مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

ماهو الكذب للسيد الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

الكذب: هو عدم التطابق بين أمرين: أحدهما ذاتي، اعني كونه راجعاً إلى الفرد نفسه. كالقول والفعل والقصد والوعد وغير ذلك مما يأتي.
ويمكن بيان عدم التطابق هذا على مستويات كثيرة جداً:
فالقول الخبري، أو الجملة الخبرية قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة. وهذا هو فرق الخبر عن الإنشاء الذي لا يكون قابلا لهذا التقسيم بذاته.
وكذب القول: هو عدم مطابقته للخارج. سواء كان الخارج ماضياً أو حاضراً أو مستقبلا. فالكذب عن الماضي هو المعنى المشهور بين الناس كما لو قلت: حصل كذا، ولم يحصل، ومثله الحاضر وكذلك المستقبل كما لو قلت: ستنجح زراعتي أو تجارتي ولم تنجح فيكون كذبا، سواء كان هذا القول بقصد الإخبار أو التفاؤل أو حتى التشاؤم.
ومثل القول في الصدق والكذب ما أغنى عنه عرفاً، كالإشارة وبعض الحركات ذات الدلالة، فإنها إن لم تطابق الواقع كانت كذبا، سواء كانت عن الماضي أو الحاضر أو المستقبل.
ولا فرق لدى الواقع الذي لا يطابقه القول بين أن يكون واقعاً خارجياً ـ أي خارجاً عن الذات ـ أو واقعاً في داخل الذات، كالتعبير عن الاعتقاد أو الرأي أو الحالة النفسية كالفرح أو الغضب مثلا. فان التعبير على خلاف ذلك القول أو الإشارة يكون كذبا.
ولا نريد بالإشارة كونها من أقسام (الفعل) الذي سيأتي انه يصدق عليه الكذب أيضا، وان كانت هي من الأفعال إذ ليست صوتاً أو قولاً وإنما هي من الدوال النائبة مناب القول والقائمة مقامه. بدليل إنها قد تنقسم إلى خبر وإنشاء. فالإشارة المراد بها الخبر خبر، والإشارة المراد بها الإنشاء إنشاء.
وبالرغم من إن الإنشاء يخلو (بذاته) كما قلنا عن معنى الصدق والكذب، وهو فرقة الأساسي عن الخبر، إلا أنهم قالوا بانطباق هذا المفهوم عليه أيضا، بما فيه من دلالة التزامية أو ثانوية. فلو قال: اعطني. فهو يعني: أنا محتاج وان قال: اعنَّي. فهو يعني: أنا ضعيف. وان قال: أطعمني. فهو يعني: أني جائع وهكذا.
ويمكن تعميم ذلك إلى كل أشكال الإنشاء وليس الأمر وحده كما مثلنا. فلو تمنى من دون قصد التمني أو تعجب بدون قصد التعجب كان كذباً، وكذلك لو أوقع عقد البيع أو الإجارة أو الهبة صورياً من دون قصد جدي أو حقيقي إليه، فانه يكون كذبا.
فهذا كله من الكذب بالدلالة القولية، سواء كان صوتاً أو إشارة.
وقد اشرنا إلى إن الإنشاء الذي قلنا بصدق الكذب عليه أحيانا. كما قد يكون بالقول قد يكون بالإشارة أيضا. إذن، فالتقسيم الذي يصدق على القول على سعته، يصدق على الإشارة أيضا.
والكذب كما يكون بالدلالة القولية، يكون بالفعل أو بالإعمال أيضا، من باب عدم مطابقتها للقول تارة وللقصد أخرى وللاعتقاد ثالثة وللهدف رابعة فضلا عن عدم مطابقتها للواقع أيضا.
إما عدم مطابقة الفعل للواقع كما لو زرت شخصاً فلم تصادفه في بيته، ولو علمت بذلك لما زرته.
وأما عدم مطابقته للقول فواضح، كما لو قلت: سأسافر غداً ولم تسافر. وأما عدم مطابقته للهدف، كالتاجر الذي يبيع بتسامح مع إن قصده الربح الوفير، وكالمؤمن الذي يتسامح في مزيد الطاعة، مع انه قصد مزيد الثواب.
والقصد إن كان هو الهدف فقد مثلنا الآن. وان كان غيره كقصد تفهيم أمر معين، لكن يختار المتكلم غيره، فيكون كذباً.
والاعتقاد، يراد به الاعتقاد النظري، كالاعتقاد بالمبادئ العليا والدين ونحوها، فان بيان خلافها بالقول أو بالفعل. يكون من الكذب، سواء كانت حقاً، أو باطلا، في حد ذاتها.
فان كانت باطلة، كان القول كذباً من وجهين، من جهة عدم مطابقته للاعتقاد وعدم مطابقته للواقع. وان كانت حقاً، كان القول كذباً من جهة مطابقته للاعتقاد إِذَا جَاءكَ]وصدقاً من جهة مطابقته للواقع. وهذا هو الذي ورد عليه قوله تعالى: الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ( )،[إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ يعني من حيث عدم المطابقة بين قولهم واعتقادهم.
وكذلك الحال في عدم القول أو الفعل للرأي. فان الرأي إن كان هو الاعتقاد، فقد تحدثنا عنه. وإن كان هو أوسع منه، لأنه يشمل كل القناعات حتى في الأمور البسيطة والتطبيقية. إذن، فسيكون بيان ذلك بالقول على خلاف القاعدة أو العمل على خلاف القناعة كذباً، لا محالة.
ومن هذا كله يمكن أن نخلص إلى إمكان تقسيم الأمور إلى أربعة أقسام رئيسية: قول وفعل وواقع نفسي وواقع خارجي. وإذا وقعت المفارقة أو عدم التطابق بين أي اثنين من هذه الأربعة كان الكذب صادقاً: بين القول والقول أو القول والفعل أو القول والخارج أو القول والباطن أو الواقع النفسي.
وكذلك بين الفعل والقول أو الفعل والفعل الآخر أو الفعل والخارج أو الفعل والباطن.
وليس قولنا: تارة بين القول والفعل وتارة بين الفعل والقول، بمنزلة التكرار، بل هو يختلف باختلاف الألفاظ باعتبار ما نريد وصفه بالكذب تارة من قول وفعل إذ قد يكونان معاً كاذبين مع تطابقهما.
وكذلك: الواقع النفسي مع واقع نفسي آخر، كالجبن مع الشجاعة أو مع القول أو الفعل أو مع الخارج، كما سبقت أمثلته.
وقد يناقش في تسمية عدم المطابقة بين الواقعين الباطني والظاهري كذبا، لانعدام الدلالة عندئذ، والكذب إنما هو من أوصاف الدلالة.
قلنا: لَيْسَ]أولا: إن الكذب ليس مع الدلالة فقط، بل صادق بلا دلالة كقوله تعالى: ( ).[لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ
وثانياً: إن الدلالة في الواقع النفسي قد تكون متحققة. فالعلم يدل على المعلوم والخوف يدل على المخوف منه والغضب على الكراهة وهكذا. فان لم تكن هذه الأمور مطابقة للواقع كانت كذباً، ويسمى العلم غير المطابق للواقع بالجهل المركب. ويمكن توسيع معنى العلم هنا إلى مطلق للقناعة وللوثوق وللظن الراجح مع عدم المطابقة للواقع الخارجي أو الواقع النفسي.
وقد يستشكل على تعريفنا للكذب بأنه عدم التطابق بين أمرين أحدهما ذاتي. في حين إن قوله تعالى: ليس فيه أمر ذاتي بل هو حاصل سواء كان هناك مدرك[لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ] أم لا، وسواء كان هناك ناطق أم لا وسواء كانت دلالة أم لا.
ولكن يمكن أن يجاب ذلك بعدة أمور:
أولا: إن الآية الكريمة قد تكون بمعنى إن يوم القيامة حق وكل من يعبر عنه أو يدل عليه دلالة فهو صادق وغير كاذب. فانتفى الإشكال.
ثانيا: انه ربما يكون معناها، إن محاسبة الأعمال يوم القيامة لا يكون بالكذب والافتراء. أي ان ينسب إلى الفرد ما لم يعمله أو لم يقله بل ما قاله وفعله. إذن، فالدلالة على أعمال العباد أيضا موجودة لا كما قال المستشكل.
ثالثا: انه ربما يكون معنى الآية الكريمة ان وقوع الواقعة التي ليس لوقعتها كاذبة. إنما هي لأجل العقوبة على أعمال العباد أو إيقاع البلاء عليهم نتيجة لسوء تصرفهم. فيكون معنى الكذب هنا هو عدم انطباق العقوبة على الذنب بمعنى عقاب غير المذنبين. فإذا لم تكن الواقعة كاذبة، كما صرحت الآية، كان العقاب على المذنبين لا محالة. ولكن الكذب هنا بهذا المعنى مجاز لا حقيقة، باعتبار ان المفارقة هنا تشبه من بعض الجهات مفارقة الكذب فصح استعمالها مجازاً، وإنما يكون كذباً حقيقة مع وجود دلالة ذاتية كالقول والفعل والاعتقاد والقصد ونحو ذلك، وكلها ذات دلالة بمعنى وآخر.
هذا وهناك استعمال كذّبه بالتشديد وكذب عليه.
وهما متقابلان في أكثر الأحيان. فهذا كذب على ذاك وذاك يكذبه. وعلى أي حال، ففيهما لابد من وجود طرف آخر، هو الذي يكذّب –بالتشديد- أي يعتبر قول الآخر كاذبا، بأحد الأشكال السابقة وان كان الغالب هو اعتباره كاذباً بالمعنى العام أي في مفارقة قوله مع الواقع وكذلك الآخر هو الذي يكذب على صاحبه بأحد الأنحاء السابقة من الكذب وان كان هذا المعنى المشهور هو الغالب. وعلى أي حال، يحتوي هذا العمل على نحو من المكر والخديعة والتغرير. وإلا لما كان للكذب مجال معقول.



استعمالات الكذب في القرآن الكريم


وحيث عرفنا للكذب أصنافا مختلفة وتطبيقات متعددة فينبغي لنا ان نطل إطلالة على القرآن الكريم لنجد أي هذه المعاني قد استعملها. وينبغي ان نلتفت هنا إلى إننا نفحص عن (مادة) الكذب أو مفهومه في القرآن الكريم، بأي صيغة أو تعريف كان كالمصدر أو الفعل الماضي أو غيرهما.
كما ينبغي ان نلتفت ان بعض الاستعمالات القرآنية قابلة للحمل أو الفهم في أكثر من معنى من المعاني السابقة، إلا إننا ينبغي ان نحملها على اقرب المعاني العرفية واحداً كان أو متعدداً.
يراد به المفارقة[فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ]فقوله تعالى: وعدم التطابق بين القول والواقع. وكذلفَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ]ك قوله: ( )[وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ] ( ) وكذلك قوله تعالى: [ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا]وقوله سبحانه: وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ] ( ) وقوله عز من قائل: [حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ ( ) .[كَذِبُهُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ]وأما قوله تعالى: ( ) فهو للمفارقة بين الاعتقاد والقول كما قلنا. وان كان قولهم[لَكَاذِبُونَ ( )[وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ]مطابقاً للواقع بدليل قوله تعالى: .
بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ]وأما قوله تعالى: ( ) فهي من الكذب في الوعد. أي المفارقة بين الوعد وتطبيقه. إذا[يَكْذِبُونَ فهمنا من الكذب في هذه الآية، ما ارتبط بالوعد المشار إليه فيه، وإلا كان لها معنى آخر.
( ) نفي المفارقة بين[مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ]وقوله تعالى: العلم والمعلوم. وان ما علمه الفؤاد من الأمور والظواهر الكبرى كان مطابقاً للواقع. ولم يكن مخالفاً له.
( )[وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ]وقوله تعالى: دَمٍ]ظاهره الأولي انه ليس بدم بل صبغ احمر يراد به الإيهام بالدم. ولذا قال: انه للمفارقة بين واقعه وبين المقصود منه للفاعلين. وهو الإيهام[كَذِبٍ بالدم.
ولكن الظاهر من السياق العام للآية في قصة يوسف عليه السلام ان الإيهام كان هو الإيهام بقتل يوسف وان الدم دمه. في حين كان على القميص دم شاة أو أي حيوان آخر. فالمفارقة التي اقتضت التعبير بالكذب كانت من هذه الجهة.
ويمكن الجمع بين المعنيين من حيث إنهم أوهموا بدم يوسف عليه السلام بجعل الصبغ على الثوب وليس دماً آخر.
( ) فالناصية تعبير آخر[نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ]وأما قوله تعالى: عن الفرد نفسه. والفرد قد يكون كاذباً وخاطئاً فعلا.
وهناك مجموعة من الآيات تدل فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا]على المفارقة بين أقوال بعض الأفراد وواقعهم. كقوله تعالى: ( ) وقوله تعالى:[بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [وَمَا هُم بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُم مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ] أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ]) وقوله تعالى: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى] ( ) وقوله تعالى: [وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ) وهذه الأخيرة للمفارقة بين ظنهم[شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ وإحسانهم للظن بأنفسهم، وبين واقعهم المتدني الرديء.
لَيْسَ]وأما قوله تعالى: فقد قلنا إنها محمولة على نحو من الاستعمال المجازي.[لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ ويراد بها نفي المفارقة بين واقع يوم القيامة وبين التعبير عنه بالقول أو بالعمل، وإلا فان نسبة الكذب إلى الشيء نفسه بغض النظر عن أي دلالة لا يخلو من التسامح.
فهذه نماذج مما ورد في القرآن الكريم من مادة الكذب إلا ان الأعم الأغلب هو ورود مادة التكذيب. ومنه تكذيب الأنبياء، وتكذيب يوم القيامة وتكذيب الآيات وتكذيب الحق وغيرها وقلنا ان مرجع التكذيب اعتبار الطرف الآخر كاذباً.
وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمن مِن]أما تكذيب الأنبياء فيدل عليه قوله تعالى: ( ) وكلام الكفار هنا مع الأنبياء. فيدل[شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ]على اعتبارهم إياهم كاذبين. ومنه قوله تعالى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ] ( ) وقوله: [وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ فَإِن كَذَّبُوكَ] ( ) وقوله تعالى: [وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ]( ) وقوله سبحانه: [فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ ( ) .[فَحَقَّ وَعِيدِ
وأما تكذيب يوم القيامة، فهو يحتوي على معنى نفيه واعتباره غير موجود، أما حقيقة واعتقاداً، وأما سلوكاً وتصرفاً وان كان يؤمن به اعتقاداً، وهذا هو الادهى والأمر لوضع المسلم الفاسق. ومرجع التكذيب إلى اعتبار المبشرين عنده كالأنبياء كاذبين في إخبارهم عنه، حسب زعم الماديين والكفار.
ومنه وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ]قوله تعالى: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُم بِهَا]( ) وقوله تعالى: [تُكَذِّبُونَ ([الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاء الْآخِرَةِ ] ( ) وقوله: [تُكَذِّبُونَ ( ) وقوله[فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ ]) وقوله: الَّذِينَ]( ) وقوله: [أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ]سبحانه: ( ) .[يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ
وهذا باعتبار ان المراد الأساسي من الدين هو الإدانة وهي تكون عند الحساب وظهور استحقاق العقاب. فيكون المراد به يوم القيامة.
وقد وردت آيات مشددة جداً في التحذير من هذا التكذيب. كقوله تعالى: ([قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ] ( ) وقوله[أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ ]) وقوله تعالى: أُولَئِكَ] ( ) وقوله: [بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ]سبحانه: ( )[الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ]وقوله سبحانه: ( ). إلى غير ذلك.[يَعْمَهُونَ
غير ان لمثل هذه الآيات تفسير معنوي وأخلاقي، قد يختلف بقليل أو كثير عن التفسير المشهور.
وأما التكذيب بالآيات فقد ذكر بشكل موسع في القرآن الكريم وتم التحذير منه ومن نتائجه بشكل مشدد. ومرده إلى احد المعاني:
المعنى الأول: زعم المفارقة بين الآيات وخالقها، أو قل بين الخالق والمخلوق. على اعتبار الزعم بان ليس وراءها قادر أو مدبر.
المعنى الثاني: زعم المفارقة بين قول القائل بذلك اعني بالمدبر وبين الواقع، على اعتبار ان الواقع يخلو منه.
المعنى الثالث: زعم المفارقة بين نطق الآيات نفسها وواقعها. فان لكل خلق ولكل آية لساناً معنوياً يرشد إلى الخالق ويدل عليه ويدعو إليه فالزعم بان هذا اللسان وهذا البيان غير مطابق للواقع هو معنى تكذيب الآيات. وخاصة باعتبار نسبة التكذيب إلى الآيات نفسها.
وأما الآيات الواردة في ذلك فكثيرة جداً نذكر بعض فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ]النماذج منها قوله تعالى: وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ] ( ) وقوله تعالى: [بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ( ) لان تكذيب[بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ إِنَّ]الآيات ينتج إهمال التعليم الحقة ومن ثم الفسق لا محالة. وقوله سبحانه: الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي ( ) وكذلك قوله تعالى مكرراً[سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ( ). إلى غير ذلك من[فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ]في سورة الرحمن: الآيات الكثيرة التي لا تخفى على من قرأ القرآن الكريم.
ومما ورد في القرآن الكريم من معاني التكذيب: التكذيب بالوعد هو المفارقة بين جعل الوعد وبين تنفيذه أي: يَعِد ولا يفعل. وقد ورد ذلك في القرآن الكريم عنه مستويات ثلاثة:
المستوى الأول: ان وعد الله سبحانه ليس فيه كذب. يعني انه يأخذ طريقه للتنفيذ لا محالة. أَلاَ إِنَّ] ( ) وقوله سبحانه: [ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ]كقوله تعالى: وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ] ( ) وقوله تعالى: [وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ ( ) إلى غير ذلك من الآيات العديدة.[وَعْدَهُ
المستوى الثاني: ان وعود المؤمنين لا يمكن ان تكون كاذبة. وان صدقها من نتائج إيمانهم وارتفاع شأنهم، كقوله ( ) .[إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ]تعالى:
المستوى الثالث: ان وعد الكافرين بِمَا]والفاسقين يكون عادة كاذباً. لا يهتمون بتنفيذه وتصديقه: كقوله تعالى: ( ).[أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ
وقوله أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ]سبحانه: وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ] ( ) ولعل قريباً منه قوله تعالى: [فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي ( ).[لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ
وكذلك المستوى الرابع: وهو ان الكافرين لَقَدْ]لا يثقون بالوعد الإلهي، بل يكذبون ويطعنون في صدقه. كقوله تعالى: وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ وَيَقُولُونَ مَتَى هَـذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ] ( ) وقوله: [الْأَوَّلِينَ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ] ( ) وهو أيضا معنى قوله تعالى: [صَادِقِينَ ( ) لان الاستفهام عن حقيقة الوعد يحتوي ضمناً[وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ على استعجاله.
المستوى الخامس: ان الكافرين والفاسقين يوم القيامة سيرون ان وعد هَذَا مَا وَعَدَ]الله حق بعد ما كذبوه في الحياة الدنيا، كقوله تعالى: بَلْ زَعَمْتُمْ] ( ) ويشبهه قوله تعالى: [الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ( ) .[أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِداً
ومما ورد في القرآن الكريم من أنحاء الكذب: الكذب على الآخرين فمنهم من يكذب على الله ومنهم من يكذب على رسوله ومنهم من يكذب على نفسه ومنهم من يكذب على أمثاله من الكفار، إلى غير ذلك. فالكذب على الله سبحانه يمكن على مستويات مختلفة منها:
المستوى الأول: الكذب بالوعد الذي سبق ان سمعناه.
المستوى الثاني: الزعم بكمال النفس وصفائها مع إنها ظالمة مظلمة.
المستوى الثالث: الزعم بزيادة الحسنات وأهميتها مع العلم إنها خلاف ذلك.
المستوى الرابع: الزعم بان الحسنات والطاعات إنما هي من عمل الفرد بغض النظر عن التوفيق الإلهي.
المستوى الخامس: الزعم بتأثير الأسباب على المسببات بغض النظر عن المسبب الحقيقي لها.
وَيَوْمَ]ومن ذلك: جاء القرآن الكريم: ([الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ]) وقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى] ( ) وقوله تعالى: [كَذَّبَ بِآيَاتِهِ وَيْلَكُمْ لَا] ( ) وقوله سبحانه: [اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ ( ) وكذلك قوله[تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ ( )، إلى غير ذلك من[وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ ]تعالى: الآيات العديدة.
وأما الكذب على النفس فيحتوي على احد المستويات الثلاثة، الثاني وما بعده من المستويات الخمسة السابقة، يعني ادعاء الكمال وكثرة الطاعة وان الحسنات من الفرد لا من الله. وكلها كما هي كذب على الله كذب على النفس. بمعنى محاولة إقناعها بغير الواقع وكثيراً ما يحصل ذلك بما ذكرناه وبغيره، كأهمية فرد معين أو عمل معين أو هدف معين، من دون ان تكون له تلك الأهمية. بل قد يكون ضرره أكثر من نفعه.
( ) وقوله[انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ]ومنه قوله تعالى: يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ]تعالى: وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ] ( ) وقوله تعالى: [أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ( ) .[أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ
وما ورد في القرآن الكريم من معاني الكذب ومفاهيمه، أكثر مما ذكرناه بالتأكيد. ولكنني أجد إننا لا ينبغي ان نتوسع في ذلك لفسح المجال للعناوين الأخرى الآتية لتأخذ محلها من الوجود، ومن وقت القارئ الكريم.



أدلة الحكم الشرعي للكذب


الكذب حرام في الشريعة الإسلامية بالأدلة الأربعة.
أما دلالة القرآن الكريم عليه فواضح بعد كل الذي سمعناه من الآيات الكريمات، بل عرفنا انه مما وعد عليه بالنار في القرآن الكريم. فيكون من الكبائر دون الصغائر. لا يختلف في كونه كبيرة من الذنوب عن الزنا والسرقة وقتل النفس المحترمة.
بل هو كبيرة باعتبار كل تعاريف الذنوب الكبيرة من حيث ان فيها احتمالات، يندرج الكذب في جميعها، منها:
أولا: إن الذنوب الكبيرة هي ما هدد عليه القرآن الكريم بالنار.
ثانياً: إنها هي التي تم تحريمها في القرآن.

التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله