مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الأمة الإسلاميّة والقرن الجديد (1/2)
الدكتور محمّد محمود صيام (*)

تواجه الأمة وهي على أبواب القرن الميلادي الجديد تحديات داخلية تتلخص في: التفرق والاختلاف، والبطالة والفقر والجوع، والوهن والعمالة والخيانة ، والتبذل والانحلال الخلقي، كما تواجهها تحديات خارجية تتبلور في الإطماع في ثروات الأمة ومواقعها، والتآمر على الأمة وحصار شعوبها، والأحقاد الصليبية والجشع الصهيوني، والغزو الثقافي، غير أن ثمة ومضات مضيئة في الأجواء القاتمة تتمثل في انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، وانتصار الثورة الإسلاميّة في السودان، وبروز حماس وحزب الله، واليقضة العربية والصحوة الإسلاميّة، وبشائر النصر الإلهية وأمام هذه الحالة تتحمل الأمة الإسلاميّة واجبات نبذ الخلافات بين الحكام والتكامل السياسي والاقتصادي بين المنظومة الإسلاميّة، والنهوض بعملية التثقيف والتعليم والتوعية.
تحديات داخلية
المبحث الأول ـ التفرق والاختلاف
نعني بالتفرق والاختلاف،هو ما ترسخ بين شعوب الأمة الإسلامية من اختلاف في المفاهيم والأحاسيس، واختلاف في الطباع والعادات، واختلاف في نظم المعيشة ووسائل الحياة، واختلاف في اللغة واللهجات، واختلاف حتّى في الأهداف والغايات، مما نتج عنه تفرق الآراء والسياسات، واختلاف المواقف وبعثرة الجهود.
وذلك في زمن تتجمع فيه الشعوب مع بعضها البعض، رغم اختلاف أصولها، وعاداتها، وطباعها، ولغاتها، ومشاربها ومعتقداتها، تتجمع في وحدات معيشية، وفي دول قوية، تستجلب مهابة الناس، وتفرض احترامها عليهم كما تحمي شعوبها من امتهان الآخرين، وعدوان المعتدين، وتوفر لهم المجتمع المتعاون، والحياة الكريمة.
وانظر ـ على سبيل المثال ـ إلى الصين كدولة، أو إلى أوربا كاتحاد، وقارن بين ما هو حاصل في هذه وتلك من التقارب والائتلاف، وبين ما هو حاصل بين شعوب الأمة الإسلاميّة من تفرق واختلاف، على تشابه في اتساع الرقعة الجغرافية، وتقارب في عدد السكان، بين طرفي المعادلة.
إن مقارنة كهذه، تصيب نفس المسلم بالصدمة والاكتئاب. ففي الصين التي نتقارب معها في عدد السكان، نظام واحد، ودولة واحدة، تنافس أقوى دول العالم قوة واقتصاداً. وعندنا نيف وخمسون دولة ونظاماً أما قدرتنا الاقتصادية فهي تنوء من هذا التفرق والاختلاف، وأما موقعنا بين دول العالم، فهو لا يخفى على أحد، وصدق الشاعر الذي يقول:
 
عدداً ولكن أين نحن وأين هم
وشعوبنا يخرجن من هم لهم
في الصين مليار ونحن كمثلهم
أما اقتصـاد بـلادنـا فمصيبة
 
أما في أوروبا، فهناك عشرات الدول، وعشرات الأنظمة، وعشرات الأقطار، ولكنها قد أزالت ما بينها من حواجز، وطمست ما بينها من حدود، وأصبح أي مواطن أو زائر أو مقيم، ينتقل من قطر إلى آخر، دون أن يعترضه معترض، أو يسائله سائل.
كنت أزور الجاليات الإسلامية في أوروبا، في سبتمبر من العام الماضي (1998 م)، وكذلك في رمضان الماضي (1419هـ)، ونزلت في مطار أمستردام بهولندا، وانتقلت منه بالسيارة إلى بلجيكا، ثم إلى ألمانيا، ومنها إلى فرنسا، ثم إلى النمسا، ومنها إلى إيطاليا، وذلك جيئة وذهاباً، ولعدة مرات، وبين مختلف المدن، دون أن يسألني سائل عن هوية أو عن جواز سفر. وتذكرت حالنا في العالم العربي والإسلامي، وكيف أن المواطن لا يستطيع أن ينتقل من قطر إلى قطر، بل من مدينة إلى مدينة، دون أن يتعرض لسيل من الحواجز أو حرس الحدود أو نقاط التفتيش، مما يغص به البال، ويسوء به الحال.
ولقد شدد الله ـ جل شأنه ـ على وحدة الأمة الإسلاميّة بقوله ـ في سورة الأنبياء  (آية92): ﴿إن هذه أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون﴾ وقوله ـ أيضاً ـ في سورة المؤمنون (آية52): ﴿وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون﴾.
إن هذا التشردم والتشتت والاختلاف ـ الذي تعيشه أمتنا ـ سيكون أمامها في القرن القادم واحداً من العراقيل الكثيرة، والتحديات الخطيرة، مالم يلتزم أبناؤها بقول رب العالمين: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم، إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتمعلى شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون﴾(1).
وما أكثر الطوائف المسلمة التي يقاتل بعضها بعضاً في هذا الأيام، ويحرص بعضها على إفناء البعض الآخر، ويقف المسلمون عاجزين عن الإصلاح بينها، بل إنهم عاجزون عن تحديد التي تبغي على أختها من تلك الفئات، فإذا هم حددوها، فهم أعجز من أن يقاتلوها حتّى تفيء إلى أمر الله.
خذ مثالاً على ذلك الصراع بين الأشقاء في الجزائر، أو في الصومال، أو في أفغانستان، وانظركم استنفذ هذا الصراع من مقدرات الأمة، ومن ثروات الأمة، وكم أفنى من شباب الأمة وأطفالها ونسائها وحتى من شيوخها المسنين، وكم خلف من الجرحى والمصابين والمعاقين.
وخذ كذلك الخلاف بين أبناء المدن وأبناء الصحراء في المغرب العربي، وهم أبناء شعب واحد، وأتباع عقيدة واحدة، وأهل رقعة من الأرض كذلك واحدة. لقد اختلفوا على أنفسهم، وتناحروا مع بعضهم حتّى وصل الحال إلى أن يتدخل الأعداء للإصلاح بينهم، وهو إصلاح لا يختلف عما تقوم به الذئاب حين تُنتدب للإصلاح بين الغنم.
وخذ أيضاً ما يطفو على السطح من عداوات بين أبناء الشعبين الشقيقين، في قطر وفي البحرين، أو ما يجري من احتكاكات بين الأشقاء في الجمهورية الإسلاميّة في إيران، وبين إخوانهم في دولة الإمارات العربية المتحدة، كل هذا وذاك بسبب الاختلاف على ملكية بعض الجزر في الخليج الفارسي.
وخذ ما جرى بين العراق وأهل الجزيرة، حين اعتدى المسلم على أخيه المسلم، فسفك دمه، وسلب ماله، وهتك عرضه، غير عابئ بقول رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة» (2).
 
المبحث الثاني ـ البطالة والفقر والجوع
إن الزيادة في أعداد السكان في المجتمعات الإسلاميّة، من غير تخطيط دقيق مسبق لاستيعاب تلك الزيادة، استيعاباً وظيفياً واقتصادياً وإسكانياً وصحياً وتعليمياً، أي استيعاباً معيشياً بشكل عام، يجعل من تلك الزيادة عبئاً على تلك المجتمعات، بدلاً من أن تكون لها من مصادر الثروة والنماء.
وليس معنى ذلك أنني أدعو إلى تحديد النسل ـ كما يقولون ـ وما كان لي أن أفعل ذلك والنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول ـ فيما أخرج أبو داود والنسائي ـ كل في كتاب النكاح من سننه، من حديث معقل بن يسار ـ tأن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: ـ والنص لأبي داود ـ: «تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم»
أما الإمام أحمد، فقد أخرج في مسنده، عن أنس بن مالك tعنه قال: كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يأمر بالباءة (أي الزواج)، وينهى عن التبتل (وهو الانقطاع عن الدنيا، وعدم الزواج ـ بحجة العبادة) نهياً شديداً، ويقول: ﴿تزوجوا الودود، إني مكاثر الأنبياء يوم القيامة﴾.
فهل يجوز لي أو لغيري من المسلمين ـ بعد هذا ـ أن يدعو إلى تحديد النسل ؟ ! إن الذي ندعو إليه بشدة وحماس، هو اتخاذ الإجراءات الاقتصادية المناسبة، لتأمين حياة كريمة للأجيال القادمة.
فمساحات أرضنا، وأهمية موقع بلادنا، وكثرة خيراتنا وثرواتنا، وقدرة شعوبنا على الإبداع، تدعو إلى زيادة النسل لا إلى تحديده ولكن تخلفنا الاقتصادي، وسوء استغلالنا لثروات بلادنا، وجهلنا بقدرة شعوبنا، وعدم تقديرنا لأهمية مواقعنا الجغرافية على الخريطة العالمية، وعدم التخطيط لمستقبل أجيالنا أو حتّى لحاضرها، هو ما يجعل مجتمعاتنا في انشغال مستمر بلقمة العيش، وشربة الماء؛ وقرص الدواء.
فإذا أضفنا إلى ذلك الكوارث الطبيعية، من تصحر وجفاف في بعض الأقطار، أو من عواصف وفيضانات بعضها الآخر، حيث يجف الزرع وينضب الضرع في الأولى، وتدمر المزروعات والأشجار في الأخرى ـ فإن الجو يزداد قتامة والحال يزداد سوءاً، وهو ما يجعل البطالة والفقر والجوع، السمات البارزة في مجتمعاتنا، وهو ـ أيضاً ـ ما يشغل بال الاقتصاديين والسياسيين في أمتنا على الدوام.
وبالاطلاع على الأخبار الاقتصادية في كثير من الأقطار الإسلاميّة، يصاب المسلم بالصدمة تلو الصدمة مما يعيشه اقتصاد بلادنا من حالة مأساوية. خذ مثالا على ذلك دولة إسلامية في آسيا كبنغلادش مثلا، ودولة إسلامية في أفريقيا كالسودان، وانظر إلى ما فعلته بهما الفيضانات والأمطار في الموسم السابق، وخذ في المقابل دولاً إسلامية في أفريقيا وفي آسيا أيضاً ـ وأكثر دولنا في هاتين القارتين، خذ الصومال أو العراق أو بلاد الشام وأنظر ما يفعله الجفاف أو التصحر أو قلة المياه بأهلها.
إن هذه الكوارث الطبيعية ـ على اختلاف بينها ـ تجعل المسؤولين في تلك البلاد يتداعون ويدعون إلى نجدة المنكوبين وإغاثة المتضررين. ففي بنغلادش سارع رئيس الدولة ورئيسة الوزراء بإصدار الأوامر للوزراء بضرورة التوجه بأنفسهم إلى القرى وتجمعات السكان في كل مكان من البلاد، للتعامل مع آثار الفيضانات والإشراف على عمليات نجدة المواطنين المتضررين وإغاثتهم، بدلا من أن ينشغلوا فيما لا يفيد من الأمور التي ينشغل بها الساسة في العادة. (انظر صحيفة الرأي الأردنية اليومية عدد 7/9/1998م).
وفي السودان يوجه المسؤولون نداءات ملحة، لتأمين معونات عاجلة لنجدة ضحايا الفيضانات ومواجهة آثار الكوارث، وهي من الأمور التي تتكرر في البلاد السودانية. (انظر صحيفة الدستور الأردنية اليومية عدد 6/9/1998 م، وانظر كذلك صحيفة الرأي الأردنية اليومية عدد 7/9/1998م).
وفي الفترة ذاتها تطلب الصحافة في الأردن من المسؤولين، التدخل السريع؛ لوقف المجاعة التي تجتاح أكثر من 11 % من السكان هناك ـ فيما تشير إليه تقارير الباحثين المتخصصين بالفقر المدقع مرة، وبالمجاعة مرة أخرى، وكأن الأردن لا يكفيه من الهموم الاقتصادية، ما يسببه له الصهاينة المجرمون، من قطع المياه عنه، أو تلويثها له، أو سرقة حصته منها (انظر صحيفة الدستور الأردنية اليومية في عدديها الصادرين بتاريخ 6، 7 من سبتمبر ـ أيلول 1998 م).
والعجيب أن ما يصيب بلادنا من الكوارث، يصيب غيرها من بلاد العالم، بل لقد كان الحال في العام المنصرم غاية في الشدة، وذلك حين اجتاحت الأعاصير والسيول والفيضانات أقطاراً عالمية كثيرة، مثل أمريكا والصين والكوريتين واليابان وغيرها من بلدان العالم لقد اجتاحت الفيضانات والأعاصير مناطق شاسعة من تلك البلاد، بل لقد اجتاحت الفيضانات والأعاصير مناطق شاسعة من تلك البلاد، بل لقد اجتاحت ولايات بأجمعها، حيث هدمت السدود وتساقطت الكباري، واقتلعت الأشجار وتعطلت وسائل المواصلات، وانجرفت المنازل وانهارت البنايات، ودمرت المحاصيل والمزروعات، ولكننا لم نسمع الشكوى التي تضج بها بلادنا في مثل هذه الحالات، وذلك لأن الاستعدادات الضخمة التي تعدها تلك الأمم لمواجهة الكوارث، وسرعة التعامل معها ـ تخفف من وطأتها، وتسرع في معالجة آثارها قياسا بما يحدث في بلادنا، الأمر الذي يجعلنا نضج بالشكوى.
على أن الصورة ليست بهذه القتامة في كل بلادنا ـ والحمد الله ـ فهناك من شعوبنا من لديه الوعي الاقتصادي، والذي يحصن به بلاده ضد النوازل والخطوب، بل ولديه القدرة ـ كذلك ـ على التعامل حتّى مع المؤامرات الخسيسة، التي يحيكها أعداء الأمة ضد اقتصادها.
كنت أزور الجمهورية الإسلاميّة في إيران ـ ذات سنة ـ فأثلج صدري ما رأيته وما علمته، من عودة الاهتمام بصناعة السجاد، الذي بزّ فيه الشعب الإيراني المسلم ـ الصناع في مختلف أنحاء العالم، بل إن الجودة العالمية للسجاد، تقاس بقدرته على محاكاة السجاد الإيراني قال محدثي ـ وهو أحد المطلعين على الأمور: لقد ترسخت لدينا القناعة بأن الثروة البترولية لن تدوم، وعليه فلابد من تنويع مصادر الدخل، والسجاد هو من أهم تلك المصادر هذا فضلاً عن الصناعات الأخرى كصناعة السيارات وغيرها.
وإيران دولة بترولية ـ كما هو معروف ـ ولكن الاعتماد على الصادرات البترولية غير مأمون العواقب إذ يتلاعب أصحاب الدولار ـ كما هو الحال في هذه الأيام ـ بكمية الصادرات والأسعار، فليت صناع القرار في عالمنا الإسلامي كله، يتنبهون إلى هذه الأخطار.
نقطة مضيئة أخرى في الأجواء الاقتصادية لبلادنا، وهي أن مصر ـ كما ـ تواترت الأخبار ـ تتوقع في هذه السنة، نمواً في الصادرات غير البترولية، يربو ـ إن شاء الله ـ على خمسة وعشرين بالمائة. (انظر صحيفة الحياة للندنية اليومية ـ عدد 25/ 3/ 1999م).
ولذا فإن على شعوب أمتنا الإسلاميّة ألا تدخلوا القرن الحادي والعشرين الميلادي من البوابات البترولية، ولا من بوابات الإغاثة الإنسانية، ففي الأولى مخاطر محدقات، وفي الثانية مذلة وإهانات وعليها أن تدخل ذلك القرن من البوايات الاقتصادية الأخرى، كالصناعية والتجارية، والزراعية والسياحية وغيرها.
إن العمل على تقوية قدراتنا الصناعية والتجارية، والتعاون الصناعي والتجاري بل والزراعي، بين أقطار العالم الإسلامي، قد أصبح من الضرورات الملحة، حتّى لا ندخل القرن الحادي والعشرين وموارد بلادنا من المواد الأولية نهب للآخرين، ونحن وأمتنا وشعوبنا سوق للمنتجين والصانعين.
 
المبحث الثالث ـ الوهن والعمالة والخيانة
إن الوهن الذي أصاب أكثر أبناء الأمة الإسلاميّة ـ حاكمين ومحكومين ـ وهن يسر الأعداء، ويذهل الأصدقاء، ويحير العقلاء. فالأمة لا تنقصها الاعداد الكبيرة ولا الأموال الكثيرة، ولكن تنقصها الهمم القوية، والنظرات السديدة، والعزائم الشديدة ينقصها التفاهم والالتئام والائتلاف، كما ينقصها وضوح الرؤى وتحديد الأهداف، كل ذلك بسبب الوهن الذي يسري في مفاصلها بشكل سريع، كما تسري السموم الناقعات في الجسم اللديغ.
وقد تنبأ سيد الخلق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ بمثل ذلك حين قال ـ فيما أخرج أبو داود في كتاب الملاحم من سننه، عن ثوبان tقال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «توشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن فقال قائل: يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت».
وهاهي ذي الأمم في هذا الزمان، تجتمع على الأمة الإسلاميّة، كما يجتمع الجياع المرملون على الطعام، مصداقاً لنبوءة سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يجتمعون علينا اجتماع الضواري الجائعات على الفريسة، فينهشون من أرضنا ومن خيراتنا، ويَلِغون في عرضنا وفي مقدساتنا، هذا ينهش من هنا، وهذا ينهش من هناك ولا يوجد بين أبناء الأمة من يواجه أولئك الدخلاء، فلا نامت أعين الجبناء.
 ورحم الله أزمنة مضت، كان إذا اعتدي على شبر من أرض المسلمين، سلت السيوف من الأغماد، ونفرت كتائب الإيمان من مختلف البلاد كان إذا اعتُدي على ثغر من الثغور، غلت نفوس المسلمين كما تغلي الملاء من القدور، واندفع المقاتلون منهم، غلت نفوس المسلمين كما تغلي الملاء من القدور، واندفع المقاتلون منهم، يصدون الاعادي بالجماجم والصدور كان إذا اعتدي على واحدة من فتيات المسلمين، أشرعت في ـ سبيل الله ـ الرماح، وقعقع ـ في أيدي الرجال ـ السلاح وصفحات. التاريخ متخمة بمثل هذه الاعتداءات الهمجية، ولكنها مضيئة أيضاً ـ وفي ذات الوقت ـ بالردود المناسبة القوية.
قدمت امرأة من العرب إلى سوق يهود بني قينقاع ـ وكانوا أشجع يهود وأقواها، وكانوا صاغة وتجار مجوهرات ـ فباعت المرأة في سوقهم جلباً من غنمها، ثم جلست إلى أحد صاغتهم وهي متنقبة على عادة الحرائر من بنات العرب في ذلك الزمان، فجعل اليهود يريدونها على كشف وجهها وهي تأبى، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فتضاحك القوم عليها، وصاحت هي مستنجدة.
ولم يكن في الساحة إلا مسلم واحد، ورغم ذلك فقد انقض على الصائغ اليهودي فقتله، واجتمع اليهود على المسلم فقتلوه ثم نفر المسلمون لمحو العار، فأجلوا بني قينقاع كلهم ـ في النهاية ـ عن تلك الديار (3).
ترى كم مسلمة في البوسنة والهرسك وكوسوفا، هتك عرضها الصليبيون المجرمون ؟! وكم مسلمة في فلسطين وفي لبنان، اعتدى عليها الصهاينة الحاقدون ؟! ورغم ذلك لم تظهر في المسلمين المروءة الإسلاميّة، ولم تتحرك فيهم غيرة أو حمية اللهم إلا ما تجعجع به بعض إذاعاتهم، وتهذي به بعض صحفهم من الاحتجاجات والاستنكارات التي لا تردع غاضبا أو معتدياً، ولا تحمي عرضاً ولا أرضاً.
واعتدى الروم ذات يوم على أحد الثغور، وذلك في زمن المعتصم ـ أحد مشاهير الخلفاء العباسيين ـ وبالتحديد سنة اثنتين وعشرين ومائتين للهجرة النبوية الشريفة، وغنم الغزاة من ثروات المسلمين، وأسروا منهم وسبوا كثيرين، فصاحت صبية مسلمة قائلة: «وامعتصماه»، ووصل النداء إلى المعتصم، فأقسم ألا يسوغ له طعام أو شراب حتّى ينتقم من الغزاة، ويستنقذ ما في أيديهم من الغنائم والأسرى والسبايا، ويطردهم إلى حيث لا يعودون. وفعلاً كان، والتاريخ أصدق الشاهدين، حيث جيش المعتصم جيوشاً لم يعهد مثلها من قبل ـ كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية: «وتجهز جهازاً لم يجهزه أحد كان قبله من الخلفاء، وأخذ معه من آلات الحرب والأحمال والجمال والقرب والدواب والنفط والخيل والبغال، شيئاً لم يسمع بمثله وسار إلى عمورية في جحافل أمثال الجبال» (4).
وكانت عمورية هذه، أمنع بلاد الروم في ذلك الزمان، وقد فر إليها القوم بعد أن اعتدوا على أحد ثغور المسلمين ووصلها المعتصم في رمضان من تلك السنة فحاصرها حتّى فتحها، واستنقذ أسرى المسلمين منها، وقتل من بقي من مقاتلي الروم فيها، وأمر بإحراقها بعد ذلك كل هذا من أجل استغاثة امرأة مسلمة قالت: «وامعتصماه».
وقد خلد الشاعر أبو تمام تلك الموقعة في قصيدته المشهورة، المسماة (فتح عمورية) ومطلعها:
في حده الحدّ بين الجد واللعب
متونهن جلاء الشك والريب
السيف أصدق إنباء من الكتب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في
 
وقد علق صاحب البحث على ذلك بقوله:
 
فمن يجدد هذا القول للعرب ؟!
إجادة الطعن لا في وجودة الخطب
السيف أصدق إنباء من الكتب
ومن يعلمهم أن البطولة في
 
وهو تعليق ساخر ودقيق، ففي هذا الزمان كم من صائحة بـ «وامعتصماه»، أو بـ «واعرباه» أو بـ«واإسلاماه»، دون أن يسمع صوتها مستجيب من الأهل أو الأصدقاء، وكأن العرب والمسلمين أموات غير أحياء؟! وصدق الشاعر الذي يصور ذلك بقوله:
 
ملء أفواه الصبايا اليتم
لم تلامس نخوة المعتصم
رب وامعتصماه انطلقت
لا مست أسماعهم لكنها
 
إن هذا الوهن ـ بلاشك ـ ناتج من حب الدنيا وكراهية الموت، الأمرين اللذين أصابا الأمة الإسلاميّة في أخطر مقاتلها وليت الأمر يقتصر على ذلك، إذن لهان علاجه بمنشطات الهمم ومقويات العزائم ولكنه تعداه إلى ممالأة الأعداء والعمالة الصريحة لهم في هذا الزمان، مما يعتبر خيانة للأمة وخيانة للأوطان.
وإلا فبم يفسر التنازل للمحتلين عما احتلوه من فلسطين ـ على سبيل المثال ؟ !، وبم يفسر الاعتراف بكيانهم الدخيل على رفات أجدادنا من المجاهدين والشهداء ؟ ! وبم يفسر قصر التفاوض معهم على بعض أجزاء من فلسطين، كانت تعرف بالضفة الغربية وقطاع غزة ؟ ! علماً بأنهما لا يشكلان سوى 20% من أرض فلسطين، والصهاينة يحتلون أكثرهما ولن يحصل الفلسطينيون على أكثر 4% من فلسطين ـ هذا حين تجري المفاوضات في أحسن حالاتها بالنسبة لهم فهل هناك عمالة أوضح من هذه العمالة ؟ ! وهل هناك خيانة أصرح من هذه الخيانة؟!
إن الذي جرى من اتفاق عرف ـ فيما بعد ـ باتفاق (أوسلو) بين الإسرائيليين وثلة من الفلسطينيين بقيادة (ياسر عرفات)، ثم وقع عليه في البيت الأبيض بواشنطن، في الثالث عشر من شهر سبتمبر ـ أيلول سنة 1993 م، لا يمكن أن يطلق على من قاموا به وشهدوه إلا خونة وعملاء.
إن أعداء الإسلام والمسلمين، ما كان لهم أن يعربدوا في بلادنا، وأن تغزو أساطيلهم مياهنا وأجواءنا وأن ينهبوا خيراتنا، ويدنسوا مقدساتنا، ما كان لهم أن يفعلوا ذلك وهم مطمئنون وآمنون، لولا ما يحصلون عليه من تنازل بعض المهزومين، وعمالة بعض المتنفذين، وخيانة بعض حكام العرب والمسلمين.
 
المبحث الرابع ـ التبذل والانحلال الخلقي
إن الأسى يعتصر قلوب المخلصين من أبناء هذه الأمة، لأن الكثيرين من إخوانهم قد غرقوا فيما يغرق فيه العالم اليوم، من الآسن الأخلاقي، والعطب الاجتماعي فالمجتمعات الشرقية المختلفة، والمجتمعات الغربية المنحلة، لم يعد للحياء ولا للشرف معنى في قواميسها اللغوية، أو في معاجمها الحياتية.
فقد تبذلت النساء والرجال، وانحل الشباب والفتيات، وأصبح الذي يحكم حياة الجميع هو حيوانية الغابات.
وليس أدل على ذلك من هذا العري النسائي البهيمي، الذي يعم بلاد الشرق والغرب، وتحاول أن تقلده بعض بنات العرب والمسلمين، وكأن الآية الكريمة التي تدعو إلى الحشمة والآداب، وتأمر المسلمات بلبس الحجاب، كأنها غير مفروضة التطبيق، في زمن الجهل العميق يقول رب العالمين لرسول الكريم ـ صلى الله عليه وآله ـ ﴿يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن..﴾ (5).
إن هذا العري الحيواني، هو الذي يصيب المجتمعات اليوم في الشرق والغرب، بالانحلال الأخلاقي، والتصرف السوقي. وهو الذي يغري الرجال والنساء ـ بالسقوط في حبائل الشيطان، وممارسة ما قد يترفع عن ممارسته الحيوان.
وليس أدل على ذلك من الفضيحة التي جرت على أعلى المستويات في أمريكاً، التي تعتبر مثالاً للحضارة الغربية، يحث سقط الرئيس هناك إلى الدرك الأسفل من الأخلاق البهيمية وذلك حين كان يخون نفسه وزوجته، وبيته وأسرته، وبنته وعشيرته، ومجتمعه وأمته ـ مع فتاة ساقطة، كانت تتدرب في بيت الرئاسة المعروف بالبيت الأبيض، الذي لا يعرف من البياض إلا اسمه فقط، أما تاريخه فهو ملطخ بالسواد.
وكأن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ كان يعني القوم مباشرة بقوله الشريف ـ فيما أخرج الإمام البخاري من حديث أبي مسعود الأنصاري tـ قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت».
وقد أعجبتني كلمات كاتب الصفحة الأخيرة في مجلة (الوسط) اللندنية الأسبوعية، في عددها الصادر بتاريخ 15/3/1999 م حيث قال: «كان بيل كلنتون يبدي قصر نظر سياسي في بعض مؤتمراته الصحفية، إلا أنني وجدت بعد علاقته مع مونيكالوينسكي، أنّه يعاني كذلك من قصر بصر، بالإضافة إلى التقصير الأخلاقي».
ومما يحز في النفوس الأبية، أن يكون هذا النموذج الأخلاقي الغربي الساقط، هو النموذج الذي ينبهر به الكثيرون من أبناء أمتنا، فيحاولون محاكاته وتقليده وكأنهم يجهلون أو يتجاهلون قول سيد الخلق رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ فيما أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة (والنص للبخاري) أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ قال: «الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان».
إن العالمين العربي والإسلامي مقدمان على تقليد هذه النماذج الساقطة، مالم يتدارك المصلحون الأمور، لان ما يدور في كثير من الأفلام والمسلسلات العربية والإسلامية، يشجع على هذا السقوط ويدعو إليه ولولا أن هناك بعض النقاط المضيئة في هذه الأجواء القاتمة، لوجب أن نقرأ الفاتحة على أخلاق أجيالنا القادمة.
قال محدثي الذي أثق فيه: «إن الفيلم الإيراني، هو الفيلم الذي تستطيع مشاهدته وأنت جالس مع زوجتك وأبنائك، لأنه ليس فيه من المشاهد والممارسات، ما يخدش الحياء أو يسيء إلى الآداب. فقلت له بسرور غامر:
نحن بالإسلام نرقى فوق آفاق الثري
 
قائداً إلا النبي
حين لا نرضى بتات
 
تحديات خارجية
المبحث الأول ـ الأطماع في ثروات الأمة ومواقعها إن المؤامرات التي تحاك، والجيوش التي تتحرك، والاتفاقيات التي تعقد، والمؤتمرات التي تقوم، والمفاوضات التي تجري، كلها أمور تحركها وتتحكم في مسارها ـ الأطماع في ثروات الأمة الإسلاميّة، والآمال في السيطرة على مواقعها الجغرافية ومن أجل ذلك نقشت جيوش الاستعمارين الغربي والشرقي في أرض المسلمين في آسيا وأفريقيا على حد سواء، كما تنفش البهائم في مزروعات في الأرض الخلاء.
وإذا كانت هذه الجيوش قد انسحبت من بعض البلاد، فظن أهل تلك البلاد أنهم قادرون عليها، وأنهم مستقلون بها، فإن الاستعمار ـ في حقيقة الأمر ـ لم ينحسر عنها ولكنه خرج من الأبواب العسكرية، لكي يدخل من الأبواب المتعددة الأخرى.
وذلك لأن لعاب أهل الشرق وأهل الغرب، لا يزال يسيل طمعا في التهام ثرواتنا، واستنزاف خيراتنا كما لا تزال حبائل الشياطين من الأمريكيين وحلفائهم، تلتف حول رقابنا، وتفسح المجال لأيديها الأخطبوطية لتتمكن من مياهنا وأجوائنا ومواقعنا وأرضنا.
إن المواقع الجغرافية التي تتمتع بها بلادنا، والبترول الذي تعوم عليه، والمياه التي تتدفق في أنهارها، وركائز الأرض التي تحظى بها، والمقدسات التي لا تتكرر في غيرها، كل هذا يجعل الأمريكان وغيرهم من المستعمرين الجشعين، يستحلون ـ في التعامل معنا ـ كل محرم، ويستخدمون ـ في محاربتنا ـ كل وسيلة مهما كانت دنيئة وذلك لإخضاع إرادتنا لإرادتهم، وليّ أذرعنا لطاعتهم، ليسهل عليهم استنزاف تلك الثروات، ونهب تلك الخيرات، والعبث بتلك المقدسات.
إن حرب الخليج الأولى التي أثارها الأمريكان وحلفاؤهم في الغرب، بالتآمر مع عملائهم في الشرق، كان المقصود بها تدمير القدرات العسكرية والاقتصادية للعراق وإيران كليهما، ليسهل بعد ذلك ابتلاع ثرواتهما وإخضاع إرادتهما ومن عجب أننا ندرك خطورة ذلك، ورغم ذلك نقع فيه.
ثم جاءت حرب الخليج الثانية، لتدخل الجزيرة العربية بكاملها في هذه اللعبة القذرة، وهذا الميدان الآسن، وذلك لتسهل السيطرة على قدراتنا في تلك الساحة كذلك وقد كان للأمريكان ما أرادوا.
ولعل التآمر المستمر على الجمهورية الإسلاميّة في إيران، أو على سوريا أو على مصر أو على السودان لا يخرج عن هذا النطاق، بل يندرج في نفس المساق.
فالجمهورية الإسلاميّة في إيران، تشكل رمزاً إسلامياً مستقلاً، كما تشكل قوة للمسلمين جميعاً، بل وتشكل نموذجاً إسلامياً متنامياً نشطاً، سياسياً واقتصادياً وصناعياً وتجارياً وعسكرياً، يتطلع العالم العربي والإسلامي إلى محاكاته، وتقليد خطواته، والاستفادة من إنجازاته، وهو ما يخيف المستعمرين، ويهدد مصالح الطامعين.
أما سوريا فتشكل رمزاً للإرادة العربية الصلبة، ورمزاً على ثوابت الأمة وحقوقها، في فلسطين وفي لبنان هذا الصمود وهذه الإرادة يهددان الكيانات المزروعة في جسم الأمة ـ كالكيان الصهيوني الدخيل ـ مما يهدد ـ بالتالي ـ المصالح الاستعمارية الأمريكية بخاصة، والغربية بشكل عام.
وكذلك الحال في مصر والسودان، فهما يشكلان ثقلاً سكانياً إسلامياً يخيف الأعداء والمتربصين ويمتاز السودان بأنه يشكل مشروعاً حضارياً إسلاميا، في قلب قارة يسيل عليها اللعاب، وتسن من أجلها الحراب بل إن السودان نفسه هو مما يستهدفه الأعداء، لأنه المفتاح الحقيقي لتلك القارة.
أما مصر فإنها تمتاز بأنها تشكل بموقعها الجغرافي، وثقلها السكاني، وتميزها الوطني والديني والتاريخي، تشكل موقعاً (استراتيجياً) غاية في الأهمية والخطورة. إذ يستحيل على الغرب أن يتصل بأمم الشرق إلا عبر أراضيها، أو عبر مياهها، كما يستحيل على الأمة العربية أن تنهض ومصر بعيدة عنها.
إن الأطماع في ثروات الأمة الإسلاميّة، وفي مواقعها الجغرافية، وحتى في مقدساتها الدينية، تعتبر من أكبر التحديات الخارجية التي تواجهها الأمة، وهي تدخل القرن الميلادي القادم.

المبحث الثاني ـ التآمر على الأمة، وحصار شعوبها
إن مظاهر التآمر على الأمة الإسلاميّة كثيرة ومتشعبة، ويكمن أبرزها في احتلال قطع غالية من أرضها ـ كفلسطين ـ وزرع كيانات دخيلة في جسمها ـ كالكيان الصهيوني ـ وتدمير أو تدنيس مقدساتها، كما فعل بمسجد بابري في الهند، وما يحاك ضد القدس والمسجد الأقصى المبارك في فلسطين.
ثم يأتي مظهر آخر من مظاهر ذلك التآمر، وهو إثارة الحروب بين دول الأمة وشعوبها، كما كان في حرب الخليج الأولى والثانية، حيث فقد الأمة في الحربين من مقدراتها العسكرية والاقتصادية والبشرية، ما لا تزال تعاني من نتائجه حتّى اليوم.
ثم يأتي مظهر ثالث للتآمر على الأمة، وهو فرض الحصار العالمي على بعض أقطارها، والتحرش العدواني المستمر ببعضها الآخر.
فها هو ذا الشعب العراقي يعاني من هذا الحصار القاتل، والذي لا تظهر في الآفاق بوادر لنهايته وهو حصار ناتج عن التآمر الأمريكي البريطاني من ألفه إلى يائه أوردت صحيفة الدستور الأردنية اليومية، في عددها الصادر بتاريخ 6/9/1998 ـ تصريحاً لوزير خارجية العراق يقول فيه: «لا توجد أزمه بين العراق والأمم المتحدة، لكن أميركا وبريطانيا تثيران المشاكل لإبقاء الحظر». وعلقت الصحيفة المذكورة على هذا الخبر بقولها: «يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية، تصر على إثارة الزوابع باستمرار في وجه العراق، وعلى خلق العقبات في طريق رفع الحصار المفروض عليه، يتضح ذلك من خلال الممارسات الأمريكية سواء في مجلس الأمن والأمم المتحدة، وحتى مياه الخليج وداخل العراق نفسه».
وهاهي ذي ليبيا وما عانته من هذا الحصار الذي طال أمده، حتّى اضطر عدد الزعماء الأفارقة أن يخترقوه، ففي الخامس من سبتمبر من العام الماضي (1998م) وصل إلى طرابلس ـ بطريق الجو ـ أربعة من القادة الأفارقة هم رؤساء السودان والنيجر وتشاد ومالي (انظر صحيفتي الرأي والدستور الأردنيتين اليوميتين الصادرتين في 6/9/1998م) وكانت التعليقات الساخرة يومئذ تقول: «القارة السوداء تتحدى القارات البيضاء، وذلك بخرق الحظر الجوي على ليبيا».
وها هو ذا السودان تلقى ضربة صاروخية جوية أمريكية، بسبب الزعم الأمريكي الذي ثبت كذبه ـ بأن السودان ينتج أسلحة كيمياوية.. وتبدأ التعليقات على شكل تبريرات وحقائق وسخريات، تنتشر في وسائل الإعلام تعقيباً على ذلك الهجوم الهمجي وكانت أولى تلك التعليقات من صحيفة (الدستور) الأردنية اليومية عدد 6/9/1998م حيث قال: «في محاولة لتبرير هجومها على مصنع الدواء، أميركا (تقول): السودان رفض إثبات قطع روابطه مع الإرهاب ».
وفي عدد اليوم التالي من نفس الصحيفة، برز الخبر التالي: «خبراء بريطانيون يتفقدون مصنع الشفاء في السودان» وفي صحيفة (الرأي) الأردنية اليومية عدد 1/9/1998م برز الخبران التاليان: الأول هو: «مالك مصنع الشفاء يعتزم مقاضاة الولايات المتحدة»، والثاني: هو: «الرئيس السوداني يجدد دعوة بعثة دولية لتقصي الحقائق »، وقد ورد نفس هذا الخبر ـ أيضاً ـ في صحيفة (العرب اليوم) عدد 10/2/1999 م، حيث قال مراسلها من الرباط بالمغرب العربي: «طالب الرئيس السوداني، الفريق عمر البشير مجدداً أمس، بإرسال بعثة دولية لتقصي الحقائق حول مصنع الأدوية في الخرطوم، الذي دمره قصف أمريكي في آب ـ أغسطس الماضي، للاشتباه بأنه ينتج مكونات أسلحة كيميائية».
أما آخر هذه الأخبار، فكان في صحيفة (الحياة) اللندنية اليومية عدد 10/2/1999م، وهو قولها: «خبير أمريكي يؤكد عدم وجود أدلة على أسلحة كيمياوية في مصنع الشفاء » غير أن أجمل تعليق على الموضوع كان السخرية التي أطلقها الكاتب (خالد الحروب) في صحيفة (الدستور) الأردنية اليومية، عدد 6/9/1998م حين قال في عنوان مقال له في زاوية (حقائق): «فستان لوينسكي ـ كلينتون، ضرب السودان وأفغانستان».
ثم يأتي مظهر آخر من مظاهر التآمر على الأمة، وهو التآمر على أبرز اقتصاديات عدد من دولها، وهو النفط، بحيث وصل سعر برميله إلى أدنى مستوى، وهو عشرة دولارات للبرميل الواحد، وكان هذا السعر قد بلغ ستين دولاراً في يوم من الأيام وهذا ناتج من تآمر الدول الصناعية الكبرى، على الدول المنتجة لهذا المنتج الخطير (انظر صحيفة ـ السياسة ـ الكويتية اليومية عدد 15/3/1998م، وانظر كذلك، صحيفة ـ البعث ـ السورية اليومية عدد 15/3/1999م).
ولما كانت مظاهر التآمر على الأمة الإسلاميّة متعددة الألوان والأشكال، والمجال لا يتسع للغوص في مختلف هذه المظاهر، فإن الأمر، فإن الأمر يقتضي أن أختم هذا المبحث بالحديث عن مظهر متجدد لهذا التآمر، ألا وهو (تهمة الإرهاب).
ومما لاشك فيه أن الإرهاب ـ في الأصل ـ وهو سلعة أمريكية، وهو صناعة أجهزتها المخابراتية (انظر مجلة ـ الوطن العربي ـ الأسبوعية عدد 12/7/1998 م، وانظر كذلك، صحيفة (هيرالدتربيون) الأمريكية في أول سبتمبر ـ أيلول عام 1998م حيث يقول الرجل في شهادته: «إن المسؤول أساساً عن الإرهاب في العالم العربي والإسلامي، هو السياسات الأمريكية» (انظر مجلة ـ الأسبوع العربي ـ عدد 7/9/1999م).
ومن أبرز ما يُضحك في الحديث عن الإرهاب، أن يتهم بالإرهاب كل من المقاومة الإسلاميّة في فلسطين ، بقيادة حركة المقاومة الإسلاميّة (حماس)، والمقاومة الإسلاميّة في لبنان بقيادة (حزب الله) الحركتان اللتان تدافعان عن وجود شعبيهما ضد الاحتلال السرطاني الاستيطاني الصهيوني بل إنهما تدافعان عن شرف الأمة كلها، حين تتصديان لهذا الكيان البغيض.. ثم تتهمان بالإرهاب.
أما أن يحتل الصهاينة فلسطين وجنوبي لبنان والجولان السورية، فلا يشار إليهم بالإرهاب أن يمارس الصهاينة القمع والقتل والتشريد للشعبين الفلسطيني واللبناني، وأن يقوموا بهدم منازلهم وتدمير قراهم واقتلاع محاصيلهم أو حرقها، وأن تسيح قطعان المستوطنين الصهاينة الجشعين في الجولان وفي جنوبي لبنان وفي فلسطين فلا يشكل هذا في القاموس الأمريكي إرهاباً.
أن يقوم الصهاينة بمجازر ضد المدنيين العزل، في المسجد الأقصى المبارك، أو في المسجد الإبراهيمي في الخليل وفي أثناء صلاة المسلمين وهم ركوع أو سجود، وأن ينفذوا مجزرة قانا في الجنوب اللبناني، وهم يعلمون أن كل من في ذلك الملجأ كان من النساء والأطفال، أن يقوم الصهاينة بكل هذا وكثير غيره، فلا يتهمون بالإرهاب، بل لا يستطيع مجلس الأمن ولا هيئة الأمم أن يتخذوا ضدهم ولو قرار إدانة واستنكار، فضلاً عن المعاقبة أو الردع، لأن الاعتراض الأمريكي جاهز، ولا يتمكن أحد من اجتيازه.
كل هذا لا يعتبر إرهاباً عند أولئك المجرمين، إنّما الإرهاب فقط إرهاب المقاومين لاحتلال الدخلاء والمدافعين عما تتعرض له بلادهم من البلاء، والواقفين في وجه ما يتعرض له أبناء شعبهم من الاعتداء.
إن التآمر الدولي على الأمة الإسلاميّة، وحصار شعوبها، والاعتداء عليها، يعتبر واحداً من أخطر التحديات الخارجية للأمة وهي تستقبل القرن الميلادي الحادي والعشرين.
 
المبحث الثالث ـ الأحقاد الصليبية، والممارسات الشيطانية
لا يمكن الفصل بين ما تمارسه دول الغرب اليوم مع المسلمين، وبين الأحقاد الصليبية التاريخية فالغرب لا ينسى الهزيمة الساحقة، التي لحقت بأجداده في حطين بفلسطين، على يد القائد المسلم صلاح الدين وإذا كان ملوك أوروبا الصليبية في ذلك الزمان، هم الّذين قادوا جيوش الغزو ضد العالم الإسلامي، فإن أمريكا اليوم هي التي تتولى زعامة الصليبيين الجدد، في محاولات يائسة، وممارسات بائسة، للثأر من المسلمين.
ولعل أبرز مظاهر هذه الأحقاد، غرس هذا الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي والإسلامي، واستمرار مده بعناصر القوة والحياة، ليظل كالشوكة الممضّة في الحلق الإسلامي، بل كالخنجر المسموم في الخاصرة الإسلاميّة للتنفيس من خلاله عن الدفين من الأحقاد الصليبية.
وباستقراء نتف الأخبار في وسائل الإعلام المختلفة، يزداد الواقع الذي نلمسه ونحياه تأكداً وترسيخاً كما يزداد تدليلاً على ما نقول، وذلك بالرغم مما يحاوله الأمريكان وحلفاؤهم من الظهور بمظهر الصديق ـ جداً ـ لبعض دولنا الإسلاميّة، ولا أجد لذلك مثلاً صادقاً إلا قول الشاعر العربي:
يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب
وللتدليل ـ عملياً ـ على ما نقول، نستقرئ نتفاً من أخبار الصحف والمجلات العربية، وجميعنا بالتأكيد معني بتلك الأمور ففي عددها بتاريخ 2/2/1998؛ قالت مجلة (السبيل) الأردنية الأسبوعية: «في ظل حرصها على التفوق العسكري الصهوني، الإدارة الأمريكية تزود العدو بطائرات إف 15 أي».
وفي ثنايا هذا الخبر الخطير تورد الصحيفة قول أحد القادة الصهاينة، بأن هذه الطائرات قادرة على الوصول إلى إيران وليبيا والسودان وهو قول له مراميه الصليبية والصهيونية في آن واحد.
وفي المقابل، نشرت مجلة (الوطن العربي) في عددها الصادر بتاريخ 14 / 8/1998 م، خبراً بعنوان: «لا أسلحة فرنسية لسوريا» ومما جاء في الخبر: «أكدت مصادر فرنسية وثيقة الاطلاع، أن فرنسا لا تنوي بيع سوريا في هذه المرحلة أسلحة هجومية، كالطائرات المقاتلة، والصواريخ المضادة للطائرات، والدبابات الحديثة».
ولك أن تقارن بين هذين الخبرين، لتدرك شيئاً من الحقد الصليبي، الذي ينسحب على تعامل دول الغرب الصليبي مع المسلمين في هذا الأيام فها هي ذي ـ تلك الدول ـ تزود الصهاينة المعتدين بما يشتهون من أنواع الأسلحة؛ هجومية كانت أو دفاعية، وهاهي ذي ترفض أن تزود العرب والمسلمين بما يحتاجون إليه للدفاع عن أنفسهم من تلك الأسلحة، مع أن الصهاينة يأخذونها مجانا أما العرب والمسلمين فإنهم يدفعون ثمنها من أقوات شعوبهم.
ومن أبرز مشاهد الحقد الصليبي أيضاً، ما يمارسه الصرب واليوغوسلاف والروس والكروات ـ بمباركات أمريكية وفرنسية وبريطانية ـ مع المسلمين في البوسنة والهرسك وكوسوفا من ممارسات قمعية إجرامية لا تقوم بها الشياطين أنفسها.
فتقاسم أرض المسلمين في البوسنة والهرسك، وقتل عشرات الآلاف منهم، وتشريد مئات الآلاف الأخرى، والاعتداء المبرمج على أعراض عشرات الآلاف من نسائهم، وحرق القرى والمزارع في كوسوفا، وتهجير سكان الإقليم من المسلمين، وسكوت الغرب والشرق على هذه الممارسات الهمجية، بل ومباركتها ـ اللهم إلا من بعض الاحتجاجات والتصرفات الباهتة ـ كل ذلك لا يمكن تفسيره بعيداً عن الأحقاد الصليبية الموروثة.
أما الضربات التي يوجهها حلف الأطلسي ـ بقيادة أمريكية ـ للصرب في يوغسلافيا، فليست لسواد عيون المسلمين في كوسوفا.. وإذا اعتبرنا ذلك كذلك، فنحن من السذاجة السياسية بمكان. إن ما تقوم به قوات حلف الأطلسي؛ ما هو الإتصفية للحسابات بين الشرق والغرب، وهو كذلك تنفيس عن الأحقاد المتأزمة بين مذاهب القوم المختلفة.
ثم إنه أيضاً، صراع على الزعامة في أوروبا، بين الأمريكان ومن يفكر في أن ينازعهم عليها. أما ممارسات الأمريكان ضد المسلمين، فلا يمكن أن تنقلب ـ بين يوم وليلة ـ إلى صداقات يخوض من أجلها الأمريكان معارك حربية، ولا يمكن أن تفسر بعيداً عن الأحقاد الصليبية التاريخية.
بل إن الممارسات الأمريكية في العالم العربي، لا يمكن تفسيرها كذلك بعيداً عن تلك الأحقاد فالعرب لا يستطيعون حتّى أن يعقدوا قمة لزعمائهم إلا بالموافقة الأمريكية البعيدة المنال وأصدق تعبير عن ذلك ما كتبته صحيفة الوفاق السودانية اليومية في عددها بتاريخ 9/3/99 م تحت عنوان «قمة حائرة، بين رفض أمريكي، وخلاف خليجي، وتردد مصري».
وبهذا وذاك من الأحقاد الصليبية، والممارسات الشيطانية، تستعد الأمة الإسلاميّة لدخول القرن الميلادي الجديد فهل نتنبه لهذه الأخطار، قبل أن يفرتنا القطار أو يجرفنا التيار؟!
 
المبحث الرابع ـ الجشع الصهيوني وميادين الصراع معه
كان ظهور الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر؛ مؤشراً على دخول الأمة الإسلاميّة في صراع وجود مع هذا المولود الخبيث. فقد ظل اليهود بعد خروجهم من مصر مع سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ ، وذلك قبل ميلاد السيد المسيح ـ عليه السلام ـ بأكثر من اثني عشر قرناً، ظلوا أقلية متناثرة حول فلسطين، إلى أن غلبوا أهلها على بعض مدنها وقراها، فاستقروا فيها، وأقاموا لهم مملكة امتدت نيفا وسبعين سنة، كان أبرز ملوكهم فيها طالوت، ومن بعده داود وسليمان ـ عليهما السلام ـ .
ثم انقسمت هذه المملكة ـ بعد سليمان ـ عليه السلام ـ إلى شمالية وجنوبية، وهي في أحسن حالاتها، وأقوى آلياتها، لم تستطع أن تبسط نفوذها على أكثر من نصف فلسطين. (انظر كتاب ـ اليهود أعداء الله وقتلة الأنبياء ص 21 ـ 22 ـ وانظر كذلك كتاب ـ التاريخ اليهودي العام ـ الجزء الأول ص 248 ومابعدها).
ومما يجدر ذكره هنا، أن تاريخ بني إسرائيل مع أهل فلسطين ـ بل مع العرب جميعاً ـ في ذلك الزمان ـ كما هو الحال في هذه الأيام ـ يتسم بالجرائم والهمجية، والأحقاد والمذابح والممارسات الإرهابية، كما يتسم باللصوصية والجاسوسية في مختلف المجالات، وبالغدر والخيانات، ونقض المواثيق والمعاهدات.
ويكفي للتدليل على ذلك، الاستشهاد بما سطرته توراتهم نفسها، من أن بوشع بن نون ـ القائد الذي استطاع بنو إسرائيل أن يدخلوا فلسطين على يديه، كان يقول للغزاة منهم، وهم يحاصرون مدينة أريحا الفلسطينية: «احرقوا المدينة بالنار مع كل ما فيها، اقتلوا كل رجل وامرأة، وكل طفل وشيخ ـ حتّى البقر والغنم ـ بحد السيف، احرقوا المدينة بالنار على كل مَن فيها» (6).
وجلست أقارن بين هذه الوصية الشيطانية الشريرة، وبين ما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يوصي به المحاربين من المسلمين، حيث كان يقول: «لا تغلو، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، فهذا عهد الله، وسيرة نبيكم فيكم» (7). نعم العهد ذلك العهد، ونعم السيرة تلك السيرة.
ثم أنهي الوجود اليهودي في فلسطين، وذلك في القرن السادس قبل ميلاد السيد المسيح ـ عليه السلام ـ وعاش اليهود بعد طردهم من فلسطين، وسبيهم إلى بابل (الذي حدث في سنة 586 ق.م)، عاشوا في مجموعات متفرقة في الشرق والغرب.. وظلوا حتّى القرن التاسع عشر الميلادي، يؤمنون بأن عودتهم إلى فلسطين، ستكون على يد المسيح ـ عليه السلام ـ ، الذي سيبعثه الرب ـ كما يعتقدون ـ لتخليصهم من هذا الشتات.
ولكن ذلك الاعتقاد، لم يكن يمنع ظهور حركات ومنظمات يهودية، تدعو إلى ضرورة تجمع اليهود تحت لواء واحد، وإقامة كيان سياسي لهم في أي مكان من العالم سواء في فلسطين أو في غير فلسطين (8).
وفي منتصف القرن الميلادي التاسع عشر، ظهر تياران بين يهود أوروبا، أحدهما ديني والآخر سياسي وكانا يدعوان ـ كلاهما ـ إلى العودة إلى فلسطين، وعدم انتظار مجيء السيد المسيح ـ عليه السلام ـ واستطاع زعماء التيار الأول، أن يقيموا أول مستعمرة في شمال فلسطين، قرب مدينة يافا، إحدى أشهر المدن الفلسطينية، وذلك سنة 1860م.
واستطاع زعماء التيار الثاني، أن يعقدوا لليهود أول مؤتمر صهيوني عالمي، في بازل بسويسرا سنة 1897 م، بزعامة تيودور هر تزل ـ أحد أشهر وأنشط غلاة الصهاينة في العصر الحديث ـ وعن هذا المؤتمر، انبثقت المنظمة الصهيونية.
وقد أقيمت هذه المنظمة، لتنفيذ الخطوات الأربع التي اتفق عليها المؤتمرون في بازل، لتحقيق الغاية من المؤتمر. وكانت تلك الغاية هي إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين كما جاء في القرار الرئيسي للمؤتمر، ونصه: «إن هدف الصهيونية، هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، يضمنه القانون العام». ومن أجل ذلك أقيمت المنظمة الصهيونية، وأوكل إليها العمل على تنفيذ الخطوات التالية:
1 ـ تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
2 ـ تنظيم اليهود، وربطهم جميعاً في مؤسسات مناسبة ـ محلياً وعالمياً.
3 ـ تقوية الحس والوعي القومي عند اليهود.
4 ـ بذل المستطاع للحصول على موافقة الدول ذات العلاقة (9).
وكان أن نحجت هذه المنظمة الصهيونية ـ بالتحالف مع الغرب ـ في تكثيف الهجرة اليهودية إلى الديار الفلسطينية، حتّى استطاعت ـ أخيراً ـ أن تقيّم هذا الكيان الصهيوني الدخيل على أرض فلسطين.
والحقيقة أن دول الغرب الصليبي في أوروبا وأمريكا، كان لها التخطيط والتنفيذ والدعم لهذا الكيان في كل ميدان، لأنه يخدم المخططات والأحقاد والأطماع الصليبية في العالم الإسلامي. ولذا فإن انحياز تلك الدول واضح وصريح مع الصهاينة الغزاة المعتدين، في الصراع القائم بينهم وبنين العرب والمسلمين في فلسطين.
واليوم يتسع ميدان هذا الصراع، ليخرج من فلسطين إلى بلاد العرب المجاورة وغير المجاورة للأراضي الفلسطينية، بل إنه يمتد ليشمل جميع شعوب الأمة الإسلاميّة.
فإن احتلال سيناء المصرية والجولان السورية وبقية فلسطين سنة 1967 م؛ هو لون آخر من هذا الصراع وإن اجتياح الصهاينة للبنان سنة 1982 ـ والإبقاء على جنوبه محتلاً ـ هو لون من هذا الصراع أيضاً.
وإن إثارة حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، الجارتين المسلمتين الشقيقتين، لاستنزاف قدراتهما العسكرية والاقتصادية ـ كما سبق أن ذكرنا ـ هو لون آخر من هذا الصراع، لأن البصمات الصهيونية كانت ظاهرة في التحريض على تلك الحرب.
وإن إثارة حرب الخليج الثانية، واشتراك الطيران الصهيوني فيها، وما حشده الأمريكان لممارساتهم العدوانية يومئذ ـ هو لون آخر من هذا الصراع.
وإن الحصار الذي فرض على الشعوب العربية في العراق وفي ليبيا وفي السودان ـ وانتحال الأعذار المجوزة لهذا الحصار ـ هو لون آخر من هذا الصراع.
وإن التحرش بالجمهورية الإسلاميّة في إيران، والوقوف في وجه تطوير قدراتها العسكرية، وعرقلة تنمية مواردها الاقتصادية، ومجابهتها في الميادين السياسية الدولية، هو لون بارز من هذا الصراع.
وإن الحلف الذي أقيم أخيراً بين الكيان الصهيوني وبين النظام الحاكم في تركيا، هو لون آخر من هذا الصراع، لأن الأهداف المعلنة والخفية من هذا الحلف، تشير إلى أنّه إنّما أقيم ليخدم المصالح الصهيونية والصليبية ضد البلاد العربية والإسلاميّة .
وهكذا تتعدد ساحات الصراع بين الحلف الصليبي الصهيوني الإلحادي، وبين شعوب الأمة الإسلاميّة، التي تستقبل القرن الميلادي القادم، وهي تخوض هذا الصراع في مختلف الميادين فهل ترصّ الأمة صفوفها، وتجرد سيوفها، لتنتصر في هذا الصراع ؟! هذا ما نصبوا إليه، ونرجو أن تجتمع أمتنا عليه.
 
المبحث الخامس ـ الغزو الثقافي
آخر ما نحن معنيون ببحثه في هذا الفصل، هو الغزو الثقافي، الذي يمارسه مع شعوب الأمة الإسلاميّة ودولها منذ أمد بعيد ـ الثالوث المعادي لها، وهو الثالوث المكون من الصليبيين والصهاينة والشيوعيين وهذا الغزو الثقافي، هو واحد من التحديات الخارجية الخطرة، التي تواجه أمتنا في هذه الأيام بل يمكن اعتباره أخطر التحديات على الإطلاق.
ذلك أن التحديات الأخرى تستهدف بعض أراضي الأمة للاستيطان فيها، أو تستهدف شعوب الأمة لتكون أسواقاً لصناعات القوم ومنتجاتهم، أو تستهدف مواقعنا الجغرافية (الاستراتيجية)، ليؤمَّن القوم ـ بالسيطرة عليها ـ طرق تجارتهم، ومواصلاتهم، وحماية ما يقيمون في بلادنا من كياناتهم ومعسكراتهم. أو تستهدف تلك التحديات، خيرات الأمة وثرواتها؛ من نفط ومعادن وغير ذلك من مخزون باطن الأرض عندنا ـ وتلك هي أبرز الأهدف التي يصبو إلى تحقيقها، أولئك القراصنة الغزاة، من التحديات والعراقيل التي يضعونها أمام أمتنا وشعوبنا.
أما الغزو الثقافي، فإن الأمر معه مختلف جدا لأن الهدف منه هو القضاء على المقومات الأساسية للأمة وذلك بالقضاء على معتقداتها وتقاليدها وعاداتها وثقافتها وموروثاتها، والقضاء ـ بالتالي ـ على حضارتها الإسلاميّة، ورسالتها الإنسانية، لتصبح ـ كلاَّ مهملاً، أو كياناً مهلهلاً.
ولذلك فإن للثالوث المعادي للأمة، حرصاً شديداً على إنجاح هذا الغزو الثقافي، لأنه يوفر له أنسب الأجواء، ليعيث فساداً في بلادنا كما يشاء، ولأنه يحقق له الأهداف الشيطانية، التي يتطلع إليها من الممارسات والتحديات الأخرى.
وكان من نتائج هذا الغزو، أن انتشرت بيننا صراعات الأفكار الدخيلة، والمبادئ المستوردة وأصبح أبناء الأمة ألواناً متباينة من الأفكار والمعتقدات، التي تفعل بالأمة ما يفعله الشياطين، فتفرق بين الأخ وأخيه، بل وتفرق بين المرء وزوجه فهذا شيوعي، وهذا علماني، وهذا ماسوني، وهذا لا ديني، وهكذا.
وحتى عبادة الشيطان، وجدت لها في عالمنا الإسلامي مجالاً، وكان هذا ـ في بلادنا ـ يعتبر أمراً محالاً ومن أعجب ما قرأت في ذلك من الأخبار، ما أوردته صحيفة (الدستور) الأردنية اليومية في عددها الصادر بتاريخ 8/9/1998م تحت عنوان: «القبض على مجموعة من عبدة الشيطان في تركيا».
ولقد أخذ الغزو الثقافي مجاله في عالمنا الإسلامي، عبر ما ينشأ بيننا لأولئك الدخلاء، من نواد ثقافية، أو مراكز للدراسات، أو معاهد للأبحاث، وغير ذلك، غير أن أخطر ما يشاع الغزو الثقافي من خلاله، هو ما تقدمه وسائل الإعلام من السموم.
وقد نبه إلى ذلك ـ كثيراً ـ علماء الأمة ومصلحوها قال الشيخ محمّد الغزالي قدس سره في كتابه (قذائف الحق ص 230): «كل ما قدمناه إنّما  يدعم بالأجهزة الإعلامية الطاهرة النقية، أما إذا بقي الحال على ما هو عليه، في الصحافة والإذاعة والتلفزيون، وغيرها من وسائل الإعلام، فالجهد ضائع، لأن ما يبنى هنا، تهدمه هذه الوسائل هناك». ولكن الأمة لا تسمع ذلك ولا تعيه وصدق الذي قال فينا: «إن قارئ اليوم اعتاد أن يطلب القشور، ويعلق من السطح، فلم يعد يغوص في أعماق البحار، ويتسلح بالأصول، وهو ما ينبغي له أن يفعل» (كيف تنمي قدرتك على اتخاذ القرار ـ ص ا، ب من مقدمة المترجم).
وما لم تتنبه الأمة إلى ألغام هذا الغزو الثقافي فتبطل مفعولها، وإلى جيوشه فتوقف زحفها، والى سمومه فتنبه أبناءها إلى أخطارها، فستسري هذه السموم في مختلف أقطارها. وحينئذ سندخل القرن القادم، ونحن نعض على أصابعنا من الحسرة والندم، حيث لا تنفع الحسرة ولا يجدي الندم.
وصدق ـ سيد قطب رحمه الله حين قال: «إنهما طبيعتان.. طبيعة النفاق والضعف والخذلان، وطبيعة الإيمان والقوة والبلاء وإنهما خطتان.. خطة الالتواء والتخلف والرضا بالدون، وخطة الاستقامة والبذل والكرامة» (10).
وللأمة الإسلاميّة ـ في أيامنا هذه ـ أن تختار بين الطبيعتين، وبين الخطتين. بل عليها أن تختار بين حالتها الراهنة، من الضعف والاستكانة والخور والهوان، والوقوف في ذيل الأمم في هذا الزمان.. وبين اختيار الله لها بقوله جل شأنه: ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله...﴾ (11).
 
--------------------------
  *ـ باحث ومفكر فلسطيني. 
1 ـ آل عمران: 103.
2 ـ رواه الشيخان، والنص للبخاري.
3 ـ انظر المنهج الحركي للسيرة النبوية، لمنير محمّد الغضبان ـ مكتبة المنار ـ الزرقاء ـ الاردن، ج 2، ص 283، 285 ـ وانظر كذلك غزوة بني قينقاع في السيرة الحلبية، ج 2، ص 208.
4 ـ البداية والنهاية، للحفاظ ابن كثير، مكتبة المعارف ـ بيروت، ج 10، ص 286.
5 ـ الأحزاب: 59.
6 ـ التاريخ اليهودي العام، لصابر طعيمة، دار الجيل ـ بيروت 1 ـ 124.
7 ـ البداية والنهاية 5 ـ 220.
8 ـ انظر التاريخ اليهودي العام 2ـ193 ـ 195.
9 ـ انظر التاريخ اليهودي العام 2ـ196.
10 ـ معركتنا مع اليهود، سيد قطب ـ دار الشروق بالقاهرة، ص 64 ـ 65.
11 ـ آل عمران: 110.

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية