مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد صادق الصدر ( قدس سره)

كتاب اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني للسيد الشهيد محمد صادق الصدر - قد -

كتاب اليوم الموعود::تأليف السيد محمد محمد صادق الصدر

المقدمة
-1-
كانت الكتب الثلاثة السابقة من موسوعة الإمام المهدي عليه السلام، متكفلة لتاريخ الإمام المهدي من وجهة النظر الإمامة، مع محاولة إعطائها صيغة متكاملة وخالصة من الشوائب. ابتداء بميلاده ومرورا بغيبته، وانتهاء بظهوره ودولته، مع إعطاء السمات العامة للبشرية اللاحقة للظهور إلى قيام الساعة.
وقد انتهت هذه الجنبة من التاريخ من خلال هذه الكتب الثلاثة. وسيكون من المنطقي، طبقا لمنهجية البحث عن الفكرة المهدوية... الشروع بالاستدلال على صحة هذه الفكرة، ومحاولة دفع ما يحتمل أن يكون مانعا عن الالتزام بوجوده ووجود دولته.
ومن المنطقي أن يبدأ الاستدلال من اعم المنطلقات، لنصل إلى اخصها بالتدريج، من خلال كتب هذه الموسوعة. إن أعم المنطلقات بالنسبة إلى هذه الفكرة هو محاولة إثبات صحة الفكرة القائلة بوجود المستقبل السعيد للبشرية من زاوية مادية صرفة، بغض النظر عن أي دين... ليكون للحديث الديني مجال آخر خلاله.
هل يوجد للبشرية مستقبل عادل، يسود فيه الرفاه وتخيم فيه السعادة على ربوع البشرية، وترتفع فيه المظالم والأنانيات عن الناس، وتترك العداوات والاعتداءات ويعم السلام الحقيقي الكامل كل الأرض المعمورة.ام إن هذا اليوم لن يوجد، بل من المحتوم على البشرية أن تبقى في خبط وشماس وتلون واعتراض وقلاقل ومظالم، ما دام لها وجود على البسيطة. لأن هذه الحركة الظالمة الدائبة، من خصائص النقص البشري لا يمكن فكاكها عن البشر.
هذا سؤال مهم وأساسي، قد يلقيه الفرد على نفسه، أو يسمعه من غيره فيهز رأسه يائسا من الجواب، لأن المستقبل مما لا يمكن الإطلاع عليه بحال من الأحوال، والمستقبل وحده هو الكفيل بإعطاء الجواب. ولا نستطيع ونحن في الماضي- بالنسبة إلى تلك الحقبة من الدهر- أن نعطي الجواب الحاسم بحال.
وقد يهز فرد آخر راسه من هذا السؤال مستغربا من مجرد إثارته، لأنه يرى من اليقين الذي لا شك فيه أن البشرية، سوف تبقى على هذا الحال تجر مشاكلها ومظالمها ما دام لها وجود. فإن الأوضاع الحاضرة كلها تدل على ذلك المستقبل، بأي حال.
بل إن الطبيعة البشرية ذات الأنانية أو العامل الجنسي أو الاقتصادي او غيرها هو السبب في هذه الحركات الظالمة، وهو مواكب للبشرية إلى نهايتها، إذن، فلابد ان يبقى الظلم مواكبا مع البشرية إلى نهايتها، ولا يمكن ان يوجد لها أي مستقبل سعيد.
وكلتا هاتين الفكرتين لها درجة من الأهمية والوجاهة. إلا انه مما يؤسف له إ إ... ان عددا من المفكرين في العالم على مختلف المبادىء والمشارب استطاعوا استشفاف المستقبل، والتنبوء بوجود المستقبل السعيد، واوضحوا القرائن والدلائل على ذلك.
إنك لو سألت الماركسية عن ذلك لأجابت بكل ثقة واطمئنان بنعم.
ولو سألت الأديان عامة والأديان الثلاثة الكبرى منها وخاصة الإسلام، لأجابوا بصوت واحد: نعم، بكل تأكيد.
من هذه الزاوية المشتركة سيكون منطلق البحث.
-3-
تنبأت الماركسية بالمستقبل السعيد، من زاوية النظرية العامة التي وضعتها لتفسير التاريخ، المسماة بالمادية التاريخية، التي جعلت خاتمة مطافها ذلك المستقبل.
وتنبأت الأديان، بهذا المستقبل من زاوية البرهنة على وجود قائد معين منقذ للبشرية من المظالم ومخلص لها من المشاكل... وقد سماه الإسلام بالمهدي.
والنتيجة بينهما واحدة، وهو الجزم بوجود المستقبل السعيد. وهذه هي نقطة القوة الرئيسية.
ومن هنا عرضنا للآراء الماركسية عرضا مفصلا، لنرى أنها بعد أن كانت مصيبة بنبوئتها هذه، فهل هي قد توصلت إليها بمقدمات برهانية صحيحة أو غير صحيحة.
وهنا لابد من الالماع، إلى ان الحديث ليس عن نقد الماركسية ككل... ليستلزم ذلك عرض كل شاردة وواردة في الفكر الماركسي. فإن موضوع الكتاب ليس هو ذلك. وإنما المهم النظر إلى الماركسية من زاوية هذه النبوءة ليس إلا... مع التأكد من سلامة او عدم سلامة المقدمات التفصيلية التي انتجتها.
فكان هذا هو القسم الثاني من الكتاب.
واما القسم الأول، فهو قسم مختصر، يراد به التأكيد على أن الاتجاه المادي عموما بصفته ماديا، لا يمكنه استنتاح وجود المستقبل السعيد بأي حال... سواء من زاوية (علمية " او من زاوية (قانونية ما. وإنما انفردت الماركسية من بين المذاهب المادية الحديثة بهذه النبوءة باعتبار فهمها الخاص للمجتمع والتاريخ.
وبعد أن يتم نقد الماركسية، ويثبت عدم صمود ماديتها التاريخية تجاه النقد. ينقدح السؤال من جديد: هل فشلت النبوءة إذن؟ أم... كلا... فإن هناك أدلة من نوع آخر يمكن إقامتها عليه ، تلك هي ادلة الدين... الذي يثبت وجوده بنفس الطريق الذي تثبت به الماركسية فشلها.
إن الدين يمكن أن يعطى البديل الصالح للمادية التاريخية الماركسية، ويملأ كل الفجوات التاريخية والاجتماعية التي حاولت الماركسية ملأها، والتي لم تحاول.
بل إنه يزيد عليها بكثير... إنه يرى أنه وجود المستقبل السعيد نتيجة لتاريخ البشرية ككل، ووجود البشرية ككل نتيجة لظواهر وأهداف كونية عامة إذن فالمستقبل السعيد يمت بصلة إلى الأهداف الكونية نفسها... وسينتج
7
هذا المستقبل البشرى نتائج كونية حاسمة. ولن ينتهي الحديث عند مجرد النبوءة بوجوده، كـما انتهى حديث الماركسية.
إن البشرية ليست إلا رحلة طويلة من رحلات الكون الكبرى،
وظاهرة من ظواهره، وليس مستقبلها السعيد بكل تفاصيله سوى محاولة لتركيز الأغراض الكونية.
أما انه كيف يكون ذلك، وما هي مقدماته، وما هي صفاته وما هي نتائجه، فهذا ما يشرحه لك " التخطيط الإلهي العام لتكامل البشرية في القسم الثالث من هذا الكتاب، بكل تفصيل.
ونحن بعد أن أعطينا في الكتابين السابقين من هذه الموسوعة، زاوية من الاستدلال على الفهم الامامي لنظرية المهدي، أمكننا ان نستعين بهذا الفهم أحيانا لملأ بعض فقرات هذا التخطيط العام.
واعطينا من خلال هذا التخطيط تفسيرا كاملا للبشرية بماضيها وحاضرها ومستقبلها إلى حين فنائها. وحاولنا من خلال الحديث المقارنة مع النتائج الماركسية التي عرفناها في القسم الثاني. وهنا أمكننا ان نتوصل إلى مناقشات اعمق وأوضح مما سبق. إنها مناقشات جديدة تماما لأنها منطلقة من نظرية متكاملة وجديدة تماما... هي نظرية التخطيط الالهي.
إن هذه النظرية، معروضة ايضا في الكتابين السابقين. إلا أنها عرضت في هذا الكتاب بشكل يختلف في المقدمات والتفاصيل والنتائج... كما هو مشار إليه في داخل هذا الكتاب، ولا يخفى- ايضا- على قارىء هذه الموسوعة ومن هنا حل لنا هذا المقدار من التكرار.
فهذا هو العطاء الذي يمكن ان يحصل عليه من خلال هذا الكتاب.
إن طريق التوصل إلى النتائج الكاملة، دائما، هو تلاقح الأفكار والسعي في سبيل النقد البناء. والحقيقة بنت البحث.
ومن هنا يود المؤلف، بكل انفتاح، تلقي النقد البناء المخلص من
كل ناقد من ماديين ومتدينين، عسى ان يتمكن من ملأ الفراغات التي تركتها جوانب النقص البشري في بحثه... لو كان. لعلنا نتوصل من ذلك إلى القناعة بالنتائج الرئيسية الكاملة.

القسم الأول
المستقبل السعيد للبشرية
في الفكر المادي بمعناه العام
الأطروحة الأولى
المستقبل السعيد بالتطور العلمي نحو الأفضل

تكون الفكرة الأساسية في هذه الأطروحة: ان العلم التكنيكي الصناعي الحديث هو الكفيل بإيصال المجتمع البشري إلى السعادة والرفاه... وبخاصة في المستقبل حين يتطور العلم اكثر مما هو عليه الآن، فيصل بمزيد من التجارب إلى مراق عليا يستطيع ان يكفل بها إيجاد المستقبل السعيد للبشرية كلها.
كيف لا؟!... ونحن نعاصر النتائج الكبرى التي تمخض عنها العلم في هذا العصر، فلا نجد إلا ما يدعو إلى الاكبار والإحترام... فإننا لو تجاوزنا قمم العلم العليا التي تتمثل في عدة امور، كتفجير الذرة والصعود إلى الكواكب وتأسيس العقل الالكتروني... إذا تجاوزناها، وحاولنا النزول إلى الفوائد الاجتماعية التي يمكن للعلم أن يحققها، فيضمن للبشرية مستوى عال من السعادة والرفاه.
... إذن، لرأينا الشيء الكثير... فهناك الأجهزة التي اخترعت، ولا زالت تخترع لتذليل مصاعب الحياة المنزلية، ولعل أهمها إلى الآن ذلك الإنسان الآلي الذي يقوم بالخدمات بكل رحابة صدر وبدون تعب! ويوفر للعائلة اكبر الجهود. وهو أيضا يرد على التلفون ويخبر صاحبه عن المكالمات التلفونية الحاصلة حال غيابه.
وهناك الآلات الزاخرة العظيمة المستعملة كوسائل للإعلام... من السينما إلى الراديو، إلى التلفزيون، إلى التسلتار الذي يوزع البث التلفزيوني على رقعة كبيرة من العالم.
أما التلفون الصوتي والتلفزيوني، فحدث عنه ولا حرج... في تقصير
13
المسافات والتقريب بين المتباعدين والغائبين، واختصار الجهد إلى حد بعيد. وهناك الآلات الزراعية، التي تقلل الجهد وتزيد في الانتاح وتوسع رقعة الأرض المزروعة إلى أكبر مدى. مضافا إلى الأساليب العلمية لتحسين الانتاج إلى درجة كبيرة بل إنتاج أنواع من الأطعمة والفواكه ليست معهودة ولا معروفة!
وقل نفس الشيء في تحسين الإنتاج الحيواني، وتطويره وتوسيعه...
ولا يخفى ما للعلم من جهود مشكورة في دفع الآفات والأمراض الزراعية والحيوانية وإعطاء أعمق الأساليب وأنجحها لاتخاذ أحسن شكل للانتاج. وأما الطب فحدث عن انتصاراته على المرض ولا حرج... وقد تكللت الجهود الطبية بزرع الأعضاء الجديدة في جسم الإنسان بدل الأعضاء التالفة فيه. ولعل عملية زرع القلب، هي أهم ما أنجز، في هذا المجال... بل قد تودع في الجسم الإنساني آلة صماء تقوم مقام العضو التالف لتؤدي نفس وظيفته.
وتربية الجيل الناشىء قد استندت إلى العلم أيضا... والعلم وحده!!.. فهناك النظريات التربوية التي تطبقها أحدث المعاهد في العالم، بمختلف مستوياتها... ولا زال العلم يتقدم بهذه النظريات نحو الأفضل. وتعال بنا إلى الهندسة العمرانية، لنرى أنها إلى أي ارتفاع ودقة وصلت
في ميادين هندسة البيوت والمدارس والمستشفيات والأسواق والسجون والمنتزهات وغيرها... مما يوفر أحسن الرفاه وأكبر الجهود للناس.
و اذا تجاوزنا الجانب الاجتماعي للعلم، إلى الجانب الفكري او الثقافي ككل، وجدنا بحرا لا ينضب وتفوقا لا يوصف في علوم الذرة والفلك والفيزياء والكيمياء... وتدقيقا في حوادث التاريخ وقوانينه، وعمقا في المنطق والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع. لم تكن البشرية قد بلغته في أي وقت مضى من حياتها الطويلة... كل ذلك يؤذن بالخـير، وبالمستقبل الزاهر السعيد الذي يقوم على أكتاف العلم والعلماء.
وإذا كان العلم قد وصل إلى مثل هذه المراقي العظيمة إلى العصر الحاضر... فأحرى به أن يصل إلى درجات أهم واوسع في المستقبل، تكون كافية... وبكل جدارة لضمان الرفاه وازدياد العدل في ربوع
14
ا لبشرية.
ولعل بين ايدينا من المستقبل العلمي افكارا مهمة وواضحة،.. وإن لم تكن منجزة. فعلا... إلا أن العلم كفيل بإنجازها في أقرب وقت ممكن.
فمن ذلك سرعة وسائط النقل للركاب اكثر مما هو عليه الآن، وأكثر سلامة... سواء في ذلك ما بين المدن أو في داخل المدينة..، ومن ذلك تحويل الطعام والشراب إلى اقراص أو سوائل قليلة، يوفر للفرد عدة ساعات يقضيها عادة في إنجاز الطعام وتناوله.
ومن ذلك تطوير الانسان الالي، بحيث يمكنه ان يقوم بالخدمات المنزلية والخارجية بشكل أوسع مما عليه الآن، وتوفيره سوقيا على نطاق واسع.
ومن ذلك توسيع السكنى للبشرية إلى الكواكب والنجوم المجاورة!!!
عن طريق تكثير رحلات الفضاء وتسهيلها وتخفيض نفقاتها وجعلها متوفرة للركاب.
ومن ذلك التسبيب إلى طول عمر الانسان بالمستوى الصحي الذي يكفله العلم... حتى يصبح الستين والسبعين عاما، من أعوام الشباب إ!... وأما الشيخوخة فلا تبدأ اول مراحلها إلا بعد المئة. إلى غير ذلك من النتائج الكبرى المتوقعة للعلم... ولعمري إن المجتمع الذي يعيش تحت ظل مثل هذا التقدم العلمى الهائل، لهو مجتمع سعيد ومرفه.
إذن، فمن المستطاع القول: بأن العلم يكفل للبشرية المستقبل السعيد... وإذ يكون العلم دائما في تطور مستمر، إذن فالبشرية صائرة - لامحالة- إلى ذلك المستقبل المجيد.
المناقشة:
إلا أنه من المؤسف: أن هدا الكلام بالرغم من أهميته وجمال شكله ! لا يمكن أن يكون صحيحا في نتيجته، بأي حال من الأحوال.
15
فكل هذه التطورات العلمية صادقة... ولعل فيما اهملناه اهمية مماثلة او اكبر مما ذكرناه... فإننا اعطينا نماذج من ذلك فقط... ولعمري ان للعلم مساعدة فعالة في جلب الراحة إلى الانسان والمجتمع.
لكن ذلك لا يعني بحال، أن العلم وحده من دون ملاحظة شيء اخر، يمكنه ان يضمن السعادة والعدل بين الناس. ولا ينبغي لنا ان نبالغ في اهمية العلم، مهما كان له في العالم من هيبة وهيمنة واهمية.
فإن العلم إنما يضمن الجانب المدني والتكنيكي من حياة الانسان،
ولا يتضمن العلم- بمجرده- اي جانب قانوني أو نظامي او اخلاقي، كما هو واضح... فإن لهذه الأمور حقولا أخرى في المعرفة الانسانية لا تمت إلى العلم بصلة، على الإطلاق.
فإذا استطعنا ان نضم النتائج الرائعة للعلم إلى نظام عادل وقانون سليم... استطعنا ان نكفل الرفاه الحقيقي والسعادة الكبرى، إذ تكون النتائج العلمية موزعة يومئذ بين البشر بشكل متساو ومتكافىء بدون إجحاف او ظلم.
واما إذا نظرنا إلى العلم وحده، وتوقعنا منه ان يكون صانعا لسعادة المستقبل مع إسقاط النظام عن نظر الاعتبار... فهذا يعني الوصول إلى نتائج وخيمة مروعة في غاية السوء والاجحاف.
منها: أنه يمكن للعلم أن يكرس طاقاته الهائلة في فناء البشرية وإضرارها إلى حد كبير... في وضع الأسلحة الفتاكة والسموم القاتلة، ووسائل التعذيب اللا إنساني للاخرين. وهذا ما هو حاصل في العصر الحاضر، وهو يتقدم ويتزايد بتقدم العلم وتزايده... وتبذل الدول في سبيله الملايين.
ومنها: ان هذا الرفاه يكون خاصا بالمتمولين، الذين يستطيعون استغلال النتائج العلمية في مصلحتهم... اما الأعم الأغلب من الناس في العالم، وهم متوسطو الحال وذوو الدخل المحدود والفقراء، فلن يستطيعوا الحصول على شيء مهم من نتائج العلم.
فإن قال قائل: إنه يمكن توفير الرفاه العلمي لأكبر كمية من الناس وبأرخص ثمن ممكن... وبذلك تتسع رقعة المستفيدين من نتائج العلم الكبرى.
قلنا: إن هذا لا يكون إلا تحت نظام خاص وفي ظل نظام معين يكفل ذلك... ولا يمكن للعلم وحده ان يكفل هذه الجهة.
ومنها: ان العلم إذا لم ينضم إلى القانون الصالح، لا يمكن أن يضمن زوال الاعتداء بين البشر بأي شكل من الأشكال. ومن الواضح ان التطور العلمي لا يعني تطور الجانب الانساني من الانسان، بل يمكن ان ينسجم أعلى اشكال الانتاج العلمي مع اقسى أشكال الأنانية والعدوان.
ومع كل ذلك... ومع غير ذلك... كيف يمكن للفرد أن يتفوه بهذا الكلام على انه حقيقة نهائية، وهو أنه يمكن للعلم وحده ان يضمن المستقبل السعيد للعالم.
ومعه،... تكون هذه الأطروحة المادية الأولى، قد فشلت في قيادة البشرية نحو المستقبل السعيد... فهل يمكن للأطروحة الثانية أن تضمن ذلك؟!..
17
الأطروحة الثانية المستقبل السعيد بتطور الفكر القانوني
بعد أن ثبت بوضوح فشل الأطروحة العلمية لقيادة العالم، وان المهم في الأمر هو وجود النظام الصالح والقانون العادل الذي ينسق شؤون المجتمع والبشرية ويكفل حصولها على آمالها وإزالة آلامها. إذن فالقائد الرئيسي للبشرية نحو الأفضل هو القانون نفسه... وهو الذي سيكفل للبشر مستقبلهم السعيد.
فإن البشرية كانت ولازالت، تمر في تاريخها الطويل بتجارب ومشاكل، تكون هي الكفيل الأساسي لرقي الفكر القانوني. وذلك بعد مرور الفكر القانوني بمرحلتين:
المرحلة الأولى: التعرف بوضوح على المشاكل العامة والخاصة السائدة في المجتمع، ومحاولة فهمها فهما عميقا كاملا والاطلاع بها على أسبابها ونتائجها بكل دقة.
... وكلما اتسع الوعي الفكري للانسان على واقعه بما فيه من مشاكل وآلام، كلما ساعد ذلك على تربية الجانب القانوني فيه.
المرحلة الثانية: محاولة التعمق، في معرفة الحلول الممكنة لهذه المشاكل المعروضة، والاطلاع على أساليب عامة وفعالة في إزالة المصاعب وتذليل العقبات، ومن ثم إلى إيجاد الرفاه والعدالة في المجتمع.
فإذا استطاع المفكر القانوني، أن يمر بكلا المرحلتين، بشكل دقيق وشامل، استطاع- لا محالة- أن يصل إلى وضع القانون العادل الذي يكفل السعادة والرفاه الدائم.
وقد كان ولا زال الفكر القانوني البشري، في طريق التربية والتكامل باستمرار، من كلتا الجهتن، نتيجة لما تعطيه التجارب الاجتماعية من دقة وثراء.
وبذلك يثرى الفهم الفقهي القانوني... فتعطى التعاريف والتفاسير بشكل ادق وأشمل شيئا فشيئا، سواء في ذلك من ناحية القانون المدني او العسكري او الدولي، او قوانين العقوبات او الأحوال الشخصية... أو غيرها.
وقد وصل القانون في العصر الحاضر إلى مراق عليا... حتى اصبح من ادق العلوم الانسانية. وإذا كنا قد نجد فيه بعض النواقص والاختلافات بين المفكرين في جملة من حقوله... فإن التكامل التدريجي للقانون، من خلال التجارب الطويلة، كافيك بأن يزيل هذه النواقص ويزيد يا إدراك الفكر القانوني لذينك المرحلتين الأساسيتين، مما يفتح امام القانون فرصة الوصول التدريجي إلى إدراك العدل الحقيقي، والتذليل الكامل للمشاكل البشرية.
وحيث لا يكون المقصود، تعيين فترة معينة لهذا التكامل-.. فإن من الممكن ان يصل القانون إلى تلك النتيجة الكبرى، في فترة مقبلة من الدهر، مهما طالت.
وإذا وصل القانون إلى درجة الفهم الكامل للعدل... وامكن تطبيقه على المجتمع البشري، كان هذا هو المستقبل السعيد (الموعود) الذي يعم فيه الرفاه والسعادة ربوع المجتمع البشري كله.
وبهذا يتم البرهان على صحة الأطروحة الثانية...
المناقشة:
غير أنه يكن المناقشة في هذه النتيجة بالرغم من اهميتها، بعدة مناقشات اساسية:
فإننا إذا تجاوزنا المناقشة الرئيسية التي تم البرهان عليها في بحوث العقائد الاسلامية، وهي عجز الفكر البشري القانوني عن إدراك مصالحه الحقيقية وإدراك العدل... وبالتالي انه يتعذر عليه تغطية المرحلتين المشار
19
اليهما بالدقة المطلوبة والمتوقعة لاحراز العدل الكامل.
بل ينحصر تغطية ذلك عن طريق الحكمة الالهية والوحي من وراء الطبيعة. وأما الفهم البشري المنفصل عن الوحي- كـما هو مفروض هذه الأطروحة-، فيتعذر عليه ذلك بأي حال. وسيأتي في القسم الثالث من هذا الكتاب ما يلقي ضوءا كبيرا على ذلك.
فإذا تجاوزنا ذلك، بقيت عدة مناقشات نذكر منها مايلي :
المناقشة الأولى: انه من الصعب ان نتصور أن في مستطاع الفكر القانوني البشري ان يثرى ويتكامل باستمرار، حتى يصل إلى إدراك العدل المطلق.
وذلك لأن المفكر القانوني، فردا كان أو جماعة، فإنه يحيا في المجتمع كأي إنسان آخر، له مصالحه وارتباطاته وعلاقاته وموارده الاقتصادية، وغير ذلك. وهو يود في كل ذلك- طبقأ لحب الخير لنفسه- أن ينجح في كل الحقول وأن يتوفق فيها أحسن توفيق، ويتقدم على غيره من الناس، مهما امكن.
واذا كان المفكر القانوني، ذو اتجاه عقائدي او سياسي معين، كان - لا محالة- متحمسأ لذلك الاتجاه، يود فوزه وسيطرته على الآخرين... ويرى اندحاره وخيبته كابوسا مزعجا.
وعلى كل حال، يكون الفرد القانوني، التكوين النفسي والاتجاه الاجتماعي المعين الذي يستحيل عليه ان يعزله عن فكره القانوني... وعن إدراكه للمصالح والمفاسد العامة. ومهما حاول الفرد اتخاذ المسلك الموضوعي والتجرد عن الأنانية والتعصب... وتصور مصالح الآخرين بمعزل عن مصالح نفسه... فإنه فاشل وخاطىء... فإن اللاشعور والضغوط والملابسات العامة والخاصة والتاريخ الذي عاشه، يفرض نفسه عليه من حيث يدري ولا يدري.
ومن المتعذر بل المستحيل ان نجد فردا او جماعة، في الفكر القانوني البشري، ذا تجرد كامل وحقيقي... ولن يوجد مثل هذا الفرد على مر التاريخ. فإن لكل زمن ملابساته ولكل تاريخ تأثيره على الفرد والجماعة. ... في حين لا يمكن للعدل الحقيقي إلا أن يوجد من زاوية الإدراك الكامل المجرد لمصالح البشر ومفاسدهم وآلامهم وآمالهم... وهذا ما لا يحصل لأي فرد على مر التاريخ.
ومعه فكيف نتوقع للقانون ان يثرى ويتكامل تدريجا، على مر التاريخ حتى يصل إلى ادراك العدل المطلق... إن ذلك لا يحصل إلا إذا حصل الفرد المتجرد المطلق... وهو مستحيل الحصول من الناحية المادية.
المناقشة الثانية: إن النظرية القانونية، مهما تصاعدت وتكاملت،ليست وحدها الكفيلة بسيادة السعادة والعدل ما بين والناس... وإنما، لا بد ان تأخذ طريقها إلى التطبيق في عالم الحياة، لتستطيع ان تؤتي ثمارها ناضجة شهية.
وبالطبع.... فإن القانون العادل الشامل، يحتاج إلى أن يشعر كل الأفراد بالمسؤولية تجاه تطبيقه، ولا يكفي أن يأخذ الجهاز الحاكم بزمام المبادرة إلى ذلك، مع كون الأفراد نافرين عنه منكمشين منه... فإنه لا مثل ذلك لن يكتب له النجاح، مهما كانت النظرية صائبة وصحيحة. ولعمري... إنه من المتعذر جدا، أن يجد القانون البشري تجاوبا
عاما من الشعب على هذا المستوى الواسع... فلئن تنزلنا- جدلا- عن المناقشة الأولى، وفرضنا واضع القانون البشري مجردا عن الهوى بدرجة كاملة، فإننا لا يمكن أن نفرض الأفراد كلهم مجردين وموضوعين ايضا!! وإنما لا بد ان ننظرهم من زاوية الواقع، وهو وجود الأنانية وحب المصلحة الشخصية في كل فرد منهم. فلا يطيعون القانون إلا من هذه الزاوية وبالمقدار الذي تقتضيه. واما حين لا توجد المراقبة القانونية، كان الفرد مخلى بينه وبين مصالحه، لا يعترف بقانون ولا نظام.
ولا يستطيع اي قانون بشري ان يتابع الفرد في خلواته وزواياه، ليضمن التطبيق الكامل لفقراته وبنوده في كل وقت. ويستحيل على الدولة بكل هيمنتها وهيبتها ومؤسساتها، ان تضمن ذلك.
ولئن ضمنته حينا، فلن تستطيع ذلك دائما... ولئن استطاعته دائما، في فرد او جماعة معينة، فلن تستطيعه في كل الشعب. كما لن تستطيع تطبيق القانون من قناعة عامة به وعن تجارب قلبي معه. وإنما سوف يطبق القانون بمقدار ما تقتضيه القوة من ناحية، والمصالح الشخصية للأفراد
21
من ناحية اخرى... يدفعون به عن أنفسهم العقاب، او ينالون به شيئا من الفوائد.
وإذا كان الناس هكذا... وهم دوما لهم نفس الموقف تجاه القانون البشري... إذن فلا يمكن ان نتوقع لهذا القانون في يوم من الأيام، أن يضمن لنفسه التطبيق الكامل المطلوب.
المناقشة الثالثة: إن التكامل في الفكر القانوني، كما شهدناه في عالم الأمس واليوم اصبح ذا شعب وانشقاقات، فما هو عدل عند هؤلاء هو ظلم عند آخرين... وما هو مصلحة عند قوم هو مفسدة لدى آخرين... وما هو تجرد وموضوعية عند بعضهم، هو عين الأنانية والتعصب عند البعض الاخر... وهكذا.
يكفينا انشقاق القانون المدني، إلى روماني وجرماني، وهما يختلفان في المفاهيم الأولية لتفسيرها وتعريفها، فضلأ عن التفاصيل. وكذلك انشقاق الاتجاه الاقتصادي إلى راسمالية واشتراكية، وهما يختلفان في وجهة نظرهما إلى الانتاج والتوزيع اختلافا جوهريأ. وكذلك اختلاف الدول- وإن اتفقت في المبادىء- في قوانين الأحوال الشخصية وقوانين العقوبات وغيرها. فأي هذه الانشقاقات يرجى له الكمال؟! ان النظر العقلي المجرد لا يرى احد الشقين أو احد الخصمين أو التفسيرين أولى من الآخر. وأما الفرد المؤمن بأحدهما فيرى قانونه هو الكامل ويتعصب له. ويبقى التكتل والانشقاق بين البشر موجودا...- ومع تفشيه يستحيل الوصول إلى العدل العالمي المطلوب.
ومن المتعذر حقا، ان نزعم ان الفكر القانوني بتكامله ومروره بالتجارب المتكثرة، سوف يتوحد في العالم، ويرتفع ألخلاف بين القانوني!!... إن هذا الافتراض مخالف لطبيعة الأشياء وطبيعة الإنسان. ولئن وجد ذلك في جيل معين- جدلا- بقيت الآراء الأخرى السابقة لها احترامها، بطبيعة الحال، فلا يكون الفكر القانوني موحدا حقيقة... كما أن وحدة الفكر لن تدوم طويلا، ويوجد حتما، الكثير من المناقشين والطاعنين في صلاحية هذا القانون الواحد، لتكفل العدل ورفع الظلم. وإذا لم توجد الوحدة في الفكر القانوني، و(ذا كان من المتعذر
وجودها، كان من المتعذر وجود المجتمع العالمي العادل تحت ظل القانون البشري، بأي حال من الأحوال.
إذن، فالأطروحة الثانية، القائمة على الأساس المادي المنفصل عن
عطاء السماء، لا يمكنها القيام بالمسؤولية الكبرى المطلوبة.
23

القسم الثاني
المستقبل السعيد للبشرية في الفكر الماركسي
وأسس منهجة البحث

تتزعم الاتجاهات المادية عموما، الفكرة المسماة بالماركسية، وإن لم تكن منتسبة بكل تفاصيلها لماركس. وهي الاتجاه الوحيد من الفكر الحديث - حسب معرفتنا- الذي بشر بالمستقبل البشري السعيد.
وهي، بنظرة عامة، تتكفل ميادين ثلاثة بالبحث والتمحيص، وتحاول الربط بينها ربطا عضويا، وسوقها مساق نظرية موحدة شاملة.
الميدان الأول: إعطاء نظرية شاملة للكون المادي كله، وتفسير تسلسل الحوادث فيه، بشكل تحاول الماركسية عدم إبقاء ثغرة فيه. ... يتمثل ذلك بنظرية (الديالكتيك) القائلة بأن كل شيء يحتوي في داخله ومضمونه على صراع دائم بينه وبين نقيضه... حتى يزول المتصارعان ويتولد من الصراع شيء جديد، يكون بدوره محتويا على الصراع ذاته. وهكذا تتعدد الأشياء، وهكذا تتطور... ولا ينجو من هذا الصراع حتى القضايا الرياضية البحتة، كـما اكد عليه انجلز، على ما سنسمع.
الميدان الثاني: إعطاء نظرية شاملة للتاريخ البشري ومفسرة له، وهي المسماة ب (المادية التاريخية) المبتنية بدورها على الديالكتيك العام. حيث نجدها تقول- طبقا لذلك المفهوم-: بانقسام المجتمع إلى طبقتين متصارعتين يتمخضان عن وضع اجتماعي جديد... ويتبدل بتبدل الوضع الاجتماعي كل احواله الفكرية والاقتصادية والأخلاقية وغيرها.
وتحتوي هذه النظرية على إيجاد تسلسل تقليدي لعصور التاريخ معروف لكل مثقف... يبدا بعصر الاشتراكية الأولى البدائية، وينتهي بعصر الاشتراكية العلمية او الطور الشيوعي الأعلى، الذي تنتفي فيه الدولة ويحكم المجتمع نفسه على اساس وضع اقتصادي معين.
الميدان الثالث: إعطاء فهم شامل للاقتصاد قائم على أساس تقييم
27
معين للنظريات الاقتصادية المعروفة، وخاصة الاقتصاد الراسمالي العدو التقليدي العنيد للماركسية، مع بناء نظرية جديدة في الاقتصاد تكون البديل- في نظرها- عن جميع النظريات الأخرى.
واهم نقطة ركزت عليها الماركسية في هذا الصدد، هو نظرية (فائض القيمة) التي تنتج النظام الراسمالي على أساس لا إنساني ظالم؟ قائم على اساس سرقة مالك رأس المال نسبة معينة من ارباح عماله... تلك السرقة التي تركز الصراع بين هاتين الطبقتين، وتتمخض في نهاية المطاف- بقانون الديالكتيك- عن المجتمع إلاشتراكي.
ونحن إذ نكون بصدد دراسة الماركسية من زاوية تبشيرها بالمستقبل السعيد للبشرية، نكون مواجهين للميدان الثاني بشكل اساسي... لأن هذا المستقبل هو جزء عضوي رئيسي من المادية التاريخية نفسها. وبهذا يكون التعرض إلى الميدانين الآخرين، ثانويا إلى حد ما. ولكنه
لا بد منه على كل حال. اما الميدان الأول فاللازم التعرض له من أجل تفهم الأسس الفكرية الكونية التى تقوم عليها المادية التاريخية... واما الميدان الثالث فنتعرض له ضمنا حين ندرس تقييمات الماركسية للمذاهب الاقتصادية الأخرى.
ومن هنا سيكون تسلسل المنهج ني هذا القسم من الكتاب كما يلي:
نبدا بتمهيدات معينة تتكون من:
أولا: المضمون المشترك بذهن المادية التاريخية والتخطيط الالهي العام، حين تمسي الحاجة إليه حين يراد إعطاء البديل الأصلح للمادية التاريخية.
ثانيا: مناشىء الفكر الماركسي... وهو دراسة الأسباب الموضوعية التي اوجدت الفكر الماركسي بين البشر.
ثالثا: مصاعب النقاش مع الماركسيين... بصفتهم المبشرين. بالمستقبل السعيد، والحاملين للنظرية التي نتصدى لمناقشتها.
وحين تنتهي هذه التمهيدات، ونريد الحديث عن المادية التاريخية، لابد لنا- كما اشرنا- أن نقدم لها قسمين من المقدمات:
القسم الأول: الأسس العامة الفلسفية للمادية التاريخية... من حيث كونها قائمة على اساس الديالكتيك.
28
القسم الثاني: الأساس الاقتصادية والاجتماعية للمادية التاريخية، ونعني بها ربط الحوادث التاريخية بقوى الانتاج وعلاقاته.
وحين يتم هذان القسمان ندخل في: الهيكل الأساسي للمادية التاريخية وهو الفهم الخاص للمجتمع والتاريخ المتكون من فقراته وعهوده المعينة.
وسنلتزم- هناك- بالتزامين معينين، لأجل زيادة الاطمئنان
والايضاح:
الالتزام الأول: نقل أي نظرية او فكرة من مصدر ماركسي بألفاظ ذلك الكتاب... ولا نحاول النقل بالمعنى مهما أمكن... لنكون مع القارىء على بينة من الأمر تجاه الفكرة الماركسية.
الالتزام الثاني: إننا سنعطي- هناك- لكل فقرة ماركسية، رقما معينا... لكي نستفيد من ذلك في ضبط التسلسل الفكري أولا، وسهولة الاستنتاج ثانيا... ويفيدنا ايضا عند النقاش، حيث سنناقش الفقرات في نهاية كل فصل من دون ان نضطر إلى نقل مضمونها من جديد... بشكل مستلزم للتكرار.
وهكذا سيبدا الحديث عن المادية التاريخية، وينتهي...
29
التمهيد الأول
المضمون المشترك بين المادية التاريخية والتخطيط الالهي العام
من الملاحظ بجلاء، أن اتجاه المادية التاريخية، واتجاه التخطيط العام
الإلهي لتكامل البشرية، وهما معأ يبشران بالمستقبل السعيد... من الملاحظ أنهما بالرغم من كونهما قطبين متعارضين... إلا أنهما بنظرهما الشامل إلى البشريـة، استطاعا ان يبينا نقاطا معينة اشتركا فيها وتصادقا عليها. وهذه النقاط بالرغم من كونها عناوين عامة، فارغة من التفاصيل، إلا أنها ليست بالقليلة إلى الحد المتصور، وإنما هي ذات طابع مهم إلى حد كبير. وإنما يبدا الخلاف بين الاتجاهين- بعد تجاوز أسسها العامة-: عند الدخول في التفاصيل، ومحاولة ملء هذه العناوين الفارغة بما ينبغي أن تملأ وسنحاول الآن أن نلخص المضمون المشترك بين الاتجاهين...
بشكل يكون مرضيا- في الأغلب- لهما معا:
إن البشرية، بصفتها جزءا من الكون، تكون محكومة بطبيعة الحال، للقوانين الكونية، التي تقوم بتطويرها بشكل موضوعي مستقل عن إرادة البشر. وإنما يملك الأفراد حرية التصرف من خلال ما تعطيه تلك القوانين من فرص.
والتاريخ البشري، صاعد باستمرار نحو التكامل والتطوير نحو الأفضل، حتى يصل في يوم من الأيام إلى مستقبل سعيد تسود فيه الرفاه ربوع البشرية كلها.
فقد وجدت البشرية في أول امرها ساذجة وبسيطة... وبقيت كذلك، ردحا من الزمن، حتى استطاعت بالتدريج البطيء أن تسـير نحو الأفضل... وقد لاقت خلال سيرها هذا كثيرا من المشاكل والويلات.
وقد مرت البشرية خلال ذلك بعدة مراحل، كانت كل مرحلة منها أفضل من سابقتها، تاركة بعض ما فيها من نواقص، وتضفي عليها ما تستطيعه من تطورات.
وهي مراحل عديدة، سارت فيها طبقا للقوانين الكونية من ناحية، ولقوانين خاصة بها، من ناحية أخرى... ويمكن القول- إلى حد ما- ان البشرية تعيش خلال الزمن المعاصر، المرحلة ما قبل الأخيرة من تاريخها الطويل... ولم يبق أمل! إلا تلك المرحلة التي يتحقق فيها الأمل الوردي الذي يتساوى فيه الناس ويعيشون في رفاه وسعادة... وستبدأ البشرية يومئذ تاريخا طويلا.
وهذا اليوم هو المرحلة النهائية من تطور البشرية... الذي لا يخلفه يوما آخر سيء. بعد أن تطور فيه الانسان تطورا ضخما، ويكتسب وعيا جديدا، يستطيع به ان يخط تاريخه الطويل الجديد بحروف رشيدة وخطوات رصينة وان التاريخ الأسعد- للبشرية هو الذي يبدا منذ ذلك الحين... وإنما نعيش الآن عصور مما في التاريخ!!!... تماما كـما يعيش أجدادنا عصور ما قبل التاريخ بالنسبة إلينا!...
ونحن الآن إذ نعيش في العصر السابق على المستقبل الموعود... وان كنا نستطيع أن نعطي الامور المهمة عن صفات ذلك العهد الأغر... إلا أن عدم معاصرتنا له، وعدم مشاهدتنا لمقدار عمقه وحقيقة وعيه... إلى جانب ارتباط أفكارنا بواقعنا ووعينا المعاصر... كل ذلك يوجب عجزنا عن أن نصف العمق الحقيقي الكامل لذلك المستقبل الموعود، والنظام التفصيلي الذي يسوده. وإنما المهم الآن أن نعرف باليقين أنه يوم آت لا محالة، و به تتحقق الراحة الكاملة للبشرية أجمعين. ولعلنا نستطيع- إلى جانب ذلك- أن نلم بقليل من صفات ذلك المجتمع الموعود.
هذا هو المنطق المشترك الذي يتفق فيه هذان الاتجاهان المستقطبان.
ولكننا إذا تقدمنا نحو التفاصيل خطوة أو خطوات، نجد الاختلافات الأساسية بوضوح في عدة جهات:
أولا: في تشخيص ماهية القوانين الكونية الشاملة للبشرية.
ثانيا: في تشخيص القوانين التي تختص بالتاريخ البشري وتطويره.
31
ثالثا: في تشخيص السبب الأساسي لنقص البشرية والباعث على ما يسودها من مصاعب وويلات.
رابعا: في تشخيص المراحل التي مرت بها البشرية خلال تاريخها الطويل. فإن للمادية التاريخية اتجاها معروفا في تفصيل هذه المراحل لا يوافقها عليه الاتجاه الآخر، الذي يقوم بدوره شكلا آخر من المراحل.
خامسأ: في تشخيص ما يستطيع فهمه من تفاصيل وأنظمة للمستقبل الموعود، وما هو سبب السعادة والرفاه فيه.
سادسا: في انه هل هناك بعد تحقق ذلك المستقبل، ووجوده في عالم الحياة... هل هناك تسلسلا تطويريا آخر يصل بالبشرية إلى مستقبل جديد... او لا؟ وهذا ما لا تستطع الماركسية أن تفصح عنه. على ما سنرى... وقد افصح عنه التخطيط الالهي العام الذي استطاع ان يواكب البشرية إلى يوم فنائها... على ما سنسمع.
وبهذه النقاط، ونقاط أخرى، اتسعت الهوة بين هذين الاتجاهين، واكتسبا الاستقطاب والتنافي بينهما... إلى حد لا يكاد يشعر الفرد الباحث بما بينهما من نقاط الاتفاق، بعد ان يستحوذ على شعوره وجود الخلاف في التفاصيل.
ونقاط الالتقاء هذه هي التي حدتنا إلى ان نتحدث عن المادية التاريخية بصفتها إحدى الاتجاهات التي أصابت النظر في التبشير باليوم الموعود السعيد... وإن اخطأت في التمهيدات والتفاصيل كما سنرى.
32
التمهيد الثاني
مناشىء الفكر الماركسي
يمكن للباحث أن يقدم عدة أطروحات في الجواب على السؤال الآتي:
كيف ولماذا وجد الفكر الماركسي في تاريخ الفكر البشري العام. ولماذا مال بعض المفكرين إلى اتخاذ هذه النظرية كتفسير لمختلف ميادين الحياة. يمكن أن نقدم بهذا الصدد، ثلاث أطروحات مفهومة تقوم أولاها على قواعد الفكر الماركسي نفسه، وتقوم الأخيرة على أساس التخطيط الالهي لليوم الموعود. وتحاول الوسطى بيان الخاصة المتعددة التي أنتجت هذه النتائج.
الأطروحة ألأولى: القائمة على الفكر الماركسي نفسه:
إن تصريحات الماركسيين أنفسهم تقتضي أن كل شكل من أشكال الفكر، ناتج- بالضرورة- من الطبقة التي ينتمي إليها المفكر. ويستحيل على أي إنسان أن يفكر تفكيرا مطلقا حرا عن حدود طبقته التي ينتمي إليها. وقـد رتبوا على ذلك عدة نتائج: من أهمها: ضرورة اختلاف الفكر باختلاف الطبقة التي ينتمي إليها المفكر. وضرورة وجود الصراع بين أفكار الطبقات... و(ن افكار الافراد ان هي إلا انعكاس لواقع الصراع المحتدم بينهم.
وبهذا استطاعوا ان ينفوا صدق أو صحة أي تفكيرآخر غير تفكيرهم، بصفته فكرا طبقيأ، بما فيه الفكر الديني على ما سنرى ونسمع.
بل حتى الحقائق الرياضية الواضحة... بعد أن صرحوا أنها تنطبق على قانون الديالكتيك، تكون فكرا طبقيا أيضأ، وقابلا للتغيير بتغير الوجود الطبقي ايضا.
وطبقأ لذلك... لا يكون الفكر الماركسي نفسه، بدعا من الأفكار، بل يكون فكرا طبقيا أيضا، وإدراكا محدودا للكون، قابلا للتغير تبعا لتغير
33
الطبقة، كأي فكر آخر. إذ لا يمكن القول باستثناء الفكر الماركسي من قواعد المادية التاريخية الضرورية الانتاج ماركسيا... بأن نزعم- مثلا-: أن مفكري الماركسية كماركس وانجلز ولينين... ذوي أفكار مطلقة لا طبقية ولا حزبية. فإننا بذلك نكون قد نفينا الضرورة عن المادية التاريخية. فإنه إذا أمكن استثناء هؤلاء المفكرين منها أمكن استثناء آخرين ايضأ. بل يعني ذلك نفي هذه الضرورة بالمرة، وهذا لا تريده الماركسية...
ومن ثم يتضح من هذه الأطروحة الأولى التي نعرضها... إن وجود الفكر الماركسي مستند إلى الضرورة التاريخية الطبقية التي تؤمن بها الماركسية نفسها. و(ذا كان كذلك، لم يمكن صدقها صدقا تامأ وإنما تكون قابلة للتغير والتبديل، طبقا للضرورة التاريخية نفسها.
وقد التفت الكتاب المتأخرون من الماركسيين إلى ذلك... ومن الطريف انهم اعترفوا بهذه النتيجة، طبقا لقواعدهم الماركسية، فقد جردوا من الفكر الماركسي قواعد مطلقة جعلوا الفكر الماركسي نفسه تطبيقأ من تطبيقاته، وسواء صح منهم ذلك ام لا. فإنهم اعتبروا الفكر الماركسي فكرا طبقيا حزبيا... اقتضى الضرورة التاريخية وجوده من آجل الانتقال من المرحلة الرأسمالية إلى ما بعدها، حتى الوصول إلى المجتمع الاشتراكي العلمي الأخير.
وقد واجهوا قي هذا الصدد بعض المصاعب من أهمها: أن ماركس وانجلز نفسيهما من أبناء الطبقات المتقدمة تاريخيا كالإقطاع أو الرأسمالية... فكيف أنتج ذهنهما فكرأ إشتراكيا يتقدم بالبشرية إلى نهاية الشوط.
وقد أجابوا على ذلك: انه يمكن للفرد أن يخرج من طبقته ويندرج في طبقة أخرى، يختارها لنفسه، لأنهم أكدوا إلى جنب الضرورة التاريخية وجود عنصر الاختيار الفردي وحرية التصرف، كما سنسمع. ومن هنا يمكن القول بأن هذين المفكرين خرجا من طبقتهما الاقطاعية او الراسمالية، وانتميا إلى الطبقة الجديدة التي تمثل الفكر الاشتراكي... وبذلك فسروا انقداح الفكر الاشتراكي في ذهن هذين المفكرين الماركسيين الرئيسيين.
إلا أن هذا الجواب ليس صحيحا، لوضوح أن ماركسي وانجلز إنما أصبحا من قادة العمال وموجهيهم بعد وضع نظرياتهم العامة في التاريخ، لا
34
أنهم أنتجوا هذه النظريات بعد انتمائهم إلى العمال.
ومن هنا سوف نضطر إلى القول: بأن الفكر الاشتراكي الماركسي نتج لأول وهلة من الطبقات السابقة على الاشتراكية، التي كان ينتمي إليها ماركس وانجلز. وبذلك يصبح الفكر الماركسي نفسه تطبيقا مخالفا للقواعد التاريخية الماركسية.
ولو تنزلنا عن هذا الجواب، وفرضنا الفكر الماركسي ناتجا عن الطبقة الاشتراكية، فهو- على أفي حال- لا يخرج عن كونه فكرا طبقيا حزبيا. ومعنى ذلك عدم إمكان كونه فكرا مطلقا، بل يكون فكرا محدودا، وقابلا للتغيير، بل ضروري التغيير بتغير الطبقة وعلاقات الإنتاج.
ولا يعني خروج المفكرين الماركسين عن طبقتهم، إن أفكارهم أصبحت مطلقة... وإنما يعني أنها أصبحت نتيجة لطبقة أخرى غير الطبقة التي كان ينبغي أن تنتج عنها. فإنها سواء نتجت عن هذه الطبقة أو تلك، فإنها على أي حال، فكر طبقي محدود.
ومن الطريف أن الكتاب الماركسيين، جعلوا الفكر الماركسي مواكبا لعدة عصور من المادية التاريخية. فإنه بدأ بوجود العصر الرأسمالي الأول (التراكم الأولي لرأس المال) وسيبقى إلى الطور الشيوعي الأعلى... فإذا علمنا أن مجموع هذا الزمن ينقسم إلى ستة عصور تاريخية، على ما سوف نسمع... إذن فقد كان للماركسية توفيق استثنائي بالبقاء خلال كل هذه العصور فإنه بالرغم من أن تطور وسائل الإنتاج وتبدل علاقاته، قد أوجبت تطور البشرية وتبدل النظام الحاكم وكل الإيديولوجيات الاجتماعية عدة مرات... لم تستطع التأثير بتطور الفكر الماركسي، بل بقيت حقائقه هي الحقائق المطلقة القائدة للبشرية والرائدة للمستقبل الأفضل.
وبهذا يصبح الفكر الماركسي، بدوره، خارجا عن قواعده وضروراته التاريخية، مرة أخرى.
وقد يخطر في الذهن: إن التطويرات المتأخرة للمفكرين الماركسيين المتأخرين، تمثل هذا التطوير الذي تقتضيه الضرورة التاريخية.
إلا أن هذا السؤال منطلق من زاوية فكرية ضيقة ماركسيا:
أولا: باعتبار ما عرفناه من أن العهود التي مرت بها الماركسية وتمر
35
بها، تصل إلى ستة عهود... وليست التطويرات تصل بالضبط إلى هذا العدد، ولاهي مواكبة من انتقال العهود، عهدا عهدأ.
ثانيا: إن افكار المحدثين... هل هي أفكار ماركسية أم لا... فإن لم تكن ماركسية لم يكن لنا معها الآن حديث. وإن كانت ماركسية، فمعنى ذلك وجود الفكر الماركسي باستمرار من عصر ماركس إلى الآن، مع أن مقتضى قانون النفي والإثبات وقانون التغير النوعي الماركسيين اللذين سوف نسمعهما... هو ان يتبدل في كل عهد، الفكر إلى نقيضه، فيصبح الفكر الماركسي غير ماركسي... مع أنه لم يصبح كذلك في أي عهد من العهود. إذن صح كون الفكر الماركسي خارجأ عن ضروراته التاريخية التي أسسها بنفسه... أي انه متغير وزائل عن المجتمع طبقا لضروراته نفسها.
في الأطروحة الثانية: أن نحسب حساب الوضع العام الذي ولدت فيه الماركسية، بغض النظر عن اتجاه فكري معين.
وبهذا الصدد يمكن أن نضع أيدينا على عدة نقاط رئيسية، تكون بمجموعها البيئة الرئيسية التي ولدت فيها الماركسية، وساعدت على نموها...
النقطة الأولى: إن أوربا كانت منذ أول عهد نهضتها، في حالة صراع دائم ودائب بذهن مختلف عناصرها واتجاهاتها من النواحي الفكرية والاقتصادية والاجتماعية، لا يقر لها قرار ولا يهدأ لها بال. فالصراع بين القديم والحديث قائم على قدم وساق... ذلك القديم الذي يمثله الإقطاع والكنيسة ومجموعة التقاليد والعادات الأولى، والحديث الذي يمثله قادة النهضة الفكرية عموما. والصراع بين الاتجاهات الحديثة أيضآ قائم. فقد عاشت أوروبا انشقاقات وتباينات عميقة وجذرية بين الفئات من الناحية السياسية إلى جنب النواحي العقائدية والعلمية والفلسفية وغيرها. ولسنا الآن بصدد إعطاء أرقام محددة عن هذه الصراعات المتمادية... إذ يكفينا هذا الوجدان البسيط الذي يحمله المثقف الاعتيادي عن حالة أوروبا خلال الثلاثة أو الأربعة قرون المتأخرة من تاريخها... وقد تكون الدقة بالعرض عن الغريب العجيب، بهذا الصدد.
36
ولم يكن حال أوروبا في عصرها ألقديم بأحسن حالا من عصرها الحديث... ابتداء من عصر الإغريق إلى عصر الرومان إلى عصر ما قبل النهضة... الذي كانت الأسر المالكة قد تقاسمت أوروبا في فرنسا وألمانيا وانكلترا وايطاليا وغيرها. وليست الحروب الواقعة بين هذه الدول كحرب السبع سنوات وحرب المئة عام... أو الحروب الواقعة بينها وبين الدول الأخرى كروسيا القيصرية وتركيا العثمانية... ليست ببعيدة عن الذاكرة. كـما لا يمكن أن تكون الخلافات والحروب الداخلية بين الأحزاب أو الفئات الدينية أو غيرها... بعيدة عن الذاكرة ايضا.
كما ان عصر الأطماع الاستعمارية، وإنفتاح أوروبا على العالم الخارجي، وتفكيرها في استغلال موارده وثرواته... ابتداء بالحروب الصليبية السابقة على النهضة وانتهاء بالاستعمار الصحيح اللاحق لها... غير بعيد عن الذاكرة أيضا.
كان هذا العصر في اوجه وإبان اندفاعه... حين وجد ماركس وانجلز.
وقد تكللت كل هذه القلاقل الاوروبية، بأشدها رسوخا وأوضحها تأثيرا، اعني الثورة الفرنسية بما استتبعته من انشقاقات وخلافات ومجازر اتت على آلاف الفرنسيين.
وباختصار... إننا إذا نظرنا إلى الألف سنة الأخيرة، بل الألفين الأخيرة، وجدنا اروبا مليئة بالقلاقل والدماء والخلافات... وليست العهود السابقة عليها بأحسن حالا من هذه الفترة، إن لم تكن اشد وانكى، باعتبار ضعف المستوى الثقافي والعقلي للبشرية في تلك العصور... كل ما في الأمر، اننا نستطيع أن نباشر النظر إليها باعتبار بعدها التاريخي نسبيا. وهذا يعطي الانطباع الواضح لدى الذهن البشري الذي يعيش في خضم هذه القلاقل ويكتوي بلهيبها... اذا التاريخ البشري كله قائم على الخلاف والصراع، وتنازع الطبقات والتحاقد بين الفئات.
فهذا الانطباع هو الذي حدا بالماركسية أن تقول في التاريخ نفسر هذا ألمضمون، وتضيف: ان التحاقد والصراع لا يمكن أن يزول ما دامت الطبقات ذات وجود في المجتمع.
37
كـما انعكس هذا الانطباع في ذهن داروين وآخرين، على شكل تعميم آخر، وان عالم الحيوان كله قائم على الصراع، وان البقاء يكون للأقوى أو الأصلح...
بل زاد الانطباع على ذلك في ذهن الماركسيين... فاعتبروا الكون كله قائما على الصراع أيضا، ليس بين الأشياء المتعددة فحسب، بل حتى بين الشيء وذاته أيضا. فكل شيء يحتوي على عناصر هدمه وفنائه، وهو في صراع دائم معها. حتى يكون لتلك العناصر النجاح في إفناء الشيء... لكي يوجد في نهاية المطاف شيء جديد... ليبدأ الصراع الجوهرى في ذاته من جديد.
واعتبرت الصراع بين النقائض قانونا كونيا عاما، لا يمكن أن يتخلف... وأنه هو السبب الرئيسي لوجود أي ظاهرة أو حركة في الكون أو على صعيد المجتمع الإنساني
فهذا التعميم الذي قالته الماركسية... ان هو إلا انطباع نفسي يمثل ما كان يعيشه المفكرون الماركسيون من صراع وخلافات اجتماعية، وما كانت تحدثه هذه الصراعات من ردود فعل اقتصادية وسياسية ونفسية مؤثرة في وضعهم الشخصي ومصالحهم الخاصة. فحين اكتووا بنار الخلافات العامة وتضرروا من نتائجها... لم يستطيعوا أن يتحرروا من ضغط مفعولها الذهني... لكي يتصوروا الكون والمجتمع منسجما خاليا من الصراع والنزاع.
النقطة الثانية: إن اوروبا عاشت في عصر النهضة وما قبلها: عصري الاقطاع والرأسمالية، بشكل مركز وواضح... كـما هو الحال في إنكلترا وفرنسا على الخصوص، وألمانيا وايطاليا وبعض أوروبا الوسطى على العموم.
وحيث كانت أوروبا دون كل مناطق العالم الأخرى، تستقطب اهتمام الفرد الأوروبي عادة- بما فيهم ماركس وانجلز نفسيهما-، من النواحى الاقتصادية والاجتماعية والنفسية... فقد اصبح هذا الوضع الأوروبي هو المثال الأفضل لأهم مراحل نظرية المادية التاريخية التي وضعها ماركس وانجلز... والميدان الرئيسي للتركيز عليه كوضع ظالم ومجحف، والتبشير بإمكان- بل بضرورة- تحوله إلى وضع مريح وسعيد... والعمل الجاد في سبيل ذلك بتنظيم الأمميات والأحزاب الاشتراكية، من أجل نقل المجتمع الأوروبي من وضعه المجحف إلى الوضع الأفضل الذي بشرت به المادية التاريخية.
... بل أصبح التعميم من الوضع الأوروبي، وصفات المجتمع الأوروبي إلى كل البشرية والتاريخ البشري، ممكنا بنظر الماركسيين... لأن أوروبا هي المثال الأفضل الذي يتركز به الوجود البشري والتاريخ البشري كله !.
ومن هنا أيضا لا نرى أي اهتمام حقيقي في كلام الماركسيين بسائر مناطق العالم، حتى روسيا القيصرية، قبل أن ينبثق فيها الأمل بتحولها إلى الاشتراكية. فضلا عن بلدان آسيا وإفريقيا وامريكا بوضعها الموجود خلال القرن التاسع عشر الميلادي.
ولو وزعت الماركسية نظراتها بانتظام، على مناطق العالم، في توزيع مراحل المادية التاريخية... لوجدت في ذلك صعوبات جمة، لمدى الاختلاف التاريخي الكبير الذي عاشته أوروبا عن سائر مناطق العالم... بما فيه روسيا القيصرية نفسها، كما اتضح بعد ذلك العصر بقليل.
فإنه بالرغم من أن أمل ماركس وانجلز، كان منعقدا على تحول فرنسا وانكلترا إلى الاشتراكية بعد ان مرت بالفترة الرأسمالية... وعدم تحول الاقطاع الروسي القيصري إلى الاشتراكية، لضرورة مروره بالفترة الرأسمالية طبقا لمفاهيم المادية التاريخية. بالرغم من ذلك وجدنا روسيا تنقلب إلى الاشتراكية بعد الاقطاع مباشرة، وان الرأسمالية تبقى إلى امد غير محدود في فرنسا وإنكلترا واضرابهما... على خلاف نبوءة الماركسيين وقواعد المادية التاريخية!!!.
ومن الطريف أن الجيش البلشفي (الماركسي) نفسه بقيادة لينين هو الذي استطاع خرق هذه الضرورة التاريخية، والاستغناء عن الوضع الرأسمالي في روسيا والطفرة بها من الاقطاع إلى الاشتراكية... ولعل قيامه بهذه المعجزة مستند إلى إيمانه العميق بهذه النظرية المقدسة !... وسيأتي في داخل الكتاب بحث كل هذه الأمور مفصلا...
39
النقطة الثالثة: ان ماركس استطاع ان يشخص في نفسه وغيره، حقيقتين مقترنتين:
الحقيقة الأولى: اتصافه بالذكاء الكافي والعبقرية التي تؤهله لوضع النظريات الدقيقة، وقيادة الناس على اساسها.
وهذه العبقرية واضحة الثبوت له، بعد أن استطاع ان يستعملها اوسع استعمال. فوضع من الناحية النظرية أطروحة فكرية متناسقة تفسر الكون والحياة على حد سواء. واستطاع أن يشارك من الناحية العملية في تطبيق هذه النظرية وقيادة الناس على أساسها، بمقدار إمكانياته وظروفه.
الحقيقة الثائية: فهم ماركس بعبقريته أن قيادة الناس واستقطاب عواطفهم واستغلالها، يكون يسيرا للغاية لو أوجدت لهم نظرية مشتملة على عنصرين أساسيين:
العنصر الأول كونها مستوعبة استيعابا كافيا للكون والحياة، وتعطي فهما متكاملا عن ذلك. فإن هذا العنصر مما يجلب الاهتمام والاحترام لأي نظرية تحتوي عليه.
العنصر الثاني: كونها مبشرة بمستقبل سعيد تزول فيه الآلام وتتحقق فيه الآمال... يكون هو نتيجة الأعمال والجهود البشرية... وخاصة الواعية والهادفة منها.
فإذا استطاعت النظرية أن تقول أن: هذا المستقبل ضروري الوجود وليس محتملا فقط. واستطاعت ان تبرهن على ذلك من نفس تسلسلها الفكري المتناسق... استطاعت استقطاب اكبر قدر ممكن من العواطف والمؤيدين. وقد استطاع ماركس أن يجمع بين هاتين الحقيقتين حين رأى من نفسه قابلية القيادة ولذتها، فوضع نظريته المنسجمة عن الكون والحياة، واستطاع ان يمزجها بالتنبؤ بالمستقبل السعيد، لكي يستقطب أكبر مقدار من العواطف ويجعل لأتباعه ومؤيديه هدفا يسعون إليه ويعملون من أجله.
ولا زال العنصران الأساسيان في الحقيقة الثانية هما مثار الاحترام للنظرية الماركسية عند كثير من الناس، بل القناعة والاندفاع عند عدد لا يستهان به منهم. ولاشك إنهما يدلان- على أي حال- على عبقرية واسعة، لولا الفجوات التي يمكن أن نجدها في ألنظرية وفي التطبيق معا،
40
كما سوف نسمع مفصلا.
وهذا هو الفرق بين قيادة ماركس واتباعه للناس، وبين قيادة غيرهم كنابليون- مثلا- حيث احتوى الآخرون على الذكاء القيادي دون الذكاء النظري، فأصبحوا قادة فكريين، لا يملكون اي فهم محدد للحياة فضلا عن الكون. واما قيادة ماركس واتباعه، فقد أصبحت قيادة عملية ونظرية معا... مما يسر له قيادة الناس إلى حد كبير.
النقطة الرابعة: ان ماركس شعر ان الخط المادي الإلحادي خط مشروع في الرأي الأوروبي العام غير مستغرب... إذ لو لم يكن كذلك، لما استطاع ماركس أن يمارس القيادة على أساسه.
بل هو الاتجاه المفضل، لكل من يرى نفسه أفضل من الاخرين، ويرى لنفسه حرية العمل والرأي، وأفضلية التمسك بكل جديد نتيجة الأجيال، وإن منعت عنه الأديان. هكذا كان اتجاه الفكر الأوروبي العام، يؤيده الاتجاه العلمي الذي يعتقد منافاته مع الاتجاهات الدينية المتمثلة بالكنيسة هناك.
إذن، فلم يذهب عن ماركس، نتيجة لذلك، ان القيادة الناجحة والمرغوبة اجتماعيا في اوروبا هي القيادة التي تنطلق من الإلحاد وتقوم على نقد الواقع الديني نقدا مرا... ومن ثم اتخذ هذا المسلك ومشى على هذا الطريق، كما سنسمع مفصلا.
النقطة الخامسة: التمهيد للنظرية الماركسية بنظريات فلسفية سابقة عليها تتبنى المادية الديالكتيكية... وقد تتوجت قبل ماركس بقليل بفلسفة هيجل، الذي اعترف المفكرون الماركسيون: أنه الرائد الأول لوضع الديالكتيك والممهد للنظرية الماركسية (1).
الئقطة السادسة: يتصف المجتمع الأوروبي الذي وجد فيه ماركس، بنقص اساسي، انطبع على ماركس وغيره... وكان له الأثر البليغ في تنشئة الأرضية العامة لنمو النظرية الماركسية.
فإن المجتمع الأوروبي ككل، بجانبيه المتدين والملحد معا، كان يرى
(1) انظر: السن الفلسفة الماركسية، افاناسييف ص 20 وما بعدها. والمادية الديالكـتيكية لجماعة من الكتاب السوفييت ص 44.
41
الدين منحصرا بتعاليم الكنيسة بما فيها من تعصب وظلم ومشاكل عقائدية واجتماعية. فالمتدين كان يضطر إلى الرضوخ للكنيسة والرضاء بواقعها مهما كان. والمتمرد كان يرى ببطلان الكنيسة بطلان الدين كله، وبظلمها ومشاكلها ابتناء الدين كله على المظالم والمشاكل... باعتبار كون الكنيسة هي الفرد الأمثل للدين، في نظره... مع أنه لو كان للشعب الأوروبي درجة كافية من الموضوعية والتجرد في النظر والفكر، وكان في البلاد الاسلامية الإمكانية الكافية على إبلاغ أفكار الاسلام ومفاهيمه إلى اوروبا كاملة غير منقوصة وصحيحة غير مشوبة... لاستطاعت أوروبا منذ اول عهد نهضتها ان تقرن تمددها على الكنيسة بالرجوع إلى حقائق الاسلام، وأن تعرف: ان الكنيسة لا تمثل كل الدين، بل ولا شيئا من الدين بالمرة... و انما تمثل الجبروت والظلم والإثراء غير المشروع باسم الدين وباسم الدعوة الإلهية المقدسة. وليس شيء من ذلك في الإسلام موجودأ، مما ييسر لأوروبا الحصول على البديل الصالح عن الكنيسة في الاسلام، لا أن ترتمي في أحضان الإلحاد دون وعي.
إذن، فالنقص الأساسي الموجود في المجتمع الأوروبي، هو عدم محاولة استيعاب النظريات المعروفة في العالم بالبحث والتحليل، لعلها تجد في إحداها الحق المفقود والعدل الضائع... بل وعدم النظرة الموضوعية تجاه أي فكر سوى ما خلقته اوروبا لنفسها من نظريات في تفسير الكون والحياة. وحين انعدمت محاولة الاستيعاب، كان من الواضح والطبيعي، أن لا تصل اوروبا إلى الاسلام، وان لا تتعرف على مفاهيمه، وان لا تطلع على مصادره ومنابعه... فتضطر إلى أن تتمسك بأي بديل آخر للكنيسة لمجرد انه يحتوي على درجة من السعة والأهمية.
ومن ثم لم يكن لماركس ولا لغير ماركس، في ذلك المجتمع أن يحاول استيعاب المصادر البشرية بالبحث والنظر... وليس له إلا أن يعيش جو الأنانية الفكرية في تقديس المعطى الأوروبي ورفض غيره من ناحية عاطفية... من دون أن يكون مستعدا لسماع الدليل والبرهان. إذن، فمن المحتمل- على اقل تقدير- لو كانت النظرة الموضوعية المستوعبة موجودة في المجتمع الأوروبي... أن لا توجد النظريات
42
الماركسية، ولا غيرها، بعد أن يطلع ماركس على البديل الصالح. أو - لا اقل- من أن ماركس حين يضع نظريته، سوف لن يجد التجاوب الكافي في المجتمع، بعد ان كان الفرد الأوروبي الاعتيادي قد اطمئن إلى البديل الصالح الذي يستغني به عن الماركسية وعن نظرتها العامة للكون والحياة .
ومن هنا نعرف، مقدار التأثير العميق لهذا النقص لدى ماركس خاصة، والمجتمع الأوروبي عامة، من تأثير في وجود النظرية الماركسية وتهيئة البيئة الذهنية العامة لتلقيها واستقبالها استقبالا حسنا. بالرغم من ان هذا النقص قد يغفل عنه الكثيرون، وخاصة الفرد الأوروبي باعتبار اعتزازه بنفسه ومجتمعه، ونظره المتطرف إلى الاسلام وبلاد الاسلام.
بل ان أوروبا لم تستطع نشر نظرياتها في الشرق الاسلامي، ماركسية وغيرها، إلا بعد أن استطاعت تزويق نقصها هناك بأن فرقت بين الشعب ودينه، وافرغت ذهنه منه، وملأت الفراغ باعتراضات على التكوين الديني وبالنظريات المبتدعة في المجتمع الأوروبي نفسه... وتقبل الناس في الشرق الاسلامي، هذا التخطيط الهدام، بكل صفاقة وإهمال.
الأطروحة الثالثة: لتفسير ولادة الفكر الماركسي:
وهي الأطروحة المبتنية على اساس التخطيط العام لليوم الموعود، الذي سبق ان عرضناه في الكتابين السابقين من هذه الموسوعة، وسيأتي في القسم الثالث من هذا الكتاب عرضه من زاوية أعمق وأوضح.
ومن مهم تطبيقاته هو التعرض إلى تفسير وجود المادية عموما والماركسية خصوصا في المجتمع البشري. وستأتي تفاصيل ذلك... وإنما ينبغي في المقام ان نعطي صورة موجزة عنه، بالمقدار الذي ينسجم مع الترتيب المنهجي لهذا الفصل.
وذلك: أنه ثبت بالدليل الدال على التخطيط الالهي العام، أن ألهدف الذي استهدفه الله تعالى من إيجاد البشرية، وهو تطبيق العدل الكامل في ربوعها... يتوقف على مرور البشرية بظروف الاختبار والتمحيص، وهي الظروف التي يكون فيها الايمان صعبا ومحتاجا إلى تضحية وقوة إرادة،
43
ومما ظروف الظلم والانحراف، حيث يكون الاتجاه العام للعالم هو ذلك، ويكون الإيمان استثناء وشذوذا، فيحتاج الالتزام به والسير على طبقه في الحياة إلى المرور بمصاعب وتضحيات، قد تكبر وقد تصغر تبعا لظروف الفرد المؤمن وحاجاته العامة والخاصة. بينما لا يحتاج الظلم والانحراف، إلى أية كلفة، لأنه موافق للاتجاه العام والمصلحة الخاصة، في كثير من الأحيان. واذ يكون الأفراد العاديون من البشر، وهم كثرتهم الكاثرة، لا يملكون قوة في الارادة واستعدادا للتضحية في سبيل الايمان والعدل، فسوف يكون سلوكهم مطابقا للاتجاه الأسهل لهم، وهو اتجاه الظلم والانحراف. ويوجد إلى جنب هذه الكثرة خلاصة بشرية قليلة في العدد كبيرة في الارادة والاخلاص والاستعداد للتضحية، تجاه الحق والعدل... فهؤلاء هم الذين يكون التمحيص سببا في زيادة تمسكهم بالايمان واندفاعهم في طريقه.
... وهؤلاء هم النخبة الصالحة التي يكون على عاتقها شرف القيادة
لايجاد اليوم الموعود السعيد للبشرية. ذلك اليوم الذي وجدت البشرية وضحت الأجيال وكرست الجهود من اجله على طول الخط التاريخي الطويل. وقد برهنا أن البشرية ما لم تمر بظروف من الظلم والتمحيص هذه،وما لم تحصل نخبة ممحصة الايمان قوية الإرادة من البشر، لم يكن بالإمكان ان يحصل لها اليوم الموعود مهما طال الزمن. وحيث ان هذا اليوم الموعود السعيد قطعي الحدوث، لكونه الهدف الأعلى من وجود البشرية، إذن تكون اسبابه ومقدماته قطعية الحدوث ايضا. وحيث احرزنا بالبرهان ايضا أن ظروف الظلم والتمحيص من مقدماته ايضا، كانت هذه الظروف قطعية الحدوث ايضا.
حتى ما إذا تمخض التمحيص عن درجة عليا معينة من الايمان، والاخلاص وقوة الارادة في نفوس عدد كاف من المؤمنين لفتح العالم بالعدل... استحقت البشرية يومئذ أن تحظى بشرف تطبيق العدل المطلق على وجه الأرض.
فهذا ملخص مما ينبغي ان نعرفه الآن... وسيأتي تفصيل ذلك في
القسم الثالث من هذا الكتاب.
!4
فإذا تم لدينا كل ذلك، أمكننا أن نضع أيدينا على رؤوس الخيوط الرئيسية لموقف الماركسية من التخطيط الإلهي... وبتعبير أحسن: موقف التخطيط الإلهي من الماركسية خاصة والمادية كلها عامة... كما النقاط التالية:
الئقطة الأولى: ان ظروف الظلم والتمحيص السابقة على وجود الماركسية.... بما تضمنته من اكثرية بشرية جاهلة... وانحسار الحقائق العادلة عن الأذهان، وعدم وصولها إلى الكثير من المفكرين في العالم، كما سمعنا في الأطروحة الثانية.
... وبما تضمنته هذه الظروف من انسياق البشر عامة وراء شهواتهم ومصالحهم، بغض النظر عن الأخلاق والعدالة.
... وبما في ذلك حب القيادة والزعامة التي حدت بكثير من ذوي القابليات، إلى استغلال هذه الظروف والاستعلاء على الناس وإيجاد المظالم والمشاكل فيهم.
... وبما تضمنته هذه الظروف أيضا، من خواء عقائدي لدى الكثرة الكاثرة من البشر، والشعور بالحاجة إلى تكوين نظري كامل يلم شعثهم ويحل مشاكلهم... مما يسر لنظرية عامة كالماركسية أن تحظى بالإعجاب والاحترام وأصبحت محط الآمال لفترة من الزمن.
... في هذه الظروف، ولدت الماركسية. لتقوم بالزعامة النظرية الاجتماعية للبشر الخاويين المتلهفين للمستقبل الأفضل.
النقطة الثانية: إن الماركسية، بصفتها تتضمن مادية مفلسفة ومعمقة، تندرج في الفكرة التي قلناها من تصاعد التمحيص وتعمقه باستمرار... فتكون مشاركة في مستوى عال جدا من التمحيص الإلهي... من دون أن تعلم.
وذلك: إننا إذا سبرنا تاريخ البشرية خلال الألف لسنة الأخيرة، نجد انطباق هذه الفكرة بكل وضوح... فانه منذ أن وجدت الأطروحة العادلة الكاملة، يحسب التخطيط العام، وجدت إلى جنبها المادية متدرجة في التعقيد، وموازية- إلى حد كبير- مع الزيادة التدريجية في الدقة والعمق لفهم الأطروحة العادلة الكاملة.
فإن هذه الأطروحة، المتمثلة بالإسلام، كما سبق أن برهنا في تاريخ الغيبة الكبرى (1)، لاقت منذ أول عهدها المادية متمثلة بعبادة الأصنام... تلك المادية الضحلة التي لم تكن تستند إلى دليل إلا مجرد التقاليد والعادات. ثم ابتليت إبان العهدين الأموي والعباسي بالزنادقة والشكاكين واتجاهات متطرفة من الفلسفة اليونانية والوسيطة. وهي اتجاهات مادية كانت تحاول أن تلبس لبوس الدليل والعاطفة. ولكنها على أي حال، كانت استثناءات من القاعدة الرئيسية التي كانت للمجتمع المسلم وهو التدين بالإسلام، وكانت مغطاة بالوضع العام، لا تبدو على السفح الواضح بصراحة.
ولم تكد تنتهي هذه العهود، إلا وكانت اوروبا قد بدأت نهضتها الفكرية، وهي مادية الاتجاه عموما تدعو إلى تجاهل وجود الله- على اقل تقدير- وفصل الدين عن الدولة والقانون.
وبالتدريج حاول الأوروبيون أن يدققوا ماديتهم هذه ويتعمقوا فيها، واستطاعوا بذلك أن يجعلوا الاتجاه العام نحو المادية بشكل يكون معه الالتزام بالعقيدة الإلهية هي الاستثناء... بخلاف ما كان عليه العصر السابق، حتى في أوروبا نفسها.
كما استطاعت أوروبا أن تضفي على ماديتها نوعا من ا الأدلة العقلية والعاطفية لم يكن يستطيعها ماديو العصر السابق بحال... وبذلك تعمق التمحيص الإلهي.
ولئن كانت المادية الأولى لعصر النهضة، تقتصر على التشكيك بوجود كل ما هو غير محسوس، وبالتالي غض النظر عن العقيدة ألإلهية والعدل الإلهي، إن تلك هي مادية الرأسمالية عموما... فإن المادية المتأخرة المتمثلة بالماركسية أصبحت أوسع من ذلك وأعمق، لأنها مادية مقترنة بفهم عام ومفلسف للكون والحياة.
... وبذلك تعمق التمحيص الإلهي، وأصبح الحصول على الإيمان بالرغم من هذه الظاهرة العقائدية، غاية في الاهمية، بارزة إلى الفرد
(1) انظر ص 261.
46
الاعتيادي. ولم يبق بإزاء ذلك، إلا ما سنذكره في النقطة التالية.
النقطة الثالثة: إن الماركسية أوجبت وتوجب تعميق الفكر الإسلامي بالتدريج، من حيث لا تعلم؟ وذلك بعد الالتفات إلى أمرين:
الأمر الأول: إن النقاش الفكري والجدل العقائدي، موجب بطبيعة الحال، لعمق الفكرة وتدقيق المستوى الثقافي، باعتباره موجبا لإعادة النظر فيما كان يملكه الإنسان من فكر ورأي ومحاولة صياغته من جديد بشكل يتلاءم وحياته المتطورة، من ناحية، ويدفع عنه إيرادات الآخرين، من ناحية أخرى.
وهذا النقاش النظري، بطبعه، ممحص للأفكار والعقائد، فكثير ما يوجب موت الفكرة وفشلها بالمرة. فيما إذا كانت ضحلة وبسيطة وغير قابلة للصمود الفكري والاجتماعي. ولا تبقى بعد المرحلة المعمقة من هذا التمحيص، إلا الأفكار الكبرى، التي تملك القوة الكافية للصمود الفكري والاجتماعي، تجاه إيرادات الآخرين والتكثيف لمتطلبات الحياة.
وإذا بلغ النقاش أقصاه، وهذا التمحيص غايته، لم يكن في إمكان أي عقيدة أو فكرة للبقاء والاستمرار، ما لم تكن مطابقة للواقع، ومقدمة للتفسير الحقيقي للكون والحياة.
الأمر الثاني: إن الأطروحة العادلة الكاملة السائرة نحو التطبيق الكامل على وجه الأرض، بحسب التخطيط الإلهي، محتاجة إلى التعميق الكبير في أذهان البشرية، لكي تكون البشرية على مستوى فكري وعاطفي، تكون معه قابلة لفهم وتطبيق القوانين والمفاهيم العميقة التفصيلية التي تعلن في الدولة العالمية يومئذ، كـما سمعنا في (تاريخ ما بعد الظهور) ونسمع نموذجا آخر منه في القسم الثالث من هذا الكتاب.
فبضم هذين الأمرين، نستطيع أن نفهم مدى الأثر الضخم الذي تخلفه المادية عامة والماركسية خاصة في تدقيق الفكر الإسلامي، وتعميق مستواه في أذهان المسلمين. وذلك على عدة مستويات:
المستوى الأول: محاولة الجواب على الإيرادات التي توردها المادية على الدين عموما والإسلام خصوصا... وبذل جهد فكري في ذلك... قد يستبطن الالتفات إلى أفكار ونظريات لم تكن موجودة في أذهان المسلمين.
47
سواء في ذلك الصعيد العقائدي أو الفقهي أو التاريخي أو الاجتماعي أو غير ذلك.
المستوى الثاني: محاولة نقد النظريات المادية وكشف ما فيها من نقاط ضعف.
المستوى الثالث: محاولة إيجاد البديل الأصلح عن التفسيرات المادية للكون والحياة، ومحاولة فهم ذلك من المصادر الأساسية في الإسلام. وهو مستوى عال يتضمن بطبيعته الالتفات إلى أفكار أساسية وجديدة.
المستوى الرابع: محاولة اتخاذ أساليب جديدة مناسبة للعصر، لنشر الفكر الإسلامي على الصعيد العالمي، بإزاء ما تقوم به المبادئ الأخرى مادية وغيرها من أساليب للنشر والإعلان وكسب الأفكار والأنصار.
النقطة الرابعة: إن من أهم فقرات التخطيط العام، ان النظم البشرية، والنظريات التي تدعي حل مشاكل البشرية، سوف تواجه التمحيص، كما يواجهه الأفراد، وذلك من خلال تطبيقها في عالم الحياة. وسوف يبدو بالتدريج البطيء زيفها واحدة واحدة. حتى تيأس البشرية من كل هذه النظم السائدة وتشعر بعمق بالضرورة إلى وجود نظام منقذ يخرجها من وهدتها وينتشلها من ورطتها. وهذا هو الشعور الذي سيساعد على تقبل البشرية للفكرة الإسلامية بمجرد عرضها كبديل عالمي صالح، عن جميع التجارب السابقة عليه، لكي يقوم بالإصلاح الكامل في اليوم الموعود. ومن هنا نستطيع أن نلاحظ مقدار مشاركة الماركسية في هذا المضمار
فكرة ونظاما، فإنها لازالت تعيش تجربتها التطبيقية في العالم، وتواجه التجربة والتمحيص باستمرار... ولا زال ينكشف للرأي العام العالمي بالتدريج نقاط ضعفها، سواء من الناحية النظرية أو التطبيقية... حتى ان الماركسيين أنفسهم أصبحوا اليوم يناقشون نظريات ماركس نفسه ويطعنون بواضحات أفكاره، على ما سنسمع... ومن غير الماركسيين. ووضوح فشل النظام الماركسي في حل مشكلات الإنسان، يعني أمرين رئيسين في التخطيط الإلهي:
الأمر الأول: إن فشلها يعني فشل إحدى الأنظمة الرئيسية التي تدعي حل مشكلات العالم. وبذلك تسير البشرية خطوة مهمة نحو اليأس من
48
الأنظمة المعلنة، والاتجاه في الأمل نحو نظام عالمي عادل جديد.
الأمر الثاني: ان الماركسية بصفتها إحدى النظريات المادية الدقيقة التي وضعت فهما كاملا للكون والحياة، يكون فشلها معبرا بطريق أولى عن فشل إي تجربة أخرى تكون دونها أو مثلها في المستوى الفكري والتطبيقي. ... فهذه هي النقاط الأربعة التي تمثل الجوانب المهمة من موقف التخطيط الإلهي من المادية عموما والماركسية خصوصا. وسيأتي من خلال القسم الثالث ما يسند ويوضح هذه الجوانب أيضا.
49
التمهيد الثالث
مصاعب النقاش مع الماركسيين
لا بد لنا ونحن بصدد عرض الآراء الماركسية ومناقشتها، أن نعرض السؤال التالي ونحاول الجواب عليه. وهو انه هل يكون النقاش مع الماركسيين ممكنا ومجديا أم لا؟.
وفي جواب هذا السؤال، لا بد لنا من أن نمر بعدة نقاط:
النقطة الأولى: ان النقاش ليس عارا على أية نظرية أو فكرة، بل إن الحقيقة دائما بنت البحث، وأحر بالفكرة الصائبة أن تثبت جدارتها وعمقها عن طريق النقاش.
إلا أن النظريات إنما تكون ممكنة المناقشة مع حصولها على عدة خصائص معينة، وبدونها تكون المناقشة معها على درجة من التعقيد.
الخصيصة الأولى: أن تكون الفكرة أو مجموعة الأفكار محددة مفهومة، بحيث يمكن أن تبين وتتعقل بأسبابها وصيغتها ونتائجها، لكي يمكن أن تسدد إليها سهام النقد والمناقشة.
أما إذا كانت الفكرة، أو التكوين الفكري، مشوشا غير محدد ولا مفهوم، بحيث يحار المفكر في بيان حدوده وترتيبه... فبالطبع يكون هذا التكوين غير قابل للمناقشة. ويسري الاختلاط الموجود في أصل الفكرة إلى الاختلاط في النقاش أيضا.
الخصيصة الثانية: ان تكون هناك نقاط مشتركة بين المتناقشين، يمكن أن يبدأ منها النقاش أو أن ترسو عندها النتائج، وهي الأصول المسلمة في الجدل عادة.
وأما إذا لم تكن هناك أسس مشتركة بالمرة، إما باعتبار بعد الشقة النظرية بينهما، بحيث لا توجد أية حقيقة مشتركة يؤمنان بها معا... أو باعتبار أن الطرف الآخر يسهل عليه إنكار الحقائق التي تكون ضد مصلحة
تكوينه الفكري... ففي مثل ذلك يكاد يكون النقاش غير ممكن أو غير نافع
الخصيصة الثالثة: أن تكون لدى أصحاب التكوين الفكري والمدافعين عنه، الروح الموضوعية العلمية الكافية، وان يكون رائدهم النهائي هو الحقيقة، بحيث يكونون على استعداد بالتسليم بكل مناقشة يثبت صدقها، وإعادة النظر بكل فكرة يثبت زيفها، من دون لف ودوران. وبدون ذلك يكون النقاش أيضا، غير ذي جدوى.
وسنرى في النقاط التالية: أن كل هذه الخصائص الثلاث غير واضحة التوفر في الفكر الماركسي... بل بعضها واضح الزيف في نظرهم، على ما سنرى.
النقطة الثانية: ما هو الفكر الماركسي، وكيف يصح نسبة الفكرة المعينة إلى الماركسية، وهل للماركسية كيان محدد يمكن أن يعرض ويشار إليه أم لا.
... إننا إن اجبنا بنعم، فمعناه توفر الخصيصة الأولى فيه، وإلا فإنها غير متوفرة بطبيعة الحال.
إن أفكار كارل ماركس نفسه... هي أفكار ماركسية بطبيعة الحال، بمقتضى الإضافة اللفظية، كما هو واضح... إلا أن تاريخ الفكر الماركسي، سار في طريق أوسع من هذا بكثير.
فإن التكوين النظري الذي اعترف به ماركس واستند إليه نظريا، لم يكن له وحده، بل كان- في الواقع- نتيجة لمساندة انجلز له ومعاونته إياه في الفكر والعمل. ولكن اعترف انجلز أن التكوين الرئيسي للفكرة هو من صنع ماركس نفسه، وبذلك يستحق نسبتها إليه، وان كان انجلز قد شارك في صنع العديد من جوانبها (1)- ولكن يبدو أنها بمجموعها مرضية تماما لكلا الشخصين. وقد غلب على ماركس الجانب الاقتصادي في كتابه (رأس المال) وغلب على انجلز التركيز على المادية الديالكتيكية في كتابه (ديالكتيك الطبيعة) والمادية التاريخية في كتابه (أصل العائلة) وغيره.
إذن، فالتكوين النظري الأصلي للماركسية هو ما استند إلى هذين
(1) انظر: لوييج فوربا لاسحلز. هامة صفحة 46. 51
الشخصين بالذات، خلال وجودهما في العصر التاسع عشر.
ثم توالت التجارب... تترى... وكان بعضها خلال حياة هذين المفكرين، ولعل أهمها ثورة باريس المسماة بكومونة باريس، التي أظهرت نقاط الضعف لهذين الشخصين في نظريتهما حتى صرحا في البيان الشيوعي: ان بعض نقاط هذا البرنامج قد شاخت (1) وانه لا بد من إجراء التعديل على بعض الفقرات (2).
وأباح ماركس وانجلز لأنفسهما أن يغيرا من النظرية بمقدار ما ظهر لهما زيفه... وكيف لا، وإن الأفكار افكارهما فلهما ان يتصرفا فيها كيف شاءا... وإن كان هذا التغيير لو قام به غيرهما لاعتبراه خارجأ على تعاليمهما.
وفارق هذان المفكران الحياة، والتجارب لا زالت تترى، ولا يمكن ان تتوقف. والتجارب لا تحترم أحدا ولا ترحم رأيا ولا تغز بالظواهر. ... واستطاعت الماركسية، ردحا من الزمن، أن تكسب احترام عدد من الناس نتيجة للظلم المعاش في روسيا وأروبا عموما، إلى جانب الدعاية الشيوعية الواسعة النطاق في تلك البلدان، والتركيز على أنه لا يمكن الهرب من الاقطاع او الراسمالية إلا إلى الماركسية، لأنها هي الحل الوحيد للمشاكل الانسانية.
واصطدمت التعاليم والمفاهيم الماركسية بالواقع، وتحير الناس في التوفيق بينها وبين الواقع، وحدثت مئات الأسئلة في الأذهان... فكان من الطبيعي أن يستعمل العديدون من مفكري هذه العقيدة، قابلياتهم الذهنية للتصدي لتذليل هذه العقبات سواء من الناحية الفلسفية او الاجتماعية... فوجدت، نتيجة لذلك، عدة أطروحات لفهم الماركسية في روسيا واروبا مثل آراء بليخانوف ولينين وكاوتسكي وتروتسكي وهيلغر دينغ، وغيرهم. ولم يكن الفكر الماركسي الأصلي- في الواقع- أقرب إلى احدهم، من الآخر، لأن كل واحد منهم يقول: بأن ماركس أراد ان يقول هكذا، لا غيره. ومن الصعب جدأ من الناحية الموضوعية، أن نتصور أن أشخاصا (1) انظر: البيان الشيوعي ص 6.
(2) المصدر نفسه ص 19.

بأعيانهم اقرب إلى مجموع النظرية من الآخرين. بل لربما أن هذا فهم هذه الجهة من كلام ماركس بشكل أصوب، وذاك فهم تلك الجهة بشكل أصوب، وهكذا، تبعا لاختلاف اختصاصات الأفراد وتجاربهم الحياتية والعلمية وغيرها، وبالتالي لا يتعين للأجيال المتأخرة، من هو الأقرب ومن هو الأبعد بشكل مطلق.
إلا أن ظروف ثورة أكتوبر من ناحية، وظروف الحرب العالمية الثانية من ناحية أخرى... جعلت من بعض هؤلاء المفكرين حكامأ وقادة ومسيطرين. فأصبحت القوة إلى جانب تفسير معين للماركسية، هو التفسير الذي يتبناه هؤلاء القادة، وأصبح هو التفسير الرسمي الصحيح، وغيره هو الباطل الذي يمثل الانحراف و (المثالية) وقصر النظر. وأصبح ذووه مستحقين للقتل والتشريد.
وأصبحت السيطرة الحقيقية فكريا واجتماعيا للقائد الأعظم (لينين) وأصبح تفسيره للماركسية هو الصائب. وكان من وافقه كبليخانوف على صواب وكان من خالفه كتروتسسكي وغيره على خطأ.
وبقي الحال على ذلك، وبقي الحق إلى جانب القوة، متمثلا في ستالين، ثم خروشوف ثم الحكام السوفيتيين المعاصرين. وبقيت الدراسة الرسمية في جامعات البلدان الاشتراكية منطلقة من ذلك على الدوام. وكانت هذه البلدان هي الطليعة الأولى في القرن العشرين لسحق المعارضة وكم الأفواه.
وكان لذلك استثناءان:
الاستثناء الأول: الإيديولوجية الصينية (الماوية) لفهم الماركسية...
حيث استطاع ماوتسي تونغ أن يستقل عن الفهم السوفييتي الرسمي للماركسية، ويتخذ لنفسه فهما جديدا بقوة كاملة، تجعله بدوره رسميا وصحيحا !...
الاستثناء الثاني: أن ظروفا معينة أوجبت إيجاد أفكار ماركسية جديدة خلال الأعوام القليلة المتأخرة (العقد الثامن من القرن العشرين). وكان أهم هذه الظروف عاملان:
العامل الأول: ظروف الحرية النسبية التي تبنتها الحكومة السوفييتية
53
كرد فعل للتقييد الذي عاشوه خلال عصر (ستالين)؟ تلك الحركة التي فسحت فرصة جديدة للماركسيين في أن يوضحوا ويفسروا الماركسية من جديد
العامل الثاني: ظروف النقد اللاذع والإيرادات الفلسفية والتاريخية والاجتماعية التي أوردت على الفكر الرسمي، الماركسي- اللينيني، من قبل المفكرين الإسلاميين والأوروبيين الرأسماليين... بحيث اتضح للرأي العام بكل جلاء زيف هذا التكوين النظري، وثبت للشيوعيين استحالة بقاء هذا التكوين على أهميته وهيبته في الأذهان من دون إصلاح ورتوش.
ومن هنا تحركت عدد من الأقلام لعرض الماركسية من جديد، بشكل يدعم ورود تلك الانتقادات عليه.
وسمح هؤلاء المفكرون لأنفسهم الطعن بماركس وانجلز بصفتهما برجوازيين!!!... وبصفتهما ذوي تجارب قديمة!! وبصفتهما ذوي تنبؤآت فاشلة (بحدوث الثورة الاشتراكية في فرنسا وانكلترا)!.. وبصفتهما قابلين للخطأ والنقاش على أي حال.
كما سمح هؤلاء المفكرون أن يناقشوا الأفكار الأساسية للماركسية، فضلا عن التفاصيل... ففي الديالكتيك: لا يتضمن الشيء لنقيضه، وإنما توجد له ذاتيا عوامل الفناء. وفي المادية التاريخية أكدوا على انقسام المجتمع إلى أكز من طبقتين... وانه لا ضرورة على مرور البلد بجميع مراحل هذه النظرية... وفي جانب الضرورة التاريخية: أكدوا على وجود حرية التصرف للفرد إلى حد كبير، وان الحرية لا تنافي الضرورة. وفي جانب الاقتصاد، قالوا: إن الرأسمالية التي عرفها ماركس، هي الرأسمالية البدائية... وهناك رأسماليات لم يلتفت لها ماركس!! يكون آخرها مرحلة (الامبريالية)... إلى غير ذلك مما قالوه... وسنسمع الكثير من ذلك خلال مناقشاتنا الآتية.
بعد هذه الجولة التاريخية السريعة في الفكر الماركسي، يتضح ما نريد ان نقوله في هذه النقطة الثانية... فإن هذه الخلافات بين المفكرين الماركسيين تعطي نتيجة واضحة، وهي وجود درجة من الغموض والتشويش في تحديد (الفكر الماركسي). !. بحيث لو عرضت الماركسية على شكل
54
كهذا لصح، ولو عرضتها على شكل آخر لصح أيضا، ولو عرضتها على شكل ثالث لصح أيضا... فأي الأفكار هي (الماركسية) هل هي ماركسية ماركس أم ماركسية تروتسكتي ام ماركسية ماوتسي تونغ أم ماركسية لينين أم ماركسية المحدثين كبولتزر وكوفالسون وغيرهما.

 السابق || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله