مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

الشيخ حبيب آل إبراهيم
والوحدة الإسلامية
 استاذ الدكتور محمد طي(1)

 الشيخ حبيب آل ابراهيم ; ولد سنة 1304 هـ في جنوب لبنان وتوفي سنة 1385هـ ، من كبار العلماء المفكرين العاملين والادباء الاسلاميين. تبلغ مؤلفاته العشرين، وأصدر مجلة تحت عنوان: "الاسلام في معارفه وفنونه". وكان من دعاة الالفة والمحبّة بين المسلمين. وهذا البحث يتناول بعض جوانب الفكر التقريبي والتوحيدي لدى الشيخ حبيب. ويركز على أنه كان مُلِمّا بمشاكل المسلمين ومهتما بوحدتهم ومتفهما للفرق بين التقريب والتذويب. لقد أتى التوحيد إلى أذهان الناس أن اللّه هو الإله الأوحد، وأنه هوالرب الأعلى، فهو من جهة خالق الكون بما فيه الإنسان، وهو من جهة أخرى مدبره ورازق الإنسان والحيوان فيه. بينما اعتبرت الأنظمة الاستبدادية القديمة أن أسيادها آلهة، أو على الأقل آلهة صغيرة، أو وكلاء عن الآلهة، وهذا نلمسه في النظام المصري القديم، حيث كان الفراعنة يعتبرون أبناء الآلهة القدماء الذين يدعون أنهم سادوا مصر قديم(2).
كما نلمسه في بلاد الرافدين حيث كان الملك "يمثل اللّه في المدينة"(3). وفي بلاد الصين حيث كان الامبراطور يحكم وفقاً لما يسمونه "الحق الإلهي"(4).
وقد ناقشت التوراة ثم القرآن هذه المعتقدات، وفنّداها على أوسع نطاق، ورفضاها ونزعاها من أذهان المؤمنين.
وقد زال الأساس الروحي للمعتقدات المذكورة، فزالت صفة الألوهية عن رؤوس الأنظمة، ولكن ربوبيتها لم تزل. فالربوبية بما هي تدبير للخلق وعلى رأسه الإنسان، نظمها اللّه تعالى بحيث لم يبق من الأمور العامة التي تهم الإنسان، ولا حتى الخاصة، إلا نظمت إيجابياً أو سلباً. فما نص عليه فرض بموجب النص وما لم ينص عليه أولم يندرج تحت منصوص عليه فهو مباح على أساس مبدأ: (لا يكلف اللّه نفساً إلا ما آتاها)(5).
وأهم ما نهى عنه الإسلام الظلم، وأهم ما حض عليه العدل، وهما الوجهان لموجب واحد. الظلم حسب المفهوم القرآني، صنفان: ظلم للنفس، وظلم للغير. وظلم النفس أن يخالف الإنسان التعاليم الإلهية، أما ظلم الغير فهو أن يتجاوز الإنسان حدود اللّه في معاملة الآخرين. وهذا الظلم الأخير يزداد خطره كلما ارتفعت رتبة الشخص الذي يمارسه، فإذا وصل إلى سدة السلطة كان ظلمه أفظع أنواع الظلم البشري.
والحاكم الظالم هو الذي يمارس سلطة ليست من حقه، بل هي من حق اللّه وصلاحيته(6)، فيتسلط على الرقاب والأرواح والأموال، فيستعبد الناس عندما يلزمه ذلك، ويدفع بهم إلى السخرة لبناء المعابد والقصور كأهرام مصر وقلعة بعلبك، فيموتوا بعشرات بل بمئات الآلاف، وهو يقتل من يشاء ممن يعتبر فيهم تهديداً لملكه أو رفضاً لأساليبه، وربما لأسباب أتفه من هذه بكثير إلى جانب زج الناس في الحروب، كما أنه يصادر الأموال كلما احتاج إليها.
ولقد نهى الإسلام عن ذلك فمنع استعباد الناس إلا الذين يقاتلون اللّه ورسوله، مع الحض على العتق على نطاق واسع، كما منع قتل الأشخاص أو إيذائهم إلا حدوداً في حالات محدودة كقتل النفس، أو الفساد في الأرض(7)، أو الزنا أو السرقة، وما إلى ذلك، ومنع مصادرة الأرزاق حاصراً حق المجتمع في المال بحصة نادراً ما تتجاوز العشرين بالمائة من الأرباح.
أما ما يسمى اليوم بالحريات العامة وحقوق الإنسان، فقد تجاوزها الإسلام، فهو لم يكتف بإباحة بعض الأمور للإنسان، بل أباح له كل مالم يرد فيه نص - كما أشرنا - وكرّمه. وهذا أمر يرتقي به إلى خلافة اللّه في الأرض وتسخير المخلوقات له، وهكذا تأتي الحريات العامة أو حقوق الإنسان التي ينادي بها اليوم متضمنة محصلة بسيطة للمكاسب التي منّ بها الإسلام على الناس.
فالحرية السياسية المتمثلة بالشورى والاختيار والمعارضة كانت مضمونة، فهاهم المسلمون يختارون علياً(عليه السلام) فلا يجبر الإمام من لم يبايع على البيعة، وهاهم الخوارج يتركون الجيش ويتجمعون، فيكتفي بنقاشهم دون أن يعمد إلى قطع عطائهم، فهل تبلغ الحرية السياسية اليوم هذا المستوى، مستوى مناقشة شريحة من المقاتلين لإقناعها؟ إن أقلّ ما يُتخذ ضدها اليوم الاعتقال الإداري وإنزال أقصى العقوبات برؤوسها المدبرة والمحرضة.
والحريات البدنية المتمثلة بمنع التعذيب وما إليه مضمونة، فالإقرار لا يؤخذ به في حالات كهذه، والسجن لا يستمر على ذمة التحقيق إلى فترة لا تتجاوز الستة أيام حتى في جرائم القتل.
أما حق الملكية فهو أيضاً مقدس، وقد تمسك به الإمام علي(عليه السلام) حتى في الحالات الاستثنائية، وها هو يوصي "ابن قدامة السعدي" بأن لا يسخّر حماراً ولا بعيراً ولو ترجل وحبس، وأن لا يستأثر بماء قوم دون رضاهم، وذلك حين أرسله على رأس قوة لمطاردة "بسر بن أرطأة" الذي ضمّخ أرض الحجاز واليمن بالدماء.
وحرية العمل مصونة وكذلك الحقوق الاجتماعية، وسائر أنواع الضمانات، كانت تتجاوز ماهو قائم اليوم في أهم دول العالم. أما لماذا لم يطبق هذا النظام، فإن الجواب هو أن الواقع الاجتماعي لم يسمح به، بل إن هذا الواقع سار في طريق من التداعيات وصلت إلى ما نحن عليه اليوم.
إذاً هل كان النظام الإسلامي سراباً؟ أم نظاماً ملائكياً لا يمكن للبشر أن يطبقوه؟ الجواب، إن البشر كان بالإمكان أن يطبقوه، ولكن على أساس توفر شروط معينة. فما هي هذه الشروط؟
تتلخص الشروط بوجود جماعة رسالية متساوية تتجاوز التاريخ والاجتماع بمشكلاتها ومعوقاتها، فلا تخضع لدواعي المصلحة ولا للنزوات والشهوات. وهذه الجماعة عمل الرسول(صلى الله عليه وآله) على تكوينها، ولكنها بعد الرسول(صلى الله عليه وآله) دبت فيها العوامل المادية والقبلية وسائر النزعات الجاهلية، وهي كانت لا تزال بعد طرية العود فامتلكت العقار وفجرت الأنهار على أساس اقطاع لم تراع فيه مبادئ الإسلام، ولعبت برأسها شهوة السلطة بعدما رأتها تتداول بين أيدي أقرانها.
ورغم المحاولات التي جرت لردها إلى الطريق السوي في عهد الإمام(عليه السلام) إلا أن قصر حكم الإمام، ومن ثم اغتياله أوقف تلك المحاولات، وفتح الباب على مصراعيه لكل النزعات الجاهلية لتعود، وإذا بحكم العدل يعود إلى النمط الاستبدادي، والذي سمي، للأسف بنظام "الاستبداد الشرقي"، الذي يستبيح فيه الحاكم إزهاق الأرواح، والتحكم في الرقاب، والاستئثار بالأموال العامة والخاصة، كما في عصر تأليه الحكام.
وفي ظل هذه الظروف نشأت التيارات الفكرية مستوحية بعضها من سيرة الحاكمين، وبعضها من المبادئ الإسلامية، ودب الخلاف فوصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم من الأوضاع المتردية التي دفعت بالأمة إلى حياة الذل، وقدمتها لقمة سائغة لأعداء يفتتونها وينهبون خيراتها، ويتحكمون بمصائرها. فماذا كان الموقف؟
بعض تلهى باثارة الفتن بين المسلمين، وبعض هذا البعض كفّرهم واستباح دماء رجالهم، وسبى ذراريهم ونساءهم(8). والبعض راح يقاوم بما أوتي، ومنهم من ابتعد عن الأصالة والارتباط بالتاريخ وبالمبادئ الأساسية; لكن البعض، وهو قليل، راح ينادي بوحدة المسلمين وبالعودة إلى الأصول، ومن هذا البعض المقدس الشيخ حبيب آل إبراهيم الذي نتحدث عنه.
لقد اقتنع الشيخ (قده) بأن إعادة إحياء النظام الإسلامي، حسب الصيغة الصحيحة، هي الحل لمشكلاتنا، وأن بداية هذه الإعادة تكمن في توحيد صفوف المسلمين على مبادئ الإسلام. فلقد رأى الشيخ (قده) حالة المسلمين، وشخّص ما يعانون منه، ورده إلى أسبابه، ثم ركّز على ما يوحّد المسلمين، واقترح الوسائل العملية لذلك.
تشخيص الشيخ لحالة المسلمين
يرى الشيخ حبيب (قده): "أن المسلمين على كثرتهم لا يزالون مذقة الشارب، ونهزة الطامع، وقبسة العجلان.. أجسامهم متجاورة، وقلوبهم متنافرة، يحطم بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم رقاب بعض بلا سبب وعلى غير ذنب.. (الأمر الذي جرّ) إلى الويلات من تطاعن وتطاحن، إلى جهل وحرمان"(9).
ولما كانوا على هذه الحال فقد تسلطت عليهم الدول الكبرى، وإذا بهم "يُستَعبدون ويُستَعمرون"(10)، وإذا بها تخطب ود هذا القطر ضد ذاك. يقول: "تخطب ود دويلات صغرى لتعتضد بها"(11). وهذه الدول الصغرى من دول المسلمين على ما يقصد الشيخ حبيب.
إذاً أدرك الشيخ أن الاستعمار ليس وحده المسؤول عما حل بنا، ذلك أن الاستعمار هذه طبيعته، وإذا لم يتصرف على هذا النحو فهو متنكر لتلك الطبيعة. ومن هنا نكون نحن المسؤولين أولاً، وعلينا يقع واجب البحث عن الخلاص.
ولعل الشيخ في هذا يتجاوز أولئك الذين يتجاهلون تقصير المسلمين وتفريطهم، بـإلقاء التبعة على الاستعمار، دونهم، تمهيداً للتملص من مراجعة المواقف، بل والأفكار، انسياقاً مع الهوى والتقليد. وهذا ما سوف يدفع الشيخ(رحمه الله)إلى التصدي لعلاج الحال بعد نقد ذاتي جريء سنوضحه بعد قليل.


أسباب وصول المسلمين إلى هذه الحال
يرى الشيخ حبيب أن السبب الأول في تمزق المسلمين وتناحرهم يعود إلى المواقف السياسية، لا إلى العقيدة الدينية، ويقول: "... وهل أوتي المسلمون إلا من قبل الخلاف والتنازع السياسي المبني على القول بأن هذا سني وهذا شيعي"(12). ثم يفصّل القول مخاطباً المسلمين: "فيا أيها المسلمون إن السياسة هي التي فرقتكم، وهي التي أورت نار الخلاف وأسعرتها بينكم، وهي التي حملتكم على ضرب بعضكم رقاب بعض"(13).
أما الدين فهو الموحّد إذ يقول الشيخ(رحمه الله): "الدين بريء من ذلك، الدين يرى أن المسلم أخو المسلم لأمه وأبيه، لا يغشه ولا يخذله ولا يسلمه، ولكن السياسة هي التي جعلتكم بعضكم لبعض أعداء، إن السياسة هي التي جعلت بينكم وبين الحقيقة سداً، وجعلت عن الوصول إليها حاجباً"(14).
أما السبب في ذلك فهو: "أن الرجل السياسي يريد إبقاء جماعته المتزعم عليهم على ماهم عليه من الغفلة وعدم المعرفة لتبقى له زعامته"(15).
وهنا لابد من التوقف لطرح سؤال أصبح تقليدياً، ومؤداه، هل أن السياسة مرفوضة في الإسلام، وهل هي مجافية للدين؟ وفي هذه الحالة ألم يكن الرسول(صلى الله عليه وآله) والإمام علي(عليه السلام) يمارسان السياسة؟! والجواب أن السياسة جزء من الإسلام، فهل كان الشيخ يجهل ذلك؟
إننا نعتقد أنه (قده) كان قصد ذلك الصنف من السياسة الذي مورس لضرب المسلمين، عن طريق شحن النفوس بالجهالات والترهات والأباطيل لكسب الأنصار، ولعلنا نلمح ذلك في استطراد للشيخ حيث يقول: "إن الرجل السياسي يريد إبقاء جماعته المتزعم عليهم على ماهم عليه من الغفلة وعدم المعرفة لتبقى له زعامته". فالسياسة إذا ممارسة شخص للتجهيل بقصد الإبقاء على مؤيديه. وهذه السياسة التي تنتهج للحفاظ على السلطان كانت بعيدة عن الدين، وهذا ما يوضحه الشيخ في معرض حثه على الوحدة، حيث يقول: "فلقد ذهب من المسلمين ما كانوا يختلفون عليه من ملك، وزال عنهم ما كانوا يتنازعون لأجله من سلطان، فكن على يقين بأن ذلك التعبير والتعييب في مسائل الدين لم يكن الغرض منهما أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر كما ربما يتوهم"(16).
ولكن الشيخ هنا لا يبقى في العموميات، بل هو يخصص، فيحدد من هم الذين كانوا يتعرضون للتعييب والتعيير، فإذا هم أنصار أهل البيت(عليهم السلام) إذ يقول: "إنما هي أمور كان يدسها من يريد استثمار الخلاف فيما بينهم، ويتخذها آلة وسلاحاً من يريد أن يصول على الشيعة منهم، ذلك لأن الشيعة يعتقدون أن الخلافة في آل محمد(عليهم السلام)، الأمر الذي يرى ذوو السلطة منهم أن سلطانهم مهدد بهذا الرأي"(17). أما سبب الميل عن أهل البيت، وهم أصحاب الوراثة والوصية(18)- على مايقول علي بن أبي طالب(عليه السلام) - فيحدده الشيخ (عليهم السلام) بقوله: "من أسباب وجوب الطاعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب والأئمة من ولده(عليهما السلام). فقال بعضهم بوجوبها، وقال آخرون بعدمه، ومنشأ ذلك الميل للغرض وترجيح جانب المصلحة، وإلا فإن الأدلة على وجوب الطاعة لأهل البيت علي والأئمة المعصومين من ولده(عليهم السلام) ثابتة عند الشيعة والسنة من الكتاب والحديث، ولكن الغرضَ حَمَلَهم على إنكارها مرة والتمحل بتأويله تارة أخرى"(19).
وقد بلغ الأمر هنا حد الإسفاف كاتهام الشيعة بأن لهم "عصعصاً" - أي ذنباً- (20)، وبأن قرص التراب الذي يصلي عليه أفراد الشيعة ممزوجة بدم سيدنا الحسين(عليه السلام)، وصار إذا أريد ذكر الشيعي قيل فيه رافضي خبيث.
ومن هنا تمسي الخطوة الثانية بعد تحرير العقول بفتح باب الاجتهاد والعودة إلى النقاش والحوار كما كان عليه الأمر أيام الخلفاء الأول، حيث كانت تدور المساجلات دون أن تؤثر على تقييم الإنسان أو تكون سبباً للطعن في كفايته. يقول الشيخ حبيب(قده): "فلقد كان الاختلاف في الأحكام والتنازع في الآراء بين الشيعة وغيرهم في صدر الإسلام، فلم يكن يتجاوز اللسان، كما ربما يكون بين عالمين يتناظران في مسألة ويطول بينهما الجدال ثم يستقر رأي كل واحد منهما فيها على حكم، ولقد كان أمير المؤمنين علي(عليه السلام) وشيعته على رأيهم في الامامة والخلافة، وكان غيرهم على خلافهم فيها، فلم يخرج احد الفريقين على الآخر ولا ثارت بينهما حرب، ولا وقع في ذلك منهما قتال، بل كانت الشيعة تستعمل الوظائف كغيرهم، والدولة والسلطان بيد سواهم. فلقد استعمل عمر ابن الخطاب عمار بن ياسر والياً على الكوفة، وكتب في حقه أنه من النجباء من أصحاب محمد(صلى الله عليه وآله)، واستعمل سلمان الفارسي والياً على المدائن، وكلاهما من مشاهير الشيعة، فاتضح أن ليس سبب العداوة والبغضاء الاختلاف في الحكم والرأي"(21).
سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية
يرى الشيخ حبيب أن الوحدة الإسلامية مسألة قابلة للتحقيق، لكن أول ما تقتضيه فتح باب الاجتهاد عند فريق من المسلمين بعد أن أقفل لعدة قرون، وقد ترتب على ذلك مآس كبيرة لم يعد من الجائز أن تستمر وقد لخص الشيخ هذه المآسي فرأى أنه: "نتج عن سد باب الاجتهاد ثلاثة أمور: انطفاء نور الشريعة، وتأييد المقلد بشتى الأساليب مما أدى إلى التفسيق والتكفير والقتل، والثالث الرجوع إلى فقه الغير بحكم الحاجة إليه نظراً للجمود الذي عرا الفقه الإسلامي والتحجر الذي أصاب أهله حتى أدى الأمر إلى ما ترون، وحتى أصبح المسلمون وهم أهل دين الله يرضخون ويخضعون ويحكمون بغير أحكام اللّه مستعبدين ومستعمرين"(22).
فإذا فتح باب الاجتهاد أمكن دراسة العقائد والأحكام ومقارنتها وفحص مدى توافقها مع مصادر الشرع الأساسية، بل أمكن فحص مصادر الشرع الثانوية نفسها. وقد قام الشيخ بهذا المجهود بشكل رائع، محدداً نقاط الالتقاء ونقاط الخلاف وخالصاً إلى طريقة التغلب على نقاط الخلاف، وكل ذلك بعد نقل الأمر إلى الساحة الفكرية ومغادرة ساحات القتال والصراع تلك الساحات التي نقل الخلاف إليها أرباب الحكم والسلطان ليحفظوا سلطتهم على حساب المسلمين. يقول الشيخ حبيب (قده) موضحاً ذلك: "وإنما سبب العداوة والبغضاء وشق العصا بين المسلمين تفريق جماعتهم من ثار على إمامه فحاربه (من معاوية إلى بني العباس) فاستعملوا الدين آلة لهم وسلاحاً، فنسب إلى الشيعة كل قبيح، ورموا بكل بائقة، ليس لهم ذنب إلا قولهم بإمامة آل محمد والتزامهم بمودتهم المفترضة في القرآن، ثم استهووا كثيراً من مشايخ السواد، علماء الدنيا فخطبوا على المنابر بسبهم والوقيعة فيهم وإسناد القبائح إليهم"(23).
نقاط الالتقاء ونقاط الخلاف
يلتقي المسلمون جميعاً في أغلب الأمور المتعلقة بأصول الدين، وكذلك بمصادر التشريع، وكذلك في معظم الأمور الفقهية، ولا يختلفون إلا في بعض الأمور المتعلقة بكل هذه الحقول، والخلاف هذا لا يقوم بين السنة عامة والشيعة، بل وبين كل مذهب من مذاهب السنة والمذهب الآخر، حتى لتجد في الكثير من الأمور أن هذا المذهب السني أقرب إلى الشيعة منه إلى المذهب الآخر، وهذا ما يوضحه الشيخ (رحمه الله).
أصول الدين
يرى الشيخ أن السنة والشيعة على اتفاق في التوحيد والنبوة والمعاد، الأصول الثلاثة التي يبتني عليها الإسلام(24)، فلا يبقى من "فرق بين السنة والشيعة إلا في القول بالإمامة، والاعتقاد بوجوب اتباع أئمة أهل البيت الأطهار من آل محمد والتصديق بإمامتهم عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله)، بلا توسط أحد من أصحابه، والخلاف بالقول بالعدل الذي هو أحد الأصول الخمسة عند الشيعة"(25).
وهكذا إذاً، هناك اتفاق في الأصول الثلاثة الأساسية، وخلاف على أصلين تابعين، فالإمامة تابعة للنبوة، والعدل تابع للتوحيد. على أن مسألة العدل ليست حكراً على الشيعة بل هي أصل عند بعض الفرق الكلامية السنية كالمعتزلة. وهذا ما يؤكده الشيخ بقوله: "فاتضح من هذا أن أصول الدين عند الشيعة خمسة: التوحيد والنبوة والإمامة والعدل والمعاد، وعند الأشاعرة ثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد، وعند المعتزلة أربعة: التوحيد والنبوة والعدل والمعاد"(26).
وهكذا يثبت الشيخ، وإن لم يصرح به تماماً، أن مسألة أصول الدين هي مسألة قابلة للنقاش، فلا يجوز أن تعتبر معياراً للتكفير ولا للتبديع أو التفسيق، ما دام أن الأخوة السنة يتخذون حيالها أكثر من موقف.
ثم يتصدى الشيخ إلى المسألة الحسية الخلافية بين المسلمين، فيرى إمكانية قبول الشيعة بصحة خلافة الخلفاء الأربعة كقيمين على مصالح الأمة، كما يرى إمكانية قبول السنة بـإمامة الأئمة الاثنى عشر، فالشيعة "لا حرج عليهم باعتقاد صحة خلافة الخلفاء الراشدين في القيام بمصالح الأمة الزمنية بامكان رضا اللّه والإمام المنصوب من قبل اللّه ورسوله"(27).
وفعلاً فقد سكت الإمام علي(عليه السلام) في حكومة أبي بكر بعد رفض البيعة أولاً، حتى قامت حروب القبائل، كما سكت في خلافة عمر، ولدى مبايعة عثمان قال(عليه السلام): "الأسلمن ما سلمت أمور المسلمين"(28).
أما السنة فإن ملاكها الخالص عن الزوائد التعصبية إنما هو صحة الخلافة الملية، لا إنكار الإمامة السماوية المنصوصة، ولا الاعراض عن علوم أهل بيت الرسالة ورواياتهم وفتاواهم(29).
في مصادر التشريع وفي الفقه
يقول المقدس الشيخ حبيب آل إبراهيم إن المسلمين متفقون على اعتبار "القرآن والحديث والاجماع والعقل الأصول الأربعة التي يبني عليها الاستدلال والاستنباط في فقه الإسلام"(30).
كما يرى أن المسلمين متفقون في مسائل "وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، والفروع الخمسة التي هي أركان الإسلام"(31). كما يثبت اتفاق هذا المذهب السني أو ذاك مع الشيعة في هذا الحكم أو ذاك أكثر من اتفاقه مع المذاهب السنية الأخرى(32).
ويستنتج الشيخ المهاجر العاملي أن "الاختلاف في سائر الفروع ليس هو خلاف فارق يستدعي امتياز القائل به عن المخالف، وذلك أنه موجود في السنة أنفسهم وبين الشيعة أيضاً، ولو كان ذلك يدعو إلى الفرقة ويستدعي التمييز لكانت السنة من جراء ذلك على فرق كثيرة والشيعة مثلها"(33).
أما الحل فيراه الشيخ بأن يتجمع علماء المسلمين على الأخذ بما عليه الاجماع لاسيما في المسائل الفقهية، فيكون ذلك أحوط، ويضرب مثالاً في الخلاف على تحديد الغروب حيث يرى السنة أنه يتم عند اختفاء قرص الشمس، فيما الشيعة يرونه يتم عند اختفاء الحمرة المشرقية، فيكون الأحوط عند جميع المسلمين تأخيره بضع دقائق احتياطاً (34).
الطرق العلمية والعملية للتقريب بين المسلمين على طريق الوحدة
يقترح الشيخ حبيب طرقاً حسية لإجراء التوحيد والتقريب تقوم على اعادة النظر في استنباط الأحكام الفقهية على أيدي علماء متجردين متحلين بالجرأة العلمية، ثم على محاولة حمل المسلمين على تقبل ما يقدمه العلم من نتائج. وفي هذا يقول الشيخ في كتاب أرسله إلى جمعية التقريب في شهر رمضان سنة 1366هـ / 27 تموز 1947م: "لا بد من المبادرة والنهوض للأمر من ناحيتي العلم والعمل. أما من ناحية العلم فبأن تؤسس دراسات للفقه الإسلامي بصورة واسعة غير مختصة بالفقه الحنفي والشافعي أو غيرهما، بل يبسط الموضوع ويبتغي له دليل من الكتاب والسنة والاجماع والعقل (الأصول الأربعة) المعول عليها عند عموم المسلمين، ويطلب لهذا الأمر مدرسون لهم مقدرتهم واجتهادهم، ليتسنى لنا أن نخرّج علماء حائزين على درجتي الاجتهاد والتقوى يطمأن إليهم في رجوع المسلمين لهم، والأخذ بالفتوى والحكم عنهم، كما كان المسلمون في الصدر الأول.
وأما من ناحية العمل، فإن هناك مسائل كثيرة يختلف فيها السنة والشيعة مثلاً، ولابد من ترويض المسلمين وحملهم على ما يوجبه العلم بصورة لا تحيز فيها، بل يكون الحق والعدل هو المحور الذي يجب الخضوع والانقياد والاستسلام له"(35).
وحدة لا التحاق
على أن موقف الشيخ حبيب (قده) لم يكن مفرّطاً في العقيدة ولا في مصلحة الشيعة، بل كان يرى النقاش والحوار لبلورة الأفضل على أن يقتنع الجميع بالحق لأن الحق أحق أن يتبع. وقد ألّف الكثير في مجال الخلاف وإيضاحه ورده إلى حدوده. وقد كان كتاب "الحقائق" من أهم الكتب في هذا المجال. وهو يقول شارحاً ضرورة مثل هذا الكتاب: "إن فيه تخفيفاً للاختلاف بين طائفتي الشيعة والسنة، وذلك لأني رأيت أن أكثره يستند إلى دساس التشنيع والتعييب من بعضهم على بعض في كثير من المسائل، بعضه افتراء وكذب وبعضه حق أبرز بصورة باطل لتمكين التفرقة وتوطيد دعائم الاختلاف، فإذا كشفنا الحجاب عن الكذب، وميزنا بين الباطل والحق نكون قد توفقنا لهدم ركن من أركان الاختلاف"(36).
وقد دفعه إلى طرح وجهة نظره بقوة والدفاع عنها، ولكن دون تعصب - كما رأينا في الصفحات السابقة - ، ولما كان الشيعة هم الأكثر تعرضاً للاضطهاد عبر التاريخ لمعاداتهم الحكام، فكان الشيخ المنافح عنهم في ماضيهم وحاضرهم، في عقيدتهم وفي الممارسات العدوانية ضدهم.
فبالنسبة للعقيدة يقول: "وبلغ الحال بالشيعة أن أحدهم يرضى أن يقال له يهودي ولا يقال له شيعي، وأنت إذا أنصفت وجدت الشيعة أفضل المسلمين التزاماً بكتاب اللّه وأعملهم بسنة رسوله(صلى الله عليه وآله)"(37) ولكن هذا لا يدفع الشيخ إلى الدفاع عن الأفكار الزائفة التي تسربت إلى بعض الشيعة نتيجة ابتعادهم عن علمائهم بعامل الاضطهاد، بل هو يقول بعد كلامه السابق ذكره: "... اللهم إلا قسم من الشيعة أثر فيهم الاضطهاد أثراً كبيراً، فحيل بينهم وبين معارفهم وآدابهم، فأصبحوا لا يظهر عليهم من فضائل الشيعة إلا الاسم.."(38).
وحين يتعرّض الشيعة أو التشيّع للسب والطعن يتصدى للاجابة والردّ ملتزما بآداب الاسلام ويتوجه إلى العقلاء دون الجهّال فيقول: "وجواب منا لا يكون لأمثال هؤلاء، بل نمر بمثل هذا كراماً ونقول سلام(39)، ثم نتقدم لعقلاء العلماء من إخواننا السنة ليجيبوهم، فإن فعلوا - وهو المظنون منهم - فقد برهنوا عن حسن نية، ودللوا على قصد ما يظهرون من توحيد الكلمة، وائتلاف الأفئدة. وإلا فإن أدبنا هو ما أدّبنا به اللّه. وتعليمنا هو ما علمنا: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)(40)، أو كما قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): "عاتب أخاك بالاحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه"(41). أو كما قال الحسن المثنى لشامي يسبه: "هل لك أن تميل علينا فإن كنت طريداً آويناك، وإن كنت مظلوماً نصرناك، وإن كنت فقيراً واسيناك"(42).
الخلاصة
على هذه الأسس يقترح المهاجر العاملي المقدس الشيخ حبيب آل إبراهيم أن تقوم الوحدة الإسلامية والتقريب بين المذاهب الاسلامية، والتأليف بين قلوب المسلمين وجمع كلمتهم على الحق هي غاية كل مصلح ومنية كل غيور وبغية كل عالم حكيم(43). لذلك فهو يناشد الطليعة الإسلامية مهدياً إليها كتابه "الحقائق" بقوله: "إلى ذوي الشعور الحي، إلى أهل الأفكار الحرة، إلى أصحاب العقول الراجحة، إلى ذوي الألباب، إلى الذين يهمهم جمع كلمة المسلمين، ولمّ شعثهم، إلى الذين يرون الحق أحق أن يتبع، إلى أمثال هؤلاء من رجال المسلمين وشبابهم المثقف أهدي كتابي، وأقدم سطوري، فإن وجد عليه إقبال وبه عمل فذلك ما أظن، وهو الذي أرجو وأرغب، وإلا فقد أديت ما علي"(44).
وهكذا فهو يريد وجه اللّه بالقيام بتكليفه الشرعي، فإن قبل الكتاب، يقول الشيخ: "فنكون قد توفقنا لخدمة العاملين من أهل الضمائر المستقيمة، والنوايا الحسنة، والإيمان الصحيح"(45).
وهو بعد كل هذا مستعد للقيام بالخطوات العملية إذ يؤكد: "أقول ذلك ماداً يدي للاجتماع على معاضدة الحق، باسطاً يدي للمعاهدة والمعاقدة على نصرة الهدى، ومؤازرة أهله أينما كانوا"(46).
وتحقيقاً للخطوة الأولى فقد جمع الشيخ الناس من مختلف الطوائف الإسلامية في رأس العين، وخطب فيهم مؤكداً ضرورة الوحدة الإسلامية، وذلك في التاسع من شهر رمضان سنة 1366هـ ، الموافق للسابع والعشرين من شهر تموز لسنة 1947م(47).
وإذا كان الناس في مشاريع كهذه غالباً ما يختلفون على الصدارة، فإن الشيخ المقدس يريد فقط رضا اللّه، ويحث الآخرين على التقدم والقيادة، فيقول: "لقد كنا نتطلع إلى مصر للقيام بمثل هذا الاصلاح العظيم، ومن أولى به منها وقد أصبحت قبلة آمال المسلمين ومهوى أفئدتهم"(48).
رحم اللّه الشيخ حبيب وأعلى درجاته لما بذله من تضحيات، ولما تحلى به من نكران ذات نصرة للإسلام الذي وإن لم يخض كثيراً في مجالات فكره السياسية، فإنه جاهد بقلمه لنشر فلسفته في جانبها الكلامي، وهو ما أرساه الإمام علي(عليه السلام) بأقواله وأفعاله، مقتفياً أثر الرسول(صلى الله عليه وآله)، موضحاً ومفصلاً، وإذا نظامه يفوق، بما لا يقاس، أفضل أنظمة العصر الحاضر، بل وكل عصر. وإذا كان مترفو المسلمين لم يتيحوا لهذا النظام أن يقوم، لاسيما بعد استشهاد الإمام علي(عليه السلام)، فقد أتي المسلمون من قبل أنفسهم، وعليهم أن يتحملوا مسؤولياتهم فيستجيبوا بذلك لنداء الشيخ ويستعيدوا عزتهم وكرامتهم. 
----------------------

1- باحث لبناني.
2- Histoire General Des Religion Aristiole . Paris 1948 T.L.P 245
3- المرجع نفسه ص 401.
4- ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران، مجلد 4، ص 280و 281 .
5- الطلاق / 7 .
6- لقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ) آل عمران/ 26.
7- يقول تعالى: ( من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) المائدة / 32 .
8- كتاب "الإسلام في معارفه وفنونه" ، مطبعة العرفان، صيدا 1948، م 1، ج 2 ص 70.
9- كتاب "الاسلام في معارفه وفنونه".
10- المرجع نفسه.
11- المرجع المذكور، م 5 ج 3، ص 340 .
12- كتاب "الاسلام في معارفه وفنونه".
13- المرجع نفسه.
14- المرجع نفسه.
15- المرجع نفسه.
16- المهاجر العاملي الشيخ حبيب آل إبراهيم، "الحقائق" ج 1، ص 12 .
17- المرجع نفسه.
18- المرجع نفسه.
19- المرجع نفسه، ص 19 .
20- المرجع نفسه، ج 1، ص 15 ، و 16 .
21- مجلد "الإسلام" م 5، ج 3، ص 387 .
22- الحقائق، مذكور أعلاه.
23- مجلد "الإسلام" م 5، ج 3، ص 387.
24- مجلد "الإسلام" م 1، ج 2، ص 117 .
25- الحقائق، ج 1، ص 15 و 16 .
26- مجلد "الإسلام" ، م 5 ج 3، ص 392.
27- المرجع نفسه.
28- المرجع نفسه.
29- المرجع نفسه، ص 138 .
30- راجع نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد.
31- مجلد "الإسلام" م 5 ج 3، ص 138.
32- المرجع نفسه.
33- المرجع نفسه.
34- راجع كتاب الحقائق، مذكور أعلاه.
35- الحقائق، ج 1، ص 11.
36- الحقائق، ص 16 .
37- المرجع نفسه.
38- الرسالة موجودة في المحفوظات الخاصة مع جوابها، ولكنه مبتور.
39- المرجع نفسه.
40- مجلد "الإسلام.." م 5، ج 3، ص 389.
41- المرجع نفسه، ص 135 .
42- المرجع نفسه، ص 135 .
43- الحقائق، مذكور أعلاه، ج 1، ص 2 .
44- الحقائق، ج 1 ، ص 12 .
45- المرجع نفسه، ص 14 .
46- المرجع نفسه.
47- مجلد "الإسلام.." المذكور أعلاه، م 1، ج 2، ص 159 .
48- المرجع نفسه، ص 70 .

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية