مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الفكر الإسلامي في العصر الوسيط
من الغزالي إلى ابن تيمية (1/2)
زكي الميلاد


العصور الوسطى تسمية أوربية تعبّر عن فترة ركود وظلام توسطت بين الحضارة الرومانية القديمة والنهضة الصناعية الحديثة. وهذه العصور المظلمة في أوربا كانت عصور الازدهار والتمدن في العالم الاسلامي. لكننا نستطيع أن نطلق اسم العصر الوسيط على العصر الذي تغيرت فيه اتجاهات العلوم والمعارف الاسلامية، وتحددت لها صياغات مختلفة عما كانت عليه قبل ذلك، وتكونت فيه مرجعيات فكرية تميزت بقدرتها على التأثير لقرون متمادية حتى عصرنا الراهن، ولابدّ من دراسة الفكر الاسلامي في هذا العصر الوسيط لمعرفة عناصره المؤثرة وأسباب حضوره المتواصل. والغزالي وابن تيمية هما من أكثر المفكرين تأثيراً وحضورا في منظومات الفكر السني خلال العصر الوسيط وحتى العصور اللاحقة.




(1)1- رئيس تحرير مجلة الكلمة - المملكة العربية السعودية
-----(141)-----
العصور الوسيطة في تاريخ الثقافات والأفكار، يفترض أن تكتسب أهمية معرفية وتاريخية، لخصوصياتها في عمليات الربط والاتصال بين العصور الأولى والعصور الحديثة. وإذا كان قد اشتهر في تاريخ الثقافة الغربية مصطلح العصور الوسطى أو الوسيطة، التسمية التي تعني للغرب والتاريخ الغربي الكثير من الدلالات والإشارات والرموز، وهي العصور التي حظيت باهتمام الباحثين والمؤرخين هناك. وقد استطاع الفكر الغربي تجاوز تلك العصور التي وصفت دائماً في خطاباته بالعصور المظلمة لأوروبا. التجاوز الذي يعني القطيعة المعرفية عنها، حيث تطورت المعرفة في ظل سياقات ووضعيات مختلفة عن تلك العصور، وبالانتساب إلى ماسمي بالعصور الحديثة. والتجاوز أيضاً بمعنى تفكيك البني الفكرية وتحطيم مقولات الخطاب التي تمثلتها وعبرت عنها تلك العصور. ومايزال المؤرخون الأوروبيون يرجعون إلى تلك العصور وتقليب النظر حولها من وقت لآخر، وقد توصل بعضهم لآراء تشذ عن الاتجاه العام في فهم تلك العصور، ومنهج النظر التاريخي لها، كالمؤرخ «سانت موس» الذي أعطى آراءه صفة القطع والجزم، حيث يرى بأن «من العبث أن ننكر أن القرون المعروفة باسم العصور المظلمة، لاتزال من أشدّ مراحل التاريخ الأوروبي غموضاً. ومع ذلك، فلاشك أن الجهود المذولة في استجلاء كثير من المسائل الرئيسية قد أحرزت بعض التقدم. فإن بعض الآراء قد نبذ نبذاً قطعياً..»(1).
ومن جملة الحقائق التي يبرهن بها على قناعته، إعادة النظر في فهم الاحتكاك الإسلامي بالغرب،وحسب نظره فإنه «لم يعد أحد ينظر إلى الهجوم الإسلامي من خلال أعين خصومه في القرون الوسطى، الذين ضرب تهديده لعقيدتهم على أبصارهم غشاوة، أعمتهم عن الأصل المشترك للثقافتين


1- ميلاد العصور الوسطى. هـ . سانت موس، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، ص 9.
-----(142)-----

المسيحية والإسلامية. ذلك لأن الدراسة العميقة النقادة لفن ذلك الزمان وأدبه، أفضت في كثير من الحالات إلى ازدياد تقدير الإسلام»(1).
في حين لم ينشأ أو يتبلور مصطلح أو تسمية العصر الوسيط أو العصور الوسطى في تاريخ الثقافة الإسلامية، ولعل من النادر استعمال تلك التسمية في دراسات المؤرخين المسلمين، وفي التحقيبات الزمنية والتاريخية للثقافة والأفكار الإسلامية. والتسمية السائدة عند المعاصرين لا تعبر في مكوناتها وعناصرها عن تاريخ الثقافة الإسلامية، وإنما هي مقتبسة بدلالاتها ورموزها من تاريخ الثقافة الغربية. لذلك فقد أصبحت التسمية جدلية وإشكالية عند البعض، وتوظيفية وتحريضية عند بعض آخر. جدلية بسبب التداول الواسع لتلك التسمية بالشكل الذي يصل أحياناً لدرجة التعميم، وكأن العصور الوسيطة التي كانت مظلمة في التاريخ الأوروبي تشمل تاريخ الأمم والحضارات والعالم برمته. والحال ليس كذلك على الإطلاق. فالعصور المظلمة في أوروبا هي عصور الإزدهار والتمدن في العالم الإسلامي. وتوظيفية كما في رؤية الدكتور «محمد أركون» حيث يرى بأن الفكر الإسلامي لم يتخلص من عصوره الوسطى كما تخلص الفكر الأوروبي وانتقل من الظلامية إلى التنوير.
وفي حقل دراسات تاريخ تطور الفكر الإسلامي، لانجد دراسات فكرية على قدر كبير من التخصص حول العصر الوسيط. وهو العصر الذي تغيرت فيه اتجاهات العلوم والمعارف الإسلامية وتحددت لها صياغات مختلفة عما كانت عليه قبل ذلك، ومرت بانتقالات حساسة للغاية، كما أنه العصر الذي تكونت فيه مرجعيات فكرية تميزت بتأثير فاعل ليس في ذلك العصر فحسب، بل احتفظت بديناميات فكرية مازالت نشطة في حياتنا الثقافية المعاصرة. ولعل من السهولة اكتشاف أن الخطابات الإسلامية المعاصرة تتأثر بصورة كبيرة بتلك


1- المصدر نفسه. ص 9.
-----(143)-----

المرجعيات الفكرية التي ترجع إليها وتأخذ منها وتستند الى أصولها. وهذا ماحاول دراسته والبرهنة عليه الدكتور «محمد عمارة» في كتابه «تيارات الفكر الإسلامي» الذي أكد فيه على المدخل التاريخي في تكوين المعرفة بتلك التيارات الفكرية من جهة ارتباطها المرجعي بين المعاصر منها والقديم.
لذلك من المهم دراسة الفكر الإسلامي في العصر الوسيط، لمعرفة كيف تشكلت تلك المرجعيات الفكرية، والعناصر المؤثرة في تكويناتها، وطبيعة البيئات التي نشأت فيها، ونوعية العوامل التي أكسبتها الدينامية والفاعلية، والحضور المتواصل بما يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويتغلب على شروط الجغرافيا والتاريخ. هذه العوامل هي التي تضفي صفة المرجعية على الأفكار، وبالتأكيد هذا ليس ممكناً بسهولة، ولا يمكن أن يفسر بعوامل بسيطة، ولا بعوامل خارقة للعادة. وإنما القضية بحاجة إلى تكوين معرفة استدلالية، وبحث من منظور تاريخ تطور الأفكار في النسق الإسلامي.
والمرجعيات الفكرية إذا نظرنا لها كحقل معرفي، فإن هذا الحقل لا يعد جديداً في الدراسات الفكرية والتاريخية المعاصرة، فقد كان معروفاً منذ وقت مبكر عند المسلمين، وهو الحقل الذي عرف بدراسة الفرق والملل والنحل، ويعرف حالياً بدراسة المذاهب والتيارات. مع الالتفات إلى مفارقات أساسية بين حقل الملل والنحل، وما نقصده بالمرجعيات الفكرية في العصر الوسيط تحديداً، وهي المفارقات التي سوف تتضح تجلياتها في سياق البحث.
والمرجعيات الرئيسية أو العامة التي عرفت بتسمية المذاهب أو المدارس، وظهرت في العصر الإسلامي الأول وقبل العصر الوسيط، تصنف إلى أربع مرجعيات، هي:
1- مرجعيات كلامية. مثل المعتزلة والأشاعرة والخوارج وغيرها.


-----(144)-----
2- مرجعيات أصولية. مثل مدرسة أهل الحديث وأهل الرأي.
3- مرجعيات فقهية. وهي المذاهب الإسلامية المعروفة التي تنسب إلى مراجعها كالمذهب المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي والجعفري الإمامي.
4- مرجعيات سلوكية. مثل المذاهب الصوفية باتجاهاتها، وحسب تصنيف «الغزالي» لها، طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول(1).

مؤسساً بما أصبح يعرف بطريقة المتأخرين في علم الكلام، «وهي الطريقة التي مكنت علم الكلام الأشعري من التحرر من منهج المعتزلة المفضل»(3) وفي نسق فكري آخر، يرى المؤرخ «ألبرت حوراني» في الدور الذي قام به «ابن تيمية» حيث اعتبر «صياغته للتراث الحنبلي ظلت عنصراً متميزاً في التراث الديني للمناطق الإسلامية المركزية»(4).
و«الغزالي» و«ابن تيمية» هما من أكثر المفكرين تأثيراً وحضوراً في منظومات الفكر الإسلامي السني خلال العصر الوسيط، وحتى العصور اللاحقة.
وبعض الذين درسوا الفكر الإسلامي في العصر الوسيط مثل «محمد أركون» وجده متقدماً في مناظراته الفكرية ومناقشاته الكلامية، عن الفكر


1- المنقذ من الضلال. أبو حامد الغزالي، تحقيق وتقديم: محمود بيجو، دمشق، مطبعة الصباح، 1992، ص 70.

2- الفكر العربي ومكانة في التاريخ. ديلاسي أوليري، ترجمة: د. تمام حسان، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م، ص 156.

3- التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات. د. محمد عابد الجابري، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991م، ص 171.

4- تاريخ الشعوب العربية. د.ألبرت حوراني، ترجمة: نبيل صلاح الدين، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ج1، 1997م، ص 233.
-----(145)-----

الإسلامي المعاصر، الذي وصل حسب رأيه إلى وضع مترد، ويستشهد بالمناظرات المبدعة كما يصفها، كالتي كانت بين «الغزالي» و«ابن رشد». وذلك في كتابه الذي يتساءل في عنوانه «أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟ من فيصل التفرقة إلى فصل المقال».

الكتب الإسلامية(2). وهكذا هي الأوصاف التي تطلق على بعض مؤلفات «ابن رشد»، التي يعاد اكتشافها من جديد، وكأنها المؤلفات الأكثر حداثة في هذا العصر، ويعول عليها كما تصور ذلك أدبيات الفكر العربي المعاصر، إمكانية اكتشاف حداثة عربية مستقلة. كما اكتشف الغرب قبل ذلك عقلانيته بواسطة تلك المؤلفات. أما «ابن خلدون» (732-808هـ/ 1332-1406م) الذي اشتهر بمقدمته، وأصبحت من أشهر المؤلفات التي استحوذت على أوسع اهتمامات المثقفين والباحثين العرب، حيث لا ينظر لها على أنها من مصنفات القرون السابقة أو من تراث الماضين.. ولعلها من أكثر المؤلفات التي تناولتها الرسائل والأطروحات الجامعية، وهو الحقل الذي يمثل في نظر النخب العربية بمعقل الحداثة.
كما أن طبيعة العناصر المحركة للتطورات العامة في ذلك العصر تفرض اهتماماً جاداً بدراسة الفكر الإسلامي آنذاك، ونوعية استجاباته وطرائق تعاملاته مع تلك التطورات، وتأثره منها أو تأثيره فيها. فقد مثلت تلك التطورات منطعفات تاريخية شديدة الحساسية والخطورة، تعلقت بها مصائر الأمة


1- التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات. مصدر سابق، ص 170.

2- تاريخ الشعوب العربية. مصدر سابق، ج 1، ص 220.
-----(146)-----

ومستقبلياتها. فالغزالي عاصر الحروب الصليبية سنة 490هـ / 1095م. التي تعتبر أشدّ اصطدام حصل بين الديانتين الإسلامية والمسيحية من ناحية العقيدة، وبين العالمين الإسلامي والغربي من ناحية الجغرافيا.وهي الحروب التي مايزال الفكر الغربي مسكوناً بذهنيتها، ويعيد التذكير بها دائماً، ويعرف بها أجياله الجديدة المقاصد وأغراض توظيفية. وعاصر «ابن تيمية» الغزو المغولي سنة 656هـ / 1260م، الحدث الذي يؤرخ له بسقوط ونهاية الحضارة الإسلامية، بعد سقوط وتدمير بغداد. يضاف إلى ذلك ماكانت تشهده المجتمعات الإسلامية من انقلابات وتمزقات وتصادمات.
فالفكر الإسلامي الوسيط لايمكن أن يدرس بعيداً عن هذه السياقات والوضعيات، التي من طبيعتها أن تترك تأثيراتها على مكونات وملامح ذلك العصر، وعلى الأفكار والمفاهيم التي تشكل فيه.

 

أبو حامد الغزالي من المدرسة إلى الصومعة
لقد استطاع «أبو حامد الغزالي» (450-505هـ / 1058-1111م) أن يفرض هيمنته على المعارف والأفكار الإسلامية في عصره، ويغير من اتجاهاتها، ويترك تأثيراته عليها. فقد كان أستاذاً في تعليمها وتبليغها، ومناظراً بارعاً في الاحتجاج بها والدفاع عنها. وقبل ذلك كان طالباً مندفعاً في تحصيل تلك المعارف، ومتنقلاً في طلبها. لذلك جاء وصف «الغزالي» بأنه يمثل مرجعية فكرية أو خطاباً مرجعياً، وهو الوصف الذي نستخدمه كنموذج تفسيري وتحليلي لخطاب «الغزالي» الفكري، وإمكاناته التأثيرية، وصموده وبقائه، وصور الارتباط به. والذين تعاملوا مع «الغزالي» وفكره وعلومه من باحثين ومؤرخين ومستشرقين، غالباً ما يميزونه بذلك الوصف، أو يرشدون إليه، أو
-----(147)-----

مكونات فكر «الغزالي» يقول وبدون تردد «إنها مكونات الثقافة العربية الإسلامية كلها، بمختلف منازعها واتجاهاتها وتياراتها. ذلك أن الغزالي لم يكن مرآة انعكست عليه ثقافة عصره وحسب، بل لقد كان أيضاً ساحة التقت عندها مختلف التيارات الفكرية والايديولوجية التي عرفها الفكر العربي الإسلامي إلى عهده، وقد استكملت مراحل نموها وأسباب نضجها، فعبرت على لسانه ومن خلال سلوكه وتجربته الفكرية عن مدى تنوعها واتساع آفاقها، عن صراعاتها وتناقضاتها»(2) لذلك يرى «الجابري» بأن «أقصر طريق إلى فكر الغزالي ومكوناته ليس بوصفه فكر رجل بعينه، بل بوصفه ظاهرة فكرية في الثقافة العربية الإسلامية ظلت حاضرة فيها طيلة القرون التسعة الماضية»(3).

أن يبرهن «الزعبي» على هذه الحقيقة، ويتعامل معها كفرضية بحاجة إلى استدلال وإثبات، يقطع الطريق ويعطي صفة الاجماع منذ البداية، حيث يقول: «وقد أجمع دارسو فكر الغزالي، مؤيدين ومعارضين على هذه المسألة»(5) الأمر الذي يدعو حسبما يرى «الزعبي» إلى تحليل وتفسير، وهو الرأي الذي سبقه إليه الدكتور «نصر حامد أبو زيد» واستشهد به «الزعبي»، يقول «أبو زيد» «إن مالقيه فكر الغزالي من ذيوع وقابلية في الأجيال التالية له، حتى صار نسقه الفكري مهيمناً على الخطاب الديني المسيطر هيمنة شبه تامة، أمر يحتاج إلى


1- من مقدمة كتاب: المنقذ من الضلال. مصدر سابق، ص 7.

2- التراث والحداثة. دراسات ومناقشات. ص 161.

3- المصدر نفسه. ص 169.

4- مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي. د. أنور الزعبي، دمشق: دار الفكر، عَمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2000م، ص 33.

5- المصدر نفسه. ص 33.
-----(148)-----

النسق الفكري الذي يطرحه الغزالي، حيث قدم للعامة وسيلة للخلاص بسلوك طريق الآخرة، وقدم للطبقات المسيرة للحكام والسلاطين ايديولوجية النسق الأشعري بكل ما ينتظم في هذا النسق من تبريرية وتلفيقية»(2) وهو التفسير الذي يختلف معه «الزعبي» كلياً، حيث يرى أن سلطة خطاب الغزالي قد نتجت عن مراعاته لمسألة هي في غاية الأهمية كما يقول، وسبق الالتفات إليها من بعض المفكرين الإسلاميين وعرفوها، وإن تفاوتوا في مراعاتهم لها في خطاباتهم. هذه المسألة يصفها «الزعبي» بمسألة «سياسة العلم وهي مسألة تهتم أساساً بتدبر كيفية استيعاب وتشغيل الخطاب في الأوساط المختلفة، التي أقدر أن الغزالي قد راعى أكثر من غيره متطلباتها وبكثافة في كل مناحي خطابه»(3).
وفي نظر الباحث الإيراني «عبد الحسين زرين كوب» الذي دَرَّس حياة «الغزالي» وفكره في جامعة لوس أنجلس بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ يرى بأن «في تمام تاريخ الثقافة الإسلامية لا يمكن العثور بسهولة على شخص كالغزالي استطاع أن يعكس التنوع الثقافي بجميع أنماطه في فكره وحياته، وبذلك الشكل الرائع والحي»(4)، وعن سبب اهتمام الباحثين الكثيرين، كما يقول «زرين كوب» في الشرق والغرب ومنذ القديم بالغزالي وفكره، يرجع إلى «التحول العميق في حياة الغزالي، والتنوع الواسع في آثاره، وخصوصاً التأثير الملحوظ لأفكاره وآثاره في الدين والفلسفة والتصوف الإسلامي»(5).
هذه التفسيرات والتحليلات ووجهات النظر لاشك في معقوليتها ومنطقيتها، إلا أن العامل الجوهري كما أظن الذي أوصل «الغزالي» إلى تلك المنزلة، هو في الطريقة التي تعامل بها مع العلوم والمعارف، والتي شرحها في مقدمة كتابه


1- مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن. د.نصر حامد أبو زيد، بيروت: المركز الثقافي العربي، 1990م، ص 297.

2- المصدر نفسه. ص 297.

3- مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي. مصدر سابق، ص 35.

4- الفرار من المدرسة: دراسة في حياة وفكر أبي حامد الغزالي. عبد الحسين زرين كوب، بيروت: دار الروضة، 1992م، ص 5.

5- المصدر نفسه. ص 11 .
-----(149)-----

غيره بقوله: «أطلب الحق بطريقة النظر لتكون صاحب مذهب، ولا تكون في صورة مقلد أعمى». يضاف إلى ذلك اعتقاد «الغزالي» عن نفسه كما يقول الدكتور «فهمي جدعان»، «أنه واحد من المصلحين الذين نيطت بهم إحياء الإسلام عند رأس المائة الخامسة للهجرة، لهذا كتب مؤلفه العظيم إحياء علوم الدين»(2) ونقل الإجماع على ذلك «محمود بيجو» الذي حقق وقدم كتاب «المنقذ من الضلال»(3).
ولعل الذي كوّن هذا الباعث عند «الغزالي» في الطريقة التي تعامل معها في


1- المنقذ من الضلال. ص 30.

2- أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. د. فهمي جدعان، عَمان: دار الشروق، 1988، ص 31.

3- المنقذ من الضلال. ص 81، أنظر: طبقات الشافعية، وللسيوطي أرجوزة في ذلك، من هامش الكتاب.
-----(150)-----

تحصيل العلوم واكتساب المعارف، يرجع لعاملين أساسيين:
الأول: لقد اكتشفت «الغزالي» منذ وقت مبكر، شدّة الاختلافات والتناقضات والنزاعات بين المذاهب والفرق والجماعات والملل الإسلامية، وكل منها يدعي لنفسه الحق ونهج الصواب. وكل جماعة تنتصر لآرائها وتنتقص من آراء الجماعات الأخرى. الوضع الذي استوقف انتباه «الغزالي» وكوّن في داخله مساءلات، حرضت على أن يكتشف بنفسه أين هو الحق والصواب في ادعاءات هذه الفرق والجماعات؟ فرجع إلى العلوم والمعارف والحجج والبراهين التي يستندون إليها، ويتمسكون بها.
الثاني: إن الأجواء العلمية في ذلك العصر، كان يغلب عليها طريقة المناظرات التي تعقد لها المجالس والاجتماعات في المدارس والمساجد والأسواق أيضاً، وفي مجالس الخلفاء والوزراء والحكام، وتستمر في حالة انعقادها لأوقات طويلة. وعن طريقها يمتحن الإنسان في علمه، واكتشاف مواهبه وتفوقه، أو توجيه الإهانة إليه والانتقاص منه. لذلك ازدهر علم الخلاف وارتفع شأنه، وتخصص فيه الكثيرون. وطريقة المناظرات تستدعي أن يمتلك الإنسان القدرة على التفوق بالأدلة والمحاججة، والاطلاع على معارف الخصم. و«الغزالي» الذي كاد في إحساسه أن يكون ذا شأن ويشار إليه بالبنان، كان لابد أن يثبت جدارته وتفوقه في مجالس المناظرات. وهذا ما سعى إليه بنفسه. فالمناظرات هي التي عرفت به في مجالس أستاذه إمام الحرمين «الجويني»، وهي المناظرات التي كان يقصدها العلماء والفقهاء، الذين يبحثون عن الشهرة والمال والجاه. والتفوق الذي أظهره «الغزالي» في هذه آنذاك، وهي مدرسة النظامية نسبة للوزير نظام الملك المؤسس والراعي لها. وقد وجد «الغزالي» في هذا المنصب أعلى درجات الأماني والطموح الذي كان يسعى إليه العلماء والفقهاء
-----(151)-----

في عصره.
ولم تتوقف أو تنتهِ تجربة «الغزالي» عند حدود مدرسة النظامية وانتقاله إلى بغداد، فقد قادته هذه التجربة إلى تحولات ومراجعات عميقة وجذرية، أحدثت في داخله مايشبه الانقلاب النفسي والتوتر الفكري، انتهت به إلى الحيرة والشك، والبحث عن اليقين، اليقين الذي يعرفه بقوله: «هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يفارقه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك، بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين»(1).
لذلك وجد الدارسون في «الغزالي» بأنه يمثل تجربة فكرية فريدة من نوعها في تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط، وشديدة الأهمية في تحولاتها ومراجعاتها، خصوصاً وأن «الغزالي» هو الذي وثق تجربته الفكرية في كتابه «المنقذ من الضلال» وهو أول كتاب في تاريخ الثقافة الإسلامية حول السيرة الفكرية، حيث كشف فيه بوضوح كبير ما أصابه من حيرة وقلق، ودخل مع نفسه في تجربة نقدية وعميقة، أعاد فيها النظر لحصيلته العلمية ومنظومته الفكرية التي هي من تراكمات زمن طويل. ومن النادر جداً أن يحاكم الإنسان تجربته الفكرية وهو في قمة شموخه، وبين أوساط تتظاهر بالكبرياء والاعتزاز والغلبة والتفوق. وهذا هو منشأ خصوبة فكر «الغزالي» وقيمته الفكرية، التي شدّت انتباه الدارسين إليه، وجعلت منه شخصية مؤثرة في الثفافة الإسلامية، ومايزال تأثيره حاضراً إلى هذا الوقت. فلقد بقي «الغزالي» كما يقول «الجابري»: «حاضراً في ثقافتنا العربية الإسلامية إلى اليوم، وما أظنه سيكف عن الحضور فيها قريباً. كان حاضراً ومايزال في وجدان مؤيديه والرافعين من شانه، كما في أذهان معارضيه الراغبين في التخلص منه»(2) وهذا ما يذهب إليه من المؤرخين «ألبرت حوراني» الذي وصف «الغزالي» بأنه يتميز برؤية شاملة لكل التيارات


1- المنقذ من الضلال. ص 32.

2- التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات. ص 165.
-----(152)-----

الرئيسية في عصره وبعد ذلك يضيف «مازالت أفكاره مؤثرة حتى الآن»(1).
وهناك من المعاصرين من يشبه حاله واهتماماته بالغزالي، كالدكتور «طه عبد الرحمن» وإن كان يعزوها إلى المصادفة كما يقول، مع تأكيده على بعض الفروقات حتى لا يظهر وكأنه مقلد للغزالي، وحسب قوله «إن جوانب من فكري صادفت جوانب من فكره، كما أن جوانب من سلوكي صادفت بعض جوانب سلوكه، ولا شيء أكثر من المصادفة. فعلى سبيل المثال، اشتغلت بالمنطق وأحببته كما اشتغل به وأحبه، إلا أني أخالفه في نزعته الأرسطية في المنطق الذي لا تضاهيها إلا نزعة ابن رشد. واشتغلت بعلم الأصول كما اشتغل به ولو أني لم أُؤلف فيه كما ألف، لكني أختلف معه في موقفه من علاقة علم الأصول بالمنطق، فهو يجعل المنطق جزءاً منه باعتبار، في حين أجعله أنا جزءاً من المنطق باعتبار آخر. واشتغلت بالفلسفة كما اشتغل بها ووجدت فيها آثار النسبية الثقافية كما وجدها فيها، إلا أني لا أشك في فائدتها شكّه فيها، ولا أجرح أهلها تجريحه لهم، وخضت التجربة الصوفية على مقتضى أهل السنة كما خاضها، وتبين لي من سموها ما تبين له، ولكني أخالفه في الأسباب التي أفضت بي إلى الدخول في هذه التجربة، فتبين لي أني لست مقلداً للغزالي، وإنما شاءت الإرادة الإلهية أن نشترك في بعض الصفات لحكمة لا أعلمها»(2).
مع ذلك فإن تجربة «الغزالي» الفكرية انتهت بالفكر الإسلامي في عصره وبعد عصره إلى نوع من الحيرة والأزمة.

 

ابن تيمية من المواجهة إلى السجن
لعل أهم تحول في حركة المعارف والأفكار الإسلامية، مابعد «الغزالي»، كان مع ظهور الشيخ «ابن تيمية» (661-728هـ / 1263-1328م)، في القرن السابع


1- تاريخ الشعوب العربية. ج 1، ص 219.

2- حوارات من أجل المستقبل. د. طه عبد الرحمن، الرباط / منشورات الزمن، 2000م، ص 96-97 .
-----(153)-----

الهجري، الذي قام بدور يماثل «الغزالي» ويفارقه في مراجعة ونقد المعارف والأفكار الإسلامية بالشكل الذي ترك أثراً بارزاً عليها.
ويفارقه في المنهجية وفي النتائج النهائية، التي عكست تحولات في منظومات الفكر الإسلامي وانتقالات في مساراته. ولذلك يتكرر الاقتران والتجاور بين الاسمين في كثير من الدراسات والأبحاث، مما يؤكد موضوعية دراسة هذه الفرضية، التي تصور التحول والانتقال في حركة المعارف والأفكار الإسلامية من «الغزالي» إلى «ابن تيمية» وإعطاء صفة الخطاب المرجعي لكليهما، وهذا ما يمكن أن يفهم من وصف الأول بحجة الإسلام والثاني بشيخ الإسلام، واعتبار الأول مجدد القرن الخامس الهجري، واعتبار الثاني مجدد القرن السابع الهجري. واحتفظ كلٌ منهما بحضور فاعل ومؤثر في الحياة الفكرية والثقافية المعاصرة للعالم الإسلامي. فابن تيمية في وصف الدكتور «طه جابر العلواني» «يمثل ظاهرة أو مدرسة هو ضميرها والمعبر عن اتجاهها، ولهذه المدرسة نموذجها ونظامها المعرفي، وتصورها ومنهجها ورؤيتها في المعرفة والعقيدة والقراءات والدلالات والتجديد والاجتهاد والتصوف والتسلف والسياسة والحكم والمال والاقتصاد والجهاد والإصلاح والتغبير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من شؤون الدنيا والآخرة»(1) وفي نظر الدكتور «محسن عبد الحميد» «إنه يمثل شخصية فريدة في تاريخ الفكر الإسلامي، لا نجد شخصية أخرى تماثلها في قوة التحدي وشمولية المراجعة والغزارة الموسوعية في العلوم والحسم الكامل في القضايا دون مجاملة»(2).
وفي سنة 1975م اعتبر الشيخ «أبو الحسن الندوي» في مقدمة كتابه عن «ابن تيمية» أنه «يصح أن يقال هذا العصر، عصر ابن تيمية، وقد كانت


1- ابن تيمية وإسلامية المعرفة. د. طه جابر العلواني، عَمان: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1994م، ص 18.

2- تجديد الفكر الإسلامي. د. محسن عبد الحميد، القاهرة: دار الصحوة للنشر، 1985م، ص 43.
-----(154)-----

لشخصيته ودعوته ودوره الإصلاحي، عودة في هذا العصر، ولكتاباته وأفكاره واتجاهاته انتفاضة لم تكن لمصلح إسلامي أو مؤلف من المؤلفين القدامى»(1) ووصف مؤلفاته بأنها «تنفرد بخصائص بارزة تميزها من بين مؤلفات عصره بكل وضوح، إنها لاتزال تؤثر في قلوب الجيل الجديد وعقوله رغم مامضى عليها قرون عديدة، وحدثت في خلالها ثورات في دنيا العلم والتفكير»(2).
ويمكن القول إن ظهور «ابن تيمية» وتطور حركته الفكرية والاحتجاجية، ساهم بدرجة كبيرة في الحد من تطور وتأثير حركة «الغزالي» الفكرية، وحجب عنها نسبياً ديناميتها في الامتداد والتقادم الزمني والفكري. وذلك نتيجة التمايز والتعارض بين منظومات الأفكار بينهما، وتركيز «ابن تيمية» على نقد ومواجهة الأفكار والاتجاهات الأساسية التي انتهى إليها «الغزالي»، إلى جانب عوامل تاريخية وسياسية أظهرت الفروقات والتباينات بين حركتيهما. وهذا مانحاول تفسيره والاستدلال عليه.
أما فيما يتصل بالتمايز والتعارض في منظومات الأفكار، ونقد «ابن تيمية» للاتجاهات الأساسية التي انتهى إليها «الغزالي» نشير إلى الحقائق التالية:
أولاً: الغزالي الذي انتقد علم الكلام، وكاد يطيح بالفلسفة، وفقد ثقته ببعض العلوم كالحسيات، وانتهى إلى الشك في أفكاره ومعارفه، مع ذلك تمسك بعلم المنطق ودافع عنه بحماس شديد، واعتبره معيار العلم والقسطاس المستقيم وميزان الصواب، فالمنطقيات كما يقول عنها في مقدمة كتابه «مقاصد الفلسفة» أكثرها «على منهج الصواب، والخطأ نادر فيها بالاصطلاحات والإيرادات دون المعاني والمقاصد، إذ غرضها تهذيب طرق الاستدلالات، وذلك مما يشترك فيها النظار». وعن علاقتها بالدين، يقول عنها في كتابه «المنقذ من الضلال» «وأما


1- الحافظ أحمد بن تيمية. أبو الحسن الندوي، تعريب: سعيد الأعظمي الندوي، الكويت: دار القلم، 1975م، ص 6.

2- المصدر نفسه، ص 133.
-----(155)-----

المنطقيات: فلا يتعلق شيء منها بالدين نفياً أو إثباتاً، بل هي النظر في طرق الأدلة والمقاييس، وشروط مقدمات البرهان، وكيفية تركيبها، وشروط الحد الصحيح وكيفية ترتيبه. وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته الحد، وإما تصديق وسبيل معرفته البرهان، وليس في هذا ماينبغي أن ينكر»(1) وفي كتابه «المستضفى من علم الأصول» وجد أن من الضروري تخصيص مقدمة منطقية لهذا العلم (أصول الفقه) «فهي مقدمة العلوم كلها، ومن لا يحط بها فلا ثقة بعلومه أصلا..»(2).
وهي المقدمة التي اعترض عليها بشدة بعض العلماء أبرزهم «تقي الدين بن صلاح» (643-577هـ) وهو من الذين صاحبوا «الغزالي» في حياته، حيث نسبوا تلك المقدمات إلى المنطق اليوناني، ولا علاقة لها بأصول الفقه، وإنما هي محاولة من «الغزالي» بربط أصول الفقه بالمنطق أو بطائفة من مسائل المنطق اليوناني. وهناك من المعاصرين كالدكتور «محمد سعيد رمضان البوطي» الذي دافع بشدّة عن تلك المقدمة، واعتبر أن «الغزالي» قد «صاغ في تلك المقدمة منهجاً علمياً للمعرفة، متحرراً وبعيداً عن المنطق اليوناني، وهو ذلك المنهج الإسلامي الذي تعتز به حضارتنا العربية والإسلامية أيما اعتزاز»(3)، وانتقد الذين اعترضوا على تلك المقدمة وقال عنهم «أغلب الظن أن هؤلاء لم يقرأوا شيئاً من هذه المقدمة التي افتتح بها الغزالي كتابه المستصفى، ولم يزيدوا عن أن استعرضوا عناوينها، فشموا منها رائحة المنطق اليوناني حسب ماخيل إليهم، أو رأوا فيها بعض اصطلاحاته الشائعة، فضاقت بهم صدورهم، وأعرضوا عنها، بعد أن حكموا عليها حكماً غيابياً دون قراءة مبصرة»(4).
المنطق الذي وثق به «الغزالي» وأعلى من شأنه، ورفع منزلته من بين العلوم الأخرى، هو العلم الذي حاول «ابن تيمية» أن يقلل من شأنه، ويفك ارتباط


1- المنقذ من الضلال. ص 48.

2- المستصفى من علم الأصول. أبو حامد الغزالي، قم: دار الذخائر، 1368هـ ، ج 1، ص 10.

3- شخصيات استوقفتني. د. محمد سعيد رمضان البوطي، دمشق: دار الفكر، 199م، ص 102.

4- المصدر نفسه، ص 102.
-----(156)-----

المسلمين به، ويزيل عنه قداسته والتعلق الشديد به لدرجة الإعجاب والمبالغة. وكان يقول عنه «إني كنت دائماً أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد» وفي كلام له أيضاً «إن المنطق فطنة التكذيب بالحق والعناد والزندقة والنفاق». وفي هذا المجال صنف كتابين شهيرين، كتاب مختصر بعنوان «نقض المنطق»، وكتاب مفصل بعنوان «الرد على المنطقيين». في الكتاب الأول انتقد المنطق وأهل صنعته بقوله: «من المعلوم أن القول بوجوبه قول غلاته وجهال أصحابه، ونفس الحذاق منهم لا يلتزمون قوانينه في كل علومهم بل يعرضون عنها، إما لطولها وإما لعدم فائدتها، والاما لفسادها، وإما لعدم تمييزها، وما فيها من الإجمال والاشتباه، فإن فيها مواضع كثيرة هي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقى»(1) وفي كتابه الثاني انتقد المناطقة بقوله «ويسلكون الطرق الصعبة الطويلة، والعبارات المتكلفة الهائلة، وليس في ذلك فائدة إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان، وشغل النفوس بما لا ينفعها بل قد يضلها عما لابد لها منه، وإثبات الجهل الذي هو أصل النفاق في القلوب، وإن ادعوا أنه أصل المعرفة والتحقيق»(2).
وقد لمس «أبو الحسن الندوي» من آراء «ابن تيمية» في نقد ونقض المنطق نوعاً من التطرف والمغالاة، إلا أنه حاول الدفاع والتبرير لمثل تلك المواقف والأفكار، لأنه لا يريد أن يقدم نفسه ناقداً لابن تيمية، وهو الذي بالغ في منزلته واعتبره مجدداً لعلوم الشريعة وباعثاً للفكر الإسلامي، وعن دفاعه أو تبريره يقول «الندوي» «إن قدسية المنطق وعظمته التي كانت تسيطر على عقل العالم الإسلامي من بعد القرن الخامس - أي من بعد الغزالي - أصيبت بصدمة، فإن أوساطنا الدراسية والعلمية قد أولعت بالمنطق وأعجبت به إلى حد المغالاة


1- نقض المنطق. ابن تيمية، ص 155، عن كتاب: الحافظ أحمد بن تيمية، للندوي، ص 220.

2- الحافظ أحمد بن تيمية. ص 222.
-----(157)-----

والمبالغة، ويمكن أن يقدر هذا الإعجاب بالمنطق من لم يكن له معرفة المنطق، فإنه يعتبر أجهل شخص وأحمق رجل لدى أهلها بالرغم من جميع ما يحمله من علم وفضل وذكاء، وقد ظل المنطق والفلسفة يعرف في الهند إلى مدة طويلة باسم العقلانية، كما أن كتبهما كانت تعرف باسم كتب العقل، وكان من الطبيعي أن يوجد هناك، رد فعل عنيف ضد هذا الغلو، فقد يكون سبباً للفكر المتزن في هذا الموضوع، وينال هذا العلم مكانته الصحيحة من أجله».
فابن تيمية كاد يطيح بالمنطق، كما كاد «الغزالي» أن يطيح بالفلسفة من قبل، ولو كان «الغزالي» معاصراً لابن تيمية، أو جاء بعده لدافع عن المنطق وأعاد الاعتبار له ورد على «ابن تيمية» ولتمثل موقف «ابن رشد» في دفاعه عن الفلسفة ورده على «الغزالي» ذاته بعد نقده للفلسفة وهجومه على الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة» فرد عليه «ابن رشد» بكتابه «تهافت التهافت».
ثانياً: من أكثر القضايا التي استوقفت إهتمام الباحثين والمؤرخين، وبعض المستشرقين، في حياة «الغزالي» هو التحول الداخلي العميق الذي حصل عنده، نفسيال وفكرياً وسلوكياً، وهو في قمة مجده العلمي حيث كان يتربع على مركز الأستاذية في مدرسة النظامية ببغداد. التحول الذي ظهر سريعاً وبلا مقدمات زمنية وفكرية، أو هكذا كان يترائى للآخرين، ولعله ظل يعيش ويصارع ذلك التحول في داخله لزمن إلى أن حسم موقفه بصورة نهائية ومفاجئة. ولذلك تعددت التفسيرات والتأويلات والتحليلات تجاه ذلك التحول، ومع أن «الغزالي» شرح بنفسه تلك التجربة التي وثقها في كتابه «المنقذ من الضلال»، إلا أن ذلك لم يمنع أو يقنع بعض الباحثين والمعاصرين منهم أيضاً في البحث عن تفسيرات مختلفة. فالغزالي الذي وصل إلى بغداد قادماً من إصفهان سنة 484هـ ، مرسلاً من الخواجة نظام الملك ليكون مدرس النظامية، وعمره لم يتجاوز الرابعة
-----(158)-----

والثلاثين، في مركب مزين ولباسه من الذهب والحرير، هو «الغزالي» الذي خرج منها سنة 488هـ ، تاركاً وراءه مدينة ألف ليلة وليلة، ومركزه العلمي الذي يحسد عليه كل من يصل إليه، والذي كان يبحث عنه ويسعى إليه بنفسه، ويسلك طريقاً مغايراً للشهرة والجاه والمال، ينقله من الشك إلى اليقين، وقد وجد هذا الطريق في التصوف، الذي قال عنه «ثم إني لما فرغت من هذه العلوم، يقصد علوم المتكلمين والفلاسفة والباطنية - أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل، وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس، والتنزه عن أخلاقها المذمومة وصفاتها الخبيثة، حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله. فعلمت يقيناً أنهم أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال، وأن ما يمكن تحصيله بطريق العلم فقد حصلته، ولم يبق إلا ما لا سبيل إليه بالسماع والتعلم، بل بالذوق والسلوك.. إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منهم، لم يجدوا إليه سبيلاً. فان جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به»(1).
لذلك يعتبر «الغزالي» بهذا التحول يكون قد كرس التصوف في الفكر الإسلامي السني، وشجع عليه، ووثق الارتباط به. في المقابل فإن التصوف من الاتجاهات التي انتقدها بشدّة «ابن تيمية»، ودخل في مواجهتها بقسوة، وكان يرى في دفع ضرر أهل التصوف من أعظم الواجبات، ويشبهه بدفع التتار عن المؤمنين، كمما جاء في رسالة له كتبها سنة 704هـ ، إلى الشيخ «أبي الفتح نصر


1- المنقذ من الضلال. ص 64 - 65 - 69.
-----(159)-----

ومع أن «ابن تيمية» قد فرق بين تصوف أهل العلم وتصوف الملاحدة كما في اصطلاحه، وأظهر تقبله لتصوف أهل العلم الذي حدد نشأته في القرون الأولى إلى القرن الثالث الهجري، حيث تحول التصوف إلى مذهب سلوكي له قواعده الفنية في الاحتجاج ومصطلحاته الخاصة. ومن الأسماء التي عرفت في تلك العهود ولم يتعرض لهم «ابن تيمية» بالنقد، «أبو القاسم الجنيد» الذي كان يقول «مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة» و«الفضيل بن عياض» و«معروف الكرخي»، فقد اعتبر «ابن تيمية» تصوف هؤلاء متوافق مع كتاب الزهد والورع لأحمد بن حنبل، ولم يكن تصوف بالفلسفة(2)، إلا أنه اعتبر هذا المسلك من التصوف لم يعد قائماً في حياة المسلمين، فقد تأثر التصوف حسب رأيه بالفلسفة وبالمسيحية والغنوصية الفارسية. والتصوف الذي سلكه «الغزالي» لم يكن مقبولاً أيضاً عند «ابن تيمية» الذي شن أقوى هجوم على التصوف في العصر الإسلامي الوسيط، وكرس الاتجاه الرافض للتصوف، وهو الاتجاه السلفي.
والتحول الذي حصل عند الغزالي نحو التصوف، اعتبره بعض المعاصرين مثل الدكتور «فهمي جدعان» من أبرز عيوب الغزالي في مشروعه العلمي والعملي(3). وهناك من دافع عنه وشجع عليه مثل الدكتور «محمد سعيد رمضان البوطي» حيث تساءل لماذا أعرض الغزالي فجأة عن مجد الشهرة في


1- الفكر الإسلامي في تطوره. د. محمد البهي، بيروت: دار الفكر، 1971م، ص 65.

2- المصدر نفسه. ص 59.

3- أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. مصدر سابق، ص 32.
-----(160)-----

على ضرورة اصطناع المنطق منهجاً وحيداً في تحصيل العلم لم يكن من أجل المنطق ذاته، بل كان ضد نظرية التعليم العرفانية الإسماعيلية، وايضاً من أجل إنقاذ علم الكلام الأشعري من أزمته الداخلية، التي كادت تعصف به بسبب تناقض المقدمات العقلية المؤسسة لعلم الكلام، التناقض الذي انفجر في مشكلة الأحوال. وانقاذ علم الكلام الأشعري معناه إعادة تأسيس عقيدة الدولة السلجوقية - العباسية ضد نفس الخصم الاسماعيلية»(3) أما التصوف، فيقول «الجابري» «التصوف كما هو معروف، كان الأساس الأيديولوجي والتنظيمي لكيان الدولة السلجوقية. فموقف الغزالي من هذه الناحية مفهوم ومبرر. ليس هذا وحسب، بل إن الغزالي من هذه الناحية قد أدرك بوضوح أن الجانب الروحي في العرفان الشيعي عامة لا يمكن تعويضه باصطناع المنطق، فلم يبق إذن إلا تجريد التصوف الباطني من طابعه السياسي الذي طبعته به الشيعة الإمامية والاسماعيلية، وتوظيفه توظيفاً سنياً»(4).
ثالثاً: إن آخر تأليفات «الغزالي» كتاب بعنوان «الجام العوام عن علم الكلام»، وحسب بعض الروايات فإن «الغزالي» قد انتهى من تأليف هذا الكتاب قبل اثنى عشر يوماً على وفاته، وبذلك يكون آخر مدوناته الفكرية. وعلم الكلام هو العلم


1- شخصيات استوقفتني. مصدر سابق، ص 91.

2- التراث والحداثة.. دراسات ومناقشات. ص 173.

3- المصدر نفسه. ص 174 .

4- المصدر نفسه. ص 174.
-----(161)-----

تسلموها من خصومهم، واضطرهم إلى تسليمها، إما التقليد، أو إجماع الأمة، أو مجرد القبول من القرآن والأخبار، وكان أكثر خوضهم في استخراج تناقضات الخصوم، ومؤاخذتهم بلوازم مسلماتهم، وهذا قليل النفع في حق من لايسلم سوى الضروريات شيئاً أصلاً، فلم يكن الكلام في حقي كافياً، ولا لدائي الذي كنت أشكوه شافياً»(2) وبخلاف «الغزالي» في الجام العوام، فإن «ابن تيمية» قد أنزل موضوعات العقيدة إلى العوام، وأدخلها في حقل الفتاوى الشرعية التي يراد منها التعميم ومخاطبة الناس بصورة عامة، وهي أكثر الموضوعات التي حركها «ابن تيمية» في أوساط العوام، كما أنها أكثر القضايا التي شكلت مجموعات الفتاوى في تراثه الفكري. وحسب الدكتور «عزيز العظمة» الذي جمع منتخباً من مدونات تراث «ابن تيمية» حيث يرى «من اللافت أن فتاواه في العقائد تشكل جزءاً كبيراً جداً من مجموع فتاواه، تتجاوز في نسبتها للفتاوى في الأمور الأخرى ما أفتى به أي من المفكرين الإسلاميين الآخرين، وهذا بحد


1- المنقذ من الضلال. ص 39.

2- المصدر نفسه. ص 40 .
-----(162)-----

ذاته أمر بالغ الأهمية، إذ أنه يشي بأنه انتقل من الكلام في العقيدة من مقام كلام النخبة من العلماء الى مجال العامة، أو - حسب كلام أعدائه - أنه انتقل بهذا الكلام من علم الكلام وسياقه الاجتماعي - الثقافي إلى مقام الشأن العام. وإن هذا الامر باعث على النظر في اجتماعيات الثقافة في عصره، وإلى البحث في تاريخ الحنبلية بوصفها في أحد أدوارها أخذاً بالعقائد إلى الشارع وإلى مقام الدهماء، في وقت كان قد ثابر المتكلمون فيه على امتداد قرون على القول بضرورة إلجام العوام عن علم الكلام وبالضنانة بالعلم عن غير أهله»(1).

 

 

الهوامش:
1- ابن تيمية. د. عزيز العظمة، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2000م، ص 13.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية