مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب تاريخ الغيبة الصغرى لسماحة آية الله الشهيد محمد صادق الصدر (قد)

وهكذا جاءهم في اليوم الثالث ،ونظر يميناً وشمالاً ،وعلمهم نص دعاء آخر لعلي بن الحسين .قال الراوي: ثم نظر يميناً وشمالاً ونظر إلى محمد بن القاسم أنت على خير إن شاء الله تعالى - وكان محمد بن القاسم يقول هذا الأمر . ثم قام ودخل الطواف .فما بقي منا أحد إلا وقد ألهم ما ذكره من الدعاء ..إلى آخر الرواية (1).
فنرى المهدي عليه السلام، هنا لا يتعرض إلا لتعليم الدعاء والخشوع لله عز وجل . وهو أمل مطلوب في الدين ومتسالم عليه بين سائر المسلمين مخلصهم ومنحرفهم على السواء. وبذلك تجنب شر الجماعة غير المخلصين الموجودين في ضمن هؤلاء الناس ،ولم يحصل منهم إلا على الاحترام و التقدير والتصديق به والانفعال بأقواله وأدعيته .
ولكن المهدي عليه السلام في نفس الوقت يحاول أن يحلل ذلك بالدعوة إلى الحق الذي يراه ،من حيث لا يشعر الآخرون ، فيروي الأدعية عن أئمة الهدى عليهم السلام ، ويشير إلى المخلص المؤمن به الموجود ضمن هذه لجماعة ويقول له أمام الجميع: أنت على خير إن شاء الله تعالى .ليفسح المجال للآخرين بالتفكير الجدي أنه بماذا أصبح هذا الرجل على خير دونهم.
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص156 وما بعدها.


صفحة (588)

وهو كل ذلك يتكلم كفرد اعتيادي ، ليس له أي ميزة على الآخرين ، سوى هذا العلم الذي يحمله والروايات التي يقولها . وبذلك استطاع أن يدعو إلى الإسلام الحق ، ومن دون أن يقع في خطر أو أن يتوجه إليه نقد .
يبقى أن تعرف أنه عليه السلام حين كان يكثر من النظر إلى اليمين والشمال انما كان يريد التأكد من نوقفه وعدم وجود ما يدل عليه أو من يعرفه أو من يشكل عليه خطراً بشكل من الأشكال ، في حديثه هذا .لا أنه كان خائفاً بالفعل ، وإلا لكان في غنى عن مواجهة هؤلاء الجماعة بمثل هذا القول.
ولم يكن ذلك الموقف مقتضياً التصريح بشخصيته ،أو عرض شيء من تعاليمه أو فلسفة غيبته أو أطروحة عمله ،وما ذلك إلا لوجود المنحرفين غير المخلصين من هذه لجماعة ... وإنما عرفوا أنه هو المهدي بعد أيام ببعض القرائن التي كانت لديهم(1).
فهذه هي الأهداف العامة الأساسية التي كان المهدي (ع) يتوخاها في مقابلاته للآخرين .وأما الهدف السادس والأخير ، وهو قبض المال ممن حمل إليه المال ، فقد عرفنا مثاله من تسليم وفد القميين المال إليه من أول يوم من وفاة أبيه . ومورد تفصيل الكلام فيه هو الحقل الخاص بالأمور المالية للإمام المهدي .
ــــــــــــــــ
(1) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص156 وما بعدها.


صفحة (589)

تبقى هناك أهداف خاصة كان المهدي يتوخاها من وراء بعض المقابلات ، تندرج تحت عنوانين رئيسين ،عرفنا أمثلتهما فيما سبق فلا حاجة إلى إفاضة الكلام فيها.
أحدهما: إجابة شخص لأصر على السفير الثاني رضي الله عنه إن يوفر له فرصة المقابلة مع الإمام المهدي (ع) .وهذا هو الذي رأى المهدي (ع) .بزي التجار(1) كما سبق أن سمعنا .
ثانيهما: تأنيب شخص منحرف عن انحرافه وسوء عمله، ولذلك عدة أمثلة ، فمنها موقفاه مع عمه جعفر بن علي الذي عرفناهما في القسم الأول من هذا التاريخ ،وموقفه مع محمد بن علي بن بلال الذي عرفناه مدعياً للسفارة زوراً، إذ أشرف عليه المهدي عليه السلام من علو داره وأمره بدفع ما عنده من الأموال إلى العمري.
ووراء هذه الأهداف العريضة، أمور ضمنية قد يتعرض لها المهدي في كلامه أو يستهدفها في عمله ، عند مقابلته مع الآخرين .إلا أنها حيث كانت صغيرة الحجم كثيرة العدد ،فلا حاجة إلى إطالة المقام ببيانها.
ــــــــــــــــ
(1) انظر تفصيل الحادثة في كتاب غيبة الشيخ الطوسي ص164


صفحة (590)

الحقل الرابع
تصرفه في الشؤون المالية
من قبض وتوزيع ، في غيبته الصغرى عن طريق غير السفراء الأربعة ..إما عن طريق المقابلة معه ،أو بدون ذلك . أما السفراء الأربعة فقد عرفنا حالهم تفصيلاً فيما سبق.
كان أول مال قبضه الإمام المهدي عليه السلام، هو المال الذي حمله إليه وفد القميين الذي ورد إلى سامراء ، في اليوم الأول لوفاة الإمام العسكري عليه السلام .
ثم أنه عليه السلام لم يشأ أن يستمر على ذلك ، بل أعلن منذ ذلك الحين تنصيبه سفيراً في بغداد لقبض لسائر الأموال التي ترد من سائر الأطراف الإسلامية ، كما سبق.
وكان السفراء في السنوات الأولى للغيبة الصغرى، يحولون بعض الأموال إلى سامراء، حيث كان يسكن المهدي (ع) في تلك الفترة.
فكان يتم إخراج التعاليم بشأنها من المهدي (ع) عن طريق بعض الوكلاء الخاصين(1). وكان يسوؤه رد المال الذي كان يعطيه لمواليه ويعتبره خطاً موجباً الإستغفار(2).
وأما فيما بعد ذلك من الزمان ، فيتم الكلام فيه في عدة نقاط :
النقطة الأولى: أن المهدي "ع" كان يطالب عن طريق سفرائه بتوقيعاته ، بدفع الأموال التي في أيدي الناس له، ولا يجوز لهم التخلف أو التقصير ولا في درهم واحد.
ــــــــــــــــ
(1) البحار ج13 ص79
(2) انظر الإرشاد ص333 وأعلام الورى ص419


صفحة (591)

فمن ذلك: التوقيع الذي ورد على الشيخ محمد بن عثمان العمري رضي الله عنه ابتداء لم يتقدمه سؤال منه . نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم ، لعنه الله والملائكة والناس أجمعين على من استحل من أموالنا درهماً(1). وقوله - في توقيع آخر -: وأما المتلبسون بأموالنا فمن استحل شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران(2).
ومن توقيع آخر: و أما ما سألت عنه من أمر من يستحل ما في يده من اموالنا ويتصرف فيه تصرفه في ماله من غير امرنا .فمن فعل ذلك فهو ملعون ونحن خصماؤه يوم القيامة. وقد قال النبي (ص) المستحل "من عترتي ما حرم الله ملعون على لساني ولسان كل نبي مجاب". فمن ظلمنا كان في جملة الظالمين لنا ، وكانت لعنة الله عليه لقوله عز وجل : ألا لعنة الله على الظالمين .إلى غير ذلك من النصوص.
نستطيع أن نفهم من ذلك أمرين:
الأمر الأول : أنه كان للمهدي عليه السلام أموال لدى الناس وفي ذممهم ، متكونة من تلك الأموال التي هي للإمام الشرعي في نظر الإسلام. كالأنفال والخمس والخراج .وحيث يرى المهدي (ع) ثبوت الإمامة لنفسه ، فهو يرى ملكيته لهذه الأموال ، وكونه احق بها من أي شخص آخر من الحكام والمحكومين معاً.
ــــــــــــــــ
(1) الإحتجاج ص ج2
(2) المصدر ص283


صفحة (592)

ومطالبة الإمام المهدي (ع) بهذه الأموال في واقعه ،مطالبة بتطبيق هذه الأحكام الإسلامية بوجوب دفع هذه إلى الإمام (ع) . ويكون الخارج على هذا القانون ، عاصياً لله وجل و للإمام ومستحقاً للعقاب .
ولعلنا نستطيع أن نفهممن مجموع الأخبار الواردة في هذا الصدد بالنسبة إلى الوكلاء والسفراء أن تجاراتهم كانت على الأغلب بأموال الإمام نفسه ،لا بأموالهم الشخصية ، وإن كانوا على ذلك من ظاهر الحال .ومن هنا كان بإمكانهم أن يستعملوا ما يقبضوه من الموالين من أموال الإمام في التجارة، بإذن الإمام عليه السلام . وتكون الأرباح للإمام (ع) أو بينهما بنسبة معينة ، حسب الإتفاق.
الأمر الثاني :أن هذه الدية الكاملة من قبل المهدي عليه السلام في المطالبة بالأموال التي ترجع إليه ، يمكن فهمهما على مستويين رئيسيين :
المستوى الأول: المستوى العام بالنسبة إلى سائر الناس الذين تشتغل ذممهم بشيء من أموال الإمام .
ونحن إذا نظرنا بهذا المستوى ، نجد أن غمط أموال الإمام - لولا الدافع الإيماني القوي - من أسهل الأشياء. فليس على الشخص المنحرف الذي لا يريد أن يدفع إلى المهدي عليه السلام، أمواله أي حسيب أو رقيب ، بعد ما عرفناه من غيبة المالك الحقيقي، وتخفي نوابه وستر هذه الصفة فيهم إلى أكبر حد مستطاع .وعدم توفر السلطة التنفيذية لديهم لإقتضاء الأموال المغدورة.


صفحة (593)

إذن ، فلا بد من إيجاد دافع إيماني شرعي لدى الفرد المسلم بدفع ما الإمام (ع) في ذمته ،وعدم جواز التخلف عنه ، وذلك للحد من التيار العام القاضي بدفع هذه الاموال إلى السلطات الحاكمة دون الإمام .
المستوى الثاني: المستوى الخاص، حين تتعلق المصلحة الاجتماعية الإسلامية العفو وعدم المطالبة بالأموال، فإنه عليه السلام كان يعطف في توقيعاته موارد العفو والتحليل على موارد التحريم ، لكي يفهم الآخرون بان الغرض من المطالبة هو الوصول الى المصلحة الإسلامية دون الحرص على الأموال. فمتى اقتضت المصلحة العفو وغض النظر كان ذلك نافذاً .
فمن ذلك قوله عليه السلام في أحد توقيعاته: وأما المتلبسون بأموالنا ، فمن استحل منها شيئاً فأكله فإنما يأكل النيران. وأما الخمس فقد أبيح لشيعتنا وجعلوا منه من حل إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم ولا تخبث(1). ونعرف من التعليل بطيب الولادة ان المحلل هو خصوص خمس الجواري المملوكات المجلوبات عن طريق الفتح الإسلامي ،لا كل الخمس ، وهو ما يذهب إليه الفقهاء عادة.
ومن ذلك قوله في توقيع آخر: وأما ما سألت عنه من أمر الضياع التي لناحيتنا ،هل يجوز القيام بعمارتها ، وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية احتساباً للأجر وتقرباً إليكم. فلا يحل لأحد أن يتصرف من مال غيره بغير إذنه. فكيف يحل ذلك من مالنا.
ــــــــــــــــ
(1)الإحتجاج ص283 وما بعدها.


صفحة (594)

من فعل ذلك بغير أمرنا فقد استحل منا ما حرم عليه ومن اكل من اموالنا شيئاً، فانما ياكل في بطنه ناراً وسيصلى سعيراً .
واما ما سالت عنه من أمر الرجل الذي يجعل لناحيتنا ، ضيعة ويسلمها من قيم يقوم بها ويعمرها ، ويؤدي من دخلها خراجها ومؤنتها ويجعل ما بقي من الدخل لناحيتنا ، فإن ذلك جائز لمن جعله صاحب الضيعة قيماً عليها، إنما لا يجوز ذلك لغيره.
وأما ما سألت عنه من الثمار من اموالنا يمر به المار فيتناول منه وياكل وهل يحل له ذلك، فإنه يحل له أكله ويحرم عليه حمله(1).
النقطة الثانية :أنه كان للمهدي عليه السلام بواسطة أمواله العامة علاقات مالية خاصة يمثلها نوابه الأربعة وغيرهم . تجاه كل من له علاقة مالية في تجاراتهم أو حق شرعي في ذمته. وكان عليه السلام يأمر باقتضاء هذه الأموال ، وقد يعطي وصلاً بقبضها ، ومن هنا ينفتح الكلام في أمرين:
الأمر الأول : أمره عليه السلام باقتضاء أمواله ودفعها إليه .
فمن ذلك ما يرويه بعض مواليه عن نفسه قائلاً: كان للناحية علي خمسمائة دينار ، فضقت بها ذرعاً .ثم قلت: لي حوانيت اشتريتها بخمس مئة وثلاثين ديناراً قد جعلتها للناحية بخمسمائة دينار ، ولم أنطق بذلك.
ــــــــــــــــ
(1) الاحتجاج ص299 ج2 وما بعدها.


صفحة (595)

فكتب يعني الإمام المهدي (ع) الى محمد بن جعفر - وهو احد الوكلاء -: اقبض الحوانيت من محمد بن هارون بالخمسمائة دينار التي لنا عليه(1) .
فتراه عليه السلام يأمر وكيله بقبض الحوانيت ، دلالة على كفاية دفعها إلى الناحية وفاء لما في ذمة محمد بن هارون تجاهها ..إلى أمثلة أخرى من هذا القبيل .
الأمر الثاني :إعطاؤه الوصول التي تدين قبض الأموال .
فمن ذلك :أن محمد بن الحسن الكاتب المروزي ،وجه إلى حاجز الوشا ، وهو أحد الوكلاء، مائتي دينار، وكتب إلى الغريم ( يعني المهدي (ع)) بذلك فخرج الوصول(2).
ومن ذلك: ما تحدث به أحدهم ، فقال :اجتمع عندي خمسمائة درهم ينقص عشرون درهماً ، فلا أحب أن ينقص هذا المقدار .فوزنت من عندي عشرين درهماً و دفعتها إلى الأسدي (وهو احد الوكلاء) .
ولم أكتب بخبر نقصانها .وإني أتممها من مالي .فورد الجواب : قد وصلت الخمسمائة التي لك فيها عشرون.
وتسمية المهدي (ع) بالغريم ، دليل واضح على إيمان قواعده الشعبية بأنه دائن لهم بحقوق أموال ،وأنهم مرتبطون به مالياً إلى جانب ارتباطهم العقائدي .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص171
(2) المصدر نفسه ص257


صفحة (596)

النقطة الثالثة: ان المهدي عليه السلام قد يستقل أحياناً بالإيعاز بدفع المال إلى شخص دون توسيط سفرائه.
كالذي سبق أن سمعناه في أبي سورة المدعو بمحمد بن الحسن بن عبد الله التميمي، إذ رافقه المهدي عليه السلام من سفره من كربلاء إلى الكوفة ، وحوله على علي بن يحيى الرازي ليقبض المال الذي عنده .
وأعطاه صفته والدلالة على حقيقته من طرف خفي(1).
فهذه بعض التصرفات المالية التي كان يقوم بها المهدي (ع) ، فإذا ضمناها إلى ما عرفناه من التصرفات المالية للسفراء الأربعة ، وعرفنا أنه ليس كل ما حدث في تلك الفترة التي نؤرخ لها قد نقل في التاريخ ووصل إلينا ،كما سبق أن بينا في مقدمة هذا التاريخ ..عرفنا مدى السعة والشمول الذي كان عليه النشاط الاقتصادي للإمام المهدي عليه السلام ، بالرغم من خفائه وعزلته .
ــــــــــــــــ
(1) انظر تفصيل الحادثة في الغيبة ص163 وانظر ص181


صفحة (597)

الحقل الخامس
حله للمشكلات العامة والخاصة
كان عليه السلام ، وهو في غيبته قائداً فذاً ، يشعر بالآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية ويتجاوب معهم فكراً وعملاً بما تقتضيه مصلحتهم ومصلحة الإسلام.
فكان عليه السلام يبت بالأمور الخاصة والعامة، ويذلل مشاكلها عن طريق ما يعرفه من حال المجتمع والأفراد. ويتمثل ذلك في عدة نقاط :
النقطة الأولى :
استعراضه للمشكلات العامة ومحاولته حل بعضها . وهنا لا بد ان نفهم امرين :
الأمر الأول : أنه ليس من الصعب على الإمام المهدي (ع) بالرغم من غيبته وتخفيه أن يكون على مستوى الأحداث العامة في المجتمع .
فإننا إما أن ننظر إليه كإمام عالم بالغيب بتعليم من الله عزوجل، كما دلت عليه سائر الدلالات السابقة ،وإما أن نجرد منه شخصاً عادياً من بشريته قائداً في مسؤوليته.
أما على الفرض الأول: وهو كونه إماما عالماً بالغيب. فمن الواضح اطلاعه على الأحداث العامة وان لم يكن يعيش غمارها ،ف ضلاً عما إذا كان يعيش فيها على ما سبق أن عرفناه.
وأما على الفرض الثاني، حيث تفرض عليه مسؤولياته أن يكون مواكباً للأحداث شاعراً بآلام وآمال أمته وقواعده الشعبية .. فإن له طريقين رئيسيين يمكن أن يقترنا ويمكن أن يفترقا في الاطلاع على الأحداث.
الطريق الأول: اختلاطه المباشر بالناس ، وممازجته معهم ، بشكل لا يشعرون بهويته وحقيقته ،فإننا سبق أن عرفنا انه مجهول العنوان والاسم من حيث انطباقه على الشخص .وليس مختفياً جسماً عن الناس كما قد تقول به الأفكار غير المبرهنة .


صفحة (598)

وقد رأينا صوراً عن ممازجته للناس ومحادثته معهم ،تارة بعنوانه الصريح وحقيقته ،وأخرى بغيره ، بحسب ما كان يرى من المصلحة باختلاف الزمان والمكان. ومعه يكون بطبيعة الحال مطلعاً بشكل تفصيلي وكبير على سائر الأحداث ومشاطراً للامة الإسلامية بالأحاسيس .بل يكون مشاركاً بالعمل على رفع تلك الأمة وتحقيق آمالها ، في حدود المصلحة والإمكان .
الطريق الثاني: استقصاؤه للأخبارعن طريق سفرائه الأربعة وغريهم ممن كانوا يحظون بمقابلته، على ما عرفنا ، فإنه من المؤكد ، أن قسماً مهماً من الأحاديث التي يقولها المهدي (ع) للآخرين - مما سمعناه ومما لم نسمعه- وخاصة سفراؤه المسؤولون عن قيادة قولعده الشعبية بالنيابة عنه، تتضمن التوجيهات الإجتماعية والنقد للأوضاع العامة وتشخيص الوضيفة الإسلامية تجاهها .. على المستوى العالي الذي يراه المهدي (ع) مناسباً مع مخاطبيه.
بل من المستطاع القول :أن المهدي (ع) يعطي توجيهاته وتثقيفه العام للمجتمع والأفراد ،وإن كان مجهول العنوان .فإنه إذ يجالس الناس أو يساكنهم أو يرافقهم في طريق أو سفر ،وإن لم يعرفوه يحاول باستمرار أن يعطيهم من هداه توجيهه بالنحو الذي ينفع الفرد والمجتمع معاً ،ويكون طريقاً إلى تذليل المشاكل ورفع الآلام ، بالنحو الذي تقتضيه المصلحة.


صفحة (599)

وهذا هو الباب الواسع الذي يفسر لنا الحديث الوارد عنه عليه السلام بان فائدته حال غيبته كالشمس اذا غيبها السحاب .وبه نستطيع ان نفهم احد الخطوط الرئيسية في غيبته الصغرى على ما سنعرض له بالتفصيل من هذا التاريخ والتاريخ القادم.
الامر الثاني: اننا سنرى ان المشكلات العامة التي تصدى المهدي لحلها ذات مسار معين يمت الى حل مشكلات قواعده الشعبية بشكل رئيسي .ولا نكاد نجده متعرضاً لحل مشكلة من نوع آخر في المجتمع المسلم او الدولة .
فإن المشكلات العامة التي يتصور وقوعها في المجتمع المسلم ، ذات ثلاثة مسارات.
المسار الأول: مشكلات الدعوة الإسلامية، وهو ما يقع في الحدود الإسلامية وفي الفتح الإسلامي من صعوبات وعقبات تجاه الكافرين.
المسار الثاني: مشكلات الجهاز الحاكم ومن يمت له بصلة ،وهو ما يقع بين القواد وأمراء الأطراف وبين الخليفة أو بينهم أنفسهم ، من مشكلات وحروب وعلى رأسها مشكلات الخوارج والقرامطة ، على ما عرفناه في الفصل الخاص بالتاريخ العام لهذه الفترة.
المسار الثالث : المشكلات التي تحدث في القواعد الشعبية التي تمت إلى الإمام المهدي (ع) بصلة الولاء .بسبب الضغط والإرهاب والمطاردة التي قوم بها الحكام ومن إليهم تجاههم.


صفحة (600)

أما المسار الأول للمشكلات ، فقد كان الإتجاه العام فيه هو غلبة المسلمين وانتصارهم في حروب الفتح ، ولم تكن توجد مشكلة إسلامية أساسية تقتضي رفع اليد من المصلحة الكبرى المتوخاة من غيبة المهدي عليه السلام.
على ان التكفل للفتح الإسلامي لم يكن إلا الجهاز الحاكم الذي كان يقوم كيانه على إنكار وجود المهدي وإمامته ، ومعه لم يكن للمهدي (ع) سبيل معقول لإيصال صوته إلى الحكام أو حملهم على إطاعته .
وهم من عرفناهم لا يتوخون إلا المصالح الشخصية والتجارات المالية حتى في الفتوح الإسلامية نفسها.
وأما المسار الثاني، فمن الواضح أن المهدي (ع) حين يعتبر كلا الطرفين المتنازعين منحرفين من الإسلام بعيدين عن طريق الحق لا يكون له أي داع أو مصلحة ان يتعرض وهو في غيبته واحتجابه - إلى هذا النزاع أو ذلك سلباً ولا إيجاباً .
على أننا ينبغي أن نعرف أن ثمة من المشكلات العامة ما يكون وجودها موافقاً للمصلحة الإسلامية على الخط الطويل .من حيث أنها تربي الأمة وتوعيها على واقعها وإدراك مشاكلها وتمسكها بدينها.
فإن الأمة لا يربيها في عصور الإنحراف إلا المرور في المحن ومواجهة المشكلات. ومثل هذه المشكلات لا يمكن إلا ان يقف المهدي (ع) تجاهها موقفاً سلبياً تاركاً لها مسارها الخاص حتى تتمخض عن نتائجها وتصل إلى نهاياتها .


صفحة (601)

ولا يبعد أن كثيراً من مشكلات المسلمين، بالرغم من سوئها وبشاعة منظرها، لها من النتائج والاثار المحسنة العميقة الغور في المدى البعيد .على شرح وتوضيح نتعرض له في بحث مقبل في سياسة المهدي في الغيبة الكبرى ان شاء الله تعالى.
واما غير هذا النحو من المشاكل ، أي التي لا تكون مؤثرة في تربية الأمة ،فإنه وان لم يرد في تاريخنا تدخل المهدي عليه السلام في تذليلها ولكننا لا نستطيع أن ننفيه بل في الإمكان أن نؤكد وقوعه عندما تمت المشكلة إلى أساس الإسلام وتكون العقيدة نفسها مهددة بالخطر.
لكن بالنحو الذي لا يلتفت إليه الناس، ولا يعلمون صدوره من الإمام المهدي (ع) بصفته الواقعية .وبرغم لا يكون قابلاً للنقل التاريخي .
على شرح و تفصيل يأتي في الحديث عن الغيبة الكبرى أيضاً .
على اننا لا نعدم ، بخصوص هذا المسار الثاني، نقلاً تاريخياً ضئيلاً فيما إذا كانت المشكلة تمت إلى قواعده الشعبية بصلة ، على ما سنسمع من موقفه عليه السلام تجاه ذلك الرجل الذي تحول قرمطياً وغير ذلك.
وأما المسار الثالث، فهو الذي ورد في تاريخنا تصدي الإمام المهدي (ع) لرفعه وتذليله ،باعتباره القائد لقواعده الشعبية والمؤول الأعلى عن حفظها ورعايتها .
وقد ورد في تاريخنا تذليله لعدة مشكلات عامة من هذا القبيل نذكر منهما اثنين على سبيل المثال :


صفحة (602)

الأولى: حيلولته عليه السلام ضد المؤامرات التي كانت تحاك لقواعده الشعبية في الظلام على حين غرة وغفلة منها.
فقد أصدر المهدي عليه السلام توقيعاً يتضمن النهي عن زيارة مقابر قريش والحائر ، يعني حرم الإمامين الكاظميين عليهما السلام وحرم الحسين عليه السلام. فامتنعت قواعده الشعبية عن الزيارة إطاعة لأمر إمامهم وإن لم يعلموا وجه المصلحة .وعلموا بعد شهر من ذلك الحين أن الخليفة كان قد أمر بإلقاء القبض على كل من يزور هؤلاء ، الأئمة عليهم السلام(1).
وبذلك نرى المهدي عليه السلام قد حال سلفاً دون تنفيذ أمر الخليفة ،وتوصل إلى نجاة قواعده الشعبية من سجون السلطات.
الثانية : حيلولته عليه السلام ضد مؤامرات السلطات على وكلائه على حين غرة منهم.
وهو ما عرفناه فيما سبق ونعرضه الآن بشيء من التفصيل .
وذلك: أنه تناهى إلى سمع عبد الله " عبيد الله " بن سليمان ،وهو أول وزراء المعتضد(2) بعض نشاط وكلاء المهدي عليه السلام في الأطراف وأنه تجبى إليهم الأموال من النواحي ،وذكروا له اسماءهم ، فهم بالقبض عليهم و فنصحوه أن يتأكد من صحة التهمة ،وذلك بأن يدس قوماً لا يعرفون ، لدفع الموال إلى الوكلاء ، فمن قبض شيئاً من تلك الأموال قبض عليه.
ــــــــــــــــ
(1) انظر اعلام الورى ص421 والغيبة ص172
(2) انظر مروج الذهب ج4 ص145


صفحة (603)

ولو كانت هذه المؤامرة قد تمت لاستؤصل وكلاء المهدي (ع) عن آخرهم ، بل لكان من المحتمل انكشاف مكان وجود المهدي (ع) نفسه الا ان المهدي حال دون ذلك ، فأخرج إليهم توقيعاً يتضمن الأمر بان لا يأخذوا من أحد شيئاً ، وان يتجاهلوا ألامر .
فامتثل الوكلاء امر امامهم وهم لا يعلمون ما السبب.
قال الراوي : فاندس لمحمد بن احمد - وهو احد الوكلاء- رجل لا يعرفه .وقال : معي مال اريد ان اوصله . فقال له محمد :غلطت .
انا لا اعرف من هذا شيئاً وفلم يزل يتلطف به ومحمد يتجاهل.
وكذلك كان سائر الوكلاء على مستوى المسؤولية فامتنعوا كلهم عن الادلاء بشيء ، فلم يظفر منهم الحكام بأحد، ولم تتم الحيلة لهم بذلك ، وبقيت مسألة الوكالة عن المهدي على نفس المستوى من الشمول ومن السرية التامة(1).
النقطة الثانية : وقوفه ضد الإنحراف موقفاً جدياً لا هوادة فيه بصفته ممثلاً للحق الصريح الذي لا يهادن ولا يجامل.
فمن ذلك: أن رجلاً جليلاً من فقهاء أصحابنا - بتعبير الراوي - كتب إلى المهدي (ع) رسالة عن طريق بعض سفرائه . فلم يرد فيها الجواب ، على كثرة ما كان يرد من أجوبة وتوقيعات عنه عليه السلام .
قال الراوي: فنظرنا فإذا العلة في ذلك ان الرجل تحول قرمطياً (2).
ــــــــــــــــ
(1) انظر اعلام الورى ص421
(2) انظر الارشاد ص332 وغيره.


صفحة (604)

وهذا الموقف الحدي للإمام المهدي يرشدنا إلى أمرين رئيسيين :
الأمر الأول : كونه على مستوى الأحداث ، يعلم بحوادث المجتمع وآماله والآمه ، على النحو الذي قلناه ،وكيف يمكن أن نتصور أن حروب القرامطة مما يخفى على الإمام المهدي وهي التي استطاعت أن تزعزع الحكام وترهب المجتمع ردحاً طويلاً من الزمن .وقد عرفنا أن غيبته لا تحول دون معرفة تفاصيل الحوادث فضلاً عن مهماتها ، واضحاتها .
الأمر الثاني: إن القرامطة بالرغم من كونهم محسوبين في منطق الحكام ومن إليهم ، على الشيعة باعتبارهم من الفرقة الإسماعيلية على ما عرفنا وهي أحد فرق المذهب الشيعي - بمعناه العام- وبالرغم من أن القرامطة من الناحية السياسية يشتركون مع الإمام المهدي "ع" في كونهم معارضين للحكام القائمين على الدولة الإسلامية ، وعدم الارتياح إلى الوضع السائد.
بالرغم من ذلك: فالحق الذي يؤمن به المهدي "ع" يجب أن يبقى صافياً جدياً صلباً باتجاه أي انحراف أو ضلال. والقرامطة لهم نقاط ضعف كثيرة في نظر الإمام المهدي (ع) أهمها أنهم لا يؤمنون بإمامته وأنهم مختلفون في تفاصيل المذهب فقهاً وعقيدة ، وأنهم قد اتخذوا أسوأ الأساليب في التنكيل بالمسلمين وخاصة قوافل الحجاج. حتى بلغ اتساعهم في الظلم والإنحراف أنهم اعتدوا على الكعبة المشرفة وقلعوا الحجرالأسود ونقلوه إلى هجر ، كما سبق أن سمعنا.


صفحة (605)

ومن هنا كان واضحاً لدى المجتمع الإسلامي عامة والقواعد الشعبية للإمام المهدي خاصة، أن هؤلاء القرامطة إنما يحاربون الإسلام والمسلمين .وإن موّهوا ذلك بمختلف الشعارات والعبارات .ولذا نرى ان اعتناق أي شخص لمذهبهم يعتبر سبباً كافياً لمقاطعته والإعراض عنه على أقل تقدير. مهما كان شأنه قبل ذلك كبيراً مشهوراً بالفقه والإصلاح.
النقطة الثالثة: حل الإمام المهدي "ع" للمشكلات الخاصة لأصحابه وقواعده الشعبية .بحسب ما كانوا يرفعونه إليه من شكاوى وما يشرحون له من مشكلات .فكان يرد الجواب تارة بالدعاء إلى الله تعالى بتذليل المشكلة، وأخرى بالإخبار بأنها ستحل وثالثة بإعطاء منهج معين للحل والأمر بما يراه الاصلح في الأمر .
وتكون الحلول عادة عن طريق المراسلة وخروج التوقيعات من المهدي"ع" عن طريق سفرائه الأربعة خاصة وسائر وكلائه عامة.
وقد سبق أن عرفنا عن ذلك قسماً كبيراً. وتحاشياً للتكرار نذكر ما سبق بنحو موجز ونضيف إليهما ما هو جديد.
فمن ذلك حلّه عليه السلام لعدة مشكلات زوجية(1) ودعاؤه للقاسم ابن العلا إن يبقى ولده الحسين بعد أن ولد له عدة بنين وماتوا(2).
ــــــــــــــــ
(1) انظر في ذلك غيبة الشيخ الطوسي ص184-186-197.
(2) انظر الإرشاد ص331.


صفحة (606)

ومن ذلك دعاؤه لمريض بالناسور وقد عجز الأطباء عنه فشفي شفاء تاماً(1) .ومن ذلك : نهيه لبعض مواليه عن الخروج إلى الحج في بعض السنين .فخرجت القرامطة على القوافل فاجتاحتها(2). ونهيه لبعض اليمنيين عن الخروج من بغداد إلى اليمن ، في قافلة لليمنيين ، فخرجت عليهم بنو حنظلة فاجتاحتهم(3) ومنها توزيعه الأكفان على الطالبين لها من مواليه(4) ومنها دعاؤه بولادة ابن بابويه الشيخ الصدوق قدس الله روحه(5).
ومن ذلك أن شخصاً ولد له ولد فكتب إلى الناحية يستأذن من تطهيره في اليوم السابع ، فورد: لا تفعل فمات في يومه السابع .
فكتب إلى الناحية بموته شاكياً إلى المهدي (ع) مصابه .فورد :ستخلف غيره وغيره ، فسم الأول أحمد ومن بعد أحمد جعفر ، فجاء كما قال(6).
ومن ذلك : إن شخصاً بالأهواز رزق ولداً أخرس سماه مسروراً .
فحمله أبوه وعمه ، وسنه إذ ذاك ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاماً إلى الشيخ حسين بن روح رضي الله عنه ، فسألاه أن يسأل الحضرة - يعني الإمام المهدي (ع) - أن يفتح الله لسانه .فذكر الشيخ ابن روح: انكم امرتم بالخروج الى الحائر .
ــــــــــــــــ
(1) انظر الإرشاد ص334. (2) انظر الغيبة ص196
(3) انظر الإرشاد ص332 وأعلام الورى ص18 (4) انظر الغيبة ص172-185- 163 وأعلام الورى ص421
(5) انظر الغيبة ص188 وص195 (6) المصدر ص171 وانظر الإرشاد ص334.


صفحة (607)

قال مسرور : فخرجنا أنا وأبي وعمي إلى الحائر فاغتسلنا وزرنا .
فقال : فصاح بي أبي وعمي :يا سرورو .فقلت بلسان فصيح : لبيك .
فقال لي: ويحك تكلمت . فقلت : نعم .قال الراوي :وكان مسرور هذا رجلاً ليس بجهوري الصوت(1).
ومن ذلك أيضاً ما حدث لرجل من قم انكى ولداً له، فخرج إليه شفاهاً عن طريق احد الوكلاء :إن الولد ولده وواقعها في يوم كذا وكذا من موضع كذا وكذا .وأمره بأن يسميه محمداً .فأصبح ذلك سبباً لوضوح الحال ورجع الأب عن إنكاره .وولد الولد وسمي محمداً. (2)
*****
فهذه هي النقاط الرئيسية فيما يحله المهدي من مشكلات ، وما يذلله من صعوبات.
وبذلك نراه سائراً على نفس الخط الذي سار عليه أبواه العسكريان عليهما السلام في علاقتهما الخاصة ، غير المالية بقواعدهما الشعبية مع حفظ الفرق في الظروف ومقتضيات المصالح .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص188
(2) المصدر ص187.


صفحة (608)

الحقل السادس
تعيينه لوكلاء متعددين
غير السفراء الأربعة
ثبت النقل التاريخي بوجود سفراء أو وكلاء غير السفراء الأربعة السابقين، مشتتين في مختلف البلدان الإسلامية التي فيها شيء من القواعد الشعبية المؤمنة بالإمام المهدي عليه السلام.
ومما لا شك فيه أن هناك فرقاً أساسياً بين هؤلاء الوكلاء وأؤلئك السفراء، ويتضح هذا الفرق في أمرين رئيسيين :
أولهما: أن السفير يواجه الإمام المهدي (ع) مباشرة ويعرفه شخصياً ويأخذ التوقيعات منه والبيانات .على حين أن الوكلاء ليسوا كذلك بل يكون اتصالهم بالمهدي (ع) عن طريق سفرائه ، ليكونوا همزة الوصل بينهم وبين قواعدهم الشعبية.
ثانيهما :إن مسؤولية السفير في الحفاظ على إخوانه في الدين وقواعده الشعبية عامة وشاملة .على حين نرى مسؤولية الوكيل خاصة بمنطقته على ما سنسمع تفاصيله.
والمصلحة الأساسية لوجود الوكلاء أمران أساسيان :
الأمر الأول: المساهمة في تسهيل عمل السفير وتوسيعه ، حيث لا يكون بوسع السفير بطبيعة الحال ، وبخاصة في ظرف السرية والتكتم الإتصال بالقواعد الشعبية المنشرين في العراق وغير العراق من البلاد الإسلامية. فيكون لعمل الوكلاء بهذا الصدد أكبر الأثر في إيصال التعاليم والتوجيهات إلى اوسع مقدار ممكن من القواعد الشعبية.


صفحة (609)

الأمر الثاني: المساهمة في إخفاء السفير نفسه، وكتمان اسمه وشخصه حيث قلنا في ما سبق أن الفرد الإعتيادي العارف بفكرة السفارة ، غاية ما يستطيعه هو الإتصال بأحد الوكلاء من دون معرفة باسم السفير أو عمله أو مكانه ، وقد لا يكون الوكيل على استعداد للتصريح بذلك أصلاً.
ونحن ذاكرون فيما يلي أسماء من وردنا في التاريخ وكالته في زمن الغيبة الصغرى ،وما نذكره ليس على وجه الحصر إذ لعل عدداً من الوكلاء لم يرد اسمه في التاريخ ،بعد ملاحظة سعة المناطق التي كانوا فيها من البلاد الإسلامية ،وطول المدة التي تناوبوا فيها على احتلال مركز الوكالة خلال سبعين عاماً مدة هذه الفترة ، مما يؤدي إلى اختفاء عدد من الأسماء ، وخاصة في ظروف التكتم والحذر.
ولعل أحسن نص جامع لأسماء عدد من الوكلاء ،ما ذكره الصدوق في إكمال الدين(1) مروياً عن أبي علي الأسدي عن أبيه عن محمد بن أبي عبد الله الكوفي أنه ذكر عدد من انتهى إليه ممن وقف على معجزات صاحب الزمان صلوات الله عليه ورواه ، من الوكلاء: ببغداد العمري وابنه وحاجز البلالي والعطار ،ومن الكوفة العاصمي ومن أهل الأهواز محمد بن ابراهيم بن مهزيار . ومن أهل قم أحمد بن اسحاق
ــــــــــــــــ
(1) انظر المخطوط فصل من شاهد القائم.


صفحة (610)

ومن اهل همدان محمد بن صالح ومن أهل الري: الشامي، والأسدي - يعني نفسه - .ومن أهل أذربيجان القاسم بن العلا .ومن نيشابور محمد بن شاذان النعيمي .إلى آخر الحديث.
ونحن نذكرهم فيما يلي على نفس الترتيب الذي ذكره الصدوق .
ثم نذكر ما وجدناه من أسماء الأشخاص الآخرين الذي نورد النص بوكالتهم في بعض النصوص التاريخية:
العمري: هو الشيخ عثمان بن سعيد السفير الأول، عن الإمام المهدي عليه السلام .وإنما سمي وكيلاً من رواية الصدوق ، باعتبار المعنى الأعم للوكالة ، وقد سبق أن ترجمناه مفصلاً.
حاجز بن يزيد ...الملقب بالوشا(1). روى فيه الشيخ المفيد بإسناده عن الحسن بن عبد الحميد ، قال شككت في امر حاجز. فجمعت شيئاً ثم صرت إلى العسكر - يعني سامراء - فخرج إلي : ليس فينا شك ولا فيمن يقوم مقامنا بأمرنا ، ترد ما معك إلى حاجز بن يزيد (2).
وروى الكليني بسنده عن محمد بن الحسن الكاتب المحروزي أنه قال :
ــــــــــــــــ
(1) منتهى المقال ج1 ص241
(2) الإرشاد ص333


صفحة (611)


وجهت إلى حاجز الوشاء مائتي دينار وكتبت إلى الغريم بذلك فخرج الوصول، وذكر أنه كان قبلي ألف دينار وأني وجهت إليه مائتي دينار. وقال :إن اردت أن تعامل أحداً فعليك بأبي الحسين الأسدي بالري .فورد الخبر بوفاة حاجز - رضي الله عنه- بعد يومين او ثلاثة ..الخ الحديث(1).
وهذا الحديث يدلنا على عدة أمور :
الأول: أنه كانت بالعادة أن يوصل الناس جملة من الأموال التي للإمام (ع) إلى حاجز الوشا .ومن هنا وجه إليه المروزي مائتي دينار .
الثاني : أن الوشا ذو طريق مضبوط مضمون إلى المهدي عليه السلام بحيث يخرج به الوصول.
الثالث: الدلالة على وكالة حاجز بقرينة التحويل على ابي الحسن الأسدي بعد موته، ولا شك أن الأسدي هذا كان من الوكلاء على ما سنذكر بعد قليل.
ولم يعلم من أمر حاجز أكثر من ذلك ، فقد أهمل التاريخ تاريخ ولادته ووفاته ومقدار ثقافته وعلاقاته، ونحو ذلك من خصائصه ، ولله في خلقه شؤون.
البلالي: هو أبو طاهر محمد بن علي بن بلال ، الذي ترجمناه في من ادعى السفارة زوراً، وقد عرفنا أن لبن طاووس عدّة من السفراء المعروفين في الغيبة الصغرى الذين لا يختلف الإمامية القائلون بإمامة الحسن بن علي عليه السلام فيهم .
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص257


صفحة (612)

وعبر عنه المهدي (ع) في بعض توقيعاته: بانه الثقة المأمون العارف بما يجب عليه(1)،وذكره الصدوق في قائمة الوكلاء كما سمعنا.
إلا أن الشيخ في الغيبة ذكره في المذمومين(2)، وروى فيه أحاديث عرفناها فيما سبق .مما يدل على أنه كان وكيلاً صالحاً في مبدأ أمره ثم انحرف وفسد حاله بعد ذلك.
العطار: ذكره الصدوق في النص السابق من الوكلاء ، ولكننا لم نستطع ان نميز شخصيته لوجود عدد ممن لقب بهذا اللقب، لم يذكر في التاريخ عن أي منهم كونه موسوماً بالسفارة أو الوكالة ، سواء كان معاصراً للزمن الذي نبحث عنه أو لم يكن.
وهم: محمد بن يحيى العطار وابنه أحمد بن محمد بن يحيى. ويحيى بن المثنى العطار ،والحسن بن زياد العطار. وابراهيم بن خالد العطار وعلي بن عبد الله أبو الحسن العطار ومحمد بن عبد الحميد العطار ومحمد بن أحمد بن جعفر القمي العطار وداود بن يزيد العطار وغيرهم.
فغاية ما يثبت من هذه العبارة : أن شخصاً بهذا اللقب كان وكيلاً للناحية في الغيبة الصغرى ،لعله أحد هؤلاء الأشخاص ولعله شخص آخر.
ــــــــــــــــ
(1) رجال الكشي ص485
(2) انظر ص 4245


صفحة (613)

العاصمي: من الوكلاء أيضاً ، باعتبار النص الذي ذكرناه عن الصدوق .وهذا اللقب اسم لشخصين :
أحدهما : عيسى بن جعفر بن عاصم . وقد دعا له أبو الحسن الإمام الهادي عليه السلام(1).
ثانيهما: أحمد بن محمد بن أحمد بن طلحة ، أبو عبد الله ، يقال له: العاصمي. كان ثقة في الحديث سالماً خيراً . أصله كوفي وسكن بغداد .
روى عن الشيوخ الكوفيين .له كتب منها: كتاب النجوم وكتاب مواليد الأئمة وأعمارهم (2).
وكلاهما لم يوسم بالوكالة او السفارة. ولم يعلم معاصرته للغيبة الصغرى ، فتبقى رواية الصدوق وحدها دالة على ذلك.
محمد بن ابراهيم بن مهزيار: عده ابن طاووس من السفراء والابواب المعروفين الذين لا يختلف الامامية القائلون بامامة الحسن بن علي فيهم(3).
اقول: يريد بالسفير هنا معناه الاعم وهو كل من له ارتباط بالمهدي ولو بالواسطة، وليس المراد كونه سفيراً مباشراً لضرورة انحصار السفراء بالاربعة.
وروى الشيخ بالغيبة بسنده الى الشيخ الكليني. مرفوعاً الى محمد بن ابراهيم بن مهزيار. قال شككت عند مضي ابي محمد - الحسن العسكري - وكان اجتمع عند ابي مال جليل ، فحمله وركب السفينة وخرجت معه مشيعاً له فوعك وعكاً شديداً.فقال: يا بني ردني ردني فهو الموت، واتق الله في هذا المال، وأوصى إليّ ومات .
ــــــــــــــــ
(1) رجال الكشي ص502
(2) رجال النجاشي ص73
(3) جامع الرواة ج1 ص44


صفحة (614)

فقلت في لم يكن أبي ليوصي بشيء غير صحيح .أحمل هذا المال إلى العراق واكتري داراً على الشط لا أخبر احداً ، فإن وضح لي شيء كوضوحه أيام أبي محمد (ع) أنفذته ، وإلا تصدقت به.
فقدمت العراق واكتريت دراراً على الشط ،وبقيت أياماً ، فإذا أنا برسول معه رقعة فيها :يا محمد معك كذا وكذا في جوف كذا وكذا حتى قص علي جميع ما معي، مما لم أحط به علماً. فسلمت المال إلى االرسول، وبقيت أياماً لا يرفع لي رأس ، فاغتممت ، فخرج إليّ : قد أقمناك مقام أبين فاحمد الله(1).
فنرى أن محمد بن ابراهيم هذا، قد شك بعد وفاة الإمام العسكري عليه السلام، لبعد لمزار وغموض الحال، فيمن يكون إماماً بعده.
فكان بينه وبين تسليم المال إلى المصدر الوثيق : تلك العلامة التي كان كا إمام يعطيها عند مقابلته الأولى ،كما عرفنا في شأن الإمامين العسكريين (ع) .وهي ذكر الإمام لاوصاف المال تفصيلاً قبل أن يطلع عليه حساً .وقد سمعنا كيف ان الوفود التي تحمل المال تجعل هذه العلامة محكاً في إثبات الإمامة، فلا يسلموه إلا لمن أعطى هذه الأوصاف.
وقد قام الإمام المهدي بذلك أمام وفد القميين الذي عرفناه ،وكرر الآن إعطاء هذه العلامة عن طريق رسوله ليزول الشك عن ابن مهزيار ويطمئن الى تسليم المال الى ركن وثيق .
وقد قدم من الاهواز الى العراق لاجل ذلك. وسلم المال بحقه .
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص171


صفحة (615)

وخرج إليه من قبل الامام المهدي : قد اقمناك مقام ابيك فاحمد الله ،وهذا النص ظاهر بتعيينه للوكالة ،كما كان ابوه وكيلاً.
وكان ينوي انه ان لم يجد العلامة المتفق عليها، أن يتصدق بالمال. وهذا هو الأنسب بحال هذا الرجل الجليل .دون ما رواه الشيخ المفيد في الإرشاد من قوله: فإن وضح لي بشيء كوضوحه في أيام أبي محمد (ع) أنفذته وإلا أنفقته في ملاذي وشهواتي(1) ولا ما رواه الطبرسي في قوله: وإلا قصفت به(2)، فإنه مناف لجلالة قدره ولتنصيبه وكيلاً بعد أبيه ،كما دل عليه نفس الحديث الذي روياه ،فإن من له نية القصف والملذات لا يكون أهلاً لهذه الوكالة الكبرى البتة.
أحمد بن اسحق : بن سعد بن مالك بن الأحوص الأشعري .أبو علي القمي .وكان وافد القميين ،وروى عن أبي جعفر الثاني - يعني الإمام الجواد - وابي الحسن- الهادي - وكان من خاصة ابي محمد - العسكري عليه السلام(3).
له كتب منها : كتاب علل الصلاة ،كبير ومسائل الرجال لابي الحسن الثالث(4) عاش بعد وفاة محمد عليه السلام(5).
ــــــــــــــــ
(1) الارشاد ص231 (2) اعلام الورى ص418
(3) رجال النجاشي ص71 (4) الفهرست للشيخ ص50
(5) رجال الكشي ص467


صفحة (616)

قال الشيخ في الغيبة: وكان في زمان السفراء المحمودين اقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات ،من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل .
قال منهم: أحمد بن اسحاق وجماعة ، خرج التوقيع في مدحهم .
وروى بسنده عن أبي محمد الرازي قال: كنت وأحمد بن أبي عبد الله بالعسكر - يعني سامراء- فورد علينا من قبل الرجل - يعني المهدي - فقال : أحمد بن اسحاق الأشعري وابراهيم بن محمد الهمداني وأحمد بن حمزة بن اليسع ثقات(1).
وكان أحمد بن اسحق هذا ، من الخاصة الذين عرض الإمام العسكري عليهم ولده المهدي ،وأعطاه الأطروحة الكاملة لفكرة الغيبة مع البرهنة على إمكانها والتنظير بحال الأنبياء السابقين. كما سمعنا فيما سبق.
وكان قد بشره الإمام العسكري (ع) بولادة المهدي (ع) إذ أرسل إليه توقيعاً بالخط الذي ترد به التوقيعات يقول فيه: ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً وعن جميع الناس مكتوماً. فإنا لم نظهر عليه إلا الأقرب لقرابته والمولى لولايته ، أحببنا إعلامك ليسرك الله به مثل ما سرنا به والسلام(2).
وكل ذلك يدل على انه كان من خاصة الخاصة الموثوقين عند الأئمة المعصومين عليهم السلام . والأخبار في ذلك كثيرة لا حاجة إلى استقصائها في هذا المجال.
ــــــــــــــــ
(1) الغيبة ص258
(2) انظر اكمال الدين( المخخطوط)


صفحة (617)

واما تاريخ ميلاده ووفاته ، فلا يكاد يكون معروفاً الا بمقدار معرفة تواريخ الائمة الذين كان معاصراً لهم.
واما وكالته في عهد الغيبة الصغرى ، فهي تثبت برواية الصدوق التي اسلفناها.
محمد بن صالح :بن محمد ، الهمداني ، الدهقان. من أصحاب العسكري (ع) .وكيل الناحية(1) .يدل على ذلك ما ذكره الإمام المهدي نفسه في توقيع لإسحاق بن اسماعيل ، يقول فيه :فإذا وردت بغداد فأقرأه على الدهقان وكيلنا وثقتنا ،والذي يقبض من موالينا(2).
وقد على آخر عمره(3) فأصبح منحرفاً ، وإنما كان ممدوحاً موثوقاً قبل انحرافه ،ولعله هو المقصود من قوله المهدي في بعض بياناته : وقد علمتم ما كان من امر الدهقان عليه لعنة الله وخدمته وطول صحبته ، فأبدله الله بالإيمان كفراً حين فعل ما فعل .فعاجله الله بالنقمة ولم يمهله(4).أقول: ويحتمل أن يكون المراد من ذلك : عروة بن يحيى الدهقان . والله العالم.
الشامي : غير معروف النسب ،كان من أهل الري وكان من وكلاء القائم .
ــــــــــــــــ
(1) جامع الرواة ج1 ص131 (2) رجال الكشي ص185
(3) جامع الرواة ج1 ص131 (4) جامع الرواة ج2 ص447 عن السيد التفريشي في ربيع الشيعة .


صفحة (618)

الاسدي : محمد بن جعفر بن محمد بن عون .الاسدي . الرازي.
كان احد الابواب(1) .يكنى أباالحسين .له كتاب الرد على اهل الإستطاعة (2).
الكوفي ساكن الري .يقال له: محمد بن أبي عبد الله ،كان ثقة صحيح الحديث ،إلا أنه روى عن الضعفاء ، وكان يقول بالجبر و التشبيه . وكان ابوه وجهاً . روى عنه احمد بن محمد بن عيسى .
ومات ليلة الخميس لعشر خلون من جمادى الاولى سنة اثني عشرة وثلاث مئة (3).
قال الشيخ في الغيبة :وكان في زمان السفراء المحمودين أقوام ثقات ترد عليهم التوقيعات من قبل المنصوبين للسفارة من الأصل .
منهم :أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي رحمه الله .
وروى عن صالح بن ابي صالح. قال: سألني بعض الناس في سنة تسعين ومائتين قبض شيء فامتنعت من ذلك ، وكتبت - يعني لى المهدي- استطلع الرأي .فأتاني الجواب: بالري محمد بن جعفر العربي ، فليدفع إليه فإنه من ثقاتنا(4).
ــــــــــــــــ
(1) وكيلاً بعد موت حاجز الوشا المصدر ص83 (2) الفهرست للشيخ ص179
(3) رجال النجاشي ص289 (4) انظر الغيبة ص257


صفحة (619)

وقد سبق أن سمعنا الإمام المهدي عليه السلام ، نصب الأسدي هذا وكيلاً بعد موت حاجز الوشا(1).
وروى أيضاً عن أبي جعفر محمد بن علي نوبخت ، قال:
عزمت على الحج وتأهبت فورد عليّ - يعني من المهدي (ع)- : نحن لذلك كارهون .فضاق صدري واغتممت وكتبت : أنا مقيم بالسمع والطاعة. غير أني مغتم بتخلفي عن الحج. فوقع : لا يضيقن صدرك فإنك تحج من قابل .
فلما كان من قابل استأذنت . فورد الجواب - يعني الإذن بالسفر ـ .
فكتبت :إني عادلت محمد بن العباس وأنا واثق بديانته وصيانته .
فورد الجواب : الأسدي نعم العديل ، فإن قدم فلا تختر عليه .قال: فقدم الأسدي فعادلته(2).
ومات الاسدي على ظاهر العدالة ، لم يتغير ولم يطعن فيه ..في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشر وثلاثمئة (3). أقول :وهذا أنسب بحاله مما نقلناه عن النجاشي من مونه كأن يقول بالجبر والتشبيه .
والله العالم.
وكان المعتاد دفع اموال الامام الى الاسدي ليوصلها اليه ،ولو بواسطة السفير ،وكان يخرج به الوصول .روى عن محمد بن شاذان النيشابوري .قال :اجتمع عندي خمسمائة درهم ينقص عشرون درهماً.
ــــــــــــــــ
(1) المصدر نفسه ص257 ايضاً
(2) المصدر ص257
(3) المصدر ص258


صفحة (620)

فلم أحب أن ينقص هذا المقدار، فوزنت من عندي عشرين درهماً ودفعتها للأسدي ،ولم اكتب بخبر نقصانها واني اتممتها بمالي ، فورد الجواب - أي من الناحية - قد وصلت الخمسمائة التي لك فيها عشرون(1).
القاسم بن العلا : من أهل أذربيجان .قال ابن طاووس :إنه من وكلاء الناحية (2) يكنى بأبي محمد (3).
روي عنه أنه قال :ولد لي عدة بنين ، فكنت أكتب - يعني إلى الناحية - وأسأل الدعاء لهم .فلا يكتب إلي بشيء من أمرهم .فماتوا كلهم .فلما ولد لي الحسين ابني كتبت اسأل الدعاء ،وأجبت وبقي الحمد لله(4).وقد أشرنا إلى هذه الرواية في مناسبة سابقة.
عمّر مائة وسبع عشر سنة ، منها ثمانون سنة صحيح العينين .
لقي الإمام الهادي (ع) والإمام العسكري (ع) .وأصيب بالعمى بعد الثمانين ،وكان مقيماً بمدينة الران من أرض أذربيجان ،وكان لا تنقطع توقيعات مولانا صاحب الزمان إليه، على يد أبي جعفر محمد بن عثمان العمري وبعده على ابي القاسم بن روح ، قدس الله روحهما (5).
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ ص258 (2) جامع الرواة ج2ص19
(3) المصدر والصفحة (4) الإرشاد ص331
(5) انظر غيبة الشيخ الطوسي ص188 وما بعدها والخرايج ص69


صفحة (621)

وقد روى الشيخ في الغيبة والراوندي في الخرايج حديثاً مطولاً يدل على جلالة قدره ، يحتوي على عدد من التفاصيل. منها: ان الامام المهدي زوده قبل موته بسبعة ثياب للتكفين. واخبره انه يموت بعد اربعين يوماً ، فمات في الموعد المحدد .
ومنها: ان ابنه كان شارباً للخمر ،فتاب عنه في ايام ابيه الاخيرة .وكان فيما اوصاه :يا بني إن اهلت لهذا الامر ، - يعني الوكالة لمولانا - فيكون قوتك من نصف ضيعتي المعروفة بفرجيذة ، وسائرها ملك مولاي .وان لم تؤهل له فاطلب خيرك من حيث يتقبل الله .
وقبل الحسن وصيته على ذلك.
ومنها: ان الامام المهدي (ع) ارسل الى ابنه كتاب تعزية على ابيه في آخره دعاء :الهمك الله طاعته وجنبك معصيته .وهو الدعاء الذي كان دعا به ابوه وكان اخره :قد جعلنا اباك اماماً لك وفعالة لك مثالاً(1) .فنجد ان الامام قد جعل هذا الشخص الجليل قدوة لولده ومثالاً ،لمكان تقواه واخلاصه .ولم تنتقل الوكالة الى الابن لياكل من تلك الضيعة بحسب وصية ابيه ،فانه كان منوطاً بجعله وكيلاً والا فعليه ان يطلب المال من حيث يتقبل الله.
وقد خرج الى القاسم بن العلا ، توقيعان من لعن بعض المنحرفين كاحمد بن هلال(2).
ــــــــــــــــ
(1) انظر الغيبة ص192 والخرايج ص68
(2) وجال الكشي ص449


صفحة (622)

محمد بن شاذان: بن نعيم النعيمي النيشابوري .عده ابن طاووس من وكلاء الناحية ، وممن وقف على معجزات صاحب الزمان ورآه عليه السلام(1).
وقد أخرج الصدوق في إكمال الدين(2) عنه حديثاً مطولاً حول الإجتماع بالمهدي(ع). إلا أن الظاهر، على تشويش في عبارة الحديث أن الذي اجتمع به عليه السلام ليس هو محمد بن شاذان بل غانم أبو سعيد الهندي الذي كان جديد الإسلام وباحثاً عن الحق.
وفي توقيع صادر عن الإمام المهدي (ع) :وإما محمد بم شاذان بن نعيم و فإنه رجل من شيعتنا أهل البيت(3).
فهؤلاء اثني عشر من السفراء والوكلاء عن الإمام المهدي عليه السلام ، عدهم الصدوق في روايته .ونضيف إلى ذلك جماعة .هم:
ابراهيم بن مهزيار أبو اسحق الأهوازي(4) .والد محمد بن ابراهيم بن مهزيار .وقد سمعنا قول المهدي(ع) في توقيعه لمحمد بن ابراهيم : قد أقمناك مقام أبيك فاحمد الله ،هو دال على ان اباه كان وكيلاً للناحية أيضاً.
روى عن ولده محمد بن ابراهيم أنه قال :أن أبي لما حضرته الوفاة دفع إلي مالاً وأعطاني علامة، ولم يعلم بتلك العلامة أحد إلا ألله عزوجل .وقال: من أتاك بهذه العلامة فادفع إليه المال .
ــــــــــــــــ
(1) جامع الرواة ج2 ص130 (2) انظر المخطوط
(3) اعلام الورى ص424 (4) رجال النجاشي ص53


صفحة (623)

قال: فخرجت إلى بغداد ونزلت في خان .فلما كان في اليوم الثاني إذ جاء شيخ ودق الباب ، فقلت للغلام :انظر من هذا؟ فقال: شيخ بالباب ، فقلت: ادخل. فدخل وجلس. فقال: أنا العمري .هات المال الذي عندك وهو كذا وكذا ومعه العلامة . قال فدفعت إليه بالمال(1).
فوجود أموال الإمام عند ابراهيم بن مهزيار ومعرفته بالعلامة السرية التي لا يعلم بها إلا الشيخ العمري السفير عن المهدي (ع) بتعليم منه عليه السلام . يدل على ان ابراهيم هذا كان وكيلاً عن الناحية المقدسة .
وقد عده ابن طاووس من سفراء الصاحب والأبواب المعروفين الذين لا يختلف الأثنا عشرية فيهم(2) .له كتاب البشارات (3).
محمد بن حفص : بن عمرو ،أبو جعفر .أبوه يدعى بالعمري والجمال ، وكان وكيلاً لأبي محمد العسكري عليه السلام(4). وكان وكيل الناحية ،وكان الأمر يدور عليه(5) .مما يدل على انه كان له نشاط متزايد بهذا الأمر.
الحسين بن علي بن سفيان : بن خالد بن سفيان . أبو عبد الله البزوفري .
ــــــــــــــــ
(1) رجال الكثي ص447. (2) جامع الرواة ج1 ص35
(3) رجال النجاشي ص13 (4) جامع الرواة ج2 ص262 وانظر الكشي ص447
(5) انظر رجال الكشي نفس الصفحة .


صفحة (624)

شيخ جليل من أصحابنا. له كتب(1). روى الشيخ في الغيبة عن بعض العلويين سماه .قال: كنت بمدينة قم فجرى بين اخواننا كلام أمر رجل لأنكر ولده ، فأنفذوا إلى الشيخ(2) - صانه الله - وكنت حاضراً عنده - أيده الله- فدفع إليه الكتاب فلم يقرأه ، وأمره أن يذهب إلى أبي عبد الله البزوفري -أعزه الله- ليجيب عن الكتاب.
فصار إليه ، وأنا حاضر. فقال أبو عبد الله: الولد ولده وواقعها في يوم كذا وكذا في موضع كذا وكذا ، فقل له فليجعل اسمه محمداً .
فرجع الرسول إلى البلد وعرفهم .ووضح عندهم القول . وولد الولد وسمي محمداً(3)
وقد نقلنا مضمون هذا الخبر فيما سبق. وهو يدل بوضوح استقاء هذه المعلومات من الإمام المهدي ولو بالواسطة .فيدل انه كان وكيلاً بالجملة .ومن هنا قال المجلسي في البحار تعليقاً على هذا الخبر : يظهر منه ان البزوفري كان من السفراء .ولم ينقل ، ويمكن أن يكون وصل ذلك إليه بتوسط السفراء أو بدون توسطهم في خصوص الواقعة (4).
ــــــــــــــــ
(1) انظر ما في رجال النجاشي ص53 وما بعدها.
(2) هو أحد السفراء : الثاني أو الثالث.
(3) انظر ص178
(4) انظر ج13 ص86


صفحة (625)

الحسين بن روح : بن أبي بحر النوبختي .وهو السفير الثالث للإمام المهدي عليه السلام . إلا أنه إبان سفارة سلفه الشيخ محمد بن عثمان العمري ،كان وكيلاً له ينظر في أملاكه ،ويلقي بأسراره لرؤساء الشيعة .وكان خصيصاً به ، فحصل في أنفس الشيعة محصلاً جليلاً لمعرفتهم باختصاصه بأبي جعفر وتوثيقه عندهم ،ونشر فضله ودينه وما كان يحتمله من هذا الأمر .فمهدت له الحال في طول حياة أبي جعفر إلى ان انتهت الوصية بالنص عليه .فلم يختلف في امره ،ولم يشك فيه أحد(1).
وأصبح العمري قبا موته بسنتين أو ثلاثة يحول عليه أموال الإمام عليه السلام ، لكي يعود الرأي العام ويهيء الجو بالرجوع إليه حين تؤول السفارة إليه ،كما سبق أن عرفنا .
ومن هنا أمكن أن يعد الشيخ ابن روح في السفارة تارة ،وفي لوكلاء أخرى رضي الله عنه وارضاه.
ابراهيم بن محمد الهمداني :وكيل الناحية .كان حج أربعين حجة(2) .
كان معاصراً للإمام الجواد عليه السلام ،وقد كتب له نجطه: وعجل الله نصرتك ممن ظلمك وكفاك مؤونته ، وأبشرك بنصر الله عاجلاً وبالأجر آجلاً . وأكثر من حمد الله.
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص227
(2) جامع الرواة ص32


صفحة (626)

وروى انه قال: وكتب إليّ: وقد وصل الحساب تقبل الله منك ورضي عنهم وجعلهم معنا في الدنيا والآخرة ... وقد كتبت إلى النضر، أمرته أن ينتهي عنك وعن التعرض لك ولخلافك ، وأعلمته موضعك عندي .وكتبت إلى أيوب أمرته بذلك أيضاً .وكتبت إلى مواليّ . بهمدان كتاباً أمرتهم بطاعتك والمصير إلى أمرك .وان لا وكيل لي سواك(1).
وهذا الخطاب إليه من الإمام عليه السلام يدل على جلالة قدره ونفوذ حكمه ، ووكالته .إلا أن الإمام الذي صدر عنه هذا الخطاب غير مذكور ،ولعل ظاهر السياق من عبارة المصدر كونه الإمام الجواد عليه السلام لا الحجة المهدي عليه السلام.
نعم ورد توثيقه من الإمام المهدي مبتدءاً بذلك من دون سبق سؤال(2). والمراد بذلك توكيله وإرجاع الناس إليه لا محالة ، وهو إذ ذاك من شيوخ الطائفة ومبرزيها الذين لهم قدم في مدحا الأئمة السابقين لهم.
أحمد بن اليسع : بن عبدالله القمي .روى أبوه عن الرضا عليه السلام ثقة ثقة ،له كتاب نوادر(3).
وقد ورد توثيقه عن الإمام المهدي عليه السلام(4). وهو يدل في الجملة على توكيله والإذن برجوع الناس إليه ،كما أسلفنا.
أيوب بن نوح : بن دراج النخعي ،أبو الحسن ،كان وكيلاً لأبي الحسن الهادي - وأبي محمد - العسكري عظيم المنزلة عندهما ، مأموناً .وكان شديد الورع كثير العبادة ، ثقة في رواياته .
ــــــــــــــــ
(1) رجال الكثي ص508 وما بعدها
(2) انظر رجال لمثي ص467 والغيبة ص258
(3) رجال الكشي ص71
(4) انظر رجال الكشي ص467 والغيبة ص258


صفحة (627)

وأبوه نوح بن دراج كان قاضياً بالكوفة ، وكان صحيح الإعتقاد .له كتاب نوادر(1). وروايات ومسائل عن أبي الحسن الثالث - الهادي - عليه السلام(2).
روى الشيخ عن عمر بن سعيد المدائني ، قال: كنت عند أبي الحسن العسكري عليه السلام بصرياً ،إذ دخل لأيوب بن نوح ووقف قدامه ، فأمره بشيء ثم انصرف ،والتفت إليّ ابو الحسن عليه السلام .
وقال : يا عمر إن احببت ان تنظر الى رجل من اهل الجنة ، فانظر الى هذا(3).
اذن فهو جليل المقام مقرب للائمة عليهم السلام ، ووكيل للامام الهادي عليه السلام .واما وكالته عن الامام المهدي ،فلا يدل عليه الا توثيقه الذي ورد في التوقيع الصادر عنه عليه السلام(4)،وهو كما قلنا يدل في الجملة على توكيله والاذن برجوع الناس اليه .
فهؤلاء طائفة ممن اضطلعوا بمهمة الوكالة عن الإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى ، لتكميل وتوسيع عمل السفراء الأربعة في مختلف البلدان الإسلامية .
ــــــــــــــــ
(1) رجال النجاشي ص80 (2) الفهرست للشيخ ص40
(3) الغيبة للشيخ ص212 (4) رجال الكشي ص467


صفحة (628)

وقد اتضح من ذلك ان الوكيل لا يكون عاملاً بين يدي السفير ولا يحق له قبض الاموال ولا اخراج التوقيعات، الا باذن الامام المهدي نفسه. وليس للسفير ان يستقل عنه في الايكال الى أي شخص كان.
ويظهر من بعض الاخبار ان فكرة الوكالة، وتعدد الوكلاء، كانت نافذة المفعول منذ السنوات الاولى للغيبة الصغرى ، ومنذ اوائل وجود السفارة. فقد سمعنا فيما سبق انه بلغ خبر الوكلاء الى عبد الله بن سليمان الوزير فحاول القبض عليهم بحيلة معينة ،فكان تخطيط الامام المهدي حائلاً عن بلوغ غرضه ونجاح خطته وفاذا علمنا ان عبد الله بن سليمان هذا - كما تسميه مصادرنا - هو عبيد الله بن سليمان بن وهب الذي وزر للمعتضد اول خلافته(1) وليس في فترة الغيبة الصغرى وزير يكون ابن سليمان غيره وعرفنا ان المعتضد تولى الخلافة عام179 .فيكون هذا الوزير قد تولى وزارته في نفس العام لا محالة .وهو يصادف الاعوام الاولى لتولي الشيخ محمد بن عثمان العمري السفير الثاني لمهام السفارة .
وظاهر الخبر الذي سمعناه ،والذي رواه الطبرسي(2) كون نظام الوكلاء لم يكن جديداً حادثاً في ذلك العام .وانما كان التفات السلطات اليه جديداً . اذن فهو موجود منذ الاعوام الاولى للغيبة الصغرى ، وقد كان خفياً على السلطات بفعل سريته الشديدة من ناحية ،وانشغال الدولة بقتال صاحب الزنج من ناحية اخرى . وذلك القتال الذي لم تتنفس منه الدولة الصعداء الا في مبدأ خلافته المعتضد.
ــــــــــــــــ
(1) انظر مروج الذهب ج4ص145 والكامل ج6ص73
(2) اعلام الورى ص421


صفحة (629)

الحقل السابع
إعلانه انتهاء السفارة وبدء الغيبة الكبرى
وهو آخر جزء من التخطيط العام الذي سار عليه الأئمة عليهم السلام وأصحابهم للوصول إلى الغيبة الكبرى ، ليكون الإمام المهدي (ع) مذخوراً لليوم الموعود .
وقد كانت الغيبة الصغرى كافية لإثبات وجود المهدي (ع) بما يصل إلى الناس عن طريق سفرائه وغيرهم من البينات والبيانات .كما أوجبت بكل وضوح أن يعتاد الناس على غيبة الإمام ويسيغون فكرة اختفائه ، بعد أن كانوا يعاصرون عهد ظهور الأئمة ، وإمكان الوصول إلى مقابلة الإمام .
وقد رأينا كيف أن الإمام المهدي (ع) كان متدرجاً في الإحتجاب فهو أقل إحتجاباً في أول هذه الفترة. وكلما مشى بها الزمان زاد احتجابه ، حتى لايكاد ينقل عنه المشاهدة في زمن السفير الرابع لغير السفير نفسه.


صفحة (630)

وحينما كانت هذه الفترة مشارفة على الإنتهاء ،كان الجيل المعاصر لزمان ظهور الأئمة (ع) قد انتهى .وبدأ أجيال جديدة إلى الوجود قد اعتادت غيبة الإمام (ع) وفكرة القيادة وراء حجاب ،وأصبحت معدة ذهنياً بشكل كامل لتقبل فكرة انقطاع السفارة أساساً واحتجاب الإمام عن قواعده الشعبية تماماً.
وهذا هو الذي يفسر لنا السبب الرئيسي الأول من أسباب ثلاثة لإنتهاء السفارة والغيبة الصغرى، نلخصها فيما يلي:
السبب الأول : استيفاء الغيبة الصغرى لأغراضها .وهو واضح بعد الذي ذكرناه من كون الغرض الأساسي هو تهيئة الذهنية العامة لغيبة الإمام (ع) ،وهو مما قد حصل بالفعل خلال هذه الفترة ..فإنها فترة كافية لحصول ذلك ، وخاصة بع أن تزايد احتجاب الإمام بالتدريج حتى انحصرت رؤيته بشخص واحد هو السفير نفسه ، ولم يبق بعد ذلك إل اأن يحتجب الإمام (ع) عن كل أحد على الإطلاق .

السبب الثاني : ماذكرناه من ترجمة السفير الرابع، وكنا قد حملنا قبل ذلك فكرة تفصيلية عن مناشئه وأسبابه . وهو صعوبة الزمان وازدياد المطاردة والمراقبة من قبل الجهاز الحاكم ومن إليه ، للقواعد الشعبية الموالية للإمام المهدي (ع) بل لكبرائهم ولعلمائهم ، ولك ينج من هذا الضيق حتى السفير نفسه ، إلى حد لم يستطع السفير الرابع أن يقوم بعمل اجتماعي ذي بال ، ولم يرو لنا من أعماله إلا ما هو قليل وبسيط .


صفحة (631)

ولم يكن من المتوقع زوال ذلك الحال في زمن قريب ، وفي عدد من السنين قليل، لأن كيان الدولة وأساس الخلاف قائم على ذلك ،وخط الأئمة (ع) وأصحابهم يمثل على طول الخط المعارضة الصامدة الواعية ضد الحكام وإتحاد الظلم الساري في المجتمع.
إذن فلو وجد سفير جديد ،فإما يكون عارفاً بموقفه شاعراً بمسؤوليته عازماً على العمل المخلص في سبيل خطه ، وإما لا يكون .
فإن لم يكن كذلك ، فهو غير صالح للسفارة سلفاً ، وإن كان كذلك لم يستطع العمل ، ولم يكن حاله بأحسن من حال السفير الرابع إن لم يكن أسوأ وأردأ .
ولو أراد السفير أن يضحي تضحية كبيرة فينجز عملاً كبيراً ، لكان بذلك خارجاً عن السرية والتكتم المطلوبة من السفير.
إذن فكل سفير جديد يعين ، لا بد أن يفشل في مهمته جزماً بالنظر إلى ظروف المجتمع في ذلك الحين .ومعه لا داعي إلى استمرار السفارة ، بل لا بد من رفع اليد عنها ، والوصول إلى نهايتها .
السبب الثالث : عدم إمكان المحافظة على السرية الملتزمة في خط السفارة ، لو طال بها الزمن أكثر من ذلك ، وانكشاف امرها سيئاً فشيئاً .
وهذا واضح جداً في التسلسل الطبيعي لتطور الحوادث ، فإنه لو صار عزم الإمام المهدي (ع) أن يديم أحد السفارة ويسلسلها بين الأشخاص على مدى الزمان فإن ذلك سوف ينتج حتماً انكشاف أمر السفارة والسفير ،


صفحة (632)

واشتهار ذكرهما في المجتمع على لسان المؤمن والمنحرف والحكام والمحكومين . مهما حاول السفير أن يخفي أمره ويستر عمله .نعم إذا تسلسلت السفارة بين الأشخاص من دون القيام بأي عمل ،أمكن الإختفاء التام إلا أن هذا خلاف الهدف من السفارة والمطلوب من السفير .
ولئن استطاع السفراء أن يخفوا سفارتهم لمدة سبعين عاماً ، فإنه لن يكون ذلك مستطاعاً إلى الأبد ، وسوف ينكشف - بحسب طبيعة الأشياء- أمر السفير .ومعه يتعذر عليه العمل ، إن لم يؤد به إلى التنكيل به تحت سياط السلطات ، وقد يؤدي إلى جعل المهدي (ع) نفسه في مورد الخطر.
إذن فلا بد من قطع السفارة ، تلافياً لما قد يحدث من مضاعفات .
فلكل هذه الأسباب ،ولأسباب أخرى يضيق المجال عن ذكرها أعلن الإمام المهدي عليه السلام ، في توقيعه الذي أصدر إلى السفير الرابع قبل موته ،وانتهاء عهد السفارة وانقطاع الغيبة الصغرى وصلة الناس بإمامهم وقائدهم . وبدأ الغيبى الكبرى حتى يأذن الله تعالى في اليوم الموعود الذي يتحقق به الغد الإسلامي الكبير.
وقد سمعنا نص البيان عند التعرض إلى ترجمة السفير الرابع الشيخ السمري ،ولكن ينبغي أن نستذكره هنا ، لنستطيع أن نستلهم منه أموراً جديدة .


صفحة (633)

قال الإمام المهدي في توقيعه : بسم الله الرحمن الرحيم ، يا علي ابن محمد السمري ، أعظم الله أجرك إخوانك فيك . فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام ، فاجمع أمرك ولا توص إلى احد . فيقوم مقامك بعد وفاتك .فقد وقعت الغيبة التامة ، فلا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلب وامتلاء الأرض جوراً.
وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة ، إلا فيمن أدعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة ، فهو كذاب مفتر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فنرى الإمام المهدي (ع) قد أكد في هذا البيان على عدة أمور :
الأمر الأول: إخباره بموت الشيخ السمري في غضون ستة أيام .
وهو من الأخبار بالغيب الذي تقوله بإمكانه للإمام .كمت سبق أن قلنا .
ولم يشك أحد يومئذ في صدق هذا الخبر ، وقد غدا عليه أصحابه بعد ستة أيام فوجدوه محتضراً يجود بنفسه ، كما سمعنا فيما سبق.
الأمر الثاني: نهيه أن يوصي إلى أحد ، ليقوم مقامه ويضطلع بمهام السفارة بعد وفاته ،وبذلك يكون هو آخر السفراء ، ولا سفير بعده، ويكون خط السفارة قد انقطع ، وعهد الغيبة الصغرى قد انتهى .
الأمر الثالث: أنه لا ظهور إلا بإذن الله تعالى ذكره ، وهذا معناه الإغماض في تاريخ الظهور ، وإيكال علمه إلى الله وحده وارتباطه بإذنه عز وجل.


صفحة (634)

ولهذا الإغماض عدة فوائد ، أهمها اثنان:
الأولى: بقاء قواعده الشعبية منتظرة في كل حين ، متوقعة ظهوره في أي يوم . وهذا الشعور إذا وجد لدى الفرد ، فإنه يحمله على السلوك الصالح وتقويم النفس ودراسة واقعه المعاش ومعرفة تفاصيل دينه جهد الإمكان .ليحظى في لحظة الظهور بالزلفى لدى المهدي والقرب منه ،ولا يكون من المغضوب عليهم لديه ،أو المبعدين عن شرق ساحته.
بل إن الفرد ليشعر ،وهو في حالة انتظار إمامه في أي يوم ،عن انحرافه وفسقه قد يؤدي به إلى الهلاك ، والإبعاد كلياً عن العدل الإسلامي العظيم الذي يسود العالم تحت قيادة الإمام المهدي عليه السلام .
فإن الإمام المهدي (ع) بعد ظهوره سوف يكون حدياً في تطبيق العدل الإسلامي ،وسيذيق كل منحرف عقائدياً أو سلوكياً أشد الوبال ، فإنه لا مكان للإنحراف في مجتمع العدل المطلق.
الثانية : حماية المهدي من أعدائه. بعد ظهوره ، فإن الإغماض في التاريخ يوفر محض المفاجأة والمباغتة للعدو على حين غرة منه، وهو من أقوى عناصر النصر وأسبابه ،إن لم يكن من أهمها وأقواها على الإطلاق.
على حين لو كان الموعد معيناً لكان بالإمكان الأعداء أن يجمعوا أمرهم ويهيئوا أسلحتهم ، قبيل الموعد المحدد حتى إذا ما آن الأوان لظهوره قاتلوه واستأصلوه قبل ان يفهم به الناس ، ويجتمع حوله الأعوان.
لا يفرق في أعداء المهدي (ع) بين من يعتقد بظهوره وبين من لا يعتقد ، فإن الموعد لو كان محدداً طيلة هذا الزمان لكان أمراً مشهوراً ولا يوجد في أذهان الأعداء احتمالاً على ألأقل بظهوره ،وهو مساوق مع احتمال استئصال الأعداء واجتثاثهم ، وهذا بنفسه يكفي للتأليب عليه وإعلان التعبئة العامة وحالة الطوارىء ضد الإمام المهدي .


صفحة (635)

إذن فاللازم لهذه المصالح وغيرها بقاء الموعد غامضاً مجهولاً منوطاً بإذن الله عز وجل وعلمه وحده.
الأمر الرابع : الإشارة إلى أمد الغيبة التامة الكبرى سوف يكون طويلاً مديداً.
وإنما ينقص المهدي (ع) ذلك ليجعل الفرد المؤمن من قواعده الشعبية ، مسبوقاً ذهنياً بطول الغيبة ومتوقعاً لتماديها ، فلا يأخذه اليأس أو يتلبسه الشك مهما طالت أو تمادت ،وإن أصبحت الآف السنين .
فإنه ما دام عارفاً بأنها ستطول وأنها منوطة بإذن الله عز وجل عند تحقق المصلحة للظهور و تهيء البشرية لتلقي الدعوة ألإسلامية الكبرى .
فإن الفرد يعرف عند تأخر الظهور أن المصلحة بعد لم تتحقق ،وأن الإذن الإلهي لم يصدر.
وهذا السبق الذهني ،يعني احتمال طول المدة ،وهو لا ينافي حال الإنتظار وتوقع الظهور في كل يوم وكل شهر وكل عام ،فإن طول الأمد الموعود به في كلام المهدي عليه السلام ،لفظ عام ينطبق على السنين القليلة وعلى السنين الطويلة . بل لو كان الإمام المهدي (ع) قد ظهر بعد الغيبة الصغرى بقليل لكان قد ظهر بعد طول الأمد ، لأن السبعين عاماً مع الشعور بالظلم وحالة الإنتظار تكون أمداً بعيداً بحسب الجو النفسي للفرد والمجتمع لا محالة.


صفحة (636)

هذا ، فضلاً عما إذا تأخر الإمام المهدي (ع) في ظهوره .عشرات السنين أو مئاتها - كما حدث بالفعل - أو الآفها .فإن طول الأمد يكون قد تحقق باوضح صوره وأصعب أنحائه .ومعه يكون الفرد متوقعاً انتهاء هذا ألأمد الطويل في كل ساعة وفي كل يوم ،وصدور الإذن الإلهي بالظهور.
الأمر الخامس : الإشارة إلى قسوة القلوب .والمراد به ضعف الدافع الإيماني ،والشعور بالمسؤولية ،والمشارفة على الإنحراف ، بل سقوط أغلب أفراد المجتمع المسلم به.
وذلك لأن الفرد يواجه امتحاناً إلهياً صعباً خلال الغيبة الكبرى من جهات ثلاث ، يكون عليه أن يخرج منه ناجحاً مظفراً .والخروج منه بنجاح يحتاج إلى عمق في الإيمان والإخلاص والإرادة لا يتوفر إلا في القليل من الأفراد .
الجهة الأولى : موقف الفرد تجاه شهوات نفسه ونوزعه الغريزية التي تتطلب الإشباع بأي شكل وحال. وكما قالوا ، إن الغرائز لا عقل لها فعلى الفرد ان يلاحظ ذلك فيكفكف من غلواء شهواته ويزعها بعقله وإيمانه عن الحرام إلى الحلال.
الجهة الثانية :موقف الفرد تجاه الضغط الخارجي الذي يعيشه وما يتطلبه من تضحيات في سبيل دينه وإيمانه ، ضد الفقر والمرض والسلاح والحرج الإجتماعي ،ونحو ذلك من المصاعب التي تصادف الفرد في طريقه الإيماني الطويل.


صفحة (637)

فإن كان الفرد شاعراً بالمسؤولية قوي الإرادة استطاع تذليل هذه الصعوبة والتضحية في سبيل الإيمان ،وأما إذا لم يكن قوي الإرادة وكان غير شاعر بالمسؤولية ،فإنه سوف يعطي الدنية من نفسه بقليل أو بكثير ، ويتعرض للإنحراف في كثير من مناطق طريقه الطويل .
الجهة الثالثة : موقف الفرد تجاه الإعتقاد بوجوب إمامه الغائب وقائده المحتجب .فإنه بعد أن عرفه بالدليل القطعي ، لا ينبغي أن تثبطه الشكوك ولا ان تزعزعه الأوهام ، ولا أن يؤثر في زحزحة اعتقاده طول الأمد.
الذي رواه عدد من علماء المسلمين والمحدثين والعظام من مختلف المذاهب.
والسر في امتلاء الأرض بالظلم والجور، واضح بعد الذي قدمناه في الأمر السابق ،من فشل أكثر البشر في الإمتحان الإلهي خلال الغيبة الكبرى .وسيطرة المادة وإشباع الشهوات عليهم وضعف الوازع الديني والأخلاقي إلى حد كبير .جداً في المسلمين .


صفحة(638)

أما غير المسلمين فحدث عنهم ولا حرج من حيث إنكارهم لأصل الدين الإسلامي وأساس التوحيد .ومن حيث موقفهم المخرب تجاه الإسلام والمسلمين ، ذلك الموقف الذي ذاق منه المسلمين خلال التاريخ أشد العذاب والتنكيل .
فإّن لم يكن لدى الدين الحق ، قائد عظيم كالإمام المهدي عليه السلام ، لكونه غائباً غير مواجه للمجتمع بصفته الحقيقية ، ليجمع شمل الدين ويلم شعثه ويرأب صدعه ويدفع عدوه ، فإن الغلبة تكون لا محالة للسلاح الأقوى والعدد الأكبر ،وهو جيش الكفر من ناحية وجيش الشهوات والإنحراف من ناحية أخرى . فتملأ الأرض جوراً وظلماً بطبيعة الحال ،وسيأتي في بحوثنا عن الغيبة الكبرى(1) مزيد من التوضيح لذلك .
الأمر السابع :من الأمور التي يشير إليها المهدي عليه السلام في التوقيع : لإثبات حدوث السفياني والصيحة ، وإنه أمر حق لا محيص عنه قبيل خروج المهدي وظهوره.
وهذا ما نطقت به كثير من الأخبار ، رواها محدثو كلا الفريقين .
ولا يبعد أن تكون أخبار السفياني متواترة أو قريبة من التواتر .
وسنعرض إلى ذلك وإلى مغزاها الإجتماعي وأسبابها ونتائجها ، في التاريخ القادم عن الغيبة الكبرى إن شاء الله تعالى.
الأمر الثامن: إن من أدعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو مفتر كذاب .
ــــــــــــــــ
(1) في الكتاب الثاني من هذه الموسوعة .


صفحة (639)

وهو واضح في مدلوله .فإن المراد بيان احتجاب الإمام المهدي (ع) عن الناس حتى زمان تحقق هاتين العلامتين .فمن الواجب تكذيب كل من ادعى رؤية المهدي (ع) قبل تحقق ذلك ،وإنما ينفتح المجال لإحتمال صدقه بعد تحقق العلامتين ،بمعنى أن ذلك الحين هو موعد الظهور ، فمن ادعى رؤية المهدي يومئذ فهو صادق أو محتمل الصدق على الأقل ،وإما قبل ذلك فلا.
وقد اصطدم ذلك - في نظر عدد من العلماء - بالأخبار القطعية المتواترة التي وردتنا عن مقابلة الكثيرين للإمام المهدي عليه السلام خلال غيبته الكبرى ،من بعد صدور هذا البيان الذي سمعناه إلى الآن .بنحو لا يمكن الطعن فيه أو احتمال الخلاف .ومقتضاها لزوم تصديق المخبرين في الجملة ،مع أن هذا التوقيع المهدوي يوجب علينا تكذيبه . فكيف يتم ذلك ،وما هو وجه الجمع بينه وبين تلك الأخبار .
وما قيل أو يمكن أن يقال من وجوه الجمع - لو حصلت المعارضة - عدة وجوه :
الوجه الأول: الطعن في سند التوقيع الشريف ورواته . حيث قالوا أنه خبر واحد مرسل ضعيف ، لم يعمل به ناقله وهو الشيخ في الكتاب المذكور ،وإعراض الأصحاب عنه .فلا يعارض تلك الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن مجموعها بل من بعضها المتضمن لكرامات ومفاخر لا يمكن صدورها عن غيره عليه السلام (1).
ــــــــــــــــ
(1) منتخب الأثير ص40


صفحة (640)

إلا أن هذا الوجه لا يمكن قبوله: أما كونه خبر واحد فهو ليس نقصاً فيه ، لما ثبت في علم أصول الفقه من حجية الخبر الواحد الثقة . وأما القول بعدم حجيته فهو شاذ لا يقول به إلا لنادر من العلماء .
وأما كونه خبراً مرسلاً، فهو غير صحيح، إذ رواه الشيخ في الغيبة(1) فقال أخبرنا جماعة عن ابي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه قال حدثني أبو محمد أحمد بن الحسن المكتب ، قال : كنت بمدينة السلام في السنة التي توفي فيها الشيخ أبو الحسن علي بن محمد السمري قدس الله سره . إلى آخر الخبر .كما رواه الصدوق بن بابويه في إكمال الدين عن أبو محمد المكتب نفسه ،فأين الإرسال ؟ .والزمن بحسب العادة مناسب مع وجود الواسطة الواحدة.
وأما كونه ضعيفاً ،فهو على تقدير تسليمه ، يكفي للإثبات التاريخي ،كما قلنا في مقدمة هذا التاريخ ،وإن لم يكن كافياً لإثبات الحكم الشرعي ، كما حقق في محله .
وأما إعراض الشيخ الطوسي والأصحاب عن العمل به ، فإنما تخيله صاحب الإشكال باعتبار اثبات الشيخ وغيره رؤية الإمام المهدي (ع) في غيبته الكبرى .وهذا مما لا شك فيه ، إلا أنه إنما يصلح دليلاً على إعراضهم لو كانت معارضة ومنافات بين التوقيع وإثبات الرؤية وأما مع عدم المعارضة - على ما سيأتي - فيمكن أن يكون العلماء :الشيخ الطوسي وغيره قد التزموا بكلا الناحيتين ،من دون تكاذب بينهما .ومعه لا دليل على هذا الإعراض منهم .
ــــــــــــــــ
(1) منتخب الأثر ص399 وغيبة الشيخ ص242


صفحة (641)

على ان الإعراض لو كان حاصلاً لما أضر بحجية الحديث ،لما هو الثابت المحقق في علم الأصول ، بأن أعراض العلماء عن الرواية لا يوجب وهنا في الرواية سنداً ولا دلالة .
الوجه الثاني : الطعن في الأخبار الناقلة لمشاهدة الإمام المهدي عليه السلام في غيبته الكبرى سنداً ، أي من ناحية رواتها ، والشطب عليها جملة وتفصيلاً ،كما قد يميل إليه المفكرين والمحدثين .
إلا أن هذا مما لا سبيل إلى تصديقه . فإنها طائفة ضخمة من الأخبار قد يصل عدده إلى عدة مئات . على أن بعضها مروي بطرق معتبرة وقريبة الإسناد فلا يمكن رفضها بحال ،وهذا كله واضح لمن استقرأ تلك الأخبار وعاش أجوائها ، وسيأتي الكلام عنها في التاريخ القادم عن الغيبة الكبرى إن شاء الله تعالى .
الوجه الثالث : الطعن في الأخبار الناقلة للمشاهدة ، بحسب الدلالة والمضمون ، بأحد نحوين :
النحو الأول : أن تحمل هذه الأخبار على الوهم ، وأن هؤلاء الذين زعموا أنهم رأوا وسمعوا ...لم يروا ولم يسمعوا .وإنما كان كلامهم كذباً متعمداً أو أضغاث أحلام ولو من قبيل أحلام اليقظة .وهذا هو الوجه الذي قد يميل إليه المفكرون والمتأثرون بالمبادىء المادية الحديثة .
إلا أن هذا أيضاً مما لا يمكن الإعتراف به ،فإن كثرتها مانعة عن كلا الأمرين : أما تعمد الكذب فهو مما ينفيه التواتر ، فضلاً عما زاد عن ذلك بكثير. مضافاً إلى وثاقة وتقوى عدد من الناقلين ،وعدم احتمال تعمدهم للكذب أساساً .


صفحة (642)

وأما كونها من قبيل الأوهام والأحلام ،فهو مما ينافيه تكاثر النفل أيضا ، بل يجعل الإعتراف به في عداد المستحيل. وتستطيع أن تجد أثر ذلك في نفسك، فلو أخبرك واحد لكان احتمال الوهم موجوداً وإن كان موهوناً ، إلا أنه لو أخبرك ثلاثة أو أربعة بحادثة معينة لحصل لك الإطمئنان أو العلم بصدق الخبر وحصول الحادثة، فضلاً عما إذا أخبرك بها عشرة العشرات بل المئات وهل تستطيع تحملهم كلهم على الوهم أو أحلام اليقظة ،إلا إذا كنت تعيش الوهم أو أحلام اليقظة.
النحو الثاني: أن يقول قائل : إن الناقلين للمشاهدة وإن كانوا صادقين وغير واهمين ، فإنهم قد عاشوا حادثة حسية معينة . إلا أنهم في الحقيقة، لم يشاهدوا المهدي (ع) بل شاهدوا غيره ،وتوهموا أنه هو على غير الواقع .
إلا أن هذا غير صحيح أيضاً لأمرين :
اولاً : أنه مما ينفيه التواتر ، فضلاً عما زاد عليه من أعداد الروايات والنقول أن يحصل القطع بأن المجموع لم يكونوا مغفلين بهذا الشكل ، بل أن بعضهم - إن لم يكن كلهم - قد شاهدوا المهدي نفسه.
ثانياً: أنه مما ينفيه التواتر ، فضلاً عما زاد عليه من أعداد الروايات والنقول أن يحصل القطع بأن المجموع لم يكونوا مغفلين بهذا الشكل ، بل - أن بعضهم ،إن لم يكن كلهم - قد شاهدوا المهدي نفسه.
ثانياً : إنه مما تنفيه الدلائل الواضحة والبراهين اللائحة التي يقيمها المهدي عليه السلام أثناء المقابلة ،وينقلها هؤلاء الناقلون مما لا يمكن صدورها من أحد سواه ، فيتعين أن يكون هو الإمام المهدي (ع) دون غيره . وسيأتي التعرض إلى هذه الدلائل في التاريخ القادم .


صفحة (643)

الوجه الرابع : أن نعترف بصدقها ومطابقتها للواقع ،لكن يلتزم بوجوب تكذيبها تعبداً ، إطاعة للأمر الوارد في التوقيع ، وقد احتمل هذا الوجه بعضهم.
إلا أنه مما لا يكاد يصح ... فإنه خلاف ظاهر الحديث بل صريحه .
حيث يقول: فهو كذاب مفتر الدال على عدم مطابقة قوله للواقع ،ولم يقل فكذبوه ، ليكون من قبيل الأمر الصادر من الإمام ليطاع تعبداً .
على انه لا يمكن للإمام المهدي (ع) ان يأمر بالتكذيب مع علمه بوقوع المشاهدة الثابتة عندنا بالتواتر .
الوجه الخامس: حمل التوقيع الشريف على دعوى المشاهدة مع ادعاء الوكالة أو السفارة عنه عليه السلام ، وإيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة على مثال السفراء في الغيبة الصغرى .قالوا: وهذا الوجه قريب جداً .وقد نقل عن البحار وغيره(1).
إلا أنه في الواقع بعيد جداً ، بمعنى أنه خلاف الظاهر من عبارة الإمام المهدي (ع) في بيانه ،فإنه يحتاج إلى ضم قيد أو لفظ إلى عبارته لم تقم قرينة على وجودها ..كما لو كان قد قال :إلا فمن ادعى المشاهدة مع الوكالة فهو كذاب مفتر .إلا أن المهدي (ع) لم يقل ذلك كما هو واضح .ومقتضاه عموم التكذيب لمن ادعى السفارة وغيره.
ــــــــــــــــ
(1) انظر منتخب الأثر ص400 والبحار جزء ج13 ص142


صفحة (644)

نعم من ادعى السفارة أو الوكالة يجب تكذيبه ،إلا أن هذا غير ادعاء المشاهدة ،إذ بالإمكان تصديق الفرد على المشاهدة وتكذيبه على الوكالة ،إلا ان الدليل على تكذيب الوكالة ليس هو قوله : فهو كذاب مفتر .وإنما هو قوله : ولا توص إلى أحد فيقوم مقامك بعد وفاتك .
فإنه دال على انتفاء السفارة بعد السمري ، فكل من يدعيها على مدى التاريخ فهو كاذب لا محالة . إلى عصر الظهور . ولذا قال الواعون من معاصري الغيبة الصغرى ، إنه(عندنا أن كل من ادعى الأمر بعد السمري فهو كافر منمس ضال مضل)(1) . وبذلك كانوا يستدلون على كذب دعاوي السفارات بعد السفير الرابع .
وأما إيصال الأخبار من جانبه إلى الشيعة ،فإن كانت محتفة بقرائن توجب العلم او الإطمئنان بمطابقتها للواقع، فلا ينبغي تكذيبها .وإنما يجب التكذيب - لو ثبت الأمر به - مع احتمال الخطأ وعدم وجوب الدلالة إلى الصواب.
إذن فلا يتم شيء من هذه الوجوه الخمسة للجمع بين التوقيع الشريف وأخبار المشاهدة ،على تقدير صحة التعارض بينهما .
إلا أن الصحيح هو عدم وجود النعارض بينهما بالمقدار الذي يثبت الحق وتقتنص منه النتيجة الإسلامية المطلوبة على ما سنرى ،من مقابلات الإمام المهدي (ع) ومن حيث مطابقتها للواقع وعدمها ، ومن حيث الإعراب عن المقابلة أو السكوت عنها ...
ــــــــــــــــ
(1) غيبة الشيخ الطوسي ص255


صفحة (645)

تنقسم إلى عدة أقسام... فيقع الكلام فيها على سبعة مستويات:
المستوى الأول: أننا سبق أن عرفنا أن الإمام المهدي ليس مختفياً بشخصه عن الناس ، وإنما يراهم ويرونه ، ولكنه يعرفهم ولا يعرفونه، فما هو الواقع خارجاً هو الجهل بعنوانه كإمام مهدي ، لا اختفاء جسمه ،كما تقول به بعض الأفكار غير المبرهنة .
وقد عرفنا من جهالة عنوان كافية في نجاته من السلطات الظالمة خاصة بعد أن تنمو أجيال جديدة لا تعرف شكله وسحنته ،إذن فالمهدي يستطيع أن يعيش في المجتمع كاي فرد من أفراده لا يلفت النظر ولا يثير الإنتباه ، بصفته عاملاً أو تاجراً أو رجل دين ،أو يتخذ في كل فترة زمنية عملاً معيناً ،وهكذا ،كما ستعرض له مفصلاً في التاريخ القادم .
وعلى ذلك ، فرؤية الناس للمهدي (ع) ثابتة كل يوم وعلى الدوام كلما مشى في الطريق أو ذهب إلى السوق أو إلى الحج أو إلى زيارة أحد أجداده الأئمة عليهم السلام .غاية الأمر ان الناس يرون فيه شخصاً عادياً ويجهلون بالكلية كونه المهدي ، بل من المتعذر حتى مجرد الإلتفات إلى ذلك أو احتماله ،كما هو واضح.
ومثل هذه الرؤيا أو المقابلة للمهدي ، لا ينفيها التوقيع الشريف بحال ، فإنها لا تقترن أبداً بإدعاء المشاهدة . بسبب جهل المشاهد بحقيقة من رآه وكونه أنه هو المهدي ،فهو لا يدعي أنه رآه المهدي ليلزم تكذيبه .


صفحة (646)

وإذا أعرب عن ذلك ،فإنما يقول: رأيت فلاناً ..ويذكر العنوان الظاهر الذي اتخذه المهدي (ع) في ذلك المجتمع ، لا العنوان الواقعي للمهدي البتة .وظاهر بيان انتهاء السفارة ان ما هو كاذب أو ما يجب تكذيبه هو ادعاء مشاهدة المهدي بصفته إماماً مهدياً أو الإلتفات إلى ذلك ولو بالنتيجة أي بعد انتهاء المقابلة وهو ما لا يمكن أن يحدث في المقابلات الإعتيادية للمهدي (ع) .
إذن فخبر التكذيب بعيد عن تكذيب هذا النوع من المشاهدة ، كما أن الأخبار الدالة على مشاهدة المهدي (ع) بعيدة عنه أيضاً . لما عرفناه من عدم إمكان الإعراب عن مشاهدة المهدي (ع) على هذا المستوى من المشاهدة ،وإنما تضمنت تلك الأخبار الإعراب عن مشاهدة المهدي بصفته مهدياً ،ولو من حيث النتيجة ، بالدلائل التي يقيمها المهدي على نفسه أثناء المقابلة .
إذن فهذا المستوى من المقابلة ،خارج عن نطاق كلاالطرفين المدعي تعارضهما ...لا تنفيه التوقيع ولا تثبته الأخبار الأخرى .ومعه فلا معارضة بينهما على هذا المستوى ، فإن المعارضة إنما تتحقق فيما لو اجتمع النفي والإثبات على مورد واحد ،وليس في المقام كله.
المستوى الثاني : أن الفرد يرى المهدي بصفته مهدياً ،ولكنه لا يعرب عن ذلك إلى الأبد .


صفحة (647)

وهذا المستوى مما لا يمكن الإستدلال على بطلانه أو نفيه ، إن لم ندع أنه هو الأغلب مقابلات المهدي ،وأن المقابلات التي أعرب عنها الناس ووصلنا خبرها - على كثرتها - أقل بكثير من المقابلات التي لم يعرب عنها أصحابها ولم يصلنا خبره، خاصة بعد ان نعرف أن العلماء والصالحين من سلفنا الصالح ، كانوا يرون عدم جواز الإعراب عن المقابلة لأحد ،بدوافع مختلفة.إما لكونهم تخيلوا أن التوقيع الشريف الذي نتحدث عنه دال على عدم الجواز ،وإما لكونهم تخيلوا ان الإعراب عن المقابلة بما فيها من ملابسات قد تؤدي على خطر على المهدي نفسه .
وإما لكونهم تخيلوا أن مقتضى التواضع والأخلاق هو السكوت ،وإما لأنهم تلقوا أمراً من المهدي حين المقابلة بالكتمان .أو لغير ذلك من الدوافع .وبذلك ضاعت على التاريخ أكثر مقابلات الإمام المهدي (ع ) في غيبته الكبرى .
وهذا المستوى من المقابلات ،مما لا يمكن الإستدلال على بطلانه ،إلا برفض التصور الإمامي للمهدي (ع) وغيبته ،وهو خلاف المفروض من هذا التاريخ ، حيث بنيناه على التسليم بصحة هذا التصور ، وأوكلنا البرهنة عليه إلى بحث آخر. كما قلنا في المقدمة ،ومع الإعتراف بهذا التصور تكون مقابلة على هذا المستوى محتملة على أقل تقدير .ولا يدل التوقيع الشريف على نفيه وبطلانه لفرض عدم اقترانها بدعوى المشاهدة .كما لا معنى لتكذيبها ، بعد أن سكت عنها أصحابها ،كما لا يدل عدم نقلها على عدم تحققها ، لكون أصحابها قد تعمدوا إخفائها والسكوت عنها.


صفحة (648)

وهذا المستوى أيضاً خارج عن أخبار المشاهدة ، لكونها جميعاً من المشاهدات المنقولة كما هو واضح ،ومعه يكون هذا المستوى خارجاً عن طريق النفي والإثبات للطرفين من الأخبار المدعي تعارضهما :إذن فلا تعارض على هذا المستوى أيضاً.
المستوى الثالث: أن الفرد يرى الإمام المهدي (ع) بصفته مهدياً ولو بحسب النتيجة ،ولكنه لا يخبر الصراحة والوضوح، بكونه قد شاهد المهدي، وإنما ينقل ما وقع له من الحادثة ويكون المستنتج له ولغيره ،من مجموع ما حدثت من دلائل هو أن ذلك الشخص الذي أقامها هو المهدي عليه السلام .والمخبر من ناحيته يجعل المجال للتفلسف والإستنتاج للسامع مفتوحاً .وإن كان يعتقد بنفسه أن من رآه هو الإمام المهدي بعينه .
ففي مثل ذاك ،إذا استظهرنا من التوقيع الشريف ،كما هو غير بعيد من قوله :أدعى المشاهدة ،ما إذا ادعى المتكلم رأساً أنه رأى المهدي وتعهد بذلك للسامع ..فهو مما لا ينفيه التوقيع الشريف.
ومن المعلوم لمن استعرض اخبار المشاهدة التي ادعى معارضتها مع التوقيع ، أن اكثرها يتضمن نقلاً للحادث مع إيكال الجزم بكون المرئي هو الإمام المهدي إلى وجدان السامع ،وعدم تعهد المتكلم بذلك ،وإن كان معتقداً به ، إذن فمثل هذه الأخبار تكون مداليلها ثابتة بدون أن ينفيها التوقيع بحال.


صفحة (649)

نعم، لو فرض وجود خبر يقول لك :بأنه شاهد المهدي عليه السلام وتعهد لك بالصراحة بذلك فإنه يخرج عن هذا المستوى الثالث .
وأما كونه هل يقع طرفاً للمعارضة مع التوقيع أو لا يقع ، فهو مما سيتضح على المستويات الآتية .
المستوى الرابع : كون الفرد يرى الإمام المهدي عليه السلام ، ويخبر صراحة أنه يرى المهدي ،متعهداً بإثبات ذلك. إلا أنه يذكره مدعماً بالبراهين والأدلة التي تورث القطع للسامع بأن الشخص المرئي هو المهدي نفسه ،لإستحالة ان يقوم بذلك شخص سواه عادة.
ففي مثل ذلك ،وإن اقتضى الفهم الإبتدائي للتوقيع نفي المشاهدة على هذا المستوى ، إلا أنه بحسب الدقة ، يستحيل دلالة التوقيع على ذلك ، لفرض كوننا قاطعين بكون المرئي هو الإمام المهدي (ع) أو غيره ،ولا يشمل صورة العلم بكونه هو المهدي .فكأن المهدي من توقيعه الشريف يريد ان يقول :أنه إذا أخبرك شخص بأنه رأى المهدي وشككت بقوله فاحمله على انه كاذب ، بمعنى ان القاعدة العامة في دعوى المشاهدة هو الكذب وعدم المطابقة مع الواقع ،إلا مع القطع بالثبوت والمطابقة.
والمفروض على هذا المستوى القطع بذلك ، فلا يكون منفياً بالتوقيع كما هو واضح.


صفحة (650)

ونحن إذا استعرضنا أخبار المشاهدة . نجدها جميعاً مدعمة بالشواهد القطعية الدالة على كون الشخص المرئي هو الإمام المهدي، فإن هذه الشواهد هي السبيل الوحيد إلى معرفة ذلك .إلا أننا الآن حيث لم نعش هذه الشواهد ولم نعاصرها وكان كل خبر مستقلاً ، ظنياً بالنسبة إلينا ، فما عندنا من العلم فعلاً ،هو العلم الناشىء من التواتر ، حيث قلنا بأن هذه الأخبار تفوق التواتر ،إذن فنحن نعلم أن اشخاصاً أخبروا عن مشاهدة المهدي وعاشوا شواهد قطعية على ذلك ، ومعه لا يمكن أن تكون مثل هذه الإخبارات مشمولة للتوقيع الشريف بحال.
فعلى هذه المستويات الأربعة، التي تنتظم فيها سائر الأخبار، لا يكاد يشذ منها شيء ترتفع المعارضة المتخيلة بين التوقيع الشريف وأخبار المشاهدة .ولا يكاد يكون التوقيع نافياً لها بحال.
المستوى الخامس: أن الفرد يخبر عن مشاهدة الإمام المهدي عليه الاسلام ، من دون أن يقترن خبره بدليل يوجب القطع او الإطمئنان بأن المرئي هو المهدي نفسه.
وهذا المستوى لا يكاد يوجد في الأخبار المشاهدة ،فإنه كلها أو الأعم الأغلب منها على الأقل ، تحتوي على الدلائل القطعية على ذلك كما قلنا ،وسنرى ذلك حين نعرض لها بالتفصيل في التاريخ القادم .
نعم ، لو فرضنا وجود مثل هذا الخبر أو سمعت شيئاً من ذلك من أحد بدون ان بقترن بدليل واضح ،فاعرف أنه كذاب مفتر .
فإنه يكون مشمولاً للتوقيع الشريف ، لو اقتصرنا على قسم من عبارته .
ولا ضير في ذلك .فإن المنفى هو أقل القليل ،وهو يحملنا على التنزه عن الدعاوي الفارغة والإستدلالات الخرافية المتعمدة.


صفحة (651)

نعم لو أخذنا بقوله (ع) : وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة وفهمنا منه التنبيه على الدعوات المنحرفة بالخصوص ،على ما سيأتي على المستوى الآتي ..كان ذلك قرينة على أن دعوى المشاهدة المقترنة بالدعوة المنحرفة ،هي الكاذبة دائماً ،ومعه يكون ادعاء المشاهدة المجرد عن الدعوة المنحرفة ، غير منصوص على كذبه في التوقيع ، وإن تجرد عن الدليل الواضح . بل يبقى محتمل الصدق على اقل تقدير .
المستوى السادس: أن يدعي شخص مشاهدة الإمام المهدي ، بدون برهان واضح كالمستوى السابق ،ولكنه يدعي ان المهدي قد قال أموراً أو أمره بتبليغ اشياء نعرفها بكونها باطلة ومنحرفة ، فيحاول هذا الفرد أن يتزعم باسم المهدي مسلكاً منحرفاً أو حركة ضالة في داخل نطاق القواعد الشعبية المؤمنة بالمهدي .. من أي نوع من أنواع الإنحراف كان.
والإدعاء على هذا المستوى كاذب ومزور جزماً للعلم بعدم صدور ما هو باطل من الإمام الحق المذخور لدولة الحق .
والمطمأن به هو أن هذا المستوى من الإدعاء هو المقصود من التكذيب في التوقيع الشريف، فإن المستظهر من قوله (ع): وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة .كون المراد منه الإشارة إلى حدوث دعوات منحرفة وحركات غير محمودة في داخل القواعد الشعبية الإمامية ، تقوم على دعوى المشاهدة ، خلال الغيبة الكبرى ، مع إلفات نظر المؤمنين وتحذيرهم من تلك الدعوات ،وتنبيههم على خطرها على الإسلام والمجتمع الإسلامي .


صفحة (652)

إذن فمدعي المشاهدة كاذب مزور في خصوص ما إذا كان منحرفاً ينقل أموراً باطلة على الإمام المهدي عليه السلام .وأما فيما سوى ذلك فلا يكون التوقيع الشريف دالاً على بطلانه ،سواء نقل الفرد عن المهدي أموراً صحيحة بحسب القواعد الإسلامية ،أو محتملة الصحة على أقل تقدير ، أو لم يتقل شيئاً على الإطلاق.
المستوى السابع : أن يؤمن شخص بإنسان أنه المهدي المنتظر كما حدث في التاريخ خلال الدعوات المهدوية المتعددة .فيخبر - إذا رآه - أنه رأى المهدي.
وهذا يكون كاذبا جزماً .لأنه وإن كان رأى مدعي المهدوية ، إلا أنه لم ير المهدي الحقيقي المعين من قبل الله تعالى لإنقاذ الأرض من الظلم في اليوم الموعود .فإخباره برؤية المهدي لا يكون مطابقاً للواقع ،وإن اعتقد المخبر صدفه ، فيكون من التوقيع الشريف هو التحذير من هذه الدعوات المهدوية الباطلة.
والمعارضة على هذا المستوى - غير موجودة - بين التوقيع الشريف وأخبار المشاهدة ،فإن التوقيع وإن كان مكذباً لهذه المشاهدة المقصودة لا تثبتها ،فإنها جميعاً تدور حول مشاهدة المهدي الغائب محمد بن الحسن العسكري عليهما السلام ،دون غيرهى .وهو المهدي الحقيقي بالفهم الإمامي ،وعند من يعترف بصحة هذا التوقيع الشريف ونفوذه .ومعه لا معنى لهذه المعارضة المدعاة .


صفحة (653)

إلا أنه يمكن المناقشة على أي حال في تعرض التوقيع لهذا المستوى السابع ،بأننا وإن جزمنا بكذب المخبر برؤية المهدي ،إذا كان قد رأى مدعي المهدوية ،إلا أن هذا الإعثقاد ناشيء عن الدليل الخاص الدال على انحصار المهدي وانطباقه على محمد بن الحسن دون غيره كما عليه الفهم الإمامي المفروض صحته في هذا التاريخ ،وأما استفادةذلك من التوقيع الشريف ، فغير ممكن .لأن المستفاد من قوله :وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة ،أنه تحذير من الدعوات المنحرفة التي تقوم في داخل نطاق شيعة المهدي وقواعده الشعبية ،وبذلك تخرج الدعوات المهدوية الخارجة عن هذا النطاق ،لأنهم ليسوا من شيعة المهدي محمد بن الحسن ،كما دل عليهم قوله : وسيأتي لشيعتي.
ومعه يكون هذا التوقيع ساكتاً عن التعرض إلى تكذيب الدعوات المهدوية الأخرى،وإن علمنا كذبها بدليل آخر .
إذن فقد تحصل من كل ذلك ،أن الإشكال الذي ذكروه غير وارد على التوقيع ولا على اخبار المشاهدة ،وأنه بالإمكان الأخذ به وبأخبار المشاهدة ، ولايجب تكذيبها إلا إذا كان قائماً على الإنحراف و الخروج عن الحق .
وبهذا ينتهي الحقل السابع في إعلان الإمام المهدي عليه لاسلام انتهاء السفارة وبدأ الغيبة الكبرى .
وبانتهائه ينتهي المهم من أعمال المهدي اتجاه سياسته العامة والخاصة خلال غيبته الصغرى ،وبقيت هناك تفاصيل قليلة من الأنسب تحويلها عن تاريخ الغيبة الكبرى القادم .
وبهذا ينتهي ما أردنا بيانه من تاريخ الغيبة الصغرى بما فيها من ملابسات وحقائق.
والحمد لله على حسن التوفيق وصلى الله على سيد رسله وخاتم انبيائه رسول الإسلام ورائد الحق ،وعلى آله الطيبين الطاهرين .نبتهل إلى الله أن يمن على البشرية المظلومة بقرب الفرج ولقاء اليوم الموعود ، يوم العدل المطلق ، على يد قائده الكبير المهدي القائم عليه السلام.
وقع الفراغ من تسويد هذه الصفحات بيد المحتاج إلى رحمة الله الكريم محمد بن محمد صادق الصدر بتاريخ يوم الجمعة الثامن من ربيع الثاني عام 1390 للهجرة النبوية المباركة .الموافق 12 حزيران لعام 1970 الميلادي .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

محمد الصدر
النجف الاشرف- العراق

السابق

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله