مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

العالمية ... والخاتمية ... والخلود ...(2/2)
السيد محمّد باقر الحكيم


العالمية والخاتمية والخلود من أبرز صفات الرسالة الإسلاميّة ، والعالمية هي عدم اختصاص الخطاب الديني بجماعة معينة أو زمان ومكان محددين. وهي تعبير عن مرحلة تكاملية في مسيرة الرسالة الإلهية وتتميز عالمية الإسلام عن بقية الأديان العالمية الإلهية بالانتقال إلى مرحلة التطبق العملي وتثبيت الضمانات اللازمة لاستمرار المشروع الحضاري الإسلامي واتساع نطاق الخطاب ليشمل البشرية جمعا .. وثمة مشاكل أمام العالمية كالنزعة القومية واستبداد الكيان السياسي والتمييز الطبقي والتجزئة وتعتبر مدرسة آل البيت ـ عليهم السلام ـ رائدة في مكافحة هذه المشاكل وإزالتها من المجتمع.

والخاتمية لا تعني فقط انقطاع الوحي بل تعبر أيضاً عن تطور في الحياة الإنسانية وفي المضمون الرسالي.

والخلود يعنى الاستمرار والبقاء والوراثة ، ونستطيع أن نجد معالمه في العناصر والأسس التي اعتمدتها الرسالة الإسلاميّة ، منها : العقل ، والتوازن بين الثابت والمتغير ، ومنح العلم والمعرفة قيمة حقيقية ، وصياغة الأمة الوسط.

(18)

المشكلات أمام العالمية

وقد واجهت عالمية الرسالة الإسلاميّة منذ الصدر الأول للإسلام مجموعة مهمة من المشكلات الأساسية ، ولا تزال هذه المشكلات بأنواعها وطبيعتها تواجه هذه العالمية ، وفي مقدمة هذه المشكلات كانت : المشكلة القومية ، والتجزئة والانشقاق ، والاستبداد في الكيان السياسي الإسلامي ، والطبقية السياسية والدينية ، ومشكلة التجزئة في الأمة الإسلاميّة والاختلاف في شعائرها:

1 ـ فمنذ البداية عندما انفتح الإسلام على الأقوام الجدد من خلال الفتح الإسلامي ، ترددت أفكار في الأوساط الإسلاميّة بصورة عامة ، والسياسية بصورة خاصة ، تذهب إلى التمييز بين المهاجرين والأنصار ، أو العرب وغيرهم ، أو بين العرب أنفسهم ، أو بينهم والموالي ، وقدمت مبررات عديدة أو اجتهادات ، تحت شعار المصلحة الإسلاميّة لهذا التمييز.

وقد تبنت الدلة الأموية في بعض سياساتها بعض هذه الأفكار والطروحات .

2 ـ كما برزت مشكلة التجزئة في الكيان السياسي الإسلامي منذ البداية ، عند نشوب الصراعات السياسية ، وكان أبرزها الانشقاق الذي شهدته الخلافة الإسلاميّة في عهد الإمام علي ـ عليه السلام ـ الذي قاده معاوية بن أبي سفيان ، وتطورت هذه الصراعات حتّى أصبح الكيان الإسلامي في بعض عهوده يتكون من عدة دول ، كما في عصر الدولة العباسية في بغداد ، والفاطمية في مصر ، والأموية في الأندلس ، وما استتبع ذلك من مآسي وآلام.

3 ـ وبرز إلى جانب ذلك خطر تحول الكيان السياسي الإسلامي إلى الحكم

(19)

الكسروي والقيصري ، بحيث يكون القانون هو قرار الحاكم لا حكم الله تعالى ولا في إطاره ، ومن ثم تحول الرسالة من العالمية إلى الفردية ، أو الاستبداد والطغيان (1).

4 ـ وبدأت أخطار الطبقية السياسية في صورة العوائل والأسر ، التي حكمت العالم الإسلامي وحلفائها وكذلك الطبقية الدينية في بعض المؤشرات الخطيرة في إيجاد هالة من القدسية والامتيازات والحقوق المادية للسابقة المعنوية في الإسلام ، أو الانتماء القبلي أو لرجال الدين المحترمين من القضاة والمفتين . ولاسيما بعد التحولات الاقتصادية الواسعة ، والانفتاح على ثروات الدولة الكسروية والقيصرية ، والشعوب الجديدة التي دخلت الإسلام ، ومواجهة فكرة اعتبار الأراضي المفتوحة جزءاً من الغنيمة التي توزع بين المسلمين ، أو يجوز للحاكم أن يقطعها للأفراد مما أدى إلى تضخم كبير في الثروة لدى بعض الأشخاص .

5 ـ ثم كانت تجزئة الأمة في انتماءاتها السياسية والفكرية والعقائدية والاجتماعية وتحول هذه الانتماءات إلى إطار وقاعدة تقوم عليها الجماعة في معزل عن الجماعات الأخرى.

لقد كانت هذه المشاكل شبيهة بالمشاكل التي واجهتها الرسالات الإلهية السابقة ، كما هي سنة الله في الحياة والتاريخ ، ولم تتمكن الرسالات السابقة من التغلب عليها.

وهنا نجد الامتياز الخاص للرسالة الإسلاميّة ، التي تمكنت أن تواجه هذه المشكلات في مداها الخطير ، الذي يهدد الرسالة والوجود الإسلامي كما حدث للرسالات السابقة ، وبالرغم من أن الرسالة الإسلاميّة بقيت تعاني من آلام ومحن ، هذه المشكلات وآثارها السلبية في جسم الأمة وكيانها الإسلامي ،

(20)

ولكنها بقيت في الوقت نفسه تحافظ على وحدتها وعالميتها .

وهذا الموضوع بأبعاده المتعددة ، يحتاج إلى بحث واسع ومستوعب ، يتناول العناصر الأساسية التي تضمنتها الرسالة الإسلاميّة ومنهجها في مواجهة هذه المشكلات ، ورؤيتها الواقعية الصحيحة لها ، وهذا مالا يتسع له مجال البحث هنا ، ولذا نكتفي هنا بتأكيد الدور العظيم والجهود الكبيرة التي بذلها رجال الإسلام المخلصون ، وفي مقدمتهم الرعيل الأول من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والتابعين لهم باحسان من اجل الاحتفاظ بالحد الأدنى الذي يحفظ للرسالة الإسلاميّة هذا البعد العالمي لها ، ويمكن أن نتبين نتائج هذه الجهود في مانلمسه الآن من معالم العالمية الحقيقية في الرسالة الإسلاميّة ، بالرغم من الجراحات والشروخ التي يعاني منها العالم الإسلامي والأمة الإسلاميّة.

وبهذا الصدد لابد ـ أيضاً ـ من تأكيد الدور المتميز الذي قام به أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في هذا المجال ن ولاسيما بالنسبة إلى المشكلات الخمس التي أشرت إليها ، فإن وجودهم ونشاطهم كان يشكل ضمانة رئيسية في تجسيد هذه العالمية خارجياً.

2 ـ فعلى مستوى مشكلة التعدد القومي اهتم أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بالمحافظة على الموازنة الصحيحة بين بعدي : النظرة الإنسانية للناس التي تلغي الامتيازات في التعامل السياسي والاجتماعي العام بين المسلمين ، واعتبارهم أمة واحدة من ناحية ، بقاعدة «سلمان منا أهل البيت » والقبول واحترام التعددية الشعوبية في الشؤون الفردية والاجتماعية الخاصة بالأفراد والجماعات من ناحية أخرى.

3 ـ وعلى مستوى مشكلة التجزئة في الكيان السياسي الإسلامي ، التزم أهل البيت ـ عليهم السلام ـ منذ البداية بسياسة عدم الدخول في الصراعات السياسية الحادة (القتال والتمرد) ، تحت قاعدة «... لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ، ولم يكن فيها

 

(21)

جور إلاّ عليّ خاصة...»(1)، والمحافظة في الوقت نفسه على الموازنة الصحيحة بين أولوية الحفاظ على وحدة الكيان الإسلامي وأصالته من ناحية ، ومقاومة الانحراف والظلم والجور وخطر التحول إلى الكسروية والقيصرية من ناحية أخرى، وعدم التسليم المطلق للانحراف لمجرد القهر والغلبة والاستيلاء ، التزاماً بما ورد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ «من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً عهده (لعهد الله) مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مدخله...»(2) ، وبهذا يفسر الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ رفضه لبيعة يزيد وتلبيته لدعوة أهل الكوفة وغيرهم للخروج عليه.

3 ـ وكذلك في تأكيدهم وحدة الإمامة ، وعدم جواز تعددها.

وقد تحمل أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أشد الآلام والمحن في هذا السبيل عملياً وواقعياً ، لأن هذه القضية كانت تعنيهم بالذات بصورة خاصة ، لأنهم الطرف الذي نص الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ على إمامتهم في أحاديث عديدة (3).

4 ـ وعلى مستوى مشكلة الطبقية السياسية والدينية ، فإن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ وإن كانوا يمتازون ـ بنظر المسلمين جميعاً ـ بوجوب حبهم ومودتهم ، وفي نظر أتباع أهل البيت ـ عليهم السلام ـ بأنهم أئمة الهدى المعصومون من الزلل والخطأ، وأنهم ثاني الثقلين والمرجع في الدين بعد القرآن الكريم ، ولكنهم من الناحية العملية لم تكن هذه الامتيازات المعنوية العظيمة قد منحتهم أي تمييز طبقي مادي في المجتمع الإسلامي ، بل كانت سبباً للمزيد من المحن والبلاء والأذى في سبيل الله ، وقد كان لهذا السلوك الاجتماعي أثره الكبير والعميق على أوساط العلماء وأهل المعرفة والدين ، بحيث أصبح أهل البيت ـ عليهم السلام ـ القدوة لهم في ذلك.

5 ـ وعلى مستوى مشكلة تجزئة الأمة في علاقاتها وشعائرها ، فقد حافظ

 

(22)

أهل البيت ـ عليهم السلام ـ في منهجهم على الموازنة الصحيحة بين احتفاظ جماعتهم وأتباعهم بخصوصياتهم والتزاماتهم بواجباتهم ، وبقاء هذه الجماعة جزءاً فاعلاً ومسؤولاً في وسط الأمة الإسلاميّة محافظاً على وحدتها وتماسكها ومتصدياً للمسؤوليات الكبرى ومضحياً من أجل أهدافها وقضاياها.

وقد كان مبدأ التقية هو أحد المبادئ الرئيسية في هذه الموازنة ، إذا عرفنا التقية بكل أبعادها السياسية ، والاجتماعية ، والأمنية(1).

وفي هذا العصر لابد أن نستلهم عالمية الإسلام ومنهجه العملي فيها ، في معالجة المشكلات المعاصرة التي يعيشها العالم الإسلامي في هذه المجالات وغيرها ، كما لابد أن تتركز أبحاثنا حولها على هذا الجانب العملي .

 

الخاتمية

وبهذا الفهم للعالمية يمكننا أن نفهم «الخاتمية» أيضاً ، فإن الخاتمية لا تمثل مجرد انقطاع الوحي ونهاية النبوات الإلهية ، وإنّما تعبر في الوقت نفسه عن تطور في الحياة الإنسانية من ناحية ، وتطور في المضمون الرسالي اقتضى هذا الانقطاع للوحي وهذه النهاية للنبوات.

لأن السؤال المطروح في موضوع «الخاتمية» ـ بعد التسليم بها لنص القرآن الكريم والسنة النبوية عليها ـ إن تعدد الرسالات الإلهية ، إنّما كان تجسيداً لسنة إلهية في تطور الحياة والتاريخ الإنساني فهي ـ أي الرسالات ـ متطورة ومتكاملة ، كما هي مواكبة لحركة التاريخ الإنساني .

وإذا كانت كذلك ، فلماذا توقفت ـ إذن ـ الرسالات الإلهية ؟ وهل ذلك لتكامل المسيرة الإنسانية ؟ فلا حاجة لتطور الرسالات الإلهية ، أو أن قانون وسنة

(23)

التطور قد توقفت في تأثيرها ؟ ! أو أن هناك تفسيراً آخر لهذه الخاتمية؟

ولا شك أن سنة التطور والتكامل ، هي من السنن الثابتة في حياة الإنسان ومسيرته ، وهذه السنة في التكامل هي التي فرضت هذه الخاتمية بالإرادة الإلهية ، فلابد أن نفتش عن هذه العناصر التكاملية ، ونؤكدها في عملنا الثقافي والسياسي والاجتماعي انسجاماً مع هذه الخاتمية.

فالخاتمية ـ إذن ـ ذات مضمون تكاملي وتغييري ، يرتبط في جانب منه بمضمون العالمية الذي تحدثنا عنه ، وفي جانب آخر بمضمون «الخلود» الذي سوف نشير إليه.

ويمكن أن نجد بعض عناصر التكامل في الخاتمية ، ونتناولها بالفحص والبحث في الأمور التالية:

أولاً: التكامل في الوعي الإنساني الاجتماعي من خلال:

تأثير الرسالات الإلهية السابقة .

والتجارب الإنسانية الاجتماعية الطويلة .

والمعرفة الإنسانية بالحياة والكون.

إلى غير ذلك مما يرتبط بالإنسان ومدركاته النظرية والسلوكية وتجاربه مع الكون والطبيعة ، وعلاقاته الإنسانية والمحصلة الكلية للوحي الإلهي وعمل الأنبياء والمرسلين والصالحين.

فهو تكامل في الوعي الإنساني العام يؤهل الإنسان لأن يأخذ دوره الكامل المسؤول في تسيير وإدارة الحياة الإنسانية ، بحيث يشغل حيزاً مهماً يتناسب مع هذا الوعي(1).

وهذا هو الذي يفسر لنا التحول الكبير الذي حدث في أدلة إثبات النبوة التي تمثل أسلوب الخطاب الإلهي بالإيمان والوحي والمضمون الرسالي ، فإن

(24)

معجزات الأنبياء السابقين كانت تعتمد على الآيات التي تعبر عن القوة والقدرة الإلهية المباشرة في التصرف بالكون والحياة ، والعقوبات الدنيوية المباشرة ، للتأثير على إرادة الإنسان وسلوكه.

وأما في الرسالة الإسلاميّة فقد تمثل أسلوب الخطاب بالقرآن الكريم الذي يتوجه إلى مخاطبة العقل للوجدان والمشاعر الإنسانية ، للسيطرة على إرادته وسلوكه وتوجيهها.

ثانيا ً : التكامل الذي وصلت إليه حركة التوحيد الإلهي والمعرفة بالله تعالى ، بدرجة تمكنت فيه هذه الحركة من تحقيق الاستقرار والثبات والانتشار والقوة والمنعة في الحياة الإنسانية ، ومن ثم فلا يمكن للانتكاسات الحضارية أن تهدد وجود هذه الحركة الإلهية ، كما حدث تاريخياً بالنسبة إلى بعض الرسالات الإلهية السابقة ، كرسالة نوح ـ عليه السلام ـ أو إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، حيث تحول المجتمع الإنساني بعد نوح إلى الوثنية بصورة كاملة على ما يبدو من قصة إبراهيم ـ عليه السلام ـ وتمكنت الوثنية أن تحاصر حركة التوحيد بعد إبراهيم ـ عليه السلام ـ ، وتستعبد الإسرائيليين وتؤثر فيهم بدرجة كبيرة.

وتتعرض حركة التوحيد بعد موسى ـ عليه السلام ـ إلى العزلة والانكفاء على الذات حتّى تحولت إلى حرفة ومهنة خاصة بالإسرائيليين .

وتعرضت حركة التوحيد بعد عيسى ـ عليه السلام ـ إلى التحريف والتشويه والرهبنة والانفصال عن الحياة الإنسانية .

وفي الرسالة الخاتمة أصبح التوحيد نقياً خالصاً يقوم على أساس قاعدة بشرية واسعة وراسخة ، هي قاعدة الرسالات الإلهية الكبيرة ، وأصبح ـ التوحيد ـ حقيقة كونية ذات أبعاد عقائدية وعبادية واجتماعية وسلوكية أخلاقية ، بدرجة عالية ينسحب فيها على جميع مناحي حياة الإنسان والكون

(25)

والوجود.

وهذا هو الذي يفسر لنا تحول حركة التوحيد في الرسالة الإسلاميّة إلى حركة فاعلة ومؤثرة تمكنت ـ بفترة زمنية قياسية ـ من أن تزيل الوثنية من الجزيرة العربية ، وتزيح الدولة الفارسية الكسروية ، وتهدد الدولة الرومانية القيصرية ، وتفتح مساحات واسعة في الوجود الوثني في مختلف مناطق العالم ، وهو مالا نجده في حركة الرسالات السابقة .

ثالثاً : التكامل في المجتمع الإنساني وتنظيم الحياة الإنسانية من خلال الدولة والنظام السياسي الذي أصبح جزءاً رئيساً ومكملاً للرسالة ، بحيث ارتقت الرسالة بالأنظمة ـ التي تداربها شؤون الناس ، والتي يصدرها الحاكم الشرعي (الرسول والإمام) ـ إلى مستوى الحكم الشرعي الإلهي ، وقرنت طاعة الرسول بطاعة الله تعالى : ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ وأصبحت مخالفة الرسول كفراً ونفاقاً ومصيرها مصير مخالفة الله تعالى وأصبح الإطار العام للحكم في المجتمع الإسلامي هو الخلافة لرسول الله ، وتطبيق الحكم الشرعي.

وهذا التطور التكاملي ، هو الذي يفسر لنا مجموعة من الظواهر السياسية والاجتماعية في التاريخ الإسلامي ، ومنها ظاهرة المقاومة القوية والدائمة ـ المضمخة بالدماء والتضحيات ـ للاستبداد والظلم في مختلف أدوار التاريخ الإسلامي ، والتي فرضت هذه المقاومة حصاراً قوياً على المستبدين أو المنحرفين من حكام المسلمين ، جعلتهم غير قادرين على تجاوز الإطار العام للحكم ، وهو عنوان الحكم بما أنزل الله ، وفي إطار الشريعة الإسلاميّة .

وكذلك ظاهرة تطلع المسلمين في كلّ الأجيال إلى الحكم الإسلامي العادل واستمرار هذا الروح في الوعي حتّى بعد سقوط الدولة الإسلاميّة عسكرياً،

(26)

وإصرار المسلمين على الرجوع إلى الحكم الإسلامي ، وعدم فصل الدولة عن الرسالة أو ما يسمى بفصل الدين عن السياسة والحياة ونظرة المسلمين ووعيهم لهذا الجانب ، وإن كان بدرجات متفاوتة ، ولكن يبقى الحدّ الأدنى منه كافياً للتعبير عن وجود التكامل في المجتمع الإنساني .

وبهذا يمكن أن نفهم دور فكرة وجود حكومة الحق والعدل المطلق المتمثلة بفكرة الإمام المهدي ـ عليه السلام ـ الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً ، وارتباطها في أحد أبعادها بموضوع «الخاتمية» كما هي مرتبطة ـ أيضاً ـ في بعدها الآخر بموضوع العالمية .

إن موضوع الخاتمية بهذا التحليل ، يفتح أمامنا مجموعة من المشاكل المهمة ذات العلاقة بهذه العناصر التكاملية:

فعلى مستوى العنصر الأول (الوعي الإنساني ودور الإنسان في تحمل مسؤولية الخلافة) ، نجد أمامنا مشاكل الحرية والعلاقات الإنسانية بين المرأة والرجل ، وعلاقات الإنسان مع الكون والحياة والعلمانية في الحياة الثقافية والاجتماعية وأساليب الحياة والمعيشة.

وعلى مستوى العنصر الثاني (التوحيد الصافي والخالص) ، نجد أمامنا مشاكل عبادة الذات والشهوات والعلم ، والقوة ، والبدع، والضلالات ، ومحاولات عزل فكرة الله عن تفاصيل الحياة الإنسانية ، ومحاصرتها في المسجد أو الفرد.. إلى غيرها من المشكلات.

وعلى مستوى العنصر الثالث : نجد أمامنا مشكلة الاستكبار العالمي ، وهيمنة النظام العالمي الجديد ، والانقسامات في العالم الإسلامي ، والعلمانية السياسية ، والطغيان والاستبداد ، والتطرف السياسي ، والإرهاب ... الخ.
 

(27)

الخلود

ويأتي الخلود ليمثل البعد الثالث في تكامل الرسالة الإسلاميّة ، والخلود ـ الذي يعني الاستمرار والبقاء والهيمنة والوراثة: ﴿..ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون﴾(1) ، هو تعبير آخر عن هذا التكامل في مضمون هذه الرسالة نظرياً وتطبيقياً ، وهو وجه آخر للخاتمية ، فإن الإرادة الإلهية التي تعلقت بخلود الرسالة الإسلاميّة ، لم تكن إرادة منفصلة عن هذه المسيرة التكاملية ، وإنّما هي إرادة حكيمة ترتبط بالسنن والنظام الكوني في مسيرة الإنسان .

ويمكن أن نرى معالم هذا الخلود في العناصر والأسس التي اعتمدتها الرسالة الإسلاميّة ، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقانون التكامل والتطور ، وهذه العناصر هي :

1 ـ العقل الإنساني وإعطاؤه قيمة عالية في الخطاب والمسؤولية والقدرة على الوصول إلى الحقيقة وتحمل مسؤوليتها .

2 ـ تلبية الحاجات الإنسانية بصورة متوازنة بين الثابت منها والمتغير ، بحيث تبقى فرصة التطور والتكامل قائمة في الجانب المتغير والمتحرك منها.

3 ـ منح العلم والمعرفة في الكون والحياة وأساليب الحياة الاجتماعية ، وفي المبدأ والمعاد ، قيمة حقيقية تجعله طريقاً إلى الله تعالى ، وإلى التكامل في حركة الإنسان .

4 ـ صياغة الأمة الواحدة الوسط ، والتي تكون شاهدة على الناس والمسؤولة عن حفظ الرسالة وبقائها ، وقد اعتمدت هذه الصياغة على عناصر:

(28)

العقيدة ، والمساواة الإنسانية ، والعلاقات الأخوية الإيمانية (الولاء) والشعائر العبادية ، والمسؤولية الاجتماعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والجهاد في سبيل الله .

5 ـ النظام السياسي الذي يقوم بدور المحافظة على الرسالة ، وحراستها والدفاع عنها وإبلاغها ، ودور التزكية والتطهير ، والسير في طريق التكامل ودور التعليم والتطوير.

إن هذه العناصر الخمسة مجتمعة ، هي التي تعبر عن خلود الرسالة الإسلاميّة ، وهي في الوقت نفسه تفتح الطرق أمامنا في الوصول بهذا الخلود إلى غاياته وأهدافه ، حيث تصبح الرسالة هي المهيمنة على الرسالات الإلهية الأخرى ، وتظهر على الدين كله حتّى لا تكون فتنة ، ويكون الدين كله لله.

(29)

__________________________________

1  ـ لقد جاء على لسان الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ وصف حكم يزيد بن معاوية ما يلي : (ألا وإن هؤلاء قد لزموا الشيطان وتركوا جماعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله) ، (مقتل الإمام الحسين للمقرم عن الطبري: ج 6 ـ ص 229).

2  ـ الإمام علي ـ عليه السلام ـ نهج البلاغة : الخطبة: 47.

3  ـ روى ذلك الإمام الحسين ـ عليه السلام ـ عن جده رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ، راجع الطبري : 4: 304 ، ط . مكتبة أرومية ، وابن الأثير : 4/ 48 ، ط. دار صادر.

 4 ـ مثل حديث الثقلين (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبداً ولن يفترقا حتّى يرداً علي الحوض) ، وحديث الغدير وحديث السفينة وغيرها.

5ـ لقد عالجت هذا الموضوع بشيء من التفصيل في كتاب الوحدة الإسلاميّة من منظور الثقلين ـ ص 145 ، وكتاب دور أهل البيت ـ عليه السلام ـ في بناء الجماعة الصالحة ، فصلي النظام الأمني ـ ص 293 ، ونظام العلاقات ـ ص 457.

6  ـ وفي نظرية الإمامة عند أهل البيت عليهما السلام يتكامل هذا الوعي الإنساني من خلال التسديد والأشراف الذي يمارسه الإمام ، لأنه يقوم بدور النبي في قيادة التجربة والأشراف عليها في المدة الزمنية للأئمة الاثني عشر الّذين نصبهم الله تعالى لهذه المهمة.
7  ـ التوبة: 33.  

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية