مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

المصلحة الاسلامية ووحدة المسلمين
في منهج الامام علي (ع)
أ. د. شهاب الدين الحسيني
باحث من العراق


 
   من الحكمة للباحث أن يتجاوز نظراته المسبقة في تحليل وتفسير الأحداث والمواقف، وأن لا يحكم على الامور من منطلقات مذهبية; ولهذا سأتطرق الى دراسة سيرة الامام علي(ع)من خلال الأحكام والتفسيرات المشتركة والمتفق عليها بين أطياف ومذاهب المسلمين، لكي تكون محوراً مشتركاً في الاقتداء والسير على ضوئها.الاعتراض السلمي على نتائج السقيفة
اجتمع جمع من الانصار وجمع من المهاجرين في سقيفة بني ساعدة وبعد مناقشات سارع جمع من المهاجرين الى بيعة أبي بكر ومعهم بعض الأنصار، وأعلن عن البيعة وتخلف عن البيعة قوم من المهاجرين والانصار ومالوا مع علي بن أبي طالب(ع)(1).
  واعترض الامام(ع)على البيعة ورفض الاستجابة للمطالبين له بالبيعة، وكانت معارضته سلمية؛ حيث بيّن فيها وجهة نظره طبقاً للموازين والمعايير المساعدة لهذا الاعتراض، وهي مقبولة عرفاً، وكان من اعتراضه على الخليفة انّه قال: "انا احق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي; أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبى(ص)وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً، وأنا احتج عليكم بمثل مااحتججتم به على الانصار..."(2)
  وفي هذه الاجواء وجّه انظار المهاجرين الى خصائص وصفات من هو أهل لخلافة رسول الله(ص)طبقاً للثوابت الشرعية والعقلية، حيث يقول: "والله يا معشر المهاجرين، لنحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا الاّ القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنّة رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الامور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنّه لفينا..."(3)
  وكان اعتراضه حقاً طبيعياً طبقاً للظروف الموضوعية واستناداً للمبرّرات التي تمنحه الحق في الاعتراض والدعوة الى نفسه، واذا غضضنا النظر عن نقاط الاختلاف في هذه المبررات من حيث التأويل والتفسير، وتمسكنا بالنقاط المشتركة التي لا يختلف فيها الصحابة نجد ان اعتراضه على الشورى أونتائجها لا يخرج عن المألوف من موازين ومعايير ثابتة لدى الجميع، ومن اهمها غياب الكثير من الصحابة وبني هاشم عن اجتماع السقيفة فلم يشاركوا في الشورى، وقد أشار الامام(ع)الى ذلك:
فان كنت بالشورى ملكت أمورهم  فكيف بهذا والمشيرون غيّب(4)
   وفي جميع موارد ومواقع الاعتراض كان(ع)محافظاً على القواعد والاسس الشرعية في أدب الاعتراض والحوار والنقاش، وكان موقفه سلمياً لا يتعدى تبيان حقّه بالخلافة، ومما جاء في ذلك قوله لابي بكر: "كنّا نرى انّ لنا في هذا الأمر حقاً، فاستبددتم به علينا" ثم ذكر قرابته من رسول الله(ص)وحقهم على المسلمين، فلم يزل يتكلم في ذلك حتى بكى ابوبكر(5).
  وبقي الامام(ع)معارضاً للبيعة ولم يبايع الاّ بعد رحيل فاطمة الزهراء بنت رسول الله(ص)، حيث قدّر المصلحة الاسلامية العليا في جميع مراحل حركته، حينما كان رافضاً للبيعة وحينما بايع، فالمصلحة هي الحاكمة على جميع مواقفه.
إختلف الرواة والمؤرخون في قضية بيعة الامام(ع)لأبي بكر، من حيث وقتها وظروفها وأسلوبها، ومن حيث أسبابها ودوافعها الاّ ان القدر المشترك والمتفق عليه هوالحفاظ على وحدة الدولة الاسلامية ووحدة الأمة الاسلامية، وحاجة الدولة الفتية الى دوره في انجاح الفعاليات والنشاطات وفي انجاح المسيرة الاسلامية، فلو تبيَّنا رواية تهديده بالقتل ان لم يبايع، فانّ الأمر لا يعدوالحفاظ على المصلحة الاسلامية ووحدة المسلمين; لأنّ قتله سيكون مقدمة لِسفك الدماء والاقتتال الداخلي بين أنصاره وبني هاشم من جهة وبين الخليفة وانصاره من جهة اخرى، وهذا القتال لا ينتهي الاّ بانتهاء الدولة الفتية في اجواء تربص المشركين والمنافقين بها.
  واذا تبيّنا الروايات الايجابية التي دفعته للبيعة، فهي واقعة في طريق الوحدة الاسلامية وفي اطار المصلحة الاسلامية الكبرى ومن هذه الروايات:
  انّ عثمان بن عفّان قال له: يا ابن العم! انّه لا يخرج أحد الى قتال هذا العدووأنت لم تبايع، ولم يزل به حتّى مشى الى ابي بكر، فسرّ المسلمون بذلك وجدّ الناس في القتال(6).
  وهذه الرواية قد ذكرت في كتب الشيعة، وعلى صحتها تكون البيعة دفعاً لحركة الجهاد نحوالامام تجاه المتربصين والحاقدين والمرتدين، وهي واقعة ضمن توجهات الامام في تحقيق المصلحة الاسلامية ومقدماتها في الوحدة والاتحاد.
  وهنالك روايات تنص على انّه صرّح بموقفه الوحدوي وأعلن عن أسباب ودوافع البيعة قائلاً: "انّ الله لمّا قبض نبيّه استأثرت علينا قريش بالامر، ودفعتنا عن حقّ نحن أحقّ به من الناس كافة، فرأيت أنّ الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم، والناس حديثو عهد بالاسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلف"11.
  وكان توحيد الصف أهم من حقّه بالخلافة، وقد راعى المصلحة الاسلامية الكبرى في هذا الموقف.
  وقال في موقف آخر: "... فما راعني إلاّ انتيال الناس على أبي بكر، وإجفالهم اليه ليبايعوه، فأمسكت يدي، ورأيت أنّي أحقّ بمقام محمد(ص) في الناس ممّن تولّى الأمر من بعده، فلبثت بذاك ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الاسلام; يدعون الى محق دين الله وملة محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً، يكون المصاب بهما عليَّ أعظم من فوات ولاية اموركم...فمشيت عند ذلك الى أبي بكر فبايعته، ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هي العليا"(8)
  وفي موقف آخر كان الامام(ع) اكثر تصريحاً في تأكيده على الوحدة الاسلامية وعلى المصلحة الاسلامية الكبرى حيث يقول: "وايم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين، لكنّا على غير ما كنّا لهم عليه".(9)
من خلال هذا النص نرى انّ الامام(عليه السلام)قد ترك الكثير من المواقف والخيارات، فلم يتخذ أىّ موقف من شأنه تمزيق المسلمين واضعاف دولتهم الفتية، فاختار البيعة على غيرها حفاظاً  على وحدة المسلمين ووحدة الدولة الاسلامية.موقفه من المحرّضين ضد الخليفة
  في المرحلة التي سبقت البيعة أوتلتها رفض الامام (ع) جميع المواقف والممارسات المتشنجة والداعية الى التباغض والعداء، والمشجعة على التمرد والعصيان، ومنها: موقفه من عتبة بن أبي لهب حينما قال:
ما كنت أحسب أنّ الأمر منصرف  عــن هاشـم ثم منها عن أبي حسن
أليـس أولّ مــن صلّى لقبلتكم وأعــلم النــاس بالقـرآن والسنـن
وأقرب الناس عهــداً بالنـبي ومن جبريل عون له في الغسل والكفـــن
فبعث اليه الامام(عليه السلام)وامره الاّ يعود، وقال له كلمته المشهورة: "سلامة الدين أحبّ الينا من غيره".(10)
وسلامة الدين هي المقدّمة على كل شىء، وسلامة الدين هي المصلحة الاسلامية والأوضاع الافضل للمسلمين، وهي فوق جميع الرغبات الضيقة والمصالح الذاتية، بل هي أفضل من الخلافة ومن حق الامام(عليه السلام)بها، ولذا ترك المطالبة بهذا الحق، ولم يكتف بترك المطالبة بل نهى عن كل قول أوممارسة تساهم في إحداث خلخلة واضطراب داخل الصف الاسلامي ولذا أمر المحرّض ان لا يعود الى مثل هذا التحريض.
وحينما قدم ابوسفيان المدينة قال: "اني لأرى عجاجةً لا يطفئها الاّ دم، يا آل عبد مناف فيم ابوبكر من اموركم أين الاذلاّن علي والعبّاس؟ ما بال هذا الأمر في أقلّ حي من قريش؟".
ثم قال لعلىّ(ع): "ابسط يدك ابايعك، فوالله لئن شِئتَ لأملأنّها عليه خيلاً ورجلا".
فأبى عليه وزجره وقال له: "والله أنّك ما أردت بهذا الاّ الفتنة، وانك والله طالما بغيت للاسلام شراً لا حاجة لنا في نصيحتك"(11).
رفض الامام(ع)هذا الموقف التحريضي المنطلق من نظرة قبلية ومن روح عنصرية وعصبية لا تنسجم مع مفاهيم الاسلام وقيمه، ولا تنسجم مع أهداف الامام (ع) في الحفاظ على الكيان والوجود الاسلامي، لأنّ الهدف من الخلافة هوتقرير مبادئ الاسلام في واقع الحياة وجعلها حاكمة على الافكار والعواطف والممارسات، ولا يتحقق هذا الهدف بتصديع الجبهة الداخلية وإشغالها بالمعارك الجانبية، إذ لا قيمة للخلافة أمام تلك الأهداف السامية.
وما قاله ابوسفيان قد يساهم في تنصيب الامام خليفة على المسلمين وازاحة أبي بكر، وخصوصاً ان الكثير من الأنصار رفضوا البيعة، وكما صرّح بذلك الخليفة الثاني حيث يقول: "إنّ علياً والزبير ومن معهما تخلّفوا عنّا في بيت فاطمة، وتخلفت عنّا الأنصار بأسرها"(12).
وفي رواية: انّ الانصار لام بعضهم بعضاً وذكروا علياً وهتفوا بإسمه.(13)  وعلى الرغم من انّ الأمور قد تسير في صالح الامام(ع)وانّه سيصل الى الخلافة الاّ انّه قدّم المصلحة الاسلامية العليا ووحدة المسلمين على هذا الحق، وهووسيلة للحفاظ على المنهج الالهي وعلى تماسك الوجود الاسلامي، ولا أهمية للخلافة أمام سلامة الدين.
اخماد الفتنة بين المهاجرين والأنصار
لم ينعزل الامام(ع)عن الأحداث في عهد ابي بكر وفي عهد بقية الخلفاء، فهو وان لم ينصّب في منصب اداري أوقضائي أوعسكري الاّ انّه كان يتفاعل مع الأحداث ليؤدي دوره في الاصلاح والتغيير، وفي ترشيد المسيرة وتسديد الأعمال والممارسات، وقد ادّى ما عليه من مسؤولية تجاه الدولة وتجاه الأمة، وكانت المصلحة الاسلامية العليا هي الهم الاكبر في توجهاته ومواقفه، وكان له دور ملموس في وحدة الدولة والأمة وازالة عوامل التوتر والتشنج في علاقات المسلمين وخصوصاً علاقات المهاجرين والأنصار.
ففي أوائل خلافة أبي بكر اعتزل بعض الأنصار عنه ولم يبايعوه أويساندوه، فغضب بعض المهاجرين من هذا الموقف وتشنجت العلاقات بين المهاجرين والأنصار وتطور الأمر حيث هجا عمروبن العاص الأنصار وحرّض ابوسفيان عليهم، وردّ الفضل بن العباس على بعض القرشيين، وأنشد شعراً في هذا الرد، ثم توجه الى عليّ(ع)فأخبره، فخرج عليّ مغضباً حتى دخل المسجد، فذكر الأنصار بخير، وردّ على عمروبن العاص قوله، فلما علمت الأنصار بذلك سرّها وقالت: "ما نبالي بقول من قال مع حسن قول عليّ" (14).
واستطاع(ع)اخماد الفتنة التي كادت أن تقع لقرب المهاجرين والأنصار من عصر الجاهلية، ولفقدانهم لرسول الله(ص)الذي كان له تأثير في التوجيه والارشاد اشبه بالتأثير السحري على العقول والقلوب وعلى الارادات المحددة للمواقف وللممارسات العملية، وبفقده(ص)ضعفت قوة التأثير عليهم فعادت بعض رواسب الجاهلية الى بعضهم لتتحكم في مقوّمات شخصياتهم، ولولا الامام علي(ع)لتطورت الامور الى قتال ملموس يتجذر في تأثيراته ونتائجه بمرور الايام ليقضي على الدولة وعلى الكيان الاسلامي في ظروف تربص الأعداء وتكالبهم على هذه الدولة الفتية، فقد استجاب الأنصار لنداء الوحدة. فلم يكترثوا لتلك المواقف ما دام أحد رؤوس المهاجرين وهوعليّ معهم مسانداً ومدافعاً، ومعترفاً بحقّ الانصار على المهاجرين، فقد كانت لحكمته الدور الاكبر في تجاوز الأزمة وسكون الفتنة.
على الرغم من وجود اختلاف فكري وسياسي بين عليّ(ع) وقادة الدولة الاسلامية في النظرة الى الامامة والخلافة وفي النظرة الى المواقف والاحداث المختلفة الاّ انّه (ع)تعامل مع هذا الاختلاف في حدوده الجزئية، فلم يتعامل معه وكأنّه فواصل كليّة، بل تحرك بخطاه وممارساته ومواقفه نحوالاهداف المشتركة الكبرى، وكان تعامله ينطلق من المصلحة الاسلامية العليا، في ظروف تكالبت فيها قوى الكفر والشرك للقضاء على هذه الدولة، وكان أعداء الدولة والأمّة الاسلامية لا يفرّقون في عدائهم بين الامام على(ع)والخلفاء، وكانوا يتصيدون كلّ حجّة وكلّ فرصة وكل ثغرة لينفذوا منها الى الطعن في صحّة الرسالة، والى بلبلة الافكار واشاعة الاضطراب في العقول والقلوب وخلق الفتن في صفوف الكيان الاسلامي.
وفي هذه الظروف والأجواء دافع الامام(ع) عن الدولة وساندها كما لوكان هوالخليفة الفعلي، فالاهم هوالحفاظ على الكيان والدولة بغض النظر عن شخص الخليفة ورأي الامام به.
فحينما جاءت وفود أسد وغطفان وهوازن الى الخليفة أبي بكر وطالبوه باعفائهم من الزكاة رفض هذا الطلب، ولهذا فقد اعدوا العدة للعدوان على المدينة وأخبروا عشائرهم بقلة أهل المدينة وأطمعوهم فيها، فاستعان الخليفة بالامام علي(ع)وطلب منه أن ينصب كميناً على أطرف المدينة فاستجاب للطلب ونصب كميناً على الأماكن التي يمكن التسلل والعبور منها، وحينما جاء المهاجمون لم يستطيعوا الهجوم وتراجعوا لأنّهم وجدوا أن المدينة محروسة(15).
فقد ساند الامام علي(ع) الخليفة ودافع عن الدولة الاسلامية. ولم يفكر بانّ هذه المهمة العسكرية لا تليق بشأنه، ولم يتردد في أي ممارسة أوموقف يخدم المصلحة الاسلامية العليا.
وردّ الامام(ع)هجوم قبيلتي عبس وذبيان وبعض القبائل التي اغتنمت فرصة انشغال الجيش بإطفاء نار الارتداد (16).
وكان حريصاً على سلامة القيادة السياسية والعسكرية المتمثّلة بأبي بكر، لأنّ مقتله سيشجّع الطامعين على الاسراع في مخططاتهم الرامية لتقويض الكيان الاسلامي، فحينما أراد ابوبكر الخروج بنفسه لقتال المرتدين منعه الامام وقال له: "... لا تفجعنا بنفسك"(17).
وهذا الموقف يدل على التجرد الكامل من الذات والذوبان الكامل في المصلحة الاسلامية، وهذا درس عظيم لجميع السياسيين في الايثار ونكران الذات ينبغي اشاعة مفاهيمه وقيمه في الممارسات والمواقف السياسية، فالسياسي الذي يرغب في تسلّم الحكم لا ينصح من ينافسه مثل هذه النصيحة، ولكنّ الامام(عليه السلام)قد مارسها في سيرته العملية ونصح الخليفة بعدم الذهاب بنفسه للقتال.إسناد الدولة وحل المسائل المستعصية
كان الامام(ع)مسانداً للدولة وللخليفة، وكان لا يبخل بأيّ ممارسة ونشاط يقع في أجواء المصلحة الاسلامية العليا، وكان لا يبخل بمشورة تخدم القضايا المصيرية للدولة والامة، والامثلة على ذلك عديدة.
ومن ذلك انّ أبابكر أراد غزوالروم، فاستشار الصحابة فقدّموا وأخّروا، ولم يقطعوا برأي، فاستشار علياً، فشجعه على غزوالروم، فقال: "ان فعلت ظفرت" فقال: " بشّرت بخير"(18).
وهذا التشجيع من الامام الذي له مكانة مرموقة بين المسلمين اضافة الى خبرته العسكرية دفع الخليفة للانطلاق في هذ الاتجاه، وكان رأيه بشارة وانطلاقاً واسراعاً في الجهاد، وبالفعل كان الفتح حليفاً للمسلمين.
 وكان الخليفة يلتجئ اليه في المسائل المستعصية، فلا يبخل الامام برأيه ومعونته الفكرية والعلمية، سأله اليهود فأجابهم عن مسائلهم، وحينما سألوه عن خصوصيات رسول الله(ص)قال ابوبكر: "ولكنّ الحديث عنه شديد وهذا عليّ بن أبي طالب" فارسلهم الى الامام(ع)فأجابهم"(19).
وسأله ملك الروم عن مسائل فأخبر بذلك علياً فأجابه، وأراد ان يقيم الحدّ على شارب خمر، فقال الرجل: انّي شربتها ولا علم لي بتحريمها، فارسل ابوبكر الى الامام يسأله عن هذه المسألة المستعصية، فقال: مرّ نقيبين من رجال المسلمين يطوفان به على المهاجرين والانصار وينشدانهم: هل فيهم أحد تلا عليه آية التحريم؟ ففعل،ثمّ خلّى سبيله ولم يحدّه.(20)
 وفي مقام اسناد الدولة كان الامام(ع)لا يتدخل في الامور الجزئية التي لا ضرر فيها على المصلحة الاسلامية العليا، أوليست من الامور الاساسية، فلم يحدثنا التاريخ أنّه اعترض على تعيين بعض الولاة أوبعض قادة الجيش، وخصوصاً الذين لا يراهم أهلاً للمسؤولية، ولم يتدخل في تبديلهم أوعزلهم، ولم يقترح تعيين البعض دون البعض الآخر، ولم يعترض على بعض الأخطاء التي ارتكبت، كالتي حدثت في حروب الردّة أوقتال مانعي الزكاة لانّه وجد أنّ غيره قد اعترض عليها.
  وفي مقابل ذلك كان الخليفة ابوبكر يحترم مكانة الامام علي(ع) العلمية والفكرية، وكان يشيد به ويعترف بحقّه وفضله، وكان يمدحه في كثير من المواقف ومن أقواله في حقه: "من سرّه أن ينظر الى أعظم الناس منزلة من رسول الله(ص)وأقربه قرابة، وأفضله دالّةً، وأعظمه غناءً عن نبيّه فلينظر الى هذا"(21).استخلافه على المدينة في عهد الخليفة الثاني
  أصبَحَ عمر بن الخطاب خليفةً بعهد من أبي بكر، وكما هومشهور في كتب التاريخ، وفي هذا العهد لم يستشر ابوبكر علياً في الأمر ولا بقية الكبار من الصحابة، ومع ذلك فانّ الامام (ع) لم يعترض على هذا العهد، وهذا الاستخلاف، بل توجه الى الافاق العليا وانطلق مع الخليفة الجديد لبناء الدولة والامة، ولم يتخلف عن مختلف الأعمال والنشاطات والممارسات الميدانية التي تحتاج الى رأيه وجهده، وكان ينفّذ ما يطلب منه ما دام منسجماً مع أسس وقواعد الشريعة الاسلامية.
  وعلى الرغم من اختلاف وجهات النظر في كثير من القضايا، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع من التفاوت والتآزر تحت ظلّ الافاق العليا للمنهج الاسلامي والمشتركات الثابتة، واذا تتبعنا سيرة الخليفة الثاني نجده لم يعهد الى الامام(ع)منصباً في ولاية ولا إمرة جيش أوفي أي مجال آخر، وكان هذا شأنه مع الكثير من المهاجرين حيث ابقاهم للاستعانة بهم، وكان يستخلف علياً(ع)على المدينة في حال غيابه عنها، وخصوصاً في الوقائع التي يشترك فيها الخليفة أوالمتوقفة على اشتراكه، فقد استخلفه على المدينة في سنة 14 هـ، وفي سنة 15 هـ، وفي سنة 18 هـ (22).
  وكان الامام (ع)لا يمانع من أن يكون خليفة لعمر على المدينة، ولا يرى انّ ذلك يقلل من شأنه أولا يليق بحاله، فهويستجيب لكل عمل وموقف يقع في طريق تحقيق المصلحة الاسلامية، ومن جهة ثانية فإنَّ استخلافه على المدينة يعبّر عن ثقة الخليفة به، وشهادة له بالاخلاص للاسلام والدولة الاسلامية، وايماناً منه بتقدير المصلحة الاسلامية العليا، والعمل الدؤوب من أجل تحقيق وحدة الدولة والامة.الاخلاص في النصيحة والمشورة
  كان الخليفة الثاني يستعين باصحاب رسول الله(ص)حينما يريد اتخاذ موقف معين، وكان اختصاصه بالامام علي(ع)اكثر من غيره لايمانه بانّه مخلص في النصيحة والمشورة وانّه لا يفكر باي مصلحة غير المصلحة العامة، وكان الامام (عليه السلام)مخلصاً في النصيحة ما دامت مصلحة الاسلام هي العليا، وقد اثبتت الوقائع هذا الاخلاص وهذا التفاني من أجل المصلحة الاسلامية من خلال المجالات التالية: المجال العسكري
  شاور الخليفة الثاني الامام علياً(ع)في الخروج الى غزوالروم، فنصحه بعدم الخروج بنفسه وقال له: "إنك متى تسر الى هذا العدوبنفسك فتلقهم فتنكب لا يكن للمسلمين كهف دون أقصى بلادهم، ليس بعدك مرجع يرجعون اليه، فابعث اليهم رجلاً مجربا واحفز معه أهل البلاء والنصيحة، فإن أظهر الله فذاك ما تحب وان تكن الاخرى، كنت ردءاً للناس ومثابة للمسلمين"(23).
  وحينما أراد غزو نهاوند نصحه الامام(ع)بالبقاء في المدينة، وقال له: "أما بعد يا أميرالمؤمنين، فانّك ان اشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم الى ذراريهم، وان اشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة الى ذراريهم، وانّك ان شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك الأرض من أطرافها واقطارها ... اقرر هؤلاء في امصارهم، واكتب الى أهل البصرة فليتفرقوا فيها ثلاث فرق... ولتسر فرقة الى اخوانهم بالكوفة مدداً لهم، انّ الاعاجم إن ينظروا اليك غداً قالوا: هذا أمير العرب وأصل العرب، فكان ذلك أشدّ لكلبهم وألّبتهم على نفسك"(24).
  فقد راعى الامام المصلحة الاسلامية العليا في هذا الرأي، ولم يفكر بالتخلص من الخليفة بتشجيعه على الذهاب بنفسه للمعركة وللقتال، كما يفعل الطامعون بالسلطة، فالمصلحة مقدمة على جميع المصالح الخاصة والذاتية والمحدودة.
  وفي واقعة اخرى اشار عليه بالخروج بنفسه، فحينما تَحَصَّنَ المشركون ببيت المقدس أجابوا الى الصلح بشرط قدوم الخليفة عليهم، فاستشار الامام بذلك فاشار عليه بالمسير اليهم "ليكون أخفّ وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم"(25).
  وقال له: "إنّ القوم قد سألوك المنزلة التي لهم فيها الذلّ والصغار ونزولهم على حكمك عزّ لك وفتح للمسلمين... حتّى تقدم على أصحابك وجنودك، فإذا قدمت عليهم كان الأمر والعافية والصلح والفتح ان شاء الله" فأخذ عمر بمشورته (26).المجال القضائي
  كان الخليفة الثاني يستعين برأي الامام ويقدّمه على جميع الصحابة، وكان الامام(عليه السلام)يسانده ويؤازره في اختيار الحكم أوالموقف الأصوب، وكان يتدخل ابتداءً لتغيير حكم أوتنفيذه، فالمصلحة هي الحاكمة على جميع مواقفه وممارساته، وكان الخليفة يمتدحه بعد نجاح الموقف ويرى أنّه السبب في انقاذه من المواقف الحرجة في القضاء والحكم بين الناس.
  استشاره في عقوبة شارب الخمر فأشار عليه أن يجلده ثمانين فأخذ بمشورته وجلد في الخمر ثمانين(27).
  وارتاعت امرأة من عمر وسقط جنينها فاشار عليه ان يضمن الدية، فقال عمر: صدّقتني.(28).
  وذكر الطبري بعض الروايات في الاستعانة بالإمام في القضاء، وكان يتدخّل أحياناً دون استشارة ليغيّر الحكم، فيمضي الخليفة حكمه وان كان مخالفاً لرأي الخليفة ومن ذلك:
  - تدخله في منع رجم امرأة حامل.
  - خلّى سبيل امرأة اضطرها رجل للفاحشة.
  - أراد عمر رجم امرأة ولدت لستة أشهر فمنعه الامام فرجع عن قراره.
  - لم يرجم امرأة محصنة باشرها غلام لم يبلغ اعتماداً على مشورة علي(ع)أو تدخلاً منه.
  - قام بتأديب رجل دون علم الخليفة ودون أمره، وكان جوابه للامام أحسنت يا أبا الحسن.(29)
  ولا يجد الخليفة بأساً في توجيه أنظار الناس الى كفاءة عليّ(ع) والى اعلميته، سأله رجل حول حلّية زوجته التي طلقها مرة وهومشرك ومرّتين وهومسلم، فقال الخليفة عمر: كما أنت حتى يجيء عليّ، فأتى عليّ فقال: "هدم الاسلام ما كان قبله" واعتبرها تطليقتين، وقد أخذ برأي عليّ(ع).مجال الثروة
  بذل الامام ما يمكن بذله من إبداء النصح والتوجيه في مسألة تداول الثروة ليكون اسلوب التداول منسجماً مع أساسيات الشريعة الاسلامية ومع المصلحة العامة للدولة وللامة وللاسلام.
  وأول بادرة للاستشارة حينما أراد الخليفة معرفة حقّه في بيت المال، قال له الامام: "ما أصلحك وأصلح عيالك بالمعروف، ليس لك من هذا المال غيره" فقال الصحابة: القول قول ابن أبي طالب(30).
  وشاور الصحابة في سواد الكوفة، فقالوا له: نقسمها بيننا، فشاور علياً(ع)فقال: "ان قسمتها اليوم لم يكن لمن يجيء بعد ناشيء، ولكن تقرّها في أيديهم يعملونها، فتكون لنا ولمن بعدنا"(31).
  وكان متردداً في خزائن بيت المال وما فيها من أموال وسلاح، أيتركها أم يوزعها، فقال له الامام(ع): "...لست بصاحبه انّما صاحبه منّا شاب من قريش يقسمه في سبيل الله في آخر الزمان" (32).
  وحينما وضع الدواوين وفرّق بين المسلمين بالعطاء على أساس السبق في الايمان والهجرة لم يعترض الامام (ع) على طريقة التوزيع، وان كان قد ساوى في العطاء في وقت خلافته كما يذكر جميع المؤرّخين، فقد يكون مراعياً للظروف الموضوعية في ذلك، أوعدم رغبته في مخالفة الخليفة أوالصحابة، أوانّ اسلوب التداول والعطاء من صلاحيات الخليفة في حدود المصلحة العامة، ولا محذور شرعي فيه، وعلى العموم فانّ الامام لم يعترض على طريقة التوزيع، وما يخالف رأي الخليفة في حينه، ولم تذكر المصادر ذلك.ترشيد سيرة الدولة والاخلاص في المشورة
  كان الخليفة الثاني يستعين برأي الامام(ع)في جميع جوانب الحياة وفي جميع المرافق التي تحتاج الى مشورة والى تسديد وتوجيه، وكان الامام(عليه السلام)يبدي توجيهاته ونصائحه لترشيد سيرة الدولة بما ينسجم مع المصلحة الاسلامية العليا.
  في مسألة كتابة التاريخ كان رأي بعض الصحابة ان يكتب من تاريخ وفاة رسول الله(ص)وكان رأي عمر أن يكتب من تاريخ المبعث، وكان رأي الامام(عليه السلام)أن يكتب من يوم الهجرة الى المدينة، واستقرّ الأمر على رأي الامام، كما هومشهور في التاريخ (33).
  وأراد الخليفة بيع أهل السواد فقال الامام(ع): "دعهم شوكة للمسلمين" فتركهم على أنّهم عبيد (34).
  وبلغه أنّ أحد عمّاله باع ما يحرم بيعه وجعل الثمن في بيت المال فاستشار الامام(ع)فقال: "امّا ان تعزله وإمّا ان تكتب اليه أن لا يعود" (35).
  وهنالك وقائع عديدة عمل بها الامام(ع)لترشيد سيرة الدولة والاخلاص في النصيحة والمشورة، لا يسع البحث ذكرها.التعاون الميداني
  لم يتخلف أنصار الامام علي(ع)عن جميع النشاطات والفعاليات الميدانية، فقد تعاونوا مع الدولة وان لم يكن عليّ(ع)على رأسها وشاركوا في الغزوات والفتوحات التي قادها الخليفة أومن نصّبه قائداً عسكرياً تبعاً لإمامهم الذي ربّاهم على تحكيم المصلحة الاسلامية العليا على جميع المصالح، وتقديم الوحدة الاسلامية على جميع الانتماءات والولاءات، فاشترك ابناء عمّه العبّاس فيها، واشترك ابناء اخيه جعفر فيها، وقد استشهد محمد بن جعفر في تستر، واشترك عمّار بن ياسر وسلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان وجابر بن عبدالله في اغلب الغزوات والفتوحات (36).
  وقد اطاعوا الخليفة وامراءه وقادة جيشه كما لوكان الامام هوالخليفة الفعليّ، وقد اخلصوا لهذه الدولة متعالين على جميع الفواصل الجزئية مادام المنهج الاسلامي هوالمحور المشترك للجميع، وما دامت المصلحة الاسلامية ووحدة الدولة والامة هي النتيجة النهائية لهذا التفاوت الميداني.
  واستعان الخليفة الثاني بأنصار الامام(ع)في اعماله، ايماناً منه باخلاص إمامهم واخلاصهم وسعيهم للوحدة والاتحاد، فعيّن سلمان والياً على المدائن، وعمّار على الكوفة، واسند بعض المناصب الحساسة لانصاره الآخرين; فكان بعضهم حلقة الوصل بين الخليفة وقادة الجند (37).
  وقد اخلصوا في أعمالهم كما اخلص الامام في مشورته متوجهين نحوالآفاق العليا والمصالح المشتركة.
  وقد عبر الخليفة عن مواقف الامام وسعيه الميداني للحفاظ على الوحدة وعلى تحقيق المصلحة العليا، ومن ذلك اقواله المتواترة بحقه ومنها "لا أبقاني الله بعدك يا أبا الحسن" و"أعوذ بالله أن أعيش في يوم لست فيه يا أبا الحسن" و"لولا علي لهلك عمر"(38).مراعاة الوحدة في الموقف من الشورى
  حينما طعن الخليفة الثاني جعل أمر الخلافة بيد ستّة من الصحابة يختارون أحدهم خليفة للمسلمين، وكان الامام يتوقع النتائج طبقاً للظروف وللشروط الموضوعة، ومع علمه بالنتائج إلاّ انه قبل الاجتماع واشترك فيه حفاظاً على وحدة المسلمين ومراعاة لها وللمصلحة الاسلامية العليا، وقد صرّح برفضه للخلاف حينما قال له عمّه العباس: لا تدخل معهم، فكان جوابه "انّي اكره الخلاف" (39).
  وحينما تمخضت النتائج بترشيح عثمان بن عفان خليفة من قبل عبدالرحمن بن عوف، اكتفى الامام(ع)بالقول: "ليس هذا أوّل يوم تظاهرتم فيه علينا"، "فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون"(40).
  فقد عبّر عن رأيه بلا موقف سلبي، وقال لعبد الله بن عباس: " إنّي رأيت الجميع راضين به فلم أحبّ مخالفة المسلمين حتّى لا تكون فتنة بين الأمّة".(41)
  ووضع ميزاناً ثابتاً في التعامل مع الخلافة والخليفة فقدم مصلحة الاسلام العليا على غيرها، وقدّم الوحدة الاسلامية على جميع المغانم والمكاسب الآنية والذاتية فخاطب أهل الشورى قائلاً: "لقد علمتم أنّي أحقّ بها من غيري، ووالله لأسلمنَّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور الاّ عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيها تنافستموه من زخرفه وزبرجه"(42).
  وكان يقول: "فنظرت في أمري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي، وإذا ميثاقي قد أخذ لغيري، فبايعت عثمان فأديت له حقه" (43).التعاون الميداني
  وقف الامام بجانب الخليفة الجديد وتعاون معه لتحقيق الهدف الاكبر وهوتقرير مبادئ الاسلام في واقع الحياة، وممّا نسب اليه في هذا الأمر قوله: "لوسيّرني عثمان عنه الى مرار لسمعته وأطعت الأمر"(44) ومرار موقع على بعد عّدة أميال من المدينة.
  واشترك أنصار الامام في الغزوات والفتوحات، فقد اشترك ابوايوب الانصاري وابوذر الغفاري في بعض الغزوات، واشترك عبدالله بن عباس في فتح افريقية، وقد وردت عدة روايات تنص على اشتراك الحسن والحسين وعبدالله بن عباس وغيرهم في غزوطبرستان بأمرة سعيد بن العاص.(45)
  وهذه المشاركة تدلّ دلالة واضحة على تأييد واسناد الامام للغزوات والفتوحات; لانّها بالنتيجة تقع في طريق المصلحة الاسلامية العليا متمثلة بالدعوة الى الاسلام وإلى توسيع رقعة الدولة الاسلامية وفرض سلطانها على أرجاء الأرض.
  وايماناً من الخليفة الثالث باخلاص الامام علي(ع)للاسلام وجهاده من أجل المصلحة العليا ووحدة المسلمين كان يستعين برأيه لترشيد وتسديد المسيرة، وكان الامام يتدخل أحياناً لتغيير بعض قرارات الحكم وان لم يستشر بها.
  فقد تدخل لمنع اجراء الحدّ على امرأة بعد ثبوت براءتها بالادلة الحية.(46)
  وقد وردت روايات عديدة تنص على أنّ عثمان إذا جاءه الخصمان قال لأحدهما: اذهب ادع علياً.(47)
  واتفق رأيهما في جمع المصاحف على قراءة واحدة.(48)
  وكان يستشيره في اختيار الموقف المناسب من المعارضين لسياسته، فيشير عليه باصلاح الأوضاع وتغيير بعض الولاة(49).
  وكان الخليفة يترك له حرية الرأي وحرية اتخاذ الموقف وان كان مخالفاً لرأيه(50).مراعاة المصلحة الاسلامية والوحدة في أجواء الفتنة
  راعى الامام (عليه السلام) المصلحة الاسلامية العليا والوحدة الاسلامية في موقفه من الفتنة بين الخليفة والمعارضين، فقد خلق هذا الخلاف جواً من الاضطراب والتخلخل في تماسك ووحدة الكيان الاسلامي، وفي ظل هذه الاجواء المضطربة لم ينعزل الامام عن الاحداث وعن الميدان، وانّما قام بواجبه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظاً على تماسك الكيان الاسلامي وعلى سلامة تطبيق المنهج الاسلامي من قبل الخليفة والولاة والامة، وكان يحاول تهدئة الأوضاع والعلاقات المتشنجة لكي لا تحدث الفتنة وتتوسع ولكي لا يتمزق الكيان الاسلامي.
  وقد حذّر الامام الخليفة من بعض الولاة الذين سببوا إثارة المعارضين لانهم يدّعون أنّ مواقفهم واعمالهم كانت بأمر من الخليفة.(51)
وكان ينصح الخليفة للحيلولة دون تفاقم الاوضاع وكان يرشده الى اتخاذ الموقف الأصوب ويقول له: "أمّا الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها باباً واسهّل اليها سبيلاً، ولكنّي أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه، وأهديك الى رشدك، ألا تنهي سفهاء أميّة عن أعراض المسلمين وأموالهم، والله لوظلم عامل من عمّالك حيث تغرب الشمس لكان إثمه مشتركاً بينه وبينك".(52)
  وكان يحذره من مروان بن الحكم ومن الأخذ برأيه لكي لا تتأزم الاوضاع اكثر فأكثر.(53)
  وكان الوسيط بين الخليفة والمعارضين، وكان الخليفة يدعوه أحياناً للتدخّل من أجل تهدئة الأوضاع، قال له في أحد المواقف: "... أرددهم عنّي فانّي أعطيهم ما يريدون من الحقّ من نفسي ومن غيري".
  فقال له الامام(ع): "انّ الناس الى عدلك أحوج منهم الى قتلك وانّهم لا يرضون إلاّ بالرضا، وقد كنت أعطيتهم من قبل عهداً فلم تف به، فلا تغرر في هذه المرة، فانّي معطيهم عنك الحق".
  قال: اعطهم فوالله لأفينّ لهم.
  فخرج الامام(عليه السلام)الى المعارضين فقال: "إنّكم انّما تطلبون الحقّ وقد أعطيتموه وإنّه منصفكم من نفسه".
  وكتب الخليفة كتاباً للمعارضين على ردّ كلّ مظلمة، وعزل كلّ عامل كرهوه، فكفّوا عنه (54).
  وتأزمت الاوضاع ثانية حينما خطب مروان في المعارضين وقبّحهم دون علم الخليفة، فتدخل الامام مرّة ثانية فأرجع المعارضين ثم حذره من مروان.(55)مراعاة المصلحة والوحدة في أجواء الحصار
  فشلت جميع محاولات الامام للمصالحة بين عثمان والمعارضين، لأنهم أصرّوا على تسليم مروان وأصرّ  على عدم تسليمه، وبدأ الحصار ليستمر أربعين يوماً، وفي فترة الحصار حاول الامام تهدئة الأوضاع إلاّ أنّ الظروف لم تساعده ومع ذلك استمر على نهجه في اخماد الفتنة والحفاظ على وحدة الدولة والأمة.
  وقد وردت الاخبار انّ الخليفة اشتكى من موقف طلحة، فتوجه الامام اليه، ونصحه بعدم المساهمة في تأزيم الاوضاع، الاّ انه لم يستجب للامام.
  فانصرف الامام حتى أتى بيت المال، فقال: افتحوه، فلم يجدوا المفاتيح، فكسر الباب ووزع أمواله على المجتمعين فتفرقوا عن طلحة حتى بقي وحده.
  وحينما سمع الخليفة بهذا الموقف سرّه ذلك.(56)
  وحينما اشتدّ الحصار نصح الامام المعارضين بعدم قطع الماء عنه، فلم يستجيبوا له، فبعث اليه ثلاث قرب مملوءة بالماء.(57)
  وبعث اليه الخليفة فأتاه، فتعلق المعارضون ومنعوه، فحلّ عمامة سوداء على رأسه ورماها داخل بيته ليعلمه وقال: "اللهم لا أرضى قتله... والله لا أرضى قتله".(58)
  وحينما أصبح الحصار اشدّ وطأة خرج الامام ومعه الحسن والحسين(ع) فحملوا على المعارضين وفرّقوهم ثم دخلوا على الخليفة فأعفاهم من الدفاع عنه فخرج الامام وهويقول: "اللهم انّك تعلم أنّا قد بذلنا المجهود".(59)
  وفي رواية أرسل الامام(ع)أولاده في الدفاع عنه فمنعوا المعارضين من الدخول الى منزله، وقد أصابت الحسن(ع)عدّة جراحات في الدفاع عنه.(60)الحفاظ على وحدة الخلافة
  في فترة الحصار توجه عدد كبير من المسلمين الى الامام(ع)ليصلّي بهم جماعة لعدم قدرة الخليفة على اقامتها، ولكنّ الامام علي(ع) رفض هذا الطلب وأجابهم: " لا اصلي بكم والامام محصور ولكن اصلّي وحدي" (61).
  فقد رفض الامام أن يصلي بالمسلمين وان وجد المبرّر لذلك، من اجل المحافظة على وحدة الصف الاسلامي ووحدة الخلافة، وليحافظ على حرمة وقدسية الخلافة، وللحيلولة دون حدوث تصدّع في الجبهة الداخلية ودون حدوث خلل واضطراب في العلاقات بين الصحابة وبين المسلمين عموماً، فقد كان منقاداً للمصلحة الاسلامية العليا، ولوحدة الكيان الاسلامي.
  وبقي الامام(ع)على موقفه في تهدئة الأوضاع واصلاحها الاّ انّ الظروف لم تسمح له بذلك وتأزمت اكثر فاكثر وأدّت الى مقتل الخليفة والى حدوث الفتنة الكبرى.مراعاة المصلحة والوحدة الاسلامية في حرب الجمل
  جميع مواقف وقرارات الامام (ع) لا تخرج عن مراعاة المصلحة الاسلامية العليا، ووحدة الدولة والامامة، فهي الحاكمة على كل شىء، فقد راعاهما معاً في سلمه وحربه وكان حريصاً على عدم اراقة دماء المسلمين.
  والامام(ع)لم يقاتل معارضيه لمجرد رفض البيعة لأنّها أمر اختياري وانّما قاتلهم حينما بدأوا يخططون لتمزيق الأمة والدولة بتحويل هذا المخطط الى واقع عملي، فحينما نكث طلحة والزبير البيعة وارادوا تفريق المسلمين تهيأ الامام(ع)لاعادتهم الى الطاعة وللحيلولة دون تمزق الدولة والامامة، وممّا قاله في ذلك: "انهضوا الى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم، لعلّ الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق... الا وانّ طلحة والزبير وأم المؤمنين قد تمالأوا على سخط امارتي، وسأصبر ما لم أخف على جماعتكم"(62).
  وقد حاول مرات عديدة للحيولة دون وقوع الحرب الاّ انّ الاوضاع لم تساعد على ذلك، فقد حاور الزبير وذكّره بحديث لرسول الله(ص) فانصرف الزبير وانسحب من المعركة(63).
  ولم يدخل في حرب معهم الاّ بعد قيامهم بممارسات مخالفة لوحدة المسلمين حيث قتلوا سبعين رجلاً من اتباع عثمان بن حنيف والي البصرة من قبل الامام(ع)، واستمروا على التمرد، ولم يستجيبوا لنداءات الصلح فقد بعث الامام لهم شاباً ومعه مصحف يدعوهم للتحاكم اليه الاّ انهم قتلوه، فقال الامام: "الان حلّ قتالهم"(64).
  ولم يستمر في ملاحقتهم بعد هزيمتهم وحقن دمائهم، لانّ هدفه الاساس هوالحفاظ على وحدة المسلمين ووحدة الدولة الاسلامية وقد قاتلهم بعد ان وجد الطريق مغلقاً فليس امامه الاّ القتال وهوالوسيلة الوحيدة لاخماد التمرد الذي يهدد وحدة الدولة الاسلامية.مراعاة المصلحة والوحدة الاسلامية في حرب صفين والنهروان
  وجه الامام(ع)جرير بن عبدالله البجلي الى معاوية يدعوه الى الطاعة ويدعوه الى حقن الدماء، ثم وجّه جماعة اخرين الاّ انّ معاوية لم يستجب لذلك وقال لهم: "انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم الاّ السيف"(65).
  وكتب الى معاوية: "انّما انت رجل من بني امية، وبنوعثمان أولى بمطالبة دمه، فان زعمت أنّك اقوى على ذلك، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكم القوم اليّ(66).
  فقد اراد الامام(ع)معالجة الموقف معالجة هادئة سلمية الاّ انّ معاوية أبى الاّ التمرد على الخليفة وعلى الدولة الاسلامية، وقد شق وحدة المسلمين بتمرده هذا، فقاتله الامام دفاعاً عن وحدة المسلمين وحفاظاً على المصلحة الاسلامية العليا، وحينما وجد انّ الامام سينتصر عليه التجأ الى رفع المصاحف والتحاكم اليها وقد انطلت هذه اللعبة على عدد كبير من جيش الامام (ع)فأجبروه على التحكيم فتحاكم مع معاوية.
  وبعد التحكيم رفض جماعته التحكيم نفسه ثم تمردوا على الامام وعلى دولته وبدأوا يقطعون الطريق ويقتلون كل من وجدوه مؤيداً للامام(ع)، وقد بعث الامام اليهم من يكلمهم ليعودوا الى الصف الاسلامي فعاد اكثر من نصفهم وبقي الآخرون على تمردهم فبعث اليهم الحارث العبدي يدعوهم للرجوع فقتلوه، ثم أجابوا الامام: "نحن مستحلون دماءهم ودماءكم"(67).
  وكانت توصيات الامام(ع) لجماعته: "كفّوا عنهم حتى يبدؤوكم"(68) فكان حريصاً على عدم اراقة الدماء الاّ انهم أبوا في التمرد وتمزيق أواصر الوحدة فقاتلهم الامام(عليه السلام)من أجل وحدة الدولة والامة.
  ومن توصياته عدم مقاتلة الخوارج لمجرد انهم ينتمون الى هذه الفئة لانّ ملاك القتال هوالتمرد على السلطة المركزية العادلة وخلخلة الاوضاع الداخلية المؤدية التى تمزيق الصف الاسلامي، وليس الملاك مجرد الانتماء أوتبيان وجهة النظر المخالفة، وقد تواترت الروايات انّه(ع)لم يمنع الخوارج من الاجتماعات داخل المسجد ولم يمنعهم من العطاء ما داموا غير متمردين عسكرياً، وكانت آخر وصاياه: "لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه"(69).

------------------------
1 - تاريخ اليعقوبي 2: 124.
2 - الامامة والسياسة 1:11.
3 - الامامة والسياسة 1 : 12.
4 - نهج البلاغة : 503.
5 - تاريخ الطبري 2 : 236.
6 - بحار الانوار 28 : 310، محمد باقر المجلسي - مؤسسة الوفاء - بيروت - 1403 هـ.
7 - شرح نهج البلاغة 1: 308.
8 - شرح نهج البلاغة 6: 95.
9 - شرح نهج البلاغة 1: 307.
10 - الاخبار الموفقيات: 581.
11 - الكامل في التاريخ 2 : 326.
12 - تاريخ الطبري 3: 205.
13 - الأخبار الموفقيات: 583.
14 - تاريخ اليعقوبي 2 : 128.
15 - المنتظم في تاريخ الامم والملوك 4 : 75.
16 - لا سنة ولا شيعة: 21 - د. محمد علي الزعبي - دار التراث الاسلامي - 1394 هـ.
17 - تاريخ الخلفاء: 57 - عبدالرحمن السيوطي - دار الكتب العلمية - بيروت 1408 هـ.
18 - تاريخ اليعقوبي 2 : 123.
19 - ذخائر العقبى: 80 - محمد بن جرير الطبري - مؤسسة الوفاء - بيروت - 1401 هـ.
20 - مناقب آل أپي طالب 2 : 397 - اين شهر اشوب - دار الأضواء - بيروت - 1412 هـ.
21 - مختصر تاريخ دمشق 17: 320 - ابن عساكر - دار الفكر - دمشق - 1988 م.
22 - الكامل في التاريخ 2: 450 ، 500.
23 - شرح نهج البلاغة 8 : 296.
24 - تاريخ الطبري 2: 524، المنتظم 4: 273.
25 - البداية والنهاية 7 : 55 - ابن كثير - دار الفكر - بيروت -
26 - الفتوح 1: 225.
27 - تاريخ المدينة المنوّرة 2 : 732 - ابن شيّة النميري - مكة المكرمة - 1399 هـ.
28 - انساب الاشراف 2 : 178.
29 - ذخائر العقبى: 81 ، 82.
30 - تاريخ الطبري 2 : 453، المنتظم 4: 197.
31 - تاريخ اليعقوبي : 2: 151، 152.
32 - كنز العمّال 14: 591.
33 - الكامل في التاريخ 2 : 526، تاريخ المدينة المنورة 2 : 758.
34 - مناقب آل ابي طالب 2 : 407.
35 - أنساب الاشراف 2 : 78.
36 - الكامل في التاريخ 2 : 512 ، 3: 9.
37 - الكامل في التاريخ 2 : 512، 548 و3: 9 ، 18.
38 - ذخائر العقبى: 82، تاريخ الخلفاء: 171، الطبقات الكبرى 3: 339.
39 - الكامل في التاريخ 3: 66.
40 - الكامل في التاريخ 3: 71، سورة يوسف: 18.
41 - الفتوح 1: 235.
42 - شرح نهج البلاغة 6: 166.
43 - تاريخ الخلفاء: 141.
44 - تاريخ المدينة المنورة 4: 1201.
45 - الكامل في التاريخ 3: 77، 89، 109.
46 - مناقب آل أبي طالب 2: 413.
47 - السنن الكبرى 10: 112.
48 - الكامل في التاريخ 3: 112.
49 - البداية والنهاية 7: 171.
50 - مسند أحمد 1 : 153، دار احياء التراث - 1414 هـ - ط 2.
51 - تاريخ الطبري - حوادث سنة 34 هـ.
52 - شرح نهج البلاغة 9: 15.
53 - م . ن 9 : 262.
54 - م . ن 3: 151.
55 - تاريخ الطبري - حوادث سنة 35 هـ.
56 - الكامل في التاريخ 3: 167.
57 - تاريخ الخميس 2: 262 - حسين الديار بكري - مؤسسة شعبان - بيروت - بدون تاريخ.
58 - الطبقات الكبرى 3: 68 - ابن سعد - دار صادر - بيروت - 1405 هـ.
59 - تاريخ الخميس 2: 263.
60 - البداية والنهاية 7: 181.
61 - تاريخ الخميس 2: 263.
62 - المنتظم: 5: 78.
63 - مختصر تاريخ دمشق 18: 48.
64 - الكامل في التاريخ 3: 217 - 262.
65 - الامامة والسياسة 1 : 98، مروج الذهب 2: 377.
66 - الكامل للبرد 1: 428.
67 - البداية والنهاية 7 : 287، مروج الذهب 2: 404.
68 - البداية والنهاية 7: 288.
69 - شرح نهج البلاغة 5: 78.
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية