ماذا يريدون ؟ هذا هو السؤال الضروري الذي يعترض هذا الاجتماع المنعقد مؤخرا على
هامش المؤتمر الثالث عشر للمجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة . والذي بدأت لجانه
تتناول بعد غياب طويل قضية التقريب بين السنة والشيعة. هذا لا شك أمرمهم لنا جميعا.
ما ماهية هذا التقريب؟ ومتى بدأت هذه الدعوة؟ ولماذا عادت في هذا الوقت بالذات؟ وما
معتقد الشيعة ؟ وما حكم أهل السنة فيهم ؟ وما الواجب مع الشيعة ظ هذه أسئلة ضرورية
ينبغي الإجابة عليها لتعلقها بهذه القضية.
أما عن ماهية التقريب : فالتقارب ضد التباعد ، والتقريب الاشتراك في الأمر ، فلا
يفترق صعودا ولا نزولا.
قال الأصمعي : إذا رفع الفرس يديه معا ووضعهما معا ، فذلك التقريب . انتهى.
وعند تنزيل المعنى اللغوي على حقيقة الواقع ، فلا يفهم معنى للتقارب المحدث بين
أصحاب الملل المتضاربة والفرق المختلفة ، إلاّ الاتفاق على مجموعة من العقائد
المشتركة بين الفريقين المختلفين ، والبحث عن سبل عملية سياسية أو اجتماعية ليتبلور
فيها حقيقة التقريب ، وغض النظر عن كل ما يسبب التناحر والفرقة والنزاع ، سواء كان
ذلك في الجوانب الفكرية الاعتقادية أو الجوانب العملية ، فلا عتاب ولا خصومة ولا
عداوة ولا ملام ، كل يرضى بالآخر ويسلم له على ما هو عليه لا على ما يتمنى منه أن
يكون ، هذا هو التقريب.
وقد يراد بالتقريب أن يتمذهب أحد الفريقين بمذهب الآخر أو يتفقا على مذهب وسط
يلتقيان عليه.
ويأبى الله تعالى إلاّ أن تعلو كلمته وتنتصر سنة رسوله ـ صلى الله عليه وآله ـ بلا
مداهنة
(231)
ولا مصانعة، فلابد من المواجهة ، وعلى كل فرد بحسبه ، وحسبما يقتضيه الحال (ليهلك
من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)(1) أما هذا الإفك الذي يسمونه التقارب فلعلهم
يريدون به أحاديث كاذبة من وحي الشياطين أو شعرا مفتعلا من تلبيس النفس يقرب بين
القريقين.
ولو جاز ذلك لفعله أبو بكر مع مانعي الزكاة ، وابن عباس في مناظرته مع الخوارج ،
وابن عمر في الرد على القدرية ، وأحمد في مناظرته مع الجهمية ، ولو وقع ذلك لاندرس
الدين وانطمس نوره ، ولما بقي منه شيء ، فكل أصل من أصول الدين سيقدم قربانا لمن
يتنازع فيه ، فكل طائفة تريد حداً ووصفاً يزول معه الأشكال ، وهذا بدوره يسقط
المبادئ والقواعد الرئيسة ، ولا شك .
وفي الحقيقة أن للشيعة هدفاً خبيثاً من وراء تلك الدعوة ، وقد يروج هذا الهدف على
بعض أصحاب النوايا الحسنة ، فالشيعة لا يظهرون معتقداتهم لغيرهم أبداً ، بسبب معتقد
التقية ، وعليه فمن الصعوبة أن تعرف مرادهم إلاّ من بين السطور ، أو من كتبهم
المدونة بينهم.
متى بدأت تلك الدعاية ؟
لقد بدأ دعاة التقريب ـ حملتهم ـ من أول القرن التاسع عشر ، على أثر زيارة قام بها
الشيخ تقي الدين القمي من علماء الشيعة إلى مصر، وطمع في الأزهر حينئذٍ ، وقد وجد
منهم صدوراً واسعة ، وهم حين ذاك الشيخ المراغي والشيخ سليم والشيخ شلتوت ، وقد
تبرع هذا الأخير فاصدر عام 61 فتوى خطيرة كانت صيدا ثمينا ، لم يظفر بمثلها أحد من
الشيعة من قبل ، من أحد من أهل السنة ، وقد أعلن فيها الاعتراف بالشيعة الإمامية
كأحد المذاهب المعتبرة التي يجوز التعبد بها ، وذلك بعد أربعة عشر عاما من إنشاء
دار التقريب بالقاهرة ، وكانت دار التقريب قد أنشئت عام 1947 م ، ووسع لها في
النفقات ، وكان لها مجلة سميت بـ«رسالة
__________________________________
(1) الأنفال : 42.
(232)
الإسلام» واعدوا تفسير الطبرسي الشيعي للنشر والتوزيع ، وكان من أعضاء لجنة التقريب
الشيخ أمجد الزهاوي من العراق ، وعلي المؤيد أمام الشيعة الزيدية من اليمن ، والشيخ
عبد المجيد سليم من علماء الأزهر ، والشيخ حسن البنا مرشد الأخوان ، والحاج أمين
الحسيني مفتي فلسطين ، والشيخ الالوسي ، وغيرهم ، وكان الشيخ محمد رشيد رضا المتوفى
عام 1935م قد سبقهم في تلك الأمنية؛ اقصد أمنية التقريب بين السنة والشيعة ، تحدث
فيها مع علماء كثيرين ، ولكن تلك الأمنية لم تدم كثيراً ؛ فقد تبين له بما لا يدع
مجالا للشك أن الشيعة اكثر الناس شقاقا ونزاعا لأهل السنة ، وقد عبر عن ذلك في مجلة
المنار ، وأنظر «تاريخ الصحافة الإسلاميّة» لا نور الجندي (1/139)
عودة لمؤتمرات التقريب
ولظروف معينة توقفت مساعي التقريب ، غير أنها عادت مرة أخرى ، وكان آخرها ما دار في
ندوة «التقريب بين المذاهب الإسلاميّة» المنعقد في القاهرة على هامش المؤتمر الثالث
عشر للمجلس الأعلى للشئون الإسلاميّة ، والذي عرضت وقائعه في مجلة منبر الإسلام
العدد الخامس جمادى الأولى 1422 هـ ، وقد بينت فيه كيف جاء أئمة الشيعة ـ تسخيري
ومهاجراني والمؤمن وواعظ زاده وعبدالله القمي وفرحات والسيابي ـ بمطالبهم يدورون
عليها بالتفصيل ، في مقابل الكلام المجمل والترحيب الواسع ممن مثلوا أهل السنة ،
والزهد في المطالب ، وزعمهم أن ليس ثمة خلاف ، وليس هناك قضية أصلا بينهم وبين
الشيعة.
حتّى قال أحدهم في نهاية الندوة : لماذا تثار دائماً قضية الخلاف بين السنة والشيعة
، بل وتبدو كقضية خلافية كبرى تؤثر على فكر المسلمين ؛ وتؤدي في النهاية لإضعاف
قوتهم ؟ ! (انتهى).
إذن ليس هناك قضية أصلا قلت : ولماذا التقريب إذن ؟ ولكن للشيعة رأيا آخر ، بينما
لم يكن لممثلي أهل السنة مطلب من الشيعة بخصوص ما ينقمون به على أهل السنة ، جاء
أعضاء المؤتمر من الشيعة وقد حملوا في حفائظهم
(233)
مجموعة من الأهداف والمطالب وزعها بعضهم على بعض ، حتّى لا يتضح من ترتيبها ما يخيف
ممثلي أهل السنة ، فتسخيري يرى ضرورة التأكيد على النقاط المشتركة ، وأن
يعذر كل طرف الآخر فيما اختلفوا فيه ، وطالب واعظ زاده : أن يتم أحياء دار التقريب
، وإعادة إصدار مجلة رسالة الإسلام ، أما الحسيني فقال : يجب أن يعترف كل
طرف من هذه المدارس بالآخر كما هو ، وليس كما يريده أن يكون هو
ثم اتهم المدارس الفقهية بأنها قديمة جامدة لا تأثير لها ، كما في (ص 119)، ولم يرد
عليه أحد!! أما الشيخ فرحات فطالب بتوسيع دائرة الاعتراف بالمذاهب الأخرى غير
المحددة في العصر المملوكي ، أما المؤمن فقد طالب بخلق حالة من حسن الظن بالمذاهب
الإسلاميّة الأخرى والحب لاتباعها والتعاطف مع قضاياهم ، ثم طالب بخلق ثقافة
التقريب في الوسط الاجتماعي . انتهى.
هذا هو مرادهم من التقريب، وهو واضح بلا شك.
1 ـ الاعتراف بوجود خلاف.
2 ـ تحسين الظن بالمخالف فيما اجتهد فيه.
3 ـ فتح أبواب الدعاية للمذهب الشيعي بإعادة دار التقريب ومجلتها.
4 ـ ذم المذاهب الفقهية القديمة ، وهذه دعوة علمانية متضامنة مع التغير السياسي
للثورة الشيعية.
وأظن أن الدكتور عمر هاشم ، وهو من أعضاء اللجنة ، قد فهم التقارب على خلاف ما
يقولون ، حيث أنّه أشار إلى ضرورة الحوار وعرض القضايا المختلف فيها بأسانيدها
وأدلتها ليقتنع كل فريق بمراد الآخر. فقال : إننا حين نتلاقى ويطرح كل منا ما لديه
من أسانيد وما لديه من أدلة ونصوص فقد نقترب ، بمعنى أن يقتنع أحدنا برأي الآخر حين
يرى الحق في جانبه . انتهى.
وأظن أن الشيعة لن يقبلوا ذلك أبداً ، وقد بين تسخيري من قبل ما يخالف ذلك
، فقال (ص 118) : المراد التقارب بين الأفكار وتفهم كل فكر للآخر ، ثم قال : أنّه
لا يقصد تحقيق تذويب بين المذاهب ، ثم بين أنّه : يريد تفهما أكبر.
(334)
انتهى.
فشتان ما بين الفريقين ، لو أفصح كل منهما عن مراده الحقيقي ، بعيدا عن المجاملات
والمظاهر التي لا تقوى على البقاء ، ولا تحتمل الجدال البين والحوار الصريح ، فهم
ولا شك يريدون مساحة لعرض أفكارهم التي لن يتنازلوا عنها أبدا ، غير أنني سأرجع لهم
بكلمة تعبر عن أهل السنة ، وأقول لهم : نحن لا يخالجنا شك في صحة مذهبنا ؛ مذهب أهل
السنة والجماعة ، فهو الميزان الذي توزن به القضايا ، وهل يستغنى عن الميزان أو
يساوم عليه!! والحق أن نقول بلا مداراة ولا مصانعة ولا مداهنة : نحن على يقين من
مذهبنا ، وقد هدانا الله تعالى إليه وانتم في شك من مذهبكم ، فأرجعوا إلى من هو
مثلكم ليشك معكم ، ودعونا على ما نحن فيه ، فلا نعم القرب على حساب كتاب الله تعالى
وسنة رسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وصحبه الكرام، رضوان الله عليهم .
لماذا التقريب في هذا الوقت بالذات ؟
غير أن هنا سؤالا ينبغي الإجابة عليه ؛ إلاّ وهو : لماذا عادت دعوة التقريب في هذا
الوقت بالذات؟
والجواب غير بعيد : فلقد أيس الشيعة بعد هذا الزمن الطويل من انطلاق الثورة الشيعية
أن يوجدوا لأنفسهم أرضا بين أهل السنة لنشر مذهبهم الشيعي، ويرجع ذلك لعدة أمور:
الأول : ما تبين لشباب الأمة أن فكر الثورة الإيرانية شيعي المذهب فارسي الاتجاه ،
فهي ليست إسلامية كما خدعوا بذلك في أول الأمر ، وإنّما يريد في الحقيقة بسط
سطوتها على بلاد الإسلام ، أما بأحداث نزاعات على الحدود مع بلاد مجاورة ، كما حدث
في العراق ، وكما حدث مع الإمارات العربية باحتلال جزيرتي طنب الكبرى وطنب الصغرى ،
وكذا ما وقع منهم من مهاترات ومؤامرات في موسم الحج لعام 1986 م وفي الحرم المكي
الشريف خاصة ، وكذا تأجيج نار الخلافات في مواقع شتى من العالم الإسلامي ـ بما لا
يخفى ـ لأجل نشر
(235)
المذهب الشيعي وتثبيت أركانه، وهذه كلها ليست أهدافا إسلامية ، إنّما هي مطامع
دنيوية خبيثة ، ولا كرامة لها ، وقد ترتب على ذلك كله عدم اطمئنان كثير من الحكومات
العربية للغاية المقصودة من هذا التقريب الذي ينادي به الشيعة بين الحين والآخر ،
هل هي وسيلة جديدة من وسائل تصدير الثورة الشيعية أم ماذا ؟ وهذا لا يروج على
الساسة.
الثاني : أن فكرة الموت لأميركا ، الموت لإسرائيل ، والتي يطلقها حرس الثورة
الشيعية في أماكن شتى ، خاصة في مواسم الحج قد تبين بما لا يدع مجالا للشك أنها
أكذوبة كبرى كانوا يضحكون بها على المسلمين في جميع إنحاء العالم ليستميلوهم إلى
صفهم ، وقد مضى على هذه الهتافات ما يقرب من عشرين عاما أو يزيد ولم نر لهم باغا في
الجهاد في سبيل الله تعالى وتحرير الأقصى من أيدي اليهود الغاصبين ، مع ما توفر
للدولة الشيعية من قوة العدة والعدد ما لم يتوفر لها من قبل ، لكن الذي يخفى على
كثير من الناس أن الشيعة قد يقاتلون في سبيل الأرض والعصبية كما يحدث منهم في جنوب
لبنان وفي أماكن شتى ، ولكن أن يقاتلوا في سبيل الله تعالى ، فهذا لا يكون لهم حتّى
يخرج المهدي من السرداب ، وينادي مناد من السماء حي على الجهاد ، فحينئذ يقاتلون لا
لأجل نشر الإسلام ، ولكن لمحاربة كل من سلب الوصية والإمامة من علي بن أبي طالب
وأولاده ، يعني انهم ينتظرون المهدي ليحاربوا أهل السنة ؛ ولذا يقولون في دعائم :
عجل الله فرجه لأنه محبوس في السرداب ، يقصدون محمد بن الحسن العسكري ، وهو غلام
صغير دخل السرداب وعمره سنتان ومعه المصحف الكامل ـ كما يزعمون ـ وهو الذي سيخرج
لهم لأجل هذا الغرض.
وللتنبيه ، فإن المهدي الذي سيخرج ليس هو ذاك ، وإنّما هو الذي ورد في السنة ، كما
في رواية أبي داود عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ : «يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه
اسم أبي» فيكون محمد بن عبدالله قال ابن كثير في الجزء الأول من «البداية والنهاية»
: وأما ما يعتقدونه بسرداب سامرا ، فذاك هوس في الرؤوس ، وهذيان في النفوس ، لا
حقيقة له ، ولا عين ولا أثر . (انتهى).
(236)
وعلى ذلك فلو أقسموا باغلظ الإيمان انهم يريدون وحدة لأجل القضاء على أعداء الإسلام
فهذا لا يكون ، وتاريخهم معروف : مع من اتحدوا ، وعلى من تعاونوا.
الثالث : أن الثورة الشيعية مرت بعدة مراحل ، كل مرحلة لها سياسة خاصة قد لا تتناسب
معها سياسة التقريب.
المرحلة الأولى : مرحلة التشدد وبسط القناعة في نفوس الشعوب الإسلاميّة؛ أن الثورة
الشيعية المخلص الأوحد من قيود الذل والهوان ومن الغرب الكافر وإسرائيل .
وعليه فلم يكن لها في ذلك الوقت أن تتعاون مع الحكومات الإسلاميّة والعربية ، لأنها
كانت تعمل لحساب نفسها من جهة ، وللتخلص من غيرها من جهة أخرى ؛ ولذا كان الخميني
في ذلك الوقت يطلق التصريحات أن ثورته الشيعية لن تنجح إلاّ إذا نجحت في دولة كذا
ودولة كذا ؛ ولذا كان الخميني يحاول أن يجند له أبواقا من الرعاع والسذج في العالم
الإسلامي ليتكلموا باسمه ويعبروا عن ثورته بهالة من الثناء والمدح ؛ لتضليل شعوب
العالم الإسلامي وإخفاء الوجه القبيح لهم ، ولهم في ذلك أهداف مزدوجة ، أما أن
ينتشر المذهب الشيعي ، ويفسح له ، وأما أن تحدث في هذه الأقطار نزاعات تستأصل أهل
السنة.
المرحلة الثانية : مرحلة التوسط والانفتاح ، وهذه المرحلة جاءت بعد أن تبين لهم
حقيقة سقوط الهالة الكبرى التي كانت مرسومة في أذهان الشعوب عن تلك الثورة ، فلم
يكن بد من أن تفتح سبيلا للتعاون مع الحكومات العربية والإسلاميّة من أجل فتح باب
أخر للقاء من الداخل مع الشعوب الإسلاميّة ، ولكن بطريقة رسمية ، فهم ـ إذن ـ
يريدون إعادة المخطط بنفس أطول للتوغل في بلاد المسلمين وأهل السنة خاصة ، ولكن هذه
المرة باستخدام قنطرة النظم السياسية والإعلامية والمجلات والندوات والجمعيات.
اللهم احفظ بلادنا وامتنا من هذا الكرب والسوء يا رب العالمين . وللحديث بقية .