مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

المستهلك ووسائل حمايته في الاسلام
د. محمد الحبيب التجسكافي
كلية أصول الدين ـ تطوان ـ المغرب


تمهيد: مفهوم المستهلك
المستهلك هو من يستعمل المنتجات لاشباع حاجات انسانية، سواء اكان الشيء موضوع الاستهلاك مما يَفنى باستعمال واحد، كالمأكول، والمشروب، والدواء، أو كان مما لا يفنى إلاّ باستعمالات متعددة، متتابعة، عن طريق الاندثار الجزئي، كالملبس، ووسيلة النقل والمشاهد والصور، في الواقع أو في وسائل الاعلام وغيرها.
وحماية المستهلك تعني استعمال المجتمع المسلم لوسائل شرعية تحفظ مصلحة المستهلك، الآنية والمستقبلية، في المواد، وفي المشاهد والصور، وفي ادوات المعرفة والتوجيه والايحاء؛ وفي هذا السياق حرصت الحضارة الإسلامية على توفير الحماية اللازمة للمستهلك في كل هذه المجالات؛ يقول الإمام أحمد بن تيمية: "يأمر المحتسب بالجمعة، والجماعات. وبصدق الحديث، واداء الامانات، وينهي عن المنكرات كالكذب، والخيانة، وما يدخل في ذلك من تطفيف المكيال، والميزان، والغش في الصناعات، والبياعات، والديانات، ونحو ذلك"(1). ويقول الامام ابن قيم الجوزية: "يجب عليه (ولي الأمر) منع النساء من الخروج متزيِّنات، متجمِّلات، ومنعهنَّ من الثياب التي يكنَّ بها كاسيات عاريات، كالثياب الواسعة، والرِّقاق"(2)؛ ويقول ايضاً: "لا ضمان في تحريق الكتب المضلة، واتلافها"(3).
في إطار هذا التصور الواسع للمستهلك، ولحمايته، يمكن معالجة حماية المستهلك من خلال فروع ثلاثة.
الفرع الأول: حماية مستهلك السلع والخدمات.
الفرع الثاني: حماية مستهلك المشاهد والصور.
الفرع الثالث: حماية مستهلك الأفكار والإيحاءات والتوجيهات.
 الفرع الأول: حماية مستهلك السلع والخدمات
تتم حماية المستهلك للسلع والخدمات على مستويين: مستوى الانتاج، ومستوى التسويق:
أ ـ فعلى مستوى الانتاج، يحمى المستهلك بتوفير الجودة في المنتج، وذلك لجنس الاختيار في المواد الخام، وباتقان التركيب والعمل الانتاجي المتصل به، فالرسول(ص) يقول: "إن الله يحب اذا عمل أحدكم عملاً ان يتقنه"(4).
ويساعد على تحقيق الجودة توخي الايمان في العامل، والخلق الإسلامي الرفيع، الذي يرفع العمل إلى مستوى العبادة لله تعالى؛ فيرتبط العامل بالله عزوجل، قبل ان يرتبط بالمشغِّل؛ يضاف إلى ذلك الاستفادة من التقدم العلمي والتكنولوجي، حتى يتم تدعيم الجودة بالاختصار في الزمن اللازم للانتاج، الأمر الذي يترتب عليه انخفاض عدد الساعات اللازمة للانتاج، والتي هي احدى مقوِّمات السعر أو الثمن، وقد حث الرسول(ص) على ان ينفع المنتج الناس عن طريق تخفيض الكلفة، ومن ثم تخفيض السعر: "خير الناس أنفعهم للناس"(5).
من جهة اخرى، تتم حماية المستهلك على مستوى الانتاج بتجنّب التمويل الربوي الذي يرفع دائماً من كلفة السلعة المنتجة؛ لأن سعر الربا أو الفوائد البنكية يتحملها في النهاية المستهلك، فيتعرض للظلم
(يا أيها الذين آمنوا، اتقوا الله، وذروا ما بقي من الربا، ان كنتم مؤمنين، فان لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، وان تبتم فلكم رؤوس اموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون)(6).
وبالمقابل، توجد عدة بدائل عن التمويل الربوي، فأبو البشرية آدم(ع)، لما حُرِّمت عليه شجرة واحدة، أبيحت له آلاف الأشجار الطيبة البديلة عنها، وهكذا وجدت المشاركة بتقديم رأس المال من عدة اشخاص طبيعيين أو معنويين، ووجدت المضاربة عند طريق التقاء رأس المال بالعمل في الانتاج. ووجدت المرابحة ووجد غيرها مما يفي بالحاجة، ويساهم في استقرار الاسعار، ومنع التضخم؛ لان زيادة النقد عندئذ ترتبط بزيادة الانتاج حتماً، فلا يكون مجال للتضخم.
ب ـ أما على مستوى التسويق فحماية المستهلك للسلع والخدمات تتم من خلال طبيعة السوق الاسلامية، ومن خلال عدة ضوابط شرعية:
أولاً: طبيعة السوق الإسلامية:
السوق هي مكان التقاء العارضين والطالبين، وليست بالضرورة مكاناً قاراً، كما هي الحال بالنسبة لسوق المواد الغذائية والثياب، وقطع الغيار، وقد تكون سوقاً متنقلة، أو خاضعة للصدفة، كسوق الكراء حيث يلتقي المكري والمكتري على قارعة الطريق، أو في منزل المكري مثلاً.
وطبيعة السوق الإسلامية أنها سوق حرة، ليس فيها احتكار، لا في السلع، ولا في المعلومات عن الاسعار؛ لان الاحتكار جريمة اقتصادية، حيث يقول الرسول(ص): "لا يحتكر إلاّ خاطئ"(7).
من دخل في شيء من اسعار المسلمين، ليغلبه عليهم، كان حقاً على الله ان يقذفه في معظم من النار يوم القيامة(8).
وبذلك تتوفر المنافسة التي تتحدد بها الاسعار من خلال آليات الطلب والعرض، ومن خلال تلاقي شروط اطراف التداول دون تدخل مسبق للسلطة في تحديد الاسعار. فقد أباح(ص) لاطراف التداول ان يشترطوا ما شاؤوا: المسلمون على شروطهم، إلاّ شرطاً حرَّم حلالاً، أو أحلّ حراماً(9).
ان حرية السوق في الاسلام هي حرية منظّمة بقواعد الشريعة التي تمثل شرط الله تعالى. فلا يدخل هذه السوق سلع محرمة، كالخمر، ولحم الخنزير، والتماثيل، والقروض الربوية؛ فالرسول(ص) يقول:
"إن الله ورسوله حرّما بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام"(10).
وكذلك للتداول آداب ملزمة، يجب على اطراف التداول مراعاتها بدقة، فالرسول(ص) يقول: "لا يَسمُ المسلم على سَوْمِ أخيه"(11) و"لا يَبع الرجل على بيْع أخيه"(12).
فَسوم الشخص على سَوْم أخيه منافسة غير مشروعة، فلا يدخل الثاني في المنافسة قبل ان ينصرف المساوم الأول، وكذلك بيع الشخص على بيع الآخر، بان يقول: أبيعك أحسن مما اشتريت بنفس الثمن، أو بأقل منه.
ان شروط الله تعالى في التداول لها الأولوية: لأنها الإطار لشروط البشر، فالتبعية من شروط البشر لشروط الله تعالى هي معنى العبادة التي خُلِقَ الإنسان من أجلها:
ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليس في كتاب الله، من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وان اشترط مائة شرط، شرط الله أحق وأوثق(13).
لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تَبَعاً لما جئت به(14).
ثم هذه السوق تخضع لرقابة السلطة؛ لان الدولة في الإسلام هي دولة العقيدة، عليها ان تراقب التزام الناس لمقتضيات العقيدة في الحياة اليومية على المستوى الاقتصادي وغيره:
(ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون الا يظن أولئك انهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين)(15).
بهذه الحرية المنظمة مسبقاً، والمراقبة لاحقاً، تُفسَّر النصوص الواردة في منع تحديد الأسعار، وفي جوازه، فقد طلِبَ إلى الرسول(ص)، ان يسعِّر السلع والخدمات في سوق المدينة، فأبى، وقال:
"إن الله هو المسعِّر، القابض، الباسط، الرازق: واني لأرجو ان القى ربي وليس أحد منكم يطلبني بمظلمة في دم ولا مال"(16).
وقبل ذلك ربط القرآن حلَّ التجارة بالتراضي في اطار قواعد الشريعة:
(ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم)(17).
لكن الخليفة عمر بن الخطاب(رض)، رأى حاطب بن أبي بلتعة(رض) يخفِّض سعر سلعته عن سعر السوق، فقال له مهدِّداً: "إما أن تزيد في السعر، وإما أن ترفع من سوقنا"(18)؛ وهذا ما حمل أئمة الفقه من أمثال احمد بن تيمية أن يقول: "يتبين، أن السِّعر منه ما هو ظلم، لا يجوز، ومنه ما هو عدل جائز، فإذا تضمن ظلم الناس، واكراههم لغير حق على البيع بثمن لا يرضون، أو منعهم مما اباحه الله لهم، فهو حرام؛ واذا تضمن العدل بين الناس، مثل اكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل، فهو جائز، بل هو واجب"(19).
ثانياً: الضوابط الشرعية:
وضع الإسلام عدة ضوابط تحمي الثقة، والتوازن بين اطراف التداول:
1ـ مَنَعَ الغَرَر:
قال أبو هريرة(رض):
"نهى النبي(ص) عن بَيْعِ الغَرَرِ"(20)
والغَرَر: أن يكون موضوع التداول غير مقدور على تسليمه إلى المتملك، سواء أكان هذا الموضوع موجوداً أم معدوماً؛ يقول ابن قيم الجوزية في بيان معنى الغرر الشرعي: "ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله(ص) ولا في كلام أحد من الصحابة والتابعين، ان بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بيع الأشياء التي هي معدومة. كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع له العدم، ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يُقدَر على تسليمه، سواء كان موجوداً، أو معدوماً"(21).
ومن أمثلة الغرر بيعُ السمك، وهو في ماء البحر، لم يصطد بعد، ومنها كذلك ما يسمى ضربة الغائص، حيث يبيع مستخرج الجواهر واللآلئ ما يمكن ان يستخرجه منها في احدى الغوصات إلى مواقعها بقاع البحار، فقد يستخرج القليل، وقد يستخرج الكثير، وقد لا يستخرج شيئاً، وقد ورد عن الرسول(ص) أنه نهى عن ضربة الغائص(22).
ومن الغرر، الذي يُحمى منه المستهلك ما يعرف ببيع السنين، حيث يبيع الانسان غلات حقله لعدة سنوات قادمة، فقد تكون غلة، وقد لا تكون، فيضيع المستهلك أو المتملك، قال جابر بن عبدالله(رض): نهى النبي(ص) عن بيع السنين(23).
ومن الغرر أيضاً: ان تباع الثمار على اشجارها ولم يَبْدُ صلاحها بعد، فعن أنس بن مالك(رض)، أن رسول الله(ص) نهى عن بيع الثمار حتى تزْهي. فقيل له: وما تـُـزْهي؟ قال: حتى تحمرَّ، قال: أرأيت ان منع الله الثمرة، بمَ يأخذ أحدكم مال أخيه؟(24)
ومن هذا النوع أيضاً: أن يبيع الشخص ما لم يشترط بعد، وقد طُلِب منه، فقد يتسنى له الشراء، وقد لا يتسنَّى، قال حكيم بن حزام: يا رسول الله، يأتيني الرجل، فيسألني البيع، ليس عندي ما أبيعه له، ثم أبتاعه من السوق؟
قال: لا تبع ما ليس عندك. (25)
وقال عليه الصلاة والسلام: من ابتاع طعاماً، فلا يبعه حتى يقبضه. (26)
لكن الاسلام رخص في بيع المثلي المتوافر في الأسواق، قبل قبضه، بل وقبل وجوده، وذلك في عقد السلم، حيث يُدْفَعُ الثمن مسبقاً، على أساس أن تسلَّم السلعة بعد سنتين أو ثلاث، قال عبدالله بن عباس(رض)، قدم النبي(ص) المدينة، وهم يسلفون بالثمن السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، إلى أجل معلوم(27).
2ـ تقديم العارض للبيانات الكافية:
حول موضوع التداول، تبين نوعه، وصفاته المميزة، وكميته، وتخرجه من الجهالة؛ بحيث يتم التراضي عليه عن بينة تامة؛ وفي هذا الاطار نهى النبي(ص)، عن بيع الصّبْرة من التمر، لا يُعلَم مكيلتها، بالكيل المسمى من التمر(28)، كما نهى عن الملامسة والمنابذة(29)؛ قال الامام مالك: "والملامسة: أن يلمس الرجل الثوب، لا ينشره، ولا يتبين ما فيه، أو يبتاعه ليلاً، ولا يعلم ما فيه.
والمنابذة: أن ينبذ الرجل إلى الرجل ثوبه، وينبذ الآخر اليه ثوبه، على غير تأملٍ منهما، ويقول كل منهما للآخر: هذا بهذا"(30).
ومن الواضح أن البيانات يجب ان تكون صادقة، لا كتمان فيها للعيوب، ولا كذب ولا دعاية مظلة، مشفوعة بالتأكيدات والأيمان الكاذبة؛ يقول الرسول(ص): المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً، فيه عيب، الا بيَّنه(31).
ويقول الله عزوجل: (إن الذين يشترون بعهد الله، وايمانهم ثمناً قليلاً اولئك لا خلاق لهم في الآخرة، ولا يكلِّمهم الله، ولا ينظر اليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم) (32).
3ـ البعد عن وسائل فقدان الثقة بين اطراف التداول:
يُحمى المستهلك بوجوب الابتعاد عن وسائل فقدان الثقة، وفي هذا السياق حرم الاسلام الغش في موضوع التداول، حتى يكون هذا الموضوع على حقيقته، فعن أبي هريرة(رض)، ان رسول الله(ص) مرّ برجل يبيع طعاماً، فسأله: كيف تبيع؟ فأخبره، فأوحي إليه: ان أدخل يدك فيه، فأدخل يده فيه، فاذا هو مبلول، فقال رسول الله(ص): ليس منا من غشّ(33).
والتدليس نوع من الغش، وقد كان منه لدى العرب في تداول الانعام ان يشد الواحد ضرع البقرة، أو الشاة أو الناقة عدة ايام قبل الذهاب بها إلى السوق، لتظهر في أعين طالبيها منتفخة الضرع، غزيرة اللبن، فيقبل في شرائها بثمن مرتفع، وعندما يحتلبها، يجدها عادية، وقد نهى رسول الله(ص)، عن هذا الفعل الذي يسمى التصرية. قال: لا تصروا الابل والغنم، فمن ابتاعها بعد، فانه بخير النظرين، بعد ان يحتلبها؛ إن شاء أمسك، وان شاء ردها، وصاعاً من تمر(34).
والفرق بين الغش والتدليس: أن الغش يكون سابقاً على عرض السلعة للتداول، كخلط اللبن بالماء قبل الدخول به إلى السوق، أو لاحقاً في مرحلة الوفاء، كمن يتعاقد على بيع تمر جيد، فاذا به عند الوفاء يقدِّم تمراً رديئاً، أو خليطاً من جيد ورديء، بينما التدليس هو خديعة مصاحبة للتداول.
ومن الغش التغيير في المقاييس من الموازين والمكاييل، عن المقاسات الشرعية المعروفة، أو النقص فيها عند البيع، والزيادة عند الشراء، مما يعرف بالتطفيف المعاقب:
(وأوفوا الكيل اذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم)(35).
وفي نفس السياق، حرم الإسلام التلاعب بالأسعار عن طريق النَّجْش، وهو ان يزيد الشخص في ثمن السلعة، وهو لا يريد شراءها، انما يريد فقط ان يدفع الآخرين لشرائها، أو لقبول الثمن المرتفع المطلوب فيها، وقد يكون ذلك بتواطئ بين البائع والناجش، وقد قال الرسول(ص): لا تناجشوا(36).
وقال عبدالله بن عمر: نهى رسول الله(ص)، عن النَّجْشِ(37).
وقال ابن أبي اوفى: الناجش آكل ربا، وهو خداع باطل، لا يحل، قال النبي(ص): الخديعة في النار، ومن عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردّ(38).
4ـ منع الوساطة غيْر المنتجة:
وجد الرسول(ص): ان المنتجين بالبادية العربية يأتون بمحصولهم إلى المدن، ليبيعوا بضائعهم، مقابل جزء من الثمن متفق عليه؛ فنهى(ص)، عن ذلك وامر المنتجين ان يبيعوا محصولهم مباشرة، لأن ما يؤدَّى للوسيط يثقل كاهل المستهلك، قال(ص): "لا بيع حاضر لبادٍ، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض"(39).
وقال أنس بن مالك: نهينا أن يبيع حاضر لباد، ولو كان أخاه، أو اباه(40).
وكما نهى الرسول(ص) عن الوساطة بمعنى الوكالة بأجر على البيع، نهى عن الوساطة بمعنى الحيلولة دون التعامل المباشر بين المنتج والمستهلك، بحيث يشتري الوسيط لنفسه، ثم يبيع ما اشترى للمستهلك؛ دون ان يقوم هذا الوسيط بأي جهد انتاجي مثل تقريب السلعة من المستهلك. وهذا ما كان معروفاً لدى العرب بتلقي الجَـلـَبِ أو المورِّدين، لأن الوسيط في هذه الحالة قد يهدف إلى استغلال عدم معرفة المورِّد بالأسعار، فيبيع المورد سلعته بالجملة إلى الوسيط، وهذا يبيع بربح أعلى كثيراً، أو يحتكر، فيصطنع قلة العرض، وينتظر ارتفاع الأسعار، وفي كل حال يُغلي على المستهلكين أسعارهم، يقول الرسول(ص):
"لا تلـقَّوا الجَلَب، فمن تلقّاه فاشترى منه، فإذا أتى سيّدُه السوق فهو بالخيار(41).
نهى أن تتلقى السلع، حتى تبلغ الأسواق(42).
5ـ منع بيوع الاضطرار:
قال الإمام علي(كرم الله وجهه): سيأتي على الناس زمان عضوض، يعضُّ الموسر على ما في يديه، ولم يؤمر بذلك، قال تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم)(43).
ويبايع المضطرون، وقد نهى النبي(ص) عن بيع المضطر وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها(44).
وبيع المضطر: ان يكون شخص ما مضطراً إلى سلعة اساسية غير متوفرة في السوق الا عند عارض واحد، ويحس العارض بحالة الضرورة التي يعانيها الطالب للسلعة، فيفرض عليه ثمناً أعلى من السعر المعقول، أستغلالاً للمستهلك دون وجه حق؛ ودون احساس بالأخوة الاسلامية والانسانية.
6ـ اعطاء المستهلك حق الخيار قبل ابرام العقد وبعده:
فقبل ابرام العقد، هناك خيار مجلس العقد، وهو عبارة عن فرصة للتأمل في مكاسب التعاقد على موضوع معين، تبدأ هذه الفرصة من الجلوس للمساومة والتعرف على شروط التعاقد عند الحاجة، وتنتهي بالتفرق عن الموضوع بالحديث عن موضوع آخر، مثلاً، لدى الحنفية والمالكية، وتنتهي بالتفرق البدني عن مكان التعاقد لدى الشافعية والحنابلة؛ فقبل التفرق عن الموضوع، أو عن المكان، يكون لكل من البائع والمستهلك حق الخيار في جعل العقد نهائياً، أو الغائه، حتى ولو بدا عليهما، أنهما وصلا إلى اتفاق نهائي؛ وذلك ضماناً للتوازن في التداول، وحيلولة دون استغلال المستهلك، يقول الرسول(ص):
"البيِّعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه، حتى يتفرقا"(45).
واما بعد ابرام العقد، فيحق للمستهلك ان يمارس عدة خيارات، منها: خيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية، وخيار الغبن.
فخيار الشرط: هو ان يشترط المستهلك أو المتملك ان تكون له مدة كافية يَكشف فيها بنفسه، أو بواسطة خبير، عن حالة موضوع التعاقد، حتى يتبيَّن جيداً مكاسبه، أو مضاره: وقد شكا تاجر ضرير هو حيان بن منقذ(رض)، إلى رسول الله(ص) انه يخدع في بعض ما يشتري من السلع، فقال له الرسول(ص): اشترط عدم الخداع في البيع، واذا خُدعت كان لك الخيار في امضاء العقد وفسخه.
اذا بايعت فقل: لا خِلاَبة، ثم أنت بالخيار في كل سلعة ابتعتها ثلاث ليال، فان رضيت فأمسك. وان شئت فاردد(46).
وخيار العيب هو حق فسخ العقد اذا وجد المشتري بما اشتراه عيباً، والعيب حسب المادة 338 من مجلة الأحكام العدلية "ما ينقص ثمن المبيع عند التجار، وارباب الخبرة"، فمن اشترى بقرة مُورسَ عليها شد الضرع حتى ظهرت وكأنها غزيرة اللبن، ثم كشفت التجربة أنها بقرة عادية، على غير ما تصوَّرها حين التعاقد؛ هذا المشتري له ان يفسخ العقد اذا اراد، بشرط ألاّ يكون البيع بيع براءة، حيث يتبرَّأ البائع من تبعة جميع العيوب، ويقبل بذلك المشتري؛ ولعل من المفيد ان نعيد هنا تسجيل حديث التصرية من وجهة نظر خيار العيب، وما يرتِّب للمستهلك من حماية:
لا تَصِرّوا الابل والغنم، فان ابتاعها فانه بخير النظرين: ان شاء أمسك، وان شاء ردَّها، وصاعاً من تمر(47).
وخيار الرؤية هو كما ترى القاعدة الحنفية، أن "من اشترى شيئاً لم يره، فهو بالخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وان شاء تركه"(48)؛ هذا الخيار يشمل العقارات والمنقولات، ولكنه خاص بالمشتري أو المستهلك، ولا حق فيه للبائع: فقد باع عثمان بن عفان لطلحة بن عبيد الله(رض)، أرضاً بالبصرة، لم يكن عثمان قد رآها كبائع، ولم يرها طلحة كمشتر، فقال عثمان: "لي الخيار؛ لانِّي بعت ما لم أره، وقال طلحة لي الخيار، لاني اشتريت ما لم أر، فحكَّما بينهما جبير بن مطعم، فقضى أن الخيار لطلحة، ولا خيار لعثمان"(49). وأقر الصحابة(رض)، قرار جبير بن مطعم، واجماع الصحابة حجة "تعود لسماع نص، أو نصوص من المعصوم(ص).
أما خيار الغبن فهو حق امضاء العقد وفسخه، يحق لمن استغلَّ جهله بالأسعار، ففرض عليه ثمن أعلى من ثمن السوق، مما يعتبر عرفاً، غبناً فاحشاً، لا يتساهل بشأنه، ويرى المالكية: أن الغبن الذي يخوِّل حق الخيار للمستهلك ينبغي ان يصل إلى حدود 30% أعلى من سعر السوق(50).
7ـ استحباب قبول طلب الاستقالة من العقد:
إذا لم يكن شرط بالخيار، ولا عيب يوجبه، ولا انعدام رؤية الموضوع
ولا غبن، وتبين لاحد الطرفين ـ وهو المستهلك في الغالب ـ أنه وقع عليه ضرر من التعاقد، فله أن يطلب من صاحبه ان يقيله من العقد، حتى يعودا إلى الحالة التي كانت قبل دخولهما إلى السوق؛ والإسلام يرغِّب المعنى بالطلب في هذه الحالة ان يقبل استقالة صاحبه من العقد، حتى يعودا معاً إلى حالة التوازن السابقة على العقد، يقول الرسول(ص):
من أقال مسلماً، أقال الله عثرته يوم القيامة. (51)
من أقال مسلماً، أقال الله عثرته. (52)الفرع الثاني: حماية مستهلك المشاهد والصور
المشهد منظر حي، أو طبيعي، يشاهده الإنسان، فيُؤثِّر فيه ايجاباً بالارتياح، أو سلباً بالاشمئزاز، يشاهد الواحد منظر البحر الأزرق الهادئ، ويرى الجبال المكسوة بالثلوج، ويرى الأزهار المتفتحة المتعددة الألوان والزكية الرائحة، فتشيع بين جنباته مشاعر الارتياح والمسرة؛ ويشاهد الواحد الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، ويرى الشاب المتأبط لصديقة، أو قابضاً على خصرها، في الشوارع، والحدائق العمومية، وقد يرى ما هو افظع من ذلك من انواع الرذيلة والفجور، وخاصة مشاهد المخمورين والمدمنين على المخدرات، يتمايلون ذات اليمين وذات اليسار، وكأنهم مخلوقات هلامية لا تستطيع الحركة المتوازنة؛ وفي هذه الحال لابد أن يشعر الواحد بالاشمئزاز، والتقزّز، بل وبالغثيان، عندما يرى ذبح الفضيلة العامة على مسرح الحياة اليومية، والرسول(ص) يقول:
"أيما امرأة استعطرت، فمرت على قوم ليجدوا من ريحها، فهي زانية"(53).
لعن رسول الله(ص) المتشبهات بالرجال من النساء، والمتشبهين بالنساء من الرجال(54).
كل شراب أسكر فهو حرام(55).
كل مسكر حرام، وكل مسكر خمر(56).
ان المشاهد هنا مستهلك للمشهد أو المنظر الطيب أو الخبيث؛ وهو، وان لم يكن مستهلكاً بالمعنى الاقتصادي الصِّرف، فهو مستهلك بالمعنى الأخلاقي، لكنه استهلاك له تأثيره الايجابي أو السلبي على النشاط الاقتصادي، وعلى الانفاق الذي يتجه نحو الاسراف والتبذير في الجانب السلبي، وهذا بدوره يؤثر على الادخار الوطني العام، وبالتالي على زيادة الطاقة التشغيلية.
ان إفساح المجال امام الرذيلة لفئة من المجتمع يجعل الرذيلة تنتشر، وتهدِّد الجميع؛ والمجتمع في تصور الاسلام سفينة واحدة، في بحر الحياة، فإذا خرَّب البعض السفينة، بخرق في احد جوانبها، دون اعتراض من بقية الركاب غرق الجميع، من خرَّبوا، ومن لم يُخرِّبوا:
مثل القائم على حدود الله، والمدهن فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة في البحر، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، اذا استقوا من الماء، مرّوا على من فوقهم، فقال الذين في أعلاها، لا ندعكم تصعدون، فتؤذونا، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ حتى فوقنا؛ فان تركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وان اخذوا على ايديهم، نجوا، ونجوا(57) جميعاً.
ومن ذلك فلا مجال لللامبالاة في الاسلام بواقع استفحال الرذيلة؛ لأنها تجعل الساكت مساهماً بسكوته في انتشار الرذيلة، ومن ثم يعاقب الساكت كما يعاقب الفاعل، يقول أبو بكر الصديق(رض):
أيها الناس، انكم تقرأون هذه الآية، وتؤولونها على خلاف تأويلها:
(يا أيها الذين آمنوا عليكم انفسكم، لا يضركم من ضل إذا اهتديتم) (58).
واني سمعت رسول الله(ص) يقول: ما من قوم عملوا بالمعاصي، وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم، فلم يفعل، الا يوشك ان يعمهم الله بعذاب من عنده(59).
إن حماية المستهلك من الآثار المدمِّرة للمشاهد الخبيثة تقتضي ان توسَّع مهمة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، إلى مستويات متعددة: مستوى المؤمنين عامة، ومستوى العلماء والدعاة، ومستوى الدولة حامية العقيدة بدعم وتوسيع اختصاصات نظام الحسبة، وكذلك باحياء دعوى الحسبة، حتى يستطيع أي شخص، يشاهد منكراً، ان يرفع دعوى باسمه الخاص، ويطالب بازالة المنكر، ومعاقبة مرتكبه، فيجاب لدعواه، ويحكم له؛ ولقد قال الرسول(ص) عن هذه الدعوى، التي سبق لعلماء المغرب ان طالبوا باحيائها، مثل الاساتذة عبدالله كنون، وعلال الفاسي، وفاروقي رحالي، قال(ص):
"ألا أخبركم بخير الشهود؟ الذي يأتي بشهادته قبل ان يُسألها"(60).
أما الصور فهي نسخ عن المشاهد الحية أو الطبيعية، جامدة، وقد تكون نابضة بالحركة، كما هي الحال في صور التلفاز، والأفلام، ومن ذلك فهي تفعل فعل المشاهد أو قريباً منه، وتعطي نفس الآثار تقريباً، وبالتالي تجب حماية المشاهد من آثارها المدمرة.
ومن الوسائل المستعملة للحماية في هذا المجال لدى بعض الدول الإسلامية تكوين لجان فنية للرقابة الشرعية لدى مؤسسات الإعلام، كما هي الحال في مصر؛ حيث تعتبر رقابة الأزهر الشريف على الأفلام الدينية شرطاً للحصول على الترخيص بالتوزيع.
ان الصور تخالف المشاهد، فالصور مواد اقتصادية وسلع، فالذي يشتري صورة خبيثة، أو فلماً مركّباً من مجموعة من الصور الخبيثة، ينفق ماله في الحرام، من جهة، ويفسد اخلاقه واخلاق من يحيط به من جهة ثانية، وقد قال الله عزوجل، في الانفاق الحرام:
(ولا تبذر تبذيراً، ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين، وكان الشيطان لربه كفوراً). (61)
وقال عزوجل في مروِّجي الفساد:
(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله اليك، ولا تبغ الفساد في الأرض، ان الله لا يحب المفسدين). (62)الفرع الثالث: حماية مستهلك الأفكار
من البديهي أن الحقائق العلمية واحدة، لا تختلف حسب المذاهب، أو حسب اللغات والالوان، فالعلم محايد، أو على الأقل، هكذا ينبغي ان يكون؛ بينما الثقافة باعتبارها ترجمة لتصور مجتمع معين، عن الخالق والمخلوق، وعن الكون والانسان، وعن الحياة مصدرها ومصيرها، وعن القيم الانسانية واصولها، وعمّا ينبثق عن ذلك من النظم والقوانين الحاكمة لحركة الحياة وتطورها، هذه الثقافة تختلف محتوياتها باختلاف معتقدات الأمم والشعوب وعاداتها، واعرافها، ونوعية علاقاتها مع الآخرين عبر التاريخ من التكامل أو العداء، من الحوار أو الصدام كما يقال.
يعتبر الإسلام ان تعدّد الاعراق واللغات والثقافات نعمة من نعم الخالق، جل وعلا، تثري الطاقات الانسانية، وتزيد من الخيرات على مختلف المستويات، إذا تم التعارف البنّاء بين الأمم والشعوب على اساس التعاون والتكامل:
(يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) (63).
ويعتبر الاسلام كذلك ان التعدد آية من آيات الله، الدالة على وحدانية الله تعالى، وعلى قدرته، وعلى حكمته في تدبير أمر الناس والحياة:
(ومن آياته خلق السماوات والأرض، واختلاف السنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين) (64).
وبناءً على ذلك دعا الاسلام إلى كلمة سواء تجمع ـ في المرحلة الأولى ـ كل المتمسكين بالكتب السماوية السابقة رغم التحريف الذي داخل كتبهم؛ لأن الكلمة السواء ستحمي من آثار ذلك التحريف، فهذه الكلمة تعني: توحيد العبادة لله تعالى وحده، بمعنى الاطاعة في الأمر والنهي، دون أي شريك، وتوحيد الربوبية، بمعنى أن الرب واحد هو الله، ولا حق لاي مخلوق ان يرب الآخرين، على أن من لا يريد الدخول في هذه الكلمة السواء، يبقى له خياره، وعلى الآخرين القبول بهذا الخيار، والشهادة له به، ولتتابع الحياة بعد ذلك مسيرتها في تعايش، وحوار مستمر، فالبشرية اسرة واحدة من حواء وآدم عليهما السلام:
(يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعبد الا الله، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فان تولوا، فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون) (65).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم، الذي خلقكم من نفس واحدة، وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً، ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، ان الله كان عليكم رقيباً)(66).
ولكن الآخر رفض الكلمة السواء التي دعا اليها الاسلام، واتخذ ـ في المرحلة الأولى قبل سيطرة العلمانية ـ الاحبار والرهبان أرباباً من دون الله تعالى، يأخذون منهم التصور العقدي، والنظام الأخلاقي والتشريعي ويغطون ربوبيتهم للناس، بربوبية عيسى لهم، مع ان عيسى(ع)، يجعل الربوبية لله تعالى وحده.
(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح بن مريم، وما أمروا إلاّ ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاّ هو) (67).
من جهة ثانية، رفض هذا الآخر الشهادة للمسلمين بخيارهم، وقرر بالوسائل السلمية احياناً، وبالعنيفة اخرى وبهما معاً في احايين ثالثة، ان يحاول صدّ المسلمين عن مشروعهم، حتىلا يضايقوا ربوبيته الأحبار والرهبان:
(ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء) (68).
(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا) (69).
ومنذ ذلك الحين، وجد نموذجان للتصور العقدي، والثقافي العام، وبالتالي الحضاري، يتبادلان الصراع البارد أو الساخن بين الشمال والجنوب.
ـ ففي المرحلة الأولى، زحف الإسلام، واسقط امبراطورية كسرى، وفرض التراجع على أباطرة الروم في الشام، ومصر، والمغرب العربي، وعبر إلى جزيرة ايبيريا وما يتصل بها.
ـ وفي المرحلة الثانية التي بدأت مع القرن الحادي عشر الميلادي، كان الاسترداد لصقلية، وطليطلة على يد الفونسو السادس، وتوسعت حركة الاسترداد فانتزعت القدس من يد الأمراء السلاجقة، بعد ما اغرقت المدينة في حمّام الدم من مائة الف قتيل.
ـ وفي المرحلة الثالثة، التي بدأت خلال القرن 12م، وانتهت بنهاية الثالث عشر، حرر الإسلام ممتلكاته، فاعاد صلاح الدين الايوبي القدس، وانكفأ الصليبيون عن الشرق نهائياً.
ـ وفي المرحلة الرابعة، التي غطت القرن الخامس عشر الميلادي، استأنف المسلمون زحفهم على القسطنطينية، فضموها إلى الإسلام بصفة نهائية، في نفس الآن اجهزت الصليبية على آخر معقل للإسلام بالأندلس: مملكة بني الأحمر بغرناطة؛ وهكذا دواليك حتى مرحلة الاستعمار الاوروبي خلال القرن 18، و19 وما بعدهما.
إنه صراع ثقافي ـ حضاري عنيف في كثير من الاحيان، اكتشف الآخر من خلاله أن القوة وحدها لا تكفي في الصراع، بل لابد من الغزو الثقافي، عن طريق دراسة اصول الثقافة الإسلامية وتفكيك مكامن القوة فيها، فكان تأسيس الاستشراق، الذي استهدف الحصانة الثقافية في البناء الثقافي ـ الحضاري الإسلامي، فكانت مرحلة جديدة في الصراع، مرحلة تعاون فيها التنصير، والاستشراق، والسلاح، ونهب الثروات، والتغريب اللغوي، والعلمانية التي حصرت الدين في زاوية ضيقة، لتمنح خصائص الربوبية لغير الله تعالى، ولتفتح المجال لتحكم القوة وحدها في شؤون العالم، ولتفرض نموذجاً ثقافياً وحضارياً وحيداً؛ يهمّش بكل الوسائل ما سواه.
هنا طرحت مشكلة حماية المستهلك للثقافة وادواتها، بما فيها الكتاب، ومواد وبرامج الإعلام والتعليم وغيرهما، وأحسّ الغيورون بعالم الإسلام بفداحة الخطر في التسميم الثقافي، فهذا يقتل أمماً بكاملها، بينما التسميم الغذائي، مثلاً، قد يقتل فرداً أو افراداً معدودين: وتبادروا إلى مواجهة ذلك بالردود على الكتابات التي تسيء إلى خصائص الثقافة الإسلامية، ثم إلى المطالبة بمنعها من التداول، حصراً لآثارها ـ ما أمكن ـ في نطاق ضيق؛ وهكذا ردّ علماء الأزهر على علي عبدالرازق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم) الذي قرر، تبعاً للاستشراق الانجليزي؛ ان الإسلام لا دخل له في قضايا الحكم، فهو دين كالدين المسيحي، يقسِّم مساحة الحياة نصفاً لله تعالى، ونصفاً لقيصر، وليس نظاماً شاملاً لكل قطاعات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وكان صدور الكتاب ـ كتاب علي عبدالرازق ـ مزامناً لالغاء الخلافة الإسلامية بتركيا، ولمحاولة المسلمين ببعث الخلافة من جديد.
وبالمثل رد على طه حسين وتلامذته من أحمد خلف الله وغيره في الهجوم على القصص القرآني، واعتبار قصة يوسف بالذات قصة خيالية من نسج الخيال، لا واقع لها، وتحمّل الأزهر مسؤوليته في حماية المستهلك من الأفكار السامّة المناقضة لهويته وعقيدته.
وهكذا، ايضاً رد على منكري السنة النبوية، وعلى متّهمي المكثرين من روايتها كأبي هريرة(رض)، بالوضع والاختلاق، وعلى متّهمي القانون الجنائي الاسلامي بالقسوة، ومتّهمي شرط الولي في عقد النكاح بتكريس دونية المرأة، ومتّهمي حجاب المرأة المسلمة بمنع الحرية الشخصية، ومتهمي منع الربا في الاقتصاد بالوقوف في وجه الحرية الاقتصادية... وما إلى ذلك.
لكن هذه الحماية للمستهلك الثقافي أتت وتأتي متأخرة، بعد الاصابة بأعراض العلمانية، والتغريب، والتلمذة المخلصة للاستشراق، وخير منها الوقاية، التي تحول، مسبقاً، دون الاصابة بذلك. وكما يقال: (الوقاية خير من العلاج)؛ ان ذلك لا يكون في عصر العولمة الثقافية، وهو عصر اتهام الإسلام بالإرهاب، الا باتخاذ العالم الاسلامي لاستراتيجية ثقافية تحترم هوية المستهلك أو القارئ، وتحصِّنها وتنميها، وتفتح المجال للحوار الثقافي ـ الحضاري، المنضبط بضوابط الهوية الإسلامية، لتسمح باقتناء الصالح من التراث الانساني في الفكر، والعلم، والتقنية، وترفض ما يسيء إلى المسلم، أو إلى الانسان بصفة عامة، كفكرة اباحة الشذوذ، وتوريث الشاذين، والاستنساخ البشري، وما اشبه ذلك.
وصدق الله العظيم اذ يقول:
(أما الزَّبد فيذهب جفاء، واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال) (70).فهرس المصادر والمراجع
ـ المصحف الكريم: رواية ورش، وحفص.
ـ إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المساند العشرة.
الامام أحمد البوصيري، تحقيق أحمد ابي عبدالرحمن عادل بن سعد، وأبي اسحاق السيد محمود بن اسماعيل، نشر مكتبة الرشاد، الرياض، ط1، 1419هـ/1998م.
ـ إعلام الموقعين عن رب العالمين:
أبو عبدالله محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية). ط الحاج عبدالسلام بن شقرون، القاهرة، 1968م.
ـ جامع الإمام الترمذي:
ضبط عبدالرحمن محمد عثمان، نشر دار الفكر، بيروت ـ لبنان، ط2، 1394هـ/1974م.
ـ الحسبة في الإسلام:
أحمد بن تيمية، تقديم محمد المبارك، نشر دار الكتب العربية، 1387هـ/1967م.
ـ الطرف الحكمية في السياسة الشرعية:
أبو عبدالله محمد بن أبي بكر (ابن قيم الجوزية). نشر المؤسسة العربية للطباعة والنشر، القاهرة 1380هـ/ 1961م.
ـ صحيح الإمام البخاري:
بشرح فتح الباري للامام ابن حجر العسقلاني، ترقيم محمد فؤاد عبدالباقي، نشر المكتبة السلفية، الرياض ـ السعودية.
ـ صحيح الجامع الصغير وزيادته:
تأليف جلال الدين السيوطي، وتصحيح محمد ناصرالدين الالباني نشر المكتب الاسلامي ببيروت، ط2، 1402هـ/ 1982م.
ـ صحيح الامام مسلم:
تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، نشر دار احياء الكتب العربية، مصر، ط1، 1374هـ/ 1955م.
ـ القوانين الفقهية:
الشهيد ابن جزي الغرناطي ـ ط دار الرشاد الحديثة ـ الدار البيضاء ـ المغرب.
ـ سنن أبي داود:
ط: حمص ـ ط1، 1388هـ/ 1969م.
ـ سنن ابن ماجة:
تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، نشر دار احياء التراث العربي، دون تاريخ.
ـ سنن النسائي:
دار احياء التراث العربي، بيروت لبنان.
ـ مجلة الأحكام الشرعية:
على المذهب الحنبلي، تأليف أحمد بن عبدالله القاري، ط1، 1401هـ/ 1981م.
ـ مجلة الأحكام العدلية:
على المذهب الحنفي، تأليف لجنة علمية في الخلافة العثمانية، خلال القرن13هـ. ط5، 1388هـ/ 1968م.
ـ مسند الإمام أحمد:
نشر دار صادر والمكتب الإسلامي.
ـ موطأ الامام مالك:
برواية يحيى بن يحيى الليثي، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، نشر دار احياء التراث العربي، دون تاريخ.
ـ موطأ الامام مالك:
بشرح محمد الزرقاني، نشر دار الفكر ببيروت، نصب الراية بتخريج احاديث الهداية:
جمال الدين بن عبدالله الزيلعي، نشر المجلس العلمي بالهند، ط1، 1357هـ/ 1938م.
ـ هداية الرواة إلى تخريج احاديث المصابيح والمشكاة:
الامام ابن حجر العسقلاني، تصحيح محمد ناصرالدين الالباني، ط: دار ابن القيم، ودار ابن عفان، ط1، 1422هـ/ 2001م.-----------------------------
(1) الحسبة في الإسلام، ص11.
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص 328.
(3) المصدر نفسه، ص322.
(4) مجمع الجامع الصغير وزيادته، رقم، 1876.
(5) نفس المصدر رقم: 3284.
(6) سورة البقرة: 277.
(7) صحيح الامام مسلم، رقم: 605، والخاطئ: هو الآثم.
(8) إتحاف الخيرة المهرة بزوائد المساند العشرة، رقم 3682.
(9) جامع الترمذي: 1376.
(10) صحيح مسلم، رقم: 1581.
(11) صحيح مسلم، رقم: 1413.
(12) صحيح مسلم، رقم: 1312.
(13) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج4، ص: 370.
(14) هداية الرواة إلى تخريج احاديث المصابيح والمشكاة، رقم 166 وهو حسن.
(15) سورة المطففين: 1-6.
(16) سنن الترمذي، رقم: 1336.
(17) سورة النساء: 29.
(18) موطأ الإمام مالك، رواية يحيى الليثي، تحقيق محمد فؤاد عبدالباقي، ص651.
(19) الحسبة في الإسلام، ص:16، ومثله لابن القيم في الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص275.
(20) سنن أبي داود، رقم: 3375.
(21) اعلام الموقعين عن رب العالمين، ج2، ص:28.
(22) سنن ابن ماجة، رقم 2196، ومسند الامام احمد ج3، ص42.
(23) سنن أبي داود، رقم: 3374.
(24) صحيح البخاري بشرح فتح الباري ج:4، ص:398.
(25) سنن أبي داود، رقم: 3503.
(26) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج4، ص349.
(27) المصدر نفسه، ج4، ص429.
(28) صحيح مسلم، رقم: 1530.
(29) موطأ الامام مالك بشرح الزرقاني، ج3، ص312.
(30) نفس المصدر.
(31) سنن ابن ماجة، رقم2246.
(32) آل عمران: 77.
(33) سنن أبي داود، رقم 3452.
(34) صحيح البخاري، بشرح الفتح ج4، ص:361.
(35) الاسراء: 35.
(36) سنن أبي داود، رقم 3438.
(37) صحيح البخاري بشرح فتح الباري، ج4، ص 355.
(38) المصدر نفسه.
(39) صحيح الامام مسلم، رقم 1522.
(40) نفس المصدر، رقم: 1523.
(41) صحيح مسلم، رقم 1519، وتسيِّده: تعني مالك السلع.
(42) صحيح مسلم، رقم 1517.
(43) البقرة: 238.
(44) سنن أبي داود، رقم 3382.
(45) صحيح مسلم، رقم 1531.
(46) موطأ مالك بشرح الزرقاني، ج4، ص342.
(47) صحيح البخاري بشرح الفتح، ج4، ص 361.
(48) نصب الراية في تخريج احاديث الهداية، ج4، ص 9.
(49) المصدر نفسه.
(50) انظر: مجلة الاحكام العدلية المادة: 165، ومجلة الأحكام الشرعية: المادة: 407، والقوانين الفقهية لابن جزي، ص: 291.
(51) سنن ابن ماجة، رقم 2199.
(52) سنن أبي داود، رقم 3460.
(53) سنن النسائي، رقم 4737.
(54) سنن الترمذي، رقم 2935.
(55) سنن النسائي رقم 5166، ورقم 5155.
(56) سنن النسائي رقم 5166، ورقم 5155.
(57) صحيح الجامع الصغير وزيادته، رقم 5708، وهو للبخاري.
(58) المائدة: 107.
(59) سنن الترمذي، رقم: 2257.
(60) صحيح الامام مسلم، رقم 1716.
(61) سورة الاسراء: 27.
(62) سورة القصص: 77.
(63) سورة الحجرات: 13.
(64) سورة الروم: 22.
(65) سورة آل عمران: 64.
(66) سورة النساء: 1.
(67) سورة التوبة: 31.
(68) سورة النساء: 89.
(69) سورة البقرة: 217.
(70) سورة الرعد: 17.


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية