مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

أسس التفسير وقواعده
علي الرباني الكلبايكاني

    

بديهي أن الهدف إذا كان أعلى، والعمل أعظم وأرفع، فطريق الحصول عليه أصعب، وشروطه أكثر وأدقّ، والهدف من التفسير هو الوقوف على معاني كلمة الله العليا، وحقائق كتابه الذي أحكمت آياته ثم فصّلت من لدن حكيم خبير، فبما أنّه نور إلهي معنوي فلا يستنير به إلاّ من أخلص دينه لله ونوّر قلبه بضياء العقيدة الحقّة والعمل الصالح، وحيث أنّه تعالى أفرغ القرآن في قالب العربية فيتوقف فهمه على معرفة وقواعدها المختصّة بها. وإذ خاطب الله سبحانه بالقرآن أبناء البشر عموماً فقد بناه على أساليب الحوار والخطاب المشترك بين الناس، وعلى هذا يجب على المفسّر التعرّف على تلك الأساليب ومعانيها، وبما أنّه نزلت آياته نجوماً وعلى سبيل التدرّج في مدّة ثلاث وعشرين سنة وفي
ظروف وأجواء مختلفة فينبغي ملاحظة جميع الآيات المتعلّقة بموضوع خاصّ أوّلاً، ورعاية الحوادث والمناسبات التي نزلت الآيات لمعالجتها وبيان حكمها ثانياً.
هذه إشارة عابرة إلى نماذج من الأسس والقواعد التي لابدّ من معرفتها والاعتناء بها في تفسير القرآن الكريم، وها نحن الآن نأخذ بشيء من البسط والتفصيل فيها:القاعدة 1 ـ خلوص العقيدة وصفاء الباطن
القرآن هو أصل المعارف الإلهية ومصدر العلوم الربانية، ولا تهدف آياته إلاّ هداية الإنسان إلى سبل السلام وسعادة الرضوان، ومقتضى قانون السنخية بين الفيض والمستفيض هو أن يوجد المفسّر أرضية صالحة في نفسه حتّى تحصل له أهلية الاستفاضة من القرآن وتعاليمه السامية. وهذا الشرط هو ما عناه المفسّرون بعلم الموهبة، يقول جلال الدين السيوطي ـ وهو يبيّن شروط التفسير ـ الخامس عشر: ـ علم الموهبة وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم وإليه أشار بحديث "من عمل بما علم ورثه الله علم مالم يعلم"، وفي هذا المعنى قوله تعالى: ?سأصرف عن آياتي الّذين يتكبرون في الأرض بغير الحق?(1)القاعدة2 ـ التدبر في مفاهيم القرآن
إنّ في القرآن درراً غالية من المفاهيم والمعارف لا تنال إلا بالتدبّر والتفكّر فيه. يقول سبحانه: ?كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوالألباب?(2) وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "هو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل، وهو الفصل ليس بالهزل، وله ظهر وبطن، فظاهره حكم وباطنه علم، ظاهره أنيق وباطنه عميق... فليجل جال بصره وليبلغ الصفة نظره... فإنّ التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور"(3).
وإلى هاتين القاعدتين أشار الإمام بدر الدين الزركشي بقوله: "أصل الوقوف على معاني القرآن التدبّر والتفكّر، واعلم أنّه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب أو كبر أو هوى أو حبّ الدنيا، أو يكون غير متحقق الإيمان، ضعيف التحقيق، وهذه كلّها حُجُبٌ وموانع وبعضها أكد من بعض"(4).القاعدة3 ـ تفسير القرآن بالقرآن
 الفحص البالغ عن الآيات التي لها صلة وارتباط وثيق بما يبحث عنه من المفاهيم والموضوعات القرآنية، سواء في جانب المفردات والتصوّرات، أو في جانب التراكيب والتصديقات، اشتهر بـ"تفسير القرآن بالقرآن" وله أثر منذ القديم في تأريخ التفسير حتّى في عصر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، وسنرجع إليه عند البحث عن نشأة التفسير وتطوّره. وفي هذا يقول الزركشي: "أحسن طريق التفسير أن يفسّر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فقد فصّل في موضع آخر، وما اختصر في مكان فإنّه قد بسط في آخر"(5).
وأصل هذا مروي عن الإمام علي ـ عليه السلام ـ حيث قال: "كتاب الله تبصرون به، وتنطقون به، وتسمعون به، وينطق بعضه ببعض، يشهد بعضه على
بعض، ولا يختلف في الله، ولا يخالف بصاحبه عن الله"(6).
ويقول العلامة الطباطبائي ـ وهو أخذ هذه القاعدة عمدة في تفسيره القيّم الميزان ـ : "وهذا من عجيب أمر القرآن، فإنّ الآية من آياته لا تكاد تصمت عن الدلالة ولا تعقم عن الإنتاج كلما ضمّت آية إلى آية مناسبة أنتجت حقيقة من أبكار الحقائق، ثمّ الآية الثالثة تصدّقها وتشهد بها، هذا شأنه وخاصّته.
والوجه في ذلك أنّ الكلام إذا كان قائماً على أساس الحقيقة وينطبق المعنى عليها تمام الانطباق لم يكذب الحقائق الآخر ولم تكذبه. فإنّ الحق مؤتلف الأجزاء ومتحد الأركان لا يبطل حقّ حقاً ولا يكذب صدق صدقاً، والباطل هو الذي ينافي الباطل، وينافي الحق، انظر إلى مغزى قوله سبحانه: ?فماذا بعد الحق إلا الضلال?،(7) فقد جعل الحقّ واحداً لا تفرّق فيه ولا تشتّت، وانظر إلى قوله تعالى: ?ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم?،(8) فقد جعل الباطل متشتتاً ومتفرقاً ومفرقاً.
وإذا كان الأمر كذلك فلا يقع بين أجزاء الحقّ اختلاف"(9).القاعدة4 ـ علم اللغة العربية
نقلوا عن مجاهد أنّه  قال: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلّم في كتاب الله إذا لم يكن عالماً بلغات العرب"،(10) فقد انزل القرآن الكريم على افصح اللغات وأكثرها تداولاً ومألوفية لنوع العرب، فلا تخفى معاني مفرداته على العرب إلاّ نادراً لبعض الجهات التي لا ينفك عنها نوع الإنسان. كما يروى في الأب والقضب في قوله تعالى: ?وعنباً وقضبا وفاكهة وأبا?(11) ولكن لمّا تشرّفت الأمم من غير العرب بالإسلام وتطورت اللغة العربية بسبب الاختلاط ومرور الزمان،
عرض لبعض الألفاظ التي كانت متداولة مأنوسة معروفة المعاني في عصر النزول أن صارت غريبة بعد ذلك في استعمال العامة بعيدة عن فهمهم لمعانيها. ولا زال ذلك يزداد يوماً فيوماً حتى سرى داؤه إلى بعض الخواص (12).
إذن فيرجع في تفسير مفردات ألفاظه الشريفة إلى ما يحصل به الاطمئنان والوثوق من مزاولة علم اللغة العربية والتدبر في موارد استعمالها مما يعرف انه من كلام العرب ولغتهم. وللتدبر في أسلوب القرآن الكريم وموارد استعماله وقراءتها دخلٌ كبيرٌ في ذلك. وأما محض الركون إلى آحاد اللغويين تعبداً بكلامهم وتقليدا لآرائهم فذاك مما لامساغ له، فإنّ الأغلب أو الغالب ممّا يستندون إليه في أقوالهم ما هو إلاّّ الاعتماد على ما يحصلون عليه بحسب أفهامهم وتتبعهم لموارد الاستعمال مع الخلط للحقيقة بالمجاز، وعدم التثبت بالقرائن ومزايا الاستعمال.
ومن شواهد ذلك قول جماعة من المفسرين في تفسير قوله تعالى: ?يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي?(13) قالوا أي مميتك. وذلك أخذا بقول اللغويين حيث جعلوا الإماتة في معنى التوفي، وكأنهم لم يمنعوا النظر إلى مادة التوفي واشتقاقها، ومحاورات القرآن الكريم والقدر الجامع بينها حتّى يضح لهم أن معناه الأخذ والاستيفاء وهو يتحقق بالإماتة وبالنوم وبالأخذ من الأرض وعالم البشر إلى عالم السماء.
هذا، ولا يخفى أنّ القرآن ناطق بأنّ المسيح ?وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم ورفعه الله إليه?(14) وأن عقيدة المسلمين كإجماعهم على أنّه  لم يمت بل رفع إلى السماء إلى أن ينزل في آخر الزمان، ومن هنا التجأ بعض من فسّر التوفي بالإماتة إلى أن يفسّر قوله تعالى: ?يا عيسى إني متوفيك?(15) أي مميتك في وقتك
بعد النزول من السماء، ولكنه لا يلائم قوله سبحانه ـ حكاية لقول عيسى ـ : ?فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم?.(16)القاعدة 5 ـ علوم التصريف والنحو والاشتقاق
أمّا التصريف، فبه تعرف الأبنية والصيغ. قال ابن فارس: ومن فاته علمه فاته المعظم. وقال الزمخشري: من بدع التفاسير قول من قال: إنّ الإمام في قوله تعالى: ?يوم ندعو كل أناس بإمامهم?(17) جمع "اُمّ"، وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم. وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف. فإن "اُمّاً" لا يجمع على "إمام".
وأمّا الاشتقاق، فلأنّ الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفين اختلف المعنى باختلافهما، كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح.(18)
وأمّا النحو فلأنّ المعنى يتغير ويختلف باختلاف الأعراب، فلابد من اعتباره. ومشهور أنّ واضع علم النحو هو أبو الأسود الدؤلي، أخذه عن الإمام علي ـ عليه السلام ـ ، وذلك بعدما شاهد من الخطأ واللحن في قراءة القرآن الكريم، كقرائة "ورسوله" بالجر، وهو مرفوع في قوله تعالى: ?إنّ  الله بريء من المشركين ورسوله?(19) وقراءة الخاطئين بالنصب وهو مرفوع في قوله تعالى: ?لا يأكله إلاّ الخاطئون?(20) فدخل أبو الأسود الدؤلي يوما على الإمام علي ـ عليه السلام ـ ورآه مفكراً فقال له: مالي أراك مفكرا يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت من بعض الناس لحنا وقد هممت أن أصنع كتابا أجمع فيه كلام العرب، فألقى إليه صحيفة فيها: الكلام كله اسم وفعل وحرف إلى آخر القصة وهي مشهورة.(21)
قال أمين الإسلام الطبرسي: "إنّ الأعراب أجلّ علوم القرآن. فإنّ إليه يفتقر كلّ بيان وهو الذي يفتح من الألفاظ الإغلاق ويستخرج من فحواها الإغلاق، إذ الأغراض كامنة فيها. فيكون هو المثير لها، والباحث عنها والمشير إليها ـ إلى أن قال: ـ وإذا كان ظاهر القرآن طبقاً لمعناه فكلّ من عرف العربية والأعراب عرف فحواه ويعلم مراد الله به قطعاً. هذا إذا كان اللفظ غير مجمل يحتاج إلى بيان، ولا محتمل لمعنيين أو معانِ".(22)القاعدة 6 ـ علوم البلاغة
علوم البلاغة هي المعاني والبيان والبديع، فبالأوّل تعرف خواصّ تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى، وبالثاني خواصّها من حيث اختلافها حسب وضوح الدلالة وخفائها، وبالثالث وجوه تحسين الكلام.
ولا يخفى أن القرآن الكريم مبني على أرقى أنحاء البلاغة العربية وتفننها بمحاسن المجاز والاستعارة والكناية والإشارة والتلميح وغير ذلك من مزايا الكلام الراقي ببلاغته ممّا كان مأنوس الفهم في عصر النزول ورواج الأدب العربي وقيام سوقه، وكان بحيث يفهم المراد منه ومزاياه بأنس الطبع ومرتكز الغريزة كلّ سامع عربي.
ولكن بعد اشتراك الأمم في بركة الإسلام وامتلاء جزيرة العرب من الأمم وتفرق العرب بالتجنيد في غير البلاد العربية تغير أسلوب الكلام العربي في عامة الناس وتبدلت مزايا الكلام وأساليب المحاورات فعاد ذلك المأنوس غريباً في العامة، وذلك الطبيعي الغريزي يحتاج في معرفته إلى ممارسة التطبع وكلفة التعلم
والتدريب في اللغة العربية وأدبها على النهج السوي.
والغفلة عن وجوه المجاز والاستعارة والكناية ونحوها في القرآن الكريم أدّت بطائقة من أهل الظاهر إلى نسبة المحالات والقبائح إلى الله سبحانه، فمن ذلك نسبة الإضلال إلى الله جل اسمه في عدة آيات من القرآن الكريم، فإنّ التعبير في ذلك بالإضلال مجاز فائق في الحس يمثل ببراعته حاجة الإنسان مع نفسه الأمارة إلى لطف الله به وعنايته في توفيقه، وينبه إلى أنّ خذلان الله للإنسان المتمرّد برفع العناية في التوفيق وإيكاله إلى نفسه شبيه بإضلاله في قوّة الأثر، ولأجل هذه المزايا الفائقة استعير الإضلال لخذلان الله لعبده المتمرّد وإيكاله إلى نفسه والعياذ بالله.
ومن ذلك الغفلة عن وجه المجاز في قوله سبحانه: ?الرحمن على العرش استوى?(23) وهو أنّ المراد بالعرش هنا هو شأن القدرة والجلال واستيلاء السلطان على الملكوت في الأزل والأبد، ولأجل إحضار هذا الشأن العظيم في أذهاننا القاصرة مثّل القرآن لتصوّرنا المحدود بتشبيه بما نعرفه ونعرف آثاره من العرش الجسماني للملك الأرضي الذي بالصعود عليه صعوداً زمنياً ينفذ سلطانه وتعمّ قدرته.
ويمكن تلخيص القول في اعتبار الشروط اللفظية المتقدمة بأن يقال: النظر في التفسير مما يتعلق باللفظ تارةً يرجع إلى أفراد الألفاظ وأخرى إلى تراكيبها.القاعدة 7 ـ أسباب النزول
إنّ الحوادث والأحداث التي وقعت أيّام الدعوة، وكذلك الحاجات
الضرورية من الأحكام والقوانين الإسلامية هي التي تسببت في نزول كثير من السور والآيات، ومعرفة هذه الأسباب يساعد إلى حد كبير في معرفة الآيات القرآنية وما فيها من المعاني والإسرار وقد اعتنى بذلك المفسرون في كتبهم وأفردوا فيه تصانيف ومن أشهرها أسباب النزول للواحدي، قال في مقدمة كتابه: "هي [أسباب النزول] أدعى ما يجب الوقوف على قصتها وبيان نزولها"(24)
هذا، ولكن المشكلة هنا هي طريق الحصول على أسباب النزول بحيث تطمئن به النفس وتسكن حتّى لا يكون تكلماً على كلام الله سبحانه بغير علم، وذلك للوقوف والإرسال في أسانيدها والاختلاف والتعارض في مداليلها، مع ظاهرة الوضع والدس في الأحاديث التي لا يكاد ينكرها أحد من أهل التحقيق. ومن هنا تردد جملة من المفسرين في قبولها والتجأوا في قولها إلى قرائن من القرآن أو غيره تؤيدها ورفضوا غيرها. يقول السيد رشيد رضا في فاتحة تفسير المنار: "وأمّا الروايات المأثورة عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وأصحابه وعلماء التابعين في التفسير فمنها ما هو ضروري أيضا، لأن ما صح من المرفوع لا يقدم عليه شيء، ويليه ما صح عن علماء الصحابة مما يتعلق بالمعاني اللغوية أو عمل عصرهم، والصحيح من هذا وذاك قليل، وأكثر التفسير بالمأثور قد سرى إلى الرواة من زنادقة اليهود والفرس ومسلمة أهل الكتاب، كما قال الحافظ ابن كثير: "وجل ذلك من قصص الرسل مع أقوالهم ـ إلى أن قال : ـ ولذلك قال الامام أحمد: ثلاثة ليس لها أصل، التفسير والملاحم والمغازي.
قال ابن تيمية: والاختلاف في التفسير على نوعين: منه ما مستنده النقل
فقط، ومنه ما يعلم بغير ذلك، والمنقول إما عن المعصوم أو غيره، ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من عيره ومنه مالا يمكن ... فما كان منها منقولا نقلا صحيحا عن النبي قبل، ومالا ـ بأن نقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ـ وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله ـ صلى الله عليه وآله ـ : "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم". وكذا ما نقل عن بعض التابعين وأن لم يذكر أنّه  أخذه من أهل الكتاب، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض، وما نقل عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين، لأن احتمال أن يكون سمعه من النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أو من بعض من سمعه منه أقوى، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين".(25)
وقال الامام البلاغي في مقدمة تفسيره (آلاء الرحمن): "وأما الرجوع في التفسير وأسباب النزول إلى أمثال عكرمة ومجاهد وعطاء وضحاك كما ملئت كتب التفسير بأقوالهم المرسلة فهو مما لا يعذر فيه المسلم في أمر دينه فيما بينه وبين الله ولا تقوم به الحجة لأن تلك الأقوال آن كانت روايات فهي مراسيل مقطوعة ولا يكون حجة من المسانيد إلاّ ما ابتني على قواعد العلم الديني الرصينة، ولو لم يكن من الصوارف عنهم إلاّ ما ذكر في كتب الرجال لأهل السنة لكفى، وإن الجرح مقدم على التعديل إذا تعارضا، فانظر إلى ميزان الذهبي من كتب الرجال أقلا".(26)
وهناك قاعدة عند علماء أصول الفقه تقضي بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعلى ضوء هذه القاعدة لا تكون أسباب النزول مخصصة لمداليل الآيات إذا كانت لها حسب المنطوق والملاك عمومية من الدلالة. وفي ذلك يقول العلامة الطباطبائي: "ما ورد من شأن النزول لا يوجب قصر الحكم على
الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها، لأن البيان عامّ والتعليل مطلق، فإنّ المدح النازل في حقّ أفراد من المؤمنين أو الذمّ النازل في حقّ آخرين معللاً بوجود صفات فيهم، لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم آخر بعدهم وهكذا".(27) وسنرجع إلى هذه القاعدة عند البحث عن قاعدة الجري والانطباق.القاعدة 8 ـ المعرفة بالأحاديث الواردة في التفسير
لا ريب أن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ كان أعلم الناس بمعاني الآيات النازلة عليه، وقد قام بتبيين مفاهيم الآيات ومقاصدها للناس، إذ كان هذا من أهداف بعثته ومقاصد رسالته، يقول سبحانه: ?وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم?(28) وهناك مجموعة من تلك الأحاديث رواها المحدثون والمفسرون في كتبهم في الحديث والتفسير، كما روى البخاري في كتابه في التفسير أربعمائة وأربع وأربعين حديثاً وهي بين المرفوع والموقوف.(29) وقد ذكر السيوطي ما حصل عليها من الروايات المصرح برفعها إلى النبي أعم من صحيحها وضعيفها في آخر الإتقان، وقال: "وإذ قد انتهى بنا القول فيما أردناه من هذا الكتاب فلنختمه بما ورد عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من التفاسير المصرح برفعها إليه، غير ما ورد من أسباب النزول، تستفاد فإنها من المهمات. وقال بعد الانتهاء من نقلها: فهذا ما حضرني من التفاسير المرفوعة المصرح برفعها، صحيحها وحسنها، ضعيفها ومرسلها ومعضلها. ولم أعوّل على الموضوعات والأباطيل"، وما ذكره من الأحاديث يقرب من ستين ومأتين حديث.(30)
وإذ كانت الأحاديث بين صحيح وضعيف، فلا يجوز الأخذ بها في تفسير الكلام الإلهي إلاّ بعد الفحص عن إسنادها والتدبر في متنها. وهذا يتوقف على الرجوع إلى كتب الرجال من جانب، والوقوف على مسلمات الشريعة والدين، وقطعيات العقل ومحكمات الكتاب المجيد من جانبٍ آخر، وقد عرفت من البحث عن أسباب النزول أقوال المحققين في خطورة الموقف في الأخذ بالأحاديث المتعلقة بالقرآن سواء في مجال أسباب النزول أو قصص الأنبياء والأمم أو غير ذلك. يقول الدكتور صبحي الصالح: "التفسير بالمأثور معرض غالبا للنقد الشديد، لأنّ الصحيح من الروايات قد اختلط بغير الصحيح، ولزنادقة اليهود والفرس نشاط لا يجهله أحد في الدس على الإسلام وتشويه تعاليمه، ولأصحاب المذاهب ولوع غريب بجمع معاني القرآن وتنزيلها وفق هواهم، فكان على المفسر بالمأثور أن يدقق في تعبيره، ويحترس في روايته، ويحتاط كثيرا في ذكر الأسانيد".(31)القاعدة 9 ـ أساليب الحوار وقوانينها العامة
إنّ هناك أساليب وقواعد عامة تبتني عليها المحاورات البشرية ولا يختص بلسان دون لسان، وذلك كالمنطوق والمفهوم، والعموم والخصوص، والمجمل والمبيّن، والمطلق والمقيد، إلى غير ذلك من المصطلحات التي تتعلّق بأساليب المحاورات الدراجة بين أبناء النوع الإنساني، وإذ كانت البيانات القرآنية حاصلة في هذه القوالب الكلامية، فمن الواجب على المفسّر أن يعتني بها ويراعيها، فلا يأخذ بالعام والمطلق قبل الفحص عن الخاص والمقيّد، وأن يقدم الظاهر على النصّ، ويفسر المتشابه دون الرجوع إلى المحكم، ولا أن يهمل أمر الناسخ
والمنسوخ، والمنطوق والمفهوم، والمجمل والمبين، وغير ذلك من القواعد العقلائية السائدة في المحاورات، والعلم الكافل بالبحث عن هذه المصطلحات والقواعد هو علم أصول الفقه، ومن هنا عدّوا علم أصول الفقه من العلوم التي تجب معرفتها على المفسر.القاعدة 10 ـ للقرآن ظهر وبطن
روي عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والأئمة الطاهرين ـ عليه السلام ـ  أن للقرآن ظاهراً وباطناً.(32)
وعلى هذا فيجب على المفسر رعاية هذين الجانبين فلا يتوقف دون الباطن، ولا يهمل الظاهر ويغفل عنه، فإنّ الأوّل يخالف الآيات الحاثة على التدبر والتعمق في الكلام الإلهي، والثاني ينافي القاعدة المتقدمة وهي أنّ البيانات القرآنية جارية على قوانين المحاورة عند البشر،، ولا شكّ أنّ المعنى المستفاد من كلام المتكلم مقصود له مالم تقم قرينة على خلافه، وأيضاً الظاهر طريق إلى الباطن. فالوصول إلى الباطن من غير التحفظ على الظاهر محال، حكى السيوطي عن بعض العلماء أنّه قال: "لا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر بل لابدّ منه أوّلاً، إذ لا يطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادّعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادّعى البلوغ إلى صدر البيت قبل أن يجاوز الباب".(33)
  
القاعدة 11 ـ التمييز ظاهر اللفظ ومألوف الذهن
لا ريب أنّ ظواهر الآيات حجة كظاهر كلام كلّ متكلم على ما جرى عليه قانون المحاورة عند عقلاء البشر. لكن هاهنا نكتة يجب التنبيه عليها لئلا يشتبه علينا الأمر في حد الظاهر كما اشتبه على جماعة من السطحيين، وهي أنّ المسميات المادية محكومة بالتغير والتبدل بحسب تبدل الحوائج في طريق التحوّل والتكامل، كما أنّ السراج أوّل ما عمله الإنسان كان إناء فيه فتيلة وشيء من الدهن تشتعل به الفتيلة للاستضائة به في الظلمة، ثمّ لم يزل يتكامل حتّى بلغ اليوم إلى السراج الكهربائي.
وكذا الميزان المعلوم أوّلاً والميزان المعلوم اليوم لقياس وزن ثقل الحرارة مثلاً، والسلاح المتخذ سلاحاً أوّل يوم والسلاح المعمول اليوم إلى غير ذلك.
فالمسميات بلغت من التغير إلى حيث فقدت جميع أجزائها السابقة، ذاتاً وصفة والاسم مع ذلك باقٍ، وليس إلاّ لأنّ المراد من التسمية إنّما هو من الشيء غايته لا شكله وصورته. فما دام غرض الوزن أو الاستضائة أو الدفاع باقياً كان اسم الميزان والسراج والسلاح وغيرها باقياً على حاله. فالمدار في صدق الاسم اشتمال المصداق على الغاية والغرض لا جمود اللفظ على صورة واحدة، فذلك مما لا مطمح فيه البتة، ولكنّ العادة والأنس منعانا ذلك.
وهذا هو الذي دعا المقلّدة من أصحاب الحديث من الحشوية والمجسمة ومن حذا حذوهم أن يجمدوا على ظواهر الآيات في التفسير، وليس في الحقيقة جمدوا على الظواهر بل هو جمود على العادة والأنس في تشخيص المصاديق.(34)القاعدة 12 ـ الجري والانطباق في آيات القرآن
مغزى هذه القاعدة يرجع إلى ما ذكرناه في القاعدة السابعة، وهو أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فأحكام القرآن تجري في الغائب كما تجري في الحاضر، وتنطبق على الماضي والمستقبل كما تنطبق على الحال، فللقرآن اتساع من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها، فالآية منه لا تختصّ بمورد النزول بل تجري في كلّ مورد يتحد مع مورد النزول ملاكاً. كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول، بل تتعداها إلى ما يناسبها. وهذا المعنى هو المسمى بجري القرآن.(35)
وقد اخذ لفظ الجري مما روي عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، كما روي عن الإمام محمد الباقر ـ عليه السلام ـ قال: ولو أنّ الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري أوّله على أخره ما دامت السماوات والأرض ولكل قومٍ آية يتلونها هم منها في خير أو شر".(36)
وعن الفضيل بن يسار قال: "سألت أبا جعفر ـ عليه السلام ـ عن هذه الرواية وما في القرآن آية إلاّ ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع، ما يعني بقوله لها ظهر وبطن؟ قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله، منه ما مضى ومنه مالم يكن بعد يجري كما يجري الشمس والقمر".(37)
وقوله ـ عليه السلام ـ  منه ما مضى ومنه ما يأتي، ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل والتأويل، فقوله: "يجري كما يجري الشمس والقمر" يجري فيهما معاً، فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الأخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله: ?يا أيها الّذينآمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين?.(38) على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الإعصار المتأخرة عن زمان نزول الآية، وهذا نوع من الانطباق.
وكانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس، وانطباق آيات المنافقين على المنافقين من المؤمنين، وهذا نوع آخر من الانطباق أدقّ من الأوّل.
وكان طابق آيات المذنبين على أهل المراقبة والذكر والحضور في تقصيرهم ومباهلتهم في ذكر الله تعالى، وهذا نوع آخر أدقّ ممّا تقدّمه.
وكانطباقها عليهم في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية، وهذا نوع آخر أدق من الجميع.
ومن هنا يظهر أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله ومقاماتهم.(39)
وعلى ضوء هذه القاعدة يتضح أن ما ورد في كثير من الروايات التفسيرية، من تفسير الآية وتطبيقها على شخص أو أشخاص، أو وصف خاص، هي في الحقيقة من قبيل الجري والانطباق وبيان المصداق للمعنى العام والشامل لا الحصر والتخصيص. كما روى أبو هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه قال في تفسير قوله تعالى: ?يزيد في الخلق ما يشاء?.(40) "هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن".(41) وروي عن الرضا ـ عليه السلام ـ  عن رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه  قال: "حسنوا القرآن بأصواتكم، فإنّ الصوت الحسن يزيد القرآن حسناً، وقرأ: يزيد في الخلق ما يشاء".(42)
وعن الصادق ـ عليه السلام ـ قال: القضاء والقدر خلقان من خلق الله يزيد في الخلق ما يشاء.(43)
ومنه ما روي في تفسير قوله تعالى: ?واستعينوا بالصبر والصلاة?(44) بأنّ الصبر يعني الصيام، فإذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فإن الله عز وجل يقول: واستعينوا بالصبر والصلاة.(45)
ومنه ما ورد عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ من تطبيق بعض المضامين القرآنية على أنفسهم كالصراط المستقيم، وأهل الذكر، والذين يعلمون، والراسخون في العلم، والذين أوتوا العلم، ونحوها.(46) قال العلامة الطباطبائي بعد نقل الروايات الواردة في تفسير قوله تعالى: ?إهدنا الصراط المستقيم?(47) بأن الصراط المستقيم هم الأئمة المعصومون ـ عليهم السلام ـ : "وفي هذه المعاني روايات أخر، وهذه الأخبار من قبيل الجري وعد المصداق للآية".(48)القاعدة 13 ـ مبدأ السياق:
السياق في اللغة بمعنى الأسلوب، سياق الكلام هو الأسلوب الذي يجري عليه، لكونه على أسلوب الوعظ والخطابة، أو الجدال والمناظرة، ونحو ذلك. فقرينة السياق تدلنا على ما يعنيه المتكلّم من كلامه ويقصده، وهذه أيضاً من القواعد السائدة على المحاورات العقلائية التي تبتنى عليها بيانات القرآن الكريم. وهي حجة للمتكلم وعليه ما لم تقم قرينة عقلية على خلافها وذلك كآية التطهير ونحوها. يقول الزركشي: "وهو ـ أي السياق ـ من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلّم، فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته، وانظر إلى قوله تعالى: ?ذق إنك أنت العزيز الكريم?(49) كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل
الحقير".(50)
وقد أفاد منه كثيرا العلامة الطباطبائي في تقويم الأقوال وأحاديث النزول وتمييز السور المكية من المدينة. قال ـ بعد الإشارة إلى دور المعرفة بمكية السور ومدنيتها وترتيب نزولها في الأبحاث المتعلقة بالدعوة النبوية وسيرها الروحي والسياسي والمدني في زمنه ـ صلى الله عليه وآله ـ وتحليل سيرته الشريفة: "الروايات ـ كما ترى ـ لا تصلح أن تنهض حجة معتمدا عليها في إثبات شيء من ذلك، على أنّ فيما بينها من التعارض ما يسقطها من الاعتبار. فالطريق المتعين لهذا الغرض هو التدبر في سياق الروايات والاستمداد بما يتحصل من القرائن والامارات الداخلية والخارجية، وعلى ذلك نجري في هذا الكتاب، والله المتسعان".(51)
فسورة (يس) ـ على سبيل المثال مكية بشهادة سياق آياتها ودلالة مضامينها إذ أنّ أغراض السورة بيان الأصول الثلاثة للدين (التوحيد والنبوة والمعاد).(52)
وعلى ضوء قاعدة السياق أيد المفسر العلامة ما روي عن ابن عباس من أن سورة الرعد مكية، ورفض أن تكون مدنية بتمامها أو بعض منها وهو المروي عن أنس بن مالك والحسن وعكرمة وقتادة، والذي يفيد أنها مكية سياق آياتها وما تشتمل عليه من المضامين  باعتبار أنّ غرض السورة بيان ما نزل على النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ من الكتاب أنّه الحق الذي لا يخالطه باطل، فإنّ الذي يشتمل عليه القرآن من كلمة الدعوة هو التوحيد الذي تدلّ عليه آيات الكون من رفع السماوات ومدّ الأرض وتسخير الشمس والقمر وأمثالها...(53)القاعدة 14 ـ مدى حجية أقوال الصحابة والتابعين:
اختلفت كلمة المحققين في مدى حجية قول الصحابي والتابعي في التفسير، أمّا الصحابة فمنهم من هو جميع أقواله في تفسير الآيات من قسم الحديث المرفوع(54)، وهذا محكي عن الحاكم في مستدركه، لكن حكي عنه في "معرفة علوم الحديث" غير ذلك، فذهب إلى أن قول الصحابي إذا لم يصرح برفعه إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فهو من قسم الحديث الموقوف(55)، وهذا مختار جماعة من العلماء. قال ابن الصلاح في مقدمته، "ما قيل من أن تفسير الصحابي حديث مسند، فإنّما ذلك في تفسير يتعلّق بسبب نزول آية يخبر به الصحابي أو نحو ذلك مما لا يمكن أن يؤخذ إلاّ عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ ولا مدخل للرأي فيه، فأمّا سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة شيء إلى الرسول ـ صلى الله عليه وآله ـ فمعدودة في الموقوفات".(56)القاعدة 17 ـ التورع عن التفسير بالرأي
روى المحدثون عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أنّه  حذر من التفسير بالرأي وأن من فسر القرآن أو تكلم فيه برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
ففي سنن الترمذي عن ابن عباس عن النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أنه قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار. قال أبو عيسى : هذا حديث
حسن.(57)
وروى هو وأبو داود عن جندب أنّه  قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ : "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ".(58)
وروي هذا المعنى عن أئمة أهل البيت ـ عليهم السلام ـ ، ففي تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ قال: "من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر وإن أخطأ فهو أبعد من السماء".(59)
وفيه عن هشام بن سالم عنه ـ عليه السلام ـ قال: "من فسر القرآن برأيه فأصاب لم يؤجر وإن أخطأ كان إثمه عليه".(60)
وقد اختلفوا في المقصود من التفسير بالرأي المذموم على أقوال:
أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير.
الثاني: التفسير المقرر للمذاهب الفاسدة، بأن يجعل المذهب أصلا، والتفسير تابعا، فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا.
الثالث: التفسير بالاستحسان والهوى.
الرابع: تفسير مشكل القرآن ومتشابهه من كل مالا يعلم إلاّ من طريق النقل اتكالا على رأيه.(61)
هذا وقد ذهبت جماعة من المحدثين إلى أن التفسير بمطلق الرأي والاجتهاد ممنوع إذا لم يرجع فيه إلى أثر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ أو الصحابة.
وهذا ينافي الآيات الحاثة على التدبر في القرآن والفحص عن معاني آياته،والروايات الكثيرة الامرة بالرجوع إلى القرآن وعرض الأخبار عليه.
والحق أن النهي عن التفسير بالرأي ـ كما يتضح بالتأمل في الروايات الناهية عنه ـ إنما هو متوجه إلى الطريق وهو أن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي من دون تفحص وتتبع في نفس القرآن والاستشهاد ببعض الآيات على بعض آخر منها.القاعدة 18 ـ التفسير طريق لا غاية:
تقدم أن التفسير شأن من شؤون الرسالة الإلهية التي تهدف هداية الناس إلى السعادة والرضوان على ضوء التعليم والبشارة والإنذار، كما أن هذا هو الغاية القصوى من نزول القرآن على النبي الكريم (ص).
فينبغي أن يتبع المفسر تلك الأهداف السامية أمام عمليته المباركة في التفسير لا أن يكون التفسير بنفسه شغلا شاغلا له وأن يستوعب الكلام في كلّ مورد بما عنده من القضايا والاصطلاحات العلمية في مختلف العلوم، فإن ذلك يحول بينه وبين الهدف الأصيل من التفسير وقد يؤدي إلى أن يجعل القرآن في خدمة صناعته العلمية دون العكس.القاعدة 19 ـ التفسير والحاجات العصرية
إنّ  للإنسان في حياته حاجات ثابتة وأخرى متطورة متغيرة، ففي حين أنّه  يحتاج إلى مسكن وملبس وبيئة في جميع الأزمنة والظروف، لكن ما يحتاج إليه في هذه المجالات قد تختلف حسب الأوضاع المختلفة كماً وكيفاً، فهناك تفاوت كبير بين ما يحتاج إليه الإنسان في أمور معاشه إذا كان يعيش في البادية أو نحوها، وبين
أن يكون قاطنا في مدينة كبيرة فيها معطيات العلم ونتائجه، وكذلك إذا قسنا البشر في عصرنا الحاضر أعني بعد النهضة العلمية إلى ما قبله نجد تطورات كثيرة في عقليته وثقافته، فهناك كثير من المسائل والمفاهيم الحيوية يطلب الإنسان المعاصر أن يتعرف عليها في ضوء معارف الدين وقوانينه لم تكن مطلوبة له في العصور القديمة بهذا الحجم والكيفية، كمسألة الحرية ونظام الحكم ومعالم الحكومة والمناسبات السياسية بين الدول المختلفة وحقوق المرأة ومدى استقلالها في الحياة العائلية والأمور الاقتصادية ونحوها.
هذا، والقرآن كتاب سماوي حجة على البشر إلى آخر الدهر، وتبيان لكل شيء له صلة بأمر الهداية. فلابد أن يجيب على هذه الأسئلة ويبين ما فيه الرشد والصواب حتّى يتبين الرشد من الغي، وأن يحيى من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، ويتم بذلك الحجة على البشر المعاصر كما في العصور السابقة إلى عصر الرسالة. ولا ريب أن القيام بهذه الرسالة العظيمة من وظائف علماء الإسلام وفي مقدمتهم المفسرين لكتاب الله العزيز.القاعدة 20 ـ الصلة بين التفسير والعلوم الحديثة:
رسالة القرآن ـ كما عرفت ـ هي الهداية أي إرائة الطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان الذي يسلكه إلى حياة طيبة في الدنيا والآخرة، وعلى هذا فمن الباطل أن ننظر إلى القرآن ككتاب علمي تكون الغاية منه تبيين القضايا العلمية وقوانينها السائدة في العالم الكوني بما فيه الموجودات الأرضية والسماوية، ومعنى قوله تعالى: ?ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء?(62) بعد ما نص علىأن الكتاب ليس له شأن إلاّ الهداية، هو انه يبين جميع ما يتوقف عليه هداية الإنسان، وخصوصا ما يعجز البشر عن الوقوف عليه.
ومع ذلك كله، ربما يتوقف غرض الهداية ـ خصوصا في الدراسات التوحيدية ـ على إظهار عظمة العالم ودقة نظمه، والقوانين السائدة عليه، فعند ذلك يصح لهذا الكتاب الهادي إلفات النظر إلى تلك المظاهر والقوانين الكونية.
ومن هذا المنطلق، نرى أن القرآن أشار إلى رموز سائدة في الكون، وسنن جارية فيه، تتطابق مع القضايا العلمية الثابتة حديثاً. _____________________
1  ـ الإتقان في علوم القرآن 4: 216، والآية من سورة الأعراف: 146.
2  ـ ص: 29.
3  ـ الكليني، الكافي، الأصول، الجزء2 ، كتاب فضل القرآن، الفصل1، الحديث2.
4   ـ الزركشي، البرهان في علوم القرآن 2: 180.
5  ـ المصدر نفسه: 175.
6  ـ نهج البلاغة، شرح الدكتور صبحي الصالح، الخطبة 133.
7  ـ يونس: 32.
8  ـ الأنعام: 153.
9  ـ الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 73.
10  ـ السيوطي، الإتقان 4: 213.
11  ـ عبس: 28 ـ 31.
12  ـ راجع آلاء الرحمن للامام البلاغي: 32 ـ 35.
13  ـ آل عمران: 55.
14  ـ "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم" النساء: 157.
15  ـ آل عمران: 55.
16  ـ المائدة: 117.
17  ـ الإسراء: 71.
18  ـ الإتقان 4: 213 ـ 214.
19  ـ البراءة: 2.
20  ـ الحاقة: 37.
21  ـ تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام، للسيد حسن الصدر: 50 ـ 51.
22  ـ مجمع البيان 1 ـ 2: 13.
23  ـ طه: 5.
24  ـ أسباب النزول، انتشارات الشريف الرضي: 4.
25  ـ الاتقان في علوم القرآن 4: 204 ـ 205.
26  ـ آلاء الرحمن، الشيخ البلاغي، قم: 45 ـ 46.
27  ـ الميزان 1: 42.
28  ـ النحل: 44.
29  ـ لاحظ صحيح البخاري، طبعة دار المعرفة، بيروت، كتاب التفسير 3: 97 ـ 223.
30  ـ الإتقان 4: 244 ـ 298.
31  ـ مباحث في علوم القرآن، انتشارات الشريف الرضي: 291.
32  ـ انظر: الإتقان 4: 224 ـ 226، البرهان 2: 169، بحار الأنوار 92: 78، الباب 8.
33  ـ الإتقان: 4: 226.
34  ـ راجع الميزان 1: 9 ـ 10.
35  ـ لاحظ نفس المصدر 3: 67.
36  ـ رواه العياشي في تفسيره، لاحظ الميزان، المصدر السابق.
37  ـ تفسير العياشي، المكتبة العلمية، طهران 1:11.
38  ـ التوبة: 119.
39  ـ الميزان 13: 73.
40  ـ فاطر: 1.
41  ـ مجمع البيان 7 ـ 8: 400.
42  ـ الميزان 17: 11، رواه عن العيون.
43  ـ كتاب التوحيد للصدوق، دار المعرفة، باب القضاء والقدر، الحديث الأول.
44  ـ البقرة: 45.
45  ـ الفروع من الكافي، الجزء 4، كتاب الصيام، الباب الأول، الحديث 7.
46  ـ راجع في ذلك: الأصول من الكافي، الجزء 1، كتاب الحجة.
47  ـ الفاتحة: 6.
48  ـ الميزان 1 :41.
49  ـ الدخان: 49.
50  ـ البرهان 2: 200.
51  ـ الميزان 13: 235.
52  ـ الميزان 17: 62.
53  ـ الميزان 11: 284 ـ 285، وراجع الطباطبائي ومنهجه في تفسيره علي الأوسي: 211 ـ 213.
54  ـ وهو ما اضيف إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم من قول أو فعل أو تقرير، كأن يقول الصحابي: سمعت النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يقول كذا، أو حدثنا رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كذا أو نحو ذلك، وكأن يقول: رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ يفعل كذا، أو فعلت بحضرة النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ كذا.
55   ـ وهو ما روي عن الصحابي من قول أو فعل أو تقرير ولم يسنده إلى النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم.
56  ـ الدكتور محمّد حسين الذهبي، التفسير والمسرون 1:94.
57  ـ سنن الترمذي، أبواب التفسير 2: 157.
58  ـ المصدر السابق، أخذنا الحديثين من التفسير والمفسرون للذهبي 1: 258، وراجع أيضا البرهان للزركشي 2: 168.
59  ـ تفسير العياشي 1: 17.
60  ـ تفسير العياشي: 1 :17.
61  ـ راجع الإتقان 4 :219، التفسير والمفسرون 1 :285، الميزان 3: 77 مباحث في علوم القرآن: 291.
62   ـ النحل: 89.

 
 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية