مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب تاريخ ما بعد الظهور للسيد الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

تمهيد
قد يكون من الطريف أن يتصدى الباحث للنظر إلى ما وراء الغيب ، ليخط تاريخ المستقبل بسطور ، وقد لا يعدو هذا التاريخ في نظر الكثيرين ، عن كونه سرداً لمجموعة من التنبؤات التي قد لا يقع شيء منها في مستقبل الدهر. وأي فشل لتنبؤات الفرد. أكثر ركاكة من أن يثبت كذب هذه التنبؤات وسقوط هذه الإخبارات.
إذن ، فقد يبدو أنه من الأفضل أن يعرض الفرد صفحاً مثل هذا التاريخ ويهمله إهمالاً ، ويدع تسلسل الحوادث على مقاديرها ، بدون أن يزعم لنفسه القدرة على استكناه المستقبل أو النظر إلى ما وراء الغيوب .
إلا أن هذه الفكرة يمكن أن تزول عن الذهن تماماً ، وتوجد الهمة في النفس نحو هذه البحوث … حين نعرف أن هذه المحاولة وإن كانت في حقيقتها – سرداً لحوادث لم تقع في الزمان . وإنما المستقبل وحده هو الكفيل بمعاصرتها وعرضها للعيان .إلا أنها لن تكون محاولة لإدعاء معرفة ما وراء الغيب ،كما أنها ليست تنبؤاً محضاً غير منطلق من قاعدة أو قائم على أساس ويتم إيضاح ذلك فيما سنذكره من جهات الكلام ، كما يلي :
الجهة الأولى : في أهمية الموضوع في نفسه :
الجهة الثانية : في طرق الإستدلال التي سوف تكون متبعة خلال هذا البحث .
الجهة الثالثة : في الصعوبات التي تواجه البحث .
الجهة الرابعة : في أسلوب الخروج عن هذه الصعوبات ومحاولة تذليلها جهد الإمكان .
الجهة الخامسة : في ترتيب أبواب وفصول هذا الكتاب .


صفحة (5)

الجهة الأولى : اهمية هذا الموضوع .
يكتسب هذا الموضوع أهميته ، من أهمية البحث حول المهدي (ع) ككل .من حيث كون هذا التاريخ حقلاً من حقوله وشعبة من شعبه .
ومن المعلوم أن الفكرة المهدوية عند كل قائل بها ومؤمن بصدقها ، تقوم على أساس كون المهدي هو مصلحة العالم في المستقبل ، وهو الذي يقلب الظلم إلى العدل ، ويحول الظلام إلى نور ويحقق الرفاه و السعادة لكل فرد على وجه الأرض .
فمن الحق أن يطمع الفرد إلى التعرف على تصرفات هذا المصلح العظيم في يومه الموعود ، وعلى أسلوبه وسياسته وطريقته في التدبير و القيادة .
وأن هناك العشرات من الأسئلة تنبثق حول ذلك ، وخاصة بعد أن يعاصر الفرد الحياة الحاضرة بما فيها من تعقيد اجتماعي وتنظيم دولي وسياسي . فهل سيكون للمهدي المصلح نفس هذا التنظيم بحقوله العديدة ،أو أنه سيتخذ للعالم وجهاً آخر ويبينه بيده على شكل جديد ؟
فإذا استطاع هذا البحث أن يزيل الغموض ، ولو عن بعض هذه الأسئلة ويقرب جوابها إلى الذهن إلى حد كبير ، فهو غاية المطلوب .
إذن ، فالحديث عن ( تاريخ ما بعد الظهور ) يعني التعرف على يوم الإصلاح العام على يد القائد المنتظر ، وهو يعني – بكل صراحة – التعرض إلى النتائج النهائية التي تتبناها الفكرة المهدوية ككل ، ووصف البشرية المثلى في مستقبله السعيد .
والتعرض إلى هذا التاريخ ، لا يتوقف على الإيمان بأطروحة مهدوية معينة . هي الأطروحة الإمامية – مثلاًً – التي تؤمن بالغيبية الطولة للمهدي الموعود إذ يكون في الإمكان أن يقوم بمثل هذه الأعمال التي سنذكرها له بعد ظهوره و سواء كان غائباً في الفترة السابقة على ظهوره أم لم يكن (1) ومن هنا يكون لهذا البحث فائدة شاملة لكل المسلمين بصفتهم مؤمنين بفكرة المهدي . بل يكون لها أثر قريب بالنسبة إلى غير المسلمين ممن يؤمن بالمصلح المنتظر .
وتنبثق أهمية هذا البحث مرة أخرى ، في محاولة تصفية ما قيل أو يقال في تحديد ما سوف يحدث يوم الظهور وبعده، مما قد يكون مشوهاً بالأساطير ، ومحاولة الإقتصار على إثبات ما قام عليه الدليل ، ورفض أي أمر آخر.


صفحة (6)

(1) هذا بحسب التصور، بغض النظر عما قلناه في تأريخ الغيبة الكبرى (ص501) وما بعدها من البرهان على تأثير الغيبة الطويلة على جانب تكامل القيادة لديه, وتعميق العادلة في اليوم الموعود.
وتنبثق فائدة هذا البحث من زاوية ثالثة ، من البرهنة على الإرتباط العضوي الوثيق بين يوم العدل الموعود ، وبين الساس العام الذي يقوم عليه الكون وأهدافه الكبرى التي خلق من أجلها .تلك الأهداف التي كانت تطبيقات من مفهوم العدل العام ،والتي سار عليها التكوين والتشريع ، واضطلع بالسير على طبقه موكب الأنبياء والشهداء والولياء والمصلحين على مدى التاريخ .
وسيظهر بجلاء، أن يوم الظهور ليس تاريخاً طارئاً أو قدراً مرتجلاً، وانما هو في واقعه النتيجة الطبيعية الكبرى التي أرادها الخالق الحكيم في تخطيطه العام …و التي شارك في إعدادها الأنبياء وبذلت في سبيلها التضحيات على مدى التاريخ .
والفائدة الرابعة: وليست الأخيرة هي أن الفرد بعد اطلاعه على هذا التاريخ ، يستطيع أن يحمل فكرة كافية عن أوصاف المهدي وأعماله عند ظهوره ومما يوفر الدليل الكافي بأن يعرف : أن مدعي المهدوية هل هو المهدي الموعود قائد العالم ، أو أنه رجل مبطل كذاب .
فإن الفرد قد يواجه في غضون حياته أو يقرأ في التاريخ دعوات مهدوية متعددة ،فلا يحار في مبدا الأمر في تصديقها وتكذيبها ، إن كان ممن يؤمن بالفكرة المهدوية أساساً ، فلا يعلم أن هذا هو المهدي المنتظر أو غيره.
وهذه المشكلة وإن استطاع الفكر الإسلامي أن يذللها عن طريق البرهان العقائدي . إلا أنه بغض النظر عن ذلك، نستطيع أن نذللها عن طريق الدليل التاريخي … وذلك بمحاولة تطبيق الصفات الثابتة تاريخياً للمهدي الموعود على مدعي المهدوية . فإن كانت ثابتة له . إذن فهو على الحق ، وهو المهدي الموعود .
وهذه جهة بطبيعتها مهمة لكل معتقد بالفكرة المهدوية . فإنه من المؤسف حقاً ومن المحرم دينياً ، أن يكون المهدي حقيقياً ثم لا يستطيع الفرد التعرف عليه . أو أن يكون المدعي كاذباً ثم لا يستطيع الفرد معرفة كذبه ، وإنما ينحرف بإتجاهه وينجرف بتياره . فلا بد ان يكون للفد محك عقائدي وميزان تاريخي في التعرف على رفض من يرفض وقبول من يقبل . وقد وفر الإسلام كلا الجانبين . وما هو محل كلامنا الآن هو الميزان التاريخي .


صفحة (7)

فهذه بعض فوائد هذا البحث ، التي تجعله من الأهمية والرسوخ مايؤهله أن يكون شعبة من المعرف الإسلامية وحقلاً من المعرفة الإنسانية .
الجهة الثانية : في طرق الإستدلال التي سنتبعها من خلال البحث ، للتعرف على ما هو ثابت وما هو مرفوض .
والإستدلال يختلف – بطبيعة الحال – بإختلاف النتائج التي نريد التوصل إليها. وهي مما يمكن تقسيمها بإنقسامات ثلاثة ، لابد من التعرف عليها وما هو محل الحاجة ومنطلق البحث منها … لكي نختار ما يناسبها من الإستدلالات .
الإنقسام الأول: التقسيم من حيث اتجاه الفكرة المهدوية، أعني تحديد المصلح المنتظر في نظر الفرد . فإن الإتجاهات هنا ذات ثلاثة مسارات رئيسية :
المسار الأول: المصلح المنتظر الذي يؤمن به غير المسلمين، على اختلاف بينهم في تشخيصه وصفاته، كالمسيحيين واليهود والبراهمة وغيرهم .
المسار الثاني : المصلح المنتظر الذي يؤمن به المسلمون غيرالإماميين عادة ، وهو رجل يلقب بالمهدي ، يولد في زمانه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً.
المسار الثالث: المصلح المنتظر للمسلمين الامامين خاصة، وهو المهدي الغائب محمد بن الحسين بن علي عليهم السلام الذي يظهر فيملاء الأرض عدلاً كما ملئت جوراً.
وهذه المسارات في جوهرها واحدة ، تشير إلى مفهوم واحد مندرج في التخطيط الإلهي العام ، بشرت به الأديان وأكد عليه الإسلام . وإنما حصل الإختلاف فيه نتيجة لظروف معينة تمت إلى التربية الفكرية للبشرية بصلة ،كما سبق أن حملنا عنه فكرة في التاريخ السابق (1) وسنعرف تفاصيله في الكتاب القادم
إلا أننا على أي حال ، ينبغي أن ننطلق في البرهان على حوادث المستقبل من أسس مسلمة ، لهذه المسارات الثلاث ليكون الكلام مقبولاً مسلم الصحة لديهل جهد الإمكان .
ومعه ، فمن المتعذر إلى حد كبير التعرف على أسس مشتركة بالنسبة إلى المسار الأول - بتعبير آخر – مشتركة بين المسارات الثلاثة كلها … مما يعود إلى مفهوم المهدوية العام الذي تتسالم عليه الأديان . وذلك لعدم تسالمها – في حدود المقدار المعروف لدى أهلها من القواعد والأسس– على أمور مشتركة يمكن الإنطلاق منها على حقيقة معينة بهذا الصدد. ومعه يكون البحث عن تفاصيل اليوم الموعود، والأعمال التي سيقوم بها القائد النتظر متعذراً. وإنما غاية ما يمكن التعرف عليه والتسالم على صحته هو تطبيق للعدل على وجه الأرض على الإجمال.


صفحة (8)

(1) انظر ص251 وما بعدها إلى آخر الفصل.
نعم ، لو اقتصرنا فكرة المصلح المنتظر على اليهودية والمسيحية والاسلام أمكن الإنطلاق من بعض الأسس
المشتركة إلى بعض تفاصيل اليوم الموعود كما سنرى . وخاصة بعد أن يثبت في الإسلام – على ما ستسمع – نزول المسيح في ذلك اليوم . وسيكون لما ذكر في التوراة والإنجيل من تفاصيل جزء خاص آت من الموسوعة .
واما الإستدلال على التفاصيل من خلال المسارين الثاني والثالث ، ففي الإمكان الحصول على الكثير من الأسس المشتركة النافعة بهذا الصدد . وسيكون المنطلق الأساسي المشترك هو ما نطق به القرآن الكريم من الوعد بيوم التطبيق الإسلامي العادل .ومن الخصائص الكبرى التي يتصف بها ذلك اليوم على ما ستسمع كما سينطلق الإستدلال مما تسالمت عليه أخبار الفريقين من الحقائق . أما ما استقل به كل فريق من الأخبار فسيكون لنا منه موقف خاص ، سنذكره .
وينبغي الإلماع إلى أن الأخبار الأمامية ، قد تكفلت بنقل الحوادث للفترة الزمنية التي نؤرخ لها ، أكثر بكثير مما نقلته أخبار العامة . وخاصة فيما يعود إلى المهدي وأصحابه واعماله . وإن أكثرت الاخبار العامة الحديث عن المسيح والدجال وأشراط الساعة .
وعلى أي حال ، فما يعود إلى مقدار الأخذ بالخبر أو رفضه سنذكره في الإنقسام الثالث إن شاء الله تعالى .
الإنقسام الثاني : التقسيم من حيث مقدار الحودث التي يراد الحصول عليها واثباتها تاريخياً.
وذلك: أننا كنا نتوخى الإطلاع على التاريخ التفصيلي لما بعد الظهور وذكر حودثه وأقوال معاصريه ، جملة وتفصيلاً ، كما لو كان مشاهداً محسوساً فعلاً . فهذا مما لا يمكن أساساً وينبغي الإعتراف سلفاً بتعذره وانقطاع السبيل إليه . بسبب ما سنسمعه فيما يلي من البحث من وجود الفجوات الواسعة في الروايات الناقلة للتاريخ المطلوب .
إلا أن مثل هذا التفصيل ، مما لا يهم التعرض له ، وليس هناك مصلحة في معرفته . وإنما هو المستقبل وحده هو الكفيل بمعاصرته ، والله عز وجل هو القدير على إيجاده والعليم به .. وإن عشت أراك الدهر عجباً.


صفحة (9)

فإن أياً من المصالح الأربعة السابقة لا يتوقف تحققها على مثل هذا التفصيل بل يكفي فيها التعرف على الأفكار العامة والحوادث الرئيسية في ذلك العهد . وواردة في الأخبار بشكل يمكن إثباته تاريخياً ، دون ما هو أوسع من ذلك .
ومن ثم لا ينبغي أن نتوقع من الباحث في تاريخ ما بعد الظهور ، زيادة من التفاصيل ، وإنما يقتصر بمقتضى مادة عمله وأسس مصادره على الافكار العامة والحوادث الرئيسية بطبيعة الحال .
الإنقسام الثالث: التقسيم من حيث ما نتطلبه من الإثبات التاريخي ، باعتبار أننا تارة نتوخى حصول الإطمئنان والوثوق بوجود الحادثة المعينة ، وأخرى نكتفي بالإخبار الإعتيادي في إثباته .
ومن هنا يكون لنا – بلحاظ ذلك – موقفان :
الموقف الاول : اذا اردنا حصول الاطمئنان بوجود حادثة معينة مما ينقل حدوثها بعد الظهور... امكننا الاعتماد على المصادر التالية :
المصدر الاول: القرآن الكريم بما فيه من ظواهر واضحة دالة على وصف العدل الاسلامي ، والخيرات التي تعود على البشرية عند تطبيق احكام الاسلام .
المصدر الثاني: الروايات المتعددة الناقلة لحادثة معينة ، بحيث تكون إحداها قرينة على الأخرى ، ومصداقية لها بحيث تكون بمجموعها موجبة للثبوت التاريخي في اي حقل اعتيادي من حقول التاريخ .
المصدر الثالث: أخبار الفريقين إذا تسالمت على نقل حادثة معينة ، ولو كانت بعدد قليل عند كل فريق ، فإنه يكفي لإثباتها. وذلك : لأن ظروف الرواية وأشخاص الرواة ، مختلفين عند كل مذهب إسلامي ، مما يوجب الإختلاف الكبير في النقل فإذا تسالموا على نقل مضمون بعينه ، كان هذا بعيداً عن الخطأ إلى حد كبير .
المصدر الرابع : الخبر الذي تعضده القواعد الإسلامية العامة وتؤكد مضمونه فإنه يكفي إثباتاً تاريخاً ، ومثاله : الأخبار القائلة بأن المهدي عليه السلام يطبق الإسلام كما جاء به النبي (ص) فإنها مطابقة لنظرة الإسلام إلى استمرار تعاليم الدين الإسلامي إلى نهاية البشرية .


صفحة (10)

المصدر الخامس : القواعد الإسلامية العامة المبرهن عليها في علوم مختلفة من حقول الإسلام ، كالعقائد و الفقه وغيره . فإنها إذا كانت ثابتة في محلها أمكن التو صل بها إلى بعض النتائج ومثاله : القاعدة التي تقتضي عدم جواز الحكم القضائي إلا بسماع البينة مع توفرها . فإنها تنفي الأخبارالدالة على أن المهدي (ع) يقضي بدون سماع البينة ، كما سيأتي إيضاحه .
فإذ اجتمعت هذه المصادر الخمسة بنتائجها . كان تخطيطنا العام لهذا التاريخ قد كمل إذ بها نستطيع أن نثبت كل ما هو مهم ورئيسي في عهد الظهور . وتبقى جملة من التفاصيل يوكل اثباتها بشيء من هذه المصادر الخمسة .
الموقف الثاني : إذا اكتفينا في الإثبات التاريخي الإعتيادي أو النقل المنفرد . وهو ما سنحتاج إليه بطيعة الحال(1) في سرد عدد من التفاصيل التي لا يمكن التوصل إلى معرفتها بدون ذلك . بالرغم من أن قيمة الأثبات لا تزيد على قيمة هذا الخبر المنفرد .
ونحن بهذا الصدد ، نستطيع أن نقبل بعض المصادر ، وأن نرفض بعضاً :
أما المصادر التي نقبلها ، فهي كما يلي :
المصدر الأول : النقل المنفرد الذي تقوم القرائن القليلة على تأييده ... كالقرائن الحالية ، أو وجود روايتين فقط بمضمون واحد ، أو سندين لرواية واحدة . فإن أحدهما يكون قرينة على صحة الآخر .
المصدر الثاني : النقل المنفرد الذي يقبل عادة في الفقه كمثبت للحكم الشرعي الإسلامي . وهو الخبر الذي يتصل بالمتحدث الأول عن طريق الثقات . فإنه يمكن اعتباره إثباتاً كافياً بلحاظ الموقف الثاني ، وإن تجرد عن القرينة على صدقه .


صفحة (11)

(1)وهذا هو فرق الإثبات الذي نحتاجه في هذا التاريخ عن الإثبات الذي أسسناه في التاريخ السابق (208) فإنه كان قائماً على رفض الخبر المنفرد بكل أشكاله وسميناه بالتشدد السندي . وذلك لعدم الإحتياج إلى مثل هذا الخبر . أما هنا فسنحتاج إليه بالضرورة ، لأن عدداً من الحوادث منقولة بالخبر المنفرد فقط وهي مما نحتاج إليها في ضبط التسلسل العام للحوادث . وسيكون لهذا الفرق نتائج ملموسة كما سيأتي .
وأما المصادر التي نرفضها فهي كما يلي :
المصدرالأول : الخبر الذي تنفيه القواعد الإسلامية العامة المبرهن عليها كما سبق
مثاله . لا يختلف ذلك بين ما إذا كان خبراً منفرداً أو عدة أخبار. ولا يختلف في القاعدة بين أن يكون مستفاده من الكتاب أو السنة أو غيرهما .
المصدرالثاني : الخبر الذي يوجد له معارض ينقل خلافه . وذلك فيما إذا وجد لدينا خبران ينقلان حادثة معينة بشكلين متغايرين أو ينقلان حادثتين متنافيتين ، ونحو ذلك .
وفي مثل ذلك : إذا كان أحد طرفي المعارضة ، أعني أحد الخبرين ، راجحاً على صاحبه ، كما لو كان مستفيض النقل أو موفقاً مع القواعد العامة أو الشواهد الأخرى ، أخذنا به وطرحنا الآخر . وإن لم يكن هناك رجحان في أحد الطرفين سقط كلاهما عن إمكان الإثبات التاريخي . وقد فصلنا القول في ذلك التمهيد الذي عقدناه لـ " تاريخ الغيبة الصغرى " (1) فلا حاجة إلى الإطالة فيه .
المصدر الثالث : المصدر الذي لا يوجد له مؤيد ولا مفند ، مما لم يروه الثقات ، ولا ارتباط له بالقواعد العامة بشكل مباشر ، لتدل على صحته أو نفيه . فإنه بطيعة الحال لا يصلح للإثبات التاريخي بهذا الصدد . ويرفض هذا المصدر إلى جنب المصدرين السابقين ، يمكن ملاحظة أن الروايات الناقلة لحوادث اليوم الموعود ، قد تخلصت مما يحتمل أن يتطرق إليها من دس أو يحزم حولها من وهم أو يكتنف حقلها من أساطير ، وبذلك تكون مصادرنا المعتمدة واضحة لا غبار عليها وصالحة لعرض الفكرة المهدوية تجاه العالم .
الجهة الثالثة : في الصعوبات التي يواجهها هذا البحث .
وهي صعوبات عديدة اقتضتها ظروفها ومصالحها الخاصة والعامة . على ما سنرى .
ولا بد في المقام من أن نستثني ما ذكرناه من الصعوبات في تاريخ " الغيبة الصغرى " ، مما يعود إلى التاريخ شكل عام (2) وإلى الروايات الواردة في المهدي بشكل خاص(3) . فإنها صعوبات شاملة لهذا التاريخ ، وقد ذللناها هناك .
ونقتصر هنا على الصعوبات التي يختص بها هذا التاريخ . وهي قد تتحد مع تلك الصعوبات أحياناً في العنوان ، إلا أنها من حيث الفكرة والأهمية تختلف عن سابقاتها ، كما لا يخفى على المقارن .
(1)انظر ص28 وما بعدها وص46 وما بعدها . (2)ص24 وما بعدها إلى عدة صفحات . (3)ص42 وما بعدها إلى عدة صفحات .


صفحة (12)


و يمكن أن نعرض الصعوبات فيما يلي :
الصعوبة الأولى : قيام الأخبار الناقلة لحوادث المستقبل ، على الرمزية في كثير من أساليبها ونقاط عرضها ، وخاصة فيما يعود إلى شخص المهدي (ع) كقوله في بعض الروايات الآتية " إذا هز رأسه أضاء له ما بين المشرق والمغرب " وأنه " يضع يده على رؤوس الأنام فيجمع أحلامها " وإن " رايته ليست من قطن و لا كتان وإنما هي ورقة من اوراق الجنة " و غير ذلك من التعبيرات . ويراد بها حقائق إسلامية واعية لكنها لم تستعمل المداليل الإعتيادية للألفاظ . وإنما استعملت الرمزية التي عرفناها في تاريخ الغيبة الكبرى(1).
الصعوبة الثانية : تعمد الإجمال في الروايات والسكوت عن بعض ما سيحدث من الأعمال والأقوال … بشكل يبدو بوضوح إرادة المتكلم حذف بعض الحقائق التي لا يجد مصلحة في التصريح بها . كسكوت بعض الروايات عن ذكر مضمون خطبة المهدي في المسجد الحرام أول ظهوره ، وسكوت الروايات عن مضمون خطبته في مسجد الكوفة عند وروده العراق. وسكوتها عن كثير من نصائحه واساليب امتحانه لأصحابه . بل يقتصر على القول : وأنا أعلم بما يقوله لهم . وإما ماذا يقول لهم ، فهذا مما لا سبيل إليه .
ومثله ما ورد في عدد من الروايات عن أصحاب المهدي (ع) : وأنا أعرف أسمائهم وأسماء أبائهم ...ولكنه لا يسمي واحداً بالمرة .
الصعوبة الثالثة : وجود الفجوات الضخمة فيما ينقل من الروايات ، وعدم انحفاظ تسلسل الحوادث بأي حال . وهذا ما كان يبدو مثله في ما سمعناه من التواريخ السابقة ، إلا أنه في هذا التاريخ أشد تركيزاً ووضوحاً . فانحفاظ التسلسل الزمني للعديد من الحوادث ، يكاد يكون متعذراً . كما أن كثيراً من مهمات الأعمال التي سيقام بها بعد الظهور محذوفة بالمرة . ومن الملاحظ أنه كلما تقدم الزمن مبتعداً قلّت الحوادث المنقولة ، وازدادت الفجوات ، مضافاً إلى ازدياد الرمزية والإجمال أيضاً .(1)ص212 وما بعدها.


صفحة (13)


فبالنسبة إلى الصعوبة التي نتحدث عنها ، نلاحظ أن الحوادث الواقعة قبل الظهور بقليل أو بعده بقليل ، منقولة ومتوفرة إلى حد كبير . وأما في الفترة اللاحقة لذلك ، فليس هناك إلا حوادث متفرقة ولمام من الأقوال من دون ترتيب أو تعيين . وإذا ازداد البعد وتوجه النظر - مثلاً - إلى حادثة موته أو قتله وإلى من يخلفه بعده ، كانت الروايات نادرة إلى حد كبير.
وهذه الصعوبات الثلاثة أمور راهنة تعمدها النبي (ص) والأئمة (ع) في حديثهم عن المهدي (ع) لعدة أسباب ، أهمها : وجود الفجوات الثقافية والفكرية الواسعة بين عصر صدور الروايات والعصر الذي تتحدث عنه الروايات ، من حيث أن تطور الفكر الإسلامي وتعمقه خلال القرون المتطاولة التي يعيشها ما بين هذين العصرين ، وتطوره المتزايد على يد القائد المهدي (ع) ... جعل من المتعذر على سامعي هذه الأحاديث في عصر المعصومين عليهم السلام فهم واستيعاب ما قد يقع من أعمال وأقوال في العصر المؤرخ له . ومن هنا كان من المصلحة سكوت المعصومين عن التصريح بها أساساً ، وفقاً لقانون : كلم الناس على قدر عقولهم .
الصعوبة الرابعة : اتخاذ الروايات مساراً معيناً من التفكير ، بحسب المذهب الإسلامي الذي تتبناه .
والحديث عن ذلك ، يتشعب إلى شعبتين ، باعتبار ما ورد من الأخبار في مصادر العامة تارة ، وما ورد من الأخبار في المصادر الخاصة أخرى .
الشعبة الأولى: في الأخبار الواردة من مصادر العامة من أخواننا أهل السنة والجماعة ، كالصحاح الستة وغيرها.
فإن هذه الأخبار التي تتضمن التنبؤ بحوادث المستقبل ، من هذه المصادر ، تنقسم إلى أربعة أقسام . وما يفيدنا - كما سنعرف – هو أشدها اختصاراً وغموضاً.
القسم الأول : وهو الذي يمثل المسار العريض والإتجاه الفكري الأهم لهذه الأخبار ، وهو الحديث عن الفتن والملاحم أي الحروب التي تقع خلال التاريخ ، وما ينبغي أن يكون موقف الفرد المسلم منها . ثم الحديث عن الدجال وأوصافه وأفعاله . والحديث عن عيسى بن مريم (ع) ونزوله إلى الأرض وحروبه مع الدجال ومع يأجوج ومأجوج بعد انفتاح السد الذي حبسوا خلفه . ونحو ذلك من المضامين .
وهذا هو الذي يمثل الأعمال أغلب من الأخبار الناقلة لحوادث المستقبل وقد سبق أنا ذكرنا وناقشنا في " تاريخ الغيبة الكبرى " ما يعود منها إلى تلك الفترة .
وهي لا تمت إلى ( اليوم الموعود) بصلة . وسنذكر في هذا التاريخ ما يعود منها إلى نزول المسيح وبعض الأمور الأخرى .


صفحة (14)

القسم الثاني : وهو يمثل طائفة مهمة من الأخبار ، وهي الأخبار المثبتة لوجود المهدي (ع) أساساً ،وأنه من ولد فاطمة مع التعرض إلى اسمه وأوصاف جسمه ، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً . وهي بمجموعها تزيد على التواتر بكثير ، وتثبت وجود المهدي بالضرورة ... ولكنها لا تنفعنا في تاريخ ما بعد الظهور إلا قليلاً .
القسم الثالث : ما يعود إلى شرح نتائج التطبيق الإساتمي الكامل والمصالح الواسعة التي تترتب على العدل الحقيقي ... كالأخبار الدالة على كثرة المال وأنه يبحث الرجل عمن يقبل زكاته فلا يجد ، وبأن الفرات يحسر عن جبل من ذهب ، لو فسرناه بسعة الزراعة وكثرة الخيرات .
وهذا القسم لا يذكر في المصادر العامة مقترناً باسم المهدي (ع) وظهوره ، نعم قام البرهان على أن مضمونها لا يمكن أن يتحقق إلا في ذلك العصر ، لعدم توفر التطبيق العالمي الكامل قبله .
القسم الرابع : الأخبار المتكلفة لبيان المصالح وبعض النتائج الكبرى التي تترتب على ظهورالمهدي (ع) بنفسه وعنوانه .
وهذا القسم وإن لم يرد في الصحاح الستة ، إلا أنه ورد في المصادر الحديثة الأخرى كمسند أحمد ابن حنبل ومستدرك الحاكم وأربعين الحافظ الأصفهاني وغيرها .
وأوضح مثال على ذلك : ما ورد في هذه المصادر عن النبي (ص) . بمضمون :
تتنعم الأمة في عهده نعمة لم تتنعم مثلها قط ، يرضى عنه ساكن الأرض و ساكن السماء .
وما يمت إلى هذا القسم بصلة متوفر في الأخبار ، إلا أنه يقتصر على العموميات ولا يكاد يكون يشكل تاريخاً واضحاً . على أنه – مهما تعدد – فإنه يشكل الجزء الأقل من الأقسام الأربعة ، بالنسبة إلى مجموع المصادر ... كما أن القسم الثالث ، هو الجزء الأقل بالنسبة إلى الصحاح الستة . وسنرى موقفنا من هذه القلة فيما يلي من البحث .
الشعبة الثانية : في الأخبار الواردة في مصادر الخاصة ، فيما يمت إلى تاريخ ما بعد الظهور بصلة .
والإتجاه الفكري الذي تتخذه هذ الأخبار ، عادة ، هو الإتجاه الطائفي فالمهدي (ع) يناقش طبقاً له ويحارب لأجله ويقيم الإمتحانات المعقدة للآخرين على أساسه . وكأنه ليس في العالم من البشر إلا المسلمين بمذاهبهم المختلفة.


صفحة (15)

نعم ،من المنطقي الصحيح ، أن يجمع المهدي (ع) المسلمين على الحق الذي يعتقد به . وأن يختبر الناس على أساسه ، إلا أن هذا لا يعني بأي حال اقتصار جهوده على المسلمين ، بعد الذي سنبرهن عليه من عالمية دعوته من ناحية والعلم الوجداني ، بأن غير المسلمين أضعاف المسلمين إلى حين أو الظهور ، كيف وإن الأرض كانت وستبقى إلى يومئذ مملوءة ظلماً وجوراً . إذاً ، فالجهود المبذولة من قبل المهدي (ع) ،وأصحابه الخاصة المخلصين على سائر العالم، أضعاف الجهد المبذول على المسلمين ، أو قل تعادلهما على أقل تقدير ، أما أن تكون الجهود المبذولة على المسلمين أضعاف جهوده على غيرهم ، كما تدل عليه المصادر الخاصة ، فهو مما لايكاد يفهم .
ولعل فبالإمكان إعطار المبررات الكافية لمثل هذا الإتجاه في الأخبار ، إلا أنها – بأي حال – تبقى مقتضبة بالنسبة لموقف المهدي (ع) من غير المسلمين .
وأهم تبرير لذلك ، هو كون هذه الأخبار في واقعها انعكاساً للظروف المعاشة في زمن صدورها .ولا نعني بذلك كونها كاذبة أو مفتعلة على نسق معين ، فإن لكل خبر حسابه الخاص طبقاً للمنهج الذي أسلفناه . بل تعني أن ظروف الظلم والمصاعب التي كان يعيشها أصحاب الأئمة(ع) في المجتمع الإسلامي. من الدولتين الأموية والعباسية . كانت تعكس في نفوس القواعد الشعبية الأمامية الإعتقاد بأن الجبهة المضطهدة – بالكسر – لها ، تمثل المذاهب الإسلامية الأخرى ، ومن ثم تكتسب القضية المذهبية في أذهانهم عمقاً وأصالة ، أكثر من نسبتها العالمية ، لو صح التعبر . ويكون هو بحاجة إلى رفع معنوياتهم من قبل قادتهم الأئمة المعصومين (ع) ، من هذه الناحية أكثر من أي ناحية أخرى . وذلك باستخدام عدة طرق من أهمها : الكشف عن هذا الجانب بعينه من أعمال الإمام المهدي (ع) والسكوت عن أعماله الأخرى التي لا تمت إلى حاجة المجتمع بصلة وثيقة ، وإن كانت تمثل الجانب الأكبر في دولته .
ومن المستطاع القول ايضاً ، أن الفجوات التي تركت ، لم يكن المجتمع عموماً ليهضمها بوضوح ، باعتبارها ممثلة لتصرفات المهدي (ع) على المستوى العالمي وفي عمق الوعي الذي يريده ، مما لم يكن المجتمع في عصر صدور هذه الأخبار على مستوى استيعابه . ومن ثم كان قانون " كلم الناس على قدر عقولهم " مانعاً للمعصومين (ع) عن الإعراب والكشف عن هذا الجانب من دولة المهدي (ع) مهما كان واسعاً .


صفحة (16)

وعلى أي حال ، فهذه الصعوبة التي نحن بصددها ، تعتبر واقعاً لا محيص عنه وإن علاقات المهدي بغير المسلمين ، لم تذكرها الأخبار إلا بأقل القليل .
الصعوبة الخامسة : ما يعود إلى نقص الباحث بصفته ممثلاً لمرحلة معينة من تطور الفكر الإسلامي .
ويتم إيضاح ذلك بتقديم عدة نقاط :
النقطة الأولى: الفكر الإسلامي بصفته مجموعة من الحقائق والتشريعات كما يعرفها الله ورسوله وأولياؤه (عليه وعليهم السلام ) ... وهو الفكر الإسلامي الأعلى . والأطروحة العادلة الكاملة للحياة .
المستوى الثاني : الفكر الإسلامي الموجود عند علماء المسلمين والمفكرين الإسلاميين على مر العصور، وهو في واقعه ناقل للمستوى الأول وحاك عنه ومنبثق عنه إلى حد كبير نتيجة للتبليغات والبيانات التي قيلت من قبل المشرع الإسلامي المقدس في الكتاب الكريم والسنة الشريفة .
والمقصود الأساسي هو تربية الأمة على فهم وامتثال المستوى الأول عن طريق ممارستها وتدقيقها للمستوى الثاني ، بصفته ممثلاً لمستوى الأول ، وهي بأجيالها المتعقبة كفيلة بأن تقوم بذلك تدريجياً وكما سبق أن عرفنا في التاريخ السابق .
ولا زال الفكر الإسلامي بمستواه الثاني في طريق التطور والتعمق والتوسع . ومن هنا صح أن يقال : إن كل جيل أو عدة أجيال من الأمة الإسلامية يمثل مرحلة للفكر الإسلامي . ولا زال الفكر الإسلامي في طريق الرقي، وينبغي الأعتراف بعدم وصوله إلى الكمال . ووجود عدد من البحوث غير المطروقة فيه ، كما هو غير خفي على المحققين في هذا الصدد.
النقطة الثانية : إنه ينتج من ذلك : أن كل باجث ومفكر ، هو بطبيعة تكوينه ابن الفترة التي يعاصرها والزمن الذي يمر فيه . ويتعذر عليه بالمرة ، مهما أوتي من عبقرية وطول باع ، أن يسبق الزمن ، فيدعي الوصول إلى المستوى الأول للفكر الإسلامي ، أو أنه محتو على وعي وثقافة الأجيال الإسلامية القادمة من المستوى الثاني .... تلك الثقافة القائمة على انكشاف ما في سوابقها من الأخطاء ، وملء ما فيها من فجوات .


صفحة (17)

إذاً فكل باحث يحتوي على قصور طبيعي وذاتي في تفكيره الإسلامي بصفته ممثلاً لمرحلة معينة من تطور الفكر الإسلامي لا يمكن أن يتعداها . في حين يمثل الإمام المهدي (ع) بما ينشر في عصر ظهوره من ثقافات وأفكار وتشريعات ، يمثل المستوى الأول من الفكر الإسلامي ، ويصل بالمستوى الثاني إلى صف المستوى الأول تماماً كما نصت على ذلك الأخبار ، واعترف به سائر مذاهب الإسلام من أن يطبق أفسلام كما جاء به رسول الله (ص) .
ومن هنا تنشأ الصعوبة ، من أن يتصدى باحث قاصر للتفكير فيما يتعدى عصره ، وللتوصل إلى حقيقة شخص كامل ومجتمع عادل.
النقطة الثالثة :أنه بعد الذي عرفناه من فجوات ومصاعب فيما وردنا من الأخبار من تاريخ ما بعد الظهور ، سوف نضطر – على ما سنعرضه عن قريب – إلى تذليل هذه المصاعب عن طريق انتهاج القواعد الإسلامية المعروفة ، في عدة مجالات : في فهم النصوص عامة ، وفيما هو المقصود من الإستعمالات الرمزية خاصة ، في محاولة التعرف على الإتجاهات العامة التي سيسير عليها الإمام القائد على الصعيدين الإجتماعي والتشريعي ، وفي ترجيح بعض النصوص على بعض إلى غير ذلك من المسؤوليات في البحث والإستنتاج .
ويبدو من الواضح ، بعد هذه النقاط : أن كل باحث إنما يملأ هذه الفجوات بمقدار ما لديه من الثقافة الإسلامية وما وصل إليه تطور الفكر الإسلامي في عصره .ويستحيل في حقه أن يصل إلى الواقع الراهن القائم بعد عصر الظهور على عمقه وشموله . وبخاصة بعد ورود ما سنسمعه في العديد من الأخبار من أن المهدي (ع) يأتي بأمر جديد وكتاب جديد وسلطان جديد .
ولعل من أوضح أمثلة ذلك كما ذكره ابن عربي ( في الفتوحات المكية ) (1) عن تاريخ ما بعد الظهور ، مما يظن أن المهدي (ع) يقوم به من تصرفات وما يعينه من وزراء وما يسنه من تشريعات، فإنه إنما كتبه بمستواه من التفكير الإسلامي ، ونحن نجده الآن – بعد تعمق الفكر الإسلامي- في غاية الغرابة والتعقيد .


صفحة (18)

(1) أنظر ج 3 ص327 وما بعدها.
وهذه الصعوبة ، بما ينفرد بها هذا البحث عن سائر أبحاث التاريخ وبما فيها ما كتبناه من تاريخ الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى وغيبته الكبرى . فإن تلك الأبحاث كانت عرضاً لحوادث معاشة سابقة أو معاصرة ، مفهومة الأبعاد والجوانب ، يمكن للمفكر الإسلامي الأخذ بزمامها ، بخلاف العرض التاريخي لما بعد الظهور ، لما عرفناه من قصور الباحث من إدراك العمق الحقيقي لذلك العصر .
الصعوبة السادسة : أنه قد يخطر على الذهن في نقد الأخبار الشارحة لحوادث الفترة التي نؤرخها : أنها قائمة على المعجزات وخوارق العادات ، وهي بطبيعتها بعيدة الحدوث صعبة التصديق ، ومن ثم يشكل ذلك ضعفاً في هذه الأخبار وصعوبة في فهمها واستيعابها .
إلا أن هذه الصعوبة ومما لا يمكن إدراجها في قائمة المصاعب الحقيقية للبحث ، تلك المصاعب التي تضطر الباحث إلى التسليم بالأمر الواقع ، وإدخال النقص الحقيقي على بحثه . فإن هذه الصعوبة ليست كذلك ، وإنما تعتبر نقطة ضعف في البحث عند اتجاه المفكرين الذين اسقطوا المعجزات عند نظر الإعتبار .
فإن عدداً مهماً من تلك الأخبار لا تحتوي على الإشارة إلى أي معجزة على الإطلاق .
وإنما تروي أعمال المهدي (ع) ومنجزاته وعدد أصحابه وغير ذلك ، ومعه فلا تكون مشمولة هذه الفكرة أساساً.
وأما الأخبار الدالة على المعجزات منها : فينبغي فحصها ومحاسبة كل خبر وكل حادثة على حدة ، فما كان منها مطابقاً لقانون المعجزات الذي برهنا عليه في ( تاريخ الغيبة الكبرى)(1) .. أخذنا به ، بمعنى أنه لم يواجه صعوبة من هذه الناحية . وما كان خارجاً عن حدود هذا القانون ، كان مرفوضاً من هذه الناحية وساقطاً عن الإثبات التاريخي . وقد سبق أن طبقنا ذلك بدقة في الكتاب المشار إليه . ويكون ذلك من القواعد العامة الدالة على تكذيبه .
إذاً ، فهذه الصعوبة ، لا تكاد تشكل عقبة حقيقية تجاه هذا البحث ، وإنما المهم هو الصعوبات الخمس الأولى . ولابد من البحث عن إمكان تذليلها و الكفكفة من عمق تأثيرها جهد الإمكان

_______________

.(1) ص37 .


صفحة (19)


الجهة الرابعة : في اسلوب الخروج عن الصعوبات السابقة ، وتذليلها بمقدار ما هو الممكن والمتوفر .
وقد أشرنا فيما سبق : إلى أن الجواب الحاسم على هذه المشكلات ، والقاضي على هذه العقبات جملة وتفصيلاً ، مما لا يتوفر ، ولا يمكن توفره لأي باحث ، ما لم يكن معاصراً لعصر الظهور ، أو متأخراً .
ومن ثم ينبغي الإعتراف بقصور هذا البحث عن الإحاطة بالعمق الحقيقي لليوم الموعود ، والحوادث التفصيلية الواقعة فيه .وإنما غاية ما نحاول أن نصور الفكار العامة والأعمال الرئيسية المتوفرة فيه . من خلال ما بلغنا من أخبار وما نعرفه من قواعد .
وأن خير ما يخرج من تلك المصاعب السابقة هو اتخاذ اسلوبين مترتبين :
الأسلوب الأول : تذليل المصاعب عن طريق القواعد العامة المؤسسة في الكتاب والسنة . وذلك بعرض جميع ما وردنا في مصادر هذا التاريخ عرضه على ما هو المعروف من فهم الإسلام لأمور ووجهة نظره إلى القضايا العامة والخاصة ... ذلك الفهم المستنتج من الكتاب والسنة ، والمستشهد عليه بآية أو رواية أو المعروف عن طريق الإستدلال العقلي القطعي .
ونستطيع بهذه القواعد ، أن نصل إلى عدة نتائج أساسية حاسمة في تذليل تلك المصاعب :
أولاً : محاولة فهم العبارات الرمزية ، بنحو ينسجم مع الفهم الإسلامي الصحيح ، باعتبار أن فهم ظواهرها المباشرة غير محتمل اساساً ، وإلا كان أساساً لتصورات خاطئة اسلامياً ، كما هو المبرهن عليه في البحوث الإسلامية .
وإذ يدور الأمر بين إهمالها وتأويلها ، يكون تأويلها إلى المعنى الصحيح أفضل ، كيف ، ونحن نعلم أن استعمال الرمز على لسان النبي (ص) و الأئمة (ع) أمر غير غريب ، وخاصة فيما يكون فوق فهم السامعين الماشرين لهم ،،كما هو الحال في التعبير عن حوادث تاريخ ما بعد الظهور .
ثانياً : محاولة ملء بعض الفجوات الموجودة في هذا التاريخ المنقول ، بما نعلم عادة قام المهدي (ع) به بعد ظهوره ، بحسب القواعد العامة .. . وإن لم يصرح به في الأخبار نتيجة لظروفها الخاصة .
ولكن تبقى – مع ذلك – فجوات واسعة قد نستطيع ملأها ، أو جملة منها ،عن طريق الأسلوب الثاني الآتي . وبدونه ينبغي الإعتراف بالعجز عن الملء ، لكننا سنرى أننا نستطيع بالأخبار مع تحكيم هذين الأسلوبين تغطية المهم منها .


صفحة (20)

ثالثاً: رفض ما خالف القواعد العامة من النصوص ، وجعلها قرائن فاصلة في رفض أو قبول الأخبار ما لم تكن مستفيضة أو متواترة ، وجعلها المحك في هذا التمحيص .
رابعاً: التوصل إلى بعض ما سكتت عنه الأخبار من الإتجاهات العامة لدولة المهدي (ع) مما يمكن التوصل إليه ، بعد تذليل الصعوبة الخامسة جهد الإمكان كما سيأتي .
خامساً: التوصل إلى الربط بين الحوادث التي لا تبدو مرتبطة في النقل الواصل إلينا ، أو محاولة ترتيبها زمنياً إن لم يكن الترتب موجوداً على ضوء القواعد العامة ، مع الإمكان .
إلى غير ذلك من النتائج المهمة التي سيأتي تطبيقها فيما يلي من البحث .
الأسلوب الثاني : عند اعواز القواعد العامة أحياناً ، تنحصر معرفة النتيجة عن طريق عرض ( الأطروحات ) المحتملة ، كالذي سبق أن طبقناه في تاريخ الغيبة الكبرى .. بالنسبة إلى عدد من أمهات الأمور .
وهذا يعني عرض أقرب الإحتمالات في مورد المشكلة ، أما اثنين أو ثلاثة ،مما لا يكون مخالفاً للقواعد العامة ويكون محتمل التحقق في زمنه الخاص .ويعني ذلك أيضاً عدم الجزم بأحد المحتملات ، بل تبقى المسألة معروضة بمحتملاتها ، لكن يبقى في الإمكان جمع القرائن الدالة على ترجيح أحد المحتملات ، في الأعم الأغلب.
نعم ، يبقى لدينا أمران يحتاجان إلى مزيد من التأمل :
الأمر الأول : المفهوم الطائفي المؤكد عليه في أخبار المصادر الخاصة ،كما سبق أن أشرنا ... وهو وإن كانت له مبرراته الخاصة في عصر صدور هذه الأخبار .كما عرفنا وإلا أن هذه المبررات تكاد تفقد قيمتها الإجتماعية في العصر الحاضر، لأن دولة المهدي (ع) عالمية شاملة للبشرية جمعاء ،وإذا كان مقصودها هو الإستيعاب والشمول في التاريخ ، فلا ينبغي التأكيد على هذا المفهوم خاصة وترك ما عداه من الأعمال والأقوال ، لعهد ما بعد الظهور بأي حال ، لأننا نكون قد اقتصرنا على بعض الجوانب دون بعض.


صفحة (21)

والذي ينبغي أن يقال : أنه بعد التسليم بإمكان تصديق هذه الأخبار ، ما كان منها صالحاً للإثبات التاريخي .. بناء على الفهم المهدوي الإمامي .. يمكننا تغطية هذا الإتجاه الطائفي في تاريخنا هذا بأسلوبين :
الأسلوب الأول : أننا بعد أن نملأ الفجوات التي عرفنا ، ونرهن على اتصال المهدي (ع) بغير المسلمين شعوباً وحكومات ، تقديماً لإدراجهم في دولته العالمية ... ونستطيع فهم الإتجاهات العامة والآثار الكبرى التي تترتب على ذلك ... وعندئذ يمكننا أن نعطي لتلك الأخبار مدلولها الواقعي .
إن الأمة الإسلامية ستصبح هي القائدة والرائدة للبشر أجمعين على طريق العدل الكامل ، وبجهودها سيفتح القائد المهدي (ع) العالم ، ومن منطلقاتها سيستطيع بث الدعوة المقدسة إلى العالم ، والأمة القائدة ينبغي أن تكون على مستوى هذه المسؤولية الكبرى ، وإلا كانت جهودها في العالم فاشلة .ومخلة في التخطيط العام في نهاية المطاف .
ومن هنا كان التاكيد على ترتيبها في التخطيط الإلهي كبيراً ، سواء في عصر (الغيبة) أو في عصر الظهور .وقد انتجت تربيتها في عصر الغيبة تمخضها عن الجماعة المؤمنة التي تمارس فتح العالم بين يدي المهدي ، إلى جانب انحراف الأعم الأغلب من البشر وتمرسهم بالظلم والطغيان ، حتى من الأمة الإسلامية نفسها ، وهذه الأمة التي أصبح الأكثر فيها منحرفاً لا يمكن أن تكون على مستوى مسؤولية القيادة العالمية بأ ي حال .
فإذا لاحظنا درجات الإخلاص الأربعة التي ذكرناها في التاريخ السابق(1) ودرسنا احتمالات تجاوب أفراد الأمة الإسلامية مع الإمام المهدي (ع) في أول دعوته ، وهي احتمالات واسعة جداً بلحاظ ما يحمله الأفراد من درجات الإخلاص . لكن يبقى الكثيرون ومما لا يتصفون بالإخلاص اساساً كما ينبغي رفع درجات الإخلاص عند الأفراد من الدرجات الدانية إلى العالية منها تدريجاً لتكون الأمة بسرعة على مستوى القيادة العالمية ، كأمة ذات دعوة وهدف .
وهذا يحتاج إلى أعمال عسكرية وفكرية واسعة النطاق ، قد لا تقل عن المقادير الواردة في الأخبار التي سنسمعها خلال هذا التاريخ لكن ينبغي أن نفهم أن من يعمل المهدي (ع) ضده من الأفراد المسلمين هو كل منحرف منهم ، وإن كان على مذهب لمهدي نفسه من الناحية النظرية . (1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 248 وما بعدها
 


صفحة (22)


وهذا الذي يفسر لنا كيف أن جهود المهدي (ع) في أول ظهوره . وخلال فترة سيطرته على العالم عسكرياً وفكرياً وتكون مبذولة على الأمة الإسلامية نفسها أكثر من أي أمة أخرى قائدة للعالم ورائدة للحق . ريثما يستتب له الوضع العالمي ليوزع جهوده على العالم على حد سواء وليس في مداليل الأخبار التي نحن بصددها ما هو أوسع من ذلك .
الأسلوب الثاني : في تغطية الإتجاه الطائفي للأخبار ، وهوالإستغناء عن ذكر ما يوجب جرح العواطف المذهبية وإثارة الضغائن بين المذاهب الإسلامية وإن اوجب ذلك وجود فجوة تاريخية .
على أن الأخبار المتطرفة ليست كثيرة ، ليست واردة بطريق صحيح ولا تثبت للنقد أمام الأسلوب الذي اتخذناه بالعمل بالأخبار ، فلا يكون تركها مؤسفاً.
الأمر الثاني : مما يحتاج إلى التأمل : أن ما قلناه من قصور الباحث عن إدراك العمق الحقيقي لليوم الموعود وقيادة المهدي (ع) فيه ، حقيقة واقعة لا مناص منها ، ومن هنا كون الباب منسداً أمام التعرف على التخطيطات والتشريعات التفصيلية التي يقوم بها القائد المهدي (ع) والعمق الحقيقي لثقافة الفرد المسلم والجماعة المسلمة في ذلك العصر .
إلا أن هذا لا يعني بحال عدم إمكان التعرف على ذلك بنحو الإجمال ، على شكل قضايا تجريدية تتصف بشيء من العمومية ... وذات اختصار تجاه تلك التفاصيل القليلة على ما سنرى .
إذاً ، فهذا البحث لا يمكنه أن يزاحم الحقائق في ذلك العصر ، أو يغني يعنها ، وإنما غاية جهده أن يلم بعناوينها العامة وقضاياها الإجمالية ونتائجها الرئيسية عن طريق مبرهن صحيح .
وبالإطلاع على هذه الجهات . نعرف بوضوح جواب السؤال الذي ذكرناه في أول التمهيد ، من أن هذا البحث خال من الفائدة ورجم بالغيب قد يتحقق في المستقبل وقد لا يتحقق .
أما إنكار فوائد هذا البحث ، فقد عرفنا ما يترتب علبه من فوائد الجهة الأولى من هذا التمهيد ، فإن كل فائدة منها تكفي في رجحان الدخول في هذا البحث فضلاً عن المجموع .


صفحة (23)

وأما كونه رجماً بالغيب ، فليس كذلك لأننا إذ نتكلم على المستوى الإسلامي ، إنما نأخذ ذلك من مصادر الإسلام الأساسية وقواعده العامة ، و ليس فيه أي إخبار بالمغيبات على الإطلاق .
نعم ، نفس الأخبار الواردة عن النبي (ص) والأئمة (ع) التي نعتمدها في هذا الصدد ، تحتوي على الأخبار بالغيب أو بحوادث المستقبل، شأنها في ذلك شأن العديد من الأخبار التي اعتمدناها في التاريخ السابق ، والتي اثبتنا صحة الأعم الأغلب منها، وهو مما لا يكون مضراً على المستوى الإسلامي بعد إمكان تعليم الله تعالى إياهم ذلك ...ووجود المصلحة في تبليغه ، وهوالإعداد التدريجي للأمة الإسلامية لتلقي اليوم الموعود .
مضافاً إلى أننا اختبرنا هذه الأخبار ، في التاريخ السابق ، فوجدناها صادقة وفيها ما هو مبرهن الصدق غلى حد يدل على صدق العقيدة الإسلامية ، فضلاً عن قضية المهدي ، كما قلنا هناك(1) فإذا أمكنن أن نصدق بعض الاخبار وامكننا ان لا نستبعد صدق الجميع .
واما كون هذا التاريخ مما قد يتحقق أو لا يتحقق ، فهذا تابع لقوة ما سنعرضه من الأدلة ، وفيها ما هو قطعي الإنتاج ، وماهو مؤكد وما هو ظني، وإن كانت كلها صالحة للإثبات التاريخي طبقاً للمنهج الذي ذكرناه ،ولا معنى بطبيعة الحال ، أن نقول لما هو قطعي أو مؤكد ، أنه سوف لن يتحقق أو أن احتماله ضعيف !!!...
الجهة الخامسة: في بيان ترتيب ابواب وفصول هذا الكتاب ... نذكره في البدء ليكون القارئ ملما بالتسلسل المنطقي لها، قبل الدخول في التفاصيل:
يقع هذا التأريخ في اقسام ثلاثة:
القسم الاول: في ارهاصات او تقديمات الظهور، بما فيها من اسس عامة، وضواهر خاصة. وفيه بابان:
الباب الاول: في الاسس العامة للظهور، ونعني بها القضايا الرئيسية التي يبتني عليها اليوم الموعود.
ويتكون هذا الباب من عدة فصول:
الفصل الاول: ارتباط يوم الظهور بالتخطيط العام الإلهي للبشرية، ذلك التخطيط الذي سبق ان عرضناه وبرهنا عليه في تاريخ الغيبة الكبرى

______________________

.(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 538 وما بعدها الى عدة صفحات.


صفحة (24)


الفصل الثاني : آثار الغيبة الكبرى على ما بعد الظهور ، فيما يعود إلى الإمام المهدي (ع) نفسه وما يعود إلى أصحابه . وما يعود إلى البشرية على وجه العموم .
الفصل الثالث : تويقت الظهور من ناحية شرائطه وعلاماته ، وفائدة تحقق هذه الأشياء بالنسبة إلى ما بعد الظهور . مع الإلماع إلى أن مثل هذا التوقيت لا ينافي الأخبار الدالة على نفي التوقيت .
الفصل الرابع : الأيدولوجية العامة التي يتبناها الإمام المهدي (ع) تجاه الكون والحياة والتشريع .
الفصل الخامس : التخطيط الإلهي لما بعد الظهور . وإن التخطيط الإلهي العام للبشرية لا ينقطع بالظهور ، بل يبقى ساري المفعول لكن على شكل جديد .
الباب الثاني : حوادث ما قبل الظهور . ونعني بها الحوادث التي تقع قبل الظهور بزمن قليل . وهو ما سبق ان اجلنا فيه الكلام من تاريخ الغيبة الكبرى الى هذا التاريخ بعد ان فصلنا الكلام هناك بالحوادث التي لا تكون بطبيعتها قريبة من عصر الظهور .
يندرج في ذلك : حروب السفياني وفتنة الدجال ، وقتل النفس الزكية ، والصيحة والنداء ، وغير ذلك ، مما ورد النقل عن حدوثه قبل الظهور بقليل . وقد سبق ان اعطينا فكرة كافية عن الثلاث اولا في التاريخ السابق الا اننا نحاول هنا ان نعطي فكرة جديدة عنها ، في حدود الفرق في اسس الاثبات ومنهجة البحث بين الكتابين ، وقد المعنا الى المهم منها قبل صفحات .
القسم الثاني : حوادث الظهور واقامة الدولة العالمية الى وفاة الامام المهدي (ع) ويندرج فيه عدة ابواب :
الباب الاول : في حوادث الظهور ، وما يليه الى حين مسير المهدي (ع) الى العراق ويتم الكلام في ذلك ضمن فصول :
الفصل الاول : في معنى الظهور وكيفية ، وطريقة معرفة الامام (ع) بالوقت الملائم لذلك
الفصل الثاني : في مكان الظهور وزمانه ، ونعني بالزمان : اسم اليوم والشهر ونحو ذلك مما قد في بعض الاخبار تعيينه .
الفصل الثالث : خطبته الاولى ، مع بيان مغازيها والتعرض الى عمق مضامينها .


صفحة (25)

الفصل الرابع : عدد أصحابه وخصائصهم وكيفية اجتماعهم .
الفصل الخامس : منجزاته الأولى إلى حين الوصول إلى العراق .
الباب الثاني: فتحه للعالم بالعدل .
وهو على عدة فصول :
الفصل الأول : في نقطة الإنطلاق . والمراد به المكان الذي يبدأ به المهدي (ع) غزو العالم .
الفصل الثاني : في سعة ملكه .
الفصل الثالث : ضمانات النصر لديه (ع) ، وأنه كيف يمكن أن ينتصر بالعدد القليل على العالم وفيه القوى الكبرى ذات العدد والعدة .
الفصل الرابع : في كيفية ومدة استيلائه على العالم . أعني من أول ظهوره إلى حين تأسيس الدولة العالمية بكاملها .
الفصل الخامس : ما يحتمل أن يكون موقف الآخرين منه ، سواء في ذلك الأفراد أو الجماعات .
الفصل السادس : في مدة بقائه في الحكم.
الباب الثالث : التطبيق الإسلامي المهدوي ، أو الدولة المهدوية العالمية ، ويتضمن هذا الباب عدة فصول :
الفصل الأول: مجيء المهدي (ع) بكتاب جديد وقضاء جديد ...وإعطاء الفكرة الصالحة عن ذلك .
الفصل الثاني : موقفه من القضايا السياسية والإجتماعية .
الفصل الثالث : ضمانات التطبيق السريع للعدل الكامل في العالم .
الفصل الرابع : قيادات أصحابه . ومقدار قابليتهم وسعتها .
الفصل الخامس : تمحيص المهدي لأصحابه وللأمة عامة .
الفصل السادس : أسلوبه في تربية الأمة على وجه الإجمال بعد تعذر الإطلاع على التفصيل .
الفصل السابع : منجزات المهدي على الصعيدين الإجتماعي والإقتصادي في حدود ما وردنا في الأخبار وما تقتضيه القواعد العامة .


صفحة (26)

الفصل الثامن : موقف الإمام المهدي (ع) من أهل الكتاب ، ومسألة مشاركة المسيح عيسى بن مريم على نبينا وعليه السلام ومعه في القيادة العالمية .
الباب الرابع : في انتهاء حياة المهدي (ع) والحديث عن سبب موته .
القسم الثالث : العالم بعد المهدي (ع) .
و ينقسم إلى بابين :
الباب الأول : في قيادة ما بعد المهدي (ع) ، وعرض صفات الدولة ومن حيث الرئاسة والخصائص العامة لها وللمجتمع .
الباب الثاني : في نهاية البشرية ، وهل يصح : أنه لاتقوم الساعة إلا على شرار الخلق .
هذا ويكون الكلام في هذا القسم الثالث موجزاً نسبياً ، لأجل أن نعرضه بكل تفصيل في الكتاب الرابع من هذه الموسوعة .
وينبغي أن نشير هنا إلى أننا جعلنا عنوان هذا الكتاب : تاريخ ما بعد الظهور ، لأن المهم هو التعرض إلى تاريخ البشرية من زاوية ما يقوم به المهدي (ع) من أعمال من حين ظهوره فصاعداً . ويبقى التعرض إلى العلامات القريبة السابقة على الظهور بقليل ، وإلى الظهور نفسه وما يحتويه من ملابسات ، يبقى ذلك كأنه من مقدمات هذا التاريخ .


صفحة (27)

القسم الأول
في إرهاصات الظهور ومقدماته
بما فيها من أسس عامة وظواهر خاصة .
وفيه بابان :
الباب الأول
في الاسس العامة لظهور المهدي (ع)
ونعني بها القضايا الرئيسية التي يبتني عليها اليوم الموعد ، بما يحتويه من ظهور المهدي (ع) ودولته العالمية العادلة . ويتكون هذا الباب من عدة فصول :
الفصل الأول
ارتباط الظهور بالتخطيط الإلهي العام
يكون التخطيط الإلهي العام المنتج لشرائط الظهور، قد انتهى ، وتكلل بنتيجه الكبرى ، وهو حصول اليوم الموعد .
وحاصل الفكرة التي فصلناها في التاريخ السابق(1) : اننا انطلاقاً من قوله تعالى : ( وما خلقتُ الجن وَالإنسَ إلا ليَعْبُدُون)(2) نفهم : ان الغرض الإلهي الاسمى من ايجاد الخليقة . وامدادها بالادراك والاختيار ، هو التوصل بها إلى الكمال ، وهو تمحيض العبادة الحقيقة لله تعالى ، والغرض الإلهي لا يمكن ان يتختلف .
وقد ذكرنا هناك معنى العبادة الحقيقية(3) ... وبرهنا(4) على ان وجود هذا الهدف يتوفق على عدة شرائط ، هي كما يلي :
أولاً : وجود الاطروحة العادلة الكاملة المبلغة إلى البشر من قبل الله تعالى. لتكون هي القانون السائد في المجتمع .
ثانياً : وجود القيادة الحكيمة التي يقوم بتطبيق تلك الاطروحة في اليوم الموعود .
ثالثاً : وجود العدد الكافي من المخلصين المؤازرين للقائد بتطبيقه العالمي المنشود .
أما الشرط الأول : فقد خطط الله تعالى لا يجاده وتربية البشرية عليه . ضمن خط الانبياء الطويل ، حتى تكلل هذا التخطيط بالنجاح بانجاز هذا الشرط ضمن الاطروحة الاسلامية المبلغة من قبل خاتم الانبياء (ع)

______________

(1) انظر تاريخ الغيبة الكبرى ص 233 وما بعدها الى عدة صفحات. (2) الذاريات:51/65. (3) تأريخ الغيبة الكبرى ص234
(4) المصدر 476 وما بعدها.


صفحة (33)


وقد سبق هناك ان برهنا ان الاطروحة العادلة الكاملة هي الاسلام(1) .
وأما الشرط الثاني : فقد وفره الله تعالى في المهدي (ع) كقائد امثل للبشرية ليكون هو المطبق لتلك الاطروحة الكاملة في اليوم الموعود . . . واكد على بقائه الطويل خلال اجيال عديده من البشر . ذلك البقاء الذي سنرى في الفصل الآتي ، كونه ضرورياً لتولية القيادة المألولة في اليوم الموعود ، وقد اعطينا طرفا ً مختصراً عن ذلك في التاريخ السابق(2) .
وأما الشرط الثالث : فقد خطط الله تعالى لايجاده بعد الاسلام . فإن تربية الفرد على تفهم وتطبيق مناهج سابقة غير الاطروحة العادلة الكاملة . والتي سبق(3) ان برهنا على مرحليتها وضيق مضمونها باعتبار ان الذهن البشري لم يكن قابلاً لأكثر من ذلك . ان التربية على تفهم وتطبيق هذه المناهج مما لا يكون مجديا ً في تحقيق العدل في اليوم الموعود .
وانما لا بد من تربية الامة الاسلامية على الاطروحة الكاملة نفسها . من حيث تفهمها واستيعاب مضمونها ـ من ناحية ـ والكفاءة لتطبيقها واطاعة مواد قانونها من ناحية ثانية . . . ليكون اللافذاذ الممحصين من هذه الامة شرف المشاركة في انجاز اليوم الموعود ، وتوطيد دعائم الدولة العالمية العادلة .
ومن هنا كان لا بد ان تمر الامة الاسلامية بخط طويل من التربية ، وبظروف معينة من الامتحان والتمحيص ، من الناحيتين الفكرية والعاطفية .
أما من الناحية الفكرية ، فتتربى الامة ، وبشكل غير مباشر كل البشرية . بما يقدمه لها المفكرون الاسلاميون من بحوث وتدقيقات لدينهم الحنيف ، لكي تكون الأمة ، ومن ثم : البشرية كلها ، على مستوى تفهم الافكار والتشريعات الجديدة التي تعلن في اليوم الموعود .
وأما التربية من الناحية العاطفية ، أي من جهة تعميق الايمان والاخلاص فالاسلوب الرئيسي لذلك : هو ان تمر الامة بظروف صعبة من الظلم والمصاعب والانحراف ، ويكون رد فعلهم تجاه هذا الظلم والانحراف ، ويكون لدى النخبة الصالحة منها من الاخلاص والايمان وقوة الارادة ، بحيث يكون رد فعلهم تجاه هذا الظلم والانحراف رد فعل مخلص متضمن للتطبيق الكامل للاطروحة الكاملة ، او الإطاعة التامة للاسلام .


صفحة (34)

(1) المصدر ص 261. (2) المصدر ص 501 وما بعدها. (3) المصدر ص 255 وما بعدها و ص 258 وما بعدها.
وتستمر التربية جيلا بعد جيل على هذا الاساس ، يتزايد خلالها هؤلاء الخلصون ، كما يتطرف العديدون إلى جانب الظلم والانحراف ، حتى يأتي اليوم الذي يتوفر العدد الكافي من هؤلاء المخلصين لقيادة اليوم الموعود وتنفيذه . وعندئذ يكون الوعد الإلهي ضروري التطبيق . بعد توفر شرائطة الثلاثة .
ومعه نستطيع ان نفهم بكل وضوح ، مدى ارتباط يوم الظهور الموعود بالتخطيط العام للبشرية ، فانه في الحقيقة هو اليوم الذي يتحقق فيه السبب الرئيسي لايجاد العبادة الكاملة لله تعالى في خلقة . . . وبايجاده يتحقق الهدف الاسمى لخلق البشرية ككل .
إذاً فيوم الظهور ، ليس يوماً ولا عرضاً عارضاً ، ولا ظاهرة موقتة ، وانما هو النتيجة الطبيعة المقصودة لله عز وجل من خلقة . وعلى طريقة كانت جهود الانبياء والأولياء والشهداء . اولئك الاعاظم الذين لم تتكمل جهودهم بالنتيجة الاساسية المأمولة في عصورهم ، بل بقيت مذخورة ومخططة لليوم الموعود .
وعلى طريقة كانت تضحيات البشر والآمهم ، وما قاسوه من المصاعب والمصائب على مر التاريخ . وما مروا فيه من ظروف الظلم والعسف والنحراف . فهو غياث المستغيثين وامل الآملين ورافع كرب المكربين وظلم المظلومين ، ومحقق العدل العظيم .
وسيأتي فيما يلي من البحث، المزيد من التفضيل والايضاح لهذه الفكرة .


صفحة (35)

الفصل الثاني
في نتائج الغيبة الكبرى على ما بعد الظهور
بالنسبة إلى كل من الإمام المهدي (ع) نفسه ،
وبالنسبة إلى أصحابه وخاصته ،
وإلى الامة الإسلامية بشكل عام ، بل إلى البشر أجمعين
تنقسم الغيبة الكبرى في مفهومها الضخم الذي حققناه في التاريخ السابق غلى ثلاثة مداليل :
المدلول الأول : تأجيل اليوم الموعود إلى امد بعيد ، وإلى موعد مجهول .
المدلول الثاني : طول عمر الامام القائد المذخور للمهمة ، ومعاصرة العالمية في اليوم الموعود . . . كما يقتضية الفهم الامامي للمهدوية ، معاصرة هذا القائد لتاريخ طويل واجيال كثيرة للامة الاسلامية .
المدلول الثالث : غيبة هذا القائد خلال ذلك ، وعدم اطلاع الناس على شخصه، ومكانه واسلوب حياته . . . بالمعنى الذي ذكرناه من الغيبة في التاريخ السابق(1). ولكل من هذه المداليل تأثيره الحقيقي الفعال في اليوم الموعود .
أما المدلول الأول : فهو مدلول ثابت ومنتج سواء على الفهم الامامي للمهدي او على الفهم الآخر . لان قضية التأجيل امر واضح للمسلمين عموماً من صدر الاسلام وإلى المستقبل . . . لا يختلف الحال فيه بين ان يكون القائد المهدي (ع) موجوداً خلال هذا الاجل الطويل او لم يكن ، او غائباً او ليس بغائب .

_________

(1) أنظر تأريخ الغيبة الكبرى ص34


صفحة (37)


ولهذا المدلول ، اعني التأجيل الطويل ، فوائد المهمة وآثارة العميقة على اليوم الموعود والدولة العالمية، من عدة نواحٍ :
الناحية الأولى : مرور الامة الاسلامية بظروف التمحيص والاختيار . التي توضح حقيقة افرادها وتكشف عن ايمان المؤمنين فيها . وتجعلها على طريق تعميق الاخلاص والوعي .
الناحية الثانية : ان ظروف التمحيص الطويل تنتج العدد الكافي من الافراد المخلصين الكاملين لغزو العالم بالعدل ، الذين يكون لهم شرف القيادة في اليوم الموعود . الأمر الذي عرفنا اهميته في التاريخ السابق مفصلاً.
الناحية الثالثة : ان هذه المدة الطويلة كفيلة باكمال تربية الاجيال من الناحية الفكرية والعاطفية او - بتعبير آخر : على فهم الاطروحة العادلة الكاملة ، أولاً ، والتدرب على اطاعتها والتضحية في سبيلها .
وقد سبق ان عرفنا في تاريخ الغيبة الكبرى فكرة مفصلة عن ذلك ـ وهذه التربية لا تختص بخصوص الممحصين الكاملين ، بل هي عامة تشمل سائر الأفراد على مختلف المستويات ، كما برهنا ، وهي تؤثر في الامة من زاوية جعلها على مستوى فهم القوانين والافكار والمفاهيم التي تعلن في الدولة العالمية والتي يكون اعلانها ضرورياً لاستتباب العدل الكامل في الارض .
وهذه النواحي الثلاث ، كما قلنا ، لا ترتبط بوجود الامام الغائب ، بل يمكن تصور انتاجها لفوائدها بدون الايمان بذلك ، طبقاً للتصور غير الامامي للمهدي . . . حتى ما إذا علم الله تعالى إكماله للنتيجة بحسب ما هو المقصود في تخطيطه الطويل ، اوجد الامام المهدي في عصره ، فأخذ بقيادة الامة الاسلامية والبشرية إلى شاطئ العدل والسلام .
الا ان هذا مما لا ينبغي المبالغة في نتيجته ، وان كان صحيحاً على أي حال ...وذلك بعد ان نلتفت إلى مجموعة امرين :
الامر الأول : ما تسالمت عليه مذاهب المسلمين على اختلافها ، من ان الحق منحصر في مذهب واحد على الاجمال ، وام المذاهب الاسلامية الاخرى بعيدة عن واقع الاسلام بقليل او بكثير غاية الامر ان كل مذهب يدعي هذه المزية لنفسه .
الأمر الثاني : ان التمحيص الإلهي الضروري لايجاد اليوم الموعود ، لا يكون الا على الحق ، والتجارب والمحن لا تنطلق الا من طاعته والاخلاص له . واما المذهب او المذاهب التي يكون في واقعها بعيدة عن الاسلام ، فالتربية على اساسها والتدريب على طاعتها تدريب على الباطل وان اتخذ صفة الاسلام .


صفحة (38)

اذاً ، فالتمحيص ينحصر في المذهب الواحد الحق المطابق للاسلام والمرضي لله تعالى من المذاهب المتعددة في الاسلام ، وهو ـ على اجماله ـ الذي يقوم فيه المخلصون الكاملون بقيادة البشرية بين يدي الامام المهدي في اليوم الوعود .
ومعه ، فالفوائد المبينه على أساس المدلول الأول والناتجة عنه ، لا تترتب الا على ذلك المذهب الحق ، ولا يمكن ان يترتب على مجموع مذاهب المسلمين .
وأما المدلول الثاني : وهو عمر الامام المهدي (ع) ومعاصرته لتاريخ طويل للامة الاسلامية خاصة وللبشرية عامة . . . فما يترتب عليه من الفوائد يختص بالفهم الامامي للمهدي (ع) ولا يعم فهم المذاهب الاخرى له . فإذا عرفنا ما لهذا المدلول من فوائد في تكميل وترسيخ العدل في عصر الظهور ، امكننا ان نعرف افضلية التصور الامامي على غيره من هذه الجهة . وان الله تعالى حين يريد افضل اشكال العدل للدولة العالمية ، فهو يختار التخطيط للغيبة . وبذلك نستكشف صحة التصور الامامي وتعين الاخذ به في التخطيط الإلهي .
وقد بحثنا ذلك في التاريخ السابق(1) طبقاً لمنهج معين ، ونريد ان نبحثه الآن طبقا لمنهج آخر ، قد يكون اكثر تحليلاً :
وخلاصة القول في ذلك : ان الاطروحة الامامية لفهم المهدي (ع) في حدودها الصحيحة المبرهنه التي عرضناها في التاريخ السابق : تتضمن ـ في حدود المدلول الثاني الذي نحن بصدده ـ عدة خصائص مهمة .
الخصيصة الاولى : الايمان بعصمة الامام المهدي (ع) ، باهتباره الثاني عشر من الائمة المعصومين.
الخصيصة الثانية : الايمان بكونه القائد الشرعي الوحيد للعالم عامة ولقواعده الشعبية خاصة ، طيلة زمان وجوده ، سواء كان غائباً أو حاضراً .
الخصيصة الثالثة : معاصرته لاجيال متطاولة من الامة الاسلامية خاصة والبشرية عامة .
الخصيصة الرابعة : كونه على مستوى الاطلاع على الاحداث يوماً فيوماً وعاماً فعاماً عارفاً باسبابها ونتائجها وخصائصها .

________

(1) أنظر : التخطيط الخاص بايجاد القائد ص497 وما بعدها.


صفحة (39)


الخصيصة الخامسة : كونه على ارتباط مباشر بالناس خلال غيبتة ، يراهم ويرونه ويتفاعل معهم ويتفاعلون معه ، لا انهم لا يعرفون بحقيقة الا نادراً جداً ، وذلك طبقاً لـ ( اطروحة خفاء العنوان ) التي اخترناها وبرهنا عليها في تاريخ الغيبة الكبرى(1) .
وكل هذ الخصائص مما يفقدها الفهم غير الامامي للمهدي ، بكل وضوح . وانما المهدي بحسب تلك الاطروحة شخص يولد في زمانه ، وييسر له الله عز وجل ظروف الثورة العالمية . فهل هذا العمل الكبير ممكن التنفيذ من قبل شخص غير معصوم ، احسن ما فيه انه يمثل ثقافة عصره ودرجة وعيه من الناحية الاسلامية ؟ ! ..
الحق ، اننا ينبغي ان نذعن بان مثل هذا الانسان ، لا يمكن ان يؤهل للقيادة العالمية بأي حال ، وان خصائص المهدي في التصور الامامي ليست بالخصائص الطارئة أو الثانوية ، وانما هي اساسية في تكوين قيادته وتمكنه من تحقيق المجتمع العادل ، كما أراده الله تعالى وكما وعد به .
أما الخصيصة الأولى : وهي عصمة الامام المهدي (ع) فتترتب عليها عدة فوائد ، يمكن ان نشير إلى اربعة منها :
الفائدة الأولى : كونه وارثاً علم الامامة المتضمن للاسس الرئيسية للفكر القيادي العالمي . . . عن آبائه المعصومين عن رسول الله (ص) عن الله عز وجل . وأنى لمن يوجد في العصور المتأخرة الحصول على ذلك، الا بوحي جديد من الله عز وجل، وهو ما حصل الاجماع من قبل سائر المسلمين على عدم حصوله للمهدي(ع).
ولا يخفى ما في الاطلاع على هذه الاسس الرئيسية من زيادة في القدرة على القيادة العالمية ، ان لم تكن ـ في واقعهاـ الطريق الرئيسي الوحيد لذلك وتعذر القيادة العالمية بدونها ، وكلما تعين شيء للقيادة العالمية او كان افضل لها . كان الله تعالى من منجزاً له لا محالة ، لكونه واقعا في طريق الهدف البشري الأعلى ، وكون اختيار عكسه ظلم للبشرية وموجب لتخلف الهدف وكلاهما محال على الله عز وجل ؟
الفائدة الثانية : الشعور بالابوة للبشر اجمعين ، فهو حين يحارب الكافرين والمنحرفين ويقتل العاصين ، لا يشعر تجاههم بحقد او ضغينة وانما يحاربهم من اجل مصالحهم انفسهم ونشر العدل والسعادة في ربوعهم . وايصال الحق إلى اذهانهم .

__________

(1) أنظر ص34 وما بعدها.


صفحة (40)


واجتماع هاتين العاطفتين ، اعني الشعور بالابوة مع قصد القتل ، لا تتوفر لدى أي أحد في التجربة الفعلية للفتح الاسلامي الا اذا كان معصوماً .
ومن هنا رأينا الفتح الاسلامي بعد انحسار القيادة المعصومة عنه ، قد تحول إلى مقاصد اخرى لا تمت إلى الشعور بالعطف الابوي على الشعب المغلوب ، بأي صلة ... وانما اصبح الفتح تجارياً محضاً، كما سمعنا طرفاً منه في (تأريخ الغيبة الصغرى)(1).
فإذا كان هذا الشعور متعذراً لغير المعصوم في الفتح الاسلامي العالمي ذو النطاق المحدود ،فكيف بالفتح الاسلامي العالمي، بما تزهق فيه من نفوس ، وماتحصل فيه من اموال ، وما يتسع فيه من سلطان .
الفائدة الثالثة : عدم الانحراف بالقيادة عن مفهومها الاسلامي الصحيح الذي يشجب استغلالها في سبيل ترسيخ الكرسي والتمسك بدفة الحكم والجشع الشخصي . . . هذه الآثار السيئة والعواطف المنحرفة التي لا يكاد تنفك عن كل من يحكم رقعة من الأرض، او دولة معينة ، فكيف إذا أصبح الحكم عالمياً واصبحت السيطرة والنفوذ في القمة من السعة والشمول .ان الفرد مهما كان صالحا ونقيا قبل هذه القيادة ، سيكون مثل هذه القيادة محكا لانحرافه وطمعه ، لمدى ضغط الدافع الشخصي والمصلحي على الفرد الحاكم ، مالم يكن معصوما بالفعل عن ارتكاب كل قبيح ومعصية في التشريع الاسلامي .
الفائدة الرابعة: الدقة الكاملة في التطبيق العالمي للاطروحة العادلة الكاملة ومن ثم الأخد بزمام المجتممع للعبادة المحضة لله عز وجل ، التي هي الهدف الأساسي من ايجاد الخليفة .
وهذه الدقة يمكن ان تتوفر للمعصوم بكل سهولة ، بناء على الفهم الامامي للعصمة . وهو ان المعصوم ممتنع عليه الخطأ والنسيان مضافاً إلى عصمته من الذنوب ، وان الامام ( متى أراد ان يعلم شيئا اعلمه الله تعالى ذلك) كما نطقت به الاخبار(2) . فان المشاكل العالمية مهما كثرت وتعقدت ، يمكن للامام التصف بهذه الصفات ، ان يهيء لحلها اقرب الاسباب.

_____________

(1) أنظر ص96 وما بعدها. (2) أنظر: الكافي (الاصول) لثقة الإسلام الكليني (مخطوط) في باب بعنوان: أن الائمة إذا شاءوا بعلموا علموا .


صفحة (41)


ولعل هذا هو السر الأساسي في جعل هذه الصفات للمعصوم واتصافه بها مع انه لا تترتب عليها مصالح الدعوة الإلهية بالمعنى الشخصي .
وذلك: انه قد يستشكل في الدليل العقلي التقليدي على العصمة ، بان : غاية ما دل عليه ذلك الدليل هو وجوب عصمته عن الذنوب وعن الكذب في التبليغ والدعوة ، لكي يكون كلامه مؤثراً في الآخرين ومقنعاً لهم . بخلاف ما لو عرفوه محتمل الكذب في حياته السابقة ، فان هذا التأثير لا يحصل لا محالة ، اما عصمته عن الخطأ والنسيان فهو مما لا يشمله ذلك الدليل لإمكان تدراك ما فات بعد الالتفات .
والجواب عن ذلك ، على ضوء النتائج السابقة ، ان العصمة عن الخطأ والنسيان مما يتوقف عليه التطبيق العالمي للعدل الكامل(1) . وخاصة في مهمته الأولى، وتحويل العالم الفاسد إلى عالم صالح عادل ، والمفروض في كل معصوم ان يكون على مستوى القيادة الثابتة له نظرياً . اعني ان يكون له من القابليات ما يمنعه من التقصير في تنفيذها . باعتبار ان ايكال الدعوة إلى شخص قاصر عن تطبيقها مستحيل على الله عز وجل ، بل لا بد ان تنسجم دائما مدعيات الدعوة الالهية من الناحية النظرية مع امكان التطبيق على طول الخط .
هذا حال المعصوم ، ام الغير المعصوم ، فيتعذر عليه تماما قيادة العالم بالعدل ، وخاصة في تحويل لأول مرة من الظلم إلى العدل ، الأمر المملوء بالمشاكل والعقبات .
ولعل أطرف ما يبرر ذلك ، ما روي عن ذي القرنين حين اوكل إليه الله تعالى قيادة العالم ، ولم يكن حاكماً من الناحية العملية إلا على بعض العالم . . . وقد أوحى الله تعالى ، ( يا ذا القرنين انت حجتي على جميع الخلائق ما بين الخافقين من مطلع الشمس الى مغربها . وهذا تأويل رؤياك .

________

(1) ولا ينافي هذا ما قلناه في التاريخ السابق عن القاعدة القائلة: اذا أراد الامام أن يعلم شيئاً أعلمه الله تعالى ذلك. فاننا حددناها هناك (ص517) ببعض القبود. ولكنها في ضمن تلك الحدود تكون كافية للقيادة العالمية ، ولا يقتضي الدليل الذي ذكرناه هنا ما هو أوسع من ذلك.


صفحة (42)


فقال ذو القرنين : ياإلهي انك ندبتني لأمر عظيم ، لا يقدر قدره غيرك . فأخبرني عن هذه الأمة ، بأية قوة اكابرهم ، وبأي عدد أغلبهم وبأي حيلة أكيدهم ، وبأي صبر أقاسيهم ، وبأي لسان أكلمهم . وكيف لي بأن اعرف لغاتهم ، وبأي سمع أعي قولهم ، وبأي بصر انقدهم ، وبأي حجة اخاصمهم ، وبأي قلب أعقل عنهم ، وبأي حكمة أدبر أمرهم . وبأي علم اتقن امرهم ، وبأي حلم اصابرهم ، وبأي معرفة أفضل بينهم ، وبأي عقل احصيهم. وبأي جند أقاتلهم ، فإنه ليس عندي مما ذكرت يارب شيء ! فقوّني عليهم ، فانك الرب الرحيم الذي لا تكلف نفساً إلا وسعها ، ولا تحملها إلا طاقتها ) (1).
فهذه الرواية تبرز بوضوح صعوبة ممارسة الحكم العالمي . ولئن ذللت المدينة الحديثة بعض هذه المصاعب إلى حد ما ، فانها اضافت إليها مصاعب وتعقيدات جديدة . تزيد في الطين بلة . ولولا ان الله عز وجل وعده بعد ذلك ـ لو صحت الرواية ـ بالتوفيق والتسديد ، لكان من الحق تعذر بل استحالة القيادة الشخصية غير المعصومة للعالم ، بل لبعض العالم ، فان ذا القرنين لم يكن حاكما للعالم ، بل لبعض العالم ، فان ذا القرنين لم يكن حاكما للعالم كله.
نعم ، ترتفع هذه الاستحالة ويقل التعذر ، مع وجود القيادة الجماعية الا اننا سبق ان ناقشناها بالتفصيل في التاريخ السابق(2) ، وسيأتي تطبيق ذلك في مستقبل هذا التاريخ . وسيتضح انه لا يمكن للمهدي ان يأخذ بالقيادة الجماعية الا بعد ان تمر البشرية بتربية طويلة طبقا للمناهج التي يضعها بنفسه .
وعلى أي حال ، فقد كان المقصود البرهنه على أهمية الخصيصة الأولى للمهدي (ع) وهي صفة العصمة ، وانه لا يمكن لأي شخص غير معصوم الاضطلاع بمهمة القيادة العالمية.
وأما الخصيصة الثانية للامام المهدي (ع) في الفهم الامامي ، وهي كونه القائد الشرعي والوحيد للعالم عامة ولقواعده الشعبية خاصة ، حتى في حال غيبته . . . فتترتب عليها عدة فوائد بالنسبة إلى من يؤمن بقيادته . فان اثرها الكبير في تعميق التمحيص الإلهي وتوسيعه .

________

(1) انظر إكمال الدين للشيخ الصدوق ( نسخة مخطوطة). (2) أنظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 477 وما بعدها.


صفحة (43)


فإن الفرد المؤمن بقيادته حال غيبته ، حين يكون على محك التمحيص الإلهي ، الساري المفعول لاجل صقل ايمانه وتعميق اخلاصه وتكميل نفسه . . . إذا اخذ الفرد مفهوم القيادة المهدوي في ذهنه ، فانه سوف ينعكس على سلوكه بكل وضوح . وسيتجه إلى العمل والتضحية اكثر من الفرد الخالي من هذه الفكرة بطبيعة الحال ، وذلك ، لا قتران مفهوم القيادة المهدوية في ذهنه بعدة حقائق .
الحقيقة الأولى : كونه جندياً مأمورا موجها بالفعل للعمل في سبيل الله واطاعة احكامه . وان أوامر قائده المهدي (ع) موجودة ومتوفرة لدية متمثلة بالاحكام الاسلامية ، فان المهدي هو المثل الحقيقي للاسلام ، فأوامر الاسلام أوامره ، ورغبات النبي (ص) في امته رغباته .
الحقيقة الثانية: كونه مسوؤلا ومحاسبا امام هذا القائد ، ولو بشكل غير مباشر .
كيف وأن صوت القائد موجود في ضميره الاسلامي يحمله على الخير ويردعه عن الشر . وهذا الفرد يعلم ان قائده حي مطلع على ما يصدر منه من اعمال ويقيم ما يقوم به من حسنات او سيئات ، فأحرى به ان يدخل السرور عليه بحسناته وان لا يخجل امامه بسيئاته وانحرافه .
الحقيقة الثالثة : الشعور بمظلومية هذا القائد حال غيبته ، وبمظلومية البشر البائسة التي اوجبت لها غيبة امامها ومرورها بعصور الظلم والانحراف ، كثيرا من القمع والاضطهاد .
الحقيقة الرابعة : الشعور باتنظار هذا القائد ، واحتمال ظهوره وقيامه بدولة الحق في اي لحظة من الزمن . وهذا يستدعي ، بطبيعة الحال ، ان يرعي الفرد تعميق اخلاصه وايمانه وتضحياته في سيبل دينه . . . ليكون له الزلفة لدي امامه وقائده عند ظهور واهلية شرف المشاركة بين يديه في اصلاح العالم وقيادته .
إلى غير ذلك من الحقائق التي تكون كل واحدة منها فضلا عن مجموعها من اكبر المحفزات للفرد المؤمن على مزيد العمل والتضحية في الخط الاسلامي الصحيح . وهذا نفسه يوجب النجاح في التمحيص الإلهي بشكل اعمق واسرع بطبيعة الحال . ولا يمكن ان يترتب شيء من هذه الفوائد مع عدم الايمان بقيادة الامام المهدي (ع) وغيبته .
وهناك فوائد اخرى تترتب على ذلك ، تكون مشتركة مع الخصائص الآتية بحسب التطيبق والوجود ، ومن هنا كان الأفضل ذكرها مع تلك الخصائص .


صفحة (44)

الخصيصة الثالثة : وهي عبارة عن معاصرة الامام المهدي (ع) لاجيال طويلة من البشرية . . . ولها عدة فوائد نقتصر منها على فائدتين تعود احداهما على الامام نفسه وتعود الأخرى على البشرية :
أما الفائدة التي تعود الى الامام ، فهي ما عرضناه في التاريخ السابق(1) وأقمنا عليه القرائن من ان معاصرة الامام للأجيال توجب اطلاعه المباشر على قوانين تطور التاريخ وتسلسل حوادثه ، الأمر الذي يؤثر تأثيراً كبيراً في عمق قيادته بعد ظهوره.
وأما الفائدة التي تعود الى البشر ، فهي باعتبار ما ورد في اخبار المصادر الخاصة من الحاجة إلى وجود الامام حاجة كونية قهرية مضافاً إلى الحاجة القيادية .
منها : ما أخرجه ثقة الإسلام الكليني في الكافي(2) بإسناده عن أبي حمزة ، قال : قلت لأبي عبدالله ـ الصادق ـ (ع) : تبقى الأرض بغير إمام؟
قال: لو بقيت الأرص يغير إمام لساخت .
وما أخرجة بسنده عن أبي هراسة عن أبي جعفر الباقر ـ(ع) ، قال : لو أن الإمام رفع من الأرض ساعة لما بأهلها كما يموج البحر بأهله .
وهي تدل بظاهرها ـ بغض النظر عن إمكان حملها على الرمزية ـ بأن بقاء الإمام ضروري لحفظ بقاء الأرض ومن عليها ، حتى يكون لها وجود ونظام كوني كامل يمكن تنفيذ الوعد الإلهي وإنتاج التخطيط العام من خلاله . وهذا إنما يتم مع وجود الإمام معاصراً لكل الأعوام والأجيال البشرية . . . وخاصة بعد الاعتقاد الإمامي المؤيد باخبار العامة(3) بأن الأئمة اثنا عشر للحصول على هذه الفائدة .
وقد يكون هذا هوالمراد من قوله امام المهدي (ع) ، فيما روي عنه : واني لأمان لأهل الأرض ، كما أن النجوم امان لأهل السماء (4).\

_________

(1) أنظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 514 وما بعدها. (2) انظرباب:ان الارض لا تخلو من حجة اصول الكافي ، (نسخة مخطوطة).
وكذلك ما بعده . وانظر أيضاً: الغيبة للشيخ الطوسي ص 92 ط النجف.
(3) أخرجها البخاري: انظر ج9 ص101 ومسلم انظر ج 6 ج 3-4 وغيرهما من الصحاح وكتب الحديث.
(4) انظر ناريخ الغيبة الكبرى ص 54 عن الاحتجاج للطبرسي.


صفحة (43)


الخصيصة الرابعة : كون الأمام المهدي (ع) على مستوى الاطلاع على الاحداث ، يوماً فيوماً وعاماً فعاماً ، عارفاً بأسبابها ونتائجها .
وتحتوي على عدد من الفوائد مضافاً إلى الفائدة الأولى من الخصيصة الثالثة ، أهمها : الحفاظ على المجتمع المسلم ودفع البلاء الواقع عليه من أعدائه عليه .
فإن الإمام المهدي (ع) حين يعلم يجريان الأحداث وأسبابها ومسبباتها ، وما قد تؤول إليه من مضاعفات ، وحين يكون مكلفاً إسلامياً برفع الأضرار والدواهي عن المجتمع المسلم ، في بعض الحدود التي ذكرناها في التاريخ السابق(1) ... وقد وعد هو (ع) بذلك فيما وري عنه(2) ... حين يكون كذلك ، فانه لا محالة يقوم بوظيفة المقدسة خير قيام . وقد عرضنا(3) الأسلوب الذي يمكنه (ع) به أن يقوم بالأعمال النافعة خلال غيبتة.
هذا مضافا إلى تقييمه للناس والمجتمعات ، طبقا للميزان العميق الذي يحمله ويعرفه ، الأمر الذي يوفر عدة نتائج : منها : اطلاعه على درجة إيمان المؤمنين وإخلاص المخلصين ، واتجاهاتهم السلوكية والعقائدية في الحياة .
ومنها : اطلاعه على سلوك المنحرفين والكافرين ، ومحتملات نتائجة على الإسلا م والمسلمين ، لأجل التوصل من ذلك إلى محاولة الحد من تأثيره.
ومنها : معرفته بتحقيق شرط اليوم الموعود ، الذي هو يوم ظهوره ، وهو وجود العدد الكافي من الناصرين والمؤازرين له على فتح العالم ومباشرة حكمه بالعدل طبقاً لاحد المحتملات في أسلوب تعرفه على يوم ظهوره، مما سوف يأتي عرضه واختيار الصحيح منه.
الخصيصة الخامسة : وهي اتصال الإمام المهدي (ع) بالناس ومحادثته لهم وتفاعله معهم ... ولها ـ على الاقل ـ فائدتان ، إحداهما خاصة بالإمام المهدي (ع) والأخرى عامة للمجتمع المسلم كله.

_______

(1) أنظر تاريخ الغيبة الكبرى، ص 53 وما بعدها. (2) المصدر ص 167 و ص175.
(3) المصدر ص 176.


صفحة (46)


أما الفائدة الخاصة به (ع) ، فهو اختلاطه بالناس وارتفاع الوحشة عنه ، تلك الوحشة المشار إليها في بعض
الأخبار(1) والثابته له على تقدير بعده عن الناس وسكناه في الصحارى والقفار ، كما ورد في رواية ناقشناها في التاريخ السابق(2) . هذا ،مضافاً إلى قضاء حوائجة الشخصية الضرورية لكل إنسان ، بشكل أسهل من أي أسلوب آخر يتخذه في الحياة .
وأما الفائدة التي تعم المجتمع كله ، بانصال المهدي (ع) بأفراده ، فهي انه (ع) ، حين يتصل بالناس ، يقوم بوظيفة الإسلامية تجاههم من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقريبهم من الطاعة وإبعادهم عن المعصية وحثهم على الأعمال العامة النافعة وبذور الصلاح في الأفراد والمجتمع ... في الحدود وبالشكل الذي سبق ان حولناه على التاريخ السابق .
ومن ثم السير قدماً بتحقيق الشرط الثالث من شرائط الظهور، باعتبار أن الناس كلما ازداد إيمانهم واخلاصهم ، كلما كان احتمال تحقق العدد الكافي لغزو العالم أقرب وأوضح .
وهذا وينبغي أن نعرف في نهاية الحديث عن خصائص الإمام المهدي (ع) في غيبته : انها خصائص متساندة ومتعاضدة ، باعتبار أن المتصف بها شخص واحد ، فمن المنطقي أن تكون الفوائد المشار إليها منطلقة من مجموع الخصائص وإن كانت بواحدة الصق ونحوها أقرب .
وبهذا يتم الكلام عن المدلول الكبرى.
وأما المدلول الثالث للغيبة الكبرى ، وهو استتار الامام القائد وخفاء شخصه وعمله ومكانه على الناس ، اعني بصفته الحقيقية .
. . . ففائدته الكبرى بالنسبة إلى اليوم الموعود ، هو حفظه (ع) من شر الأعداء للقيام ليبقى مذخوراً بالمهام الكبرى في ذلك اليوم المجيد .

________

(1) عن الامام الباقر(ع) انه قال: لا بد لصاحب هذا الامر من عزلة،ن ولا بد في عزلته من قوة، وما بثلاثين من وحشة...الحديث.
أنظر تأريخ الغيبة الكبرى ص 47 عن غيبة الشيخ الطوسي.
(2) وهو ما ورد عن المهدي(ع) نفسه يقول عن أبيه (ع): وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلا وعرها ومن البلاد إلا عفرها..الحديث.
المصدر ص 72.


صفحة (47)


وهذا ما أشرنا إليه في الأخبار :
أخرج الشيخ الطوسي في الغيبة(1) بإسناده عن زرارة ، قال : ان للقائم غيبة قبل ظهوره ، قلت : ولم ؟ قال : يخاف القتل .
وفي حديث آخر(2) عن زرارة بن أعين أيضاً ، قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول : إن للغلام غيبة قبل أن يقوم ، قلت : ولم ؟ قال : يخاف . وأوما بيده إلى بطنه .
وأخرج الشيخ الصدوق في إكمال الدين(3) بإسناده عن سعيد بن جبير قال : سمعت سيد العابدين علي بن الحسين يقول : في القائم منا سنن من سنة الأنبياء (ع) . . . إلى أن قال : وأما موسى فالخوف والغيبة ... الحديث .
وفي حديث آخر(4) عن محمد بن مسلم الثقفي الطحان ، قال : دخلت على أبي جعفر محمد بن علي الباقر ، وأنا أريد أن أسأله عن القائم من آل محمد صلوات الله عليه وعلى آله فقال لي ، مبتدئاً : يامحمد بن مسلم ان في القائم من آل محمد (ص) شبهاً من خمسة من الرسل . . . إلى أن يقول : واما شبهه من موسى فدوام خوفه وطول غيبته وخفاء ولادته . . . الحديث
ولعل هذه الفائدة ، هي المصلحة الوحيدة التي بينتها الأخبار للغيبة الكبرى . باعتبارها المصلحة الوحيدة المناسبة مع المستوى الفكري والثقافي الذي كان موجوداً في عصر صدور هذه الأخبار.
وثبوت هذه الفائدة واضح ، بعد التسليم بأمرين :
الأمر الأول : الفهم الإمامي القائل : بأن المهدي هو الإمام الثاني عشر من الأئمة المعصومين (ع) . الذي هو الفهم الذي ننطلق منه في إثبات أكثر مداليل الغيبة الكبرى كما عرفنا .

_________

(1) ص201 . (2) نفس المصدر ص202 . (3)نسخة مخطوطة غير مرقمة الصفحات.
(4) نفس المصدر.


صفحة (48)


الأمر الثاني: ان الإمام المهدي (ع) لو كان ظاهراً معروفاً بحقيقته ، قبل اليوم الموعود ، لقتله الظالمون لا محالة... بعد التسالم الواضح على أن هدفه الأساسي هو تطهير الأرض من الظلم وتبديل أوضاع الظالمين . إذاً ، فكل من لا يرضى بهذا التبديل ، انطلاقاً من انحرافه ومصالحة الشخصية ، سيكون ضده.
وسيكون القضاء على المهدي (ع) متيسراً بأسهل طريق . لأنه ليس له من ينصره أو يدافع عنه ، أو ويوجد من لا يكفي لذلك ، لما عرفناه مفصلاً من أن نصره متوقف على تمخض التخطيط العام عن وجود العدد الكافي لغزو العالم بالعدل . وان هذا لا يتم الا قبيل ظهوره . واما خلال المدة المتخللة قبله فان التخطيط لم ينته بعد ولم ينتج هذا العدد الكافي . إذا فقيامه بالثورة العالمية متعذر تماماً ، ودفاعه عن نفسه بدون ذلك متعذراً أيضاً ، لاقتران وجوده في اذهان الناس بالثورة العالمية . . . إذا فتعين أن يكون غائباً غير معروف وان لا تنكشف حقيقته إلا يوم ظهوره في اليوم الموعود . وذلك من أجل جل أن يبقى مذخوراً لتلك المهمة الأخرى. ومن الواضح أن مقتله يفقد اليوم الموعود قائدة ، الذي لا يوجد غيره . بحسب الفهم الإمامي ، ومن ثم يخل بالدولة العالمية ، وبالهدف العام من خلق البشرية.
وقد يخطر في الذهن : ان المهدي (ع) يمكن أن يكون معروفاً ، الا ان الله تعالى يحفظة عن طريق المعجزة ، لأجل تنفيذ اليوم الموعود والهدف العام ... بعد أن عرفنا(1) من قانون المعجزات ، كالطريق الطبيعي غير الاعجازي، متعيناً ، ولا تحدث فيه معجزة .
وجواب ذلك : اننا عرفنا إلى حنب ذلك من قانون المعجزات انه متى أمكن السير نحو الهدف بدون معجزة ، كان الطريق الطبيعي غير الاعجازي ،متعيناً ، ولا تحدث فيه معجزة .
فبالنسبة إلى المهدي (ع) حين كان هو الامام الثاني عشر من المعصومين (ع) ، ولا إمام بعده ، كان حفظه لليوم الموعود واطالة عمره متعينا بالمعجزات ، ولا بديل لذلك . ومن أجل هذا حدثت المعجزة وطال عمره . وأما حفظه لذلك اليوم بمعنى دفع القتل عنه ، فهذا يتعين عن طريق المعجزة . بل يمكن أن يكون عن طريق الغيبة أيضاً ، وهي طريق طبيعي واضح ، كما سبق أن برهنا في التاريخ السابق(1) لا يتضمن في أساسه الا غفلة كل أفراد البشر عن حقيقته وعدم العلم بكونه هو المهدي ، ومن ثم لا يوجد عند أحد القصد إلى قتله . بصفته مهدياً . وقلنا انه إذا أمكن الطريق الطبيعي ، ولا تقوم المعجزة بتنفيذه.


صفحة (49)

(1) انظر تأريخ الغيبة الكبرى ص38 .
وبمعرفتنا مداليل الغيبة الكبرى ونتائجها الكبرى بالنسبة إلى الأمة الاسلامية خاصة والبشرية عامة . وبالنسبة
إلى الإمام المهدي (ع) خاصة وتنفيذ اليوم الموعود عامة ... يتبرهن لدينا بوضوح أهمية الغيبة الكبرى ، وكونها رئيسياً في التخطيط الإلهي العام لا يمكن الإستغناء عنه .
واما مع الأخذ بالفهم غير الإمامي للمهدي وكونه شخصاً يولد في زمانه وسيوقف للثورة العادلة في حينه . ان مثل هذه القائد لن يستطيع بأي حال قيادة العالم قيادة عادلة عادة ، ولو فرضنا ـ جدلاً ـ انه استطاع ذلك لفترة، فهو لا يستطيع ضمان بقاء التطيبق الإسلامي على الدوام ، كما هو المفروض في دولة المهدي وسيأتي الإستدلال عليه .
وينطلق الحكم بعدم استطاعة مثل هذا الإنسان القيام بهذه المهمة ، من حقيقة عدم لياقته لذلك ، وقصوره عنه قصوراً تاماً ، بعد كونه فاقداً لكل النتائج التي عرفناها للغيبة الكبرى . وبخاصة صفة العصمة التي يكون فاقداً لها ولكل خصائصها المهمة . وأما المدلول الأول الذي يشمل الفهم غير الإمامي للمهدي ، فنتائجه تظهر في الأمة أو البشرية ، وليس لها نتائج خاصة بالمهدي كما مر.


صفحة (50)

 السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله