حد يستطاع القول : أن العوالم التي يعيشونها في الجنان بعد هذه
الحياة ليس من جنس واحد بل هي من جنسين مختلفين تماما. و لا يمكن ايضاح تفاصيله في
هذه العجالة . يكفي ان نشير إلى ان الجنة الموصوفة في ظاهر القرآن الكريم والتي
يطمع بها سائر الناس انما هي جنة أصحاب اليمين. وأما جنات المقربين فهي شي آخر ومن
جنس مختلف لا يشبه ذاك على الأطلاق.
وينبغي الألتفات إلى ان الباب بالرحمة الإلهية مفتوح لكل أحد في ان يصبح من أصحاب
اليمين أو المقربين، بمقدار ما أدى من عمل وبمقدار ما يطيق من قواه العقلية
والنفسية والروحية ونحو ذلك من الأمور.
فإذا تم لنا ذلك أمكننا بكل تأكيد أن نقول: ان خاصة أصحاب الأئمة عليهم السلام. هم
فعلاً من المقربين وليسوا فقط من اصحاب اليمين.
ومن كان من المقربين كان من المهمين المسددّين من قبل الله سبحانه جزماً بنص القرآن
.ومثاله نزول الوحي على مريم بنت عمران (45) وآسية بنت مزاحم (46) زوجة فرعون وأم
موسى (47) والعبد الصالح (48) وكلهم ليسوا من الأنبياء ولا المرسلين.
واذا ثبت كون خاصة أصحاب الأئمة عليهم السلام ، الراسخين في العلم ومن المقربين،
فلا عجب في اتصافهم بأوصاف تفوق غيرهم بمراتب مثل قوله (ص) : ((سلمان منا أهل
البيت)) (49) وقوله (( ما أقلت الغبراء وما أضلت
______________
(45) سورة آل عمران. آية (42 -43) – سورةمرية آية 17
(46) ( وقالت أمرات فرعون قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى ان ينفعنا او نتخذه ولداً
وهم لا يشعرون) سورة القصص آية 9.
(47) سورة طه آية 38 – سورة القصص آية 7
(48) فوجدا عبداً من عبادنا ءاتيناه رحمةمن عندنا وعلمناه من لدنا علما) سورة الكهف
آية 65.
(49) الميزان في تفسير القرآن للطبطباتي ج16 ص 292 – أسد الغابة لأبن الأثر ج2 ص
328.
- وسلمان الفارسي هوابوعبد الله ويعرف بسلمان الخير مولى رسول الله (ص) وسئل عن
نسبه
الخضراء ذي لهجة أصدق من أبي ذر))(50) وما ورد من أن حذيفة(51) وميثم التّمار(52)
وحبيب بن مظاهر كان لديهم علوم خاصة قد نسميها:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فقال : أنا سلمان ابن الأسلام. أصله من فارس من رام هرمز وقيل أنه من حبي وهي
مدينة أصفهان وكان أسمه قبل الأسلام مابه بن بوذ خشان بن مورسلان بن بهبوذان بن
فيروز بن سهرك من ولد آب الملك قد قال فيه رسول الله (ص): (ان الجنة تشتاق إلى
ثلاثة : علي وعمار وسلمان). وكان سلمان من خيار الصحابة وزهادهم وفضلاتهم وذوي
القرب من رسول الله . قالت عائشة: كان لسلمان مجلس من رسول الله (ص) بالليل حتى كاد
يغلبنا على رسول الله (ص). وسئل علي(ع) عن سلمان فقال : (علّم العلم الأول والعلم
الآخر وهو بحر لا ينزف وهو منا أهل البيت). وكان عطاته خمسة آلاف فاذا خرج عطاؤه
فرقه وأكل من كسب يده وكان يسف الخوص وهو الذي أشار على رسول الهل (ص) بحفر الخندق
لما جاءت الأحزاب فلما أمر رسول الله بحفرة احتج المهاجرون والأنصار في سلمان وكان
رجلاً قوياً فقال المهاجرون سلمان منا وقال الأنصار سلمان منا فقال رسول الله (ص)
(سلمان منا أهل البيت). توفي سنة 35هـ آخر خلافة عثمان وقيل أول سنة 36 هـ وقيل
توفي في خلافة عمر والأول أكثر. قال العباس بن يزيد : قال أهل العلم عاش سلمان
ثلاثمائة وخمسين سنة. وقال أبو نعيم : كان سلمان من المعمرين يقال أنه أدرك عيسى بن
مريم وقرأ الكتابين. أسد الغابة ج2 ص 328.
(50) أسد الغابة لأبن الأثر ج1 ص 301 – الكنى والألقاب ج1 ص 74.
وأبو ذر الغفاري هو جندب بن جنادة وقيل ندب بن السكن مهادري أحد الأركان الأربعة،
روي عن الأمام الباقر (ع) انه لم يرتد مات في زمن عثمان بالربذة سنة 31 أو 32 هـ
بعد ما نفي هناك. له خطبة يشرح فيها الأمور بعد النبي وقال فيه النبي ( ما أضلت
الخضراء ولا أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) الكنى والألقاب ج1 ص 74.
(51) حذيفة بن اليمان وهو حذيفة بن الحسل ويقال حسبل بن جابر بن عمرو...... بن عبد
الله العبسي واليمان لقب حسل بن جابر، هاجر إلى النبي (ص) فخيره بين الهدرة والنصرة
فاختار النصرة وشهد مع النبي أحد وقتل أبوه بها ويذكر عند اسمه. وحذيفة صاحب سر
رسول الله (ص) في المنافقين لم يعلمهم أحد الا حذيفة أعلمه بهم رسول الله (ص) وسأله
عمر أفي عمّالي أحد من المنافقين قال : نعم. وكان عمر اذا مات ميت يسأل عن حذيفة
فإن حضر الصلاة عليه صلّى عليه عمر وان لم يحضر حذيفة الصلاة لم يحضر عمر. وشهد
حذيفة الحرب في نهاوند فلما قتل النعمان بن مقرن أمير ذلك الجيش أخذ الراية وكان
فتح هندان والري والدينور على يده وشهد فتح الجزيرة ونزل نصيبين وتزوج فيها. وأرسله
رسول الله(ص) ليلة الأحزاب سرية ليأتيه بخبر الكفار . وكان مؤته بعد قتل عثمان
بأربعين ليلة سنة 36 هـ. اسد الغابة ج1 ص 39.
علم المنايا والبلايا أو علم ما كان وما يكون أو علم الجفر ونحو ذلك. ومثله ما ورد
: أن علياً عليه السلام قال لابنه العباس عليه السلام وهو صغير: ((قل واحد. فقال :
واحد، فقال له قل اثنين. فرفض))(53) لأنه عليه السلام يجد الوجود الإلهي والنور
الإلهي هو الواحد الأحد، ولا شيء غيره . اذن فلا يوجد أثنان ليقول : اثنين. وهذا
كان ثابتاً له في صغره فكيف يصبح وماذا ينال من مدارج اليقين في كبره؟. إلى غير ذلك
من الروايات.
الوجه الخامس : أن التصرفات المهمة التي ترتبط بالمصالح العامة وبالحكمة الإلهية في
تدبير المجتمع وتسبيب أسبابه، هي دائماً محل عناية الله
__________________
(52) ميثم التمّار : كان ميثم (رض) عبداً لأمراة من بني أسد فاشتراه أمير المؤمنين
(ع) واعتقه على كثير واسراراً خفية من أسرار الوصية فكان ميثم يحدث ببعض ذلك فيشك
فيه قوم من أهل الكوفة = *** وينسبون علياً (ع) في ذلك إلى المخرقة والأيهام
والتدليس حتى قال (ع) له يوماً بمحضر خلق كثير من أصحابه وفيهم الشاك والمخلص ( يا
ميثم انك تؤخد بعدي وتصلب وتطعن بحربة فإذا كان ذلك اليوم الثالث ابتدر منحراك وفمك
دماً فتخضب لحيتك فانتظر ذلك الخضاب فتصلب على باب دار عمرو بن حريث عاشر عشرة أنت
أقصرهم خشبة وأقربهم من المطهرة. وأمض حتى أريك النخلة التي تصلب على جدعها) فأراه
اياها. فكان ميثم يأتيها ويصلي عندها ويقول بوركت من نخلة لك خلقت ولي غذيت. ولم
يزل يتعاهدها حيث قطعت، وحتى عرف الموضع الذي يصلب عليه في الكوفة وحد في السنة
التي قتل فيها فدخل على أم سلمة (رض) فقالت من أنت قال أنا ميثم. قالت : والله
لربما سمعت رسول الله (ص) يذكرك ويوصي بك علياً (ع) في جوف الليل فسألها عن الحسين
(ع) فقالت : هو في حائط له قال : أخبريه أنن يأحببت السلام عليه ونحن ملتقون عند رب
العالمين انشاء الله فدعت بطيب وطيبت لحيته، وقال أما أنها ستخضب بدم. فقدم الكوفة
فأخذه عبيد الله بن زياد فحبسه وحبس معه المختار بن ابي عبيدة فقال له ميثم انك
تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين (ع) فتقتل هذا الذي يقتلنا فلما دعى عبيد الله
بالمختار ليقتله طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله يأمره بتخلية سبيله فخلاه وأمر
بميثم أن يصلب فلما رفع على الخشبة اجتمع الناس حوله على تحت خشبته ورشة وتجميره
فجعل ميثم يحدث بفضائل بني هاشم فقيل لابن زياد قد فضحكم هذا العبد فقال ألجموه
وكان أول خلق الله ألجم في الأسلام. الكنى والألقات ج3 ص217 .
(53) خاتمة المستدرك للعلامة النوري ج 3 ص 815 . نقلاً عن مجموعة الشهيد الأول
(قد).
سبحانة وتدبيره، وكل شيء يتوقف على ذلك فهو حاصل لا محالة بقدرة الله سبحانة، وكل
مانع يمنع عنه فهو منتف بقدرته أيضاً. لكن مع حفظ ظاهر الأسباب والمسببات المعهودة
بطبيعة الحال. والمقصود صدق ما ورد من ((ان لله غايات وبدايات ونهايات في أفعاله جل
جلاله)) (54) . وأن الأمور تسير كنظام الخرز يتبع بعضها بعضاً. الأمر الذي ينتج أن
ما يريده الله سبحانه في البشر حاصل لا محالة. و لا يستطيع أحد على الأطلاق تغييره.
وأن خطر في ذهنه كونه مؤثراً أو فاعلاً لشيء من الأشياء قلّ أو كثر من هذه الجهة أو
أي جهة أخرى.
فاذا تم لنا ذلك : أمكننا القول بأن تصرفات الأئمة سلام الله عليهم وأصحابهم لا شك
مندرجة في هذا النظام الإلهي العام. ومؤثرة في سير التاريخ البشري عامة والأسلامي
خاصة. وحيث عرفنا ان كل ما يريده الله سبحانه في هذا التاريخ فإنه لا بد من حدوثه،
يعني حتى لو توقف على أي سبب خارق للطبيعة. ومن المستطاع القول عندئد ان الالهام
والتوجيه الإلهيين لهؤلاء ضروري في هذه المرحلة من التاريخ. بل في كل مرحلة منه، بل
ليس من الضروري في الفرد أن يعلم كونه موجهاً ومسدداً من قبل الله سبحانه، بل قد
يكون كذلك من حيث لا يعلم لمدى أهمية تأثيره في المصالح العامة والتاريخ الأسلامي
أو العالم.
و لاشك أننا نستطع ابراز بعض النقاط لأصحاب الأئمة عليهم السلام، لايضاح مدى تأثير
أعمالهم وأقوالهم في التاريخ القريب والبعيد:
النقطة الأولى : كونهم منسوبين إلى الأئمة عليهم السلام مع أن تأثير الأئمة أنفسهم
في التاريخ أوضح من أي يخفى وقد يكون ذلك عن طريق
_____________
(54) كشف المراد للعلامة ص 306
أصحابهم . بل كثيراً ما يكون ذلك.
النقطة الثانية : كون الدين الأسلامي في صدر الأسلام كان محصوراً في منطقة محدودة
وغير منتشر في بقاع عديدة من العالم مما بلغه بعد ذلك.
النقطة الثالثة : قوة الأعداء المتربصين بالدين وأهل الدين بالمكر والحيلة والغيلة،
من الداخل ومن الخارج على السواء .
النقطة الرابعة : الأعداد لظهور المهدي عليه السلام في آخر الزمان فإن نجاح حركته
اذ يريد أن يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً(55) .
وكما هي وضيفته الإلهية في ذلك .
أقول : نجاحها يتوقف على أسباب وتلك الأسباب ينبغي أن يعدها الله قبله. وهو جل
جلاله فاعل ذلك لا محالة. لأن ظهور المهدي عليه السلام وعد والله لا يخلف الميعاد.
وقد يخطر في الذهن : أنه يكفي الإعداد للظهور في العشر السنوات الأخيرة السابقة
عليه في علم الله سبحانه. قلنا : كلا، فإن الحال في هذه العشر سنوات ايضاً تحتاج
إلى سبب وسببه يحصل في العشر السنوات التي قبلها . وهكذا إلى ان يصل إلى عصر صدر
الأسلام، ويتصل بالأئمة المعصومين عليهم السلام وأصحابهم. بل يتصل بما قبل الأسلام
منذ نزول آدم عليه السلام فما بعده، لأن ذلك كله نظام واحد متصل ومتسلسل يتبع بعضه
بعضاً في الحكمة الإلهية كنظام الخرز.
الوجه السادس : ان ما ذكرناه من الوجوه السابقة قد يناقش في عمومها لكل أصحاب
الأئمة أو قل: لكل تصرفاتهم. وان كان الوضع السابق يجعلها شاملة على أي حال. ولكن
المقصود الآن . ان بعض التصرفات من بعض
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(55) البرهان للمتقي الهندي : الباب 11، الحديث (2-3) – أعيان الشيعة للاميني ج2
ص46
أصحابهم غير الخاصة منهم، يمكن ان تكون على خطأ أو قابلة للمناقشة بشكل وآخر. وليس
بالضرورة ان تكون الأقوال والأفعال والتصرفات الموجودة في ذلك الحين، ضرورية الحمل
على الصحة. ويكون التاريخ مسؤولاً عن تصحيحها . بل يمكن نقدها واعتبارها باطلاًُ
فعلاً، وتحميل مسؤوليتها على أصحابها. سواء اعتبرناهم معذورين فعلً عنها غفلة أو
جهلاً او غير معذورين باعتبار التفاتهم اليها وتعمدهم لها. وهذا يكون موكولاً إلى
الباحث التاريخي ولا حاجة الآن إلى تسمية احد بهذا الصدد.
إلقاء النفس في التهلكة
ينبغي لنا، ونحن بصدد الحديث عن حركة الحسين عليه السلام وثورته، أن نتصدى للجواب
عن بعض الأسئلة الرئيسية بهذا الصدد. ومن أهمها ما قد يرد على بعض الألسن من أن
الحسين عليه السلام القى نفسه في التهلكة، والقاء النفس في التهلكة حرام بنص
القرآن(56) .
وهذا لاوجه لا يخص الأمام الحسين عليه السلام، وان كان فيه أوضح باعتبار القرائن
المتوفرة الواضحة التي تدل على مقتله لو سار في هذا الطريق وعدم امكانه الحصول على
الأنتصار العسكري المباشر، ولكنها ايضاً شبهة موجودة بالنسبة للأئمة الآخرين عليهم
السلام، من حيث سيرهم في طريق الموت في حين انهم يعلمون بحصوله. كما هو المبرهن
عليه والوارد عندنا في حقهم (57) ، وقد حصلنا فكرة كافية عن احاطة علومهم فيما سبق.
اذن فهم يعلمون بحصول هذه الوفاة في هذا الطريق فلماذا ساروا فيه ؟ سواء كان المراد
الأمام الحسين أو غيره من المعصومين. وهل السير في ذلك الا السير في طريق التهلكة
المحرمة بنص القرآن الكريم؟.
ويمكن الجواب على ذلك بعدة وجوه نذكر أهمها:
الوجه الأول : انه يمكن القول ان الآية الكريمة : ( ولا تلقوا بأيديكم
_____________
(56) وهو قوله تعالى ( وانفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة واحسنوا
إن الله يحب المحسنين) سورة البقرة . آية 195.
(57) أصول الكافي للكليني ج1 ص258 – باب 102- أعلام الورى للطبرسي ص340 – مراة
العقول للمجلسي ج3 ص108.
إلى التهلكة)(58) . خاصة غير عامة. فإن خصوصها وعمومها انما هو ناشيء من المخاطب
فيها في قوله: ولا تلقوا . والمخاطب فيها غير محدد.
وأوضح المصاديق الآخرى من القرآن الكريم لذلك قوله تعالى : ( وإن منكم الا واردها
كان على ربك حتماً مقضياً)(59) . فإن المخاطب فيها غير محدد، واذا لم يكن محدداً لم
يكن عمومها أكيداً، كما يفهم سائر الناس.
وقد يستشكل : أن الظاهر هو العموم، وان الضمير يعود إلى سائر المسلمين. بما فيهم
الأئمة عليهم السلام.
وجوابه : أن هذا صحيح لو خلي وطبعة غلا انه توجد في الآية التي نتحدث عنها قرائن
صارفة عن كون الخطاب للمعصومين سلام الله عليهم.
فإنه تعالى يقول : (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن
الله يحب المحسنين)(60) . ومن الواضح أن الامرين الأول والآخير : (أنفقوا) و
(احسنوا) خاص بغير الأئمة عليهم السلام بل بغير المعصومين وغير الراسخين في العلم
عموماً. لأن أمثال هذه المستويات العليا من الادراك لا تحتاجه، وانما يعتبر بالنسبة
إليهم من توضيح الواضحات. بل يكون الخطاب هذه الأمور قبيحاً وحاشا لله وكلامه من
القبح. آذن فالمخاطب غيرهم سلام الله عليهم.
اذن، فقط وقع النهي عن التهلكة في سباق الخطاب لغيرهم عليهم السلام فنعرف من وحدة
السياق – وهي قرينة عرفية مبحوثة في علم (الأصول) :- ان النهي عن التهلكة، غير شامل
لهم ايضاً. ومعه لا يمكن القول : بأن القرآن الكريم نص عليهم بعدم القاء النفس في
التهلكة. كما يريد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(58) سورة البقرة. آية 195
(59) سورة مريم . آية 71.
(60) سورة البقرة. آية 195.
المستشكل ان يقول.
الوجه الثاني : أنه بعد أن ثبت ان المعصومين عليهم السلام مسدّدون بالألهام من قبل
الله سبحانه. اذ يكون عندهم نوعاً من التكاليف : ظاهرية وباطنية. أما الظاهرية فهي
الموافقة لظاهر الشريعة والمعلنة بين الناس. وأما الباطنية فهي التعاليم التي
يعرفونها بالإلهام فإذا تعارض الأمران : الظاهري والباطني، كان الباطني أهم كما هو
أخص ايضاً، فيتقيد اطلاق الآية الكريمة – لو تم- بغير هذا المورد. فلا يكون هذا
المورد على المعصوم حراماً بل يكون واجباً بمقتضى الإلهام الالهي الثابت لديه.
فيتقيد اطلاق الآية الكريمة – لو تم – بغير هذا المورد. فلا يكون هذا المورد
علىالمعصوم حراماً بل يكون واجباً بمقتضى الإلهام الالهي الثابت لديه. فيتقدم نحوه
بخطوات ثابتة متمثلاً أمر الله سبحانه وراجياً ثوابه الجزيل ببذل النفس في هذا
السبيل. وهذا الأمر لا يختلف فيه الأمام الحسين عليه السلام عن غيره من المعصومين
عليهم السلام.
الوجه الثالث : أنه من الممكن ان لا يراد من (التهلكة) المنهي عنها في الآية
الكريمة ... التهلكة الدنيوية بمعنى تحمل الموت أو المصاعب العظيمة، كما يريد الناس
ان يفهموا منها. بل يراد منها الهلاك المعنوي وهو الكفر والقاء النفس في الباطل
والعصيان والانحراف، وهو أمر منهي عنه بضرورة الدين.
وبتعبير آخر: ان المراد من التهلكة ليس هو التهلكة الدنيوية، بل التهلكة الآخروية،
وهو التسبيب إلى الوقوع في جهنم بالذنوب والباطل ، ولا أقل من احتمال ذلك، بل من
الواضح أن التعاليم الآخرى الموجودة في سياقها كما سمعنا فيما سبق، هي من الطاعات،
اذن فتكون قرينة محتملة، على ان المراد من هذا النهي : التحذير عن ترك الطاعات
والوقوع في المعاصي (61) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهنا يشير سماحة المؤلف إلى ان الآية الكريمة تعطي أوامر في سياق قرآني واحد وهو
(أنفقوا- ولا تلقوا – احسنوا) فإذا لاحظنا أن الأمر الأول والأخير (الإنفاق
والإحسان) انهما من الأمور التي يرجى عند العمل بها الحصول على الجزاء والثواب من
الله عزوجل اخروياً أي ان العبد = عندما ينفق أو يحسن لوجه الله انما يأمل ان يرى
أثر عمله أو طاعته آخروياً وهو رضى الله سبحانه =
واذا تم ذلك : لم يكن في الآية أي دليل على ما يريد الناس أو يميل إليه المستدل، بل
تكون بعيدة عن ذلك كلّ البعد.
الوجه الرابع: أننا لو تنزلنا جدلاً عن الوجوه السابقة، وقلنا بحرمة التهلكة. فإنها
انما تحرم ما دام صدق العنوان موجوداً، أو قل: إذا كان العرف يوافق على أنها تهلكة
فعلاً. وأما إذا لم تكن كذلك خرجت عن موضوع التهلكة فلم تصبح محرّمة . ولا شك أن
المفهوم عرفاً وعقلائياً ان التهلكة انما تكون كذلك والصعوبة انما تكون صعوبة، فيما
اذا كانت بدون عوض أو بدل. فلو مّر الأنسان بصعوبة بليغة من دون نتيجة صالحة
لتعويضها كان ذلك (تهلكة). وأما اذا كانت نتائجها حسنة فليست تهلكة بأي حال.
ونحن نرى الناس كلهم، تقريباً بل تحديداً، يضحّون مختلف التضحيات في سبيل نتائج
أفضل، سواء من ناحية الأرباح الاقتصادية أو المصالح الاجتماعية او النتائج السياسية
او الثمرات العلمية او أي حقل من حقول هذه الدنيا الوسيعة. فإنه يحتاج إلى تضحية
قبل الوصول إلى نتائج . ومن الواضح أن هذه النتائج ما دامت مستهدفة لم يتعبرها
الناس تهلكة أو خسارة، بل يعتبرونها ربحاً وفيراً، ورزقاً كثيراً، لأنها مقدمات
لها، على أي حال.
فإذا طبقنا ذلك على حركة الحسين عليه السلام، أمكننا ملاحظتها مع
___________________________
= وتعالى عليه وبالتالي دخوله إلى الجنة فلا ينتظر الجزاء في الدنيا أو من الشخص
المقابل فاذا كانت نتيجة هذين الأمرين نتيجة آخروية يكون الأمر الثالث (( ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة) أمراً آخروياً أيضاً لأنه واقع بنفس السياق فتكون التهلكة
تهلكة آخروية وهو دخول جهنم لترك الطاعات والوقوع في المعاصي. وأشار إلى هذا المعنى
عدد من المفسرين ومنهم الفخر الرازي الذي أعطى في تفسير هذا المقطع من الآية عدة
وجوه منها وجه قريب للمعنى السابق فيقول: قوله: (( ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة )
هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو القاء النفس إلى
التهلكة فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة الله لأن ذلك يحمل الأنسان على
ترك العبودية والأصرار على الذنب. إنتهى.
نتائجها بكل تأكيد، سواء النتائج المطلوب تحققها منها في الدنيا أو المطلوب تحققها
في الآخرة. فإنها نتائج كبيرة ومهمة جدّاً، ولعلنا في المستقبل القريب لهذا البحث
سنحمل فكرة كافية عن ذلك. وليس من حقنا أصلاً أن نلاحظ هذه الحركة منفصلة عن
النتائج، خاصة بعد أن نعلم علم اليقين أن الحسين عليه السلام انما أرادها لذلك وأن
الله سبحانه انما أرادها منه لذلك. اذن فتسعيرها الواقعي واعطاؤها قيمتها الحقيقية،
انما تكون مع ملاحظة نتائجها لا محالة.
ومن الواضح عقلاً وعرفاً وعقلائياً، أننا اذا لاحظناها مع نتائجها لم تكن (تهلكة)
بأي حال. بل كانت تضحية بسيطة، مهما كانت مريرة، في سبيل نتائج عظيمة ومقامات عليا
في الدنيا والآخرى لا تخطر على بال ولم يعرفها مخلوق، ويكون الأمر بالرغم من أهميته
القصوى، بمنزلة التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة. وفي مثل ذلك لا
يكون حق أحد الأرجاف بأنها (تهلكة). فإذا لم تكن تهلكة لم تكن مشمولة لحكم التحريم
في الآية الكريمة.
الوجه الخامس : أنه لا يحتمل فقهاً وشرعاً في الدين الأسلامي، ان تكون كل تهلكة
محرمة. بل الآية الكريمة أو وجد لها اطلاق وشمول، فهي مخصصة بكثير من الموارد . مما
يجب فيه القاء النفس في المصاعب الشديدة أو القتل أو يستحب كالجهاد بقسميه الهجومي
والدفاعي ومثل كلمة الحق عند سلطان جائر(62) . ومثل تسليم المجرم نفسه إلى القضاء
الشرعي ليقام عليه الحد الذي قد يؤدي به إلى الموت كالرجم والجلد والقطع وغيرها.
وكلها جزماً من مصاديق التهلكة بالمعنى العام، ولكنها واجبة حيناً ومستحبة أحياناً.
إذن، فليس كل تهلكة محرمة، فكما أصبحت الأمور المذكورة جائزة.
_______________________
(62) اسعاف الراغبين لمحمد الصبان على هامش نور الابصار للشبنجي ص77 – التهذيب
للطوسي ج6 ص 187.
مستثناه من عموم الآية الكريمة، فلتكن ثورة الحسين عليه السلام كذلك.
وما يمكن أن يكون دليلاً على الإستثناء أحد ثلاث أمور متصورة، أصبحت سبباً لقناعة
الأمام الحسين عليه السلام بحركته:
الأمر الأول : الألهام الذي يأمره بالخروج في هذا السبيل أمراً وجوبياً(63)
الأمر الثاني ان تلقي الوجوب عن جده نبي الأسلام (ص)(64).
الأمر الثالث : أنه رأى مصلحة عامة واضحة الصحة وبعيدة المدى، بحيث يكون سلوك هذا
السبيل من قبيل التضحية بالأمور الخاصة من أجل المصالح العامة.
بقية الحديث عن التهلكة
واذا تم لنا، كما حصل فعلاً مما قلناه، تأويل الآية بالشكل المعقول الذي يصرفها عن
محل الكلام ومورد الأشكال، اذن، سوف لن يكون سير الحسين عليه السلام في هذا السبيل
وسير غيره من المعصومين عليهم السلام في طريق موتهم لا يكون أمراً محرماً، بل هو
جائز يختاره برضاه وطيب نفسه من أجل رضاء الله عزوجل والنتائج المطلوبة في المستقبل
ولكننا مع ذلك نعرض في ما يلي الوجوه الآخرى لتفسير ذلك مما قيل أو يمكن أن يقال في
هذا الصدد.
_________________________________________
(63) أصول الكافي ج1 ص244 – بتصرف واقتضاب – أسرار الشهادة للدربندي ص226.
(64) البحار للمجلسي ج44 ص328 – مثير الأحزان لابن ثماص ص22 - اللهوف لأبن طاووس
ص11.
الوجه الأول : النظر إلى المعصوم عليه السلام، كقائد دنيوي. ومن المعلوم أن القائد
الدنيوي قد لايلتفت أو لا يتأكد من وقوعه في الموت في هذا الصدد الذي هو فيه، وانما
يأتيه سبب الموت على حين غرّة.غير ان هذا الوجه غير تام لأكثر من جواب .
أولاً: المنع عن النظر إليهم كقواد دنيوين، بعد كل الذي برهنا عليه من كونهم مسددين
ملهمين من قبل الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: اننا حتى لو نظرنا إلى التسبيب الطبيعي، فإنه كثيراً ما يكون من الراجح
جداً حصول الموت في الطرق التي سلكها الأئمة في التسبيب لموتهم.
وأوضح مصاديق ذلك حركة الحسين عليه السلام. اذا كان هو يعلم بموته، وكذلك عدد ممن
ناقشه في سيره وأراد صرف رأيه عنه(65) ، كان ممن يرجح حصول مثل هذه الكارثه التي
حصلت له.
ومعه فمن سخف القول : أن الأمام عليه السلام، لم يكن ملتفتاً إلى ذلك أو محتملاً له
سلفاً.وإلا فقد أنزلناه إلى مرتبة وضيعة من التفكير.
الوجه الثاني : ما هو المشهور بين بعض المفكرين في الدين. من أن المعصوم وإن كان
بحسب طبعه الأول معصوماً عن الخطأ والنسيان.إلا أنه في تلك الواقعة، يعني حين يريد
الله سبحانه التسبيب إلى موته.يجعله ناسياً او جاهلاً بالنتائج. فيذهب في هذا
الطريق وهو لايعلم(66).
أقول: وهذا الوجه انما يكون حراماً اذا كان عمدياً. وأما اذا كان عن جهل أو نسيان،
فلا يكون محرماً. لاستحالة تكليف الناسي والجاهل.
_________________
(65) قد مرّ ذكر أسمائهم سابقاً مراجع
(66) مرآة العقول للمجلسي ج3ص122 .
مادام بهذه الصفة. والمفروض ان هذه الصفة تلازم المعصوم عليه السلام إلى حين تورطه
في الحادث.
الا أن هذا الوجه – أيضاً- ليس بصحيح، لأنه منقوض بما دل من الروايات الواردة عنهم
عليهم السلام، على علمهم بحصول الموت لدى السير في هذا الطريق قبل التورط فيه.
كالذي ورد عن الحسين عليه السلام حين يقول (( أني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات
بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفاً وأجربه سغباً لا محيص عن يوم خط
بالقلم رضا الله رضانا أهل البيت نصير على بلائه ويوفّينا أجور الصابرين))(67) .
ثم قال في نفس الخطبة : (( ألا فمن كان باذلاً فينا مهجته مواطناً على لقاء الله
نفسه. فليرحل معنا، فإني راحل مصبحاً ان شاء الله تعالى))(68).
وكل ذلك واضح الدلالة في علمه عليه السلام، بموته وموت كل أصحابه سلام الله عليهم
أجمعين.
وكذلك الأمام الرضا عليه السلام، حين مشى بطريق الموت فإنه قال فيما قال لأبي الصلت
الهروي(69): (ان خرجت اليك وأنا مكشوف الرأس
__________________
(67) اللهوف لأبن طاووس ص26 – ابن نما الحلي ص29 – كشف العمة للاربلي ج2ص241- مقتل
الخوارزمي ج21ص5.
(68) نفس المصدر.
(69)أو الصلت الهروي : هو عبد السلام بن سالم الهروي روى عن الرضا (ع) ثقة صحيح
الحديث قاله النجاشي والعلامة. له كتاب وفاة الرضا (ع) وكان كما يشعر به بعض
الكلمات مخالطا للعامة وراوياً لأخبارهم فلذلك التبس أمره على بعض المشايخ فذكر انه
عامي قال الأستاذ الأكبر في التعليقة بعد نقل كلام الشهيد الثاني في تشيعه: لا يخفى
أن الأمر كذلك فإن الأخبار الصادرة عنه في العيون والأمالي وغيرهما الصريحة الناصعة
على تشيعه بل كونه من خواص الشيعة أكثر من أن تحصى وعلماء العامة ذكروه. قال اذهني
في ميزان الأعتدال : عبد السلام بن صالح أبو الصلت الهروي رجل صالح الا انه شيعي:
ونقل عن الجعفي: انه رافضي خبيث.وقال الدار قطني انه وافضي متهم وقال ابن الجوزي
انه خادم للرضا شيعي مع صلاحه. وروي أن المأمون حبس أب
فكلمني وان خرجت إليك مقنع الرأس فلا تكلمني . فحين خرج إليه مقنع الرأس هابه أبو
الصلت أن يتكلم معه))(70) ، مضافاًإلى الرواية التي تقول: ((فقال له : إلى أين انت
ذاهب يا ابن رسول الله؟ فقال : إلى حيث أرسلتني))(71). اذن فهو يعلم انه أرسله إلى
الموت. ولم تكن إلى ذلك الحين دلالة طبيعية أوعرفية دالة على ذلك.
الوجه الثالث: أن المعصوم عليه السلام يعلم بتكليف شرعي من الله عزوجل، بالالهام أو
بالرواية عن جده النبي (ص) . تكليفاً وجوبياً أو استحبابياً بالسير في هذا الطريق،
طريق الموت. فهو بذلك يؤدي امتثاله لذلك التكليف الوجوبي أو الأستحبابي قربة إلى
الله تعالى ورجاء لرضاء الله سبحانه وثوابه. تماماً كالعبد المؤمن الاعتيادي حين
يصلي أو يصوم أو يحج أو يتعبد عبادة واجبة أو مستحبة. وهذا أحسن الوجوه التي
عرفناها للجواب على مثل هذا السؤال على تقدير دلالة الآية الكريم على حرمة التهلكة.
وقد عرفنا فيما سبق عدم دلالتها على ذلك اطلاقاًُ.
_________________
الصلت بعد وفات الرضا (ع) سنة فضاق صدره فدعى الله بمحمد وآل محمد فدخل عليه أبو
جعفر الجواد (ع) فضرب يده إلى القيود ففكها وأخذ بيده وأخرجه من الدار والحرسه
والغلمة يرونه فلم يستطيعوا أن يكلموه فخرج من باب الدار وقال له أبو جعفر (ع) :
(امض في ودائع الله فإنك لن تصل إليه و لايصل إليك أبداً) الكنى والألقاب ج1ص100 .
(70) الدمعة الساكبة ص 86 - عيون أخبار الرضا للصدوق ج2ص245.
(71) نفص المصدر.
رضا الله رضانا أهل البيت
سمعنا الأمام الحسين عليه السلام فيما سبق في الخطبة المروية عنه انه قال: (( رضا
الله رضانا أهل البيت))(72) .؟ فنزيد هنا اعطاء فكرة كافية عن ذلك فإن فهم هذه
الجملة يحتوي على تقسيمين :
التقسيم الأول : النظر إلى معنى الرضا في هذا الجملة، فإننا تاره نفهم نفس الرضا
بصفته عاطفة نفسية محبوبة. وأخرى نفهم منها : الأمر المرضي، يعني الذي يتعلق به
الرضا كما هو المتعارف عرفاً التعبير عنه بذلك ولو مجازاً.
التقسيم الثاني : النظر إلى ما هو المتبدأ والخبر في هذه الجملة فانه قد يكون (رضا
الله) مبتدأ و (رضانا) خبر، كما هو مقتضى الترتيب اللفظي لهذه الجملة. كما انه قد
يكون العكس صحيحاً ، وهو أن يكون (رضا الله) خبراً مقدّما و (رضانا ) مبتداً مؤخرا.
واذا لاحظنا كلا التقسيمين ، كانت الأحتمالات أربعة بضرب أثنين في أثنين . ولكل من
هذه المحتملات معناها المهم. ويمكن ان نعطي فيما يلي بعض الأمثلة لذلك في الفهوم
التالية:-
الفهم الأول : ان يكون الرضا بمعنى الأمر المرضي ويكون (رضا الله ) في هذه الجملة
هو المبتدأ . فيكون المعنى : ان الأمر الذي يرضاه الله عزوجل نرضاه نحن أهل البيت.
وهذا هو الفهم الاعتيادي والمناسب مع السياق في هذه الخطبة .من حيث إنه عليه السلام
يعبر عن رضاه بمقتله لأنه أمر مرضي لله
______________
(72) أسرار الشهادة للدربندي ص227 – كشف الغمة للاربلي ج2 ص241.
عزوجل
الفهم الثاني : أن يكون الرضا بمعنى الأمر المرضي، ويكون ( رضا الله ) في هذه
الجملة خبراً مقدما. فيكون المعنى: أن الأمر الذي نرضاه نحن أهل البيت يرضاه الله
عزوجل. أو قل : هو مرضي لله عزوجل بدوره.
وهذا أمر صحيح وعلى القاعدة، مطابق لما ورد عنهم عليهم السلام: بمضمون ((اننا
أعطينا الله ما يريد فأعطانا ما نريد))(73) . فتكون تلك الجملة بمعنى الفقرة
الثانية من هذه الجملة ، كما هو واضح للقارئ اللبيب.
الفهم الثالث: ان يكون المراد بالرضا معناه المطابقي، وليس الأمر المرضي. ويكون
(رضا الله) في هذه الجملة مبتدأ . وليس خبراً مقدماً.
فيكون المعنى : ان رضا الله سبحانه هو رضا أهل البيت عليهم السلام. وهذا صحيح أيضاً
ومطابق للقاعدة. ألأن الفلاسفة والمتكلمين المسلمين قالوا: انه ورد في الكتاب
الكريم والسنةالشريفة نسبت كثير من الأمور إلى الله سبحانه كالرضا والغضب والحب
والبغض والكره والارادة وغير ذلك من الصفات(74) . مع أنه قد ثبت في مودر آخر ، ان
الله تعالى ليس محلاً للحوادث (75) ، ويستحيل فيه ذلك: وكل هذه الأور من قبيل
العواطف
_______________
(73) لم نعثر على هذا الحديث بما في أيدينا من مصادر التحقيق. ويبدو أن سماحة
المؤلف قد آخذ هذا المضمون من عدة روايات مجتمعة لا من رواية واحدة. والظاهر ان هذه
العبارةغير مودجوة نصاً في الروايات وانما من تعبير المؤلف لمضمون عدد من الروايات
وقد أشار إلى ذلك بقوله: (بمضمون).
(74) وقد استدلوا على ذلك بالقرآن الكريم فمثلاً:
الرضا كما في قوله: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) البينة آية 8.
الغضب : كما في قوله ( فعليهم غضب من الله) النحل آية 106
الحب : كما في قوله (ان الله يحب المحسنيين) البقرة آية 195
الكره : كما في قوله (كره الله انبعاثهم) التوبة آية 46.
الإرادة : كما في قوله. (واذا اراد الله بقوم سوء) الرعد آية 11
(75) أنظر مثلاً : كشف المراد للعلامة ص 294
المتجددة التي تستحيل على ذات الله سبحانه. فكيف صح نسبتها إليه سبحانه في الكتاب
والسنة؟ .
وقد أجاب الفلاسفة والمتكلمون بعدة أجوبة عن ذلك كان من اهمها: انه جل جلاله يجعل
هذه العواطف المتجددة في نفوس أوليائه وأنبيائه وأصفيائه . فإذا علمنا أن أهل البيت
هم أولياء الله وأصفيائه، اذن فيصدق: ان رضا الله رضاهم أهل البيت. لأن رضا الله
كما قال الفلاسفة ليس قائماً بذاته جل جلاله بل قائم بذواتهم سلام الله عليهم.
لماذا لم يعمل الحسين عليه السلام بالتقية؟
لا شك أن التقية واجبة عندنا بنص القرآن الكريم والسنة الشريفة اجماع علمائنا: أما
القرآن الكريم ففي أكثرمن آية واحدة كقوله تعالى (إلا أن تتقوا منهم تقاة). . وأما
السنة الشريفة فأكثر من نص كقوله عليه السلام: ((التقية ديني ودين آبائي))(77) .
وقوله (ع) لا دين لمن لا تقية له))(78) . وقوله (ع) : ((التقية درع المؤمن
الحصينة))(79). ويغر ذلك وأما الاجماع فهو واضح لمن استعرض فتاوى علمائنا، بل الحكم
يعتبر من ضروريات المذهب.
اذن فالتقية واجبة. وهذا ما حدى بالمعصومين عليهم السلام جميعاً العمل بها الا
الحسين عليه السلام. فلماذا لم يعمل بها هذا الإمام الجليل. إذ من الواضح أن أحداً
من المعصومين غيره لم يتحرك مثل حركته، بل كانت الثورات متعددة، والحروب في داخل
البلاد الأسلامية وخارجها موجودة. وهم معرضون عنا لا يشاركون بأي شيء منها. حتى لو
كان الثوار والمحاربون من أبناء عمومتهم كذرية الحسن أوالحسين الذين تحركوا خلال
العهدين الأموي والعباسي بكثرة، عدّ منهم في (مقاتل الطالبيين) عشرات. الا أن
المعصومين سلام الله عليهم. لم يكونوا من بينهم بأي حال من الأحوال. بل كانوا
________________________
(76) سورة آل عمران آية 28
(77) أصول الكافي ج2ص219حديث 12 – باقتضاب – ططهران
(78) أصول الكافي ج2ص217 الحديث الثاني – باقتضاب – مختصر بصائر الدرجات ص101.
(79) أصول الكافي ج2 ص221حديث 23 – بتصرف واقتضاب.
يسلكون سلوكا مغايراً لذلك تماما عملاً بالتقية الواجبة التي يحسون بضرورتها
التشريعية والواقعية عليهم سلام الله عليهم.لا يستثني من ذلك الا واحد معين منهم هو
الإمام الحسين عليه السلام في حركته العظيمة. فلماذا كان ذلك؟ .
والأسباب المتصورة لذلك عدّة أمور محتملة وإن لم تكن كلها صحيحة. الا أننا نذكر
الأمور التي قد تخطر على بال القاريء الإعتيادي أيضاً:
الأمر الأول : ان الأخبار الدالة على وجوب التقية لم تكن صادرة في زمن الحسين عليه
السلام، لأنها انما صدرت عن الإمامين الصادقين عليهم السلام وهما عاشا بعد واقعة
كربلاء بحوالي قرن من الزمن. واذا لم تكن هذه الأخبار موجودة ، فلا دليل على وجوب
التقية يوم حركة الحسين عليه السلام. ومن هنا لم يعمل بها.
إلا أن هذا الوجه غير صحيح لأكثر من جواب واحد:
أولاً : أن هذه الأخبار المشار إليها تدلنا على حكم واقعي ثابت في الشريعة، يعلم به
المعصومون جميعاً سلام الله عليهم بما فيهم الحسين عليه السلام. فإنهم جميعاً
عالمون بجميع أحكام الشريعة المقدسة.
ثانياً: أن الآيات الكريمة دالة على ذلك أيضاً، وقد كانت موجودة ومقروءة في زمن
الحسين عليه السلام.
الأمر الثاني : أن الحسين عليه السلام كسائر المعصومين عليهم السلام، عمل بالتقية
ردحاً طويلاً في حياته. وانما ترك العمل بها من ناحية واحدة فقط ، هي الناحية التي
أدت إلى مقتله في واقعة الطف. وهي رفض الطلب الصادر من قبل الحاكم الأموي بالبيعة
له(80) وتهديده بكل بلاء اذا لم يبايع. الأمر الذي استوجب صموده عليه السلام ضد هذا
المعنى حتى الموت.
_______________
(80) البحار للمجلسي ج4ص326 مناقب ابن شهر آشوب ج2ص208 اللهوف لابن اووس ص11
الأمر الثالث : ان الأدلة في الكتاب والسنة على مشروعية التقية، ليست دالة على
الألزام والوجوب بل على الجواز على ما سنرى.
أو – بتعبير آخر- : ان العمل بالتقية رخصة لا عزيمة . ومن هنا يمكن القول
ان الإمام الحسين عليه السلام كان مخيراً يومئذ بين العمل بالتقية وبين تركها ولم
يكن يحب العمل بالتقية في حقه. وما دام مخيراً فقد اختار الجانب الأفضل في نظره،
وهو فعلاً الأفضل في الدنيا والأفضل في الأخرة، وهو نيله للشهادة بعد صموده ضد
الأنحراف والظلم والظلال.
ومن هنا ، أيضاً، كان عمل أصحاب الأئمة والمعصومين عموماً. مع العلم أنهم كانوا
عارفين بالأحكام متفهمين للشريعة مرتفعين في درجات الايمان.
فعمار بن ياسر(81) عمل بالتقية حين طلب منه مشركو قريش الطعن
_______________
(81) عمار بن ياسر : هو بن عامر بن مالك بن كنانة بن قيس بن الحصين .... بن يشجب
المذحجي وهو من السابقين الأولين إلى الأسلام وهو حليف بني مخزوم امه سمية وهي أول
من استشهد في الإسلام وقد قال فيه رسول الله (ص) : ( من عادى عمّاراً عاداه الله
ومن أبغض عماراً بغضه الله) وعن علي (ع) قال : (جاء عمار يستأذن على النبي (ص) فقال
: إئذنوا له مرحباً بالطيب المطيب). وعن عائشة قالت : قال رسول الله (ص) : ( ما
خيّر عمار بين أمرين إلا اختار ارشدهما) ومن مناقبه أنه قدمها ضحى فقال عمار : ما
لرسول الله بد من ان نجعل له مكانا لستضل فيه ويصلي فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قبا.
وقال عبد الرحمن السلمي: شهدنا صفين مع علي(ع) فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في ناحية
ولا واد من أودية صفين الا رأيت أصحاب النبي (ص) يتبعونه كأنه علم لهم وشهد خزيمة
بن ثابت الجمل وهو لا يسلّ سيفاً وشهد صفين ولم يقاتل وقال لا أقاتل حتى يقتل عمار
فأنظر من يقتله فإني سمعت رسول الله (ص) يقول : (تقتله الفئة الباغية) فلما قتل قال
خزيمة ظهرت له الضلالة ثم تقدم فقاتل حتى قتل : وقتل عمارفي صفين وعمره يومئد (94)
سنة وقيل (93) سنة وقيل (91) سنة . واختلف في قاتله فقيل قتله أبو العارية المزني
وقيل الجهنيطعنه فسقط فلما وقع اكب عليه آخر فاحتز رأسه . أسد الغابة ج4 ص 43.-
بتصرف واقتضاب
بالأسلام ونبي الأسلام . وبتلك المناسبة نزلت الآية الكريمة(82). في حين ان عدداً
من الآخرين تركوا العمل بها ودفعوا حياتهم في سبيل ذلك كميثم التمار وسعيد بن جبير
(83) وحجربن عدي(84) وزيد بن علي.
____________
(82) سورة النحل آية 106 وهو قوله تعالى : ( من كفر بالله بعد ايمانه الا من أكره
وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله....... ).
(83) سعيد بن جبير: لقد كان سعيد من التابعين وكان معروفاً بالزهد والعبادة وعلم
التفسير وكان يسمى (جهبد العلماء) وكان يصلي خلف الإمام زين العابدين(ع) فأخذه خالد
بن عبد الله القسري وأرسله إلى الحاج فلما رآه قال له : ما اسمك؟ قال : سعيد بن
جبير، قال : بل شقي بن كسير. قال : أن أمي أعلم بأسمي منك. قال : شقيت وسشقيت أمك.
قال الغيب يعلمه غيرك قال : لأبدلنك ناراً تلظى .قال: لو علمت ان ذلك بيدك لآتخذتك
الأهاً. قال: فما قولك في محمد؟ قال : نبي الرحمة وامام الهدى. قال فما قولك في علي
: أهو في الجنة أو في النار؟ قال لو دخلتها وعرفت من فيها عرفت أهلها. قال : فما
قولك في الخلفاء؟ قال : لست عليهم بوكيل. قال : فأيهم أحب إليك؟ قال : أرضاهم
للخالق. قال : فأيهم أرضى للخالق؟ قال : علم ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم. قال
أبيت ان تصدقني! قال : بل لم أحب ان اكذبك. قال الحجاج. فاختر أي قتله أقتلك. قال
سعيد : اختر لنفسك يا حجاج فوالله ما تقتلني قتله إلا قتلك الله مئلها في الآخرة
قال : أفتريد أن اعفو عنك؟ قال ؟ ان كان العفو فمن الله . وأما أنت فلا براءة لك
ولا عذر) قال الحجاج: اذهبوا به فاقتلوه فلما خرج من الباب ضحك. فأخبر الحجاج بذلك
فأمر برده وقال : ما أضحكك ؟ قال : عجبت من جرأتك على الله وحلم الهل عنك. فأمر
الحجاج بالنطع فبسط فقال أقتلوه قال سعيد : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض
حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين. قال : شدوا به لغير القبلة؟. قال سعيد : فأينما
تولوا فثم وجه الله . قال كبوه على وجهه. قال سعيد : منها خلقناكم وفيها نعيدكم
ومنها نخرجكم تارة أخرى . قال الحاج : اذبحوه. قال سعيد : أما اني أشهد وأحاج ان لا
اله الا الله وحده لا شريك له، وان محمداً عبده ورسوله. خذها مني حتى تلقاني يوم
القيامة. ثم دعى سعيد الله فقال : اللهم لا تسلطه على أحد يقتله بعدي فذبح على
النطع رحمه الله . ولم يعش الحجاج بعده الا خمس عشرة ليلة ظل ينادي فيها مالي
ولسعيد بن جبير كلما أردت النوم اخذ برجلي (( وفيات الأعيان لابن خلكان ج2 ص372 ط
بيروت مقارنة بمروج الذهب للمسعودي ج3 ص164).
(84) حجر بن عدي : بن معاوية بن جبلة بن عدي بن ربيعة... بن كندة الكندي وهوالمعروف
بحجر الخير وهو بن الأدبر وانما قيل لأبيه عدي الأدبر لأنه طعن على اليته مولياً
فسمى ألأدبر .وفد على النبي (ص) هو واخوه هاني وشهد القادسية وكان من فضلاء الصحابة
وكان على كندة بصفين وعلى الميسرة يوم النهروان وشهد الجمل أيضاً مع علي (ع) وكان
من أعيان أصحابه ولّما ولّي زياد العراق وأظهر من الغلفة وسوء السيرة ما أظهر .
خلعه حجر ولم يخلع معاوية وتابعه جماعة من شيعة
الشهيد(85) وغيرهم.
ولو كانت التقية واجبة الزاماً لكان حال هؤلاء وغيرهم على باطل، مع العلم أنهم لا
شك على حق لأنهم متفقهون بالأحكام الأسلامية جزماً. ولاشك انها – مع ذلك – مشروعة ،
فيتعين ان تكون مشروعة بنحو التخيير لا بنحو الألزام.
ومما دل على ذلك ما روي عن رجلين من اهل الكوفة أخذا. فقيل لهما: ابريا من أمير
المؤمنين عليه السلام. فبريء واحد منهما وآبى الآخر . فخلي سبيل الذي بريء . وقتل
الأخر . فقال الأمام الباقر عليه السلام: (( اما الذي بريء فرجل فقيه في دينه واما
الذي لم يبرأ فرجل تعجل الجنة))(86) .
______________
= علي (ع) فكتب فيه زياد إلى معاوية فأمره بأن يبعث به وبأصحابه اليه فبعث بهم مع
وائل بن حجر الحضرمي ومعه جماعة فلما أشرف على مرج عذراء قال اني لأول المسلمين كبر
في نواحيها فأنزل هو واصحابه عذراء وهي قرية عند دمشق فأمر معاوية بقتله فشفع
اصحابه في بعضهم فشفعهم ثم قتل حجر وستة معه وأطلق ستة ولما أرادوا قتله صلى ركعتين
ثم قال لو لا ان تضنون بي غير الذي بي لأطلتهما وقال لا تنزعوا عني حديداً ولا
تغسلوا عني دما فاني لاق معاوية على الجادة. وقال عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
لمعاوية بعد مقتل حجر والله لا تعد لك العرب حلماً بعدها ولا رأياً قتلت قوماً بعث
بهم أساري من المسلمين . وكان قتله سنة 51هـ وقبره مشهور بعذراء وكان مجاب الدعوة.
أسد الغابة ج1ص385
(85) زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ويكنى بأبي الحسين وأمه أم ولد
أهداها المختار بن أبي عبيدة لعلي بن الحسين فولدت له زياداً وعمراً وعلياً وخديجة.
وقد خرج بثورة ضد الحكم الأموي المتمثل بهشام بن عبدالملك آنذاك ولكن غدر به من
بايعه من أهل الكوفة والمدائن والبصرة وواسط والموصل وخراسان والري وجرجان والذين
وصل عددهم إلى مائة الف تقريباً ولكن عند خروجهع وافاه 218 من رجاله فقال زيد سبحان
الله فأين الناس قيل هم محصورون في المسجد فقال لا والله ما هذا لمن بايعاً
بعذر.ومع هذا العدد القليل خرج فقاتل وأصيب بسهم في جانب جبهته اليسرى فنزل السهم
في الدماغ فمات على اثره ودفنوه أصحابه في العباسية ولكنه أخرج وصلب (وقيل انه
استمر مصلوباً إلى أيام الوليد بن يزيد) وبعدها أحرق بالنار ثم جعل في قواصر ثم حمل
في سقيفة ثم ذري في الفرات. مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص127.
(86) أصول الكافي ج2ص221 حديث 21 ط طهران
ولذا يمكن القول: بأنه لم يثبت أن ترك التقية حرام. الا قوله في أحدى الروايات((
التقية ديني ودين آبائي ولا دين لمن لا تقية له))(87).
وهي لا شك دالة على الألزام . إلا أنها ساقطة بالمعارضة مع الروايات الدالة على
الرخصة، كالرواية السابقة(88) . فيبقى حكم التقية على التخيير.
والأيات الكريمة أيضاً غير دالة على الألزام منها قوله تعالى : ( لا يتخذ المؤمنون
الكافرين أوليآء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء الآ أن تتقوا
منهم تقاة. ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير)(89) .
وقوله تعالى : ( من كفر بالله بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من
شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم))90).
وفي كلتا الايتين يعتبر حكم التقية استثناء من أمر حرام وهو : موالاة الكافرين في
الاية الأولى والكفر في الآية الثانية. والأستثناء من مورد الحضر أو الحرمة لا يدل
على أكثر من الجواز وذلك كما قال الفقهاء حول قول تعالى : ( وإذا حللتم
فاصطادوا)(91) . فإن حكم الصيد في إستثناء من جانب حرمته في حال الأحرام مع احتمال
استمراره بعده. فيكون دالا على مجرد الجواز.
نعم، قد تكون التقية واجبة الزاماً، فيما اذا توقف عليها هدف اجتماعي عام مهم.
كالمحافظة على بيضة الأسلام. الأ أنه لم يكن الأمر يومئد هكذا ، بل
_______________
(87) أصول الكافي ج2 ص224 حديث 2 ط طهران.
(88) رواية الرجلين اللذين اخذ من أهل الكوفة.
(89) سورة آل عمران آية 28.
(90) سورةالنحل . آية 106.
(91) سورة المائدة. آية 2
بالعكس على ما سوف نعرف، فإن حفظ الأسلام يومئذ كان متوقفاً على التضحية لا على
التقية.
الأمر الرابع : من أسباب ترك الإمام الحسين عليه السلام للعمل بالتقية:
أننا حتى لو تنزلنا عما قلناه في الأمر الثالث، وفرضنا التقية الألزامية . الا ان
هذا الحكم بالألزام ساقط بالمزاحمة مع الأهم . اذا من الواضح من سياق الآيات ان
الأمر بالتقية انما هو في موارد فردية متفرقة، والإمام الحسين عليه السلام واجه
قضايا عامة تقتضي ترك التقية والعمل بالتضحية:
أهمها : الطلب منه بمبايعة الحاكم الأموي يؤمئذ ، يزيد بن معاوية(92) .
وهو ما يترتب عليه نتائج وخيمة بالغة في الأهمية ، قد تؤدي إلى اندراس الأسلام
الحقيقي منذ عصره إلى يوم القيامة.
ومن القضايا العامة المهمة التي واجهها سلام الله عليه: طلب أهل الكوفة لمبايعتهم
له وولايته الفعلية عليهم (93) . وهو حكم عام ومهم شرعاً ومتقدم على حكم التقية.
وكلا الأمرين لم يوجهه أحد من أولاده المعصومين التسعة عليهم السلام. ومن هنا كان
عملهم بالتقية متعيناً. ومن الممكن القول أنهم لو واجهوا ما واجهه الحسين عليه
السلام، لكان رد فعلهم كرد فعله تماماً.
الأمر الخامس : أن الحسين عليه السلام، علم علماً طبيعيا أو الهامياً، أنه سوف يموت
على كل حال حتى في مكة، فضلاً عن غيرها من بلاد الله . ولذا ورد عنه (( انهم سوف
يقتلوني حتى لو وجدوني متعلقاً بأستار الكعبة))(94)
_______________
(92) البداية والنهاية لأبن كثير ج2ص146 – مروج الذهب للمسعودي ج3 ص65
(93) اللهوف لابن طاووس ص14 – تاريخ الفتوح لابن اعثم ج5 ص46 – اسرار الشهادة
للدربندي ص199.
(94) مرآة العقول للمجلسي ج2ص194- مثير الأحزان لابن نما الحلي ص41.
ومن يكون حاله هو العلم اليقين بموته يرتفع عنه حكم التقية من قاتله. وله أن يفعل
ما يشاء . تصور شخصاً محكوماً عليه بالأعدام. وسوف يصعد عما قليل على خشبة المشنقة.
فعندئذ تهون الدنيا في نظره ويمكنه ان يفعل أو يقول ما يشاء تجاه جلاّديه . لأنهم
سوف لن يزيدوا على قتله على أي حال.
فعلى ذلك كان حال الإمام الحسين (ع) . ومعه فضّل ان يموت بهذا الشكل عن ان يموت
خامل الذكر محوطاً بالذلة والنسيان.
الا أن هذا الوجه بمجرده لا يتم، لأنه عليه السلام لو كان قد قبل بالمباعية لكفوا
عن العزم على قتله، وهذا واضح لديه ولدى غيره. اذن فالعلم بموته انما بصفته رافضاً
للمبايعة صامداً ضدها. اذن فيرجع هذا الوجه إلى وجه آخر مما ذكرناه كالوجه الرابع
السابق.
الأمر السادس : ان حكم التقية وان كان نافذ المفعول عليه (عليه السلام) وغيره من
البشر. الا أنه مخصص في حقه عليه السلام، فهو خارج عن حكمها بالتخصيص والاستثناء .
وقد ثبت لديه التخصص اما بالالهام وأما بالرواية عن جده رسول الله (ص) (95) . ولذا
لم تكن التقية في حقه واجبة ولا تركها عليه حراماً.
وربما عد من الأدلة في هذا الصدد ، ما ورد من بكاء النبي (ص) على مقتل الحسين عليه
السلام يوم ميلاده(96) ، لعلمه المسبق بذلك . وهو ما يستفاد
______________________
(95) البحار للمجلسي ج44 ص328 - اسرار الشهادة للدربندي ص224
(96) الخصائص الكبرى ج 2 ص125 – آمالي الصدوق ص118 الحديث 5 – البحار للمجلسي
ج44ص250- تاريخ أبن عساكر ترجمة الأمام الحسين ص183.
- ولهذا بكاه عدد من الصحابة (رض) منهم سلمان الفارسي حيث مرّ على كربلاء حين مجيئه
إلى المدائن فقال هذه مصارع اخواني وهذا موضع مناحتهم ومهراق دمائهم يقتل بها ابن
خير الأولين والأخرين. (رجال الكشي ص13 ط هند) . وكذا بكاه أمير المؤمنين في مسيره
إلى صفين نزل =
منه جواز حركته واحترام ثورته .فيكون مخصصاً لما دل على حرمة التقية لو وجد.
وهذا الوجه اكيد الصحة لو تم بالدليل كون التقية عزيمة لا رخصة . وهو الوجه الذي
يشمل أهله وأصحابه وأهل بيته الذين رافقوه في حركته وآزروه في ثورته. فإن التقية أن
كانت واجبة في حقهم أساساً، فهي لم تكن واجبة عندئذ، بل مستثناة عنهم بأمر امامهم
الحسين نفسه . حيث أوجب عليهم المسير معه والقتل بين يديه(97). بل التقية لم تكن
واجبة من هذه الناحية على أي واحد من البشر على الأطلاق ، تمسكاً بما ورد عنه سلام
اله عليه: (( من سمع واعيتنا ولم ينصرنا اكّبه الله في النار))(98).
وهو دال بوضوح على لزوم نصره ووجوب ترك التقية من هذه الناحية. وكذلك ما ورد عنه
أنه قال عليه السلام حيث بقى وحيداً بعد مقتل أصحابه وأهل بيته: (( هل من ناصر
ينصرنا وهل من ذابّ عن حرم رسول اله))(99). وسنذكر بعونه تعالى ان هذا انما قال
الحسين عليه لأجل اقامة الحجة
____________________
= فيها وأومأ بيده إلى موضع منها فقال ها هنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم ثم أشار إلى
موضع آخر وقال ها هنا مهراق دمائهم ثقل لآل محمد ينزل ها هنا ثم قال : واه لك يا
تربة ليحشرن منك أقواماً يدخلون الجنة بغير حساب وأرسل عبرته وبكى من معه لبكائه
وأعلم الخواص من صحبه بأن ولده الحسين يقتل ها هنا في عصبة من أهل بيته وصحبه هم
سادة الشهداء لا يسبقهم سابق ولا يلحقهم لاحق (مقلت المقرم نقلاً عن كامل الزيارات
ص27).
بل يتعدى الأمر إلى الأأنبياء السابقين على نبينا الأعظم (ص) فلقد بكاه آدم(ع)
والخليل ابراهيم معه فإنه كالشهيد مع الأنبياء مقبلاً غير مدبر وكأني نظر إلى بقعته
وما من نبي الا وزارها وقال انك لبقعة كثيرة الخير فيك يدفن القمر الزاهر) كامل
الزيارات لابن قولويه 67.
(97) مثير الأحزان لابن نما ص 39 البحار للمجلسي ج45 ص86 أمالي الصدوق ص131
(98) أمالي الصوق ص 132 – مقتل الخوارزمي ج1 ص227 البحار ج44 ص315.
(99) اللهوف لابن طاووس ص 49 كشف الغمة للأربلي ج2 ص262.
على الأخرين
كما يشمل أهله وأصحابه رضوان الله عليهم وجوه آخرى لترك التقية مما سبق. كالأمر
الثالث الذي ذكرناه وهو كونها تخيرية وليس الزامية. والأمر الثاني والأمر الرابع ،
فراجع.
والسر في سقوط التقية ، كما أشرنا عن جميع البشر في ذلك العصر، من هذه الجهة، لا
ينبغي ان يكون خافياً وحاصله: ان الناس لو كانوا قد استجابوا بكثرة وزخم حقيقيين ،
واذا كانت أعداد مهمة منهم قد أدركت مصالحها الواقعية في نصر الحسين عليه السلام
لتحقق النصر العسكري له فعلاً، ولفشل عدوه الأموي الظالم . بل في المستطاع القول
بأنه مع حسن التأييد يكون زعيماً فعلياً على كل بلاد الأسلام، فيحكمها بالعدل
وبشريعة جده رسول الهف. غير ان المجتمع في ذلك الحين كان متخاذلاً جاهلاً. ولله في
خلقه شؤون.
حدود أهداف الحسين (ع)
حينما نريد أن نتحدث عن أهداف الحسين عليه السلام في ثورته، فإنما نتحدث ، كما
أسلفنا في حدود فهمنا ومدى ادراكنا، وهوالبعيد عن فهم الواقعيات والمحجوب اساساً عن
الوصول إلى تلك المستويات . فنحن نتحدث عن أقصى ما ندركه من أمر منطقي ومعقول.
كإطروحة مقبولة ومحتملة في هذا الصدد وليس كشيء قطعي وناجز، ونحن نعلم أن ما خفي
علينا من الحق أكثر مما أتضح لنا بكثير . وخاصة ونحن نعرف – كما سبق أيضاً- بأن
أقوال المعصومين وأفعالهم مطابقة للحكمة الألهية ومساوقة للعلم الألهي، لما لهم من
التأييد والتسديد منه جلّ جلاله . ومن المعلوم ان الحكمة والعلم الالهّيين غير
محدودين ونحن محدودون ( ولا يمكن للمحدود ان يدرك اللا محدود).
ولو تنزلنا عن ذلك جدلاً، أمكننا القول بأن الواحد من المعصومين عليه السلام هو
أفضل من أفضل واحد من البشر رأيناه أو سمعنا عنه، في جميع المستويات وعلى أي صعيد .
والفرد مهما أوتى من قوة تفكير وحدة ذكاء فهو أدنى منهم بمراتب عظيمة. ومن المعلوم
أن الأدنى لا يمكن ان يدرك جميع ما لدى الأعلى، ولا يمكن أن يفهم مستواه الا اذا
كان مساوياً له.
خذ اليك مثلاً : أن الطفل الدارس في المدارس الإبتدائية أو من هو على شاكلته هل يصح
ان نتصور أن يفهم الرياضيات المعمّقة والفلسفة المحققة أو علوم الفيزياء أو
الكيمياء المفصلة. وهكذا مستوى أي واحد منا تجاه أي واحد من المعصومين عليهم
السلام. اذن فالتعرف على كل حقيقتهم وأهدافهم إن لم يكن محالاً، فهو بمنزلة المحال.
ولكن في حدود ما نفهم، فإننا حين نريد أن نطرح بعض الأفكار عن أهداف الإمام الحسين
عليه السلام في ثورته، فتلك الأفكار لا بد أن تكون حاوية على عدد من الشروط لا بد
منها. و لا يمكن أن تكون أفكارنا جزافية أو مطلقة.
الشرط الأول : أن يكون الشيء الذي نتصوره هدفاً للامام الحسين عليه السلام أمراً
مرضياً لله عزوجل لا تشوبه شائبه عصيان أو أن يكون مرجوحاً في الشريعة المقدسة. بما
في ذلك حب الدنيا وطلب المال والجاه والسيطرة المنفصلة عن الأمر الألهي والتكليف
الشرعي.
الشرط الثاني : ان يكون الهدف الذي نتصوره مناسباً مع حال الحسين عليه السلام وشأنه
. لا أن يكون هدفاً موقتاً أو متدنياً أو ضئلاً. فإن ذلك مما لا يصح له وجود هذه
التضحية الكبيرة التي أقامها الحسين عليه السلام وعاناها . فإنها عندئذ لا تكون
معقولة ولا عقلانية، وانما لابد أن يكون الهدف معمقاً وواسعاً وأكيداً وشديداً،
بحيث يسع كل هذه التضحيات.
الشرط الثالث : أن يكون أمراً متحققاً، أما في الحال أو في الأستقبال. و لا يجوز أن
نطرح له هدفاً فاشلاً وغير متحقق أو غير قابل للتحقق . فإنه خلاف الحكمة الالهية .
و لايمكن أن ننسب ما هو فاشل وعاطل إلى الحكمة اللا متناهية.
مثال ذلك: أن الإمام الحسين عليه السلام لو كان قد استهدف النصر العسكري العاجل
أوازالة حكم بني أمية أو ممارسة الحكم في المجتمع فعلاً. فهذا ونحوه من الأهداف
القطعية الفشل . لأنها لم تحدث ولم يكن من الممكن أن تحدث . إذن فهو ليس بأمر
مستهدف ، وان تخيله بعض من المفكرين أوعدد منهم، الا أنه لا شك في بطلانه ، لأن
هدفه عليه السلام راجع إلى أهداف.
الحكمة الألهية، ومثل هذه الأهداف لا يمكن أن تكون فاشلة، لأن الله تعالى كما
هوحكيم هو قادر، فهو يستطيع أن ينفّذ ما في حكمته بكل تقدير.فلو استهدف الله سبحانه
هدفاً لحصل. وحيث أنه لم يحصل فهو اذن غير مستهدف.
الشرط الرابع: أنه يمكن أن يقال : ان من شروط فهم أهدافه عليه السلام، ان يكون
مذكوراً في كلامه. لأننا انما نعلم بالأمور من أصحابها وأهل الحل والعقد فيها.
وقديماً قال الشاعر : وأهل البيت أرى بالذي فيه. وليس لنا أن نضيف من عندنا شيئاً.
وانما نسمع منه سلام الله عليه مثل قوله: (( انما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي
رسول الله (ص) آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر))(100) . بعد أن وصف المجتمع بضعف
الدين وقلة الإلتزام بالتعاليم : (( ولم يبق من الدين الا صبابة كصبابة الاناء وخسة
عيس كالمرعى الوبيل. الأ ترون ان الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه))(101).
فالغرض من هذا العرض، هو أن الهدف إن كان مذكوراً في كلامه سلام الله عليه أخذنا
به، وان لم يكن قد ذكره أعرضنا عنه . ولم نعتبره هدفاً حقيقياً له.
الا أن هذا الشرط غير صحيح . لعدة أجوبة يمكن أن تورد ضده:
الجواب الأول : ضعف الروايات الناقلة لكلامه سلام الله عليه، اذن فلم يردنا عن طريق
صحيح بيان أهدافه سلام الله عليه. فلو اشترطنا ذلك لم يكن لنا طريق إلى معرفة
الأهداف اطلاقاً.
الجواب الثاني : أن هنا كقانوناً عرفياً وشرعياً ، متبعاً في التفاهم بين جميع
الناس، وان لم يكن يلتفت إليه الكثيرون بصراحة. وهو قانون : ((كلّم الناس
________________
(100) مقتل الخوارزمي ج1ص188 – مناقب بن شهر آشوب ج3ص241 نجف
(101) اللهوف لابن طاووس ص 34 – تاريخ الطبري ج3 ص225.
على قدر عقولهم)(102) والحسين عليه السلام. لا شك ان المجتمع في ذلك الحين لم يكن
يطيق فهم واستيعاب اهدافه الحقيقية من حركته، لأنه كان حديث عهد بالدين وبشريعة سيد
المرسلين، ولم يكن المجتمع يومئذ تربى بالمقدار المطلوب، وانما كان فهمه للدين
بسيطاً وتطبيقه للتعاليم قليلاً، ما عدا نفر يسير من الناس. وبالتالي لم تكن هذه
الألف وحوالي النصف من السنين قد مّرت وأثرت في تربية المجتمع وتكامل فهمه العقلي
والنفسي تكاملاً معتداً به . وكلما مرت السنين أكثر كان هذا التكامل اكثر لا محالة.
فإذا لم يكن بيان أهدافه ممكنا عندئذ، فخير له أن يطويها في نفسه وان يكتمها عن
غيره، وانما يقول للآخرين بمقدار ما هو ممكن فقط، مما لا يكون هو الهدف الحقيقي
لحركته عليه السلام. و لا أقل من احتمال ذلك . الأمر الذي يسقط به هذا الشرط
الرابع.
الجواب الثالث : على هذا الشرط: ان هناك بعض الأعمال يعتبر التصريح بأهدافها
افساداً لها ، وتكون عنذئذ عقيمة وغير منتجة، وهذا أحد التأويلات المهمة لما ورد((
استعينوا على أموركم بالكتمان)(103).
وما ورد : (( من أن التصريح بالشيء قبل انجازه موجب لافساده))(104) .
وهذا المعنى ظاهر للعيان بالتجربة، في كثير من الأمور الشخصية والعامة اذن فمن
المحتمل ان يكون تصريح الحسين عليه السلام بأهدافه قبل حركته، مفسد لها مخرب
لنتائجها . ومن هنا سيكون المتعين عليه كتمان ما يريده والصمت عما
_________________
(102) أصول الكافي ج1 ص67 حديث 15
(103) اسعاف الراغبين على هامش نور الأبصار للشبلنجي ص77 – بتصرف- تحف العقول
للبحراني ص 40.
(104) مرآة العقول لللمجلسي ج9 ص 186- بتصرف.
يستهدفه حفظاً للنتائج من الضياع اذ من المؤسف حقاً وجدا، وجود حركة مهمة من هذا
القبيل الذي قام به سلام الله عليه وتضحية ضخمة على هذا الغرار ، ومع ذلك لا تكون
منتجة ولا نافعة . اذن فمن الضروري أن تكتم أهدافه الحقيقية في سبيل صحتها
وانتاجها. اذن فهذا الشرط الرابع، وهو أن نتوقع سماع الأهداف منه عليه السلام، ليس
بصحيح . وهذا بخلاف، ما سوف نذكره بعون الله تعالى من الأهداف ، فإنها انما تاتي
بعد انجاز حركته ووجودها والقائها . بل بعد حصول عدد معتد به من نتائجها . وانما
يختص ما قلنا بالتصريح بالهدف قبل الحركة لا بعدها.
الأهداف المحتملة للحسين (ع)
ما يحتمل ان يكون هدفا للامام الحسين عليه السلام في حدود تفكيرنا وادراكنا، كما
يلي. نذكرها جميعاً لنرى ما هو صحيح منها وما هو قابل للمناقشة، بعد الالتفات إلى
أننا نفينا خلال الحديث السابق عن الشروط عدداً من الأهداف التي قد تخطر في الذهن.
كالانتصار العسكري المباشر أو مباشرة الحكم فعلاً ونحو ذلك، لأنها لم تكن جامعة
للشرائط . اذن فهي ليست هدفاً للحسين عليه السلام في حركته.اذن فينبغي ان نعرض عنها
الآن ونذكر غيرها مما يدور في الحسبان.
الهدف الأول : ان لا يبايع الحاكم الأموي يومئد كما طلب منه فإنه عليه السلام رفض
ذلك بكل قوة وصمود. كما ورد عنه أنه قال : (( ومثلي ليبايع مثله))(105) . فقد تحمل
القتل وهذه التضحيات الجسام في سبيل ترك هذه البيعة الدنيئة.
وقد يناقش هذا الهدف بعدة مناقشات، يحسن بنا أن نذكر المهم منها، لكي يتكامل فهمنا
لهذا الهدف في نفس الوقت من خلال الحديث:-
المناقشة الأولى : أنه كان يمكنه سلام الله عليه تجنب كلا الأمرين :
المبايعة ولاتضحية معاً فلماذا اختار التضحية مع امكانه تجنبها؟
غير ان هذه المناقشة بمجردها غير تامة. للوضوح التاريخي أنه عليه السلام كان مكرها
على أحد أمرين : المبايعة أو الشهادة (106)، ولم يكن في
______________
(105) اللهوف لابن طاووس ص 11 ابن نماص14 الخوارزمي ج1ص184
(106) البحار للمجلسي ج45 ص9 – اللهوف ص 41 – الخوارزمي ج2ص6
مستطاعة طبيعياً أن يتجنبهما معاً. لمدى الضغط العظيم الذي وجهته الدولة يومئذ عليه
طبعاً للمبايعة، وتهديداً بالموت ان تركها.
ويدل على هذا الأمر مضافاً إلى وضوحه التاريخي، الارتكاز العام لفهم الدولة الأموية
يومئذ . وكذلك ما فعل يزيد بن معاوية بسائر معارضيه من المحاربة والتنكيل ، ولم يكن
الحسين (ع) ببدع من ذلك، كما يعبرون.
ويدل عليه أيضاً ، ما ورد عنه عليه السلام من قوله (( الا وان الدّعي)(107) بن
الدّعي قد خيرني بين السلّة(108) والذلة. وهيهات منا الذلة يأبى الله ذلك ورسوله
والمؤمنين))(109) والدّعى بن الدعي هو الحاكم الأموي.والسلّة هو سل السيف للقتل،
والمراد به التهديد بالقتل. والذلة هوالمبايعة والدخول تحت السيطرة الأموية. وقوله
: وهيهات منا الذلة، يعني هيهات منا المبايعة كما يريد الحاكم الأموي. كما قال في
الخطبة نفسها: ((ان نؤثر بيعةاللئام على مصارع الكرام))(110) كما يدل على ذلك ما
ورد من ان الحكم القائم يومئذ دسّ في مكة أربعين من العتاة وبثهم ما بين الناس،
وأوصاهم ان يقتلوا الحسين عليه السلام ذلك ومن هنا خرج من مكة قاصداً المدينة
المنورة لكي كون مقتولاً خارج الحرم المكي الذي جعله الله آمنا وحرّم فيه كل أشكال
اهراق
____________________________
(107) الدّعي : المتهم في نسبه والذي يدعى غير أبيه – اقر الموارد ج1ص373 – مجمع
البحرين ج1 ص144 – بتصرف
(108) السلّة : سل الشيء من الشيء سلاً : انتزعه واخرجه في رفق كسل السيف من الغمد
– اقرب الموارد ج1ص535 – مجمع البحرين ج5ص398 – بتصرف
(109) اللهوف لابن طاووس ص 41 – مقتل الخوارزمي ج2ص6
(110) نفس المصدر
(111) أسرار الشهادة للدربندي
الدم حتى الصيد(112). فكره عليه السلام ان يكون سبباً لهتك هذا الحرم المقدس.
اذن ، فلم يكين مستطيعاً أن يتجنب كلا الامرين : البيعة والتضحية، معاً بل كان
مكرها أن يقبل باحدهما.وقد اختار لنفسه أعلاهما وأشرفهما وهو التضحية .
المناقشة الثانية : ان هذا الهدف انما هو هدفه الشخصي من حركته، ونحن نريد التعرف
على ما يكون محتملاً من أهداف الحكمة الألهية في ذلك.
وقد أشرنا في مقدمات هذا البحث . على ثبوت كلا هذين النحوين من الأهداف . غير أن
هذه المناقشة ايضاً لا تتم لعّدة وجوه . نذكر المهم منها:-
أولاً: أن انقسام الأهداف كما ذكرنا وإن كان صحيحاً . غير ان الباحث او المفكر، كما
يطمح ان يتعرف على الهدف الثابت في الحكمة الإلهية ، يطمح ايضاً ان يتعرف على الهدف
الشخصي سواء بسواء.
فالقول : باختصاص الطموح بأحد النوعين من الأهداف دون الثاني قول بلا موجب.
اذن ، فحتى لو كان عدم المبايعة هدفاً شخصياً، فنحن يحسن بنا ان نلتفت اليه ونأخذه
بنظر الإعتبار.
ثانياً : ان عدم المبايعة هنا ، كما هو هدف شخصي للحسين عليه السلام، هو هدف للحكمة
الالهية ايضاً. وأوضح سبيل إلى ايضاحه ان نقيس الأمر بحصول المبايعة. فكم سوف يحصل
من المفاسد بوجودها، وكيف يتغير الدين الخالص ، ويبقى متغيراً فاسداً – وحاشاه –
إلى يوم القيامة. وهذا بكل تأكيد خلاف الحكمة الالهية . اذن فوجود البيعة مخالفاً
للحكمة الالهية ، فيكون
________
(112) سورة الأعراف آية (94-96)
عدمها موافقاً لها لا محالة
المناقشة الثالثة : لهذا الهدف- أنه هدف وقتي منوط فمحالة بحياة الإمام الحسين عليه
السلام. كما هو منوط بحياة الحاكم الأموي . لوضوح انه لا معنى للمبايعة لدى موت
أحدهما. ونحن انما نريد الإطلاع على الأهداف الدائمية لا الأهداف الوقتية . غير أن
هذه المناقشة غير صحيحة . ونورد عليها ما يشبه الوجهين اللذين أوردناهما على
المناقشة السابقة.
أولاً : أن هذا الهدف وان سلمنا انه هدف وقتي، الا ان اختصاص تعرّف الباحب أو
المفكر بالأهداف الدائمة وغير الوقتية، بلا موجب، بل نحن نريد التعرف على كلا
الشكلين من الأهداف..
ثانياً : أن هذا الهدف وان كان منوطاً بحياة هذين الشخصين، الا أنه – مع ذلك- ليس
وقتيا بل مستمراً. ولنا ان نقيس ذلك إلى صورة حصول المبايعة. فكما ان المفاسد مع
حصول المبايعة سوف لن تكون وقتية بكل تأكيد، كذلك المصالح والأهداف الناتجة عن ترك
المبايعة سوف لن تكون وقتية. ويكفي بها ان تكون تخلصاً ودفعاً لتلك المفاسد
المستمرة. اذن فهي اهداف مستمرة.
المناقشة الرابعة: لهذا الهدف . أن الإمام الحسني عليه السلام لم يكن مضطراً أو
مكرهاً على هذين الأمرين: البيعة أو التضحية . بل كان يمكنه ان يتجنبهما معاً.كما
قلنا في المناقشة الأولى . ولكننا قلنا هناك: انه يمكنه ان يتجنبهما وهو مرتاح في
بلده. ولم يكن هذا صحيح كما عرفناه.
أما هنا فنقول : انه كان يمكنه أن يخرج إلى بلاد بعيدة لا تنالها يد الأموين ،
كاليمن أو الهند أو الأفغان أو غيرها لنجوا من القتل والبيعة معاً.
وخاصة وان الدول في ذلك الحين لم تكن تملك امكانيات الدول الحاضرة. ولم
يكن في استطاعتها الحرب في الأماكن البعيدة وقد ورد عن بعض ناصحيه والمشفقين عليه
من الخروج(113) هذا المعنى. فلماذا لم يفعل؟ وجواب ذلك يتم في وجوه . نذكر أهمها:-
أولاً : ان ما قاله المستشكل من ضعف الدول القديمة وان كان صحيحاً، إجمالاً الا انه
ليس صحيحاً تماماً. اذ يكفي ان تصور كيف سار الفتح الأسلامي في ذلك القرن الأول
نفسه. بل قبل مقتل الحسين عليه السلام إلى العراق وايران وسوريا وفلسطين ومصر وأذلّ
الجبابرة والقياصرة والأكاسرة. فكيف حصل ذلك الا باستعداد تام ومعنويات عالية.
كما يكفي أن نتذكر كيف خاض الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، قبل مقتل الحسين بمدة
طويلة حروباً مروّعة كصفين والنهروان . أما عن الحديث عن حروب الجاهلية السابقة على
الاسلام فحدث و لا حرج.
اذن ، فالناس في ذلك الحين ، كانوا مقاتلين شجعاناً . ومتدربين على تحمل أنواع
المصاعب في سبيل ما يطمحون إليه من الأهداف أو ما يؤمرون به من الأغراض . اذن فمن
المحتمل جداً، بل السائغ تماماً، ان نتصور ان الحسين عليه السلام أينما ذهب فسوف
يرسل الحاكم الأموي خلفه جيشاً عرمرماً(114) للقضاء عليه وقتله او أن يدس إليه من
يقتله غيلة أينما وجده. وليس كل ذلك على المفسدين ببعيد.
اذن فهذا التخيير بين السلّة واللذة ) أو ( البيعة والتضحية) كان عليه السلام مكرها
عليه في كل وجه الأرض المنظور يومئذ بكل تأكيد. ولم يمكن النجاة منه على أي حال.
________________
(113) ومنهم ( محمد بن الحنفية وعبد الله بن عباس) تاريخ الطبري ص219 الكامل في
التاريخ ج4 ص7 وص16
(114) عرمرماً الشديد والجيس الكبير (قرت الموارد ج2 ص773)
ثانياً : ان الأمام الحسين عليه السلام لو ذهب بعيداً، لأرجف عنه أعداؤه انه ذهب
منهزماً عن المواجهة وفاراً من الملاقاة ولو صفوه بكل عظيمة. والأعلام يومئذ وفي كل
يوم على استعداد لذلك على أي حال. وهذا ما لا يريده لنفسه بعد أن كان يعيش من نقطة
قوة وبروز في المجتمع بصفته سبط الرسول (ص) وابنه وسيد شباب أهل الجنة والإمام
المفترض الطاعة لطائفة من المسلمين.
كيف، ونحن نجد أعداءه قد أرجفوا ضده، بالرغم من تضحيته وصبره وصموده. فكيف كان عليه
الحال لو اختار الاحتمال الآخر. وان كان يدرك ان فيه بعض المصالح على أي حال. يكفي
ان هذا الارجاف عندئذ يستطيع ان يسيطر في المجتمع الجاهل. وان يسلب بعض نقاط القوة
التي كان يعيشها الحسين عليه السلام فقد لا يكون عندئذ ناجحاً في عمله. حتى لو ذهب
إلى مكان بعيد.
ثالثاً: اننا لا ينبغي أن نتوقع أن يذهب الحسين عليه السلام إلى أي نقطة من العالم
كيف كانت. ولذا لم يذكر له الذين ناقشوه على الخروج إلا منطقة واحدة هي اليمن.
وقالو له : (ان فيها شيعة لابيك)(115) . لأن أباه أمير المؤمنين عليه السلام ذهب
إلى اليمن بأمر النبي (ص) ردحا من الزمن ورآه اليمنيون وأحبوه.
أما ذهابه إلى مناطق اخرى. فغير معقول إطلاقاً إمّ لكونهم ضد الحسين عليه السلام،
كما حصل في الكوفة وكربلاء، وأما لانهم غير مسلمين أساساً، وأما لأنهم غير عرب
أساساً . يتعذر العيش معهم لاختلاف لغتهم. وأما لأنهم متخلفون حضارياً بحيث يضيع
وجوده بينهم وينقطع خبره عن الآخرين. وكل
_______________________
(115) الخوارزمي ج1ص188 – مناقب بن شهر آشوب ج2ص240 ط نجف
ذلك غير معقول ولا يريده الحسين لنفسه.
وأكرر الآن : ان المكان الوحيد البعيد الذي كان مناسباً نسبياً، لم يكن الا اليمن،
وهو الوحيد الذي ذكروه له. الا أنه رفضه. وكان رفضه بحسب فهمنا معتمداً على الوجهين
الأولين اللذين قلناهما قبل قليل لهذه المناقشة فراجع وفكر. مضافاً إلى أمور آخرى
تعرفها من أجوبة المناقشات السابقة.
وحيث لم تتم مناقشة واحدة لهذا الهدف الحسيني الجليل. اذن يتعين الاخذ به، وهو ترك
البيعة ليزيد بن معاوية، واختيار التضحية عليه. فاذا تم هدف آخر فيما يلي، كان
نوراً على نور. والا ففي هذا الهدف الكفاية.
الهدف الثاني : الممكن لحركة الحسين عليه السلام. الامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى
اياه بها، ذلك الأمر المعروف لديه اما بالالهام أو بالرواية عن جده النبي (ص)(116)
. وكان يطلب ثواب الله وجزاءه الآخروي على ذلك تماماً كما يفعل أي مؤمن حين يؤدي أي
واجب ديني كالصلاة أو الصوم او الحج.
ويدل على ذلك : ما ورد عن جده (ص) أنه قال له في المنام : (( يابني : انه لا بد لك
من الشهادة وان لك درجات عند الله عزوجل لن تنالها الا بالشهادة))(117) . كما يدل
عليه ما ورد : انه بعد مقتله عليه السلام وضعت أخته الحوراء زينب سلام الله عليها
يديها تحت جسده الطاهر وقالت : ((اللهم تقبل منا هذا القربان))(118) . لوضوح ان
القبول انما يكون لعمل من أعمال الإمتثال والطاعة.
وهذا الهدف، صحيح بكل تأكيد ، كما انه بكل تأكيد هدف شخصي
__________________
(116) البحار للمجلسي ج44 ص328 أسرار الشهادة للدربندي ص224
(117) أمالي الصدوق . مجس 30ص135 الخوارزمي ج1ص187 البحار ج44ص328
(118) الكبريت الأحمر ج3ص13 عن الطراز المذهب.
له وليس من أهداف الحكمة الالهية في حركته. فان الحكمة الالهية وان كانت تريد
امتثاله وطاعته سلام الله عليه. الا أن هذا مما يعود إليه لا أنّه يعود على غيره.
والأهداف التي نتحدث عنها انما هي الأهداف التي تعود إلى غيره بالنفع. مما قلنا انه
من أهداف الحكمة الألهية من حركته. في حدود ما نستطيع تعقله. الا اننا قلنا في نفس
الوقت. ان الطموح غير خاص بالأهداف العامة، بل تشمل الأهداف الخاصة أيضاً. مضافاً
إلى امكان أن يقال بكل تأكيد - أيضاً- : ان عدم انتفاع الآخرين من هذا الهف غير
صحيح اطلاقاً. لا في الدنيا ولا في الآخرة. أما في الدنيا : فلما سنذكره من الأهداف
الاتية من أن حركته أوجبت هداية الناس وتعريفهم أهمية الدين ولزوم التضحية له عند
الحاجة بالنفس والأهل والمال والولد . وأن طاعة الله سبحانه لازمة على كل حال. واما
في الآخرة : فلأنه عليه السلام أصبح واسع الشفاعة يوم القيامة. أكثر من أي واحد من
المعصومين الآخرين سلام الله عليهم . كما ثبت في محله ووردت عليه بعض النصوص(119) .
ولم يكن لينال هذه المنزلة لولا تلك المقامات والدرجات التي حصلت له بالشهادة
نفسها.
اذن فالأمر كما يعود إليه يعود إلى غيره، والرحمة الالهية عام للجميع .
الهدف الثالث : الذي قد يخطر في بعض الأذهان لحركة الحسين عليه السلام: هو الانتصار
العسكري المباشر أو قل : ازالة الحكم الأموي فورياً.
وهذا مما سبق أن أشرنا إلى نفيه خلال حديثنا عن الشروط السابقة(120) ولكننا نذكره
الآن لان عدداً من الناس بما فيهم بعض المفكرين قد يتصورونه .
وقد يستدل عليه بما ورد من أنه قيل لمسلم بن عقيل سلام الله عليه حسي تألب عليه
الأعداء في الكوفة : (ان الذي يطلب ما تطلب لا يبكي اذا نزل به ما
_____________
(119) الخصائص الحسينية للتستري ص14 (ط) – والبحار للمجسي ج98ص16 (ط)
(120) الشرط الثالث من باب حدود أهداف الحسين فراجع.
نزل بك)(121) . اذن فهو يطلب السيطرة على الحكم أعني من الناحية الدينية ، ويدافع
عن هذا الهدف ضمن دفاع الحسين عليه السلام لأنه رسوله إلى الكوفة . غير ان صحّة هذا
الهدف تتوقف على أمور لو تم أي واحد منها أمكن قبوله والا فلا.
الأمر الأول : أن نتصور الإمام الحسين قائداً دنيوياً قد تخفى عليه بعض النتائج وأن
عدم سيطرته الفعلّية على الحكم أمر لم يكن يتوقعها أول الأمر. ثم أصبح مغلوباً على
أمره متورطاً في فعله.
وقد سبق أن ناقشنا ذلك مفصلاً، وعلمنا أنه عليه السلام عالم بالنتائج قبل حدوثها.
أما بالالهام أو بالرواية عن جده (ص) ومن هنا فمن غير المعقول ان نجرد منه قائداً
دنيوياً مهما كان عبقرياً.
الأمر الثاني : أن يكون هذا الهدف الذي يقال أو أي هدف يقال، جامعاً للشرائط. لأنه
ينقص منه شرط واحد وهو التحقق فعلاً . فإن هذا الهدف لم يتحقق أصلاً قطعاً. فلا
ينبغي أن نعتبره هدفاً كما سبق أن برهنا عليه هناك.
الأمر الثالث : أن نفهم من التاريخ أن انتصار الحسين وفوزه المباشر على أعدائه أمر
محتمل ، وأن احتماله وارد ومعقول بحيث يكون استهدافه أمراً معقولاً. وأما اذا كان
في نفسه أمراً غير محتمل، كما يعرفه جماعة من حذاق المجتمع ومفكريه . بما فيهم
الذين ناقشوه في الخروج إلى الجهاد(122) . اذن ، فلا يكون استهداف مثل هذا الهدف
معقولاً عرفاً وعقلائياً وسياسياً، فضلاً عن الالتفات إلى العلم الإلهي والحكمة
الإلهية.
الهدف الرابع : المحتمل لحركة الإمام الحسين عليه السلام
_____________
(121) مقتل الخوارزمي ج1ص211 – الطبري ج6ص211 - الارشاد للمفيد ص214
(122) مرّ ذكرهم سابقاً فراجع.
فضح بني أمية ومن كان على شاكلتهم من يومه إلى يوم القيامة، بأنهم ليسوا فقط ظالمين
لانفسهم بينهم وبين الله سبحانه. بل ولا ظالمين للناس في حكمهم غير العادل فحسب
وانما الأمر أكثر من ذلك فانهم على استعداد أن يقتلوا الرجال والأطفال وأن يسبوا
النساء وأن يقتلوا خير الخلق الموجودين على وجه الأرض من أجل التمسك بالحكم أو
الكرسي. وهذا معناه انهم مستعدون أن يقتلوا أي إنسان أو أي عدد من الناس مهما كثر
عدده أو كثرت أهميته، في سبيل ذلك. كما أن معناه عدم وجود عاطفة الانسانية في
قلوبهم على الاطلاق . كما أن معناه أنهم على استعداد أن يفعلوا أي منكر آخر مما
يرتبط بالملك أو لا يرتبط ، بعد أن انسلخوا تماماً عن الانسانية وعن الورع وعن
المحارم.
وهذا الهدف صحيح وواقعي . وقد حصل فعلاً على اثر واقعة كربلاء مباشرة و لا زال ساري
المفعول وسيبقى إلى يوم القيامة ضد بني أمية الحكام السابقين، وضد أضرابهم من
الظالمين من البشر إلى قيام يوم الدين.
ومن هنا فإني أعتقد أن هذا الحاكم الأموي قد أخطأ خطاً كبيراً حين سود صحيفة أعماله
بأمور كثيرة و منكرات فضيعة جداً. واوجب سوء ظن الناس والتاريخ به وبعشيرته وأمثاله
باستمرار . مضافاً إلى غضب الله سبحانه. وذلك أنه فعل ثلاثة أمور مهمة مضافاً إلى
منكراته السخصية أهمّها قتل الحسين عليه السلام وجيشه في كربلاء والتنكيل
فضيعا(123) . مضافاً إلى رمي الكعبة بالمنجانيق وكان بمنزلة القصف المدفعي في
زماننا، اذ يشعلون النار في بعض المواد ويقذفونها بعيداً على العدو بواسطة الآلة
القاذفة التي تسمى بالمنجنيق. وقد بقيت الكعبة المشرفة تحت هذا القصف المركز أياماً
بلياليها(124).
__________________
(123) الامامة والسياسة لابن قتيبة ج2ص5
(124) نفس المصدر ج2ص10
هذا مضافاً إلى واقعة الحرة، بقيادة مسلم بن عقبه الذي أباح المدينة المنورة ثلاثة
أيام كاملة قتلاً ونهباً وسلباً وأعتداء على الأموال والنساء والأطفال، بشكل لم
يسبق له مثيلاً(125)
_______________________
(125) نفس المصدر ج1ص179
- ويحسن أ، نشير إلى خلافة يزيد وما أرتكب فيها من جرائيم حيث بدأت خلافة يزيد بن
معاوية في آواخر سنة 61هـ وانتهت بوفاته في النصف الأول من سنة 64هـ وبذلك لتكون
مدة حكمه ثلاث سنوات تقيريباً ارتكب فيها أبشع وأقبح جرائم في التاريخ البشري بشكل
عام والاسلامي بشكل خاص ففي السنة الأولى قتل سبط الرسول وسيد شباب أهل الجنة وسبي
نساءه وقتل عيالة وشردهم وروعهم ومثّل بالأجساد الطاهرة فأبان الرؤوس عن الأجساد
فحملت فوق الرماح يطاف بها من بلد إلى بلد وبذلك صنع مع آل الرسول مالا يصنع معم
الترك أو اليهود أن القوم الكافرين. وفي السنة الثانية أقدم عل ىجريمة بشعة لم يرو
لها مثيل في التاريخ وهي واقعة الحرة وسميت بهذا الأسم نسبة إلى منطقة الحرة والتي
هي قرب المدينة المنورة. وذلك أنه لما أنكر أهل الدينة أفعال يزيد وموبقاته وكيفية
قتل الحسين وأهل بيته وأسر نساءه وفعله للمحرمات حتى وصل به الحال إلى الزنى
بالمحارم، فيقول ابن سعد في الطبقات الكبرى وابن الأثير في الكامل : (ان عبد الله
بن حنظلة غسيل الملائكة خطب في أهل المدينة خطبة قال فيها: (فو الله ما خرجنا على
يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء. إن رجلاً ينكح الأمهات والبنات والأخوات
ويشرب الخمر ويدع الصلاة. والله لو لم يكن معي أحد من الناس لابليت لله فيه بلاء
حسناً). فغضب يزيد من ذلك فأرسل جيشاً مؤلفاً من ثلاثين الف من أهل الشام وعليهم
مسلم بن عقبة وقد قال له (السيف السيف أجهز على جريحهم وأقبل على مدبرهم واياك ان
تبقى عليهم) . فيقع ثلاثون ألفاً من أهل الشام مدججون بالأسحلة الكاملة في أهل
المدينة قتلاً وذبحاً ثلاثة أيام . وخطب مسلم بن عقبة قائلاً : (هذه المدينة لكم
مباحة ثلاثة أيام دمائها ونسائها وأموالها). وذكر المؤرخون أنه بلغ عدد قتلى الحرة
يومئذ من قريش والأنصار والمهاجرين وأصحاب رسول الله (ص) ألفاً وسبعمائة ، ومن سائر
الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان وقد نقل المؤرخون صور مروعة عن هذه الفاجعة
فمثلاً ما نقل عن أبي معشر حين قال : (ان رجلاً من أهل الشام دخل على امراآ نفساء
من نساء الانصار ومعها صبي لها فقال لها : هل من مال؟ قالت لا والله ما تركوا لي
شيئا فال : والله لتخرجين إلي شيئا أو لاقتلنك وصبيك هذا فقالت ويحك انه ولد بن أبي
كبش الأنصاري صاحب رسول الله (ص) وقد بايعه يوم بيعة الشجرة على أن لا أزني ولا
أسرق ولا أقتل ولدي. .... فما اتيت شيئاً فاتق الله ثم قالت لابنها يا بني والله لو
كان عندي شيء لافتديتك به. قال : فأخذ الشامي برجل الصبي والثدي في فمه =
الهدف الخامس : المحتمل لثورة الحسين عليه السلام:
هو طلب الاصلاح أو محاولة الاصلاح في الأمة المسلمة أمة جده رسول الله (ص). وهذا هو
الذي روي عنه عليه السلام حين يقول : (( والله ما خرجت آشراً ولا بطراً ولا ضالماً
وانما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي رسول الله (ص) آمر بالمعروف وانهى عن المنكر
))(126) . وذلك حين رأى سلام الله علهي أ، الدين قد تغير عن القلوب وأن المعروف لا
يعمل به وأن المنكر لا يتناهى عنه . وأنه لم يبقى منه صبابة الا كصبابة الاناء أو
خساسة عيش
_______________________
= فجذبه من حجرها وضرب به الحائط فأنثر دماغه على الأرض أمام أمه). ويدخل القوم
المدينة وتجول خيولهم فيها فيقتلون وينهبون فما تركوا في المنازل من أثاث ولا حلي
ولم يتركوا فراشاً غلا نفضوا صوفه ولم يتركوا حتى الحمامة والجداج الا كانوا
يذبحونها فهذا أبو سعيد الخدري صاحب رسول الله (ص) يدخلون عليه فينتفون لحيته
ويضربوه ضربات ثم يأخذون كل ما يجدون في بيته حتى الصوف وحتى زوج حمام كان له
بالرغم من أنه عرف لهم نفسه. والأفظع والأدهى من ذلك كله إباحة مسلم بن عقبة بأمر
من يزيد نساء المدينة المنورة لجيش الشام ثلاثة أيام وكأنهن لسن مسلمات أو انهن
ساري حرب غير المسلمين وهذه الجريمة النكراء ارتكبت عند قبر النبي (ص) وفي حرم
النبي وحمى النبي فنادى مناد (مسنم) في أهل الشام: ( يا أهل الشام أن اميركم مسلم
بن عقبة بأمر من أمير المؤمنين يزيد بن معاوية اباح لكم هذه المدينة كلها ثلاثة
أيام ومن زنى بأمرأة فذاك له). فوقع جيش الشام في الزنا بالمسلمات وفيهن بنات
المهاجرين والانصار وفيهن ذوات الأزواج وفيهن الأبكار..........
وأما في السنة الثالثة فأن خليفة المسلمين يبعث بجيش جرّار إلى مكة المكرمة لحصار
عبد الله بن الزبير فرموا الكعبة المقدسة بأحجار صخام ونار من المنجنيق حتى حطموها
وأحرقوها ولم يبق منها سوى المدر فهذه ثلاث سنوات حكمها الطاغية فعمل بها تلك
الجرائيم الكبرى وليت شعري لوكان عاش اكثر من ذلك ماذا كان يفعل ؟؟؟.
راجع دائرة معارف القرن العشرين ج4 الامامة والسياسة لابن قتيبة السفينة ج1 ناسخ
التواريخ (مجلد زين العابدين) شواهد التنزيل ج1 ص345 تاريخ الطبري والكامل لابن
الأثير (وقائع سنة 61....64هـ) تاريخ الفتوح لابن اعتم ج5.
(126) مقتل الخوارزمي ج1ص188 مناقب بن شهر آشوب ج3ص241ط نجف – أسرار الشهادة
للدربندي ص191.
كالمرعى الوبيل. كما يستفاد من الكلام المروي (127)عنه سلام الله عليه.
وهذا هدف محترم جداً، وكان الحسين (ع) أهلاً له الا انني أعتقد أن الاصلاح المقصود
على قسمين اصلاح يحصل منه مباشرة قبل مقتله واصلاح يحصل من المجتمع بعد مقتله وبسبب
شهادته. وهو أيضاً اصلاح منسوب إليه ويمكن أن يكون قد تعمده واستهدفه.
أما الأصلاح المباشر في حياته، فهو لا يحتمل ان يكون هدفاً. لأنه فاقد لأحد الشرائط
السابقة. وهو عدم التحقق في المجتمع. وقد كررنا ان الأمر الذي لم يتحقق لا يمكن أن
يكون هدفاً.
وقد يخطر في البال : أن الأصلاح المباشر قد حصل خلال الخطب والأقوال التي قيلت من
قبل الحسين نفسه وأصحابه وأهل بيته قبل مقتله وهذه تكفي للمشاركة بالاصلاح مشاركة
فعلية وفعّأة.
وجواب ذلك : أن الخطب والأقوال قد حصلت فعلاً ، الا أنها كانت مكرسة كلها لأجل
الحديث عن حركة الحسين وشرح أبعاها والدفاع عنها . ومعه فلا تكون هي الاصلاح
المعهود والموعود وانما التوقع هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جوانب الدين
عامة وفي فروعه كافة . وهو ما لم يحصل على الاطلاق. لأن الأجل لم يمهله عليه السلام
وأصحابه للقيام بهذه المهمة الشريفة الموعودة .
وانما الذي حصل هو الهداية والرعاية للبشر دينياً ومعنوياً وانسانياً وآخروياً
بمقتله وشهادته سلام الله عليه. أذا أعطى المثال الأعظم للتضحية الصخمة بهذا الصدد.
فكان النبراس الأفضل الذي يضء للاجيال طريقهم باستمرار وإلى يوم القيامة.
_____________
(127) اللهوف لابن طاووس ص34 الطبري ج6ص229 البحار للمجلسي ج44ص381