مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية

التقليد عند المذاهب الإسلاميّة
الشيخ سامي الغريري
القسم الأول



تقديم:
الأحكام الشرعية بعضها ما يتعلق بالعقائد أو الأصول ، وبعضها الآخر ما يتعلق بالأعمال والفروع ولا تقليد ولا اجتهاد في البديهيات والمسلمات من أحكام الدين والشريعة الإسلاميّة ، كمعرفة الله تعالى وصفاته ، والتوحيد ، ودلائل النبوة ، وما علم من الدين بالضرورة من عبادات أو معاملات ، أو محرمات كحرمة الربا والزنى مثلاً ، فهذه أمور ثابتة وقطعية لا يجوز التقليد فيها عند السنة والشيعة.
وإن الناس صنفان ، صنف يستطيع القيام بأداء ما هو بحاجة إلى أدائه بمفرده ، وصنف لا يستطيع ذلك وحده.
لذا فالعاجز يستعين بالقادر ، والذي يقوم بأداء ما عجز عن أدائه الآخر،
فلا يمكن إذن أن يكون كلّ فرد من المسلمين فقيهاً ، ولا أن يشتغل كلهم بما هو وسيلة لمعرفة الأحكام بالاجتهاد ، فلابد أن ينقطع أناس للعلم ، فالتفرغ للعلم والنبوغ فيه لا يتأتى للجميع ، وإنما نجد في كلّ أمة نوابغ في جانب معين من جوانب الحياة العلمية ، يتبعهم الناس في ترديد نظرياتهم والعمل بأقوالهم ، وثمرات جهودهم.
هناك مجتهدون يمثلون الطليعة العلمية في الأمة ، لا، الفترة الزمنية مهما امتدت بالفرد لا تتيح له فرصة تلقي علومه عن طريق الانفراد مهما أوتي ذلك الفرد من مواهب ، وعليه فلابد من الرجوع إلى العالم ليدل غيره على الطريق الذي يسلكه ويرشده إلى مبتغاه ، وإلاّ فلا أظن أن مجتمعاً مهما كانت قيمته الحضارية يستطيع أن ينهض أفراده بالاستقلال بالمعرفة التفصيلية لكل ما يتصل بحياتهم دون أن يكون فيهم علماء وآخرون غيرهم ليرجعوا فيه إلى علمائهم.
وحينما يقلد العامي ويرجع إلى المجتهد في أموره الدينية لأخذ أحكام الدين ، فليس ذلك بشيء جديد، بل ذلك مما تقتضيه طبيعة الحياة الاجتماعية، وللأخذ برأي ذوي الاختصاص.
والمجتهد هو المتخصص في الشؤون الدينية ، فلابد إذا من الرجوع إليه ، إذ ليس بالإمكان تكليف العوام للقيام بدور الوصول إلى المعرفة التفصيلية لكل ما يمت إلى شؤونهم الدينية.
قال يوسف بن عبد البر بعد أن ذكر ما ورد في ذم التقليد وفساده:
"هذا كله لغير العامة ، فأن العامة لابد لها من تقليد علمائها عندما تنزل بها النازلة لأنها لا تتبين موقع الحجة ، ولاتصل بعدم الفهم إلى علم ذلك ، لأن العلم درجات لا سبيل منها إلى أعلاها إلاّ بنيل أسفلها ، وهذا هو الحائل بين العامة،
وبين طلب الحجة " (1).
وقال الغزالي : "إن الإجماع على أن العامي مكلف بالأحكام وتكليفه طلب رتبة الاجتهاد محال ، لأنه يؤدي إلى أن ينقطع الحرث والنسل ، وتتعطل الحرف والصنائع ، ويؤدي إلى خراب الدنيا لو اشتغل الناس بجملتهم بطلب العلم ، بل إلى هلاك العلماء وخراب العالم ، وإذا استحال لم يبق إلاّ سؤال العلماء"(2).التقليد لغة :
يقال تقلد الرجال الشيء لبسه أو حمله ، وتقلدت السيف أليقت حمالته في عنقي . ومأخوذ من "قلدتها قلادة ، جعلتها في عنقها ، والقلادة ما جعل في العنق"(3).
ومنه : "قلدته السيف ألقيت حمالته في عنقه فتقلده"(4).
ومنه أيضاً : تقليد الهدي في الحج ، أي جعل القلادة في عنق ما يهدى إلى الحرم من النعم : "تقليد البدنة : أي يجعل في عنقها شيئاً يعلم أنّه  هدي"(5).
وقلده الوالي العمل فوضه إليه كأنه جعل قلادة في عنقه ، وقلده في كذا تبعه من غير نظر ، ولا تأمل"(6).
وصرحت بعض المصادر اللغوية بأن منه : (التقليد في الدين) (7).التقليد في القرآن الكريم :
لم يرد التقليد بهذا اللفظ والمادة في القرآن الكريم ، ولكن في مقام ذم عملية الاتباع للغير من غير حجة في تلك التبعية ، بل مجرد إتباع صرف ، وقد وردت عدة آيات في سور مختلفة ، من ذلك ما جاء في قوله تعالى : ?وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل تتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون?(8).
فالضمير في (لهم) يعود على كلّ من قلد الغير بلا حجة أو دليل ، بترك قول الله تعالى والرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  إلى قول الآباء مع كونهم لا يعقلون شيئاً من أمور الدين .
ويتكرر مثل هذا الذم وبما يقارب هذا المعنى في أكثر من مورد من الكتاب الكريم(9).
ولكن لدى ملاحظة هذه الموارد المذكورة يتضح لنا أنها بعيدة عن التقليد الذي نبحث عنه ، بل أريد منه التبعية للغير في أصول العقيدة من دون حجة ولا دليل ، والمعبر عنه بالتبعية العمياء. التقليد في السنة النبوية :
وقد ورد التقليد بلفظه ومادته في الأخبار والروايات بصورة لا يمكن حصرها ، ولكن نقتصر على حديث واحد في المقام ، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ 
"قلدوا الخيل ، ولا تقلدوها بالأوتار"(10) أي قلدوها طلب أعداء الدين والدفاع عن المسلمين ، ولا تقلدوها طلب أوتار الجاهلية واستعملت اللفظة في الشعر العربي .
قال لقيط الأيادي :
وقلدوا أمركم لله دركم **** حسب الذراع بأمر الحرب مضطلع
وقال شاعر آخر :
قلدوها تمائم         ****     خوف واش وحاسد التقليد في اصطلاح الأصوليين:
عرف التقليد في اصطلاح الأصوليين والفقهاء بتعاريف متعددة ومختلفة، ولكن الذي يظهر من تلك التعاريف أن نظرة الباحثين انقسمت إلى قسمين:
فالقسم الأول : لاحظ المراحل التي تسبق عمل المكلف بفتوى الغير ورأيه.
والقسم الثاني : لاحظ عمل المكلف ووصول الموضوع إلى المراحل العملية .
فالقسم الأول عرف التقليد بأنه:
(قبول قول الغير المستند إلى الاجتهاد) ، (11) أو (قبول قول الغير في الأحكام الشرعية من غير دليل على خصوصية ذلك الحكم ، أو : قبول قول الغير بلا
حجة) (12) أو (أخذ قول الغير من غير معرفة دليل) (13).
وعرفه الفاضل التوني : (قبول قول من يجوز عليه الخطأ من غير حجة ولا دليل) (14).
وقد أخرج الفاضل قبول قول المعصوم ـ عليه السلام ـ عن التقليد.
وقريب من ذلك التعاريف التي عبرت عن التقليد بالالتزام ، فالفقيه الطباطبائي (ره) يقول : (التقليد هو الالتزام بالعمل ، بقول مجتهد وإن لم يعمل بعد ، بل ولو لم يأخذ فتواه ، فإذا أخذ رسالته والتزم بما فيها كفى في تحقيق التقليد) (15).
واستدل هؤلاء بأن المكلف في مقام عمله لابد له من معذر يعتمد عليه ، فهو إما مجتهد يستند في عمله إلى اجتهاده ، أو مقلد يرجع إلى تقليد المجتهد ويرى تبعيته ، وأخذ قول المجتهد معذر له في الواقع.
إذا فلابد للمكلف في مقام عمله من سبق مرحلة عليه ، وهي إما الاجتهاد أو التقليد ، فيكون عمل العامي مسبوقاً بالتقليد دائماً ، وعمل المجتهد بالاجتهاد. وهذا هو المطلوب.
قال المحقق الخراساني : ( لا وجه لتفسيره بنفس العمل ضرورة سبقه ـ أي التقليد ـ عليه وإلاّ كان بلا تقليد) (16).
وعليه فلا وجه لتفسير التقليد وتعريفه بما يخص المراحل العملية.
وأجيب عن ذلك : (أن اللازم بحكم العقل إنّما  هو سبق تحصيل الحجة على العمل فعلاً كان أو تركاًُ ، تحصيلاً للمؤمن ، لا سبق التقليد ، لأنه بلا موجب،
فالعمل المستند إلى رأي الغير هو التقليد ولا إشكال فيه) (17).
وقيل : يلزم الدور لو أخذ العمل عنواناً إلى التقليد ، وبيانه : أن العمل حينئذٍ لا تتوقف مشروعيته على التقليد ، وفي هذه الصورة لو كان التقليد متأخراً عن العمل لكان ذلك دوراً واضحاً) (18).
وجوابه : (أن مشروعية العمل لا تتوقف على التقليد ، بل تتوقف على الإستناد إلى الحجة الدالة على المشروعية كفتوى المجتهد ، فإذا أفتى بوجوب صلاة الجمعة مثلاً وعلم بها المقلد ، يمكنه إتيان الصلاة بما أنها واجبة تعبداً ، ونفس الصلاة المأتي بها كذلك يصدق عليها عنوان التقليد فلا دور) (19).أما القسم الثاني :
فقد اختاره كلّ من عرف التقليد بأنه :
(العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة ، أو معلومة اعتماداً على رأي الغير ، أو استناداً إلى قول الغير على اختلاف في عباراتهم) (20).
وذهب إلى هذا القول جماعة من الإمامية : منهم العلامة ، والمحقق الكمباني .
أما السيد الخوئي (ره) فهو الآخر ذهب إلى هذا القول حيث قال : (التقليد عنوان من عناوين العمل وطور من أطواره ، وهو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل ، بحيث يكون قول الغير هو الذي نشأ منه العمل ) (21).
وعرفه ابن حزم : (بأنه العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة)(22).
وعرفه أبو عبدالله بن خراز البصري المالكي فقال : (التقليد : معناه في الشرع : الرجوع إلى قول لا حجة لقائله عليه ، وذلك ممنوع في الشريعة الإسلاميّة، وقال في موضع آخر : كلّ من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله بدليل يوجب ذلك ، فأنت مقلد في الدين)(23).
وجاء في التقرير والتحبير : أن التقليد هو العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج الشرعية بلا حجة منها)(24).
لكن يرد على هذا التعريف : من كان قوله حجة شرعية يدخل في عموم قولنا من غير حجة ملزمة.
وقد ذهب إلى هذا الرأي ـ أي أخذ قول الغير من غير معرفة دليله ـ كثير من علماء الجمهور ، منهم العضدي والآمدي وابن الهمام ، والخضري ، والشوكاني من الزيدية وغيرهم (25). ممن قال بمحاكاة الغير في العمل أو الترك ، كمسح بعض الرأس تقليداً للإمامية والشافعية ، وترك المقتدي قراءة الفاتحة في الصلاة أخذ بقول الإمامية والحنفية.
وقد استدل هؤلاء بأن المكلف لو عمل على طبق رأي المجتهد ، بلا التفات إلى هذا البناء ، لم يكن عاصياً وكان عمله صحيحاً ومجزي(26). وعلى القول
بأن التقليد هو الأخذ والقبول لا يكون ذلك مجزياً لعدم تحقق عنوان الأخذ ، والتزام القبول في صورة عدم الالتفات ، هذا أولاً .
وثانياً : أن التقليد مفهوماً ، جعل الغير ذا قلادة ، ومنه تقليد الهدي ، وهذا يناسب العمل استناداً إلى رأي الغير فأنه جعل العمل كالقلادة في رقبة الغير ، وأما مجرد البناء على العمل أو التعليم ، أو أخذ الرسالة فليس جعلاً لشيء في رقبته حتّى يكون جعله ذا قلادة) (27).
ويذهب الكثير من علمائنا إلى عدم الفرق بين المصطلحين (اللغوي والأصولي) بالنسبة إلى التقليد ، فالتقليد في نظر أهل اللغة ليس إلاّ تفويض الأمر إلى الغير ، كأنه جعل أعماله قلادة وشح بها عنق الغير.
فالعامي يطوق مجتهده الذي يراه جامعاً لشروط المرجع الديني بأعماله ، وهو يلقي المسؤولية المذكورة على عاتقه ، وإن التابع يجعل المتبوع مصدراً لأعماله وسبباً لها ، لذا قال السيد الخوئي (ره) : (إذا الاصطلاح الدارج واللغة متطابقة على أن التقليد : هو الاستناد إلى قول الغير في مقام العمل) (28).متى نشأ التقليد؟:
سبق أن أشرنا في أول البحث إلى حقيقة التقليد ، ـ سواء عند الإمامية أو غيرهم من المذاهب الإسلاميّة ، ـ أن العامي يتبع في مرحلة أخذ الأحكام الشرعية المجتهد الجامع للشرائط.
وقد سار الإمامية على هذا الخط، فمنذ الصدر الأول وهم قائلون بفتح باب
الاجتهاد ، ولم يقفوا في طريق من يجد في نفسه الكفاءة للتصدي إلى هذا المنصب الديني الخطير ، وبذلك كسبواتنمية الحركة الفكرية التشريعية ، ليقول المجتهد كلمته فيما يستجد كلّ يوم ، محل ابتلاء المكلفين من الحوادث ، حيث تؤكد المصادر بأن هناك صوراً من إرجاع العوام إلى اشخاص معينين كانت لهم سمة الإفتاء من قبل الأئمة ـ عليهم السلام ـ أنفسهم ، فالمسلمون وخصوصاً في تلك الأدوار البدائية لم يكونوا متقاربين في البلدان على النحو الذي نراه اليوم من التقارب وسرعة التنقل ، فلم يكن بميسور الفرد آنذاك أن يصل إلى الإمام ـ عليه السلام ـ  في كلّ وقت يريد الوصول إليه ، ليستوضح منه الحكم الشرعي ، بل ربما نجد الفرد طيلة حياته لم يشاهد إمامه ـ عليه السلام ـ على قرب ، فكيف بأهل البلدان النائية؟.
أما التقليد عند السنة فإن الأدوار التي مرّ بها يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أدوار: الدور الأول :
نشوء عملية التقليد.
لقد حدثت ظاهرة التقليد في أوائل القرن الرابع الهجري ، قال الشوكاني : (إن التقليد لم يحدث إلاّ بعد انقراض خير القرون ، ثم الّذين يلونهم ، ثم الّذين يلونهم ، وإن حدوث التمذهب بمذاهب الأئمة الأربعة ، إنّما  كان بعد انقراض عصر الأئمة الأربعة ، وإنهم كانوا على نمط من تقدمهم من السلف في هجر التقليد ، وعدم الاعتداد به ، وإن هذه المذاهب إنّما  أحدثها عوام المقلدة لأنفسهم من دون أن يأذن بها إمام من الأئمة المجتهدين)(29).
لكن الواقع يثبت أن الدور الأول للتقليد نشأ منذ زمن الخلفاء ، وفيها نرى عملية التقليد والرجوع إلى المجتهدين كانت مستمرة عندهم ، فيراجع العوام من
فيه الكفاءة من المسلمين ، وفي هذا الصدد يقول القرافي : "أنعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من يشاء من غير حجة ، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر (رض) أو قلدهما فله أن يستفتي أبا هريرة ، ومعاذ بن جبل ، وغيرهما ، ويعمل بقولهم من غير نكير ، فمن أدعى خلاف هذين الاجماعين فعليه الدليل"(30).
لكن عورض هذا الإجماع بنقل إجماع آخر يفيد منع تقليد العوام من أعيان الصحابة وغيرهم ـ نقله أمام الحرمين ـ ، حيث نقل الإمام إجماع المحققين على منع تقليد العوام من أعيان الصحابة ، بل من بعدهم الّذين سبروا ، ووضعوا، ودونوا) (31).
إذا ثبت إجماعان في مورد واحد:
أحدهما : يجيز تقليد العوام لأعيان الصحابة.
الثاني : يمنعه.
وقال عز الدين بن عبد السلام : (ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف ما أخذ إمامه ، بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً ، وهو مع ذلك يقلد فيه ، ويترك من شهد له الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم ، جموداً على تقليد إمامه ، بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسنة ، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة ، نضالاً عن مقلده) (32).
الدور الثاني :
نشطت الحركة العلمية بتعدد المجتهدين ورواة الحديث ، وبرز من بين هؤلاء من كانت له مكانة سامية بين الأفراد ، وإذا بأغلب البلدان يرجع كلّ منها إلى
إمام ينتسب إليه ويقول بما يمليه على أتباعه من أحكام ، ويصل الرقم بالمذاهب إلى أكثر من خمسين مذهباً ، كان من أبرزها ، المذهب الحنفي ، والمالكي، والشافعي ، والحنبلي ، ومن الأعيان : الشعبي ، والحسن البصري ، والأوزاعي، والثوري ، والليثي ، وأبو ثور ، وإسحاق ، والظاهري.
قال أبو شامة بهذا الصدد : (ينبغي لمن اشتغل بالفقه ألا يقتصر على مذهب إمام معين ، بل يرفع نفسه عن هذا المقام ، وينظر في مذهب كلّ إمام ، ويعتقد في كلّ مسألة صحة ما كان أقرب إلى الأدلة ـ الكتاب والسنة المحكمة ـ وذلك سهل عليه ، إذا كان قد أتقن معظم العلوم المتقدمة ـ أي علوم الاجتهاد ـ وليتجنب التعصب والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة ، فأنها مضيعة للزمان ، ولصفوة مكدرة)(33). الدور الثالث:
فكرة حصر المذاهب:
كان النزاع بين الطوائف نزاعاً لا يتعدى حدود القول في النقض لبعض ماينهجه الآخر ، وسارت الأمور على هذا المنوال ، ولكن حركة الانشقاق تتسع ، وروح الاختلاف تسري في المجتمع بسرعة ، لقوة الدافع السياسي الذي يحاول أن لا تتفق الأمة على رأي واحد ، فهو يعمل على إحياء العصبية ، إذ لا حياة للنظام الملكي إلاّ بها) (34).
وبالتالي تنحصر وتقف عجلة التمذهب على المذاهب الأربعة المعروفة وكان للقضاة والمفتين الضلوع الأكبر في تركيز كلّ واحد من هذه المذاهب الأربعة .
أما لو لم نقل بمقالتهم هذه ، وقلنا إن باب الاجتهاد مفتوح عند الجمهور
كما ذهب إليه المتأخرون وأنهم أجمعوا كما أدعى القرافي وغيره على أن من أسلم فله أن يقلد من يشاء ... ، فحينئذٍ يبطل الخطر الذي ضرب على عوامهم ، وعليه فلكل مكلف أن يقلد من يشاء ، بعد الفحص عن ذلك المجتهد وحصول الشروط المطلوبة فيه ، والتي تؤهله لهذا المنصب العلمي.
ولكن السؤال المطروح هو إذا كان طريق العامي للاجتهاد هو التقليد ، فهل يجب على المقلد التزام مذهب معين في كلّ واقعة أم لا ؟ .
اختلف المتفقون على وجوب التقليد على العامي على مذاهب : (35).
قال بعضهم : يجب التزام مذهب إمام معين ، لأنه اعتقد أنّه  حق ، فيجب عليه العمل بمقتضى اعتقاده.
وقال آخرون : لا يجب تقليد إمام معين في كلّ المسائل والحوادث التي تعرض ، بل يجوز أن يقلد أي مجتهد شاء ، فلو التزم مذهباً معيناً كمذهب أبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما ، لا يلزمه الاستمرار عليه ، بل يجوز له الانتقال كلياً منه إلى مذهب آخر ولو بعد العمل ، لأنه لا واجب إلاّ ما أوجبه الله ورسوله ، فأن الله تعالى لم يوجب عليه اتباع مذهب معين ، وإنّما أو جب الله اتباع العلماء من غير تخصيص بعالم دون آخر ، ولأن المستفتين في عصر الصحابة والتابعين لم يكونوا ملتزمين بمذهب معين ، والقول بالتزام مذهب يؤدي إلى الحرج والضيق.
وفصل الآمدي وابن الهمام فقالا : إن عمل بما التزمه في بعض المسائل بمذهب معين ، فلا يجوز له تقليد الغير فيها ، وإن لم يعمل في بعضها الآخر جاز له اتباع غيره فيها (36).
والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه أيضاً هو : هل يجوز للملتزم بمذهب معين مخالفة إمامه ولو جزئياً أم لا ؟.
فإذا التزم العامي مذهباً معيناً فللعلماء فيه أقوال:
قيل : لا يجوز مطلقاً.
وقيل : يجوز مطلقاً.
وقيل : بالتفصيل بين أن يكون قد عمل بالمسألة فلا يجوز له الانتقال ، أو لا يكون فيجوز له ذلك.
وقيل : بتفصيل آخر بين أن يكون بعد حدوث الحادثة فلا يجوز ، وإلاّ جاز ، وقيل : بغيره(37).
وينطرح سؤال ثالث آخر إذا رجحنا عدم الالتزام بمذهب معين ، فهل ينحصر الأمر بالمذاهب الأربعة أو يجوز تقليد غيرهم؟.
أيضاً اختلف العلماء في الجواب على هذا السؤال:
فقال أكثر المتأخرين : لا يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة من المجتهدين ، لأن مذاهبهم غير مدونة ولا مضبوطة ، مما يجعل المقلد المقتدى به عرضة للخطأ والتأويل فيها بخلاف المذاهب الأربعة ، فأنها منقحة معروفة مضبوطة بسبب
تدوينها (38).
قال إمام الحرمين : اجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذاهب أعيان الصحابة (رض) ، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الّذين سبروا فنظروا ، وبوبوا الأبواب ، وذكروا أوضاع المسائل ، لأنهم أوضحوا طرق النظر، وهذبوا المسائل وبينوها وجمعوها.
وقال ابن الصلاح : يتعين تقليد الأئمة الأربعة دون غيرهم ، لأن مذاهب الأربعة قد انتشرت ، وعلم تقييد مطلقها وتخصيص عامها ، ونشرت فروعها ، بخلاف مذاهب غيرهم .
لكن هذا الرأي يعتمد في رفضه جواز التقليد على مجرد التدوين وثبوت الرأي ، وحيث يصح تقليد غير الأربعة إذا صحت نسبته لصاحبه.
وقال آخرون : يجوز تقليد غير الأئمة الأربعة في غير الإفناء ، فقال شاعرهم: وجائز تقليد غير الأربعة**** في غير إفتاء وفي هذا سعة (39)
  
قال الشيخ سليمان البجيرمي الشافعي : لا يجوز تقليد غير الأربعة في إفتاء أو قضاء.
وقال قسم آخر ومنهم العز بن عبد السلام : إن المدار على ثبوت المذهب عند المقلد غلبة الظن على صحته عنده ، فحيث عنده مذهب من المذاهب صح له أن يقلده ، ولو كان صاحب المذهب من غير الأئمة الأربعة.
وقال قسم رابع : وخلاصة القول : إن العامي لا مجال له في قضية تقليد غير الأئمة الأربعة لأن مذهبه مذهب مفتيه ، وإنّما  المجال لمن كان من أهل الترجيح والنظر ، فهؤلاء إذا ظفروا بقول لأحد الأئمة غير الأربعة عرضوه على أدلة الشريعة ، فإذا وجدوا دليله من الكتاب أو السنة الصحيحة أقوى من دليل غيره ينبغي أن يذهبوا إليه ، ويرجحوه بتحكيم قواعد الاستنباط والمعارضة والترجيح المعتبرة في علم الأصول(40).أقسام التقليد :
ينقسم التقليد إلى قسمين : عام، وخاص:
التقليد بالمعنى العام:
ويراد به ما يعطي نتيجه عملية المحاكات ، فإن الإنسان ربما يحاكي عمل شخص آخر يشابهه في فعله ، سواء كان ذلك عن التفات أم لا ؟.
والمحاكات لغة : (المشابهة ، وفعل مثل فعله وهيئته ، يقال : فلان يحكي الشمس ويحاكيها) (41).
والمحاكات كما يراها علماء الاجتماع ، هي عملية مفاجئة تحدث من غير رؤية ، ومن غير إرادة جازمة ، بل هي مطاوعة طبيعية بفعل تأثير متحرك آخر، كتثاؤب الواحد إذا تثاءب الآخر.
ويطلق على هذه العملية بـ (التقليد العام) فيقال فلان مقلد لفلان في الظهور أمام المجتمع والأخذ بعاداته الخاصة أو بمظهره الخارجي ، وحتى في طريقة الألفاظ وتكلمها.
وبهذا تلتقي عملية المحاكاة مع عملية التقليد بحسب المفهوم اللغوي فيقال : قلده في كذا ، تبعه من غير نظر ، وتأمل ، وهو الذي يسمى بـ (التقليد المذموم أو المحرم) ، وهو على ثلاثة أنحاء:
الأول : ما تضمن الإعراض عما أنزل الله ، وعدم الالتفات إليه ، كتقليد الآباء والرؤساء.
الثاني : تقليد من لا يعلم المقلد أنّه  أهل لأن يؤخذ بقوله.
الثالث: التقليد بعد ظهور الحجة ، وقيام الدليل عند شخص على خلاف قول المقلد .
وهذه الأنواع هي التي يحمل عليها ما ورد من آيات وأحاديث في ذم التقليد.
فقد نهى العلماء ـ الأئمة الأربعة ـ عن تقليدهم وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة.
فقد قال الشافعي : مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل ، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري(42).
وقال أحمد : لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي ، وخذ من حيث أخذوا ، وقال : من قلة فقه الرجل أن يقلد دينة الرجال(43).
وقال ابن حزم : (أما من اعتقد قولاً بغير اجتهاد أصلاً ، لكن اتباعاً لمن نشأ
بينهم ، فهو مقلد مذموم ، بيقين أصاب أم اخطأ ، وهو آثم على كلّ حال ، عاص لله تعالى بذلك ، لأنه لم يقصده من حيث أمره من اتباع النصوص(44).
وقال أبو يوسف : لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتّى يعلم من أين قلناه.
وقال السيوطي : (مازال السلف والخلف يأمرون بالاجتهاد ويحضون عليه ، وينهون عن التقليد ويذمونه ويكرهونه ، وقد صنف جماعة في ذم التقليد كالمزني ، وابن حزم ، وابن عبد البر ، وأبي شامة ، وابن القيم الجوزية ، وصاحب القاموس المحيط) (45).
وقال القرافي : (مذهب مالك وجمهور العلماء وجوب الاجتهاد وإبطال التقليد) (46).التقليد بالمعنى الخاص :
المراد به : السير في الأحكام الدينية على طبق ما وصل إليه اجتهاد شخص آخر ، وإن وجدت فيه كافة الشروط التي تخول العوام الرجوع إليه ، ومن دون الوقوف على مدارك الحكم الذي اجتهد فيه المتبرع ، ويخرج بهذا التقليد الخاص عن نطاق المحاكات العامة ، والتي قد تصدر من الشخص بدون إرادة جازمة كما قلنا سابقاً في التثاؤب ، أو رد التحية الصادرة من شخص مشغول الذهن ، وهذا هو التقليد المحمود ، لأن العاجز عن الاجتهاد لم يقدر على التوصل إلى الحكم الشرعي بنفسه ، فلم يبق أمامه إلاّ اتباع من يرشده من أهل النظر والاجتهاد إلى
ما يجب عليه من التكليف .
وقد فرق ابن القيم بينهما فقال رداً على من يقول بتقليد الأئمة : (وأن مقلدهم على حق وهدى قطعاً ، لأنهم سالكون خلفهم ، وسلوكهم خلفهم مبطل لتقليدهم لهم طبعاً إن طريقتهم كانت اتباع الحجة والنهي عن التقليد والبعد عن تقليدهم ، فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه ، ونهى الله عنه ورسوله قبلهم ، فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم ، وإنّما  يكون على طريقتهم من اتبع الحجة وانقاد للدليل ، ولم يتخذ رجلاً بعينه سوى الرسول يجعله مختاراً على الكتاب والسنة بعرضهما على قوله ، وبهذا يظهر بطلان قول من فهم أن التقليد اتباع ، بل هو مخالف للإتباع ، وقد فرق الله ورسوله بينهما كما فرقت الحقائق بينهما ، فإن الاتباع سلوك طريق المتبع والآتيان بمثل ما أتى به) (47).حكم التقليد :
نكاد أن نقطع بحصول الاتفاق عموماً (48) بين المذاهب الإسلاميّة ما عدا من شذ منهم (49) على أن مجال التقليد هو في الأحكام الفرعية دون الأصول .
فأحكام القضايا العملية التي تثبت بطريق ظني هي المجال الذي يصح فيه الاجتهاد والتقليد ، وقد اختلفت كلمة المسلمين في حكم التقليد في المسائل الشرعية على أقوال ، وبالإمكان حصر تلك الأقوال وإرجاعها إلى ثلاثة :
الأول : القول بالتحريم مطلقاً وعلى رأس هذا الاتجاه ابن حزم الظاهري،
والإمام الشافعي ، والشوكاني، ومعتزلة بغداد ، وعلماء حلب من الإمامية ، وابن القيم والإخباريون من الإمامية(50).
قال ابن حزم : لا (يحل لأحد أن يقلد أحداً ، لاحياً ولا ميتاً ، ومن أدعى وجوب تقليد العامي للمفتي فقد أدعى الباطل ، وقال قولاً لم يأت به قط نص قرآني ولا سنة ولا إجماع ولا قياس).
أما الشافعي فقد روي أنّه  رفض التقليد وقال : (يثق بما يطلع من نصوص ، وما يستفيد من أدلة الشرع أقوى من تقليد غيره ، ولا سيما إن كان هو أفضل الجماعة ويستطيع بحث الأدلة).
ويتبين من قول الشافعي أمران:
(أ‌) أن هناك ضعيفاً وقوياً ، الضعيف أن يقلد غيره ، والأقوى أن يستفيد من أدلة الشرع.
(ب‌) إذا كان المقلد يستطيع بحث الأدلة لأنه أفضل الجماعة ، يكون أوفق له وأفضل أن يأخذ من الدليل.
وقال الشافعي في منع التقليد : (مثل الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل ، يحمل حزمة حطب وفيها أفعى تلدغه ، وهو لا يدري) (51).
لكن الشافعي صرح بالتقليد فقال : في الضبع بعير ، قلته تقليداً لعمر ، وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب ، فقلته تقليداً لضمان ، ثم قال الشافعي في الصحابة : رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا) (52).
فنرى أن الشافعي قد رويت عنه أربع روايات تفضل وترجح المنع ، وروايتان تمنع التقليد، ورواية تجيزه ، ولا ندري بأي الروايات نأخذ ، وبالتالي لا نملك إلاّ التوقف.
أما دليل ابن حزم في منع التقليد طريقان:
1 ـ رده أدلة القائلين بالتقليد.
2 ـ استدلاله بالقرآن على منع التقليد.
أما رده القائلين بالتقليد بعد إيراد أدلتهم فقط فقد قال : أحتج بعضهم ولم يسم أحداً منهم بقوله تعالى (ولينذروا قومهم) (53) قالوا : أوجب الله تعالى على الناس قبول نذارة المنذر لهم ، وهذا أمر منه تعالى بتقليد العامي للعالم ، ثم رد ابن حزم على ذلك بقوله : (لا حجة لهم فيه لأن الله تعالى لم يأمر قط بقبول ما قال المنذر مطلقاً ، ولكنه يقال : إنما أمر بقبول ما أخذ ذلك المنذر، في تفقههم في الدين عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  وعن الله عزّوجلّ ، لا ما اخترع مخترع من عند نفسه ، ولا ما زاد في الدين من قبل رأيه ، ومن تأول ذلك على الله عزّوجلّ وأجاز لأحد من المخلوقين أن يشرع شريعة غير منقولة عن الله ، فقد كفر وحل دمه وماله ، وقد سمى الله من فعل ذلك مفترياً ، فقال تعالى : (الله أذن لكم أم على الله تفترون) (54).
فإن قالوا : (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (55).
قلنا صدق الله العظيم وكذب محرف قول الله تعالى ، فأن أهل الذكر هم رواة السنن عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  والعلماء بأحكام القرآن ، برهان
ذلك قوله تعالى : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (56) فصح أن الله تعالى إنّما  أمرنا بسؤالهم ليخبرونا بما عندهم من القرآن والسنن ، لا لأن يشرعوا لنا في الدين ما لم يأذن به الله تعالى بآرائهم الفاسدة وظنونهم الكاذبة) (57).
وعلى كلّ حال فإن التقليد في الأحكام الشرعية غير جائز لكل أحد ، ولابد لكل مكلف أن يجتهد لنفسه ، وبمقدار طاقته في الوصول إلى الحكم الشرعي ، وهذا قول الظاهرية ، ومعتزلة بغداد ، وجماعة من الإمامية(58).
والظاهر أنهم حصروا الاجتهاد فيمن يقتصر في استنباطه على الكتاب والسنة(59).
وقال ابن حزم أيضاً في كتابه (النبذ الكافية في علم الأصول) : (فالتقليد كله حرام في جميع الشرائع أولها عن آخرها من التوحيد ، والنبوة ، والقدر، والأيمان والوعيد ، والإمامة ، والمفاضلة ، وجميع الأحكام والعبادات) (60).النظر والاجتهاد في العقائد والأصول حرام : (61)
استدل الجمهور على ذلك بأدلة منها :
(1) إن النظر واجب ، وفي التقليد ترك الواجب ، فلا يجوز ، ودليل وجوب
النظر أنّه  لما نزل قوله تعالى : (إن في خلق السموات والأرض) (62) قال ـ عليه السلام ـ  : (ويل لمن قرأها ، ولم يتفكر فيها) (63).
فالرسول توعد على ترك النظر والتفكر في آيات الله ، فدل على وجوب النظر.
(2) أجمعت الأمة على وجوب معرفة الله تعالى ، وما يجوز عليه ، ومالا يجوز ، وذلك لا يحصل بالتقليد ، لأن المقلد ليس معه إلاّ الأخذ بقول من يقلده ، ولا يدري أهو الصواب أم الخطأ وقد يكذب المقلد ، فيضل مقلده.
وقد استدل المجوزون للتقليد بأدلة أخرى منها:
1 ـ لو كان النظر واجباً ، لفعله الصحابة وأمروابه ، ولكنهم لم يفعلوا ، ولو فعلوه لنقل عنهم ، كما نقل النظر في المسائل الفقهية الفرعية.
وأجيب عنه بمنع القول بأنهم لم ينظروا ، فقد كانت معرفتهم بالعقائد مبنية على الدليل ، وكل ما في الأمر أنّه  لم توجد لديهم حلقات للبحث لاكتفائهم بصفاء أذهانهم ، واعتمادهم على السليقة في الفهم ومشاهدتهم الوحي.
وأيضاً لا يسلم الباحث أنهم لم يكونوا مأمورين بالنظر ، إذ ليس المراد من النظر تحرير المسائل على قواعد المنطق من الأقيسة والأشكال المعروفة ، بل يكفي ما يفيد الطمأنينة ، ومن أصغى إلى عامة الناس يجد أدلة كافية منهم على صحة عقيدتهم يستمدونها من الوقائع والمشاهدات ، حتّى أنّه  لا يكاد يوجد مقلد في الإيمان ، لأن محسوسات الكون وتقلبات الطبيعة تعطي دليلاً سريعاً على وجود الخالق المبدع ، لدرجة أن كثيراً من العوام يكون الإيمان في صدره كالجبال
الراسيات .
2 ـ لو كان النظر في معرفة الله تعالى واجباً لأدى إلى الدور ، لأن وجوب النظر المأمور به من الله تعالى متوقف على معرفة الله ، ومعرفة الله متوقفة على النظر.
والجواب : إنه لا وجود للدور ، لأن وجوب النظر الشرعي متوقف على معرفة الله بوجه ما ، ومعرفة الله متوقفة على النظر بوجه أكمل ، فتكون المعرفة التي يتوقف عليها وجوب النظر غير المعرفة التي تنتج من النظر.
أما الّذين أوجبوا التقليد ، وحرموا النظر فاحتجوا بدليلين:
1 ـ إن النظر مظنة الوقوع في الشبهات ، والتردي في الضلالات واضطراب الآراء ، بخلاف التقليد ، فإنه طريق آمن من الأوهام والضلالات ، فكان سلوك ما هو اقرب إلى السلامة أولى ، فيجب المصير إليه ، أي إلى التقليد.
الجواب : إن المحذور اللازم من النظر لازم في التقليد ، فكان هذا الدليل معارضاً بمثله ، بدليل أن الله نص على قوم ، بتقليدهم أباءهم ، حيث ذمهم بما قالوا : (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) (64).
و أيضاً إن النظر الموجب للشكوك والشبهات هو النظر الفاسد ، والمطلوب هنا النظر الصحيح ، والنظر الصحيح مأمون العاقبة(65).
2 ـ إن النظر منهي عنه بالكتاب والسنة ، قال الله تعالى : ?ما يجادل في آيات الله إلاّ الّذين كفروا? (66).
والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال فكان منهياً عنه ، والنبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ 
نهي الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر، وقال : (إنّما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا) (67).
وأجيب عن الآية بأن النهي فيها عن الجدال بالباطل ، بدليل قوله سبحانه وتعالى : ?وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق? (68) وأما الجدال بالحق فهو جائز لقوله سبحانه وتعالى : ?وجادلهم بالتي هي أحسن?(69) فلو كان الجدال بالحق منهياً عنه ، لما كان مأموراً به ، وقد أثنى الله على الناظرين بقوله تعالى : ?ويتفكرون في خلق السموات والأرض?(70) وأما نهي الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  عن الخوض في القدر فلأنه كان قد وقفهم على النص ، فمنعهم عن المماراة فيه ، (71) فكان جدالهم في القدر ليس من الحق .
قال الّذين جوزوا التقليد أيضاً في الأصول : إن النظر لو كان واجباً لفعله الصحابة وأمروا به ، ولكنهم لم يفعلوا ، ولو فعلوا لنقل عنهم كما نقل النظر في الفروع.
ودليل الجمهور في منع التقليد في الأصول : انعقاد الإجماع على وجوب العلم بالله تعالى ، ولا يحصل ذلك بالتقليد ، لإمكان كذب المقلد إذ أن صدقه إنّما يعرف بالضرورة أو النظر ، والأول منتف ، وإذا علم ارتفع التقليد.
أما ابن عربي فقد قال :
التقليد لا يجوز عندنا ، لا تقليد حي ولا تقيد ميت ، ويتعين على السائل أن
يقول له : (أريد حكم الله أو حكم رسوله في هذه المسألة) (72).
وقد روى المزني عن الشافعي في أول مختصره أنّه  لم يزل ينهى عن تقليده وتقليد غيره لذلك عقب الشوكاني قائلاً : (وبهذا نعلم أن المنع لم يكن إجماعاً فهو مذهب الجمهور) (73).
وقد استدل هؤلاء بالآيات الكريمة التي يمكن تقسيمها إلى قسمين :
الأول : ما ورد بلسان ذم اتباع الغير في السير على ما ذهب إليه.
الثاني : ما ورد بلسان النهي عن اتباع الظن والعمل به.
أما القسم الأول فقد اشتمل على عدة آياتٍ هي كما يلي: الآية الأولى :
وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون?(74).
نزلت هذه الآية في كفار مكة من أتباع الآباء ، ويرى المانع من التقليد أن التبكيت الوارد في الآية ، إنّما  هو لأن الشارع المقدس بمقت هذه الطريقة من اتباع الغير والسير في ركابه، وهذا أمر جار في كلّ تقليد للغير ، وهؤلاء يتبعون شيئاً ثابتاً على الزمن أخذه الآباء عن الأجداد ، فهو موثق بشهادة هؤلاء الآباء والأجداد.
والجواب : أننا لو لاحظنا الجانب التفسيري لهذه الآية الكريمة ، لرأينا أنها تتضمن حكاية حال النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ مع اليهود ، فعن ابن عباس قال : "دعا النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  اليهود إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما
وجدنا عليه آباءنا فهم أعلم منا ، فنزلت الآية الكريمة.
وفي رواية الضحاك أنها نزلت في كفار قريش ، فإذا كان الّذين دعوا إلى الإسلام ، اليهود أو الكفار أو الناس على بعض التفاسير ، فأنها أجنبية عما نحن بصدده من التقليد في الأحكام الشرعية ، علماً بأن الآية منصبة على الردع عن التقليد من غير حجة ، أي عن رجوع الجاهل إلى الجاهل لا رجوع الجاهل إلى العالم (75).
بالإضافة إلى ذلك رد عليهم القرآن دليلهم فقال : لقد ضل الآباء ، وشردوا عن طريق الحق ، واتبعوا الهوى ، فأنتم الآن تسيرون على نفس النهج ونفس الطريق ، وأولى من هذا كله اتباع ما أنزل الله على نبيه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  لأن اتباع الآباء كان نكاء للمفسدين والأبالسة.
وصدق الله العظيم حينما يحكي ذلك فيقول : ?وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها?(76).
أي أمرهم بها عن طريق أجدادهم الّذين يدعون أنهم على ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ  ، فدعاهم تقليدهم للآباء أن ينسبوا إلى الله ما لم يقل أو يأمر به.
وعندما خاطبهم الله سبحانه وتعالى : ?وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباءهم لا يعلمون شيئاً ولا يهتدون?(77).
فأبوا قبولها وقالوا : ما وجدنا عليه آباءنا وكبراءنا ، ولكن أجابهم الله تعالى جواباً كافياً .. حسبنا الله ونعم الوكيل (78).
والجواب على هذه الآية الكريمة أنها وردت تعقيباً على آية أخرى سبقتها وهي قوله تعالى : ?ما جعل الله من بحيرة ولاسائبة ولا وصيلة? (79).
كانت العرب في زمن الجاهلية إذا أنتجت عندهم الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكراً ، بحروا أذنها ـ أي شقوها ـ وامتنعوا من ركوبها ونحرها فهي بحيرة ، وكذلك السائبة الوصيلة والحام.
وبعد كلّ هذا يدعون أن كلّ ذلك من فعل الله ، فهم يفترون على الله الكذب ، وحينما يدعوهم الرسول إلى نبذ هذه الافتراءات يجيبون حسب منطوق هذه الآية : حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا? (80).
فأن الآية الكريمة من التقليد موضوع البحث ؟ الآية الثانية :
?وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون?(81).
والجواب : إن الفاحشة المعنية في الآية ، هي أن العرب في الجاهلية كانوا يطوفون في البيت الحرام عراة ، فإذا اعترض عليهم بأن هذا العمل لا يتناسب وقدسية البيت ، أجابوا : إنا وجدنا عليها آباءنا..
وكذلك عقب القرآن الكريم عليهم بهذا الافتراء الفظيع بقوله تعالى: ?قل إن الله لا يأمر بالفحشاء?
والآن نقول ما هي هذه المشابهة بين هذا التقليد وتقليدنا في الأحكام الشرعية ؟ الآية الثالثة:
تتكون من مجموعة آيات تعرض لنا قصة النبي إبراهيم ـ عليه السلام ـ  مع المشركين، وكيفية مخاصمته ومحاججاته مع قومه في عبادة الأوثان.
قال تعالى : ?واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون..?(82).
وهكذا في الآيات الأخرى فهي أجنبية عن التقليد المقصود به التبعية في الأحكام.
أما الآيات الناهية عن العمل بالظن والتي استدل بها المانع من التقليد فهي :
?هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلاّ الظن وإن أنتم إلاّ تخرصون?(83) و ?ما يتبع أكثرهم إلاّ ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئاً إن الله عليم بما يفعلون? (84) و ?يا أيها الّذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم..? (85).
وفي مقام الاستدلال بهذه الآيات المذكورة يقال أولاً : إن التقليد وتبعية الغير في الأحكام لا يتعدى حدود الظن ، فتنطبق عليه الآيات لتنهى عن هذا الطريق.
والجواب : إن هذه الآيات المذكورة بعيدة عما نحن فيه ، حيث تنهى عن العمل بالظن في الأصول العقائدية ، لأن العلوم على ضربين:
الأول: مالا يسوغ التقليد فيه ، وهي معرفة الله وصفاته ووحدانيته ودلائل النبوة وما يلحق بها ، وسبق أن أشرنا إليها .
الثاني : التي تثبت بطريق ظني ، هي المجال الذي يصح فيه الاجتهاد والتقليد .
وثانياً : عدم دلالة الآيات على الحرمة في التقليد لكون النهي فيها إرشادياً لما استقل به العقل ، من عدم جدوى الظن في مثل هذه الحالات لاقترانه دائماً باحتمال الخلاف ، وبالتالي فهي بعيدة عن ساحة التقليد في الفروع .
وثالثاً : هل يلزم كلّ مكلف أن يجهد نفسه لتحصيل درجة الاجتهاد ، وهذا أمر ليس باليسير تحققه ، وما معنى قول ابن حزم : (فعلى كلّ مكلف أن يجتهد لنفسه).
ويدرك القائلون بهذا ، الصعوبة التي تواجه المكلفين في إلزامهم بترك التقليد ، ولذا نرى ابن حزم يتسائل قائلاً : (فإن قال قائل : كيف يصنع العامي إذا نزلت به نازلة؟).
ويجيب على ذلك بأن نكلف العوام الاجتهاد ، ولكن يختلفون في كيفية الاجتهاد ، فلا يلزم المرء إلاّ مقدار ما يستطيع عليه.
أما الشوكاني فقد أرجع المكلف العامي إلى الله ورسوله في الكتاب والسنة ، و إلاّ فيما يظهر للمكلف من الرأي ، واستشهد بقضية إرسال رسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  معاذ بن جبل في واقعة معروفة(86).
ونقل ابن حزم الظاهري عن مالك قوله:
(أنا بشر أخطيء وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فما وافق الكتاب والسنة
فخذوا به ، وما لم يوافق فاتركوه) (87).
ولم يذهب من علماء الإمامية إلى هذا القول (أي التحريم مطلقاً) من يعتد به ، وبالإمكان استفادة ذلك من عبارة الشيخ الأنصاري في بحثه عن حكم التقليد ، إذ يقول : (وينسب إلى بعض مخالفينا القول بالتحريم) (88).
ولو كان من الإمامية من يقول بالتحريم لكان اللازم التنبيه ، وعدم الاكتفاء بنسبته إلى بعض المخالفين ـ أي غير الإمامية ـ من المذاهب الإسلاميّة الأخرى، لكن الشيخ الكمباني صرح بوجود مثل ذلك عند الإمامية حيث يقول : (فالمعروف بين الأصحاب جواز التقليد ، والمنسوب إلى بعضهم تحريمه) (89).القول بوجوب التقليد مطلقاً (الوجوب التعييني):
وفيما يتعلق بوجوب التقليد مطلقاً فإن مصادر الجمهور تذكر القائلين بالوجوب ، حيث تصنفهم إلى طائفتين:
الأولى : تقول بوجوب التقليد على كلّ أحد.
الثانية : تقول بعد جواز التقليد.
قال الغزالي : (لقد ذهب بعض الحشوية والتعليمية إلى أن النظر والاجتهاد عندهم غير جائز ، وأن التقليد واجب ، لأن طريق معرفة الحق هو التقليد ، وإن ذلك هو الواجب ، وإن النظر والبحث حرام) (90).
وقال الشوكاني : (وقابل مذهب القائلين بعدم الجواز بعض الحشوية وقال :
يجب مطلقاً ، ويحرم مطلقاً ويحرم النظر ، وهؤلاء لم يقنعوا بما هم فيه من الجهل حتّى أو جبوه على أنفسهم ، وعلى غيرهم ، فأن التقليد جهل وليس بعلم) (91).
أما الإمامية فلم يذهب أحد منهم إلى هذا القول ، عدا ما يظهر من الأخباريين الّذين يظهر من مذهبهم عدم جواز الاجتهاد ، ولزوم اتباع المجتهد في نقل الحكم على طبق ما في الكتب الأربعة من الأخبار.
أما الطائفة الثانية من القائلين بوجوب التقليد ، فأنها تقصر وجوبه على ما بعد زمن الأئمة الأربعة ، الّذين وقع الاتفاق على تسليم اجتهادهم من قبل علماء الجمهور ، وجواز تقليدهم ، قلم يجوزوا الاجتهاد بعدهم) (92).
ولا يقول الإمامية بهذا الرأي ، بل يعتبرونه كسابقه من المنع ، حيث ذهبوا إلى القول بحرية الاجتهاد ، وعدم جواز التقليد لمن تتوفر فيه شروط الاجتهاد ، من غير أن يفرضوا على العوام لزوم التقليد ، ولا على من يجد في نفسه الكفاءة أن يجتهد ، أو يعرض نفسه إلى ميادين الاجتهاد.
أما الامام أبو حنيفة فقد جوز التقليد ، وخير تقليد من شاء من المجتهدين ،  لأن كلّ واحد منهم على حق (93).
وعقب العز بن عبد السلام على قول أبي حنيفة بقوله : (وهذا ظاهر متجه ، إذا قلنا كلّ مجتهد مصيب) (94).
وقال القرافي في شرح المحصول : (قام إمام الحرمين : أجمع المحققون على أن العوام ليس لهم أن يتعلقوا بمذهب الصحابة رضي الله عنهم ، بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الّذين سبروا ونظروا وبوبوا ، لأن الصحابة رضي الله عنهم
لم يعتنوا بتهذيب المسائل والاجتهاد وإيضاح طرق النظر بخلاف من بعدهم .
وقال الشيخ تقي الدين بن الصلاح : إن التقليد يتعين لمذاهب الأئمة الأربعة دون غيرهم ، لأن مذاهبهم قد انتشرت وانبسطت ، حتّى ظهر فيها تقييد مطلقها ، وتخصيص عامها ، وشروط فروعها.
فإذا أطلقوا حكماً في موضع وجد مكملاً في موضع آخر ، وأما غيرهم فتنتقل عنه الفتاوى مجردة ، فلعل لها مكملاً أو مقيدا أو مخصصاً ، لو انضبط كلام قائله لظهر ، فيصير في تقليده على غير ثقة ، بخلاف هؤلاء الأربعة) (95).
وذكر البرزلي أن ابن العربي سأل الغزالي عمن قلد الشافعي مثلا ، وكان مذهبه مخالفاً لأحد الخلفاء الأربعة أو غيرهم من الصحابة ، فهل له اتباع الصحابة لأنهم أبعد عن الخطأ؟.
ولقوله ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ  (اقتدوا بالذين من بعدي).
فأجاب : إنه يجب عليه أن يظن بالشافعي أنّه  لم يخالف الصحابي الجليل إلاّ لدليل أقوى من مذهب الصحابي ، وإن لم يظن ذلك ، فقد نسب الشافعي للجهل بمقام الصحابة وهو محال. 
وهذا سبب ترجيح مذهب المتأخرين على المتقدمين ، الّذين سمعوا الأحاديث آحاداً وتفرقوا في البلاد ، فاختلفت فتاويهم وأقضيتهم في البلاد ، وربما بلغتهم الأحاديث فوقفوا عما أفتوا به وحكمو(96).
وأقوال أئمة هذا الاتجاه تحمل في طياتها فروقا.
فأما أبو حنيفة : فقد جوز تقليد الأئمة لكل إنسان ، ولم يشترط أئمة بعينهم ، وافترض أن كل مجتهد مصيب.
وأما الشاطبي : فقد شرط التحري للمقلد فيمن يأخذ عنه العلم ، هل هو من أهله أم لا ؟ .
وأما إمام الحرمين يفهم من كلامه ، أن من يستطيع النظر من العوام في الدليل ، وتكون لديه القدرة على استخراج الأحكام ، اولى له أن يأخذ بما يتوصل إليه من بحث في الدليل . القول بالتفصيل (الوجوب التخييري):
أما القول بالتفصيل ، فهو يدور بين من تتوفر لديه شروط الاجتهاد ، وبين العامي الذي لم يصل إلى هذه الدرجة.
فيقال بعدم جواز تقليد الأول ، بينما يلزم الثاني به (97) ولذلك يكون البحث في مرحلتين :
الأولى : المجتهد وتقليده لغيره.
الثانية : العامي وتقليده للمجتهد.
أما المسألة الأولى : فقد نقل الشوكاني عن كثير من أهل السنة القول بتحريم التقليد لمن تتوفر فيه الشروط المطلوبة في المجتهد(98).
وكذلك يتفق الشيعة الإمامية مع غيرهم في هذا القول ، إذ من المحتمل أنّه  يجب على هذا المجتهد أن يجتهد ، ويكون الاجتهاد في حقه واجباً عينياً ، لتمكنه من تحصيل العلم بالأحكام ، وحينئذٍ يحرم عليه التقليد لا نصراف أدلة الجواز عنه ، لأن الظاهر من أدلة الجواز اختصاصها بمن لا يتمكن من تحصيل العلم بالأحكام .
فالذي عنده أهلية الاجتهاد فلا يجوز له أن يقلد ، لان له صلاحية أخذ الحكم من الدليل ، فيجب عليه أن ينظر في الدليل ويستخرج الأحكام ، فيكون
حكمه ما أداه إليه اجتهاده.
وأما المسالة الثانية : ويراد بالعامي من لم يصل إلى رتبة الاجتهاد ، ولم يجد في نفسه القدرة الكافية على استنباط الأحكام الشرعية ، فالإمامية يلزمون العامي بالأخذ من المجتهد ، لأنه لا يصل إلى أحكامه الشرعية إلاّ بذلك ، أو بالأخذ بالاحتياط أو التعلم لتكون له القدرة الكافية على اجتهاده ، وفي كلا هذين الطريقين من المشقة والحرج مالا يمكن تكليف العوام بهما على نحو الإلزام.
وهكذا يتفق الكثير من بقية المذاهب مع الإمامية في هذا الرأي ، حيث يقول الكثير منهم بلزوم التقليد للمكلف العامي ، إلاّ أن الغالبية من الجمهور تقيد العوام بالرجوع إلى أشخاص معينين وقع الاتفاق على اجتهادهم من قبل الجمهور ، وأنه لا يجوز الرجوع إلى غيرهم.
قال الشوكاني : (وبهذا قال كثير من أتباع الأئمة الأربعة) (99).
وعبر عنه بعضهم : (بأنه قول كثير من اتباع الأئمة ، وأنه اختار هذا كثير من  المحققين) (100).
فهذا العامي الخالي من العلم الحاكم بجهله لا بد له من قائد يقوده ، وحاكم يحكم عليه ، وعالم يقتدي به ، ومعلوم أنّه  لايقتدي به إلاّ من حيث هو عالم بالعلم الحاكم ، ولو علم أنّه  ليس من أهل العلم لايجوز له اتباعه ، ولايحل له الانقياد لحكمه ، وينقاد إليه من جهة ما هو عالم ، لا من جهة كونه فلاناً.
وليس له أن يتبع ذلك لمجرد التشهي والميل إلى ما وجد عليه آپاءه وأهله قبله ، وصدق القائل : (العلم : قال الله ، قال رسوله).
_______________________
1  ـ جامع بيان العلم وفضله 2 : 140.
2  ـ المستصفى 2 : 124.
3  ـ القاموس المحيط ، مادة "قلد".
4  ـ أساس البلاغة 2 : 374.
5  ـ تاج العروس والصحاح للجوهري مادة "قلد".
6  ـ أقرب الموارد ، مادة "قلد".
7  ـ تاج العروس والصحاح للجوهري ، مادة "قلد".
8  ـ سورة البقرة : 170.
9  ـ انظر المائدة : 140 ، الشعراء 74 و 136 ، الأعراف : 28 ، لقمان : 21 ، سبا 43 الصافات : 69 ، الزخرف : 22.
10  ـ تفسير القرطبي 7 : 273.
11  ـ رسالة الاجتهاد والتقليد للشيخ الأنصاري نقله عن جامع المقاصد.
12  ـ المستصفى للغزالي 2 : 123. معالم الدين وملاذ المجتهدين ، الحسن بن زيد الدين العاملي : 242.
13  ـ حاشية العطار على جمع الجوامع 2 : 432 ، وهو قول السبكي من علماء الشافعية .
14  ـ الوافية : 299.
15  ـ العروة الوثقى بهامش المستمسك 1 : 10 ، كفاية الأصول للخراساني 2 : 435.
16  ـ كفاية الأصول 2 : 435 ، وما بعدها.
17  ـ دروس في فقه الشيعة 1: 37.
18  ـ الاجتهاد والتقليد للمحقق المباني : 10.
19  ـ دروس في فقه الشيعة 1: 37.
20  ـ إحكام الأحكام للآمدي 3 : 166 ، مستمسك العروة الوثقى 1: 8.
21  ـ التنقيح : (الاجتهاد والتقليد): 79.
22  ـ الأحكام لابن حزم 4 : 192 ، 194 ، 200 ، مطبعة السعادات.
23  ـ أعلام الموقعين لابن القيم 2 : 13، مطبعة المنيرية .
24  ـ التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 3 : 340.
25  ـ نظر انظر التقرير والتحبير 3 : 34 ، فواتح الرحموت 2 : 400 ، روضة الناظر وجنة المناظر 2 : 45 ، المدخل إلى مذهب أحمد : 193 ، إرشاد الفحول : 234 شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 2 : 306 ، أصول الفقه للخضري : 418 ، تيسير التحرير 4 : 241 ، العناوين في المسائل الأصولية 2 : 91 ، أصول الاستنباط : 249، شرح المحلى على جمع الجوامع 2 : 322.
26  ـ نهاية الأفكار : 485.
27  ـ الاجتهاد والتقليد للكمباني : 10 ، نهاية الدراية : 207.
28  ـ الاجتهاد والتقليد : 79.
29  ـ القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد : 108.
30  ـ تيسير التحرير 2 : 256 ، مسلم الثبوت 2 : 357 حاشية.
31  ـ المصدر السابق 2 : 257.
32  ـ القواعد الكبرى 2 : 135 ـ ط ـ دار الاستقامة.
33  ـ راجع الرد على من أخلد إلى الأرض : 61 ، أعلام الموقعين 4 : 214.
34  ـ كتاب الإمام الصادق ـ عليه السلام ـ  والمذاهب الأربعة 1 : 187 نقلا عن مقدمة ابن خلدون.
35  ـ انظر الآمدي 3 : 174 ، مسلم الثبوت 2 : 355 ، إرشاد الفحول : 240 ، شرح الأسنوي 3 : 266، شرح المحلى على جمع الجوامع 2 : 228 ، التقرير والتحبير244 ، فواتح الرحموت 2 : 403 ، المدخل إلى مذهب أحمد : 193 ، العناوين في المسائل الأصولية 2 : 92، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق : 81 ، أصول الفقه لشعبان : 237 ، بجيرمي الخطيب 1: 51.
36  ـ انظر الآمدي 3 : 174.
37  ـ انظر فتاوى الشيخ عليش (فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك) 1 : 59.
38  ـ مسلم الثبوت 2 : 256 شرح الاسنوي 3 : 266 ، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق : 85 ، مذكرات أصول الفقه للشيخ زهير : 210.
39  ـ نشر البنود : 352.
40  ـ عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق لمحمد سعيد الباني : 86.
41  ـ أقرب الموارد ، مادة (حكي).
42  ـ أعلام الموقعين 2 : 168.
43  ـ تحفة الرأي السديد : 39.
44  ـ الأحكام لابن حزم 2 : 30.
45  ـ الرد علي من أخلد في الأرض : 42 ، القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد للشوكاني : 17، الرسالة للشافعي : 42.
46  ـ إرشاد الفحول : 226.
47  ـ أعلام الموقعين 2 : 30.
48  ـ شذت التعليمية والحشوية في ذلك كما سيتضح فيما بعد (انظر الأحكام للآمدي 4 : 446).
49  ـ طريق الوصول إلى كفاية الأصول 4 : 336.
50  ـ انظر الأحكام لابن حزم 6 : 227 ، اعلام الموقعين 2 : 192 ، مفاتيح الأصول : 589 ، مبادي الأصول : 447، الأصول العامة للسيد الحكيم : 642، الفوائد المدنية : 40 ، إرشاد الفحول للشوكاني 267 ، الاجتهاد في الإسلام للمراغي : 32 ، منبع الحياة للجزائري: 14.
51  ـ أعلام الموقعين 2 : 200.
52  ـ المصدر السابق 2 : 205.
53  ـ التوبة : 122.
54  ـ يونس : 59 ، وانظر الأحكام لابن حزم 2 : 1092 طبعة عاطف.
55  ـ الأنبياء : 7.
56  ـ الحجر : 9.
57  ـ الأحكام 2 : 1092 طبعة عاطف.
58  ـ انظر الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمّد تقي الحكيم : 640 ، الأحكام لابن حزم 6 : 793 ملخص أبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل : 52 ، الآمدي 3 : 170 ، شرح الأسنوي 2 : 261 ، الرد على من اخلد إلى الأرض : 52 رسالة في أصول الظاهرية : 31 ، المستصفى 2 : 123 ، مسلم الثبوت 2 : 351 ، فتاوى الشيخ عليش 1 : 60.
59  ـ الدرر النجفية للبحراني : 256.
60  ـ انظر المصادر السابقة وكذلك الوسيط في أصول الفقه : 673 ، إرشاد الفحول : 267.
61  ـ مسلم الثبوت 2 : 250 ، المستصفى 2 : 123، الآمدي 3 : 167 ، المدخل إلى مذهب أحمد : 193 ، إرشاد الفحول : 226 ، أصول الفقه للخضري : 369 ، عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للباني : 49، شرح الاسنوي 3 : 264.
62  ـ البقرة : 164 ، آل عمران: 190.
63  ـ رواه ابن مردويه ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان في صحيحه عن عطاء (تفسير ابن كثير 1 : 440 ، وما بعدها).
64  ـ سورة الزخرف : 23.
65  ـ المستصفى 2 : 124.
66  ـ سورة غافر : 4.
67  ـ أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة عنه بلفظ : (إنّما  هلك من كان فيكم حين تنازعوا في هذا الأمر) جامع الأصول 10 : 528؟
68  ـ سورة غافر : 5.
69  ـ سورة النحل : 125.
70  ـ سورة آل عمران : 191.
71  ـ المستصفى 2 : 124.
72  ـ انظر المصادر السابقة.
73  ـ انظر المصادر السابقة.
74  ـ سورة البقرة : 170.
75  ـ الأصول العامة للفقه المقارن للسيد محمّد تقي الحكيم : 642.
76  ـ سورة الأعراف : 28.
77  ـ سورة المائدة : 104.
78  ـ راجع الأحكام 2 : 1089.
79  ـ سورة المائدة : 103.
80  ـ سورة المائدة : 104.
81  ـ سورة الأعراف : 28.
82  ـ الشعرا : 9 ـ 74 ، 136 ، 137 ، لقمان : 21 ، سبا : 43 ، الصافات : 67 ـ 70، الزخرف : 23.
83  ـ سورة الأنعام : 148.
84  ـ سورة يونس : 36.
85  ـ سورة الحجرات : 12.
86  ـ إرشاد الفحول : 268.
87  ـ المستصفى للغزالي 2 : 387.
88  ـ الشيخ الأنصاري ، رسالة الاجتهاد والتقليد / بحث حكم التقليد.
89  ـ الاجتهاد والتقليد : 11 ، تهذيب الأصول : 98 المبحث الثاني والرابع.
90  ـ المستصفى 2 : 123 ـ 387.
91  ـ إرشاد الفحول : 267.
92  ـ لاحظ أصول الفقه المقارن لبدران : 485 ، أصول الفقه الإسلامي : 362 ، المستصفى 2 : 123.
93  ـ شرح الحطاب علي خليل 1 : 30.
94  ـ الحطاب علي 1 : 31.
95  ـ شرح الحطاب علي خليل 1 : 30.
96  ـ الحطاب علي خليل 1 : 31.
97  ـ ذكر المتأخرون من الإمامية طريقاً ثالثاً في التخيير وهو الاحتياط (انظر العروة الوثقى 1 : 4).
98  ـ إرشاد الفحول : 267.
99  ـ إرشاد الفحول : 267.
100  ـ الوسيط في أصول الفقه الإسلامي : 673. 
 

مركز الصدرين للتقريب بين المذاهب الإسلامية