فقه العشائر
حوار فتوائي مع
آية الله العظمى الشهيد المقدس
السيد محمد الصدر
طُبِعَ بإشَراف مَكتَب السَيد الشَهيد في النَجَف الأشرف
1429
المقدمة
الحمد الله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء
والمرسلين حبيب إله العالمين أبو القاسم محمد وعلى آله الطيبين
الطاهرين.
قال سبحانه وتعالى : يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ
مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ([1])، فالهدى أذن من تصنيف البشر
إلى شعوب مختلفة وقبائل متنوعة بالملامح واللغات والتقاليد هو
التعارف بينهم أي ليعرف كل إنسان بسماته وخصائصه المميزة له ولتعرف
أنسابهم لا لكي يتفاخروا بها أو يتفاضلوا بها إذ ليس لجنس على أخر
ولا لفصيل على أخر فضل وتفوق كما تبينه بعض الدعوات العصبية
الجاهلية بل أساس التفاضل هو التقرب من الله تبارك وتعالى وتقواه
وبهذا المعيار ينظر الإسلام إلى الناس فتراه يرفع سلمان الفارسي
ويجعله من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً
وبالمقابل تنزل سورة كاملة في القرآن الكريم بذم أبي لهب عم الرسول
(ص) وتبقى خالدة إلى يوم القيامة ولنا عبرة فيما اقتص سبحانه من
قصة نبي الله نوح وولده فقال له ، ( إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ([2]) ، (يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ
مَالٌ وَلاَ بَنُون إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)
([3]) ويوم يقول الناس لرب العالمين فلا انساب بينهم يومئذ ،
(وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ
عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي
الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) ([4]) فالهدف الأسمى للإنسان في هذه الحياة
هي معرفة الله سبحانه وتعالى وطاعته وعبادته ، (وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ([5]) ولا ينبغي أن
يطاع أحد الإ من كانت طاعته من طاعة الله سبحانه أما إذا كانت طاعة
المخلوق تسبب معصية الخالق فهي مرفوضة لا طاعة لمخلوق في معصية
الخالق ([6]) وهؤلاء الذين يطاعون من دون الله سبحانه يستبرأون من
أتباعهم يوم القيامة ولا تنفعهم طاعتهم بل يلعن بعضهم بعضا ويندمون
حيث لا ينفع الندم ، (وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ
الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ
تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن
شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء
عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ)
([7]) ، (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ
رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ
لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ, قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ
اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ
جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) ([8]) ومثل هذه المخاصمات بين
الأتباع ورؤسائهم كثيرة ومنتشرة في كتاب الله ، (حَتَّى إِذَا
ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ
رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ
النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ )([9])
وكل ذلك للتحذير مما وقعت فيه الأمم السابقة فإنهم أطاعوا كبراءهم
فأضلوهم السبيل ولم يغنوا عنهم شيئا من الله. لذا يجب على كل من
يسلم قيادة لأحد أو يدخل في طاعة أحد ومتابعته أن يرقبه فإن كان في
طاعة الله سبحانه سار معه وإلا نبذه وتخلف عنه فانه حينئذ - كفرعون
- يقدم قومه حتى يوردهم النار وبئس الورد المورود. وأظن أن هذه
المقدمة واضحة في أذهان الجميع و متسالم على صدقها لكن العجب بعد
كل ذلك أن نرى كثيراً من الأنظمة العشائرية والتقاليد المتبعة فيها
مخالفة صراحة للشريعة ومع ذلك ترى لها قوة في التطبيق أشد من قوة
الشريعة فيرضخ لها الإنسان وينصاع وإن كان في ذلك معصية الله
سبحانه ودخول جهنم فبالرغم مما تنطوي عليه الأنظمة من حسنات
وإيجابيات كالاتحاد والتآزر والتواصل وسد الحاجة وما تنطوي عليه من
خصال حميدة كالكرم والشجاعة والوفاء والغيرة والنخوة لكن هذا كله
يجب أن يكون في قالب الدين والشريعة ولا يزيغ عنها ولا يجوز أن
يكون ضغط العرف العشائري أكثر من الوازع الديني بل يجب تهذيب
وتعديل هذا العرف بما ينسجم مع الشريعة وان الشيطان ليومي إلى
أوليائه بأنه النار ولا العار والإمام الحسين (ع) يقول (العار أولى
من دخول النار) ([10]) على أنه ليس في تطبيق الشريعة المقدسة أي
عار بل العار في مخالفتها والشرف في الالتزام بها كما في الحديث
(من أراد عزا بلا عشيرة وشرفا بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله
إلى عز طاعة الله) ([11]). فان الإسلام يريد إصلاح البشرية
وسعادتها أما من أغواهم الشيطان فيريدون الضلال والشقاء والتعاسة
والفوضى والهمجية.
وإذا اجتمع الخصوم عند الله سبحانه فلا ينفع المذنب أن يقول أمرني
رئيس عشرتي بكذا أو على التنفيذ فانه يرمى هو ورئيس عشيرته في جهنم
ويكون مع المشركين الذين اعتذروا بأنه ، (إِنَّمَا أَشْرَكَ
آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ) ([12])
فنهيب بإخواننا أبناء العشائر إلا يكونوا فريسة سهلة للشيطان
ويضيعوا دينهم ودنياهم من أجل تسويلات شيطانية ما أنزل الله بها من
سلطان فان أشد الناس حسرة من باع دينه لدينا غيره فما معنى أن
يتقاتل قوم فتذهب النفوس والأموال - وهم يدعون الإسلام - من أجل
كلام مفترى وتهم مدعاة من دون تحقيق ، يلقيها مغرض أو
منافق أو حاقد ويوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين وهو عين ما كان
يفعله اليهود بين الأوس والخزرج في المدينة وسالت أودية من الدماء
بسبب كلام فارغ يقال هنا وهناك وقد لا يكون له أساس من الصحة. وحتى
لو حدث حادث... لا سامح الله - بسبب نزوة الشيطانية من زنا أو لواط
أو قتل أو سرقة فقد جعل له الشارع المقدس ضوابط وحدود ، (تِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا) ([13]) ، (َمَن يَتَعَدَّ
حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ)، ([14]) أما هذه الأحكام
الجزافية التي جرى عليها العرف العشائري فما أنزل الله بها من
سلطان ومن يشرع أحكاما بغير ما أنزل الله فان عذابه شديد لأنه
ينازع الله تعالى في سلطانه ويجعل نفسه حاكما في مقابل حاكمية الله
تبارك وتعالى.
ونصيحتنا لرؤساء العشائر أن لا تغرهم هذه الرئاسات فقد حذرنا
الأئمة من تولي رئاسة مجموعة من الناس مهما كانت قليلة لأنه يطول
موقفه يوم القيامة ويسأل عن كل صغيرة وكبيرة وإن ممن لا يشم ريح
الجنة من تولى عرافة قوم أي رئاستهم ومشيختهم وكان السلف الصالح
يتهربون من الزعامات ورعاً واحتياطا لدينهم وفراراً من الوقوع في
المزالق فمن تبوأ مثل هذه المقاعد فليضاعف الحذر أمام الله سبحانه
وتعالى وليكن على معرفة تامة بأحكام الشريعة لكي لا يقع في
مخالفتها ويجب أن يكون واسع الصدر رحيما رؤوفا بالناس يقبل العذر
ليكن جامعاً لشتى الخصال النفسية الحميدة.
وهذه أسئلة توجه بعض الأخوة المخلصين الغيورين على الدين على شكل
فتوائي مع سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد الصدر
وهي كما هو واضح شاملة لكثير من التقاليد والعادات والقوانين
العشائرية المنحرفة الظالمة وتفضل سماحته بالإجابة ليعلن بصراحة
رفض الشريعة المقدسة لها وليبين راية الحق فيها لعل فيها ذكرى لمن
يتذكر أو ألقى السمع وهو شهيد. وذكر فان الذكرى تدفع المؤمنين وما
توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب وهو نعم المولى ونعم
النصير.
أحد طلبة الحوزة
العلمية الشريفة
5 / رمضان المبارك / 1417