مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

كتاب مقدمات في التفسير الموضوعي للقرآن


من ان يرى شيئا آخر غير الله حتى حينما كان يرى الناس ، كان يرى فيهم عبيد الله ، حتى حينما كان يرى النعمة الموفورة كان يرى فيها نعمة الله سبحانه وتعالى دائما هذا المعنى الحرفي ، هذا الربط بالله دائما وابدا يتجسد امام عينه لان محبوبه الاوحد ، ومعشوقه الاكمل ، قبلة آماله وطموحاته ، لم يسمح له بشريك في النظر ، فلم يكن يرى الا الله سبحانه وتعالى . هذه هي الدرجة الثانية نفس التقسيم الثنائي يأتي في حب الدنيا ، الذي هو رأس كل خطيئة على حد تعبير رسول الله (ص) ، حب الدنيا يتخذ درجتين : الدرجة الاولى أن يكون حب الدنيا محورا للانسان ، قاعدة للانسان في تصرفاته وسلوكه يتحرك حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتحرك ويسكن حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يسكن ، يتعبد حينما تكون المصلحة الشخصية في أن يتعبد وهكذا ، الدنيا تكون هي القاعدة ، لكن أحيانا أيضا يمكن ان يفلت من الدنيا ، يشتغل اشغال أخرى نظيفة ، طاهرة ، قد يصلي لله سبحانه وتعالى ، قد يصوم لله سبحانه وتعالى ، لكن سرعان ما يرجع مرة أخرى الى ذلك المحور وينشد اليه ، فلتات يخرج بها من اطار ذلك الشيطان ثم يرجع الى الشيطان مرة أخرى ، هذه درجة أولى من هذا المرض


( 207)

الوبيل ، مرض حب الدنيا ، واما الدرجة الثانية من هذا المرض الوبيل فهي الدرجة المهلكة ، حينما يعمي حب الدنيا هذا الانسان ، يسد عليه كل منافذ الرؤية ، يكون بالنسة الى الدنيا كما كان سيد الموحدين وأمير المؤمنين النسبة الى الله سبحانه وتعالى ، انه لم يكن يرى شيئا الا وكان يرى الله معه وقبله وبعده حب الدنيا في الدرجة الثانية يصل الى مستوى بحيث ان الانسان لا يرى شيئا الا ويرى الدنيا فيها وقبلها وبعدها ومعها ، حتى الاعمال الصالحة تتحول عنده وبمنظاره الى دنيا ، تتحول عنده الى متعة ، الى مصلحة شخصية حتى الصلاة ، حتى الصيام ، حتى البحث ، حتى الدرس ، هذه الالوان كلها تتحول الى دنيا لا يمكنه ان يرى شيئا الا من خلال الدنيا ، الا من خلال مقدار ما يمكن لهذا العمل ان يعطيه ، يعطيه من حفنة مال أو من كومة جاه لا يمكن ان يستمر معه الا بضعة أيام معدودة ، هذه هي الدرجة الثانية وكل من الدرجتين مهلكة والدرجة الثانية أشد هلكة من الدرجة الاولى ولهذا قال رسول الله (ص) : « حب الدنيا رأس كل خطيئة » ، قال الامام الصادق (ع) : « الدنيا كماء البحر من ازداد شربا منه ازداد عطشا » . لا تقل فلأأخذ هذه الحنفة من الدنيا ثم أنصرف عنها


( 208 )

فلأحصل على هذه المرتبة من جاه الدنيا ثم انصرف الى الله ليس الامر كذلك فان أي مقدار تحصل عليه من مال الدنيا ، من مقامات هذه الدنيا الزائلة ، سوف يزداد بك العطش والنهم الى المرتبة الاخرى ، « الدنيا كماء البحر » ، « الدنيا رأس كل خطيئة » . الرسول (ص) يقول : « من أصبح واكبر همه الدنيا فليس له من الله شيء » . هذا الكلام يعني قطع الصلة مع الله ، يعني ان ولائين لا يجتمعان في قلب واحد ، من كان ولاءه للدنيا ، فليس له من الله شيء » ، ليس له صلة مع الله سبحانه وتعالى لان ولائين لا يجتمعان في قلب واحد ، « حب الدنيا رأس كل خطيئة » لان حب الدنيا هو الذي يفرغ الصلاة من معناها ويفرغ الصيام من معناه ويفرغ كل عبادة من معناها ، ماذا يبقى من معنى لهذه العبادات ، اذا استولى حب الدنيا على قلب الانسان ، أنا وأنتم نعرف أن أولئك الذين نآخذهم على ما عملوا مع امير المؤمنين ، اولئك لم يتركوا صلاة ، ولم يتركوا صياما ، ولم يشربوا خمرا ، على الاقل عدد كبير منهم لم يقوموا بشيء من هذا القبيل ، لكنهم مع هذا ما هي قيمة هذه الصلاة ، وما هي قيمة هذا الصيام ، وما هي قيمة العفة عن شرب الخمر اذا كان حب الدنيا هو الذي يملأ


( 209 )

القلب . ما قيمة صلاة عبد الرحمن بن عوف ، عبد الرحمن بن عوف كان صحابيا جليل القدر ، كان من السابقين الى الاسلام ، كان ممن أسلم والناس كفار ومشركون تربى على يد رسول الله (ص) ، عاش مع الوحي ، مع القرآن ، مع آيات الله تترى ، لكن ماذا دهاه ؟ ماذا دهاه حينما فتح الله على المسلمين بلاد كسرى وقيصر ، وكنوز كسرى وقيصر ، ماذا دهى هذا الرجل المسكين ؟ هذا الرجل المسكين ملأ قلبه حب الدنيا ، كان يصلي وكان يصوم ، ولكن ملأ قلبه حب الدنيا حينما وقف في خيار واحد بين عثمان وعلي ( ع ) ، إما ان يكون عثمان خليفة المسلمين وإما ان يكون علي خليفة المسلمين وهو يعلم أنه لو أعطى هذه الخلافة لعلي لاسعد المسلمين الى أبد الدهر ولكنه يعلم أيضا انه حينما يعطيها الى عثمان فقد فتح بذلك باب الفتن الى آخر الدهر يعلم بذلك وقد سمع ذلك من عمر نفسه أيضا ، ولكنه في هذا الخيار غلب حب الدنيا على قلبه ، ضرب على يد عثمان وترك يد علي مبسوطة تنتظر من يبايع ، جعل عثمان خليفة ، وأقصى علي (ع) عن الخلافة ، قد تقولون أن هذه معصية هذا كترك الصلاة ، لان رسول الله (ص) جعل عليا خليفة بعده بلا فصل هذا صحيح ، تولي علي بن أبي طالب أهم


( 210 )

الواجبات ، ولكن افرضوا وفرض المحال ليس بمحال ، لو أن رسول الله لم ينص على علي بن ابي طالب . أكان هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف مهضوما ، أكان هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف صحيحا ؟ ، لو تركنا كل نصوص الرسول ! وتركنا حديث الغدير وحديث الثقلين ! لو تركنا كل ذلك ، لكن بمنطق حب الله وحب الدنيا ، بمنطق الحرص على الاسلام بمنطق الغيرة على الدين والمسلمين ، أكان هذا الموقف من عبد الرحمن بن عوف سليما ، ان يطرح يد علي (ع) مبسوطة دون أن يبايعها ويبايع انسانا غير جدير بأن يتحمل الامانة ، ان يبايع عثمان بن عفان . اذن المسألة هنا ليست فقط مسألة نص وانما المسألة هنا مسألة حب الدنيا ، مسألة خيانة الامانة لان حب الدنيا يعمي ويصم ، حب عبد الرحمن بن عوف للدنيا أفقد الصلاة معناها ، أفقد الصيام معناه ، أفقد شهر رمضان معناه ، أفقد كل شيء مغزاه الحقيقي ومحتواه النبيل الشريف « حب الدنيا رأس كل خطيئة » وحب الله سبحانه وتعالى اساس كل كمال ، حب الله هو الذي يعطي للانسان الكمال ، العزة ، الشرف ، الاستقامة ، النظافة ، القدرة على مغالبة الضعف في كل الحالات ، حب الله سبحانه وتعالى هو الذي جعل اولئك السحرة ،


( 211 )

يتحولون الى رواد على الطريق ، فقالوا لفرعون « فاقض ما انت قاض ، انما تقضي هذه الحياة الدنيا » كيف قالوا هكذا ؟ لان حب الله اشتعل في قلوبهم فقالوا لفرعون بكل شجاعة وبطولة « فاقض ما انت قاض ، انما تقضي هذه الحياة الدنيا » حب الله هو الذي جعل علياً عليه الصلاة والسلام دائما يقف مواقف الشجاعة ، مواقف البطولة ، هذه الشجاعة ، شجاعة علي (ع) ليست شجاعة السباع ، ليست شجاعة الأسود ، وانما هي شجاعة الايمان وحب الله ، لماذا ؟ لان هذه الشجاعة لم تكن فقط شجاعة البراز في ميدان الحرب ، بل كانت احيانا شجاعة الرفض ، احيانا شجاعة الصبر ، علي بن ابي طالب ضرب المثل الاعلى في شجاعة المبارزة في ميدان الحرب شد حزامه وهو ناهز الستين من عمره الشريف وهجم على الخوارج وحده فقاتل أربعة آلاف انسان ، هذه قمة الشجاعة في ميدان المبارزة ، لان حب الله اسكره ! فلم يجعله يلتفت أن هؤلاء أربعة آلاف وهو واحد ! وضرب قمة الشجاعة في الصبر ، في السكوت عن الحق ، حينما فرض عليه الاسلام أن يصبر عن حقه وهو في قمة شبابه ، لم يكن في شيخوخته ، كان في قمة شبابه ، كانت حرارة الشباب ملء وجدانه ، ولكن الاسلام قال له اسكت ، اصبر عن حقك حفاظا على


( 212 )

بيضة الدين ، ما دام هؤلاء يتحملون حفظ الشعائر الظاهرية للاسلام وللدين ، سكت ما دام هؤلاء كانوا يتحفظون على الظواهر والشعائر الظاهرية للاسلام والدين ، وكان هذا قمة الشجاعة في الصبر ايضا ! هذه ليست شجاعة الاسود ، هذه شجاعة المؤمن الذي اسكره حب الله ! وكان قمة الشجاعة في الرفض ، وفي الأباء حينما طرح عليه ذلك الرجل ان يبايعه على شروط تخالف كتاب الله وسنة رسوله بعد مقتل الخليفة الثاني ، ماذا صنع هذا الرجل العظيم ؟ هذا الرجل العظيم الذي كان يحترق لان الخلافة ذهبت من يده ، يحترق من أجل الله !! لا من أجل نفسه ، يقول « ولقد تقمصها ابن ابي قحافة وهو يعلم ان محلي منها محل القطب من الرحى » ، هذا الرجل الذي كان يحترق لان الخلافة خرجت من يده ، لو ان انسانا يقرأ هذه العبارة وحدها لقال ما أكثر شهوة هذا الرجل الى السلطان والى الخلافة ! لكن هذا الرجل نفسه ، هذا الرجل بذاته عرضت عليه الخلافة ، عرضت عليه رئاسة الدنيا فرفضها ! لا لشيء الا لانها شرطت بشرط يخالف كتاب الله وسنة رسوله ، من هنا نعرف ان ذلك الاحتراق لم يكن من أجل ذاته ، وانما كان من اجل الله سبحانه وتعالى ، اذن هذه الشجاعة شجاعة البراز في يوم البراز ، وشجاعة الصبر في يوم


( 213 )

الصبر ، وشجاعة الرفض في يوم الرفض ، هذه الشجاعة خلقها في قلب علي حبه لله ، لا اعتقاده بوجود الله ، هذا الاعتقاد الذي يشاركه في فلاسفة الاغريق ايضا ، أرسطو أيضا يعتقد بوجود الله ، افلاطون أيضا يعتقد بوجود الله ، الفارابي أيضا يعتقد بوجود الله ، ماذا صنع هؤلاء للبشرية ، وماذا صنعوا للدين أو للدنيا ، ليس الاعتقاد وانما حب الله اضافة الى الاعتقاد ، هذا هو الذي صنع هذه المواقف ونحن أولى الناس بأن نطلق الدنيا ، اذا كان حب الدنيا خطيئة ، فهو منا نحن الطلبة (1) من اشد الخطايا ، هذا الشيء الذي هو خطيئة من غيرنا هو اكثر خطيئة منا ، نحن أولى من غيرنا بأن نكون على حذر من هذه الناحية ، أولا لاننا نصبنا أنفسنا أدلاء على طريق الاخرة ، ما هي مهمتنا في الدنيا ، ما هي وظيفتنا في الدنيا ؟ اذا سألك انسان ، ماذا تعمل ، ما هو مبرر وجودك ، ماذا تقول ؟ تقول بأني أريد أن اشد الناس الى الاخرة ، اشد دنيا الناس الى الاخرة ، الى عالم الغيب ، الى الله سبحانه وتعالى . اذن كيف تقطع دنياك عن الاخرة ؟ اذا كانت دنياك مقطوعة عن الاخرة فسوف تشد دنيا الناس الى دنياك لا الى آخرة ربك ، سوف نتحول الى قطاع طريق ،
____________
(1) يقصد طلبة العلوم الدينية الاسلامية في النجف .
( 214 )

ولكن أي طريق ، الطريق الى الله ، لا طريق ما بين بلد وبلد ، هذا الطريق الى الله نحن رواده ، نحن القائمون على الدلالة اليه ، على الاخذ بيد الناس فيه ، فلو اننا أغلقنا باب هذا الطريق ، لو اننا تحولنا عن هذا الطريق الى طريق آخر اذن سوف نكون حاجبا عن الله ، حاجبا عن اليوم الاخر كل انسان يستولي حب الدنيا على قلبه يهلك هو ، أما الطلبة ، أما نحن اذا استولى حب الدنيا على قلوبنا سوف نهلك ونهلك الآخرين ، لاننا وضعنا أنفسنا في موضع المسؤولية ، في موضع ربط الناس بالله سبحانه وتعالى والله لا يعيش في قلوبنا ، اذن سوف لن نتمكن من أن نربط الناس بالله ، نحن أولى الناس واحق الناس باجتناب هذه المهلكة لاننا ندعي أننا ورثة الانبياء وورثة الائمة والاولياء ، اننا السائرون على طريق محمد (ص) وعلي والحسن والحسين عليهم الصلاة والسلام ، ألسنا نحاول أن نعيش شرف هذه النسبة هذه النسبة تجعل موقفنا أدق من مواقف الاخرين ، لاننا نحن حملة أقوال هؤلاء وافعال هؤلاء ، أعرف الناس بأقوالهم ، واعرف الناس بأفعالهم ، ألم يقل رسول الله (ص) : « انا معاشر الانبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا عقار ، انما نورث العلم والحكمة » ألم يقل علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام : « ان


( 215 )

امارتكم هذه أو خلافتكم هذه لا تساوي عندي شيئا الا أن أقيم حقا أو أدحض باطلا » . ألم يقل علي بن ابي طالب ذلك ، ألم يجسد هذا في حياته ، في كل حياته ، علي بن أبي طالب كان يعمل لله سبحانه وتعالى ، لم يكن يعمل لدنياه ، لو كان علي يعمل لدنياه لكان اشقى الناس واتعس الناس ، لان عليا حمل دمه على يده منذ طفولته ، منذ صباه ، يذب عن وجه رسول الله (ص) وعن دين الله وعن رسالة الله ، لم يتردد لحظة في أن يقدم ، لم يكن يحسب للموت حسابا ، لم يكن يحسب للحياة حسابا ، كان دمه دائما على يده ، كان أطوع الناس لرسول الله في حياة رسول الله (ص) ، وكان أطوع الناس لرسول الله بعد رسول الله (ص) ، كان أكثر الناس عملا في سبيل الدين ، ومعاناة من أجل الاسلام . ماذا حصل ، ماذا حصل عليه علي بن أبي طالب (ع) ؟ لو جئنا الى مقاييس الدنيا ، ماذا حصل عليه هذا الرجل العظيم ؟ ألم يقصى هذا الرجل العظيم ، ألم يكن جليس بيته فترة من الزمن ، ألم يسب هذا الرجل العظيم ألف شهر على منابر المسلمين ! التي اقيمت اعوادها بجهاده ، بدمه ، بتضحياته ، سب على منابر المسلمين ! اذن لم يحصل على شيء من الدنيا لا على حطام ولا على مال ولا على منصب ولا على


( 216 )

كناء (1) ولا على تقدير ، ولكنه على الرغم من ذلك حينما ضربه عبد الرحمن بن ملجم بالسيف على رأسه (2) ماذا قال هذا الامام العظيم ؟ قال « لقد فزت ورب الكعبة » لو كان علي يعمل لدنياه لقال والله اني أتعس انسان لاني لم أحصل على شيء في مقابل عمر كله جهاد ، كله تضحية ، كله حب لله ، لم أحصل على شيء ، لكنه لم يقل ذلك ، قال « لقد فزت ورب الكعبة » انها والله الشهادة ، لانه لم يكن يعمل لدنياه ، كان يعمل لربه ، والان لحظة اللقاء مع الله ، هذه اللحظة هي اللحظة التي سوف يلتقي بها علي مع الله سبحانه وتعالى فيوفيه حسابه ويعطيه أجره ، يعوضه عما تحمل من شدائد ، عما قاسى من مصائب ، أليس هذا الامام هو مثلنا الاعلى ، أليست حياة هذا الامام هي السنة ، أليست مصادر التشريع عندنا الكتاب والسنة ، أليست السنة هي قول المعصوم وفعله و تقريره . علينا أن نحذر من حب الدنيا ، لانه لا دنيا عندنا لكي نحبها ! ماذا نحب ؟ نحب الدنيا ؟! نحن الطلبة ! ما هي هذه الدنيا التي نحبها ونريد ان نغرق انفسنا فيها ونترك رضوانا من الله أكبر ، نترك مالا عين رأت ولا
____________
(1) كناء : جمع كنية .
(2) ضربه في مسجد الكوفة وهو ساجد في صلاة الفجر .

( 217 )

أذن سمعت ولا اعترض على خيال بشر ، ما هي هذه الدنيا ؟ هذه الدنيا دنيانا هي مجموعة من الاوهام ، كل دنيا وهم ، لكن دنيانا اكثر وهما من دنيا الاخرين ، مجموعة من الاوهام ، ماذا نحصل من الدنيا الا على قدر محدود جدا ، لسنا نحن أولئك الذين نهبوا أموال الدنيا وتحدثنا عنهم سابقا ، لسنا نحن أولئك الذين تركع الدنيا بين أيدينا لكي نؤثر الدنيا على الاخرة ، دنيا هارون الرشيد كانت عظيمة ، نقيس انفسنا بهارون الرشيد ، هارون الرشيد نسبه ليلا نهارا لانه غرق في حب الدنيا ، لكن تعلمون أي دنيا غرق فيها هارون الرشيد ، أي قصور مرتفعة عاش فيها هارون الرشيد ، أي بذخ وترف كان يحصل عليه هارون الرشيد ، أي زعامة وخلافة وسلطان امتد مع أرجاء الدنيا حصل عليه هارون الرشيد ، هذه دنيا هارون الرشيد ، نحن نقول بأننا أفضل من هارون الرشيد ، أورع من هارون الرشيد ، أتقى من هارون الرشيد ، عجباه نحن عرضت علينا دنيا هارون الرشيد فرفضناها حتى نكون أورع من هارون الرشيد . يا أولادي ، يا أخواني ، يا أعزائي ، يا أبناء علي .. هل عرضت علينا دنيا هارون الرشيد ، لا .. عرضت علينا دنيا هزيلة ، محدودة ، ضئيلة ، دنيا ما أسرع ما تتفتت ، ما اسرع ما تزول ، دنيا لا يستطيع


( 218 )

الانسان أن يتمدد فيها كما كان يتمدد هارون الرشيد ، هارون الرشيد يلتفت الى السحابة يقول لها أينما تمطرين يأتيني خراجك ، في سبيل هذه الدنيا سجن موسى بن جعفر (ع) ، هل جربنا أن هذه الدنيا تأتي بيدنا ثم لا نسجن موسى بن جعفر ؟ جربنا أنفسنا ، سألنا أنفسنا ، طرحنا هذا السؤال على انفسنا ، كل واحد منا يطرح هذا السؤال على نفسه ، بينه وبين الله . ان هذه الدنيا ، دنيا هارون الرشيد كلفته أن يسجن موسى بن جعفر ، هل وضعت هذه الدنيا أمامنا لكي نفكر بأننا أتقى من هارون الرشيد ، ما هي دنيانا ؟ هي مسخ من الدنيا ، هي أوهام من الدنيا ، ليس فيها حقيقة الا حقيقة رضى الله سبحانه وتعالى ، الا حقيقة رضوان الله ، كل طالب علم حاله حال علي ابن أبي طالب ، اذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ، لان أبواب الدنيا مفتوحة ، خاصة اذا كان طالب له قابلية ، له امكانية ، له ذكاء ، له قابليات ، هذا أبواب الدنيا مفتوحة له ، فاذا كان يعمل للدنيا فهو أتعس انسان ، لانه سوف يخسر الدنيا والاخرة ، لا دنيا الطلبة دنيا ولا الاخرة يحصل عليها ، فليكن همنا ان نعمل للاخرة ، أن نعيش في قلوبنا حب الله سبحانه وتعالى بدلا عن حب الدنيا لانه لا دنيا معتد بها عندنا ،


( 219 )

الأئمة عليهم السلام علمونا بأن تذكر الموت دائما يكون من العلاجات المفيدة لحب الدنيا ، أن يتذكر الانسان الموت ، كل واحد منا يعتقد بأن كل من عليها فان ، لكن القضية دائما وابداً لا يجسدها بالنسبة الى نفسه ، من العلاجات المفيدة ان يجسدها بالنسبة الى نفسه ، دائما يتصور بأنه يمكن ان يموت بين لحظة واخرى ، كل واحد منا يوجد لديه اصدقاء ماتوا ، اخوان انتقلوا من هذه الدار الى الدار الاخرى ، أبي لم يعش في الحياة اكثر مما عشت حتى الان ، أخي لم يعش في الحياة اكثر مما عشت حتى الان ، أنا الان استوفيت هذا العمر ، من المعقول جدا أن أموت في السن الذي مات فيه أبي ، من المعقول جدا أن أموت في السن التي مات فيها أخي ، كل واحد منا لا بد وأن يكون له قدوة من هذا القبيل ، لا بد وان احباب له قد رحلوا ، أعزة له قد انتقلوا لم يبق من طموحاتهم شيء ، لم يبق من آمالهم شيء ان كانوا قد عملوا للاخرة فقد رحلوا الى مليك مقتدر ، الى مقعد صدق عند مليك مقتدر ، واذا كانوا قد عملوا للدنيا فقد انتهى كل شيء بالنسبة اليهم ، هذه عبر ، هذه العبر التي علمنا الائمة عليهم السلام ان نستحضرها دائما ، تكسر فينا شره الحياة ، ما هي هذه الحياة ، لعلها أيام فقط ، لعلها أشهر فقط ، لعلها


( 220 )

سنوات ، لماذا نعمل دائما ونحرص دائما على اساس أنها حياة طويلة ، لعلنا لا ندافع الا عن عشرة ايام ، الا عن شهر ، الا عن شهرين لا ندري عن ماذ ندافع ، لا ندري اننا نحتمل هذا القدر من الخطايا ، هذا القدر من الآثام ، هذا القدر من التقصير امام الله سبحانه وتعالى وأمام ديننا ، نتحمله في سبيل الدفاع عن ماذا ، عن عشرة أيام ، عن شهر ، عن اشهر ... هذه بضاعة رخيصة ، نسأل الله سبحانه وتعالى ان يطهر قلوبنا وينقي أرواحنا ، ويجعل الله أكثر همنا ، ويملأ حبا له ، وخشية منه ، وتصديقا به ، وعملا بكتابه .

 

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله