مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

التحديات التي تواجه المرأة المسلمة  في المجتمعات المعاصرة
أ.د. جعفر عبدالسلام
الامين العام لرابطة الجامعات الاسلامية


تمهيـــد
تواجه المرأة المسلمة تحديات عديدة في المجتمعات التي تعيش فيها في الوقت الحاضر في سائر الدول الإسلامية؛ والسبب الرئيسي في ذلك هو التغريب وطغيانه على حياتنا. لقد بشر الغرب بحقوق المرأة ونادى بالمساواة الكاملة بينها وبين الرجل، واندفع نحو هذا الاتجاه العديد من مفكرينا أمثال: قاسم أمين، وطه حسين، ومحمود عزمي، وزينوا للمرأة الخروج من المنزل وإلقاء الحجاب جانبًا، ثم ما لبثت المرأة أن خرجت في ثورة 1919م مع الرجال أو بدونهم، وبدأت تحتل العديد من الوظائف في إدارة الدولة. ودفعت ثورة يوليو هذا الاتجاه في مصر بشكل قوي، حيث بدأت المرأة في الدخول في الحياة السياسية، وتترشح للمناصب العامة، وتدخل المجالس التشريعية، بل دأبت الثورة على أن تجعلها في أعلى الولايات وزيرة واحدة أو وزيرتين في كل وزارة، (126) فضلاً عن إتاحة فرص العمل لها، بما في ذلك ولاية القضاء، بل حصلت على فرص العمل في أجهزة لم يكن من السهل أن تعمل فيها، كأجهزة الشرطة، ولم يبق مرفق من مرافق الدولة إلا ونجد فيه المرأة الآن.ونرى القوانين تتجه لتكريس حقوق المرأة، بل وتتجه قوانين الأحوال الشخصية في بلادنا إلى تسهيل ما تقوم به المرأة من أعمال، ابتداء من عام 1925م حيث صدرت تشريعات للأحوال الشخصية لا تتبع مذهباً بعينه، وتخالف المذهب الحنفي المعمول به في مسائل الأحوال الشخصية، ثم تلى هذا القانون العديد من القوانين التي تسير في نفس الاتجاه، حيث كان آخرها قانوناً صدر عام 2003م، وأطلق عليه من قبل الناس "قانون الخلع"، وهو قانون قنن أحد أبواب الفقه الإسلامي بما يعطي للمرأة حقاً مساويا للرجل في إنهاء العلاقة الزوجية لكن بحكم القاضي بدلاً من إرادة الزوج. ونستطيع القول بأنه لا فارق بين الرجل والمرأة في التمتع بمجمل الحقوق والحريات في معظم بلادنا الإسلامية في الوقت الحاضر.(1) مع ذلك لم يرحمنا الغرب في التدخل في أخص شؤوننا، وإذ بالولايات المتحدة تطالبنا بالإصلاح السياسي، وتجعله على ثلاثة محاور: الأول: التعليم، أي إصلاح التعليم في العالم الإسلامي، خاصة التعليم الديني، ففي نظرها هذا التعليم يقوم على كراهية الآخر وعلى تحبيذ الجهاد ضده، ويرى المشروع في كثير من الآيات القرآنية روح الجهاد وكراهية الآخر.أما المحور الثاني: فيتصل بالمرأة، فالمرأة تُعامل في بلادنا معاملة سيئة، وهي تصُب ما تربت عليه في أولادها، وتنشئهم على التطرف والإرهاب، بسبب ما تعانيه في مجتمعاتنا من ظلم وكبت. (127)أما المحور الثالث: فيتصل بالتربية السياسية، وأنظمة الحكم في البلاد الإسلامية كلها تقوم على الاستبداد، ولا توجد في الدول الإسلامية أية مشاركة سياسية أو أية صورة من صور الديمقراطية.الغريب أن من أعطى هذا التنظير للحالة الإسلامية هم -للأسف- مفكرون أعدوا مؤلفات عن الإسلام وتاريخه، أمثال: برنارد لويس، وفوكوياما، ولويس هنتنجتون، ومعروف حقدهم التلقائي على الإسلام وكراهيتهم له، لا أدري لماذا؟! فهم يرون أن الحضارة الغربية ليس لها عدو الآن إلا الإسلام والمسلمون، وإذا لم تُقتَلَعْ الحضارة الإسلامية فإن النتيجة ستكون سيئة، والضرب بقوة على الأنظمة الإسلامية مفتاح السلامة للحضارة الأوروبية والأمريكية المعاصرة، وللقضاء على ما يطلقون عليه الآن "الإرهاب الإسلامي".والواقع أن أمريكا وتبعها الغرب قدما برامج لتأهيل المرأة المسلمة كما يريدون، واستجابت لهم بعض الأنظمة، خاصة في الدول الخليجية وفي العديد من دولنا، إذ أرسلت سيدات لتتربى على الطريقة الأمريكية في الولايات المتحدة، كما دخل التغريب بقوة في جامعاتنا ومدارسنا، وأصبحت شهادة الجامعة الأمريكية هي أعلى الشهادات في بلادنا، كذلك افتُتِحَت مئات المدارس والجامعات الخاصة التي تجعل الإنجليزية اللغة الوحيدة للتدريس في بلاد الإسلام.(2) وقد أوجد هذا الاتجاه تغيرًا فيما يواجه المرأة المسلمة من تحديات ومشكلات، كادت تعصف بأسس كانت ثابتة في مجتمعاتنا للأسف، يجب أن ندق ناقوس الخطر على ما وصلت إليه الحال بأسرنا ومجتمعاتنا اليوم، وهي فرصة أن نجتمع في إيران، لأنها في اعتقادي أصبحت من أهم الدول الإسلامية (128) المحورية التي تواجه موجات الهجوم الغربي على كياننا وعلى ثوابتنا؛ لذا سأتناول التحديات التي تواجه المرأة المسلمة نتيجة التغريب وسيطرة اتجاهات الهيمنة الأمريكية على المجتمعات الإسلامية، حيث أعرض للتحديات المتصلة بالأسرة في قسم أول، والتحديات المتصلة بالعمل في قسم ثان.
القسم الأول
التحــديات المتصلة بالأســــرةيجعل الإسلام الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع الإسلامي، وهي تقوم على زوج وزوجة وأولاد، وتقوم العديد من الروابط بينهم على الأسس الشرعية، وتسودهم المودة والرحمة التي تحدث عنها القرآن الكريم. يقول تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)(3).ومن مقومات الأسرة المسلمة فضلاً عن المودة والرحمة:1- أن للزوج قوامة على زوجته، وولاية على أسرته. فمقتضيات تسيير الأسرة أن يكون الزوج والوالد له القوامة، وهي سلطة عائلية تعطيه الحق في التوجيه والتربية والإرشاد لأسرته.2- أن الزوج هو المُكلَّف شرعًا بالإنفاق على زوجته وعلى أسرته بشكل عام. من هنا تكتمل القوامة ويكون لها أساسها، يقول سبحانه وتعالى: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ )(4).3- أن لرب الأسرة سلطة التأديب على زوجته وعلى أسرته، وسلطة التأديب هذه من فنون الحياة الزوجية، حيث إن النجاح في تسيير الأسرة يتوقف على حسن (129) استعمال هذه السلطة دون إفراط أو تفريط.4- أن رب الأسرة عليه الدور الأساسي في التربية والتعليم والارتقاء بشأن الأسرة.5- أن الأولاد يبقون في كنف الأسرة حتى يشتد عودهم ولا ينفصلون عنها بسهولة.فالابنة تظل مع أسرتها حتى تتزوج، ويقوم الأب بتأهيلها وتأثيث منزلها، وبالطبع يشاركها اختيار الزوج، وتقوم العلاقة بين الزوج والزوجة على الدوام، وإذا حدثت مشكلات في الأسرة وبين الزوجين أساسًا، فلابد من إتباع وسائل لحسم الخلاف في داخل الأسرة، ويمكن تدخل الأقارب للوساطة، ويمكن أن تُحَلَّ العلاقة الزوجية بالطلاق، وهو بيد الرجل أساسًا، ويمكن أن يكون بيد القاضي لأسباب قانونية محددة وضعتها القوانين المتعاقبة في مصر، والأمر بيد الزوج أساسًا حتى لا تنهار العلاقة الزوجية لأوهى الأسباب وأبسطها.وقد ظهر أثر التغريب على الأسرة المسلمة واضحًا في الأزمنة الأخيرة، ولعل أبرز السلبيات التي تمخضت عنها هذه الحملة الشرسة على المسلمين، يمكن إيجازها على النحو التالي:* العصف باستقرار الأسرة عن طريق إدخال تشريعات بشكل دائم تسهل التخلص من الرباط المقدس للحياة الزوجية، وإذا كنا لا نعارض وجود أسباب لطلب الطلاق عن طريق المحكمة لأسباب يتم التوسع فيها، فقد أُعدَّ نظام الخلع في القانون المصري بشكل أدى إلى الارتباك في نظام الأسرة، حتى إن أقل الأسباب تجعل الزوجة تلجأ إليه، بل صار من المألوف أن تهدد الزوجة زوجها وأسرتها، بل ومجتمعها بالالتجاء إلى الخلع(5).* رغم استقرار القاعدة الشرعية التي تعطي المرأة حق اختيار زوجها، إلا (130)إننا نرى صورًا عديدة من الخروج على إرادة الأب والأسرة من قبل البنت، وأصبح الزواج غير الرسمي شائعًا والذي لا يعرف الأب عنه شيئًا(6)، بعد أن كثر من يفتون بحِل هذا الزواج، حتى يقال إن أغلب طلاب وطالبات الجامعة يقومون بالزواج معًا مع إشهاد زملائهم على العقود العرفية التي لا تحرر، وإذا حُرِّرَت فعلى ورقة بسيطة طالما أنكرها الزوج، مما يؤدي إلى مشكلات عديدة.* كثرت حالات الطلاق في العديد من بلادنا الإسلامية، وكذلك مصر التي أتحدث عنها بسبب التغريب والإعلام الغربي الذي لا يوقر الأسرة، ويساعد الزوجة على التحلل من ربقتها، وعدم تحمل المسؤولية من الأسباب التي تؤثر على ذلك بشكل كبير.* ونجد أن الاستقلال الاقتصادي للمرأة قد ساعد على تحلل الأسرة بشكل كبير، فقد باتت المرأة تعمل وتكسب، وأحيانًا تحصل على دخل أكبر من زوجها، ولازالت أفكار القوامة التي تستبد بكثير من الرجال تؤثر بشدة عليهم، مما يعطيها الإحساس أنها ليست في حاجة إلى زوجها، الأمر الذي يؤدي إلى سهولة تحلل العلاقة الزوجية.ومن التحديات الصعبة التي تواجه المرأة والأسرة المصرية، بل والدولة بشكل عام، عزوف الشباب عن الزواج وتكوين الأسر، وترجع هذه الظاهرة إلى العديد من الأسباب، أهمها: السبب المادي، إذ لا توجد دخول لدى أغلب الشباب تكفي لتحمل أعباء الزواج والقيام بمتطلبات الزوجية المادية. كما أن المجتمع سادته عادات غريبة في تكلفة الزواج من حفلات لا ترضي الله ورسوله، وكل مخترعات الغرب نجدها حاضرة في بلادنا. هي أسباب ترجع إلى الخلل الاجتماعي في الدخول ووجود طبقات عليا وأخرى فقيرة ينعدم التجانس (131) والتوافق بينها، ومنها كذلك خروج المرأة إلى العمل واقتناعها بضرورة أن تحقق ذاتها في العمل، ولو كان ذلك على حساب حياتها الاجتماعية، ولا شك أن المرأة أصبحت تعاني من كل ذلك، وأصبحت تعاني كثيرًا من وحدتها ومن تعليق المجتمع المسؤولية عليها في الحياة وفي إعالة نفسها، وأصبح من الطبيعي أن نجد سيدة تعيش بمفردها في بيت واحد، ونسمع حوادث كثيرة عن حالات اعتداء على مثل هذه السيدات. بل أصبح من الشائع أن نجد سيدات وأحيانًا رجالاً في بيوت للمسنين، لقد ضاقت عليهم بيوت الأسر التي انحل التضامن فيها، ومن ثم ذهبوا أو ذهب بهم ذووهم إلى هذه البيوت.إن الأسرة كيان اجتماعي مهم، ولكن المعاوِل أصبحت تضرب فيه من كل ناحية، ونخشى أن يصيبنا ما أصاب الغرب من تحلل للأسر وضياع للتضامن والتكافل في المجتمع.إن ظاهرة عدم الإقبال على الزواج في الغرب أوجدت مجتمعًا مخيفًا، وأصبحت نسبة الخصوبة في عدد من الدول الغربية صفرًا أو أقل من الصفر، وشاخت المجتمعات الغربية نتيجة أن الشرائح الغالبة أصبحت من الشيوخ، وإذا كنا لم نصل إلى هذه الدرجة بعد، إلا أننا لسنا بعيدين عنها بشكل كبير.إن انتشار الفحشاء في بلادنا بات أمرًا محيرًا، ولن يقبل الشباب على الزواج إن رأى طريقًا سهلاً يقضي من خلاله غرائزه دون تكلفة كبيرة ودون مسؤولية، وهو عين الداء الذي انتشر في الغرب وأدى إلى النتائج السيئة التي تحدثنا عنها.إن التحديات التي تحدثت عنها بالنسبة للمرأة والأسرة هي تحديات تواجه المجتمعات الإسلامية كلها بدرجة أو بأخرى الآن، تحدي عدم الزواج، تحدي الوحدة، تحدي عدم استمرار الأسرة والرغبة في حرية الحياة بدون أسرة (132)أو التحلل السريع من مسؤوليات الأسرة والزواج بمؤثرات عديدة، أهمها: الإعلام الغربي والهيمنة الغربية التي تُسَرِّب إلينا في كل حين أفكارًا عن الزواج المثلي، وإباحة الحرية الجنسية، وإباحة الإجهاض، وتبادل أدوار الحياة بين المرأة والرجل عن طريق نظام الجندر، والبعد تدريجيا عن مؤسسة الزواج والأسرة، وتسهيل انحلال العلاقة الزوجية من قبل المرأة والرجل على السواء، وهي للأسف أفكار تروجها وثيقة الأمم المتحدة للسكان، وتقوم أكثر من لجنة من لجان الأمم المتحدة على العمل لنشرها، بل وتهدد أحيانًا الدول التي لا تتعامل معها. من شأن ذلك كله أن يشيع التحلل والزنا والفساد، وهي أمور نبهنا القرآن الكريم إلى مخاطرها. يقول تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً) (7).
القسم الثاني
التحــديات المتصلة بالعمللقد خرجت المرأة إلى العمل في معظم دولنا الإسلامية، وطالبت -ولازالت تطالب- بحقوق متساوية بشكل حسابي، أي أنها تريد حقوقًا مقابل ما يتمتع به الرجل من حقوق دون حساب للفوارق بينهما. ولا شك أن ذلك أوجد أمام المرأة مشكلات وتحديات عديدة.فالمرأة -على كل حال- في المجتمعات الشرقية يقع عليها واجب تربية الأطفال ورعايتهم، وكذلك ترتيب أمور البيت وإعداده للحياة المشتركة لها ولزوجها ولأولادها، ويصعب أن نجد مشاركة من الرجل في تحمل هذه الأعباء الضخمة. ومع عمل المرأة، أصبح من الصعب عليها أن توفق بين متطلبات ومقتضيات العمل ومقتضيات المنزل وتربية الأطفال، وهذه معضلة صعبة (133) وأصبحت من معوقات استمرار الحياة السليمة في أسرنا. حقيقة وجدنا التشريعات التي تساعد المرأة على التوفيق بين مقتضيات العمل ومقتضيات الأسرة، مثل تقليل ساعات العمل لها وإعطائها وقتًا للرضاعة، وإجازة للحمل وإجازة لتربية الأولاد لمدة عامين، إلا أن ذلك يأتي على حساب العمل؛ لذا لا نجد القطاع الخاص يقبل بسهولة تشغيل الإناث، بل إن المصالح الحكومية تعاني أشد الاضطراب من انتشار عمل العنصر النسائي فيها، وهذه معضلة أخرى.ومن ثم فقد بدأ التفكير في حلول أخرى، أسهلها أن تعود المرأة إلى البيت، وأن تتخلى عن فكرة العمل، ولكن هذا الحل يصَعِّبه عدم كفاية دخل الرجل وحده في بعض الأحيان للإنفاق على الأسرة، كما أن المرأة تقع تحت ضغط التدخلات الخارجية وبعد أن تكون قد وصلت إلى مرحلة متقدمة في العمل ونالت مناصب أرقى فإنها لا تضحي بعملها بسهولة، ومن ثم ينشأ الشقاق داخل الأسرة، ويكون الأولاد والمنزل هم الضحية.ونحن نحتاج إلى ثقافة للمجتمع تجعل الرجل يساعد المرأة في أعباء المنزل، وتجعل المرأة تختار أعمالاً يسيرة ولا تستغرق أغلب وقتها في العمل، وتوفق دائمًا بين متطلبات المنزل والأسرة -ولها الأولوية- ومقتضيات العمل. وحبذا لو انتشرت لدينا الأعمال التي يمكن أن تؤدى في المنزل، وهي كثيرة، مثل الصناعات التي تُدار بأنامل المرأة الرقيقة في المنزل، نرى ذلك في دول شرق آسيا وعلى رأسها الصين، حتى في تجميع الحاسبات الآلية والساعات وأدوات الزينة، بل والأغذية.إن التحدي الأساسي الذي يواجه المرأة المسلمة في بلادنا هو خروج المرأة لتأدية نفس الأعمال في الحكومة وفي القطاعات الأخرى، ومن ثم أصبحت تزاحم الرجل وتتعرض للإيذاء في كل مكان، في المواصلات العامة، في (134)جلوسها في المكاتب بجوار الرجل، في الاختلاط الكامل معه في العمل، وفي كل مكان. إن المرأة التي تعمل وقتًا طويلاً لم تعد تعرف كيف تطهو طعام أسرتها، وإنما تعتمد الأسرة على الوجبات الجاهزة التي تعد في الخارج، ولم يعد الأطفال يجدون من يرعاهم، فمفاتيح المنازل أصبحت تُوضع في أعلى الأبواب لمن يأتي أولاً من الأولاد، وأصبح دور عاملات المنزل كبيرًا في بلادنا، وهم الذين يقومون بعبء تربية الأطفال، فضلاً عن إعداد الأطعمة وترتيب المنزل، ومن ثم فقد البيت الشرقي بعض مقوماته الأساسية في أهمية الدور المبدع لربة البيت في التربية وفي انتقاء الأطعمة وطهيها بالشكل الذي يسعد زوجها وأسرتها.وقد أوجد هذا التطور تحديا جديدًا أمام المجتمع وأمام المرأة، فلم تعد المرأة هي الإنسانة الرقيقة الجذابة للرجل والتي تسعي إلى راحته، وإنما اتخذت دائمًا مواقف تجعلها أشبه بالرجل، تتسم بالشدة والصرامة حتى تؤدي العمل بكفاءة، وحتى تبعد عنها من في قلبه مرض، وما أكثرهم الآن بيننا، بل إن مجاراة المرأة العاملة لمقتضيات الزمالة في العمل وشيوع أفكار عن أهمية هذه الزمالة أوقع مجتمعاتنا في مأزق شديد، ولكم انحلت عرى أسر بسبب ضعف الزوجة أمام رجل محتال أوهمها وزين لها أن تترك زوجها وأسرتها، وأن تعيش معه بزواج أو بغير زواج، وهذه -للأسف- أصبحت إحدى الظواهر التي نحياها.ومن التحديات التي أصبحت تواجه المرأة في عملها، تحد التزين لغير محارمها، فليس من السهل على المرأة أن تخفي زينتها أو خضوعها بالقول أثناء العمل، خاصة إذا كان عملاً بسيطًا لا يستغرق وقتًا طويلاً، فضلاً عما فيه من فتنة للرجل الذي يجلس إلى جوارها في العادة، فهو أمر مكلف جدًا للأسرة ومنذر بالخراب؛ لأن المرأة والرجل جُبِلا على الرغبة المتبادلة، وكثيرًا ما لا (135)يمنعها السياجات أو محاولات الحجب الهشة.وهناك من التحديات التي تواجه المرأة المسلمة في الوقت الحاضر ما هو أشد، إنه تحدي العولمة، وما يتضمنها من قابلية لكل شيء للبيع والشراء، تحدي النمط الاستهلاكي الذي تفرضه العولمة وتجعل مختلف المجتمعات في حالة تبعية تلقائية له، بسبب ترويج السلع والخضوع الكامل للمادة الإعلانية التي تقوم بهذا الترويج، فالمرأة نفسها سلعة تُستَغَل في الإعلان.إن جسد المرأة ومفاتنها أصبحت الوسيلة الإعلانية الأولى، ولا شك أن المستثمر والبائع الغربي هو الذي لا يعبأ بجسد المرأة، بل إنه طالما أباح رسم المرأة وتصويرها عارية بدون حياء كما يظهر من اللوحات المشهورة للرسامين والنحاتين الغربيين، في الوقت الذي صان الإسلام الجسد وجعله كله عورة لا يجوز أن يظهر منه شيء إلا الوجه والكفين.. فماذا تفعل المرأة المسلمة أمام هذا التحدي؟!إن عليها أن تتأبى على عرضها كسلعة، وعليها أن تقف ضد هذه الوسائل الإعلامية التي تستعين بالمرأة في الإعلان.وتواجه المرأة حملات تعيد إلى الأذهان عهد الرقيق الأبيض، حيث تخصص عصابات في بيع جسد المرأة والمتاجرة به، ويجب أن ترفض المجتمعات الإسلامية كافة أشكال الاتجار بالرقيق الأبيض، أو اتخاذ جسد المرأة وسيلة للدعاية والإعلان عن السلع.
خاتمـــةفي هذه الأوراق القليلة استعرضنا بعض ما يواجه الأسرة في مجتمعاتنا من تحديات ومشكلات بسبب التغريب. إن الوضع الخاص بالمرأة في المجتمعات (136)الإسلامية قد وضع أسسه الإسلام بشكل يحقق التوازن بين الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة والأولاد.وقد بدأ ذلك يختل بسبب التدخلات الغربية التي ما فتئت تصور المرأة المسلمة بأنها مستكينة، وتعامل معاملة سيئة في مجتمعاتنا الإسلامية، وبدأت تشجعها على التمرد والخروج على النسق الإسلامي، وجعلت المطالب الرئيسية لها تتصل بوصولها إلى الولايات العامة الكبرى في الدولة، بما في ذلك رئاسة الدولة، والوزارة والقضاء. والأهم من ذلك تلك التحديات التي بدأت تتصل بحياتها وأسرتها وتأديتها لوظائفها الرئيسية.إن التوفيق بين العمل وواجبات الأسرة من الأمور الصعبة التي فشلت فيها المرأة إلى حد كبير، فتحلل الأسرة أصبح ظاهرة خطيرة في مجتمعاتنا الإسلامية لهذه الأسباب. كما بدأت تطفو على السطح ظواهر الفساد في علاقات الرجل بالمرأة، وكثرت حالات الزواج غير الرسمي التي لا يتحمل فيها الرجل والمرأة أية أعباء، وإنما يقضون مآربهم الجنسية من خلال هذه العلاقات، مما أثر على الظواهر الاجتماعية بشكل عام والأسرة المسلمة بشكل خاص.إن اختلاط المرأة بالرجل في العمل وفي أماكن العلم قد أوجد بدوره مشكلات عديدة، فما أحرى الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم أن تبتعد عنها. إن ظاهرة العنوسة والفساد والعلاقات الآثمة، فضلاً عن الطلاق وتحلل الأسر أصبحت أهم الظواهر الاجتماعية التي تحيط بالأسرة.لذا أتطلع إلى توصيات تأتي من هذا المؤتمر تسهم في رأب الصدع الذي أصاب حياتنا الاجتماعية، نتيجة للهيمنة الغربية، والتي تقول لنا عن طريق وثائق دولية: إباحية.. هل من مزيد؟!. لقد رفض الأزهر والكنيسة الاعتراف بالعلاقات الجنسية غير المشروعة (137)والتي تتم خارج الزواج، كما رفض الاعتراف بالزواج المثلي وبالإجهاض دون سبب قوي يقرره الأطباء، ومطلوب من مجتمعاتنا أن تقوي التماسك في العلاقات الاجتماعية، وأن تجد حلولاً لمشكلات العنوسة والبطالة، وأن يزود الشباب والشابات بالطاقات الروحية التي تأتي من تعاليم السماء، وبالطاقات المادية التي تلزم لإقامة الحياة السليمة. فمطلوب مساكن تصلح للحياة ويقدر عليها الشباب، وتسهم فيها الدولة والمقتدرون كذلك، للقضاء على هذه المشكلات.إن أوضاعنا الاجتماعية تحتاج إلى دراسات متأنية تعرّف بالظاهرة وتشخّص المشكلة، ثم تقدم العلاج اللازم لها، وإن لم نفعل فإن أزمات العصر سوف تحيط بنا أكثر وأكثر.وآخر ما أوصي به هو رفض الهيمنة الغربية التي تحيط بنا الآن، والتي تختار -ليس فقط القوة العسكرية والاقتصادية لتحطيم إرادتنا وشريعتنا- وإنما تختار التدخل في التعليم والتربية والحياة الاجتماعية والسياسية، بدعوى أننا في حاجة إلى الإصلاح، وهم الذين في أمس الحاجة إليه بعد أن تصدعت مجتمعاتهم وتصدعت أركان الحياة السليمة فيه.وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..الهوامش: 1 - ردد الكثير من إخواننا المثقفين والقانونيين قولاً ربما يكون صائباً، وهو أن معظم ما يصابون به من خير يأتي من مصر، وكذلك ما يصيبهم من شر فهو من مصر أيضا، ويدللون على ذلك بانتقال التجديد في كثير من المسائل من مصر إليهم، مثل قانون الوقف، وقانون الميراث، وقانون الخلع، ومعظم مسائل الأحوال الشخصية. حدث ذلك في لبنان وفي الأردن، وجزئياً في سوريا.
2- هذا الاتجاه نراه بوضوح في الدول الخليجية وفي مصر, وفي مدينة دبي توجد جامعة زايد حيث أن التدريس فيها باللغة الإنجليزية فقط، وهي جامعة للبنات يسيطر عليها الأمريكيون, وقد رايتهم بعيني، كما أن النخبة المتولية زمام الحكم في مصر أغلبهم من خريجي الجامعة الأمريكية.
وقد اتخذت الجامعات الخاصة منهج الجامعة الأمريكية في اتخاذ اللغة الوحيدة، كما سمحت لمصر بإنشاء جامعات: إنجليزية، وألمانية، وفرنسية، وكانت تشدد كثيراً في تأسيس جامعات غير مرتبطة بهذه الدول بدعوى فضل التكنولوجيا التي تتفوق فيها هذه الدول.
3- الروم/ 21.
4- النساء/ 34.
5- اتجه رأي ثاقب في الفقه ساد في مجمع البحوث الإسلامية أثناء مناقشة القانون إلى أن إرادة الزوج أساسية لإيقاع الطلاق في حالة الخلع، مستندًا إلى أن الرسول(ص) في الحالة الوحيدة التي عُرضت عليه بشأن الخلع أنه طلب من الزوجة أن ترد الحديقة التي أهداها الزوج لزوجته عند الزواج، وطلب منه أن يطلقها، إلا أن وزارة العدل اتجهت إلى أعطاء حق الطلاق في الخلع للقاضي رغمًا عن إرادة الزوج حتى لا يرجع إلى إرادة الزوج في إيقاع الطلاق.
6- وهناك قضية معروضة على الرأي العام في مصر، هي قضية هند الحناوي، والتي تزعم أن ابن أحد الفنانين المشهورين في مصر قد تزوجها وأنجبت منه طفلة، والسيدة وأسرتها تزعمان أن هناك زواجًا عرفيا أثبت في ورقة اختلسها الزوج، والزوج اعترف بوجود علاقة غير شرعية بينه وبين المدعية لم تكن زواجًا بحال، رفضت المحكمة إثبات النسب على أساس القاعدة الشرعية «الولد للفراش وللعاهر الحجر». وقد طُعِن في الحكم، وهناك اتجاه قوي بضرورة إثبات النسب عن طريق تحليل معملي DNA بدلاً من وسائل إثبات النسب المعروفة، وهذا من ظواهر التغريب التي تحيط بالمرأة والأسرة المسلمة في الوقت الحاضر.
7- النساء/ 27.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية