مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

القصص القرآني
القسم الأول
السيد محمد باقر الحكيم

 
على الساحة القرآنية الرحبة تلتقي كل الأفكار والآراء والمشاعر الخالصة لربها والمخلصة لدينها ورسالتها.. وما أجدر برسالة التقريب وهي تركز على مساحات الالتقاء أن تقف طويلا عند مائدة القرآن الكريم لتقدم الزاد الذي لا يختلف فيه جميع أبناء المذاهب الإسلامية.
الاهتمام بالدراسات القرآنية يجمع العقول والقلوب ويشدها نحو هدف واحد سام رفيع يسمو على الصغائر والاختلافات الجانبية.. خاصة إذا كانت هذه الدراسات تنطلق من فهم معمق منفتح لأهداف رسالة القرآن في مجالاتها البناءة المعطاءة. وهذا البحث الذي نقدم حلقته الأولى في هذا العدد نموذج لهذه الدراسات الهامة.
 
تمهيد
سوف نتناول ـ إن شاء الله ـ في بحث «القصص القرآني» عدة موضوعات نحاول من خلالها أن نكوّن صورة عامة عن هذا الموضوع القرآني العام، وفي نفس الوقت نتعرف على المنهج العام لدراسة القصة في القرآن الكريم وفهمها والاستفادة منها.
وعلى هذا الأساس فقد قسمنا البحث إلى أربعة فصول:
الفصل الأول: الفرق بين القصص القرآني وغيره:
(17)
وفي هذا الفصل نتناول جانبين:
الجانب الأول: القصة القرآنية وعلاقتها بالهدف العام من نزول القرآن.
الجانب الثاني: الخصائص الأساسية التي تتصف بها القصة بها القصة في القرآن، وهي ميزات أربع بحسب المضمون وميزة خامسة ترتبط بالأسلوب.
وأما الفصل الثاني، فهو يتناول البحث عن الأغراض المهمة للقصة في القرآن الكريم، وهذه الأغراض يمكن أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
القسم الأول: وهي الأغراض ذات «البعد الرسالي»، والتي لها علاقة بقضية الرسالات الإلهية والوحي الإلهي مثل:
أ ـ إثبات الوحي والرسالة.
ب ـ وحدة الدين والعقيدة الإلهية لجميع الأنبياء.
جـ ـ وحدة الوسائل والمناهج التي اتبعها الأنبياء، ووحدة أساليب مجابهة أقوامهم لهم.
د ـ صدق التبشير والتحذير والإنذار الإلهي الذي جاء على لسان الأنبياء.
هـ ـ بيان نعمة الله على أنبيائه ورحمته بهم.
و ـ غواية الشيطان للإنسان وعداوته الأبدية له.
ز ـ الهدف والغاية من إرسال الرسل والأنبياء.
القسم الثاني: الأغراض ذات «العبد التربوي» والتي لها علاقة بالجانب النفسي والروحي للإنسان وتزكيته وتربيته.. مثل:
أ ـ تربية الإنسان وترويضه على الإيمان بالغيب.
ب ـ تربيته على الإيمان بشمول القدرة الإلهية لكل الأشياء.
ج ـ تربية الإنسان على فعل الخير وتجنب الشر.
د ـ تربيته على الاستسلام للمشيئة الإلهية والخضوع للحكمة الإلهية والقضاء والقدر.
القسم الثالث: الأغراض ذات«البعد الاجتماعي» والتي لها علاقة بحركة المجتمع والتاريخ والعوامل المؤثرة فيه وبيان انطباق السنن التاريخية على حركة الإنسان، مثل:
(18)
أ ـ سنة ارتباط التغييرات الاجتماعية والكونية بالتغيير النفسي للإنسان.
ب ـ سنة انتصار الحق على الباطل ونصرة الله لأنبيائه، وأن نهاية المعركة تكون لصالحهم.
ج ـ سنة عموم الابتلاء والامتحان والفتنة.
د ـ سنة أن التغيير الاجتماعي لا يتحقق إلا بعد البأساء والضراء والمعاناة.
الفصل الثالث: في دراسة مجموعة من الظواهر التي اتصفت بها القصة في القرآن الكريم، مثل:
أ ـ ظاهرة التكرار.
ب ـ ظاهرة اختصاص القصص المذكورة في القرآن بأنبياء منطقة الشرق الأوسط.
ج ـ ظاهرة تأكيد القرآن لقصص بعض الأنبياء دون غيرهم كإبراهيم وموسى.
د ـ ظاهرة أسلوب القصة في القرآن الكريم.
 
الفصل الرابع: دراسة تطبيقية للقصة:
في هذه الدراسة نأخذ قصة موسى عليه السلام كنموذج للتطبيق باعتبارها أوسع قصة وردت في القرآن الكريم في مضمونها وعدد المرات التي تناول فيها القرآن الكريم هذه القصة، ويمكن أن نطبق هذه الدراسة على بقية قصص القرآن الكريم بعد دراسة هذا النموذج.
وتنقسم هذه الدراسة النموذجية إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: دراسة القصة بحسب مواضعها في القرآن الكريم، حيث نتناول تسعة عشر موضعاً لقصة موسى في القرآن الكريم، تختلف بحسب الطول والقصر.
وندرس هذه المواضع بلحاظ الأبعاد التالية:
أ ـ التنبيه إلى أسرار التكرار في القصة في كل موضع تكررت فيه.
ب ـ التنبيه إلى الغرض الذي سيقت له القصة في كل موضع.
ج ـ التنبيه إلى أسرار تغاير الأسلوب في العرض والمضمون.
(19)
د ـ بيان العلاقة بين ذكر القصة والسياق القرآني لها.
القسم الثاني: هو عرض الأحداث والمعلومات التي جاءت بها القصة في هذه المواضع المتعددة بحسب تسلسلها التاريخي المستفاد من القرآن الكريم، بحيث تتكون لدينا صورة عن التسلسل التاريخي للقصة.
القسم الثالث: دراسة تحليلية عامة مختصرة للقصة، ونأخذ في هذا التحليل جانبين:
أ ـ جانب تقسيم القصة إلى مراحل تاريخية وبيان الميزات والخصائص التي اتصفت بها كل مرحلة من هذه المراحل.
ب ـ جانب الموضوعات الفكرية أو المفاهيم التي تحدثت عنها القصة في استعراضها العام.
 
ـ 1
الفرق بين القصص القرآني وغيره
 
1 ـ القصة القرآنية والهدف العام من نزول القرآن
يمتاز القصص القرآني عن غيره من القصص في نقطة مركزية هي قضية الهدف والغرض الذي جاء من أجله القصص في القرآن، وتنعكس هذه النقطة ـ كما سوف نتبين ـ على خصائص وميزات أخرى.
فالقرآن لم يتناولها باعتبار أنها عمل «فني» مستقل في موضوعه وطريقة التعبير فيه، بحيث يكون هذا العمل الفني هو الهدف من القصة، وإن اهتم بالجانب الفني فيها.
كما أنه لم يأت بالقصة من أجل الحديث عن أخبار الماضين وتسجيل حياتهم
(20)
وشؤونهم، أو من أجل التسلية والمتعة كما يفعل المؤرخون أو القصاصون. وإنما كان الغرض من القصة في القرآن الكريم هو المساهمة في جملة الأساليب العديدة الأخرى التي استخدمها القرآن الكريم لتحقيق أهدافه وأغراضه الدينية التي جاء القرآن الكريم من أجلها، وكانت القصة القرآنية من أهم هذه الأساليب.
فالقرآن الكريم كما ذكرنا في بحثنا عن «الهدف من نزول القرآن» يمثل رسالة دينية تهدف ـ قبل كل شيء ـ إلى إيجاد عملية التغيير بأبعادها المختلفة والتي لخصناها بالأمور التالية:
1 ـ إيجاد التغيير الاجتماعي الجذري.
2 ـ بيان المنهج الصحيح للحياة الإنسانية، الذي يتم على أساسه هذا التغيير، والذي يعبّر عنه القرآن الكريم بالصراط المستقيم.
3 ـ خلق القاعدة الثورية القادرة على تحمل المسؤولية(1).
وقد كان لهذا الهدف آثار ونتائج متعددة انسحبت على أساليب ومناهج القرآن، يمكن أن نلاحظها في القضايا والظواهر القرآنية التالية:
1 ـ طريقة نزول القرآن التدريجي.
2 ـ طريقة عرض الأفكار والأحكام والقضايا والمفاهيم المختلفة.
3 ـ ربط نزول القرآن بالأحداث والوقائع والأسئلة المسماة بـ«أسباب النزول».
4 ـ ظاهرة نزول القرآن باللغة العربية دون غيرها من اللغات.
5 ـ ظاهرة اختلاف أسلوب القرآن في عرض الموضوعات في الإطناب والتفصيل أو القصر والإيجاز.
6 ـ ظاهرة أسلوب القرآن في المزج بين الصور والمشاهد المتعددة وكذلك الموضوعات المختلفة في مقطع واحد.
7 ـ ظاهرة الاختلاف في الأسلوب والمضمون بين القسم المكي من القرآن والقسم المدني منه.
___________________________________
1 ـ الهدف من نزول القرآن/21 ـ 32.
(21)
8 ـ وجود ظاهرة النسخ وظاهرة المحكم والمتشابه وظاهرة التخصيص والتقييد.
9 ـ ظاهرة تناول بعض التفاصيل في الأحكام الشرعية.
10 ـ ظاهرة طرح بعض القضايا ذات الطابع الشخصي في حياة النبي صلى الله عليه وآله.
وقد نتج عن ذلك نشوء كثير من الدراسات القرآنية ؛ مثل دراسة الناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والمكي والمدني، أسباب النزول، أو غير ذلك من الدراسات الفنية ذات العلاقة بأسلوب القرآن.
وقد تأثرت القصة في القرآن الكريم ـ أيضاً ـ بهذا الهدف العام من نزول القرآن، كما سوف نتبين، ولذا فلابد لنا حين نريد أن ندرس القصة القرآنية ونتعرف على مزاياها وخصائصها الرئيسة أن نضع أمامنا هذا الهدف القرآني العام، لنتعرف من خلاله على الأسلوب الذي اتبعه القرآن، والمضمون الذي تناوله في عرضه للقصة القرآنية مساهمة منه في تحقيق هذا الهدف.
 
2 ـ الخصائص الأساسية للقصة في القرآن
وانطلاقاً من هذه الفكرة وهذا الأساس، يمكن أن نحدد الفرق بين القصص القرآني وغيره من القصص ببعض النقاط التي تشكل الميزات والخصائص والصفات الرئيسة للقصص القرآني، ويمكن أن نجد هذه الخصائص قد أشير إليها في القرآن الكريم في قوله تعالى: ]لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون[(1).
حيث يمكن أن نفهم من هذه الآية اتصاف القصص القرآني بالصفات التالية:
الواقعية، والصدق، والحكمة، والأخلاقية، كما سوف نشير إلى ذلك إن شاء الله.
أ ـ الواقعية، بمعنى ذكر الأحداث والقضايا والصور في القصص القرآني التي
___________________________________________
1 ـ يوسف: 111.
(22)
لها علاقة بواقع الحياة الإنسانية ومتطلباتها المعاشة في مسيرة التاريخ الإنساني في مقابل أن تكون القصة إثارة وتعبيراً عن الصور أو الخيالات أو الأماني أو الرغبات التي يطمح إليها الإنسان أو يتمناها في حياته. ذلك لأن القرآن الكريم يريد من ذكر القصة وأحداثها إعادة قراءة التاريخ الإنساني والقضايا الواقعية السالفة الذي عاشته الأمم والرسالات الإلهية السابقة، ومتابعة هذه القراءة في الحاضر المعاش للإنسان للاستفادة منها والاعتبار بها في حياته وحركته ومواقفه وتطلعاته نحو المستقبل والكمالات الإلهية.
فإذا انفصلت القصة عن هذا الواقع فلا يمكن للإنسان أن يستفيد منها للحاضر والمستقبل لأنها تصبح مجرد صور وفرضيات قد تنسجم مع واقعه الفعلي وقد لا تنسجم، ولذا فقد لا يشعر بها ولا يصدق بها نفسياً وروحياً.
والإنسان ـ في مسيرته التكاملية ـ بحاجة أن ينطلق من «الواقع» نحو الطموحات والكمالات، وبدون ذلك فسوف ينفصل هذا الإنسان عن واقعه فيضيع في متاهات الآمال والتمنيات، وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحالة في الإنسان عندما تحدث عن اليهود من أهل الكتاب بقوله تعالى ]ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانّي وإن هم إلا يظنون[(1).
وعندئذ لا يصل الإنسان إلى أهدافه في النهاية، لأن من لا ينطلق من البداية فلا يبلغ النهاية.
ومن هنا نجد القرآن الكريم يحاول أن يعالج من خلال القصة الواقع الذي كان يعيشه المسلمون في زمن النبي فيذكر ما يتطابق من الأحداث مع هذا الواقع من ناحية كما يعالج الواقع الذي تعيشه الأجيال والعصور الإنسانية المستقبلية.
وهذا هو الذي يفسر لنا ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام من قولهم «إن القرآن يجري مجرى الشمس والقمر» و«انه حي لا يموت»، فإن انطباق هذا الكلام على القصص والأحداث ذات العلاقة بالأنبياء وأقوالهم أو بالتاريخ الماضي إنما هو
________________________________
1 ـ البقرة: 78.
(23)
بلحاظ هذا البعد والصفة في القصة القرآنية.
ولعل قوله تعالى في الآية السابقة من سورة يوسف ]لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب...[إشارة إلى هذه الصفة في القصص القرآني.
ب ـ الصدق في ذكر الأحداث والوقائع التاريخية التي تعرض لها الأنبياء وأقوامهم في حياتهم، وذلك في مقابل «الأكاذيب» الباطلة و«الانحرافات» في الفهم والسلوك أو «الخرافات» التي اقترنت بقصص الأنبياء في كتب العهدين المعروفين بسبب ما تعرضا له من ضياع وتحريف للحقائق عن قصد أو بدون قصد أو اشتباه أو جهل.
فما ورد في القرآن من أخبار وحوادث هي أمور وحقائق ثابتة ليس فيها كذب أو خطأ أو اشتباه، كما حصل في كتب العهدين لأن القرآن وحي الهي، والله لا يعزب عن علمه ذرة في السماء والأرض، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، والحاضر والماضي والمستقبل عنده سواء. ويؤكد هذه الحقيقة ما ورد في الآية السابقة من قوله تعالى ]ما كان حديثاًُ يفترى[.
والفرق بين هذه الصفة والصفة الأولى لابد أن يكون واضحاً، حيث يراد من الصفة الأولى «الواقعية» وهو ما يكون جارياً في حياة الناس المعاشة. والواقعي المناسب لحياة الناس قد يكون صدقاً جرى في حياة الناس، وقد يكون كذباً لم يحدث ولم يحصل في حياتهم. وأما هذه الصفة فيراد منها «الصدق» الذي قد حدث وحصل في الخارج.
وتفتح هاتان الصفتان والميزتان أمامنا باب البحث والمقارنة بين القصص القرآني وقصص العهدين سواء فيما يتعلق بالحوادث والحقائق أو فيما يتعلق بالصور والمفاهيم والسلوك ومدى انطباقها على واقع الحياة الإنسانية.
كما تفتح الصفة الثانية باب البحث عن موضوع المقارنة التاريخية بين ما ذكره القرآن الكريم من أحداث وما دلت عليه الأبحاث «الآثارية» من معلومات تاريخية.
بعض الباحثين في هذا المجال يحاول أن يتبنى في الأحداث والوقائع التي
(24)
يذكرها القرآن الكريم رأياً آخر، حيث يحتمل: أن القرآن الكريم لم يلتزم ويهتم بالتأكد من صدق الحوادث التاريخية التي يستعرضها ويتحدث عنها، بل اكتفى بذكر ما هو معروف من هذه الحوادث بين الناس والجماعات وفي الأوساط العامة التي نزل القرآن فيها، لأن هدفه من ذكر هذه الحوادث ليس هو التاريخ لها بل هدفه استخلاص العبرة منها فقط، وهو أمر يحصل حتى لو لم تكن هذه الحوادث صادقة أو دقيقة(1).
وقد ناقش العلامة الطباطبائي هذا الرأي بشيء من التفصيل فقال ما ملخصه: «إن القرآن الكريم ليس كتابة تاريخ ولا صحيفة من الصحف القصصية التخيلية، وإنما هو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ كما نص على ذلك ـ وإنه لا يقول إلا الحق، وليس بعد الحق إلا الضلال.
وليس هذا لأن مقتضى الإيمان بالله ورسوله أن ينفي عن القرآن اشتماله على الباطل والكذب، بل لأن القرآن كتاب يدعي لنفسه أنه كلام إلهي موضوع لهداية الناس إلى حقيقة سعادتهم وإلى الحق، ومن الواجب على من يفسر كتاباً هذا شأنه أن يفترضه صادقاً في حديثه مقتصراً على ما هو الحق الصريح في خبره»(2).
ج ـ التربية على الأخلاق الإنسانية العالية في مقابل التركيز على الأحاسيس والانفعالات في شخصية الإنسان والتربية على الاهتمام بالغرائز.
وإنّما اتصفت القصة في القرآن بـ«الأخلاقية» لأن المسيرة والحركة التكاملية للإنسان ـ سواء على مستوى الفرد والجماعة ـ إنما تقوم على أساس الأخلاق بعد العقيدة بالله تعالى والرسالات واليوم الآخر، بل إن الاتصاف بالأخلاق العالية هو الذي يمثل عنصر التكامل الحقيقي في حركة الإنسان الفردية والجماعية، ولذا كانت قاعدة المجتمع الإنساني في نظر الإسلام قاعدة أخلاقية، والسلوك الراقي للإنسان
_______________________________
1 ـ تفسير المنار 1/399، وكذلك الميزان 7/165 ـ 167، نقلاً عن بعض الباحثين.
2 ـ الميزان/167 ـ 168.
(25)
هو السلوك الأخلاقي. وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
لذا جاءت القصة في القرآن الكريم ذات طابع أخلاقي، وللتربية على الإيمان بالله والأخلاق مثل الإيمان بالغيب، أو على التسليم والخضوع لله تعالى وللحكمة الإلهية، أو على الأخلاق الإنسانية العالية كالصبر والإخلاص والحب لله تعالى والتضحية في سبيله والشجاعة والاستقامة في العمل والقدوة الحسنة.
ولعل هذا هو معنى «الهدى والرحمة» في الآية السابقة من سورة يوسف عليه السلام.
د ـ الحكمة، وكشف الحقائق الكونية والسنن التاريخية والقوانين والأسباب التي تتحكم أو تؤثر في مسيرة الإنسان وعلاقاته الاجتماعية، والحياة الكونية المحيطة به. حيث أن هذه الحقائق الكونية لها علاقة بمسيرة الإنسان التكاملية مادام الله تعالى أراد لهذا الإنسان أن يكون مختاراً في حياته ومستخدماً للعلم والحكمة في مسيرته.
ولذا كان من أهداف «النبوة» هو تعليم الكتاب والحكمة حتى ينتفع بها الإنسان في مسيرته، وسوف نشير إلى بعض هذه السنن والقوانين والحقائق في بحث أغراض القصة.
ولكن هنا لابد أن نشير إلى أن القرآن الكريم ـ باعتبار هذه الخصوصية ـ يقتصر في ذكر الحوادث التاريخية على ما يكون له علاقة بهذه الصفة وهذا الهدف.
ولعله لهذه الصفة أشارت الآية السابقة من سورة يوسف بقوله تعالى ]وتفصيل كل شيء[إلى قاعدة «ينفتح من كل باب ألف باب» وعلى وزن قوله تعالى ]ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين[(1) ما ورد في روايات أهل البيت عليهم السلام إنه جاء في القرآن كل شيء.
وهذا بخلاف ما لو كانت القصة في القرآن الكريم لمجرد التسلية أو لتدوين
________________________________________
1 ـ النحل: 89.
(26)
الحوادث والوقائع التاريخية، كما هو شأن كتب التاريخ، فإن ذلك قد يتطلب التوسع بذكر الحوادث والتفاصيل خصوصاً المثيرة والمسلية.
وقد حاول الشيخ محمد عبده أن يضيف سبباً آخر يفسر فيه عدم تعرض القرآن الكريم لذكر التفاصيل في القصص القرآني؛ وهو أن تسجيل الحوادث التاريخية بتفاصيلها يؤدي في النهاية إلى الوقوع في الأخطاء الكثيرة، وهذا ما تجنبه القرآن، ولذا اقتصر على ذكر الكليات والعموميات(1). ولكن هذه المحاولة غير صحيحة لسببين:
الأول: إن القرآن الكريم هو وحي إلهي ولا يمكن أن نتصور فيه الخطأ والاشتباه سواء تناول الجزئيات أو الكليات.
الثاني: إن القرآن الكريم تناول ـ أحياناً ـ بعض التفاصيل الصغيرة في قصص الأنبياء لأغراض معينة مثل تأكيد عدم صلب المسيح وكيفية ولادته أو تفاصيل الحياة الشخصية لموسى عليه السلام  في ولادته وتربيته وخروجه من مصر وهجرته ورجوعه.
يقول العلامة الطباطبائي قدس سره في تأكيد هذا الجانب من النظرية والفهم:
«والقرآن الكريم كتاب دعوة وهداية لا يتخطى عن صراطه ولو خطوة، وليس كتاب تاريخ ولا قصة، وليست مهمته مهمة الدراسة التاريخية، ولا مسلكه مسلك الفن القصصي، وليس فيه هوى ذكر الأنساب، ولا مقدرات الزمان والمكان، ولا مشخصات أُخر لا غنى للدرس التاريخي والقصة التخييلية عن إحصائها وتمثيلها»(2).
هذا كله في ميزات القصة من حيث مضمونها.
وأما الحديث عن الأسلوب فسوف نتناوله في دراسة ظواهر عامة في القصة القرآنية.
__________________________________
1 ـ المنار 2/470.
2 ـ الميزان 7/167.
(27)
ـ 2
أغراض القصة في القرآن الكريم (1)
 
لقد جاءت القصة في القرآن الكريم لتساهم في عملية التغيير الإنساني بجوانبها المتعددة، فما هي الأغراض ذات الأثر الرسالي التي استهدفتها القصة القرآنية؟
وبهذا الصدد نجد القصة القرآنية تكاد تستوعب في مضمونها وهدفها جميع الأغراض الرئيسية التي جاء من أجلها القرآن الكريم، ونظراً لكثرة هذه الأغراض وتشعبها نجد من المستحسن أن نقتصر في عرضنا لأغراض القصة في القرآن على الأغراض القرآنية المهمة لنتعرف من ذلك على أهمية ذكر القصة في القرآن الكريم والفوائد التي تترتب عليها، وتنقسم هذه الأغراض إلى أقسام ثلاثة:
الأول: الأغراض الرسالية
أ ـ إثبات الوحي والرسالة ـ وأن ما جاء به القرآن الكريم لم يكن من عند محمد صلى الله عليه وآله وإنما هو وحي أوحاه الله تعالى إليه وأنزله هداية للبشرية.
وقد أشرنا إلى هذا الهدف القرآني من القصة عند بحثنا لأعجاز القرآن الكريم حيث عرفنا: أن حديث النبي صلى الله عليه وآله عن أخبار الأمم السالفة وأنبيائهم ورسلهم بهذه الدقة والتفصيل والثقة والطمأنينة، مع ملاحظة ظروفه الثقافية والاجتماعية، كل ذلك يكشف عن حقيقة ثابتة وهي تلقيه هذه الأنباء والأخبار من مصدر غيبي، مطلع على الأسرار وما خفي من بواطن الأمور، وهذا المصدر هو الله سبحانه وتعالى.
___________________________________
1 ـ راجع في بحث أغراض القصة ما كتبه سيد قطب في كتابه التصوير الفني في القرآن/120 ـ 141 وما سجله السيد رشيد رضا في مواضع مختلفة في كتابه تفسير المنار.
 
(28)
وقد نص القرآن الكريم على أن من أهداف القصة هو هذا الغرض السامي وذلك في مقدمة بعض القصص القرآنية أو ذيلها.
فقد جاء في سورة يوسف ]نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين[(1).
كما أشار إلى ذلك في نهاية القصة من نفس السورة ]ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون[(2).
وجاء في سورة القصص بعد عرضه لقصة موسى ]وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين. ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون[(3).
وجاء في سورة آل عمران في مبدأ قصة مريم ]ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصون[(4).
وجاء في سورة «ص» قبل عرضه لقصة آدم ]قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إليّ إلاّ إنما أنا نذير مبين[(5).
وجاء في سورة هود بعد قصة نوح ]تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فأصبر إن العاقبة للمتقين[(6).
فكل هذه الآيات الكريمة وغيرها تشير إلى أن القصة إنما جاءت في القرآن تأكيداً لفكرة الوحي التي هي الفكرة الأساس في الشريعة الإسلامية.
ب ـ وحدة الدين والعقيدة لجميع الأنبياء وأن الدين كله من الله سبحانه، وأن الأساس للدين الذي جاء به الأنبياء المتعددون هو أساس واحد لا يختلف بين نبي وآخر، فالدين واحد ومصدر الدين واحد أيضاً، وجميع الأنبياء أمة واحدة تعبد هذا
__________________________________________
1 ـ يوسف: 3.
   2 ـ يوسف: 102.
3 ـ القصص: 44 ـ 46.
4 ـ آل عمران: 44.
5 ـ ص: 67 ـ 70.
6 ـ هود: 49.
(29)
الإله الواحد وتدعو إليه.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في عدة مواضع.
]ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين[(1).
وقوله تعالى ]ويوم نبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين[(2).
وقوله تعالى ]إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيّون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار...[ (3).
وقوله تعالى ]وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة[(4).
وهذا الغرض يهدف فيما يهدف إلى:
1 ـ إبراز الصلة الوثيقة بين الإسلام الحنيف وسائر الأديان الإلهية الأخرى التي دعا إليها الرسل والأنبياء الآخرون وأن الإسلام يمثل امتداداً لها ولكنه يحتل منها مركز الخاتمة التي يجب على الإنسانية أن تنتهي إليها، وبذلك يسد الطريق على الزيغ الذي يدعو إلى التمسك بالأديان السابقة، على أساس أنها حقيقة موحاة من قبل الله تعالى حيث أن الإسلام يصدقها بذلك، ولكنه جاء في نفس الوقت مهيمناً عليها ]وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه...[(5).
2 ـ مضافاً إلى ذلك تظهر الدعوة على أنها ليست بدعاً في تاريخ الرسالات وإنما هي وطيدة الصلة بها في أهدافها وأفكارها ومفاهيمها ]قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يفعل بي  ولا بكم[(6)، بل إنها تمثل امتداداً لهذه الرسالات الإلهية، وتلك الرسالات تمثل الجذر التاريخي للرسالة الإسلامية، فهي رسالة «أخلاقية» وتغييرية
________________________________
1 ـ النحل: 36.
2 ـ النحل: 89.
3 ـ المائدة:44.
4 ـ التوبة: 31.
5 ـ المائدة: 48.
6 ـ الأحقاف 9،راجع أيضاً الآيات 43 ـ 50.
(30)
لها هذا الامتداد في التاريخ الإنساني ولها هذا القدر من الأنصار والمضحيّن والمؤمنين.
وعلى أساس هذا الغرض تكرر ورود عدد من قصص الأنبياء في سورة واحدة، ومعروضة بطريقة خاصة لتؤكد هذا الارتباط الوثيق بينهم في الوحي والدعوة التي تأتي عن طريق هذا الوحي، ولنضرب لذلك مثلاً ما جاء في سورة الأنبياء:
]ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرى للمتقين. الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون، وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون[.]ولقد آتينا ابراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؟ قالوا: وجدنا آباءنا لها عابدين...[ إلى قوله: ]وأرادوا به كيداً فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين، ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلاً جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين[.]ولوطاً آتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين، وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين[.]ونوحاً إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين[.]وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث. إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين. وعلّمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من باسكم فهل أنتم شاكرون[.]ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين. ومن الشياطين من يغوصون له. ويعملون عملاً دون ذلك. وكنا لهم حافظين[.]وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين[.]وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين. وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين[.(31)
]وذا النون إذ ذهب مغضباً فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين[.]وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه. إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين[.]والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين[.]إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون[(1).
ويبدو أن القرآن الكريم يريد أن يشير إلى الغرض من هذا الاستعراض لقصص الأنبياء بالآية الخاتمة المعبرة عن هذه الوحدة العميقة الجذور في القدم للأمة المؤمنة بالاله الواحد.. وتأتي بقية الأغراض الأخرى في ثنايا هذا الاستعراض أيضاً، ولا يبعد أن يكون من أهم هذه الأغراض في هذا الاستعراض هو بيان الاشتراك بين الأنبياء في النعم الإلهية، كما هو واضح من السياق والمضمون.
ومثال آخر يوضح وحدة العقيدة الأساسية التي استهدفها الأنبياء في تاريخهم الطويل وفي نضالهم المتواصل.. هذه العقيدة التي تدعو إلى الإيمان بالله سبحانه إلهاً واحداً لا شريك له في ملكه، وذلك ما جاء في سورة الأعراف:
]لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا لله مالكم من إله غيره..[.]وإلى عاد أخاهم هودا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره...[.]وإلى مدين أخاهم شعبياً قال: يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره...[.فإن الابتداء بقصة كل نبي بهذه الطريقة يؤكد وحدة العقيدة والدين لجميع هؤلاء الأنبياء.
فالإله واحد والعقيدة واحدة والأنبياء أمة واحدة والدين واحد وكله لواحد هو الله سبحانه، وإن كان هناك أغراض أخرى قد تترتب على هذا الاستعراض كما سوف نلاحظ.
_______________________________
1 ـ الأنبياء: 48 ـ 92.
(32)
ج ـ بيان أن وسائل الأنبياء وأساليبهم في الدعوة واحدة وطريقة مجابهة قومهم لهم واستقبالهم متشابهة، وأن العوامل والأسباب والظواهر التي تواجهها الدعوة واحدة، وقد أكد القرآن الكريم في عدة مواضع على هذه الحقيقة وأشار إلى اشتراك الأنبياء في قضايا كثيرة، من ذلك قوله تعالى ]وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله...[(1).
وقوله تعالى ]وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الأنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون[(2).
وكذلك قوله تعالى ]وكم أرسلنا من نبي في الأولين وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون  [(3).
ويتحدث القرآن الكريم أحياناً عن الرسل حديثاً عاماً ليؤكد هذه الوحدة بينهم في الوسائل والأساليب.. كما جاء في سورة إبراهيم ]جاءتهم رسهلم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم[(4).
والسبب وراء تأكيد القرآن لهذه الحقيقة هو بيان صحة هذه المواقف الرسالية وأساليبها من ناحية ونتائجها وآثارها من ناحية أخرى والتثبيت عليها من ناحية ثالثة.
وتبعاً لهذه الأهداف ترد قصص كثيرة من الأنبياء مجتمعة مكررة فيها طريقة الدعوة على نحو ما جاء في سورة هود:
]ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين. أن لا تعبدوا إلا الله. إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين[.إلى أن يقول: ]ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً إن أجري إلا على الله[ وإلى أن يقولوا له: _______________________________
1 ـ آل عمران: 146.
2 ـ الأنعام:112.
3 ـ الزخرف:6 ـ 7.
4 ـ إبراهيم:9.
(33)
﴿يا نوح قد جادلتنا فأكثرت  جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين[(1).
]وإلى عاد أخاهم هوداً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون. يا قوم لا أسألكم عليه أجراً إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون؟[ إلى قوله ]قالوا يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين. إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعاً ثم لا تنظرون[  (2).
]وإلى ثمود أخاهم صالحاً قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب. قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً قبل هذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب[(3).
ومثل هذه المواقف نجدها في سورة الشعراء أيضاً.
د ـ تصديق التبشير والتحذير ـ فقد بشر الله سبحانه عباده بالرحمة والمغفرة لمن أطاعه منهم وحذرهم من العذاب الأليم لمن عصاه منهم. ومن أجل إبراز هذه البشارة والتحذير بصورة حقيقية متمثلة في الخارج، عرض القرآن الكريم لبعض الوقائع الخارجية التي تتمثل فيها البشارة والتحذير، فقد جاء في سورة الحجر التبشير والتحذير أولا ثم عرض النماذج الخارجية لذلك ثانياً:
]نبيء عبادي إني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم[.
وتصديقاً لهذه أو تلك، جاءت القصص على النحو التالي:
]ونبئهم عن ضيف إبراهيم، إذ دخلوا عليه فقالوا: سلاماً. قال: إنا منكم وجلون. قالوا: لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم[(4). وفي هذه القصة تبدو الرحمة والبشارة.
ثم ]فلما جاء آل لوط المرسلون. قال إنكم قوم منكرون. قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون وآتيناك بالحق وإنا لصادقون فأَسرِ بأهلك بقطع من الليل واتبع أدبارهم ولا يلتفت
____________________________________
1 ـ هود:25 ـ 32.
2 ـ هود:50 ـ 55.
3 ـ هود:61 ـ 62.
4 ـ الحجر: 51 ـ 53.
(34)
منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون. وقضينا إليه ذلك الأمر: أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين...[   (1)... إلخ، وفي هذه القصة تبدو «الرحمة» في جانب لوط ويبدو «العذاب الأليم» في جانب قومه المهلكين.
ثم ]ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين وآتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين فأخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون[(2)، وفي هذه القصة يبدو «العذاب الاليم» للمكذبين. وهكذا يصدق الأنباء ويبدو صدقه في هذه القصص الواقع بهذا الترتيب.
هـ ـ بيان نعمة الله على أنبيائه ورحمته بهم وتفضله عليهم وذلك توكيداً لارتباطهم وصلتهم معه، حيث أكد القرآن على هذا المفهوم في عدة مواضع، منها قوله تعالى ]ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيق[(3).
وقد جاءت بعض قصص الأنبياء لتأكيد هذا المفهوم كبعض قصص سليمان وداود وإبراهيم ومريم وعيسى وزكريا ويونس وموسى.
ذلك أن الأنبياء يتعرضون ـ عادة ـ إلى مختلف ألوان الآلام والمحن والعذاب وقد يتوهم السذج والبسطاء من الناس أن ذلك إعراض من الله تعالى عنهم، فيأتي الحديث عن هذه النعم والألطاف الإلهية بهم تأكيداً لعلاقة الله سبحانه وتعالى بهم، ولذلك نشاهد أن بعض الحلقات من قصص هؤلاء الأنبياء تبرز فيها النعمة في مواقف شتى ويكون إبرازها هو الغرض الأول منها وما سواه يأتي في هذا الموضوع عرضاً.
ومن مصاديق ذلك ما أشرنا إليه سابقاً مما ورد في سورة الأنبياء.
ومثال آخر على ذلك ما ورد في القرآن الكريم من استعراض قصص الأنبياء وفي سورة مريم حيث يختم الاستعراض بقوله تعالى ]أولئك الذين أنعم الله عليهم
____________________________________
1 ـ الحجر: 61 ـ 67.
2 ـ الحجر: 80 ـ 84.
3 ـ النساء:69.
(35)
من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمان خروا سجداً وبكي[(1).
و ـ بيان غواية الشيطان للإنسان وعداوته الأبدية له وتربصه به الدوائر والفرص وتنبه بني آدم لهذا الموقف المعين منه، ولا شك أن إبراز هذه المعاني والعلاقات بواسطة القصة يكون أوضح وأدعى للحذر والالتفات، لذا نجد قصة آدم تتكرر بأساليب مختلفة تاكيداً لهذا الغرض. بل يكاد أن يكون هذا الغرض هو الهدف الرئيسي لقصة آدم كلها.
ز ـ بيان الغايات والأهداف من إرسال الرسل والأنبياء وأن ذلك إنما هو من أجل إبلاغ رسالات الله وهداية الناس وإرشادهم وتزكيتهم وحل الاختلافات والحكم بالعدل بينهم ومحاربة الفساد في الأرض، وفوق ذلك كله هو إقامة الحجة على الناس، ولذا جاء استعراض قصص الأنبياء بشكل واسع لبيان هذه الحقائق.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الهدف من القصة في عدة مواضع.
]وكان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه...[ (2).
وقوله تعالى ]رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزاً حكيم[(3).
وقوله تعالى ]وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون[(4).فانها وردت في سياق قوله تعالى: ]ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون..[ (5).وقوله تعالى ]وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن
_____________________________
1 ـ مريم: 58.
2 ـ البقرة: 213.
3 ـ النساء: 165.
4 ـ الأنعام: 48.
5 ـ الأنعام: 42.
(36)
تأتيهم سنّة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليد حضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزو[(1).
وكذلك ما ورد في تعقيب قصص الأنبياء من سورة الشعراء من قوله تعالى ]إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم[.
الثاني: الأغراض التربوية، فقد استهدف القرآن بشكل رئيسي:
أ ـ تربية الإنسان على الإيمان بالغيب، حيث وصف المتقين الذين استهدف القرآن الكريم هدايتهم بقوله تعالى ]الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون[، وقد جاءت قصص الملائكة والجن والمعاجز الإلهية لتؤكد هذا الجانب في التربية الروحية.
ب ـ تربية الإنسان على الإيمان بالقدرة الإلهية المطلقة، كالقصص التي تذكر الخوارق مثل قصة آدم، ومولد عيسى، وقصة البقرة، وقصة إبراهيم مع الطير الذي آب إليه بعد أن جعل على كل جبل جزءاً منه، وقصة ]الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشه[ وإحياء الله له بعد موته مائه عام.
فإننا نلاحظ أن القرآن الكريم أكد في مواضع عديدة شمول هذه القدرة للأشياء كلها ومنها القدرة على إعادة خلق الإنسان مرة أخرى في يوم النشور للحساب والثواب والعقاب.
ج ـ تربية الإنسان على الأخلاق الفاضلة وفعل الخير والأعمال الصالحة وتجنبه الشر والفساد وذلك ببيان العواقب المترتبة على هذه الأفعال، كقصة ابني آدم وقصة صاحب الجنتين، وقصص بني إسرائيل بعد عصيانهم، وقصة سد مأرب وقصة أصحاب الجنة، وكذلك التربية على الصبر والصمود كقصة أصحاب الأخدود.
د ـ التربية على الاستسلام للمشيئة الإلهية والخضوع للحكمة التي أرادها الله
___________________________
1 ـ الكهف: 55 ـ 65.
(37)
سبحانه من وراء العلاقات الكونية والاجتماعية في الحياة الدنيا، والحكمة الإنسانية القريبة العاجلة، كما جاء في قصة الإيحاء إلى أم موسى أن تلقيه في اليم، وكذلك في قصة موسى التي جرت مع ]عبد من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علم[ التي وردت في سورة الكهف.. إلى آخر ذلك من الأغراض الوعظية والتربوية الأخرى التي سوف نطلع على بعضها في دراستنا التفصيلية لقصة موسى عليه السلام .
الثالث: الأغراض الاجتماعية والتاريخية
أي بيان السنن التاريخية في حركة الإنسان والمجتمع الإنساني.
فالمجتمع الإنساني يخضع في حركته وتطوره إلى قوانين وسنن، وقد تحدث القرآن الكريم عن بعض هذه القوانين والسنن وأكد على أهميتها، وجاءت القصة في القرآن الكريم من أجل تجسيد هذه السنن في الوقائع والأحداث.
ونشير هنا إلى بعض هذه السنن التي تحدث عنها القرآن الكريم مع ذكر القصص والحوادث ذات العلاقة بها.
الأولى: سنة ارتباط تغيير الأوضاع الاجتماعية والحياتية للناس بتغيير المحتوى النفسي والروحي لهم.  وقد تحث القرآن الكريم عن هذه السنة في عدة مواضع. منها قوله تعالى في سورة الأنفال ]ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[(1).
]كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم وأغرقنا آل فرعون وكلٌ كانوا ظالمين[(2).
وقوله تعالى في سورة الرعد ]إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[(3).
وقوله تعالى من سورة الأعراف ]ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون[(4).
___________________________
1 ـ الأنفال: 53.
2 ـ الأنفال: 54.
3 ـ الرعد: 11.
4 ـ الأعراف: 96.
(38)
وقوله تعالى في سياق القصص القرآني ]ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون[.
]قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين[(1).
ولعل من الأمثلة الواضحة على هذا الغرض للقصة ما جاء في سورة الأعراف حيث نلاحظ أن استعراض قصص «نوح» و«هود» و«صالح» و«لوط» و«شعيب» وما جرى لهم مع أقوامهم يختم بهذه القاعدة الكلية:
]وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء لعلهم يضّرعون ثم بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون. ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون[(2).
وكذلك ما ورد في قصة فرعون وموسى على ما أشار إليه القرآن الكريم في سورة الأنفال من قوله تعالى ]كدأب آل فرعون والذين من قبلهم..[ولكن يذكره بشكل أكثر وضوحاً في قصة موسى في سورة الأعراف التي نزلت قبل الأنفال، ويمكن أن نعرف ذلك من وجود:
1 ـ أن هذه القصة جاءت في سياق الآيات السابقة التي تحدثت عن هذه السنة.
2 ـ أن مضمون القصة يؤكد ذلك من خلال ما ورد فيها من الأمر بالصبر والاستعانة بالله ثم إصرار الفرعونيين على التكذيب والطغيان وكيف أن الله تعالى أخذ آل فرعون بالسنين، ثم وراثة الأرض لبني إسرائيل، وسوف يأتي مزيد من التوضيح لذلك عند دراسة قصة موسى عليه السلام.
الثانية: سنة انتصار الحق على الباطل، حيث أكد القرآن الكريم على هذه الحقيقة في عدة مواضع، منها قوله تعالى ]قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهرق[.
 وبهذا الصدد نجد القرآن الكريم يؤكد ـ أيضاً ـ نصرة الله تعالى للأنبياء وأن
_____________________________
1 ـ الروم: 41 ـ 42.
2 ـ الأعراف: 94 ـ 96.
(39)
نهاية المعركة بينهم وبين أقوامهم تكون لصالحهم مهما لاقوا من العنت والجور والتكذيب، حيث دلّت بعض الآيات القرآنية على ذلك بشكل مباشر ]ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون[ وكذلك قوله تعالى ]إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد[ كل ذلك تثبيتاً لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وأصحابه وتأثيراً في نفوس من يدعوهم إلى الإيمان.
وقد نص القرآن الكريم على هذا الهدف الخاص للقصة أيضاً بمثل قوله تعالى:
]وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين[(1).
وتتبعاً لهذا الغرض وردت بعض قصص الأنبياء مؤكدة على هذا الجانب، بل جاءت بعض هذه القصص مجتمعة ومختومة بمصارع من كذبوهم وقد يتكرر عرض القصة نتيجة لذلك كما جاء في سورة هود والشعراء والعنكبوت ولنضرب مثلاً من سورة العنكبوت:
]لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين وإبراهيم إذ قال لقومه: اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون[.إلى أن يقول: ]فما كان جواب قومه إلا أن قالوا: اقتلوه أو حرّقوه فأنجاه الله من النار. إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون[.]ولوطاً إذ قال لقومه. إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين...[.إلى أن يقول: ]إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء بما كانوا يفسقون ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون[.]وإلى مدين أخاهم شعبياً فقال: يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولاتعثوا في الأرض مفسدين. فكذبوه فأخذتهم الرجفة. فأصبحوا في دارهم جاثمين[.]وعاداً وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن ____________________________
1 ـ هود: 120.
(40)
السبيل وكانوا مستبصرين[.
]وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين[]فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا. وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون[(1).
فهذه هـي النـهاية الحتمية التي يريد أن يصورها القرآن الكريم لمعارضي الأنبياء والمكذبين بدعوتهم.
الثالثة:سنّة الابتلاء وعموم الامتحان.
ومن السنن الإلهية في حركة الإنسان ووجوده هي سنّة الابتلاء والامتحان وهي سنّة عامة وشاملة. قال تعالى ]الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عمل[(2).
وقال تعالى ]إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصير[(3).
كما أن الامتحان له أهدافه:
1 ـ التمحيص والتمييز، فالامتحان يسير مع الإنسان في حركته التكاملية وعندما يصبح الإنسان مؤمناً أو مجاهداً يُبتلى ويُمتحن من أجل التمحيص والتمييز:
]ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب[(4).]وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين[(5).]ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم[(6).2 ـ الكمال والتربية: ___________________________________
1 ـ العنكبوت: 14 ـ 40.
2 ـ الملك: 2.
3 ـ الإنسان: 2.
4 ـ آل عمران: 179.
5 ـ آل عمران: 140 ـ 142.
6 ـ محمد: 31.
(41)
«إن الله إذا أحب عبداً غته بالبلاء غتاً. وصب عليه البلاء صباً فلا يخرج من غم إلا وقع في غم».
3 ـ العقوبة والتذكير:
]ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون[(1).
]ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون[.
ولعل من أوضح الأمثلة في قصص القرآن التي سيقت لموضوع البلاء بجوانبه المتعددة وهذه السنة الشاملة ما ورد في سورة «المؤمنون».
]ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله مالكم من إله غيره أفلا تتقون. فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين. إن هو إلا رجل به جِنّةٌ فتربصوا به حتى حين.
قال رب انصرني بما كذبون فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون. فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين. وقل رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين[(2).
حيث يلاحظ أن هذه الآيات جاءت في سياق بيان خلق الإنسان والنعم الإلهية، وختمت بعد ذلك بقوله تعالى ]إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين[.
ثم تتحدث السورة عن الرسل الآخرين والقرون الأخرى وكيف كان الابتلاء بالرسالة والأخذ بالعذاب بعد التكذيب ثم الإشارة إلى «موسى» و«عيسى» وتخاطب الرسل بالأكل من الطيبات والعمل الصالح وتؤكد ]وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون[.
ثم يشير إلى الاختلاف بين الناس والإملاء والإمداد بالأموال والأولاد، الذي هو نوع آخر من الابتلاء والامتحان والنتائج المترتبة على ذلك
.
_________________________________
1 ـ الأعراف: 130.
2 ـ المؤمنون: 23 ـ 30.
(42)
4 ـ سنة أن النصر الإلهي لا يتحقق إلا بعد التعرض للبأساء والضراء والصبر على البلاء.
قال تعالى ]أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا أن نصر الله قريب[(1).
وقال تعالى ]حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين[(2).
وقال تعالى ]هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم. تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم. وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب[(3).
ويمكن أن نلاحظ عدة قصص في القرآن الكريم تؤكد هذه الحقيقة والسنة منها:
قصة الحواريين وقتالهم في سياق الآيات السابقة من سورة الصف ]يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [.ومنها قصة الملأ من بني إسرائيل ]ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا: ومالنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين. وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحقٌ بالملك منه ولم يؤت سعة من المال __________________________________
1  ـ البقرة: 214.
2 ـ يوسف: 110.
3 ـ  الصف: 10 ـ 13.
(43)
قال إن اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم. وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين.فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فانه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين. ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين[(1).
ومنها، قصة نوح عليه السلام في سورة هود إذ جاءت في سياق قوله تعالى: ]مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هل يستويان مثلاً أفلا تذكّرون[(2).
وكذلك ما عرفناه في سُنّة نصرة الله لأنبيائه، وما سوف نعرفه في دراستنا لقصة موسى عليه السلام  القسم الرابع عندما نتناول الموضوع الرابع عشر من سورة القصص.
______________________________
1 ـ البقرة: 246 ـ 251.
2 ـ هود: 25. 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية