مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

دراسات قرآنية القصص القرآني
القسم الرابع
السيد محمد باقر الحكيم



على الساحة القرآنية الرحبة تلتقي كل الأفكار والآراء والمشاعر الخالصة لربها والمخلصة لدينها ورسالتها.. وما أجدر برسالة التقريب وهي تركز على مساحات الالتقاء أن تقف طويلا عند مائدة القرآن الكريم لتقدم الزاد الذي لا يختلف فيه جميع أبناء المذاهب الإسلاميّة.
الاهتمام بالدراسات القرآنية يجمع العقول والقلوب ويشدها نحو هدف واحد سام رفيع يسمو على الصغائر والاختلافات الجانبية.. خاصة إذا كانت هذه الدراسات تنطلق من فهم معمق منفتح لأهداف رسالة القرآن في مجالاتها البناءة المعطاءة. وهذا البحث الذي نقدم حلقته الرابعة في هذا العدد نموذج لهذه الدراسات الهامة. في الحلقة الأولى والثانية تحدث الباحث عن الفرق بين القصص القرآني وغيره وعن أغراض القصص في القرآن الكريم وفي الحلقة الثالثة وهذه الحلقة يطبق الأفكار والمعلومات السابقة على مفردات القصة القرآنية، طبقها من قبل على ثمانية مواضع وهذه بقية التطبيقات.
الموضع التاسع:
الآيات التي جاءت في سورة الكهف والتي تبدأ بقوله تعالى ((وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتّى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا(((1).
والتي تختم بقولـه تعالى ((وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبرا))(2).
ويبدو أن هذا المقطع في هذا الموضوع من القرآن الكريم منفصل عن بقية قصة موسى المذكورة في المواضع الأخرى المختلفة من القرآن الكريم، لأن القرآن هنا يتحدث عن جانب آخر من شخصية هذا الإنسان تختلف عن الجوانب الأخرى التي تصورها القصة في المواضع الأخرى، والتي تظهر فيها شخصية موسى في صورة النبي صاحب الرسالة والدعوة الذي يجاهد من أجل التوحيد وإقامة العدل الإلهي والدفاع عن المستضعفين. أما هنا فيبدو موسى فيها على صورة الإنسان الذي يسير في طريق التعلم والمعرفة والحريص على تفسير الظواهر غير العادية.
وحين نلاحظ أن القرآن الكريم يأتي بهذا المقطع في سياق قوله تعالى: ((وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا. وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا))(3). قد نستنتج أن الإتيان بهذا الجانب من شخصية موسى ـ عليه السلام ـ كان من أجل إيضاح مدى مطابقة الحكمة الإلهية للمصلحة وانسجامها مع واقع الأشياء مهما بدت غير واضحة المقاصد والأهداف وبعيدة عن فهم الناس وإدراكهم.
إن هاتين الآيتين اللتين جاء المقطع في سياقهما تشيران إلى وجود حكمة إلهية وراء تأخير العذاب وعدم التعجيل به، مع استحقاق الظالمين له. مع أنّه قد يبدو في
النظرة السطحية الإنسانية أن التعجيل بالعذاب أوفق بالمصلحة حيث يكون رادعاً للآخرين عن الظلم، كما هو الحال في العقوبات الدنيوية التي توضع من أجل الردع فيكون لها الأثر في تأديب الناس وتقويم سلوكهم، فملاذا لا تكون العقوبات الإلهية كذلك، مؤدية إلى استقامة السلوك الاجتماعي للإنسان ؟‍‍‍ ‍‍‍‍‌!‌‌
والقرآن الكريم وإن لم يتناول هنا بيان السبب في تأجيل العقوبة والحكمة في ذلك، ولكنه تناول هذا الموضوع في مواضع أخرى مثل قوله تعالى ((ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة))(4)، ((ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى...))(5). وكذلك من أجل المزيد من الاختبار والابتلاء، أو للإملاء والزيادة في الضلال والانحراف، لتشديد العقوبة عليهم ((ولا يحسبن الذين كفروا إنّما نملي لهم خير لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا اثماً ولهم في الآخرة عذاب مهين))(6).
والأساس في ذلك كله هو أن تكامل الإنسان يتم بالإرادة والطاعة الاختيارية. أما تعجيل العقوبة فقد يلغي دور الطاعة الاختيارية.
وقد اكتفى القرآن هنا ببيان القاعدة الكلية وهي أن الحكمة الإلهية تتطابق مع المصلحة الواقعية مهما كانت بعيدة عن متناول فهم الإنسان وادراكه. فجاء المقطع تأكيدا لحقيقة الحكمة الإلهية ونظرتها البعيدة، وأن هذه الحكمة قد تخفى حتّى على الأنبياء أنفسهم. حيث نلاحظ في هذا المقطع ثلاثة أعمال وتصرفات يقوم بها العبد الصالح تبدو في ظاهرها انها بعيدة عن العدل والمصلحة. الأمر الذي يثير استغراب موسى إلى الحدّ الذي يجعله يتخلى عن التزامه السابق بعدم السؤال، ثم يشرح العبد الصالح هذه الأعمال ويبين مدى انسجامها مع العدل والمصلحة العامة.
فالسياق العام للسورة هو الذي فرض الآتيان بالقصة في هذا المورد، ولا حاجة إلى تكراره في مواضع أخرى لأنه لا يحقق الغرض الذي جيء به في هذا المورد.
الموضع العاشر:
الآيات التي جاءت في سورة مريم وهي قوله تعالى ((واذكر في الكتاب موسى انه كان مخلصاً وكان رسولاً نبيا. وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا * ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا)) (7).
وقد ذكرنا في أغراض القصة الغرض العام من هذا العرض القصصي، حيث جاءت هذه اللمحة من القصة في عرض قصصي مشترك عن الأنبياء، وذلك بصدد تعداد من أنعم الله عليهم من عباده وأنبيائه ومقارنتهم بمن خلف من بعدهم ممن أضاع الصلاة واتبع الشهوات، ويؤكد كذلك ما ذكره القرآن الكريم في نهاية العرض من قوله تعالى ((أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا. فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا))(8).
فالسياق العام هو الذي فرض مجيء هذه القصة بهذا الشكل من العرض والاختصار، وذلك لتعداد العباد الصالحين ونعمة الله عليهم.
الموضع الحادي عشر:
الآيات التي جاءت في سورة طه والتي تبدأ بقوله تعالى ((وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا اني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى)) (9) والتي تختم بقوله تعالى ((قال فأذهب فان لك في الحياة أن تقول لا مساس وان لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى الهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا. إنّما الهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما))(10).
وهذا الموضع من قصة موسى هو أحد المواضع الثلاثة التي فصل فيها القرآن قصة موسى ـ عليه السلام ـ بعد سورة الأعراف وقبل سورة القصص بحسب التسلسل في المصحف الشريف.
ونلاحظ في هذا المقطع القرآني من القصة الأمور التالية:
الأول: أن القصة جاءت مباشرة في سياق بيان أن القرآن الكريم لم ينزل من أجل أن يشقى النبي ويتألم لمجرد أن قومه لم يؤمنوا به، أو يظن في نفسه التخلف والتقصير أو القصور عن أداء الرسالة. وإنّما نزل القرآن تذكرة لمن يخشى من الناس: ((طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى)) (11).
الثاني: أن هذا المقطع القرآني ينتهي بقوله تعالى ((كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا))(12).
الثالث: أن المقطع ـ على مافيه من تفاصيل ـ يؤكد بشكل واضح ملامح معاناة النبي موسى ـ عليه السلام ـ في سبيل الدعوة، سواء في ذلك المعاناة النابعة من "الذات": كالانفعالات والمخاوف النفسية، أو الحرص الشديد على نجاح الدعوة وسلامتها والتزام أبنائها بها، أو المعاناة التي تكون بسبب الضغوط الخارجية التي يمارسها الأعداء والكافرون بالدعوة كالتهديدات أو المشاكل والعقبات والضغوطات التي يضعونها أمام الدعوة والرسالة أو المعاناة التي تكون بسبب محاولة تطبيق الرسالة وعدم استجابة الجماعة المؤمنة بسبب محاولة تطبيق الرسالة وعدم استجابة الجماعة المؤمنة بصورة حسنة وجيدة لعملية التطبيق أو المعاناة بسبب موقف المنافقين والمرتدين على الرسالة ومفاهيمها.
والى جانب التركيز على المعاناة بصورها المتعددة نجد التركيز أيضاً على اللطف الإلهي والنعم الإلهية التي كانت تحف مسيرة المعاناة هذه.
فهناك عدة انعكاسات نفسية لمواقف الرسالة والدعوة في ذات موسى، أشار إليها هذا المقطع القرآني الشريف:
الأول: مفاجأته بالرسالة وكذلك فزعه من المعجزة وتحول العصا إلى حية واليد إلى بيضاء:((قال خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى)) (13). خصوصاً وان هذه المفاجأة جاءت في هذا الوقت الحرج الذي كان يفتش فيه موسى ويلتمس لأهله ناراً بعد الحاجة إليها.
الثاني: تردده في الأقدام على الدعوة بمفرده وطلبه لانضمام أخيه هارون إليه. ((قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً)) (14).
الثالث: خوفه مع أخيه من التحدث إلى فرعون ومواجهته بالدعوة مع انهما أمرا أن يقول قولاً لينا: ((قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إني معكما أسمع وأرى))(15).
الرابع: إحساسه بالخوف من سحرهم وتوجسه من نتائج المباراة: ((فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف انك أنت الأعلى))(16).
الخامس: موقفه مع ربه في المواعدة ومخاطبة الله له بأنه قد أعجل عن قومه: ((وما أعجلك عن قومك يا موسى قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك واضلهم السامري))(17).
السادس: غضب موسى وأسفه وموقفه الصارم من قومه وأخيه والسامري: ((قال يبنؤم لاتأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول...))(18).
وقد صاغ القرآن الكريم هذه الانفعالات من خلال طريقة العرض على الشكل الذي يؤكد معاناة النبي ويبرز ملامح شخصيته. حيث كان يؤكد في طريقة العرض على ضمير المخاطبة سواء بين الله وموسى أو بين موسى والآخرين.
مضافاً إلى ذلك الانفعالات النفسية التي تنشأ من الضغط والعوامل الخارجية، حيث نجد أمام موسى ـ عليه السلام ـ مجموعة من العقبات والمشاكل الحقيقية المهمة سواء من الأعداء مثل محاولة السحرة تضليل الناس (57 ـ 66)، أو تهديد فرعون باستخدام أسلوب القمع والعمل به: (71 ـ 72)، أو مطاردة فرعون وجيشه لموسى
وبني إسرائيل في محاولتهم للعبور: (77 ـ 78) أو الضغوط الخارجية التي تنشأ من أعمال المنافقين والمرتدين كما هو الحال في فتنة السامري للإسرائيليين وتمردهم على هارون.
((فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي..)) (19).
وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج:
أولاً: أن القصة سيقت لابراز معاناة الأنبياء في دعواتهم كنتيجة طبيعية لعظم المسؤولية التي يتحملونها والمشاكل التي تواجههم وبشكل خاص تشير إلى المعاناة الذاتية.
ويشهد لذلك أن القصة تؤكد على المواقف التي تظهر فيها انفعالات الرسول كما أنها تؤكد على ما ينعم به الله على الرسول خلال المجابهة، وحين ينتهي عرض دور الانفعال نجد القصة تنتقل إلى عرض الدور الآخر دون أن تقف عند المشاهد الأخرى، فهي مثلا تنتقل من العبور إلى المواعدة رأساً.
كما أننا حين نقارن بين هذا المورد الثالث الطويل من القصة والمورد السابق الطولى منها الذي جاء في سورة الأعراف أو المورد الثالث الطويل منها الذي يأتي في سورة القصص نجد هذا المورد هو الوحيد بينها يؤكد بهذا التفصيل على هذا الملامح للمعاناة دون الدخول في التفاصيل الأخرى.
وثانياً: أن السبب الذي فرض على القصة هذا الأسلوب الخاص من العرض والتصوير واقتضى في نفس الوقت بعض التكرار هو مخاطبة الرسول وتخفيف الألم والعذاب النفسي اللذين كان يعانيهما الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ تجاه الدعوة، وهذا غرض آخر للقصة.
ويدلنا على ذلك ما لاحظنا في الأمر الأول والثاني حيث استهدف القرآن الكريم إبراز الصلة الوثيقة بين ما يعانيه رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ في دعوته وبين ما كان يعانيه
الأنبياء السابقون ((ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى))، ((كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا)).
الموضع الثاني عشر:
الآيات التي جاءت في سورة الشعراء والتي تبدأ القصة فيه بقوله تعالى ((وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين. قوم فرعون ألا يتقون)) والتي تختم بقوله تعالى: ((وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين أن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وان ربك لهو العزيز الرحيم))(20).
ويلاحظ في المقطع القرآني من القصة الأمور التالية:
الأول أن المقطع من القصة جاء بعد عتاب من الله سبحانه لرسوله محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ في اجهاده لنفسه وإرهاقها حتّى يكاد أن يذلها بسبب أن قومه لم يكونوا مؤمنين: ((لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين )). وبعد هذا العتاب يشير القرآن الكريم إلى قانون تكويني في الإنسان وسنة تاريخية في مسيرة التاريخ الإنساني وهما:
أن الله خلق الإنسان مريداً مختاراً ولم يشأ له أن يكرهه على الإيمان. وأن كل ذكر جديد من الله سبحانه يحدث ردة فعل كهذه لدى الكفار. حيث يقاومونه ويعرضون عنه في البداية. ولم يكن ذلك من الكفار بسبب عجز الله سبحانه وعدم قدرته على إخضاعهم لرسالته وإرغامهم عليها بل هو قادر على إكراههم وإجبارهم ولكن شاءت الإرادة الإلهية أن يكون الإنسان مختاراً في كفره وإيمانه ((إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا)) (21)، ((إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين))(22).
الثاني أن القرآن الكريم ينبه بعد هذا التفسير العام للتاريخ إلى أن هذا الموقف العام للكافرين تجاه الذكر لم يكن بسبب عدم توفر الدليل الصالح على صحة الرسالة ((أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم. أن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين. وإن ربك لهو العزيز الرحيم))(23).
الثالث أن هذا المقطع جاء في عرض قصصي مشترك للأنبياء يتميز بطابع خاص إلى جانب هذا التفسير التاريخي للموقف العام، وهو أن كل نبي نجده يبذل جهده في استعمال الأساليب المختلفة من الكلام اللين والهادئ أو التذكير بالنعم الإلهية الظاهرة التي يتمتع بها أقوامهم. وقد يعضد أقواله هذه أحياناً بآية ومعجزة سماوية تشهد له على صحة دعوته ومع ذلك النتيجة واحدة. ويختتم كل مشهد من مشاهد قصص الأنبياء بهذا المقطع بقوله تعالى: ((إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم)).
الرابع أن القرآن الكريم بعد أن يأتي على نهاية العرض القصصي المشترك هذا يرجع ـ مباشرة ـ فيتحدث عن ((آيات الكتاب المبين)) بوصفها شيئاً ووحياً إلهياً متصفاً بجميع الصفات التي تبرز هذه الحقيقة وهذا الاتصال بالله، مما يسمح لذوي البصيرة والقلوب النيرة أن تطلع على واقعه وتهتدي به: ((وانه لتنزيل رب العالمين. نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين..))(24).
وعلى أساس هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج أن القصة جاءت لتحقيق هدفين ضمن عرض قصصي مشترك:
الأول: إيضاح القانون الطبيعي الذي يتحكم في مواجهة الأفكار الإلهية الجديدة وأن تلكؤ الكافرين في الإيمان بالدعوة الإسلاميّة ورسالتها ليس بسبب تخلف الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ عن المستوى الأمثل للعمل والنضال، أو نتيجة لعدم توفر الأدلة الكافية على صحة الرسالة. وإنما هو قانون عام له أسبابه النفسية والاجتماعية الأخرى خضعت له الرسالات الإلهية كلها.
الثاني: أن النهاية سوف تكون لعباد الله الصالحين أنهم هم الذين يرثون الأرض، ومن أجل الالتفات والتأكيد على هذا الهدف الذي قد يضيع ضمن العرض العام للقصص جاءت قصة موسى بشيء من التفصيل الذي يؤكد هذا الجانب.
وهنا نلاحظ أن بداية هذه السورة تختلف عن بداية سورة طه بأن هذه البداية جاء بعدها الحديث عن القانون الإلهي في الإرادة الإنسانية والسنة التاريخية في تكذيب الكافرين للذكر والرسالات الإلهية. ولذلك اختلف الحديث في قصة موسى هنا عن سورة طه لاختلاف الغرض.
كما أن الغرض هنا اقتضى الحديث عن الأنبياء الآخرين لتوضيح حقيقة السنة التاريخية: ((وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين)) ومع ذلك فلا شك أن هذا العرض القصصي يساهم في تخفيف معاناة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ التي أشير إليها في بداية السورة: ((لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين)).
وبهذا يمكن أيضاً أن نفسر التكرار للقصة بأحد السببين أو كليهما:
الأول: أن القصة استهدفت غرضاً دينياً جديداً يعتبر الغرض الرئيس من عرضها هنا. وهو تصوير المفهوم الإسلامي العام عن طبيعة موقف المشركين تجاه الرسالة، وأنه هو الموقف العام لهم تجاه كل الرسالات، وهذا هو السبب الأول من الأسباب الموجبة للتكرار.
الثاني: "تأكيد" هدف وغرض سبق أن استهدفه القرآن الكريم من قصة موسى نفسها في سورة "طه" وهو التخفيف من الألم الذي يعانيه الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ وهذا هو السبب الثاني من الأسباب الموجبة للتكرار.
وقد جاءت القصة في أسلوبها وطريقة عرض الأحداث فيها منسجمة مع أهدافها وأغراضها حيث تناولت جوانب معينة من حياة موسى، وعرضت بشكل خاص تنتهي عند هذه الأهداف، فنجد الحديث في القصة مثلاً ينتهي عند العبور، ولم تتناول الأحداث التي جرت مع الإسرائيليين بعد العبور.
كما أنها أكدت على شكل "الأسلوب" الذي سار عليه موسى وهارون في مخاطبة فرعون، وتصوير الموقف أنّه موقف مواجهة ولذا بدأ به: ((أن ائت القوم الظالمين قوم فرعون ألا يتقون))(25).
وبذلك يتضح ما ذكرناه سابقاً من أن طريقة العرض قد يفهم منها غرض آخر لا تحققها طريقة عرض أخرى.
الموضع الثالث عشر:
الآيات التي جاءت في سورة النمل والتي تبدأ بقوله تعالى:
((إذ قال موسى لأهله أني آنست نارا سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون)) وتختم بقوله تعالى ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا فأنظر كيف كان عاقبة المفسدين))(26).
ويلاحظ في هذا المقطع القصير الذي يتحدث عن القصة بشكل عام الأمور التالية:
الأول: أن القصة جاءت في سياق تأكيد تلقي القرآن الكريم عن الله وعن طريق الوحي الإلهي كما يشير إلى ذلك في بداية السورة وتأكيده أيضاً بقوله تعالى: ((وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم))(27).
الثاني: أن هذا المقطع يختم بقوله تعالى: ((وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين)).
الثالث: أن هذا المقطع على اختصاره يكاد يختص بذكر الحوادث والآيات ذات الطابع الغيبي، فهو يذكر "المناداة" و"معجزة العصا" و"اليد البيضاء"، ويشير إلى الآيات "التسع".
وهذه الملاحظات تدعونا لأن نستنتج أن القصة سيقت لبيان غرض سبقت الإشارة إليه في سورة الإسراء وهو إظهار حقيقة من الحقائق التي ترتبط بالجانب النفسي لموقف المشركين تجاه القرآن الكريم والرسالة الإلهية التي تضمنها، وإن إنكارهم للوحي الإلهي ينبع وينطلق من عامل نفسي وعاطفي ولا يقوم على أساس عقلي ومنطقي وموضوعي.
وهذا العامل النفسي هو الجحود والعلو والظلم، كما تشير إليه الملاحظة الثانية.
ولذلك نجد المؤمنين، وهم يعيشون في نفس المجتمع والظروف، لديهم نفس المستوى الثقافي العام القائم في المجتمع، ومع ذلك كله يؤمنون بالقرآن ويتفاعلون معه ويهتدون ويفرحون بتبشيره، لأن هذا هو مقتضى طبيعة القرآن الكريم: ((تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين)).
وأما الكافرون فانهم لانحرافهم وضلالهم وتمردهم وكفرهم بالحساب والعقاب والجنة والنار يمنعهم الحاجز النفسي من الإيمان بالوحي والقرآن.
وتأتي القصة هنا كشاهد على هذه الحقيقة ثم تؤكدها من خلال الملاحظة الثانية.
يؤكد ذلك ما ذكرناه في الملاحظة الثالثة من اقتصار القصة على ذكر الحوادث والآيات الغيبية المتعددة ومع ذلك لم يحصل الإيمان من قبل فرعون وقومه لوجود هذا الجحود.
ولا يفوتنا أن ننبه هنا إلى نكتة دقيقة ولطيفة وشاهد يؤكد لنا أن القصة سيقت لهذا الغرض.. هو أن القرآن يصور لنا خوف موسى من العصا بشكل بارز بحيث يدعوه إلى الهروب منها. ولعل السر في ذلك هو إيضاح أن هذا التحول في حال "العصا" كان نتيجة تدخل غيبي، ولذا ترك أثره على موسى نفسه، وليس المقصود هو إبراز ضعف موسى والحالات النفسية له.
ولعل السر في تكرار القصة هنا هو السببان التاليان:
الأول: أن المقطع جاء في عرض قصصي مشترك لتأكيد الظاهرة الغيبية في تاريخ الأنبياء وكفايتها في إثبات الوحي، وتقديم التفسير الإسلامي لموقف المنكرين للقرآن والدعوة على أساس عدم كفاية الآيات والمعجزات لاثباتها، وأنه موقف نفسي لا موضوعي.وقد عرفنا في هذا التأكيد السبب الثاني للتكرار كما سبق.
الثاني: أن القصة جاءت مختصرة في تصوير الموقف وهذا يدعونا أن نرى انها وردت في مرحلة متقدمة من مراحل الدعوة حين كان يعالج القرآن مشاكلها بشكل مختصر، وهذا ما ذكرناه سبباً ثالثاً للتكرار. الموضع الرابع عشر:
الآيات التي جاءت في سورة القصص والتي تبدأ بقوله تعالى ((نتلوا عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون)). والتي تختم بقوله تعالى ((وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ولقد آتينا موسى الكتاب من بعدما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون))(28).
ويلاحظ في هذا الموضع من القصة الأمور التالية:
الول: أن السورة تكاد تبدأ بالقصة دون أن يسبقها شيء عدا آيتين، هما قوله تعالى: ((طسم تلك آيات الكتاب المبين)).
الثاني: أن القرآن الكريم يأتي في سياق القصة بعدها بقوله تعالى: ((وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون))(29). وهي آيات تؤكد صلة القرآن بالغيب والوحي وانقطاعه عن شخص النبي شبيه قولـه تعالى: ((تلك من أنباه الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر أن العاقبة للمتقين))(30).
وغيرها من الآيات مثل آل عمران (44) ويوسف (102).
الثالث: أن القصة تذكر تفاصيل وحوادث ذات طابع شخصي من حياة موسى ـ عليه السلام ـ ترتبط بحياته وتربيته قبل البعثة وتكاد أن تكون جانبية كحادثة إلقائه في اليم (7) واستنقاذ آل فرعون له (8 ـ9) وتقص أخته لبره (10 ـ 11) ورفضه للرضاعة من غير أمه (12 ـ 13) ومعرفته بالعلم والحكمة (14) وقتله للرجل ثم محاولته لقتل الآخر، وهروبه (20 ـ 21) ثم قضية زواجه مع تفاصيلها (22 ـ 28) وهذه التفاصيل بمجموعها مما تنفرد به القصة في هذا الموضع. الرابع: أن القصة تبدأ بذكر أحكام عامة عن الوضع الاجتماعي في عصر ولادة موسى ـ عليه السلام ـ حينذاك والغاية المتوخاة من تغييره: ((أن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نساءهم انه كان من المفسدين. ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونرى فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون))(31).
 وعلى ضوء هذه الملاحظات يمكن أن نستنتج أن القصة استهدفت أمرين:
الأول: أن القرآن الكريم كتاب منزل من الله سبحانه وتعالى: وأنه ليس من صنع محمد ـ صلى الله عليه وآله ـ وهذا هو الهدف الرئيسي من سرد القصة في هذا المورد كما يشير إلى ذلك الأمر الأول والثاني، وهو في نفس الوقت من الأهداف الهامة التي يؤكد عليها القرآن الكريم في مناسبات كثيرة لما له من تأثير مركزي في سير الدعوة.
وبهذا يمكن أن نفسر اختصاص القصة بذكر الحوادث ذات الطابع الخاص بحياة موسى لا بالرسالة وهو ما أشرنا إليه في الأمر الثالث، لان في الحديث عن تفاصيل خاصة من حياة الرسول دلالة قوية على ارتباط القرآن بعالم الغيب، حيث من المفروض ـ عادة ـ أن لا يطلع على هذه التفاصيل جميع الناس، لأنها ترتبط بحياة الرسول حين كان فرداً عادياً في المجتمع فهي بعيدة عن الأضواء والتدوين، على خلاف تفاصيل حياته بعد النبوة فإنها ـ بطبيعة الحال ـ تكون معروفة للناس لتسليط الأضواء على شخصيته من قبله بعد تطور المواجهة والصراع بين الرسول ورسالته والمجتمع بشكل عام.
الثاني: إيضاح أن عملية التغييرات الاجتماعية الجذرية تتم عادة في أبعد الظروف ملائمة واحتمالا، وفي ظل أشد ظروف الظلم والاضطهاد والطغيان، بحيث تبدأ عملية التغيير من نقطة تفاقم الأوضاع السياسية والاجتماعية وتدهور العلاقات بين الطغاة الحاكمين والمستضعفين المحكومين ويصبح التغيير أمراً حتمياً بالرغم من أن العملية تبدو وكأنها بعيدة المال والتحقق. كل ذلك نتيجة للإيمان الواعي بالله تعالى وما يستلزمه ذلك من صبر واستقامة وجهاد وتضحية.
وهذا الفهم السياسي للحركة الاجتماعية (32) مما أكده القرآن الكريم في عدة مواضع واعتبره سنة من سنن التاريخ كما أشرنا إليه في بحث أغراض القصة "السنّة الرابعة": ((أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتّى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب)).
ولذلك نجد القصة في هذا الموضع تؤكد على ملامح الاضطهاد الذي كان يعانيه المجتمع بشكل عام والإسرائيليون بشكل خاص، كما تؤكد على الوضع القاسي الذي كان يعيشه شخص الرسول في كونه منذ البداية في معرض خطر الموت والهلاك، ثم مطارداً من المجتمع بتهمة القتل العدواني، ثم مهاجراً وبعيداً عن المواقع الطبيعية لحركة التغيير. وفي هذين الهدفين ما يبرر التكرار الذي يمكن أن يكون بالسبب الأول وهو تعدد الغرض، أو الثاني وهو تأكيد غرض سابق من أسباب التكرار.
الموضع الخامس عشر:
الآيات التي جاءت في سورة "المؤمن" والتي تبدأ بقوله تعالى ((ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين. إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب)) والتي تختم بقوله ((فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله أن الله بصير بالعباد. فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب))(33).
ويلاحظ في هذا الموضع من القصة ما يلي:
الأول: أن السورة التي جاء فيها هذا المقطع تتحدث في مطلعها عن مصير من يجادل في آيات الله ((وما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد)).
الثاني: أن القصة تأتي في سياق أن هذا المصير للمجادلين نتيجة طبيعية لعنادهم وتكذيبهم بعد إقامة الحجة عليهم مهما كانوا يتمتعون به من قوة ونفوذ وسعة في الأرض حيث أن الأخذ والهلاك عند التكذيب هو سنة من السنن التاريخية بعد أن تأتيهم البينات فيكفرون بها: ((أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق))(34).
الثالث: أن القصة تؤكد بشكل واضح على موقف مؤمن آل فرعون والأساليب التي استعملها في دعوته لهم ومحاولته ذات الجانب العاطفي في هدايتهم مع تذكيرهم بمصير من سبقهم من الأمم وما ينتظرهم نتيجة لعنادهم وكفرهم. وفي قبال هذا الموقف يظهر لنا موقف فرعون وقد تمادى في غيّه حتّى تطاول وحاول أن يصل إلى إله موسى.
وكذلك توضح الفرق في الحجة والمنطق بين منطق "المؤمن" ومنطق الكافرين الذين يجادلون بدون برهان ودليل أو كما يعبر القرآن بغير سلطان: ((الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتاً عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار))(35).
وعلى هذا الأساس يمكن أن نستنتج: أن القصة سيقت لتوضيح عدة أغراض:
الأول: بيان حقيقة هذه السنة التاريخية في مصير من يجادل في آيات الله من الهلاك والعذاب مهما كانوا في قوة ومنعة.
الثاني: أن العذاب لا ينزل بهؤلاء الكافرين إلا بعد أن تتم الحجة عليهم وتصبح من الوضوح بحيث يمكن أن يقتنع بها حتّى أولئك الأشخاص الذين يعيشون في الوسط المتنفذ والمترف ـ كما هو الحال بالنسبة إلى مؤمن آل فرعون.
الثالث: توضيح الفرق بين منطق الإيمان ومنطق الكفر بعيداً عن المؤثرات الخارجية والاجتماعية، فإن مؤمن آل فرعون بالرغم من أنّه من الوسط الاجتماعي للفراعنة لكن منطقه وحجته أصبحت متميزة لأنها تعبر عن الحقيقة والواقع وينطلق من العمل والفطرة الإنسانية السليمة بخلاف منطق الكفر والضلال فانه يعبر عن الأهواء والانفعالات والشهوات.
وفي الوقت نفسه توضح لنا القصة المسؤولية الشرعية والإنسانية التي يتحملها الإنسان في كل الأحوال حتّى لو كان من الوسط الضال، كما فعل مؤمن آل فرعون.
وفي هذا العرض القرآني للقصة يظهر لنا أيضاً هذا الامتزاج بين الرحمة والغفران، وبين النقمة وشدة العذاب: ((غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلاّ هو إليه المصير)) فإن الله سبحانه برحمته يجعل تحتم تناول عقول عباده وأنظارهم آياته وأدلته وبراهينه، ويتوسل إلى هدايتهم بالوسائل المختلفة التي لا تشل عنصر الاختيار فيهم، كل ذلك رحمة منه وفسحة لقبول التوبة والاستغفار. ولكنه مع ذلك لا يعجزه شيء عن عقابهم أو القدرة على إنزال العذاب بهم والانتقام منهم.
الموضع السادس عشر:
الآيات التي جاءت في سورة الزخرف والتي تبدأ بقوله تعالى: ((ولقد أرسلنا موسى بآياتنا إلى فرعون وملائه فقال أني رسول رب العالمين)) والتي تختم بقوله تعالى ((فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين. فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين))(36).
ويلاحظ في هذا الموضع من القصة ما يلي:
أن هذا المقطع القرآني من القصة جاء في سياق الحديث عن شبهة أثارها الكفار في وجه الدعوة، وهي أن الرسالة كان يجب أن تنزل على رجل ذي ثروة وقدرة ومال وجاه ليتمكن من القيام بأعباء الرسالة وليخضع الناس لقدرته وقوته: ((وقالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم))(37).
وقد ناقش القرآن الكريم هذه الشبهة من ناحيتين:
الأولى: أن الرزق والمال ليس نتاجاً بشرياً محضاً أو نتيجة للجهد الشخصي والذكاء والعبقرية والفضل فحسب، بل هو عطاء الهي أيضاً له غاية اجتماعية تنظيمية: ((أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون))(38).
الثانية: أن هذا العطاء الإلهي ليس مرتبطا بالفضل والامتياز عند الله والقربى لديه كما هو شأن العطاء البشري بين الناس حيث يكون على أساس الامتيازات الشخصية والقربى من المعطين، بل قد يكون العكس هو الصحيح، فان كثرة الأموال والأولاد نفسها قد تكون دلالة على البعد عن الله تعالى: لأنها مظهر من مظاهر هذه الدنيا، وهي للإنسان المؤمن دار ابتلاء واختبار وليست هدفاً أو قراراً له. بخلاف الإنسان الكافر فإنها مبلغ همه وغاية هدفه وأمله ونصيبه من الحياة بقاعدة: ((من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب))(39).
ويؤكد القرآن الكريم هنا هذه الحقيقة بقوله تعالى: ((ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون)). فان ظاهر هذه الآية الكريمة هو أنّه لولا مخافة أن يكون الناس أمة واحدة على الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن كل هذه الأموال وقد يكون ذلك تعويضا لهم عما يلحق بهم من الخسران والعذاب في الدار الآخرة، فان الدنيا جنة الكافر وسجن المؤمن.
ومن هذه الملاحظة يمكن أن نستنتج أن هذا المقطع جاء ليضرب مثلاً واقعياً تجاه هذه الحقيقة والفكرة التي عاشتها الإنسانية، وهذا المثل هو رسالة موسى إلى فرعون، حيث نزلت الرسالة على شخص فقير في لسانه علة ومطارد، ويتعرض قومه إلى الاضطهاد، مع أن فرعون الطاغية المتجبر هو صاحب الثروة والغنى.
والذي يؤكد هذا الاستنتاج أن هذا الموضع من القصة يتبنى بشكل خاص إظهار ما يتمتع به فرعون من ثروة وملك وغنى في قبال موسى الذي هو مهين على حد تعبير فرعون وفقير ومطارد: ((ونادى فرعون في قومه قال يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون. أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين. فلوا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين)) (40).
وليس في المواضع الأخرى من القرآن ما يشبه هذا الموقف من فرعون. فالتكرار فرضه السياق القرآني إلى جانب تحقيق الغرض الديني.
الموضع السابع عشر:
الآيات التي جاءت في سورة الذاريات، وهي قوله تعالى: ((وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين. فتولى بركنه وقال ساحرا أو مجنون. فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم)) (41).
وهذه اللمحة العابرة التي تأتي في عرض قصصي مشترك عن الأنبياء وفي سياق تأكيد القرآن للقدرة الإلهية وصدق الرسالة فيكون الغرض هو من ذكر هذه القصة في هذا العرض هو بيان قدرة الله تعالى وتعداد آياته سبحانه وإثبات صدق الرسالة والدعوة والنبوة، فهي ليست بدعاً من الرسالات ولا صاحبها بدعاً من الرسل بل هي حق مثل ما ينطقون: ((فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)) (42).
ونجد في هذا الموضع أسلوب السورة المكية الموجز الذي يستخدم المشاهد السريعة والمتحركة والقوية لغرض التأثير الروحي وكسر الحاجز النفسي، ولذا كانت طبيعة الموقف تفرض ذكر القصص القرآنية بشكل مختصر وعابر.
الموقف الثامن عشر:
الآية التي جاءت في سورة الصف ((وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وقد تعلمون أني رسول الله إليكم فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين)).
وقد جاءت هذه الآية في سياق الحديث عن بعض الأمراض الاجتماعية التي تظهر في الجماعة بعد استقرارها وثباتها حيث يظهر مرض الاختلاف بين الشعار والتطبيق أو مرض الاختلاف في المواقف العملية بين أفراد الجماعة وعدم الطاعة المطلقة للقيادة: ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون. إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص))(43).
وفي هذا الموضع يشير القرآن إلى موقف معين لبني إسرائيل تجاه موسى، حيث آذوه مع علمهم بنبوته، وقد كان الغرض من الإشارة إليه هو مقارنة موقف بعض أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من المنافقين أو الجاهلين تجاهه مع موقف هؤلاء تجاه موسى، وكذلك مع موقف بني إسرائيل تجاه عيسى ـ عليه السلام ـ من تكذيبه ومخالفته بعد أن جاءهم بالبينات، وفي هذا بيان لوجود هذه الأمراض الاجتماعية كظاهرة تاريخية والتحذير منها ومن الوقوع في مثل هذه المواقف والمخالفات، وإلا لساروا في طريق النفاق وكانوا ممن يقولون مالا يفعلون. كما يدل السياق على ذلك.
الموضع التاسع عشر:
الآيات التي جاءت في سورة النازعات، وهي قوله تعالى: ((هل أتاك حديث موسى. إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى. اذهب إلى فرعون إنه طغى. فقل هل لك إلى أن تزكى. وأهديك إلى ربك فتخشى. فأراه الآية الكبرى. فكذب وعصى. ثم أدبر يسعى ؟ فحشر فنادى فقال أنا ربكم الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى))(44).
وهذا المقطع القرآني من القصة ينسجم مع السياق العام للسورة التي تتحدث عن الحشر وتصور قدرة الله سبحانه على تحقيقه بزجرة واحدة: ((فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة)) (45).
فأراد القرآن الكريم أن يضرب مثلاً حياً على هذه القدرة الإلهية في البعث والنشور وتغيير الأحوال فكانت قصة فرعون شاهداً على ذلك.
وقد استخدم القرآن فيها هذا الأسلوب الخاص في الانتقال السريع من حال إلى حال تعبيراً عن الانتقال السريع إلى البعث والنشور.
فالموقف فيها ينتقل من دعوة موسى لفرعون مع ماله من القدرة الدنيوية وتكبره وتجبره وعظمته، إلى أخذ الله سبحانه له نكال الآخرة والأولى، فإن هذا الانتقال يصور لنا هذه السرعة والقدرة في الحشر والنشر، ولذا نجد القرآن يرجع بعد إعطاء هذه الصورة الواقعية عن القدرة إلى الاستدلال على هذه الحقيقة بأدلة وجدانية أخرى: ((أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها. رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها وأخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها))(46).
  
-----------------------------------
1 ـ الكهف / 60 ـ 82.
2 ـ الكهف / 60 ـ 82.
3 ـ الكهف / 58 ـ 59.
4 ـ النحل: 61.
5 ـ النحل: 61.
6 ـ آل عمران: 178.
7 ـ مريم: 51 ـ 54.
8 ـ مريم: 58 ـ 59.
9 ـ طه: 10.
10 ـ طه: 97 ـ 98.
11 ـ طه: 1 ـ 3.
12 ـ طه: 99.
13 ـ طه: 21 ـ 22.
14 ـ طه: 25 ـ 34.
15 ـ طه: 45 ـ 46.
16 ـ طه 67 ـ 68.
17 ـ طه: 83 ـ 85.
18 ـ طه: 94 ـ 97.
19 ـ طه: 86.
20 ـ 10و65.
21 ـ الإنسان: 3.
22 ـ الشعراء: 4 ـ 5.
23 ـ الشعراء 7 ـ 9.
24 ـ الشعراء 191 ـ 195.
25 ـ الشعراء: 10.
26 ـ 7 ـ 14.
27 ـ 6.
28 ـ 3 ـ 43.
29 ـ القصص: 44 ـ 46.
30 ـ هود: 49.
31 ـ القصص: 4 ـ 6.
32 ـ لقد تناول أستاذنا الشهيد الصدر هذا الموضوع بشكل تحليلي كامل في محاضراته في التفسير الموضوعي.
33 ـ المؤمن: 23 ـ 45.
34 ـ غافر: 21.
35 ـ غافر:35.
36 ـ 46-56.
37 ـ يراد بهذا الرجل أحد شخصين، كما يذكر في تفسير هذه الآية.
38 ـ 32.
39 ـ الشورى: 20.
40 ـ الزخرف: 51 ـ 53.
41 ـ الذاريات: 38 ـ 40.
42 ـ الذاريات: 23.
43 ـ الصف: 2 ـ 4.
44 ـ النازعات: 15 ـ 25.
45 ـ النازعات: 13 ـ 14.
46 ـ النازعات: 27 ـ 33.
   
 


مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية