مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الاسلام ووحدة الامة
أ. د. عمر هاشم


رئيس جامعة الازهر الشريفانطلاقا من قول الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون). صدق الله العظيم.
وقد شرع الله لنا في كل صلاة أن نصلي على سيدنا محمد(ص) وأن نقول: اللهم صل على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد(ص).
وقف بعض المحبين لآل البيت ، للأشراف لآل طه حين يريد أن يمدح فلم يمدح. وقال معبرا عن قوله:
قال لــي قائـــل رأيتـــك تهــوى   آل طــــه ودائمـــا تبتغيهــــم
إن حقا عليكم أن تقضي العم    ـر مديحا فيهــــم وفيمـن يليهــم
قلــت لا أستطيع أمـــدح قوم    كـــان جبريل خادمـــا لأبيهـــم
إن  آل بيت سيدنا المصطفى(ص) ومن ينتمون بنسب أو حسب إليهم يقيمون دين الله في الأرض، ويدعون إلى أشرف تراث في الوجود، سلوكا وعملا وتطبيقاً  وفي ذلك ما نحتاجه في موضوعنا اليوم. وهو الدعوة إلى وحدة أمتنا الإسلامية التي أمربها الله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).
وما يعيشه عالمنا الإسلامي اليوم يستوجب على المسلمين حكاما ومحكومين أمما وشعوبا أفرادا وجماعات أن يكونوا على قلب رجل واحد، وأن لا يتبعوا شرقا ولا غربا ولا سياسات أجنبية، ولا دعوات معادية لهذا الدين.
فقبل أن يأمرنا ربنا بأن نعتصم بحبل الله جميعا حذرنا أن نتبع أو أن نطيع أعداء هذه الأمة: (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين، وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم).
قبل أن تأتي الدعوة لبناء هذه الأمة وتوضيح القرآن لأسس قيام هذه الأمة، يحذرنا أن لا نأخذ توجيهاتنا من شرق  أو غرب، فتوجيهاتنا والحمد لله في ديننا الحنيف، ثم يرسي هذه المبادئ لقيام هذه الأمة، ويأتي في طليعتها أن نوثق الصلة بالله قيوم السماوات والأرض، عن طريق العقيدة الصحيحة، عن طريق الإيمان بالله سبحانه، فنادانا بوصف الإيمان الذي يقتضي سرعة الإجابة: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).
إنه يرسي الأساس الأول وهو الإيمان، لأنه هو الذي تقوم عليه الدولة الإسلامية والأمة الإسلامية، وعلى أساسه تتوحد في كل ربوعها، وفي كل بقاعها.
ثم يأتي المبدأ الثاني لقيام هذه الأمة بتنفيذ المنهج الرباني، وذلك بأن نتقي الله حق تقاته، وكما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر.
وحين ننفذ هذا المنهج الرباني بأن نتقيه حق تقاته في أقوالنا وأفعالنا، في مناهجنا وسلوكنا، تعليمنا وفي اقتصادنا، وفي كل حياتنا يأتي المبدأ الثالث، وهو حين يتحدث عنه  وهو الاعتصام بحبل الله جميعا، يقول في نهاية الآية: (اتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
و غرب
وهل يستطيع الإنسان أن يعرف ساعة موته؟ هذا غيب، ولكنه يريد أن يوقفك يوما تريد أن لا ترحل عن دنياك إلا على كلمة التوحيد والإسلام، يريدك أن تكون مسلما دائما مطبقا لأمور دينك أبدا، بحيث لاتنفك عنه بحال من الأحوال، مهما كانت رياح التغيير، مهما كانت عواصف الفتن.
فقد حذرنا منها سيدنا المصطفى(ص) حين قال: "ستكون فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع دينه بعرض من الدنيا، القابض على دينه فيها كالقابض على الجمر". فيعزز هذا الإيمان ويؤكد على استمراره فيقول: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
ثم يأتي المبدأ الثالث: (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا)،  والاعتصام معناه: أن نتقوى وأن نتوحد، وأن نمتنع من أي اختراق أجنبي، لأن المعتصم هو الممتنع بقوته، وبما يجمعه من عتاد وتوحيد: اعتصموا بحبل الله بدين الله، بالقرآن الكريم بأمان الله بعهده. يقول المفسرون كل ذلك، ويجمع ذلك كله الدين العالمي الذي بعث به سيدنا رسول الله(ص) رحمة للعالمين، (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا).
وهنا يحدث في سبب نزول هذه الآية ما أورده بعض المفسرين من أن اليهود لما دسوا عندما رأوا ما صار إليه حال الأوس والخزرج، بعد أن كانوا في حروب متطاحنة، وجاء الإسلام فجمعهم على كلمة الحق. غاظهم ذلك، فبعثوا أحدهم يحرك الشجن ويذكر بما كان من حروب، وبموقعة بعاث، حتى تحرك القوم وحتى كادوا يتقاتلون، ويمسكون بالسيوف، فلما علم النبي(ص) بذلك جاءهم وذكرهم، وقال: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟". وذكرهم وأنهم كانوا قبل ذلك في حروب، وما ذاقوا الأمان إلا بنعمة الإسلام. (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا، وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون).
هذه الأسس الثلاثة لبناء الأمة الإسلامية، يتبعها رسالة لهذه الأمة التي قامت على هذه الأسس المنيعة، صلة وثيقة بالله، تنفيذ لمنهج الله، توحيد للصف الإسلامي، ولجموع الأمة في كل ربوعها، بعد ذلك يمكنها أن تؤدي رسالتها. وهذه الرسالة يتحدث القرآن عنها: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون).
هذه الأمة التي تدعو إلى الخير أهلها القدر لذلك إنها مؤهلة لذلك، وإنها مؤتمنة على هذه الدعوة. إن أمتنا الإسلامية مؤتمنة على أن تبلغ دعوة الخير إلى كل الناس، لأن الوحي الإلهي نزل بلغتها وعلى أرضها، وجاءها رسول من أنفسنا. من أجل ذلك كانت مؤهلة لأن تدعو إلى الخير، ولكي تقوم بالأمر والنهي.
الآمر والناهي لابد أن يكون ذا قوة ولابد أن يكون ذا ريادة، لابد أن يكون ذا منعة فيدعوهم بهذه الرسالة أن يتبوأوا مكانتهم حتى يستطيعوا أن يدعوا الناس إلى الخير، وأن يأمروا بالمعروف، وأن ينهوا عن المنكر، وأن يناهضوا الفساد في كل أوكاره، وأن ينقوا المجتمع من جيوب أولئك المفسدين والمتحللين، حتى تنهض هذه الدعوة التي ختم الله بها دعوات السماء، وختم بقرآنها الكتب المنزلة، وختم برسولها سيدنا محمد(ص) جميع الأنبياء والمرسلين فكان متمما لصرح الرسالات كما قال(ص) : "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأجمله وأحسنه، إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟! فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين".
إذن هي مؤهلة لذلك. بكل هذه الخصائص، ومن أجل ذلك جاء الوصف اللائق، جاءت المكانة التي أبرزها القرآن الكريم، آيات خالدة أبد الدهر، تصف الأمة الإسلامية: (كنتم خير أمة أخرجت للناس)، كنتم خير أمة، هذه الخيرية ليست مجاملة، ليست محاباة، ليست مصادفة، وإنما خيرية هذه الأمة جاءت جزاء وفاقا لما تؤديه من رسالة.
فالأمم السابقة كانت مكلفة بشيء واحد. أن تستجيب لرسولها الذي جاءها، فتطيع، تؤمن وتطيع. أما هذه الأمة فهي مكلفة بما كلفت به الأمم السابقة، الإيمان والطاعة ولكنها تزيد على الأمم السابقة. ومن هنا جاءت خيريتها. تزيد أنها تقوم بالدعوة، بعد أن يلحق رسولها(ص) بالرفيق الأعلى، تقوم بمهمته ورسالته.
ولذلك العلماء ورثة الأنبياء، ولذلك تنهض هذه الأمة بهذه الدعوة بعد أن يلحق رسولها(ص) بالرفيق الأعلى تظل تدعو إلى الله، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، إلى أن يقوم الناس لرب العالمين، من هنا كانت خيريتها، لأنها زادت على الأمم السالفة بقيامها بمهمة رسولها، لماذا؟ لأن كل نبي كان يبعث إلى قوم معينين، وزمان معين. لكن دعوة سيدنا محمد(ص) رسالته عامة وخالدة إلى يوم القيامة،  ولأجل أن يظل هذا الخلود باقيا إلى يوم القيامة، لابد بعد أن يلحق بالرفيق الأعلى من أن تنهض الأمة بذلك، فكان هذا الوصف الذي يبين أنها أخرجت، أراد القدر لها أن تخرج آخر الزمان، وأن تكون خاتمة الأمم، وأن تكون رسالتها خاتمة الرسالات.
لكن كيف تتبوأ هذه المكانة؟ تبوأتها في عهود سلفت، وكانوا قاعدة الأمة وروادها، واقتبس العالم عنهم حضارتهم، لكن حين تركت هذا المنهاج وتقاعست، أخذ آخرون يسحبون البساط من تحت أقدامها، ولا عودة إلى هذا المجد الخالد إلا بما رسمه هذا المنهج الرباني. من هذه الأسس، ومن تلك الرسالة، ومن هذه السمات التي وضعها.
لابد من قيام وحدة، فإننا بدونها نكون ضعفاء، لانستطيع أن نقوى على مواجهة تلك الفتن، وتلك التحديات التي تحاول أن تغرق أمتنا الإسلامية، وأن تستضعفها. ومن هنا ننظر إلى تلك العقبات التي زرعت ألغاما في طريق وحدة أمتنا ونصرتها، ويواجهنا من بين هذه العقبات طوائف وفرق، وجماعات وخلافات وتيارات.
وهنا لابد أن تكون لهذه الأمة وقفة من هذه الشرائح والتيارات والطوائف، التي تعمل على التشرذم والتفرق ، لأن ديننا يدعونا أن نكون وحدة واحدة، ولو نظرنا إلى توجيه رسولنا(ص) في هذا الصدد، لوجدناه يخرج أولئك الذين يحاولون تمزيق الأمة إلى طوائف وجماعات وتيارات، ويقول(ص) "من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمية يدعو لعصبة، أو يغضب لعصبة أو ينصر عصبة فقتل، فقتلته جاهلية، ومن خرج على أمتي، يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده، فليس مني ولست منه". أخرجه مسلم حديث رقم 1848 يتبرأ سيدنا رسول الله(ص) ممن يحاولون تفريق الأمة وتمزيق وحدة هذه الأمة، يتبرأ منهم، حتى الذين يضربون البر والفاجر؟!
البر الطائع أمره واضح إذا ضرب فإن الإثم يقع على ضاربه، لكن حتى الفاجر يا رسول الله؟ نعم. لأنه ليس لأحد من أفراد الأمة أن يعتدي على أحد كائنا من كان حتى ولو ارتكب ما ارتكب، لأن ذلك بيد ولي الأمر وحده، وليس لأفراد الأمة، وإلا تصبح الحياة فوضى، وتنتقل الحياة إلى أساليب وحوش الغاب، وسياسة الغاب.
أيضا بين لنا في هديه الشريف وكأنه ياتينا اليوم في موقف سأله فيه حذيفة، ونقل هذا الحوار صحيح البخاري، وصحيح مسلم،  وغيرهما من الكتب المعتمدة، حين قال حذيفة رضي الله عنه: كان الناس يسألون رسول الله(ص) عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت يارسول الله: إنا كنا أهل جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم"، قال: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال:"نعم، وفيه دخن"، قلت: وما دخنه؟ قال: "قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"، قلت: وهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: "نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها". قلت: صفهم لي يارسول الله. قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا" قلت: فما تامرني إن أدركني ذلك. قال: "إلزم جماعة المسلمين وإمامهم". قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال: "اعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك" صدق رسول الله(ص).
يعني عندما قال له وسأله ماذا نفعل؟ لم يقل له اتبع الفرقة التي تتمسك بالعبادة أكثر، ولم يقل اتبع الطائفة أو الجماعة التي تفعل كذا وكذا أبدا. قال له: ماذا أفعل؟ قال: "اعتزل تلك الفرق كلها" أي أن عليك أن تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. هذا في أول توجيه له. يتبع أية فرقة؟ قال: اتبع جماعة المسلمين وإمامهم. قال: إن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ حتى في هذه اللحظة. قال: "اعتزل تلك الفرق كلها".
معنى هذا أن هذا التمزق، وأن هذا التشرذم وأن هذه الجماعات والطوائف، تضعف من هذه الأمة ولا تجعلها تتبوأ المكانة التي أحلها الله سبحانه وتعالى إياها. وبهذا عالج الإسلام هذه العقبة الكؤود الأولى، وهي وجود هذه الجماعات والطوائف والفرق التي تفتت وحدة الأمة.
أما العقبة الثانية: في طريق وحدة أمتنا الإسلامية، فهي بعض خلافات، هي في الواقع هينة تحدث بين المفكرين والعلماء والدعاة والفقهاء والمفتين، وهي موجودة في الفقه الإسلامي. والاختلاف ووجهات النظر ألف فيها كتب، ولو نظرنا إليها النظرة الحقيقية لوجدناها من رحمة الله سبحانه وتعالى، توجد اتساعا في الدين، وليس فيها تضييق.
لكن بعض الذين ضخموا هذه الخلافات الهينة والاجتهادات البسيطة، وبعض الذين تحجروا ورأوا أن كل رأي سوى رأيهم خطأ. هم الذين أحدثوا هذه المشكلة، وتلك العقبة . لكن لننظر إلى سلفنا: رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.
الإمام الشافعي صلى الصبح في مسجد الإمام أبي حنيفة، فلم يقنت في صلاة الصبح، قيل له: أليس القنوت في مذهبك سنة، وأنت ترى ذلك؟ قال بلى! ولكن أخالفه وأنا في حضرته؟! الإمام أبو حنيفة ليس عنده القنوت، فلم يتعصب الإمام الشافعي لرأيه. هكذا كان سلفنا وأئمتنا الشامخون.
الإمام مالك لما كلفه الخليفة أن يدون كتابا يتحاشى فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، وشواذ ابن مسعود، وقال له : اقصد إلى أواسط العلم. فشمر عن ساعد الجد، وصنف الموطأ وواطأه الناس عليه ووافقه أهل عصره وعلماء عصره. ومهد فيه المسائل العلمية، فأعجب الخليفة به، ورأى أن يلزم به كل الأمصار الإسلامية. وأي مؤلف أو مصنف لكتاب إن قيل له ذلك يسر، خاصة إذا وافقه جميع علماء عصره، لكن انظروا إلى عظمة الإمام مالك رحمه الله حين أراد الخليفة أن يلزم الأمة بكتابه، قال له: لا يا أمير المؤمنين، إن أصحاب رسول الله(ص) انتشروا في الأمصار، وعند بعضهم ماليس عند الآخر. فدع الناس وما اختاروا، حتى يأخذ أهل كل عصر وأهل كل مكان ومصر ما يناسب عصرهم ومكانهم، ما دام ذلك لا يصادم نصا من كتاب الله، ولا حديثا من أحاديث رسول الله(ص) ثم قال بالحرف الواحد: إن اختلاف العلماء رحمة الله بهذه الأمة، كل يرى ما صح عنده، وكلٌ على هدى، وكل يريد وجه الله.
هذه هي عظمة الأئمة الذين نظروا إلى أن هذه الاجتهادات رحمة، لا أن نتحجر، لا أن نصم غيرنا بالكفر والفسوق، وأنه على خطأ، هذا هو المنهج الإسلامي الحقيقي الذي صانه تراثنا الذي هو أشرف تراث في الوجود.
وأما العقبة الثالثة: فتتمثل في تلك التكتلات الأجنبية، العالم يسعى إلى عصر الكيانات الكبرى، والمسلمون يتفرقون، ونسمع بدولة تعادي أخرى، ودولة تضرب دولة، ودولة تغتال دولة، وفي الدولة الواحدة يحدث ما يحدث من انشقاق و.. لا، هذا أمر، ينبغي أن نتنبه، وينبغي أن نعيش عصر الكيانات الكبرى، أن تكون هناك سوق إسلامية ، بين هذه الأمة التي أمرها الله تعالى أن تعتصم به، فحين أمرنا قال: (واعتصموا بحبل الله جميعا)، بحبل الله بالقرآن بالدين، يعني: تعتصموا. قلنا معناه المعتصم هو الممتنع الذي يتقوى، ويمنع من أن يخترقه غيره، لا بشرق ولا بغرب، لا بأجنبي ولا بغيره، وإنما بحبل الله بدين الله.
والقرآن الكريم حين يفسح له المجال يؤثر في كل شيء، عظمة هذا الكتاب أدركها أعداؤنا للأسف، حتى قال "غلادستون" في أحد الاجتماعات. لا قرار لنا، ما دام هذا المصحف في أيدي المسلمين، بل أدركها قبل ذلك المشركون أنفسهم حين قال قائلهم: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه. والذي أدركها الجن فانطلق مرددا في الآفاق: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا). أدركها أحد المستشرقين وهو غير مسلم فقال: لو وجد هذا الكتاب في فلاة، يعني في صحراء، ولم نعرف من جاء به لعلمنا أنه من عند الله.
إنه يؤثر حتى في الحيوان، فكيف لا يؤثر في الإنسان، من حديث البخاري حديث أسيد بن حضير لما كان يتلو القرآن وتجول فرسه، ويسكت فتكست، ويعود فتعود حتى خاف على ولده يحيى، وكان نائما. وخرج ونظر في السماء ووجد أمثال الظلة، فيها أمثال المصابيح، فسأل النبي(ص) وقال: تلوت البارحة القرآن فجالت فرسي، وسكت فسكتت، حتى خرجت فرأيت أمثال الظلة، فما هذا يارسول الله. قال(ص) "تلك ملائكة الله نزلت تتسمع لتلاوة القرآن، ولو ظللت تقرأ لظلت الملائكة حتى رآها الناس في الصباح".
عظمة  القرآن الكريم الذي يدعونا ربنا سبحانه وتعالى أن نعتصم به وأن نتمسك به وأن نطبقه، وأن تقوم الوحدة بين الأمة الإسلامية على أساسه حين تنهض هذه الوحدة بين الأمة الإسلامية على هذا الأساس، فإنها عندئذ ستتبوأ المكانة العلية التي أرادها الله، إن الله تعالى فرض علينا عبادات توحدنا في كل صلاة، في صلاة الجماعة خمس مرات، وتوحدنا على مستوى أكبر في صلاة الجمعة،
وعلى مستوى أكبر في صلاة العيدين، وعلى مستوى أكبر وأكبر في الحج إلى بيت الله الحرام. أي أننا نتعلم، ونتعود، وديننا روحه الوحدة، لا التفرق.
من أجل ذلك فنحن ندعو أمتنا الإسلامية أن تتلاقى على كلمة الحق، وأن توحد صفوفها، فقد آن الأوان، ولا مواجهة لهذه التحديات التي تغرق عالمنا الإسلامي إلا بوحدة صفوفنا، إلا بأن نعتصم بحبل الله جميعا.

 

 


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية