مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

التفسير التجزيئي والتفسير التوحيدي للقرآن الكريم

بسم الله الرحمن الرحيم

وأفضل الصلوات على سيد الخلق محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
ربنا فقهنا في كتابك واكشف عن قلوبنا ظلمات الذنوب لكي نتفهم آياتك وأزح عن بصائرنا غشاوة الدنيا وبريقها الكاذب لكي نملا نفوسنا بهداك واجعلنا من حملة قرآنك وسنة نبيك والسائرين على طريق طاعتك. ندعو بلغة القرآن وبلسان القرآن:
ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنّك على كلّ شي قدير(1)، ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربّنا ولا تحمل علينا اصراً كما حملته على الّذين من قبلنا، ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به واعف عنّا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين(2)، ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا للإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا، ربّنا إنّك رؤوف رحيم(3).
لاشك في تنوع التفسير واختلاف مذاهبه وتعدد مدارسه والتباين في كثير من الأحيان بين اهتماماته واتجاهاته: فهناك التفسير الذي يهتم بالجانب اللفظي والأدبي والبلاغي من النص القرآني. وهناك التفسير الذي يركز على الحديث ويفسر النص القرآني بالمأثور عنهم عليهم السلام أو بالمأثور عن الصحابة والتابعين. وهناك التفسير الذي يعتلج العقل أيضاً كأداة من عمق التفسير وفهم كتاب اللّه سبحانه وتعالى وهناك التفسير المتحيز الذي يتخذ مواقف مذهبية مسبقة، يحاول أن يطبق النص القرآني على أساسها. وهناك التفسير غير المتحيز الذي يحاول أن يستنطق القرآن نفسه، ويطبق الرأي على القرآن لا القرآن على الرأي إلى غير ذلك من الاتجاهات المختلفة في التفسير الإسلامي، إلاّ إن الذي يهمنا بصورة خاصة ونحن على أبواب هذه الدراسة القرآنية، أن نركز على إبراز اتجاهين رئيسيين لحركة التفسير في الفكر الإسلامي:

ونطلق على أحدهما اسم ((الاتجاه التجزيئي في التفسير)).

وعلى الآخر اسم ((الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير)).

ونعني بالاتجاه التجزيئي المنهج الذي يتناول المفسر ضمن اطاره القرآن الكريم آية فآية وفقاً لتسلسل تدوين الآيات في المصحف الشريف.
والمفسر في إطار هذا المنهج يسير مع المصحف ويفسر قطعاته تدريجاً بما يؤمن به من أدوات ووسائل للتفسير من الظهور أو المأثور من الأحاديث أو بلحاظ الآيات الأخرى التي تشترك مع تلك الآية في مصطلح أو مفهوم، بالقدر الذي يلقي ضوءاً على مدلول القطعة
القرآنية التي يراد تفسيرها مع أخذ السياق الذي وقعت تلك القطعة ضمنه بعين الاعتبار من كل تلك الحالات.
وطبعاً نحن حينما نتحدث عن التفسير التجزيئي نقدمه في أوسع وأكمل صوره التي انتهى إليها، وإن التفسير التجزيئي تدرّج تاريخيا إلى أن وصل إلى مستوى الاستيعاب الشامل للقرآن الكريم بالطريقة التجزيئية.
وكان قد بدأ في عصر الصحابة التابعين على مستوى شرح تجزيئي لبعض الآيات القرآنية وتفسير لمفرداتها، وكلما امتد الزمن ازدادت الحاجة إلى تفسير المزيد من الآيات إلى أن انتهى إلى الصورة التي قدم فيها ابن ماجة والطبري غيرهما ممن كتب في التفسير في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وكانت تمثل أوسع صورة للمنهج التجزيئي في التفسير.
فالمنهج التجزيئي في التفسير حيث أنه كان يستهدف فهم مدلول ((اللّه))، وحيث ان فهم مدلول ((اللّه)) كان في البداية متيسراً لعدد كبير من الناس ثم بدأ اللفظ يتعقد من حيث المعنى بمرور الزمن وازدياد الفاصل وتراكم لقدرات والتجارب، وتطور الأحداث والأوضاع.
من هنا توسع التفسير التجزيئي تبعاً لما اعترض النص القرآني من غموض ومن شك في تحديد مفهوم ((اللّه)) تتكامل في الطريقة التي نراها في موسوعات التفسير حيث ان المفسر يبدأ من الآية الأولى من سورة الفاتحة إلى سورة الناس فيفسر القرآن آية آية، لان الكثير من الآيات بمرور الزمن أصبح معناها ومدلولها اللفظي بحاجة إلى إبراز أو تجربة أو تأكيد ونحو ذلك، هذا هو التفسير التجزيئي.
طبعاً نحن لا نعني بالتجزيئية لمثل هذا المنهج التفسيري أن المفسر يقطع نظره عن سائر الآيات ولا يستعين بها في فهم الآية المطروحة للبحث، بل انه قد يستعين بآيات أخرى في هذا المجال كما يستعين بالأحاديث والروايات، ولكن هذه الاستعانة تتم بقصد الكشف عن المدلول اللفظي الذي تحمله الآية المطروحة للبحث، فالهدف في كل خطوة من هذا التفسير فهم مدلول الآية التي يواجهها المفسر بكل الوسائل الممكنة أي أن الهدف ((هدف تجزيئي))، لأنه يقف دائما عند حدود فهم هذا الجزأ وذاك من النص القرآني ولا يتجاوز ذلك غالبا، وحصيلة تفسير تجزيئي للقرآن الكريم كله تساوي على أفضل تقدير مجموعة مدلولات القرآن الكريم ملحوظة بنظرة تجزيئية أيضاً، أي أنه سوف نحصل على عدد كبير من المعارف والمدلولات القرآنية، ولكن في حالة تناثر وتراكم عددي دون أن نكتشف أوجه الارتباط، دون أن نكتشف التركيب العضوي لهذه المجاميع من الأفكار، دون أن نحدد في نهاية المطاف نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة فهناك تراكم عددي للمعلومات، إلاّ أن مجموع ما بين هذه المعلومات، الروابط والعلاقات ما بين هذه المعلومات التي تحولها إلى مركبات نظرية ومجاميع فكرية بالإمكان ان نحضّر على أساسها نظرية القرآن لمختلف المجالات والمواضيع، أما هذا فليس
مستهدفا بالذات في منهج التفسير التجزيئي وان كان قد يحصل أحيانا، ولكن ليس هو المستهدف بالذات في منهج التفسير التجزيئي.
وقد أدت حالة التناثر ونزعة الاتجاه التجزيئي إلى ظهور التناقضات المذهبية العديدة في الحياة الإسلامية، إذ كان يكفي أن يجد هذا المفسر أو ذاك آية تبرر مذهبه لكي يعلن عنه ويجمع حوله الأنصار والأشياع كما وقع في كثير من المسائل الكلامية كمسألة الجبر والتفويض والاختيار مثلا.
بينما كان بالإمكان تفادي كثير من هذه التناقضات لو أن المفسر التجزيئي خطا خطوة أخرى ولم يقتصر على هذا التجميع العددي كما نري ذلك في الاتجاه الثاني.
الاتجاه الثاني: نسميه الاتجاه التوحيدي أو الموضوعي في التفسير.
هذا الاتجاه لا يتناول تفسير القرآن آية فآية بالطريقة التي يمارسها التفسير التجزيئي، بل يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية فيبين ويبحث ويدرس، مثلا عقيدة التوحيد في القرآن أو يبحث عن النبوة في القرآن أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن أو عن سنن التاريخ في القرآن أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم وهكذا.
ويستهدف التفسير التوحيدي الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون.
وينبغي أن يكون واضحا أن الفصل بين الاتجاهين المذكورين ليس حديا على مستوى الواقع العملي والممارسة التاريخية لعملية التفسير لان الاتجاه الموضوعي بحاجة طبعاً إلى تحديد المدلولات التجزيئية في الآيات التي يريد التعامل معها ضمن اطار الموضوع الذي يتبناه. كما أن الاتجاه التجزيئي قد يعثر في أثناء الطريق بحقيقة قرآنية من حقائق الحياة الأخرى، ولكن الاتجاهين على أي حال يظلان على الرغم من ذلك مختلفين في ملامحهما واهدافهما وحصيلتهما الفكرية.
ومما ساعد على شيوع الاتجاه التجزيئي للتفسير وسيطرته على الساحة قرونا عديدة، النزعة الروائية والحديثية للتفسير، حيث أن التفسير لم يكن في الحقيقة وفي البداية إلاّ شعبة من الحديث بصورة أو بأخرى وكان الحديث هو الأساس الوحيد تقريبا، مضافا إلى بعض المعلومات اللغوية والأدبية والتاريخية، كان هو الأساس الوحيد مضافاً إلى بعض هذه المعلومات التي يعتمد عليها التفسير طيلة فترة طويلة من الزمن.
ومن هنا لم يكن بإمكان تفسير يقف عند حدود المأثور من الروايات عن الصحابة والتابعين وعن الرسول والائمة، الروايات التي كانت تثيرها استفهامات عقلية على الأغلب من قبل الناس، من قبل السائلين لم يكن بإمكان تفسير يعتمد على هذه الروايات التي تستثار من قبل
أسئلة عقلية من هذا القبيل، لم يكن بإمكانه أن يتقدم خطوة أخري وأن يحاول تركيب مدلولات القرآن والمقارنة بينها واستخراج النظرية من وراء هذه المدلولات اللفظية. التفسير كان بطبعه تفسيرا لفظيا تفسيرا للمفردات لما استبدل من المفردات وشرح بعض المستجد من المصطلحات وتطبيق بعض المفاهيم على أسباب النزول ومثل هذه العملية لم يكن بإمكانها أن تقوم بدور اجتهادي مبدع، في التوصل إلى ما وراء المدلول اللغوي واللفظي التوصل إلى الأفكار الأساسية التي حاول القرآن الكريم ان يعطيها من خلال المتناثر من آياته الشريفة.
ويمكننا ان نقرب إلى اذهانكم فكرة هذين الاتجاهين المختلفين في تفسير القرآن الكريم بمثال من تجربتكم الفقهية، فالفقه هو بمعنى من المعاني تفسير للأحاديث الواردة عن النبي والائمة(ع) ونحن نعرف من البحث الفقهي ان هناك كتبا فقهية شرحت الأحاديث حديثا حديثا، تناولت كل حديث وشرحته، وتكملت عنه دلالة أو سندا أو متناً، أو دلالة وسندا ومتنا، على اختلاف اتجاهات الشراح. كما نجد ذلك في شراح الكتب الأربعة وشراح الوسائل، غير ان القسم الأعظم من الكتب الفقهية والدراسات العلمية في هذا المجال لم تتجه هذا الاتجاه بل صنفت البحث إلى مسائل وفقا لوقائع الحياة وجعلت في إطار كل مسألة الأحاديث التي تتصل بها وفسرتها بالقدر الذي يلقي ضوءاً على تلك المسألة ويؤدي إلى تحديد موقف الإسلام من تلك الواقعة التي تفترضها المسألة المذكورة وهذا هو الاتجاه الموضوعي على الصعيد الفقهي، بينما ذاك هو الاتجاه التجزيئي في تفسير الأحاديث على هذا الصعيد.
كتاب الجواهر في الحقيقة شرح كامل شامل لروايات الكتب الأربعة ولكنه ليس شرحا يبدأ بالكتب الأربعة روآية روآية وإنما يصنف روايات الكتب الأربعة وفقا للحياة، وفقا لمواضيع الحياة، كتاب البيع، كتاب الجعالة، كتاب إحياء الموات، كتاب النكاح، ثم يجمع تحت كل عنوان من هذه العناوين الروايات التي تتصل بذلك الموضوع ويشرحها ويقارن فيما بينها يخرج بنظرية لأنه لا يكتفي بأن يفهم معنى هذه الروآية فقط بصورة متفردة، ومعنى هذه الروآية بصورة منفردة إذ مع هذه الحالة من الفردية لا يمكن أن يصل إلى الحكم الشرعي، وإنما يصل إلى الحكم الشرعي عن طريق دراسة مجموعة من الروايات التي تحمل مسؤولية توضيح حكم واحد أو باب واحد من أبواب الحياة، ثم عن طريق هذه الدراسة الشاملة يستخرج نظرية واحدة التي تعطى من قبل مجموعة من الروايات لا من قبل روآية روآية.
هذا هو الاتجاه الموضوعي عن شرح الأحاديث.
ومن خلال المقارنة بين الدراسات القرآنية والدراسات الفقهية نلاحظ اختلاف مواقع الاتجاهين على الصعيدين فبينما انتشر الاتجاه الموضوعي والتوحيدي على الصعيد الفقهي وما خطا الفقه والفكر الفقهي خطوات في مجال نموه وتطوره حتى ساد هذا الاتجاه جل البحوث الفقهية، نجد أن العكس هو الصحيح على الصعيد القرآني حيث سيطر الاتجاه التجزيئي
للتفسير على الساحة عبر ثلاثة عشر قرنا تقريبا، إذ كان كل مفسر يبدأ كما بدأ سلفه فيفسر القرآن آية آية.
إذن الاتجاه الموضوعي هو الذي سيطر على الساحة الفقهية بينما الاتجاه التجزيئي هو الذي سيطر على الساحة القرآنية. وأما ما ظهر على الصعيد القرآني من دراسات تسمى بالتفسير الموضوعي أحيانا من قبيل دراسات بعض المفسرين حول موضوعات معينة تتعلق بالقرآن الكريم كأسباب النزول أو القراءات أو الناسخ والمنسوخ أو مجازات القرآن فليست من التفسير التوحيدي والموضوعي بالمعنى الذي نريده فإن هذه الدراسات ليست في الحقيقة إلاّ تجميعا عدديا لقضايا من التفسير التجزيئي لوحظ فيما بينها شي من التشابه وفي كلمة أخرى ليست كل عملية تجميع أو عزل دراسة موضوعية، وإنما الدراسة الموضوعية هي التي تطرح موضوعا من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية وتتجه إلى درسه وتقييمه من زاوية قرآنية للخروج بنظرية قرآنية بصدده.
واكثر ظني ان الاتجاه التوحيدي والموضوعي في الفقه بامتداده وانتشار ساعد بدرجة كبيرة على تطوير الفكر الفقهي وإثراء الدراسات العلمية في هذا المجال بقدر ما ساعد انتشار الاتجاه التجزيئي في التفسير على إعاقة الفكر الإسلامي القرآني عن النمو المكتمل وساعد على اكتسابه حالة تشبه الحالات التكرارية حتى نكاد نقول ان قرونا من الزمن متراكمة مرت بعد تفاسير الطبري والرازي والشيخ الطوسي، لم يحقق فيها الفكر الإسلامي مكاسب حقيقية جديدة، وظل التفسير ثابتا لا يتغير إلاّ قليلا خلال تلك القرون على الرغم من ألوان التغير التي حفلت بها الحياة في مختلف الميادين وسوف يتضح إن شاء اللّه تعالى من خلال المقارنة بين الاتجاهين: الاتجاه التجزيئي والاتجاه التوحيدي، السبب والسر الذي يكمن وراء هذه الظاهرة.
لماذا كانت الطريقة التجزيئية عاملاً في إعاقة النمو؟ ولماذا تكون الطريقة الموضوعية والاتجاه التوحيدي عاملا في النمو والإبداع وتوسيع نطاق حركة الاجتهاد؟ لكي نعرف لماذا كان هذا ولماذا كان ذاك؟ يجب أن نكوّن انطباعات أوضح وأكثر تحديدا عن هذين الاتجاهين: الاتجاه التجزيئي، والاتجاه التوحيدي، وإنما يتضح ذلك بعد أن نشرح بعض أوجه الاختلاف بين الاتجاهين. ويمكن توضيح بعض أوجه الاختلاف بين هذين الاتجاهين التفسيريين فيما يلي:.
أولاً: إن المفسر التجزيئي دوره في التفسير على الأغلب سلبي فهو يبدأ أولا بتناول النص القرآني المحدد آية مثلا أو مقطعاً قرآنيا دون أي افتراضات أو مطروحات مسبقة ويحاول أن يحدد المدلول القرآني على ضوء ما يسعفه به اللفظ مع ما يتاح له من القرائن المتصلة والمنفصلة، العملية في طابعها العام، عملية تفسير نص معين وكأن دور النص فيها دور المتحدث ودور المفسر هو الإصغاء والتفهم وهذا ما نسميه بالدور السلبي، المفسر هنا شغله
أن يستمع لكن بذهن مضي، بفكر صاف، بروح محيطة بآداب اللغة وأساليبها، في التعبير بمثل هذه الروح، بمثل هذه الذهنية وبمثل هذا الفكر يجلس بين يدي القرآن ليستمع فهو ذو دور سلبي والقرآن ذو دور إيجابي والقرآن يعطي حينئذ وبقدر ما يفهم هذا المفسر من مدلول اللفظ يسجل في تفسيره.
وخلافا لذلك المفسر التوحيدي والموضوعي فانه لا يبدأ عمله من النص بل من واقع الحياة يركز نظره على موضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية ويستوعب ما اثارته تجارب الفكر الإنساني حول ذلك الموضوع من مشاكل وما قدمه الفكر الإنساني من حلول، وما طرحه التطبيق التاريخي من أسئلة ومن نقاط‍ فراغ ثم يأخذ النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه بالنسبة إلى النص دور المستمع والمسجل فحسب، بل ليطرح بين يدي النص موضوعا جاهزا مشرباً بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية ويبدأ مع النص القرآني حواراً سؤال وجواب، المفسر يسأل والقرآن يجيب، المفسر على ضوء الحصيلة التي استطاع ان يجمعها من خلال التجارب البشرية الناقصة من خلال أعمال الخطأ والصواب التي مارسها المفكرون على الأرض لابد وان يكون قد جمع حصيلة ترتبط بذلك الموضوع ثم ينفصل عن هذه الحصيلة ليأتي ويجلس بين يدي القرآن الكريم لا يجلس ساكتاً ليستمع فقط بل يجلس محاوراً، يجلس سائلاً ومستفهماً ومتدبراً فيبدأ مع النص القرآني حواراً حول هذا الموضوع، وهو يستهدف من ذلك ان يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص، من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات.
ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائما بتيار التجربة البشرية لأنها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضوع من مواضيع الحياة.
ومن هنا أيضاً كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له، وليست مجرد استجابة سلبية بل استجابة فعالة وتوظيفا هادفا للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى.
قال أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وهو يتحدث عن القرآن الكريم ((ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن أخبركم عنه، إلاّ ان فيه علم ما يأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم ما بينكم))(4) التعبير بالاستنطاق الذي جاء في كلام ابن القرآن ـ عليه السلام ـ أروع تعبير عن عملية التفسير الموضوعي بوصفها حواراً مع القرآن الكريم وطرحا للمشاكل الموضوعية عليه بقصد الحصول على الإجابة القرآنية عليها.
إذن فأول اوجه الاختلاف الرئيسية بين الاتجاه التجزيئي في التفسير والاتجاه الموضوعي في التفسير ان الاتجاه التجزيئي يكون دور المفسر فيه دورا سلبيا يستمع ويسجل بينما التفسير
الموضوعي ليس هذا معناه وليس هذا كنهه وإنما وظيفة التفسير الموضوعي دائما في كل مرحلة وفي كل عصر ان يحمل المقولات التي تعلمها في تجربته البشرية ثم يضعها بين يدي القرآن الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ليحكم على هذه الحصيلة بما يمكن لهذا المفسر ان يفهمه ان يستشفه ان يتبينه من خلال مجموعة آياته الشريفة.
أذن فهنا يلتحم القرآن مع الواقع، يلتحم القرآن مع الحياة، لان التفسير يبدأ من الواقع وينتهي إلى القرآن لا انه يبدأ من القرآن وينتهي بالقرآن وينتهي بالقرآن فتكون عملية منعزلة عن الواقع منفصلة عن تراث التجربة البشرية بل هذه العملية تبدأ من الواقع وتنتهي بالقرآن بوصفه القيم والمصدر الذي يحدد على ضوئه الاتجاهات الربانية بالنسبة إلى ذلك الواقع.
ومن هنا تبقى للقرآن حينئذ قدرته على القيمومة دائماً قدرته على العطاء المستجد دائماً قدرته على الإبداع لان المسألة هنا ليست مسألة تفسير لفظ فان طاقات التفسير اللغوي ليست طاقات لا متناهية بينما القرآن الكريم دلت الروايات على انه لا ينفد وصرح القرآن الكريم بأن كلمات اللّه لا تنفد، القرآن الكريم عطاء لا ينفد بينما التفسير اللغوي ينفد لان اللغة لها طاقات محدودة، وليس هناك تجدد في المدلول اللغوي، ولو وجد لغة أخرى بعد القرآن لا معنى لان يفهم القرآن من خلال لغة جديدة أو مصطلحات جديدة أو ألفاظ تحمل مدلولات وضعية استهدفت بعد القرآن.
إذن هذا العطاء الذي لا ينفد للقرآن، هذه المعاني التي لا تنتهي للقرآن التي نص عليها القرآن نفسه، ونصحت عليه أحاديث أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، هذه الحالة من عدم النفاد، تكمن في هذا المنهج، منهج التفسير الموضوعي لأننا نستنطق القرآن وان في القرآن علم ما كان وعلم ما يأتي لان في القرآن دواء دائنا، لان في
القرآن نظم ما بيننا، ولان في القرآن ما يمكن ان نستشف منه مواقف السماء تجاه تجربة الأرض.
فمن هنا كان التفسير الموضوعي قادرا على ان يتطور على ان، ينمو على ان يثرى لان التجربة البشرية تثريه والدرس القرآني والتأمل القرآني على ضوء التجربة البشرية يجعل هذا الثراء محمولا إلى فهم إسلامي قرآني صحيح.
والحمد لله رب العالمين.
------------------------------------------------------------------------------
(1) سورة التحريم آية: 8
(2) سورة البقرة آية: 286
(3) سورة الحشر آية: 10
(4) نهج البلاغة خطبة: 158

 

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله