مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

من مظاهر الواقعية الاسلامية
التوازن، المرونة، الاخلاقية(1)
الشيخ محمد علي التسخيري(2)

كل الخصائص الاساسية للاسلام تحول دون ظهور الخلاف المقيت والتعصب الاعمى، وتدعو الى الانفتاح على الرأي الآخر وقبول التعددية في إطار الاصول العقائدية، والباحث في هذا المقال يتناول التوازن والمرونة والاخلاقية باعتبارها من المظاهر التي تؤكد واقعية الاسلام في صياغة الفرد والمجتمع.

  

المظهر الأول: التوازن

وتوجد هنا مقدمتان:

الاُولى: اُسلوب الاعداد المفهومي والصياغة التصورية

تتميز التربية الاسلامية بخاصية قد لانجدها في غيرها، وهي مايمكن تلخيصه بأسلوب الاعداد المفهومي والصياغة التصورية، وذلك بتغيير الصورة المنحرفة عن الواقع، وإعطاء النظرة النافذة وتأصيلها في النفس عن الوجود، والكون، والحياة، والانسان ، بفطرته، وتأريخه ، وقوانين هذا التاريخ، وحاضره، ومستقبله; فإذا تم هذا التأصيل البنّاء عاد الاسلوب الاسلامي ليثقف المسلم بالهدف مباشرة، وبشكل مجمل، ليرّكز عليه - ولو من خلال مسيرة الأجيال، بحيث لا يشكل هو الا خطوة من هذه المسيرة- ثم يرسم بعد ذلك أمامه الصورة التفصيلية والتشريعية، فيضمن بذلك اندفاعاً للعمل من جهة، وأداءً أروع له بعد أن تركزت في نفس العامل كل أبعاد الصورة والإطار الذي يجب أن يتم فيه، من جهة أخرى. ونلحظ لهذه الحقيقة الكثير من المصاديق، ومنها مسألة التوازن الذي يعمل الاسلام على تركيزه في النفس الانسانية بشتى الأساليب، كما نرى.

الثانية: التوازن العادل الحكيم

قبل كل شيء، يجب أن نركز على أن المقصود بالتوازن ليس ماقد يتبادر الى الأذهان لأول وهلة من التساوي بين الجانبين، أو ما إلى ذلك، وإنما يقصد منه ملء الواقع بالشكل العادل بحيث يوضع الشيء في محله دون أن يلحق حيف بأجزاء الواقع، وبحيث يشكل هذا الملء أفضل حالة لصالح الكمال، وهو مايمكن أن نطلق عليه اسم: "التوازن الحكيم" أو "التوازن العادل" فمثلاً لو أننا لاحظنا جانب الغرائز الانسانية فإننا نجد أنها تحتاج الى إشباع معين، وهي قد تتطلب ما يزيد على إشباعها الصحيح، فيؤثر هذا على إشباع الغرائز الأخرى، فاذا أُعطيت أكثر مما يتطلبه واقعها وهدفها فقد اختل التوازن فى إشباع الغرائز. فالتوازن لا يعني أن تشبع كل غريزة بالمقدار الذي تشبع به الغرائز الاخرى.

وعندما يتضح هذا المفهوم نستطيع القول بأنه لا يحتاج في إجماله الى استدلال، فـإن نظرية خلق الكون بحكمة وإحكام، وكون التشريع حكمة تشريعية تنسجم مع الحكمة الكونية، هي من أوضح النظريات القرآنية التي يتكرر التصريح والاشارة إليها في مختلف الآيات القرآنية.

وإذا شئنا بعد هاتين المقدمتين أن نستعرض مجالات التوازن نجدها مجالات تصورية وتشريعية.

 

التوازن في التصور الاسلامي عن الواقع

إن الاسلام يحاول أن يغير الوجود الانساني الى الشكل المراد، فيبني التشريع على أساس تصوري محكم حدد له فيه موقعه من التشكيلة الكونية ليكون على هدى من أمره: (قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتَّبعني)(3). وها نحن نشير الى جوانب من تلك الصورة التي رسمها عن الواقع، فيقول تعالى عن:

1- التوازن الكوني: (إنّا كل شيء خلقناه بقدر)(4). (والسماء رفعها ووضع الميزان)(5).

2- التوازن بين الاطلاق في المشيئة الالهية: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)(6) والثبات في القوانين الكونية: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار)(7). (ولن تجد لسنة الله تبديلا)(8).

3- التوازن بين الارادة الالهية المطلقة والارادة الانسانية المحدودة التي حصلت بمشيئة اللّه: (ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دساها)(9).

4- التوازن بين الرحمة الواسعة والعقوبة الشديدة، يقول تعالى: (نبّئ عبادي: أني أنا الغفور الرحيم. وأنّ عذابي هو العذاب الأليم)(10).

فان تصور الرحمة الواسعة يبعث في الانسان أملاً واسعاً دافعاً نحو العمل، وتصور العقوبة الشديدة يمنع ذلك الأمل من الانقلاب على هدفه ويضبطه ويحوله الى عمل في سبيله، فيتحقق نوع متكامل من التوازن البنّاء.

5- التوازن بين طرق الخير وطرق الشر المعروضة أمام الانسان، مما يفتح أمامه سبيل الاختيار الحر، وهناك نصوص شريفة تركز على هذه الحقيقة(11).

7- التوازن بين قوى الانسان والأهداف المنشودة التي خلق لأجلها.

علماً أن الصورة التي يرسمها الاسلام عن الواقع لايمكن أن نجدها لدى أي مذهب.

 

التوازن في تعامل المسلم مع الواقع

وعلى ضوء من النظرة المتوازنة الى الواقع يرسم الاسلام للمسلم مواقف متوازنة منه، أي من الواقع .

1- الموقف المتناسق من الكون المتناسق.

ذلك أن التصور السابق يدفعه للانسجام مع الكون ليتحقق الهدف المنشود من الخلقة، وهنا تبدو العلاقة الرائعة بين التسخير والشكر، فالتسخير انسجام تكويني، والشكر انسجام إرادي من قبل الانسان:

(وسخّر لكم الليل والنهار. وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار)(12) وكذلك (سخّرها لكم لتكبروا اللّه على ماهداكم وبشّر المحسنين)(13).

2- موقف العبودية المطلقة والشكر للّه مع الاعتراف بفضل المخلوق..

فالاسلام، على ضوء ماسبق، دعا لجعل الشكر المطلق لله تعالى باعتباره المنعم التام، دون أن يهمل الدعوة لشكر المخلوقين باعتبارهم اعملوا ارادتهم الخيرة لتحقيق الهدف الخير.

(ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير)(14).

وعنه(صلى الله عليه وآله) في حديث قدسي: "وإني قد آليتُ على نفسي أن لا أقبل شكر عبد لنعمة أنعمتها عليه حتى يشكر من ساقها من خلقي إليه"(15).

3- موقف الأمل بالله تعالى مع الاطمئنان ببقاء السنن الكونية.

4- موقف التوكل على الله والثقة بالنفس.

5- موقف العلو على المشاكل التاريخية مع تقدير دور كل عامل.

6- موقف الدقة في اختيار سبيل الخير مع الحذر من سبل الشر.

7- موقف الخوف والرجاء.

فعن الامام الصادق(عليه السلام) أنه قال: كان أبي يقول: "ليس من عبد مؤمن الاّ وفي قلبه نوران: نور خيفة ونور رجاء، لو وزن هذا لم يزد على هذا ، ولو وزن هذا لم يزد على هذا"(16).

ومن الواضح أن هذه الخاصية تنعكس على السلوك تماماً.

يقول الامام الصادق(عليه السلام) : "لايكون المؤمن مؤمناً حتى يكون خائفاً راجياً، ولا يكون خائفاً راجياً حتى يكون عاملاً لما يخاف ويرجو"(17).

8- الموقف المتوازن من الدنيا والآخرة.

يقول تعالى: (وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا)(18).

ويقول الامام علي(عليه السلام) في كتابه الى محمد بن أبي بكر (رضي الله عنه).

"واعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم".

9- موقف التوازن بين البرهنة وطلب الدليل من جهة، والتعبد والتسليم، من جهة أخرى.

وهناك نماذج أخرى للمواقف المتوازنة من الواقع لا يسعنا فعلاً التعرض لها.

 

التوازن والتشريع

هناك أسلوبان من البحث في هذا المجال:

الأول: التوازن بين التشريع وأرضيته المناسبة له.

وهذه السمة تنسجم مع مبدأ ضرورة ربط المسألة الاجتماعية (وهي مجال التشريع) بالمسألة الفلسفية (وهي مجال الأرضية الروحية المناسبة) فعلى ضوء نوعية العقيدة، والمفاهيم المبتنية، والعواطف المتفرعة عنها، يأتي التشريع المنسجم.

2- الوحدة والتوازن في تطبيق كل الأنظمة الاسلامية، ذلك أن الحياة مترابطة، والحلول لها مترابطة، فمن الطبيعي أن يتم التناسق في التطبيق.

3- الموازنة بين الالزام التشريعي والتطوع الفردي أو الاجتماعي.

4- التوازن بين التحديد في المجالات الثابتة والمرونة في المجالات المتطورة.

5- الموقف المتوازن من الحرية الانسانية.

فلا يعمل الاسلام على الانفتاح المطلق، ولا يسمح بالتحديد التام، وإنما يتم تخطيط واقعي سليم.

الثاني: تناول كل نظام من النظم الاسلامية والعمل على اكتشاف جنبات التوازن فيه.

ونشير هنا مثلاً الى أن نظام العبادات، عندما يتم التركيز عليه، يعرض علينا أروع صور التوازن، تارة بين الحرية الانسانية والعبودية للّه. وأخرى في مجال الاشباع المتوازن لغريزة التدين. وثالثة بين عزل المسجد عن الحياة وحصرها فيه. ورابعة بين المصلحة الذاتية والمصلحة العامة. وخامسة بين الاتجاه العقلي المحض والاتجاه الحسي المحض. وسادسة بين الغيبية من جهة، ووعي المصالح من جهة أخرى، ولكل من هذه الجوانب حديث مفصل.

الخاتمة:

 

المجتمع الاسلامي بين العلمنة والتطرف

بعد هذه الجولة السريعة في ميادين التوازن، نود أن نقف قليلاً عند الحد الوسط الاسلامي في الفرد والمجتمع.

إن الحد الوسط في الفرد والمجتمع يتلخص في تطبيق التعاليم الاسلامية، والتحلي بمكارم الخصال، والقيام بالمسؤولية الرسالية الشاهدة الملقاة على عاتق الفرد والأمة. فإذا آمن الفرد بأصول العقيدة وأصلها التوحيد. وإذا سار التوحيد في كيانه حتى غمر وجوده ووجه حياته. وإذا فجّر التوحيد عواطفه وصاغها صياغة اسلاميةً تبدأ من حب الذات حباً طبيعياً وتنتهي الى حب الله تعالى والذوبان فيه، وإذا كانت هذه العقيدة والعاطفة روحاً لكل التزام يقوم به بأحكام الشريعة فلا يبصر الا من خلال القرآن، ولا يسمع الا من خلال القرآن، ولا يستهدف الا أهداف القرآن، ولا يستهدي الا هدى القرآن والرسول العظيم(صلى الله عليه وآله) ، ولا يتخلق إلا بأخلاقهما فذلك هو الفرد الوسط الشاهد.

وإذا سرت روح الايمان في المجتمع، واتجهت العواطف وجهة منسجمة فيه مع الايمان، وشكّلا معاً أرضية مناسبة لتطبيق الطروحات الاسلامية في كل مجالات الحياة: الحقوقية، والاجتماعية، والعبادية، والسياسية، والاقتصادية، والأخلاقية، والتربوية، والجزائية، والادارية، وغيرها. وكان معيار السير الحياتي هو رضا اللّه تعالى لا غير، وهو الكفاح المرير ضد الطغيان ومظاهر الطاغوت، سواء على الصعيد الداخلي في قلب الأمة، أو على الصعيدالخارجي في مجال العلاقات الدولية، وانتفت كل المعايير اللاإسلامية من حياة المجتمع من قبيل الامتيازات المادية، والعنصرية، والجغرافية، والقومية، والطبقية، وأمثالها، فان ذلك المجتمع هو المجتمع الرسالي الوسط والشاهد.

وأمام هذه الصورة الوسط المتوازنة حالتان منحرفتان:

الحالة الاولى: العلمنة - إذا صحّت صياغة هذا المصدر - وأقل ما يقال في هذه الحالة هو أن يعود المجتمع غير مكترث بالقوانين الاسلامية، وغير آبه بتطبيقها التطبيق السليم، وأن يعمل النظام الحاكم فيه على استيراد القوانين من الشرق أو الغرب، وترويج أنماط من الحرية الكاذبة التي لا يرضاها الاسلام، وترتفع هذه الدرجة حتى تصل الى مستوى الصراع ضد الاسلام ومظاهره العبادية، والسياسية، والاقتصادية، وغيرها. وهنا تكمن الطامة الكبرى ويكون الكفر بعينه، على رغم بقاء المظهر الاسلامي الاسمي.

والحالة الثانية: أن يتخذ المجتمع سبيل ترجيح أحد طرفي أنماط التوازن التي أشرنا إليها - أو التي لم نوفق للاشارة إليها - ليتم نوع من الإفراط في ذلك.

ولنضرب مثلاً على ذلك.

باتخاذ المرء موقف الثقة بالنفس الى الحد الذي ينسيه التوكل على الله ويوقعه في الغرور القاتل، أو موقف الرجاء الكبير بالله مع نسيان الخوف من عقابه، أو موقف الرهبنة والتركيز على الآخرة، وإهمال الدنيا، مما يقعده عن اتخاذ دوره الحضاري المطلوب، أو موقف البرهنة وطلب الدليل في كل شيء، وإلا ترك الايمان به - وهو موقف خطير يفقد الانسان المسلم أولى خواصه، وهي خاصية التسليم المطلق للّه جل وعلا - وأمثال ذلك.

لا أريد هنا أن أسوغ السلوكات المنحرفة والتصورات التافهة، وإنما أريد أن نمنح كل شيء حقه بقدر، وأن نفسح المجال لاختلاف الرأي، وأن نظلّ نعتقد أن الخلاف الذي نهينا عنه ليس الخلاف الفكري مطلقاً، كيف والقرآن كتاب الفطرة، وكتاب الدليل، والنظر، وهو منسجم مع كل الحالات الطبيعة، ومنها الاختلاف الفكري، وإذا كان قد نهانا عن الخلاف فهو يشير الى التنازع العملي المقيت بلا ريب، ويدعونا للاعتصام بحبل الله جل وعلا.

أعود فأقول: إن الحالتين معاً منحرفتان عن الخط الاسلامي الوسط . وإذا أردنا أن ندين، كان علينا أن ندينهما معاً، ندين حالة العلمنة وكل أولئك الذين يقفون وراءها محتجين بحجج واهية من قبيل: ملاحظة مقتضيات التطور والتعقيد الاجتماعي. ولزوم استخدام الوسائل والنظريات العلمية. وجمود المفاهيم والتعاليم الدينية!! ووجود الأقليات في المجتمع. وتركيز الدين على خصوص الشؤون الفردية. وانعدام النظام السياسي في التشريع الاسلامي. وضرورة الانسجام مع النظام الدولي العام. والانفتاح على الفكر الحديث في مجال الدولة الحديثة. وأمثال هذه الأقاويل التي ناقشها المفكرون الاسلاميون وأثبتوا بطلانها وفساد اللجوء إليها. ثم ندين حالة الافراط، وعدم التوازن، وتجاوز الحد، والتطرف، من جهة أخرى، آخذين على دعاته أنهم لا ينسجمون مع الروح الاسلامية الوسط، وملاحظين أن ادعاءاتهم من قبيل: أن مجال العمل الطبيعي لتطبيق الاسلام معدوم - نظراً للوضع القائم. وأن الأخذ بالشدة ضروري ليتم لنا الحد الوسط. وأن الحدة والرسالية تقتضيان هذه المواقف المتشددة. وأن العدو جارح فيجب الرد بالمثل عليه. وأن القرآن ينهى عن المساومة، فلكم دينكم ولي دين. كل هذه الادعاءات ربما كانت صحيحة في مواردها، إلا أنها لا ترسم لنا خطاً عاماً يدعونا لعدم التزام التوازن الاسلامي المطلوب، ونسيان الخلق الاسلامي الحميد، في الوقت الذي نقسو فيه على أعداء اللّه، ونتبرأ منهم، ونقارع سلطانهم الكافر، ونعمل على اجتثاث بنيانهم من الأساس.

 

الروابط بين وضع الانسان والنعم الالهية والحضارة عموم

لو تتبعنا الآيات القرآنية التي تتحدث عن الجانب الحضاري، ومنه المادي للشعوب، نجدها تركّز على كيفية تعامل الانسان مع الدين ومع الله، أي مع وظيفته تجاهه تعالى، فتجعل نوعية التعامل سبباً للرقي والنصر إن كانت ايجابية، وللانهيار والضياع إن كانت سلبية، وهذا ما تؤكده الآيات القرآنية، منها:

(ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض)(19).

(وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون)(20).

فاذا كان الانسان هو المغيّر أولاً.. واذا كان الذي يقبل التغيير، هو الشكل العام، لا القوانين الواقعية - ومنها الفطرة بمقتضياتها - ثانياً... فان من الطبيعي أن نتوقع للإسلام الخلود لأنّه يعمل على تربية الانسان - إرادة وتعقلاً - في مختلف الحالات. ويعمل على أن يضع له القواعد العامة والمفاهيم المستمدة من تصورات واقعية، كل ذلك في سبيل أن يقوم (الانسان الأعلى فكراً من غيره والمنزه من الانحرافات، ونعني به الامام وفي طوله الحاكم الشرعي المجتهد العادل) بتطبيق تلك القواعد على الجانب المتغير، أو قل: ملاحظة مدى إمكانية الصورة من الحياة الملائمة مع الواقع الثابت، ومدى مساهمتها في تحقيق الأهداف الانسانية العالية، فيقبلها أو يرفضها على ضوء ذلك.

يخاطب نوح(عليه السلام) قومه فيقول: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)(21).

ويخاطب هود(عليه السلام) قومه فيقول: (وياقوم استغفروا ربكم ثم توبوا اليه يرسل السماء عليكم مدراراً ويزدكم قوة الى قوتكم ولا تتولوا مجرمين)(22).

وهكذا تتلازم الزيادة في النعمة الالهية مع الشكر: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)(23).



المظهر الثاني: المرونة الاسلامية

نستهدف في هذا البحث جلاء قابلية الاسلام الخارقة على النفوذ الى الفطرة، وبالتالي قابليته على البقاء والخلود، بقاء الفطرة وخلودها.

ويشمل:

أ - عنصر المرونة الاسلامية في التشريع.

ب - عنصر المرونة الاسلامية في التطبيق والتبليغ.

وقبل كل شيء; نود أن نشير الى حقيقتين:

الاُولى: أن المرونة لا تعني التنازل المبدئي مطلقاً ولا الميوعة التنظيمية، فان كلاً منها يتنافى مع عقائدية المبدأ المرن وواقعيته العملية، ذلك أن العقائدية والواقعية - خصوصاً إذا تصورنا حقيقتهما وانسجامهما الكامل مع حركة الكون والتاريخ والانسان بتركيبته الفطرية الأصيلة - توجبان ثبات الأسس العقائدية والمفاهيم التصورية عن الواقع من جهة، وثبات النظم والبناء العلوي الذي يقوم على أساس من ذلك التصور الرصين، الأمر الذي لا يدع مجالاً لما أسميناه بالتنازل المبدئي أو الميوعة التنظيمية.

فماذا تعني المرونة إذن؟ انها تعني:

أولاً: تكتيكاً وتدرجاً واقعياً يلحظ ضغوط الواقع ولكنه يستهدف تعميق التصور الأصيل ، والوصول الى تطبيق الصورة التنظيمية المثلى.

ثانياً: قدرة النظام على استيعاب التحولات الزمانية والمكانية والتعقيدات الاجتماعية كلها، ووضع العلاج الواقع لها في إطار الاطروحة العامة للتنظيم.

وما أشرنا اليه من قبل هو المعنى الثاني، أما المعنى الأول فهو ما نحن بصدد الحديث عنه.

الثانية: وهي منسجمة مع الحقيقة الأولى وملخصها هو: أنه لا يمكن تصور المرونة في العقيدة، فالمرونة تعني اتخاذ موقف مؤقت بتغير الحالة وذلك للمحافظة على الموقف العام.

والعقيدة - بما هي صفة نفسية - لا تتغير تحت ضغط الواقع، الذي يعلم الإنسان بأنه منحرف. والعقيدة بما هي الأساس والخط العام لا يمكن التنازل عنها، بل يجب أن تبقى الروح التي تميز كل التصرفات، ومن هنا نجد أن القرآن يعرض علينا صوراً لبعض المساومات العقائدية التي حاول فيها الطرف الكافر أن يجبر النبي(صلى الله عليه وآله) على اعتناق بعض مبادئه ولو لبعض الوقت في مقابل مصلحة كبرى للدعوة الاسلامية نفسها، وفي مقابل أن يؤمن الطرف الآخر بالاسلام أيضاً لفترة أخرى، إلا أن الوحي يجابه أولئك بالموقف الحدّي الصارم، الذي لا تنازل عنده باعتبار أن المصلحة لا يمكنها أن تبرر هذا الموقف.

(بسم الله الرحمن الرحيم قل يا أيها الكافرون. لا أعبدُ ما تعبدون. ولا أنتم عابدون ما أعبد. ولا أنا عابد ما عبدتم. ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين)(24).

وقد وقف الاسلام من مسألة الشرك هذا الموقف على طول الخط حتى أنه حرّم تشريعياً صناعة الأشياء المجسمة لأن فيها ظلاً من الفكرة الصنمية...(25)

المظهر الثالث للواقيعة- الاخلاقية: روح النظام الإسلامي

وإطاره العام(26)

 

من مراجعة مجمل الاسس والمظاهر الأخلاقية في الاسلام نستنتج الظواهر التالية:

أولا: إن الأخلاقية تشمل الحياة كلها، والانسان المسلم المثالي هو الأخلاقي المثالي في كل وجوده وسلوكه.

ثانياً: إن الأخلاقية الاسلامية ليست أخلاقية انعزالية عن الحياة والملذات، وإنما هي أخلاقية الانهماك في العمل الاجتماعي بروح زاكية مع امتلاك ملكة "الزهد" والقدرة على التحرر من الأسر المادي الوضيع إذا تطلّب الموقف ذلك.

ثالثاً: إن معاييرنا الأخلاقية مستمدة من عقيدتنا، وحينئذ مهما امتدت هذه المعايير، فلا تتأثر بالأبعاد الجسمية، ولا العرقية، ولا المادية، وما الى ذلك، وهي بالتالي تصلح لأن تكون معايير إنسانية كاملة.

رابعاً: إن الأخلاقية الاسلامية ليست سطحية عارضة،وإنما هي تتعامل مع الفطرة وتستمد منها مسوغاتها وتعمل على تجليتها وإسراء مفعولها إلى ظاهر السلوك.

خامساً: إن أخلاقيتنا ليست منافية للتغير المادي والرفاه البدني ، بل هي متلاحمة معه لصنع أهداف معنوية سامية.

سادساً: إن أخلاقيتنا لا تتعامل مع الخيال المفرط وليست طوبائية النظرة، وإنما هي واقعية قائمة على أساس من علم إلهي بالواقع الانساني والواقع الكوني والعلاقة بينهما، وتقدير دقيق لهدف الخلقة الانسانية. ولذا فهي تتجنب أي تخدير كاذب وتسعى للرقي المعنوي الحقيقي.

سابعاً: إن الأخلاقية الاسلامية لم تطرح أهدافاً ومبادئ عليا تاركة إياها دونما تفصيل لها ولكيفية تحقيقها، وإنما هي إذ تطرح مفهوم العدالة مثلاً تعطي التخطيط الكامل لها وللأساليب العملية التي يتم تحقيقها بها، وعندما تطرح فكرة تزكية النفس تعطي البرنامج العملي الدقيق الذي يحققها لئلا ينحرف السبيل بالانسان عن الهدف الأسمى.

ثامناً: إن أخلاقيتنا ليست أخلاقية مصلحية، أي ترعى مصالح الذات الضيقة، وإنما هي أخلاقية إنسانية ترمق الهدف العام كله وتحاول أن تنسق كل أجزاء المسيرة مع هذا الهدف.

تاسعاً: إن أخلاقيتنا أخلاقية متوازنة، فلا هي بالتي تفني الفرد تحت عجلات المصلحة الاجتماعية العليا، ولا هي بالتي تسمح للفرد أن يسحق المصالح الاجتماعية، وإنما هي تحاول ايجاد توفيق، وربما أوجد تلاحماً بين المصلحتين فلا يحس الفرد العامل لذاته أنه منفصل عن العمل لمجتمعه.

عاشراً: وبالتالي فإن الأخلاقية الاسلامية ليست مقطعية تنطفئ عندما تصل الى حد معين، وإنما هي برنامج تكامل إنساني لا ينقطع لأنه يسير إلى اللّه تعالى، وهو جل وعلا الكمال الذي يتسامى فوق كل عروج.

 
---------------------------

1- هذا البحث اعد لمؤتمر الوحدة الاسلامية الذي عقد في طهران في ربيع الاول عام 1419هـ .

2- مفكر اسلامي، ورئيس رابطة الثقافة والعلاقات الاسلامية بطهران.

3- يوسف / 108 .

4- القمر / 49 .

5- الرحمن / 5 .

6- النحل / 40 .

7- يس / 40 .

8- الاحزاب / 62 .

9- الشمس / 7 - 10 .

10- الحجر / 49 - 50 .

11- يراجع مثلا كتاب "الخصال" للشيخ الصدوق.

12- ابراهيم / 33 - 34 .

13- الحج / 37 .

14- لقمان / 14 .

15- سفينة البحار / مادة الشكر.

16- وسائل الشيعة / ج 1 - 96 .

17- نفس المصدر / ج 11 ، ص 17 .

18- القصص / 77 .

19- الاعراف / 96 .

20- القصص / 59 .

21- نوح / 10 - 12 .

22- هود / 52 .

23- ابراهيم / 7 .

24- الكافرون.

25- ذكر الباحث هنا حديثا تفصيليا عن تطبيقات المرونة في التشريع وفي التطبيق والتبليغ (الدعوة)، أضطررنا فيه الى رعاية الاختصار.

26- اختصرنا الواقعية اختصارا شديداً مراعاة للايجاز.
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية