مركز الصدرين للتقريب بين المذاهبالإسلامية

دراسات فقهية
الرأي الفقهي في السلام مع اسرائيل
الدكتور عبد الهادي الفضلي(1)


دراسة قضية أرض فلسطين فقهياً عمل ابتكاري يتضمن أكثر من عطاء.. فهو يوضح الموقف الفقهي الموحَّد بين أهل السنة والشيعة تجاه هذه القضية المصيرية، كما أنه ينحو بالفقه ليعالج قضايانا المصيرية، بدل أن نحصره في قضايا الاحوال الشخصية والمسائل الفردية المحدودة. وهذه الدراسة القيمة تحمل هذه المعطيات العلمية والرسالية، وتوضّح الواجب الاسلامي تجاه قضية فلسطين فقهياً ورسالياً ومصيرياً. تأتي قضية السلام بين العرب وإسرائيل في طليعة القضايا السياسية الراهنة، وبخاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية متمثلة في شخصية الرئيس كلنتون قد ألقت بكل ثقلها السياسي لفرض السلام على العرب والمسلمين فرضاً من دون أن يترك لهم الخيار في اختيار ما يرونه مصلحة للمبدأ والأمة والوطن في ضوء التعليم الشرعي الإسلامي. والموقف الأمريكي من الجمهورية الإسلامية في إيران إذ ترفض هذا السلام لعدم مشروعيته إسلامياً هو أقوى شاهد لاستلاب الخيار المشار إليه من العرب والمسلمين.
وبغية أن نتعرف الرأي الفقهي الإسلامي في موضوع السلام والتطبيع بين
1- عالم وأستاذ جامعي وباحث من المملكة العربية السعودية.المسلمين واليهود في دويلة إسرائيل المزعومة، علينا أن نمهد لذلك ببيان نوعية ملكية أرض فلسطين وفقاً لأحكام التشريع الإسلامي، ذلك أن الحكم سلباً أو إيجاباً يتوقف على معرفة طبيعة علاقة المسلمين بأرض فلسطين لأنها موضوع الحكم الشرعي الذي نحاول التماسه في الرأي الفقهي للقضية، لأننا متى فهمنا حقيقة الموضوع اتضح أمامنا واقع الحكم.
فمما لا خلاف فيه تأريخياً أن فلسطين كانت قبل الفتح الإسلامي تحت حكم الروم. ومما لا خلاف فيه أن فتح المسلمين لها كان عنوة كما يعبر عنه فقهياً أي أنه كان فتحاً عسكرياً.
وفي الفقه الإسلامي تُعرّف الأرض المفتوحة عنوة بتلك التي تفتح من قبل الجيش الإسلامي بعد حرب عسكرية بينه وبين أصحابها.
ومن الثابت تاريخياً أن فلسطين - كما أشرت - فتحت عن طريق دخول الجيش الإسلامي إليها بقيادة عمرو بن العاص وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)وبعد حرب عسكرية بين الجيش الإسلامي والجيش البيزنطي.
ويبحث في حكم هذه الأرض فقهياً في موضوع "ملكية الأرض" وموضوع "الخراج"، وربما في غيرهما.
وفي هذين الموضوعين يقسم الفقهاء المسلمون الأرض باعتبار فرض ضريبة الخراج عليها وطبيعة ملكية أهلها لها إلى قسمين:
1- الأرض المفتوحة صلحاً.
2- الأرض المفتوحة عنوة.
ولأننا هنا نريد أن نعرف نوعية ملكية الأرض شرعاً أُشيرُ لهذا ثم أذكرُ ما يوثقه من المصادر الفقهية الموثقة.
ففي أرض الصلح يقر الإسلام أصحابها على ملكيتها، ويقر لهم التصرف فيها تصرف المالك في ملكه فلهم بيعها وإجارتها وهبتها وما إلى ذلك من تصرفات مشروعة.
وفي الأرض المفتوحة عنوة هناك رأيان فيها: 1- رأي المذهب السني:
ويتلخص في أن للإمام الخيار بين أن يقسمها بين الغانمين أو يوقفها على المسلمين عامة.
وإذا لم يقسمها الإمام بين الغانمين تعين الحكم الثاني وهو وقفيتها للمسلمين. وهو الرأي المعروف وسأشير في مابعد إلى الخلاف في المسألة.
2- رأي المذهب الشيعي الإمامي:
وهو - ومن غير خلاف بين فقهاء المذهب - لايجوز تقسيمها بين الغانمين ويجب أن توقف لصالح المسلمين.
فـ "الأراضي المفتوحة عنوة وقهراً التي هي قسم من غنائم الحرب، لا إشكال عندنا في عدم تقسيمها بين المقاتلين، بل يجب أن تبقى وقفاً على مصالح المسلمين، وقد تطابقت على ذلك فتاوى أصحابنا ورواياتهم"(1).
والفقه الإمامي يستند في هذا الرأي إلى الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)، ومنها:
1- ما رواه الكليني عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي الحسن الكاظم(عليه السلام): "والارضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها ويحييها ويقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الخراج: النصف أو الثلث أو الثلثين، على قدر ما يكون لهم صلاح ولا يضرهم".
2- ما رواه الطوسي بـإسناده عن الحسين بن سعيد عن صفوان بن يحيى عن ابن مسكان عن محمد الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّه الصادق(عليه السلام) عن السواد ما منزلته؟
1- دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الاسلامية، المنتظري 3/183، ط 1، سنة 1412هـ - 1991م. قال: "هو لجميع المسلمين، لمن هو اليوم، ولمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، ولمن لم يخلق بعدُ".
3- ما رواه الطوسي أيضا عن الحسن بن محبوب عن خالد بن جرير عن أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه الصادق(عليه السلام) قال: "لا يشتري من أرض السواد شيئاً إلا من كانت له ذمة، فإنما هو فيء للمسلمين".
4- ما رواه الطوسي بـإسناده عن الحسن بن محمد بن سماعة عن عبد اللّه بن جبلة عن علي بن الحارث بكار بن أبي بكر عن محمد بن شريح قال: سألت أبا عبد اللّه الصادق(عليه السلام) عن شراء الأرض من أرض الخراج فكرهه، وقال: "إنما أرض الخراج للمسلمين" فقالوا له: فانه يشتريه الرجل وعليه خراجها، فقال: "لا بأس إلا أن يستحي من عيب ذلك"(1).
وكما وعدت انتقلُ إلى استعراض الخلاف الفقهي السني في المسألة، وسأقتصر على مصدرين هما: "الموسوعة الفقهية" الكويتية، وكتاب "المغني" لابن قدامة المقدسي، لان فيهما عرضاً وافياً للمسألة:
ذكر في الموسوعة الآراء التالية:
1- رأي الإمام مالك، وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد بن حنبل: "لا تقسم الأرض، وتكون وقفاً على المسلمين، يصرف خراجها في مصالحهم من أرزاق المقاتلة وبناء القناطر والمساجد وغير ذلك من سبل الخير.
وهذا إذا لم ير الإمام في وقت من الأوقات أن المصلحة تقتضي القسمة فله أن يقسمها على المقاتلين.
والدليل عليه اتفاق الصحابة على ذلك، حينما امتنع عمر عن تقسيم أرض السواد عندما طلب منه ذلك بلال وسلمان.
1- يراجع كتاب ملكية الارض في الاسلام للزميل العزيز الشيخ الآصفي / 69 - 70، نشر توحيد، وينظر في هامشه أبواب الروايات من كتاب "وسائل الشيعة". 2- رأي الإمام أبي حنيفة والثوري، وهو رواية ثانية عن الإمام أحمد بن جنبل، وهو: "الإمام مخير بين أن يقسمها على المسلمين المقاتلين أو يضرب على أهلها الخراج ويقرها بأيديهم".
وذلك لان كلا الأمرين قد ثبت عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) فقد ظهر على مكة عنوة وفيها أموال فلم يقسمها، وظهر على قريظة والنضير وغيرهما فلم يقسم شيئاً منها، وقسم نصف خيبر على المسلمين ووقف النصف لنوائبه وحاجاته، كما في حديث سهل بن أبي حثمة قال: "قسم رسول اللّه(صلى الله عليه وآله) خيبر نصفين: نصفاً لنوائبه وحوائجه، ونصفاً بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهماً" رواه أبو داود وسكت عنه.
3- رأي الإمام الشافعي وهو رواية عن الإمام أحمد أيضاً: "أن الأرض تقسم بين المقاتلين كما يقسم المنقول، إلا أن يتركوا حقهم منها بعوض كما فعل عمر مع جرير البجلي، إذ أنه عوضه سهمه في أرض السواد أو بغير عوض، وذلك لقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فان للّه خمسه) فإنها عامة في المنقول والأرض".
أما إذا لم تقسم الأرض وتركت بأيدي أهلها ينتفع المسلمون بخراجها فهناك رأيان في التصرف فيها تذكرهما الموسوعة وهما:
1- رأي جمهور الصحابة والفقهاء: "إنها أرض موقوفة، لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا هبتها ولا تورث عمن وضع يده عليها من الكفار.
وذلك لما روى الاوزاعي: أن عمر والصحابة رضي اللّه عنهم لما ظهروا على الشام أقروا أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم من أرضهم، يعمرونها ويؤدون خراجها للمسلمين، وكانوا يرون أنه لا يصح لأحد من المسلمين شراء ما في أيديهم من الأرض طوعاً أو كرهاً".
2- رأي الإمام أبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف والشيباني "إنها ملك لهم، لهم التصرف فيها بالبيع والشراء والهبة، ويتوارثها عنهم أقاربهم، وذلك لما روى عبد
الرحمن بن زيد أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضاً على أن يكفيه خراجها"(1).
وفي معجم المغني أن ".. ما فتحه المسلمون عنوة ففيه ثلاث روايات.
إحداهن: أن الإمام مخير بين قسمتها على الغانمين، وبين وقفها على جميع المسلمين.
الثانية: أنها تصير وقفاً بنفس الاستيلاء عليها، وعلى ذلك اتفاق الصحابة.
الثالثة: أن الواجب قسمتها".
"ومعنى وقفها: أنها باقية لجميع المسلمين يؤخذ خراجها ويصرف في مصالحهم ولايخص أحد بملك شيء منها"(2).
هذا على مستوى النظرية، أعني أننا نستفيد من هذا الاختلاف في الرأي الفقهي لو قامت الجيوش الإسلامية بفتح شيء من البلدان غير الإسلامية فلولي الأمر العمل في ضوء هذه النظريات في المسألة تقليداً أو اجتهاداً.
أما على مستوى التطبيق - حالياً - بالنسبة إلى أرض فلسطين حيث هي قضية تاريخية حدث فتحها وحسم الأمر فيها في حينه، ينظر ما الذي طبقه الإمام في حقها ويسار عليه.
ومن هنا لابد من معرفة موقف الخليفة عمر بن الخطاب منها بعد فتحها: هل قسمها على الغانمين أو أنه أبقاها وقفاً على المسلمين؟
وبالنسبة إلى كل واحدة من الحالتين ما هو موقفنا نحن المسلمين - الآن - من الناحية الشرعية؟
جاء في "المغني"(3) ما نصه: "ولم نعلم أن شيئاً مما فتح عنوة قسّم بين المسلمين
1- الموسوعة الفقهية 3/118 وزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بالكويت، ط 2، سنة 1404هـ - 1983م.
2- معجم المغني في الفقه الحنبلي 11/297، ط 1، سنة 1405هـ - 1985م .
3- المغني 2/307، وللمزيد والتأكيد تراجع: الموسوعة الفقهية الكويتية 19/54 - 56 .إلا خيبر فان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) قسم نصفها فصار ذلك لأهله، لا خراجَ عليه.
وسائر ما فتح عنوة مما فتحه عمر بن الخطاب(رضي الله عنه) ومن بعده، كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها لم يقسم منه شيء. فروى أبو عبيد في "الأموال" : أن عمر(رضي الله عنه) قدم الجابية فأراد قسمة الأرض بين المسلمين فقال له معاذ: واللّه إذا ليكونن ما تكره، إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة ثم يأتي بعدهم قوم آخر يسدون من الإسلام مسداً وهم لا يجدون شيئاً فانظر أمراً يسع أولهم وآخرهم، فصار عمر إلى قول معاذ".
وهذا يعني - وبوضوح - أن كلمة الفقهاء المسلمين متفقة على أن أرض فلسطين وقف للمسلمين عامة، من كان موجوداً منهم عند الفتح الإسلامي لها، ومن سيوجد حتى تقوم الساعة.
وأن الرأي الفقهي في المسألة واحد لا خلاف فيه.
وعليه:
ماهو الموقف الشرعي للمسلمين منها بعد أن اغتصبها اليهود؟
هذا ما سنحاول أن نتبينه في ما بعد.
وقبل الإجابة عن السؤال لابد من إلقاء الضوء الكاشف على طبيعة وهوية الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين لما له من مدخلية مباشرة في تحديد الجواب.
ولئلا أثقل البحث - أو المقال بالاحرى - بالإكثار من ذكر المصادر التي تعرضت لبيان طبيعة وهوية الاحتلال الإسرائيلي أذكر النتائج المهمة التي توصل إليها رفيق شاكر النتشة في دراسته الموضوعية الموثقة، والتي أسماها: "الاستعمار وفلسطين - إسرائيل مشروع استعماري".
قال في "التمهيد" : "لقد أردت أن أؤكد في هذا البحث بالأدلة التي تمكنت من الحصول عليها أن هذا المشروع هو مشروع استعماري في الأساس، وأن أفكاره وتنظيمه وتخطيطه لم يكن في البداية يهودياً إذ سبق الصهاينة غيرُ اليهود،
 في طرحه والعمل له ووضعه موضع التنفيذ، ولم يأت الصهاينة اليهود إلا متأخرين ليقوموا بدورهم كعملاء وأجراء للدول الاستعمارية صاحبة هذا المشروع"(1).
والدول الاستعمارية صاحبة المشروع التي يشير إليها - كما يوضح هذا مفصلاً في عدة فصول من الكتاب - هي: فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا وأمريكا.
"وعندما نجحت الدول الاستعمارية نتيجة للجهود المتواصلة التي قامت بها بريطانيا وأمريكا بـإقامة دولة إسرائيل كثمرة للمشروع الصهيوني كان من الطبيعي أن تكون هذه الدولة قاعدة عسكرية للاستعمار الغربي ورأس جسر لعبورها إلى العالمين العربي والإسلامي لان هذه الدولة لم تكن إلا مشروعاً تجارياً استعمارياً من مشاريع الاستعمار في هذا العالم"(2).
"واختيار فلسطين بالذات لتكون على أرضها هذه الدولة المشروع الاستعماري يرجع إلى أهمية موقع فلسطين من ناحية استراتيجية جغرافياً واقتصادياً لأنها "تتوسط القارات الثلاث آسيا وأوروبا وأفريقيا، وهي تتصل عبر البحر الابيض المتوسط بأوربا، كما تتصل بالطرق البرية الى الشرق الأقصى وعبر خليج العقبة تتصل بأفريقيا"(3).
"وأهمية الشرق الأوسط للعالم الحر بالغة إلى حد لا يحتمل المغالاة من الناحيتين العسكرية والاقتصادية"(4).
"وكان الجنرال ازينهاور قد كشف عن وعيه لمركز المنطقة الفريد عندما صرح قائلاً: وإذا نظرنا إلى مجرد القيمة الإقليمية لم نجد منطقة في العالم تفوق الشرق الأوسط من حيث الأهمية الاستراتيجية" (5).
"ويقول الفريد ليلينتال الكاتب الأمريكي اليهودي: ففي عام 1838 كان 25% فقط
1- الاستعمار وفلسطين - اسرائيل مشروع استعماري - رفيق شاكر النتشة / 11، ط 2 .
2- نفس المصدر / 14 .
3- نفس المصدر / 18.
4- نفس المصدر / 19 .
5- نفس المصدر / 19 .من حاجات أوربا الغربية إلى البترول للأغراض العسكرية والصناعية يستورد من الشرق الأوسط.
أما اليوم فان حقول الزيت العربية تزود أوربا الغربية بأكثر من 90% من هذه الحاجات وإذا ما وصدت أبواب البلاد العربية في وجه الغرب تصبح منطقة الدفاع عن العالم الغربي المعروفة باسم ناتو أو حلف الأطلسي الشمالي عاجزة إلى حد يدعو للرثاء"(1).
"ولذلك سعت الدول الاستعمارية إلى اتباع سياسة التفرقة في المنطقة وذلك باستغلال القوميات والطوائف والعصبيات من أجل كسر وحدة العالم العربي لتتمكن من السيطرة عليه وعلى العالم الإسلامي بعد ذلك"(2).
وفي ضوء هذا وباختصار تكون الإجابة:
يجب على المسلمين العمل من أجل استرجاع أرض فلسطين بكاملها كما لايجوز التعامل مع هذه الدولة التي تمثل القاعدة الاستعمارية للدول الغربية.
وموقف إيران من رفض السلام نابع من هذه الشرعية، ذلك أن إسرائيل مغتصبة لأرض إسلامية هي للمسلمين عامة وبـإجماع فقهاء المسلمين كافة.
وهنا لابد من الكشف عن مفارقة مهمة وقع فيها غير واحد ممن برر قضية السلام مع إسرائيل شرعياً، وهي الاستدلال بآية السلام (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللّه إنه هو السميع العليم)(3).
ذلك أن الاستدلال بهذه الآية لا يأتي في موضوعنا هذا وهو قضية فلسطين لأمرين هما:
1- إن موضوع قضيتنا يختلف عن مصاديق هذه الآية الكريمة، ذلك أن قضية فلسطين أرض إسلامية استلبت، فالحكم الشرعي يفرض استردادها وإعادتها إلى
1- نفس المصدر / 20 .
2- نفس المصدر / 21 .
3- الأنفال / 61 .أصحابها الشرعيين وهم المسلمون.
وما تصدق عليه الآية الكريمة هم الكفار المحاربون الذين في ديارهم وأوطانهم لا في دار للمسلمين اغتصبوها من المسلمين، وسياق الآية في القرآن الكريم واضح كقرينة على ذلك.
2- أن الحكم في آية السلم مرحلي انتهى بنزول سورة براءة.
وقد أوضح هذا المرحوم سيد قطب في تفسيره، قال: "وعلى أية حال فالذي ننتهي إليه، أن قول اللّه تعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على اللّه إنه هو السميع العليم)، لا يتضمن حكماً مطلقاً نهائياً في الباب، وإن الأحكام النهائية نزلت في ما بعد في سورة براءة.
إنما أمر اللّه رسوله أن يقبل مسالمة وموادعة ذلك الفريق الذي اعتزله فلم يقاتله، سواء كان قد تعاهد أو لم يتعاهد معه حتى ذلك الحين.
وأنه ظل يقبل السلم من الكفار وأهل الكتاب حتى نزلت أحكام سورة براءة، فلم يعد يقبل إلا الإسلام أو الجزية - وهذه هي حالة المسالمة التي تقبل ما استقام أصحابها على عهدهم - أو هو القتال ما استطاع المسلمون هذا، ليكون الدين كله للّه".
ثم يقول:
"ولقد استطردت بعض الشيء في هذا البيان، وذلك لجلاء الشبهة الناشئة من الهزيمة الروحية والعقلية التي يعانيها الكثيرون ممن يكتبون عن "الجهاد في الإسلام" فيثقل ضغط الواقع الحاضر على أرواحهم وعقولهم، ويستكثرون على دينهم - الذي لا يدركون حقيقته - أن يكون منهجه الثابت هو مواجهة البشرية كلها بواحدة من ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو القتال، وهم يرون القوى الجاهلية كلها تحارب الإسلام وتناهضه، وأهله - الذين ينتسبون إليه وهم لا يدركون حقيقته ولا يشعرون بها شعوراً جدياً - ضعاف أمام جحافل أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، كما يرون طلائع العصبة المسلمة الحقة قلة بل ندرة، ولا حول لهم في الأرض ولا
قوة، وعندئذ يعمد أولئك الكتّاب إلى لَيّ أعناق النصوص ليؤولوها تأويلاً يتمشى مع ضغط الواقع وثقله، ويستكثرون على دينهم أن يكون هذا منهجه وخطته.
إنهم يعمدون إلى النصوص المرحلية، فيجعلون منها نصوصاً نهائية، والى النصوص المقيدة بحالات خاصة فيجعلون منها نصوصاً مطلقة الدلالة، حتى إذا وصلوا إلى النصوص النهائية المطلقة أوّلوها وفق النصوص المقيدة المرحلية، وذلك كله كي يصلوا إلى أن الجهاد في الإسلام هو مجرد عملية دفاع عن أشخاص المسلمين، وعن دار الإسلام عندما تهاجم، وأن الإسلام يتهالك على أي عرض للمسالمة، والمسالمة معناها مجرد الكف عن مهاجمة دار الإسلام. إن الإسلام - في حسهم - يتقوقع، أو يجب أن يتقوقع داخل حدوده - في كل وقت - وليس له الحق أن يطالب الآخرين باعتناقه، ولا بالخضوع لمنهج اللّه، اللهم إلا بكلمة أو نشرة أو بيان، أما القوة المادية - الممثلة في سلطان الجاهلية على الناس - فليس للإسلام أن يهاجمها إلا أن تهاجمه فيتحرك حينئذ للدفاع"(1).
إنهم وعاظ السلاطين، ومن غير شك سيتعرون ثم ينهزمون أمام وعي الشعوب المسلمة المتنامي (ولينصرن اللّه من ينصره إن اللّه لقوي عزيز).
1- في ظلال القرآن، سيد قطب مج 3، 10/1546، دار الشروق، ط 9 .

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية