيد؛ خاصة ذلك اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي عن حضارته من آثار) (14).
ومن الملاحظ أنّ الذي يدعو إلى أخذ العبرة: أنّ الهجوم الشرس ضد الإسلام لم يأت من معسكر خاص من معسكرات الغربيين دائماً، بل أتى من جميعهم وإن اختلفوا في كيفية أداء واجباتهم وتطاحنوا في اتجاهاتهم وأغراضهم، فهم في خوف من أنّ تصبح للإسلام دولة، ولقوته وجود، لفعاليته تأثير.
لقد كانت الغاية من المؤتمرات: لوضع المخطط الاستعماري ودراسته واتخاذ المقررات المناسبة، فقد اتخذ في أحد المؤتمرات قرار: (أنّ ارتقاء الإسلام يهدد نمو مستعمراتنا بخطر عظيم؛ لذلك فإن المؤتمر ينصح الحكومات الغربية بزيادة الإشراف والمراقبة على أدوار هذه الحركة، وأن تنتفع الحكومات من إعمال إرساليات التبشير التي تبث المبادئ الدينية، خصوصاً بخدماتهم التهذيبية والطبية) (15).
وقد جاء في كتاب "مالم يقل عن ديغول": (ولكن الذي أخاف منه هو: هذا الخطر
الذي يمتد من طنجة إلى كراتشي. إنّ الإسلام ذو حضارةٍ وثقافةٍ، وهو جدير بأن يكون الوارث لنا، فإذا تحالف مع الصين فإنه لن يوجد أحد يوقف المسلمين عند بولتييه) (16).
وقد جاء في أحد التقارير السرية التي كتبها سفير أمريكا في دولة أفريقية، منبهاً عن خطر الإسلام المنبعث عن الجمهورية الإسلاميّة في إيران جاء فيه: (أنّ عمامة بيضاء في هذا البلد أخطر من قنبلة ذرية) (17).
إنّ الاستعماريين يخشون من نهضة إسلامية أخرى في بلد إسلامي آخر غير إيران الإسلام؛ ولذلك كانت سياستهم تريد أنّ توقف هذا المد الإسلامي والانقضاض على هذه النهضة، كما كانت ترمي إلى السيطرة المطلقة على البلاد الواقعة تحت قبضتها: السيطرة الثقافية والدينية والقضائية، ولكي تصل إلى تحقيق ذلك كانت تعمل بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. فكل ما يوصل إلى تحقيق هدفهم هو القضاء على الوجود الإسلامي.
إنّ كثيراً من الذين كانوا يجهلون الأفكار القومية القائمة على الإلحاد ومقاومة دين الإسلام في باطن أمرها، والقائمة على التبعية السرية لدول أعداء الإسلام اتبعوا دعاة القومية الذين حملوا راياتهم وناصرو هم ودافعوا عنهم وأيدوهم في كل موقع حملوا معهم شعار القومية.
إنّ معرفة العدو تعد أمراً واجباً، وفرضاً لازماً على كل مسلم حتى نقف على شخصية عدونا وأسلوب تفكيره، والأغراض التي ينوي تحقيقها من خلال مهاجمة الإسلام، كما أنّ معرفته تكشف لنا عن مخططات التغريب، وأشكال المسخ الحضاري، وأساليب الانسلاخ؛ كيلا تتأثر بها أجيال أمتنا الإسلاميّة وخصوصاً الشباب.
فالشباب اليوم هم الهدف؛ لأنهم النخبة الخيرة في المجتمع الإسلامي، ولابد أنّ يكونوا على حذر لمواجهة الأخطار الموجهة إليهم، فالهجمة الشرسة على الإسلام والعداء المستحكم للمسلمين هو امتداد للحروب الصليبية في ديار الشام والأندلس والمغرب العربي. وكذلك التشكيك في التشريعات الإسلاميّة وعدم قدرتها على ملاءمة متطلبات الحياة الحاضرة، بحجة ان العصر قد تطور، وتعاليم الإسلام لا تشمل ما جد فيه، ولكن
غاب عنهم مفهوم الآية الكريمة: (ما فرطنا في الكتاب من شيء((18).
وأما ما تنطوي عليه أفكار المبشرين والمستشرقين وما تنفثه سمومهم نحو تراث الإسلام وما جاء في تعاليم الإسلام بمصدريه فإننا نجده عند: غوستاف لو بون الفرنسي، وجولد زيهر الألماني، وزويمر الإنجليزي وغيرهم.
_____________________
1 ـ القومية والغزو الفكري: 88.
2 ـ كيف هدمت الخلافة: 190.
3 ـ الإسلام والغرب والمستقبل: 73.
4 ـ نفس المصدر.
5 ـ المسيو شاتلييه"مجلة العالم" باللغة الفرنسية، والمقال مترجم إلى اللغة العربية من قبل الدكتور موسى شليخاني، العدد 195 لسنة (1987م).
6 ـ راجع العالم العربي اليوم لمورد بيرجو، والتخطيط للدعوة الإسلاميّة، واساليب الغزو الفكري والاتجاهات الفكرية المعاصرة للدكتور علي جريشة.
7 ـ الإسلام المنتصر: الفصل 13.
8 ـ انحطاط روما وسقوطها 15: 474.
9 ـ حاضر العالم الإسلامي: 67.
10 ـ H.L.Fisher:AHistory of ENrop p.p. 137- 138
11 ـ m.n.Roy: Historical Rold of eslam p.p.4 7
12 ـ تاريخ المعتقدات لـ "تيكسيرون" 2: 231.
13 ـ وجهة الإسلام للدكتور جب 1: 250، ط مصر، ترجمة الدكتور علي عثمان.
14 ـ جريدة تاريخ الأفكار 12: 2/ 163، 1951م.
15 ـ مقتطفات من مجلة دراسات عربية، العدد 3، السنة الخامسة عشرة.
16 ـ مالم يُقل عن ديغول، تأليف هنري جادفيك بريسيليان الأفيلي: 227.
17 ـ مجلة الدعوة في ليبيا، العدد 109، السنة الثانية: 70.
18 ـ الأنعام: 38.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية