مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

سبل تنشيط العلاقات الثقافية بين الايرانيين والعرب
الدكتور محمد علي آذرشب(1)



الثقافة أساس هام من أسس استعادة الهوية الاسلامية وتوثيق عرى أفراد الامة، هذه الدراسة تستهدف البحث عن السبل الكفيلة بتنشيط العلاقات الثقافية بين ايران والعالم العربي، وتقديم اقتراحات عملية بشأنها.
معنى الثقافة ودوره
ثمة مشكلة مشتركة بين الايرانيين والعرب تتمثل في عدم تحديد مفهوم الثقافة. فقد يُتصور بأنها مواكبة أفكار العصر والنخب المثقفة تهتم بذلك وتتابع آخر الصرعات الفكرية الغربية.وقد تُفهم بأنها العادات والتقاليد الموروثة. وتتجه وزارات الثقافة في عالمنا الاسلامي الى تنشيط الثقافة غالبا عبر الاهتمام بالفلكلور والفنون التقليدية.
ومع كل ما تمتلكه النخب والدول من إمكانات في النشر والطباعة والاعلام فان واقع الثقافة العام متخلف، لأن الثقافة في اعتقادي مشروع تحريك الجماعة البشرية نحو الابداع الحضاري في جميع المجالات.
ولو فهمنا الثقافة هذا الفهم، أي لو فهمناها بأنها المزيج الفكري والعاطفي والنفسي الذي يوجه حركة المجموعة البشرية نحو هدف معين، فاننا نستطيع القول بأن السمو الثقافي يعني تعبئة طاقات الأمة ودفعها نحو تحقيق أهدافها الانسانية في جميع مجالات الحياة، وأن الانحدار الثقافي يعني هبوط حركة المجتمع وضياع الهدف.والثقافة التي سادت المجتمعات العربية والايرانية في قرون متوالية منذ القرن الهجري الأول حتى عصر الاستعمار كانت وراء توحيد الأمة ووراء حركة الأمة نحو تثبيت الهوية وإثبات الوجود على الساحة البشرية.
وحركة التاريخ تمر في الواقع عبر نشاطات المجموعات البشرية لإثبات هويتها.. وبمقدار ما تمتلكه الأمة من ثقافة فانها تساهم في حركة التاريخ، من هنا نفهم أهمية الثقافة في وجودنا ومستقبلنا.
ثم إن ثقافة الأمة لا يمكن أن تنفصل عن جذورها التاريخية وعن مزيجها النفسي الموروث وعن تراثها ومفكريها وعن إيمانها ومعتقداتها. وكل محاولة لهذا الفصل إنما يؤدي الى مسخ الامة والقضاء على مخزونها اللازم للحركة والابداع.وهذا لا يعني الوقوف عند الموروث ، بل اتخاذه أساساً وقاعدة للحركة ولاستشراف المستقبل.
وثقافة منطقتنا الاسلامية - التي يعيش فيها الايرانيون والعرب - مشتركة مهما أُريد تجزئتها باسم القومية والاقليمية والطائفية.
وأعظم سهم في إثراء هذه الثقافة وتعميقها ونشرها كان سهم الايرانيين والعرب، وهم لذلك يتحملون السهم الأوفى من مسؤولية إحياء هذه الثقافة ونفض ماران عليها من غبار، ودفعها لمواكبة متطلبات العصر، وتفعيلها كي تستعيد دورها في الابداع الحضاري.
مجالات تنشيط التعاون الثقافي
الغزو الثقافي الذي يواجهه العرب والايرانيون تحت أسماء مختلفة مثل:العولمة،والشرق أوسطية، والتطبيع و.. يفرض فرضا لاخيار آخر لهم فيه أن يتعاونوا ثقافيا، وهذا التعاون فيه اليوم العديد من المشجعات التي ينبغي استثمارها وتطويرها. وهذه الورقة تتضمن ذكر بعض المجالات التي يمكن فيها تنشيط التعاون الثقافي بين ايران والعرب، مع بعض الاقتراحات . آملا أن تكون حافزا على فهم أهمية المسألة وأهمية السعي لاستثمار هذه المجالات وتطويرها.

 

1- وضوح الخطاب الايراني
خطاب ايران الاسلام كان يقوم منذ انبثاق الثورة الاسلامية على أساس وحدة الامة الاسلامية والتقريب بين فصائلها ومذاهبها. لكن هذا الخطاب كان معتما، وكان مشوبا بتضليل إعلامي كبير، وكان مصحوبا بأخطاء هوّلتها وسائل الاعلام المعادية. واستمرت هذه الحالة طوال العقد الأول من عمر الثورة ، ثم خفت بالتدريج في العقد الثاني نتيجة ظروف سياسية كشفت أوراق المزيفين. ثم هاهو العقد الثالث من عمر الثورة يطل علينا والخطاب الايراني في أوضح حالاته. وجسور الثقة بدأت تمتد بين القيادات السياسية الايرانية والعربية، كما أن الفئات المثقفة من الجانبين بدأت تتواصل بكثافة أكبر.
غير أن الطريق الذي تمرّ به العلاقات الايرانية العربية سيكون ملغوما بما يحاول تفجير الموقف ويصادر المكتسبات، لأن هذا التقارب سيفوّت على المستفيدين من تأزم العلاقات الايرانية العربية فرصا كبيرة. ونحن نلاحظ اليوم أن وسائل الاعلام العالمية في هذا العقد الثالث من عمر الثورة بدأت تركز على الإثارات الطائفية والقومية بين الايرانيين والعرب، كما نشاهد نشر كتب مشبوهة في هذا المجال، أضف الى ما تمارسه الدوائر الاستكبارية من عمل مكثف يستهدف تصوير تخلي العرب والايرانيين عن هويتهم ومقدساتهم وقبولهم بواقع الهيمنة الأمريكية.
ويتحمل العرب والايرانيون مسؤولية استثمار هذه الفرصة المتاحة ومواصلة الطريق بخطى حثيثة، وبوعي على أخطار الطريق. عليهم أن يستغلوا كل فرصة للحوار والتعاون.
2- الاهتمام الكبير الموجود في ايران لتعلّم اللغة العربية، والاهتمام النسبي الموجود عند العرب لتعلم اللغة الفارسية
فالحاجز اللغوي أمر لا ينبغي أن نتجاهله، وهذا الحاجز لابد من إزالته عن طريق فهم لغة الآخر.
رواد النهضة في ايران اهتموا باللغة العربية، ونجد مظاهر هذا الاهتمام في ارتباطهم بعيون الأدب العربي وبأدبيات النهضة في العالم العربي، وفي ما أقرّ بعد انتصار الثورة الاسلامية في الدستور بشأن اللغة العربية، وفي مانراه من نشر واسع باللغة العربية، يفوق ماينشر في كثير من البلدان العربية، غير أن كلّ ذلك لم يبلغ الدرجة المطلوبة بسبب عدم تعاون العالم العربي مع العاملين في ايران على نشر اللغة العربية، وعدم وجود برامج متطورة لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها.
وفي العالم العربي تقف مصر في مقدمة البلدان العربية التي اهتمت باللغة الفارسية، فكل جامعاتها - على ما أعلم - تضم فروعا متخصصة في اللغة الفارسية، وفي كل العالم العربي يأخذ طالب اللغة العربية والتاريخ وبعض فروع العلوم الانسانية عددا من حصص اللغة الفارسية. غير أن كل هذا الاهتمام لم يبلغ مستوى تلبية حاجة العالم العربي لمتخصصين في اللغة الفارسية والشؤون الايرانية يضعون المهتمين في العالم العربي في صورة المشهد الثقافي الايراني، كما يصنع المتخصصون العرب في اللغات الانجليزية والفرنسية والروسية مثلا.
وإذ قلت إن العالم العربي غير مهتم بنشر لغته بين الايرانيين فان في ايران أيضا قصورا وتقصيرا في تعليم اللغة الفارسية للعرب. أقول ذلك لأني في إيران من المهتمين باللغة العربية، وها أنا ذا في سوريا من المهتمين باللغة الفارسية،وأشاهد كل مافي هذا المجال من العلاقات الثقافية من سلبيات.
ولكن وجود الرغبة لدى الجانبين أولا، ووجود محاولات جادّة في هذا المجال ثانيا يشجع على المضي في تطوير ماهو موجود ليبلغ مستوى الطموح. ووزارات الثقافة والتعليم العالي في ايران والعالم العربي، وهكذا مراكز الدراسات الشرقية فيهما تتحمل مسؤولية النهوض بهذه المسؤولية، إضافة الى المعاهد والمنتديات المهتمة بالتقارب الايراني العربي.

 

3- الاهتمام المتبادل في حقل الادب
كان للادب العربي تأثير واسع على الادب الفارسي، وكان للأدب الفارسي أيضا تأثيره الواضح على الأدب العربي، وهذا التأثير المتبادل أثرى الادبين أكبر الإثراء لما حدث بينهما من تفاعل جادّ حقيقي يعود الى اشتراكهما في الجذور والثقافة.
وبعد عصر الاستعمار انقطع هذا التفاعل بالتدريج بسبب الحواجز السياسية، ثم ما إن حدثت النهضة العربية الحديثة حتى تحسّس روّاد النهضة بضرورة الاتصال بين الأدبين العربي والفارسي، فنجد كثيراً منهم على اتصال بالادب الفارسي أمثال: محمود سامي البارودي رائد نهضة الشعر في مصر، ومحمد الفراتي وعبد الرحمن الكواكبي من رواد النهضة في سوريا، وجميل صدقي الزهاوي ومحمد مهدي الجواهري من رواد الشعر العراقي الحديث.
وتنبّه الدكتور عبد الوهاب عزام الى أهمية التفاعل الأدبي بين ايران والعرب فنشط في ذلك أيّما نشاط، وربّى في مصر جيلا من المهتمين بالادب الفارسي تلته أجيال لاتزال حتى اليوم تهتم بالادب الفارسي دراسة وترجمة وتعليما.
وفي ايران أيضاً اتجه من تنبه الى أهمية التفاعل بين الادبين العربي والفارسي نحو قراءة الادب العربي وترجمته والتعريف بالادباء العرب، لأنهم وجدوا في الادب العربي القديم والمعاصر ما يغنيهم عن الآداب الاوربية التي لا تمت الى جذورهم بصلة. وأذكر على سبيل المثال أن أحد زملائي من كبار الشعراء ذهب الى أمريكا ليطّلع على آداب تلك القارة، فعاد ليكتب كتابا عن الادب العربي المعاصر، لانه وجد في المكتبة الأمريكية ما استهواه من عيون الشعر المعاصر.
وشهدت السنوات الأخيرة اهتماما نشطا بالادب الفارسي في مصر وسوريا والإمارات العربية المتحدةوالكويت، عن طريق ترجمة الشعر والرواية والقصة، وكتابة دراسات،وإقامة ندوات.
ومن المتوقع أن هذه الحركة - لو استمرت - لاستطاعت أن تنقذ الأدبين العربي والفارسي مما أصيبا به من ضعف نتيجة اللقاء المهزوم الذي تم بينهما وبين الادب الغربي، ولاستطاعت أن تعيد للأدبين الأصالة والاستمرار في التطور القائم على الجذور.
ولا يخفى ما للحركة الادبية من تأثير على إحياء روح النهضة ،ولايمكن لمشروع نهضوي أن يتجاهل دور التطور الادبي فيه.

 

4- الاهتمام بالفكر الأصيل المعاصر
حركتنا الفكرية في ايران والعالم العربي كانت مشتركة على مرّ العصور، والتيارات الفكرية التي ظهرت في العالم الاسلامي لم يكن لها حدود جغرافية، ثم جاءت التيارات الفكرية الغربية لتدخل ايران والعالم العربي في أشد فترات هبوط الفكر وخلوّ الساحة من القادة المبدئيين في هذه المنطقة. وانفعل العالم الاسلامي بهذه التيارات ولم يتفاعل بها. وسادت موجة من الإلحاد والتشكيك في الدين، والاستهانة بالتراث، وبكل ماهو أصيل. وانفصل الازهر عن الجامعة الحديثة، تبعه انفصال الحوزات العلمية في ايران عن الجامعة. ثم حين تخلّى قطاع من المثقفين عن ولائهم السياسي لأوربا - اليمين اتجهوا الى جانب أوربا - اليسار، وكأنّ أوربا أصبحت هي القبلة التي لا مناص من التوجه اليها على أي حال.
ولو استقصينا موجة التغرب بين الايرانيين والعرب لرأيناها واحدة في منطلقاتها وتوجهاتها وخطابها، دون أن يكون بينها صلة غالبا.
ثم ظهر تيار العودة بكل سلبياته وايجابياته المشتركة في العالم العربي وايران. سلبياته المتمثلة في ما شابَهُ أحيانا من السطحية وفقدان الرؤية المستقبلية الواضحة وفقدان المنهجية في الحركة، والافراط والتفريط في النظرة الى التراث والى الغرب، والايجابيات المتمثلة في رفض الهزيمة، والعزم على استعادة العزّة، والايمان بأن استعادة الكرامة لا يمكن أن تكون إلا على أساس من الأصالة والاستمداد من الجذور.
وهذا التيار، بكل ما يتضمنه طيفه من ألوان التوجهات والأذواق والرؤى، له مكانته الكبرى في واقع ايران والعرب، وعليه تعقد الآمال في مستقبل حرّ كريم.
وأهم ما يعانيه هذا التوجّه الفكري هو الجمع بين الأصالة والمعاصرة، وهذا الجمع يتطلب فهما واضحا معمقا للتراث بعيدا عن النصوصية والتحجّر والتقليد، كما يتطلب فهما للواقع بعيدا عن الهزيمة والذوبان والتبعية. وليس هذا الامر بالسهل، لكن كلا من العرب والايرانيين يمتلكون في هذا المجال تجارب لا يستهان بها. العرب يمتلكون هذه التجارب منذ وقت مبكر.. أي منذ أن دخلت خيول نابليون الأزهر، والايرانيون امتلكوها منذ وقت متأخر عن ذلك حين حدثت الحركة الدستورية (المشروطة) في أوائل هذا القرن. ثم هم دخلوا في تجربة عملية رائدة للجمع بين الأصالة والمعاصرة بعد إقامة الدولة الاسلامية في ايران.
وتبادل هذه التجارب على غاية من الأهمية لوقاية هذا التوجه الفكري من كل ماران عليه من سلبيات، وإثراء الايجابيات.
من هنا أرى من الضروري اجتماع النخب الفكرية من الايرانيين والعرب لتأصيل فكرنا ودفعه نحو مواكبة متطلبات العصر.

 

5- الاهتمام المشترك بالجمع بين القومي والاسلامي
المشروع الاسلامي في عصور التاريخ الاسلامي استطاع أن يزيل التناقض بين التوجه القومي والتوجه الديني، ولذلك أمثلة لا تحصى كلها تثبت زيف مايقال: إن التوجه القومي كان هو المسيّر لأحداث القرون الاسلامية الاولى. رغم اعترافنا بوجود نزعات قومية وعشائرية، غير أن الهوية الاسلامية كانت هي الغالبة في التوجه العام للمجتمع الاسلامي. ولا نعني بغلبة الهوية الاسلامية إذابة الاختلافات القومية القائمة في اللغة والعادات والتقاليد ومصالح القوم، بل نعني أن هذه الاختلافات أخذت مكانها المناسب ضمن إطار الهوية الاسلامية، ولم تطغ على هذه الهوية، أو تصطدم بها.
ثم تضخم المشروع القومي في القرن الأخير تحت التأثير الأوربي واصطدم بالمشروع الاسلامي، فكانت هناك الدعوة القومية أو المليّة (بتعبير الايرانيين) والدعوة الاسلامية. وهذا الاصطدام كان له أكبر الأثر في تخلف حركة التقدم في العالم العربي، كما أنه أحبط أكبر مشروع لحركة التحرر أيام تأميم النفط في ايران.
ثم ظهرت في ايران والعالم العربي موجة المصالحة بين القومي والاسلامي ولكن العملية تحتاج الى مزيد من الحوار للتوصل الى مشروع يضمن تطلعات التوجهين.
العالم العربي شهد حوارا جادا بين التيارين الاسلامي والقومي، وايران تشهد مثل هذا الحوار لا على مستوى الندوات والمؤتمرات، بل على مستوى الصحافة ومستوى اتخاذ المواقف العملية المنسجمة مع المبادئ والمصالح القومية.
والمسألة لم تحسم عند الجانبين، وأعتقد أن تبادل التجارب في هذا المجال يعمل على تسريع عملية وضع الصيغة المناسبة للمشروع الذي يحفظ المصالح القومية في الاطار الاسلامي، كما يعمل على إزالة الحساسيات القومية الموروثة من عصر التنافر القومي بين الايرانيين والعرب. واقترح أن يكون في الأمانة العامة للحوار الاسلامي القومي أحد رجال الفكرالايرانيين، أو يدعى على الأقل في مؤتمرات هذا الحوار.
6- الاهتمام المشترك بالاستقلال العلمي
من خلال علاقاتي المباشرة بالجامعات العربية والايرانية تبين لي أن ثمة إيمانا بدأ يترسخ في أوساطنا الجامعية ترى أن التعاون مع الجامعات الغربية، رغم مافيه من اكتساب للمعارف والعلوم، لا يعطينا الأسس اللازمة للتطور العلمي، بل يفيدنا في تراكم المعرفة لا غير. ولابدّ لتحريك روح الابتكار والاختراع في العقول والنفوس من تعاون بين جامعات ما يسمى بالدول النامية. ولكن هذا التعاون يحتاج الى جهود ضخمة لتذليل العقبات الإدارية، واجتياز موانع البيروقراطية المهيمنة مع الأسف على جامعاتنا. كما يحتاج أيضا الى إيمان عام يسود أفراد مجتمعنا بأن عقولنا ليست بأقل من عقول أبناء البلدان المتطورة، أي لابدّ من استعادة الثقة بالنفس كمقدمة لازمة لهذا التعاون.
لقد ألفيت من خلال ارتباطي بمراكز الأبحاث العلمية في العالم العربي وإيران أن العرب والايرانيين المهاجرين يشكلون نسبة عالية من الطاقات العلمية المبتكرة والمخترعة في أوربا وأمريكا. كما أن كثيرا من الاختراعات العلمية في العالم العربي وايران يقدمها الباحثون العرب والايرانيون الى مراكز البحث العلمي الأوربي لقاء ثمن بخس، ثم تستثمرها تلك المراكز باسمها.
ربما لا نستطيع نحن العرب والايرانيون أن نواكب التطور التقني في العالم الصناعي لهبوط الامكانات المالية أو لعدم الاهتمام أصلا بالتخطيط العلمي، ولكن العقول لم تعقم ولم تنضب، بل تنقصها الثقة والدعم. وإذا قُدّر لهذه العقول أن تنشط ضمن برنامج مدروس لأمكن أن تكون عائدات بلداننا من بيع المعلومات العلمية أكثر بكثير من عائدات موادنا الخام. أضف الى ذلك أن هذا التفعيل للعقول وتوجيهها يساهم في تطوير المشروع الحضاري للعالم الاسلامي، ويسجل له المكانة المناسبة على صعيد التطور العلمي في العالم.
أعتقد أن العالم الاسلامي بحاجة الى مجمع للمخترعين. وأهميته لا تقل عن أهمية المجمع الفقهي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي. ومن الممكن أن يكون نشاطه ضمن الاسسكو شرط أن لا يقع في الشكليات ، وأن لا يُكتفى بأضواء الإعلام، بل إن الاعلام في هذا الحقل مضر، فلابدّ من العمل بهدوء وبدقّة وضمن دائرة مغلقة لا تتسرب منها المعلومات.
7- الاهتمام المشترك بمواجهة الغزو الثقافي
العالم بأجمعه يواجه غزوا ثقافيا باسم "العولمة" هدفه فرض نمط الحياة الأمريكية على الكرة الارضية. ثم هناك الصهيونية التي تعمل جنبا الى جنب مع السياسة الأمريكية لمسخ هوية الشعوب، وإشاعة البهيمية في ربوعها، مستخدمة الفضائيات العالمية، ومخترقة فضائيات المنطقة.
وإيران تواجه منذ انتصار الثورة عملية مكثفة لتزلزل النفوس المؤمنة بثورتها وعقيدتها، والتشكيك في كل القيم والمقدسات، وإشاعة روح الهزيمة واللامبالاة. والعالم العربي أيضا يواجه عملية غسل دماغ واسعة لمواكبة عملية التطبيع، ولكسر روح المقاومة والصمود، وإبعاده عن استشعار العزّة والكرامة.
من هنا فاننا نعيش تحديات مشتركة تريد أن تحولنا الى جسد ميت لا يحسّ بألم الجراح ولا يثور إذا ما طعن في كرامته وعزّته.
وفي تراثنا الثقافي الديني والأدبي مايستطيع أن يقي أمتنا أمام هذا الغزو المكثف، شرط أن تتظافر الجهود لإحيائه ونشره وتعميقه في النفوس.
بإمكاننا أن نضع خطة عامة تُسخّر لها الكتب الدراسية ووسائل الاعلام ومراكز التربية والفنون الادبية والاستعراضية والسينمائية لصيانة هويتنا من هذا الغزو. وهذا يتطلب إيمانا عاما بتعرضنا لغزو، ومعرفة بطبيعة هذا الغزو، وسبله ومحاور عمله.. ثم وضع الخطة الشاملة لمواجهته.
8- التعاون التراثي
ايران تضم كنوزا كبرى في التراث الاسلامي العربي، وأقول: "العربي" لأن جلّه مدون باللغة العربية، والمكتبات العربية تضم هي الأخرى كنوزا تراثية. هذا غير آلاف المخطوطات في المكتبات العالمية.
وهذه الكنوز فيها كلّ مايفيدنا لأن نبني عليه حركتنا الحضارية. ولكن حركة إحياء التراث في منطقتنا الاسلامية ليست على المستوى المطلوب لأسباب أهمها:
1- روح الاستهانة بالذات، فكل ماهو أصيل لا يلقى عندنا اهتماما، اللهم إلا إذا اهتم بها الغرب، وأذكر أن العلامة الطباطبائي صاحب تفسير الميزان كان يقول: نحن لا نمجّد شخصياتنا العلمية إلا إذا مجدها الغرب. فابن سينا كان من ربوع وطننا، وكتبه كانت موجودة بين ظهرانينا، ولكن جامعاتنا لم تهتم به إلا بعد أن اهتم به الغربيون، فكأنهم قد اكتشفوه لنا، ونحن رحنا على أثرهم ندبّج المقالات ونقيم الندوات والمؤتمرات.
2- عدم وجود المشروع الحضاري الذي يستطيع أن يستمد من التراث مقوماته، فمادام هذا المشروع غائبا، ومادامت حركة أمتنا الحضارية متوقفة، فاننا لا نستطيع أن نستوعب التراث ونفيد منه. لذلك ننظر الى كتب التراث وكأنها "ألسنة الأموات" كما شاع في كلام المتغربين الايرانيين. بينما ساهم هذا التراث بشكل جاد في صنع الحضارة الغربية، كما يمكن أن يكون أساسا لنهضتنا الحضارية.
من هنا يمكن أن يكون بين العرب والايرانيين توجه جديد الى التراث، يحييه وفق منظور حضاري واضح. وعملية الاحياء إن كانت قائمة على وضوح الرؤية والنظرة المستقبلية فانها تساهم الى حد كبير في إزالة روح الهزيمة النفسية، كما تساهم في تجميع لبنات المشروع الحضاري للأمة الاسلامية.
وفي ايران توجد مؤسسات متخصصة باحياء التراث في قم وطهران ومشهد. كما توجد مراكز إحياء التراث العربي في أكثر العواصم العربية، ويمكن أن يكون بينها تعاون وثيق في إطار بنّاء.
وهنا أسجل ملاحظة تبعث على الأسف هي أن مؤسسة إيرانية لإحياء التراث وجدت في المراكزالثقافية الفرنسية والألمانية اهتماما كبيرا في التعاون المشترك على إحياء التراث الاسلامي أكثر مما وجدته من المراكز العربية.
ثم بودّي أن أسجل ملاحظة أخرى هي أن كتب التراث المطبوعة أصبحت من التحف التي يقتنيها الموسرون ليزينوا بها بيوتهم، ولذلك أسرع تجار الكتب الى طباعة المخطوطات دونما تحقيق متقن، واكتفوا بالتجليد المذهب المزركش، فأساءوا الى التراث بدل إحيائه.
وكم هو نافع لوقام مركز مشترك للمخطوطات بين العرب والايرانيين يتحرى مظانّ التراث في كل مكتبات العالم، ويشرف بشكل دقيق على تحقيقه وفق معايير فنية، ويدرب الشباب على العمل المتقن في مجال المخطوطات، ويدفع بذخائرنا الى الدراسة والطباعة حسب أولويات الحاجة اليها درءاً للعشوائية القائمة في انتقاء المخطوط. ومن الممكن أن يبدأ تشكيل مثل هذا المركز بين ايران وأي بلد عرب آخر أولا، ليكون نواة لعمل ايراني - عربي موسع في المستقبل.
9- التعاون الفني
الفنون تمثل جانبا هاما من ميزة الهوية الحضارية للعرب والايرانيين. ولا يمكن فصل الفن عن الطابع الحضاري للأمة. وكانت فنون هذه المنطقة الحضارية توحدها من أقصاها الى أقصاها، في حقل العمارة والموسيقى والرسم و.. وفي العصر الحديث بقيت هذه الفنون بدرجة وأخرى تطبع منطقتنا بطابعها الخاص، غير أنها لم تتطور بسبب ضعف التحرك الحضاري، ثم انفتح عالمنا على فنون أوربية جديدة لم ينغلق أمامها، بل أخذها وحاول أن يوائم بينها وبين موروثه الثقافي، ويتوقف مدى نجاح عملية المواءمة على القدرة الفنية الابداعية وعلى التعمق في روح التراث. ولاتزال هذه العملية تراوح بين النجاح والاخفاق، ولاتزال تعتبر من التحديات الهامة التي تواجه هويتنا الحضارية وموروثنا الثقافي.
ايران قطعت بعد الثورة أشواطا هامة على طريق تطوير الفنون القديمة وتأصيل الفنون الحديثة. ففي مجال الفنون القديمة التي أوشك بعضها أن ينسى سعت الأجهزة التراثية الى حشد أساتذة هذه الفنون ودفعهم الى تطوير فنهم، والى تعليم طلبتهم، ثم إن كل البلدان العربية لها من هذه الفنون التقليدية ما تحرص على صيانته وتطويره. والتوجه المشترك بين البلدان العربية وايران نحو تطوير الفنون القديمة يصون عمارتنا من المسخ وموسيقانا من الابتذال وفنوننا من التقليد العشوائي. كما أن بذل المساعي المشتركة على طريق تأصيل الفنون الحديثة يفسح لنا المجال لأن ننفتح على الفنون الحديثة ونتفاعل معها لا أن ننفعل بها، ونجعل منها مشروعا حواريا عمليا بين الحضارات، يحافظ على نقاط القوة، ويتجاوز مساحات الضعف التي لا تنسجم مع الفطرة الانسانية. وأقترح في هذا المجال تأسيس مركز خاص بالتعاون الفني بين ايران والعرب، يركز على الفنون الجميلة، وفنون السينما والمسرح، يمكن أن يكون ذلك على مستوى الدراسات الجامعية النظرية، أو على مستوى العاملين في مؤسسات هذه الفنون.
10- التعاون في حقل صيانة الوحدة الوطنية
الوحدة الوطنية هدف هام من أهداف ايران وكل بلد من البلدان العربية، فالتعددية القائمة في منطقتنا - رغم مايمكن أن يكون فيها من عطاء ايجابي - كانت دائما مستهدفة لإثارة النزاعات وتمزيق الوحدة الوطنية.
ايران مثل سائر بلاد العرب فيها تعددية مذهبية ودينية وعرقية، وهي تعددية يمكن أن تكون كما ذكرت مصدر عطاء وثراء، وهكذا كل تنوع يمكن أن يرتفع الى هذا المستوى إذا توفّرت له البيئة السليمة، وأبعد عن الحالة التي تعرضه الى الاستفزاز.
وأعتقد أن جو الحوار هوأسلم طريقة لتوفير البيئة المذكورة ووقاية هذه البيئة من التعرض للمسيئين.
ولقد كانت لايران والعرب في العصر الحديث تجربة رائدة في مجال الحوار المذهبي، إذ تأسست في منتصف القرن العشرين دار التقريب بين المذاهب الاسلامية، والتقريب كلمة تحمل كل ماكان يريده أصحابه من الدار، فهي لا تريد إلغاء المذاهب لأنه مستحيل ولأنه يلغي اجتهادات مفيدة في حقول العلم والعمل. وقطعت أشواطا رائعة في طريق إزالة الحساسيات المذهبية الموروثة، وخلقت بين السنة والشيعة حالة سليمة من الحوار الهادئ القائم على احترام الرأي الآخر، ثم تواصلت التجربة في ايران بعد انتصار الثورة الاسلامية ضمن إطار . واهتم بهذا الحوار التقريبي المغرب والاردن والمملكة العربية السعودية. ومن المؤكد أنها موضع تأييد كل المهتمين بالوحدة الوطنيةوالوحدة الاسلامية في هذه المنطقة.
وبالمناسبة إن الحوار الاسلامي - الاسلامي مطلوب في إطار أوسع من الحوار السني - الشيعي، لما تشهده منطقتنا من أفكار شاذة أو متطرفة أو التقاطية تتسمى باسم الاسلام، وتعمل على بلبلة المجتمع.
من هنا أرى أننا بحاجة الى مجمع للفكر الاسلامي، وحاجتنا اليه لا تقل عن حاجتنا الى مجمع الفقه الاسلامي، لأن الفكر هو الذي يرسم المشروع العملي العام لحركة الفرد والمجتمع.
ثم هناك أيضا مجال الحوار الاسلامي - المسيحي، وهو أيضا قادر على أن يصون وحدتنا الوطنية، إضافة الى قدرته على إحلال التفاهم بين الشرق والغرب. ولايران وكثير من البلدان العربية جهود داخلية أو عالمية في هذا المجال.
والتعاون بين العرب وايران في حقل الحوار الاسلامي - المسيحي يمكن أن يثرى التجربة ويمكن أن يوحّد منطقتنا الحضارية في عملية حوار الحضارات، ضمن إطار الحوار بين الغرب والعالم الاسلامي.
هذه نماذج من سبل تنشيط التعاون الثقافي بين ايران والعرب، ويمكن أن تأخذ مسارها العلمي دون التأثر بالخلافات السياسية، بل إنها يمكن أن تكون مقدمة للتفاهم السياسي والتعاون الاقتصادي والأمني بين ايران والعرب، لأن التعاون الثقافي يمسّ شغاف القلب، ويرفع العلاقة الى مستوى إنساني نبيل مترفع عن المصالح الآنية الضيقة.
-------------------------
1- استاذ في جامعة طهران. 

 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية