مؤلفات الإمام الشهيد السيد محمد باقر الصدر

بحث حول المهدي

(المبحث الخامس)

كيف نؤمن
بأن المهدي قد وجد




( 102 )


( 103 )

ونصل الآن إلى السؤال الرابع وهو يقول : هب أنّ فرضية القائد المنتظر ممكنة بكلّ ما تستبطنه من عمر طويل ، وإمامة مبكرة ، وغيبة صامتة ، فإنّ الإمكان لا يكفي للاقتناع بوجوده فعلاً .
فكيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي ؟ وهل تكفي بضع روايات تنقل في بطون الكتب عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم للاقتناع الكامل بالامام الثاني عشر على الرغم مما في هذا الافتراض من غرابة وخروج عن المالوف ؟ بل كيف يمكن أن نثبت أنّ للمهدي وجوداً تاريخياً حقّاً وليس مجرد افتراض توفرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد كبير من الناس ؟ (1)
والجواب : إنّ فكرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغير العالم إلى الأفضل قد جاءت في أحاديث الرسول الاعظم عموماً ، وفي روايات أئمة أهل البيت
____________
(1) هذه التساؤلات يطرحها السيد الشهيد رضي الله عنه بصفتها من الإشكالات التي أثيرت وتثار عادةً حول المهدي عليه السلام ، وهي أقصى ما يثار في هذا الصدد ، حتّى إنّ بعض الكتّاب المعاصرين قد أثاروها أخيراً مدفوعين بدوافع غير علمية ، مصحوبة تلك الإثارة بضجيج مكثفٍ ، ومحاولات بائسة من الوهابية لترويجها وتبنيها ، ولا تخفى الدوافع بعد ذلك على أحد . وقد أجاب الإمام الشهيد بجواب علمي لمن يريد الحقيقة . راجع ما كتبناه في المقدمة أيضاً .
( 104 )

خصوصاً ، وأكدت في نصوص كثيرة بدرجة لا يمكن أن يرقى إليها الشك . وقد أحصي أربعمائة حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق إخواننا أهل السنّة (1) ، كما أُحصي مجموع الأخار الواردة في الإمام المهدي من طرق الشيعة والسنّة فكان أكثر من ستة آلاف رواية (2) ، وهذا رقم إحصائي كبير لا يتوفر نظيره في كثير من قضايا الإسلام البديهية التي لا يشك فيها مسلم عادة .
وأما تجسيد هذه الفكرة في الإمام الثاني عشر عليه الصلاة والسلام فهذا ما توجد مبررات كافية وواضحة للاقتناع به .
ويمكن تلخيص هذه المبررات في دليلين :
أحدهما إسلامي .
والآخر علمي .
فبالدليل الإسلامي نثبت وجود القائم المنتظر .
وبالدليل العلمي نبرهن على أنّ المهدي ليس مجرد أسطورة وافتراض ، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التاريخية .
أما الدليل الاسلامي :
فيتمثل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3) والائمة من أهل
____________
(1) يلاحظ كتاب (المهدي) للسيد «العم» الصدر قدس الله روحه الزكية . (الشهيد الصدر)
راجع : ما أثبته الشيخ العباد في مجلة الجامعة الاسلامية | العدد 3 سنة 1969 .
وراجع : المهدي الموعود المنتظر | الشيخ نجم الدين العسكري .
(2) يلاحظ كتاب منتخب الأثر في الامام الثاني عشر للشيخ لطف الله الصافي . (الشهيد الصدر)
(3) راجع : معجم أحاديث الإمام المهدي | مؤسسة المعارف الاسلامية | الجزء الأول ـ أحاديث النبي .

( 105 )

البيت عليهم السلام والتي تدلّ على تعيين المهدي وكونه من أهل البيت (1) ..
ومن ولد فاطمة (2) ..
ومن ذرية الحسين (3) ..
وأنه التاسع من ولد الحسين (4) ..
____________
(1) أخرج أحمد وابن ابي شيبة وابن ماجة ونعيم بن حماد في الفتن عن علي عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «المهدي منّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة» .
راجع : الحاوي للفتاوي | السيوطي 2 : 213 و 215 وفيه ، أيضاً : اخرج أحمد وابن أبي شيبة وأبو داود ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : «لو لم يبق من الدهر إلاّ يومُ لبعث الله رجلاً من أل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً» ، وراجع : صحيح سنن المصطفى 2 : 207 ، وسننن ابن ماجة 2 : 1367 | 4085 .
وراجع : معجم أحاديث المهدي 1 : 147 وما بعدها إذ ينقل أحاديث كثيرة عن الصحاح والمسانيد في هذا المعنى . وراجع : موسوعة الإمام المهدي | ترتيب مهدى فقيه إيماني ، الجزء اأول ، وفيها نقول مصورة عن عشرات الكتب لعلماء السنّة ومحدّثيهم في المهدي وصفاته ما يتعلق به وفيها نسخة مصورة الشيخ العباد حول ما جاء من الاحاديث والآثار في المهدي عليه السلام .
(2) الحاوي للفتاوي | السيوطي جلال الدين 2 : 214 ، قال : وأخرج ابو داود وابن ماجة والطبراني والحاكم عن أمّ سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : «المهدي من عترتي من ولد فاطمة» . راجع صحيح سنن المصطفى لأبي داود 2 : 208 .
(3) حديث المهدي من ذرية الحسين عليه السلام كما في المصادر الآتية على ما نقل في معجم أحاديث المهدي وهي : الأربعون حديثاً لأبي نعيم الأصفهاني كما في عقد الدرر للمقدسي الشافعي ، وأخرجه الطبراني في الأوسط على ما في المنار المنيف لابن القيم ، وفي السيرة الحلبية 1 : 193 ، وفي القول المختصر لابن حجر . راجع منتخب الأثر للشيخ لطف الله الصافي في ما نقله من كتب الشيعة . وراجع توهين الرواية التي تقول بأنه من ولد الحسن عليه السلام كتاب السيد العميدي (دفاع عن الكافي 1 : 296) .
(4) راجع الرواية التي تنص على أنّه التاسع من ولد الحسين عليه السلام في : ينابيع المودة لقندوزي

( 106 )

وانّ الخلفاء اثنا عشر (1) . فإنّ هذه الروايات تحدد تلك الفكرة العامة وتشخيصها في الإمام الثاني عشر من أئمة اهل البيت ، وهي روايات بلغت درجة كبيرة من الكثرة والانتشار على الرغم من تحفّظ الأئمة عليهم السلام واحتياطهم في طرح ذلك على المستوى العام ، وقايةً للخلف الصالح من الاغتيال أو الإجهاز السريع على حياته (2) . وليست الكثرة العددية للروايات هي الأساس الوحيد لقبولها ، بل هناك إضافة إلى ذلك مزايا وقرائن تبرهن على صحتها ، فالحديث النبوي الشريف عن الائمة أو الخلفاء أو الأمراء بعده وأنهم اثنا عشر إماماً أو خليفةً أو أميراً ـ على اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة ـ قد أحصى بعض المؤلفين رواياته فبلغت أكثر من مائتين وسبعين رواية (3) مأخوذة من أشهر كتب الحديث عند الشيعة والسنّة بما في ذلك البخاري (4) ومسلم (5) والترمذي (6) وأبي داود (7)
____________
الحنفي : ص 492 ، وفي مقتل الإمام الحسين للخوارزمي 1 : 196 ، وفي فرائد السمطين للجويني الشافعي 2 : 310 ـ 315 الأحاديث من 561 ـ 569 ، وراجع منتخب الأثر للعلامة الشيخ الصافي إذ خرّجها من طرق الفريقين (دفاع عن الكافي 1 : 294) .
(1) حديث «الخلفاء بعدي اثنا عشر كلهم من قريش» أو «لا يزال هذا الدين قائماً ما وليه اثنا عشر كلهم من قريش» .
هذا الحديث متواتر ، روته الصحاح والمسانيد بطرق متعددة وإن اختلف في متنه قليلاً . نعم ، اختلفوا في تأويله واضطربوا . راجع : صحيح البخاري 9 : 101 كتاب الأحكام ـ باب الاستخلاف . صحيح مسلم 2 : 119 كتاب الإمارة . مسند أحمد 5 : 90 ، 93 ، 97 .
(2) راجع الغيبة الكبرى | السيد محمد الصدر : ص 272 وما بعدها .
(3) راجع التاج الجامع للأصول 3 : 40 قال : رواه الشيخان الترمذي ، وراجع في تحقيق الحديث وطرقه وأسانيده كتاب الإمام المهدي عليه السلام | علي محمد علي دخيل .
(4) صحيح البخاري | المجلد الثالث | 9 : 101 ، كتاب الأحكام ـ باب الاستخلاف . طبعة دار إحياء التراث العربي ـ بيروت .
(5) و (6) و (7) راجع : التاج الجامع لأصول 3 : 40 ، قال تعقيباً على الحديث : رواه الشيخان

( 107 )

ومسند أحمد (1) ومستدرك الحاكم على الصحيحين (2) ، ويلاحظ هنا أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث كان معاصراً للإمام الجواد والإمامين الهادي والعسكري ، وفي ذلك مغزىً كبير ؛ لأنه يبرهن على أنّ هذا الحديث قد سجّل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يتحقق مضمونه وتكتمل فكرة الأئمة الاثني عشر فعلاً ، وهذا يعني أنه لا يوجد أي مجال للشك في أن يكون نقل الحديث متأثراً بالواقع الإمامي الاثني عشري وانعكاسات أو تبريرات لواقع متأخر زمنياً لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في كتب الحديث ذلك الواقع الذي تشكل انعكاساً له ، فما دمنا قد ملكنا الدليل المادي على أنّ الحديث المذكور سبق التسلسل التاريخي للأئمة الاثني عشر ، وضبط في كتب الحديث قبل تكامل الواقع الإمامي الاثني عشري ، أمكننا ان نتأكد من أنّ هذا الحديث ليس انعكاساً لواع وإنما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوى (3) ، فقال : «إنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر» (4) . وجاء الواقع الإمامي الاثني عشري ابتداءً من الإمام عليٍّ وانتهاءً بالمهدي ؛ ليكون التطبيق الوحيد المعقول (5) لذلك الحديث النبوي الشريف .
____________
والترمذي ، وفي الهامش قال : رواه أبو داود في كتاب المهدي بلف : «لا يزال هذا الدين قائماً حتى يكون عليكم اثنا عشر خليفة ...» ، وراجع سنن أبي داود 2 : 207 .
(1) مسند الإمام أحمد 5 : 93 ، 100 .
(2) المستدرك على الصحيحين 3 : 618 .
(3) إشارة إلى قوله تعالى : (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إن هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى) النجم : 3 ـ 4 .
(4) تقدم تخريج الحديث .
(5) اضطرب العلماء في تأويله بعد إطباقهم على صحته ، وما أوردوه من مصاديق لا يمكن قبولها ، بل إنّ بعضها غير معقول تماماً كإدخالهم يزيد بن معاوية المجاهر بالفسق ، المحكوم بالمروق والكفر أو من هو على شاكلته . راجع ما نقله السيد ثامر العميدي من أقوالهم وقد ناقش هذه القضية مناقشة وافية وعلمية ، وأبطل تأويلاتهم بما لا مزيد عليه في دفاع عن الكافي 1 : 540 وما بعدها .

( 108 )

وأما الدليل العلمي :
هو يتكون من تجربة عاشتها أمّة من الناس فترة امتدت سبعين سنة تقريباً وهي فترة الغيبة الصغرى . لتوضيح ذلك نمهد بإعطاء فكرة موجزة عن الغيبة الصغرى (1) .
إنّ الغيبة الصغرى تُعبّر عن المرحلة الأولى من إمامة القائد المنتظر عليه الصلاة والسلام فقد قُدّر لهذا الإمام منذ تسلّمه للإمامة ان يستتر عن المسرح العام ويظلُّ بعيداً باسمه عن الأحداث وإن كان قريباً منها بقلبه وعقله ، وقد لوحظ أنّ هذه الغيبة إذا جاءت مفاجئة حققت صدمة كبيرة للقواعد الشعبية للإمامة في الأمة الاسلامية ؛ لأنّ هذه القواعد كانت معتادة على الاتصال بالإمام في كلّ عصر ، والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاكل المتنوعة ، فإذا غاب الإمام عن شيعته فجأة وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية الفكرية ، سبّبت هذه الغيبة (2) المفاجئة الإحساس بفراغٍ دفعي هائل قد يعصف بالكيان كله ويشتت شمله ، فكان لابدّ من تمهيد لهذه الغيبة ؛ لكي تألفها هذه القواعد بالتدريج ، وتكيّف نفسها شيئاً فشيئاً على أساسها ، وكان هذا التمهيد هو الغيبة الصغرى التي اختفى فيها الإمام المهدي عن المسرح العام ، غير أنه كان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طرق وكلائه ونوابه والثقات من أصحابه الذين يشكلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطه الإمامي (3) . وقد شغل مركز النيابة عن الإمام في هذه الفترة أربعة
____________
(1) راجع : الغيبة الصغرى | السيد محمد الصدر ، فقد توسّع في بحثها .
(2) إشارة الى الغيبة الكبرى .
(3) راجع : تبصرة الولي فيمن رأى القائم المهدي | السيد هاشم البحراني . دفاع عن الكافي | السيد ثامر العميدي 1 : 568 وما بعدها .

( 109 )

ممن أجمعت تلك القواعد على تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها وهم كما يلي :
1 ـ عثمان بن سعيد العمري .
2 ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري .
3 ـ أبو القاسم الحسين بن روح .
4 ـ أبو الحسن علي بن محمد السمري .

وقد مارس هؤلاء الأربعة (1) مهام النيابة بالترتيب المذكور ، وكلما مات أحدهم خلفه الآخر الذي يليه بتعيين من الإمام المهدي عليه السلام .
وكان النائب يتصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلى الإمام ، ويعرض مشاكلهم عليه ، ويحمل إليهم أجوبته شفهية أحياناً وتحريرية (2) في كثير من الأحيان ، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتصالات غير المباشرة . ولاحظت أنّ كلّ التوقيعات والرسائل كانت ترد من الإمام المهدي عليه السلام بخط واحد وسليقة واحدة (3) طيلة نيابة النواب الأربعة التي استمرت حوالي سبعين عاماً ، وكان السمري هو آخر النواب ، فقد أعلن عن انتهاء
____________
(1) راجع ترجمة هؤلاء الأربعة في كتاب الغيبة الصغرى للسيد محمد الصدر ، الفصل الثالث : ص 395 وما بعدها ، نشر دار التعارف للمطبوعات ـ بيروت 1980 .
(2) وهذه تعرف بالتوقيعات ، وهي الأجوبة التحريرية والشفوية التي نقلت عن الإمام المهدي عليه السلام . راجع : الاحتجاج | الطبرسي 2 : 523 وما بعدها .
(3) مما استقر في الأوساط الأدبية وعند نقاد الأدب قديماً وحديثاً أنّ الأسلوب هو الرجل ، وهذه المقولة صحيحة . ومن هنا رأينا وسمعنا أنّ كثيراً من الادباء وقارئي الأدب يميزون بمجرد قراءة النص شعرياً كان نثرياً أنه لفلان أو لفلان ، وما ذلك إلاّ لأنّ الأسلوب هو الرجل ، وأنّ لكلّ كاتبٍ سمةً وطابعاً خاصاً في كتابته يمكن تمييزه من غيره ، هذا فضلاً على تميّز خطّه الشريف من غيره من الخطوط .

( 110 )

مرحلة الغيبة الصغرى التي تتميز بنُواب معينين ، وابتداء الغيبة الكبرى التي لا يوجد فيها أشخاص معينون بالذات لوساطة بين الإمام القائد والشيعة ، وقد عبّر التحول من الغيبة الصغرى الى الغيبة الكبرى عن تحقيق الغيبة الصغرى لأهدافا وانتهاء مهمتها ؛ لأنها حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الإمام ، واستطاعت ان تكيّف وضع الشيعة على أساس الغيبة ، وتعدّهم بالتدريج لتقبل فكرة النيابة العامة عن الإمام ، وبهذا تحولت النيابة من أفراد منصوصين (1) إلى خط عام (2) ، وهو خط المجتهد العادل البصير بأمور الدنيا والدين تبعاً لتحول الغيبة الصغرى إلى غيبة كبرى .
والآن بإمكانك أن تقدّر الموقف في ضوء ما تقدم ، لكي تدرك بوضوح أنّ المهدي حقيقة عاشتها أمة من الناس ، وعبّر عنها السفراء والنواب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الآخرين ، ولم يلحظ عليهم أحدٌ كلّ هذه المدة تلاعباً في الكلام ، أو تحايلاً في التصرف ، أو تهافتاً في النقل . فهل تتصور ـ بربك ـ أنّ بإمكان أكذوبة ان تعيش سبعين عاماً ، ويمارسها أربعة على سبيل الترتيب كلهم يتفقون عليها ، ويظلون يتعاملون على أساسها وكأنها قضية يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون ان يبدر منهم أي شيء يثير الشك ، ودون ان يكون بين الأربعة علاقة خاصة متميزة تتيح لهم نحواً من التواطئ ، ويكسبون من خلال ما يتصف به سلوكهم من واقعية ثقة الجميع ، وإيمانهم بواقعية القضية التي يدّعون أنهم يحسونها ويعيشون معها ؟!
لقد قيل قديماً : إنّ حبل الكذب قصير ، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أنّ من
____________
(1) إشارة إلى النواب الأربعة المذكورين .
(2) وهو ما اصطلح عليه (بالمرجعية الدينية) ، ويلاحظ هنا الصفات التي يرى الإمام الشهيد لزوم توفرها في المرجعية .

( 111 )

المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش أكذوبة بهذا الشكل ، وكلّ هذه المدة ، وضمن كلّ تلك العلاقات والأخذ والعطاء ، ثمّ تكسب ثقة جميع من حولها .
وهكذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغرى يمكن ان تعتبر بمثابة تجربة علمية لإثبات ما لها من واقع موضوعي ، والتسليم بالإمام القائد بولادته (1) وحياته وغيبته ، وإعلانه العام عن الغيبة الكبرى التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يكشف نفسه لأحد (2) .
____________
(1) إنّ اتصال الامام القائد المهدي بقواعد الشيعية عن طريق نوابه ووكلائه ، أو بأساليب أخرى متنوعة واقع تاريخي موضوعي ليس من سبيل إلى انكاره ، كما في السفارة ، فضلاً عن الدلائل الأخرى الكثيرة المستندة الى اخبار من يجب تصديقه ، ثم هو مقتضى الاحاديث المتواترة ، كحديث : «من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتةً جاهلية» وغير ذلك . إنّ كلّ ذلك مجموعاً ـ وهو محل اتفاق اكثر طوائف الملة الإسلامية ـ يدحض وبشكل قاطع ما يثيره المتشككون حول وجود الإمام واستمرار حياته المباركة الشريفة ، راجع : الغيبة الصغرى | السيد محمد الصدر : ص 566 . وراجع ما أثبتناه في المقدمة : ص 15 وما بعدها .
(2) ورد التوقيع الشريف عن الإمام القائد المهدي عليه السلام بعدم إمكان رؤيته بشكل صريح بعد وقوع الغيبة الكبرى ، وهذا محل اتفاق علماء الإمامية . وراجع مناقشة المسألة في : الغيبة الصغرى | السيد محمد الصدر : ص 639 وما بعدها .

( 112 )


( 113 )

(المبحث السادس)

لماذا لم يظهر القائد إذن ؟



( 114 )


( 115 )

لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدة ؟ وإذا كان قد أعدّ نفسه للعمل الاجتماعي ، فما الذي منعه من الظهور على المسرح في فترة الغيبة الصغرى او في اعقابها بدلاً عن تحويلها إلى غيبة كبرى ، حيث كانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري وقتئذٍ أبسط وأيسر ، وكانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغرى تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قوية ، ولم تكن القوى الحاكمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائلة من القدرة والقوة التي بلغتها الإنسانية بعد ذلك من خلال التطور العلمي والصناعي ؟
والجواب : أنّ كلّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية لا يتأتى لها أن تحقق هدفها إلاّ عندما تتوفر تلك الشروط والظروف .
وتتميز عمليات التغيير الاجتماعي التي تفجرها السماء على الأرض بأنها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية (1) ؛ لانّ الرسالة التي تعتمدها
____________
(1) على الرغم من الأهمية التي يعطها الشهيد الصدر رضي الله عنه هنا للظروف الموضوعية ، ودور نضوجها أو إنضاجها في نجاح الثورات ـ وهذا فهم عميق لأثر العامل الاجتماعي والنفسي ـ إلاّ أنّ الشهيد الصدر رضي الله عنه يعرض نظرية جديدة في فهم عملية التغيير الاجتماعي الذي تحدثه السماء
( 116 )

عملية التغيير هنا ربانية ، ومن صنع السماء لا من صنع الظروف الموضوعية ، ولكنها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلك الظروف . ومن أجل ذلك انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتى أنزلت آخر رسالاتها على يدّ النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ كان يفرض تأخرها على الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلك .
والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير ، منها ما يشكّل المناخ المناسب والجوّ العام للتغيير المستهدف ، ومنها ما يشكّل بعض التفاصيل التي تتطلبها حركة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية .
فبالنسبة إلى عملية التغيير التي قادها ـ مثلاً ـ لينين في روسيا بنجاح ، كانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الأولى وتضعضع القيصرية ، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير ، وكانت ترتبط بعوامل أخرى جزئية ومحدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلل فيه إلى داخل روسيا وقاد الثورة ، إذ لو كان قد اتفق له أي حادث يعيقه لكان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلك قدرتها على الظهور السريع على المسرح .
وقد جرت سنة الله تعالى التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الرباني على التقيد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقق المناخ المناسب والجو العام لإنجاح عملية التغيير ، ومن هنا لم يأت الاسلام إلاّ بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمر قروناً من الزمن .
____________
من خلال الرسالات السماوية ، فهي في جانبها الرسالي ترتبط بقانونها الخاص ، ولكن في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية وترتبط بها توقيتاً ونجاحاً ، وأعني بالظروف الموضوعية : الحالة السياسية والحالة الاجتماعية للأمة والواقع الدولي المعاصر ، ومدى قدرة الأمة في إمكاناتها الذاتية واستعدادها النفسي .
( 117 )

فعلى الرغم من قدرة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على تذليل كل العقبات والصعاب في وجه الرسالة الربانية وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالإعجاز ، لم يشأ أن يستعمل هذا الأسلوب ؛ لأنّ الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتكامل الانسان يفرض على العمل التغييري الرباني ان يكون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية ، وهذا لا يمنع من تدخل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أحياناً فيما يخصّ بعض التفاصيل التي لا تكوّن المناخ المناسب وإنما قد يتطلبها أحياناً التحرك ضمن ذلك المناخ المناسب ، ومن ذلك الإمدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالى لأوليائه في لحظات حرجة فيحمي بها الرسالة ، وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً على إبراهم (1) ، وإذا بيد اليهودي الغادر التي ارتفعت بالسيف على رأس النبي صلى الله عليه وآله وسلم تُشلّ وتفقد قدرتها على الحركة (2) ، وإذا بعاصفة قوية تجتاح مخيمات الكفار والمشركين الذين احدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب (3) ، إلاّ أنّ هذا كله لا يعدو التفاصيل وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن كان الجو المناسب ، والمناخ الملائم لعملية التغيير على العموم قد تكوّن بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية .
وعلى هذا الضوء ندرس موقف الإمام المهدي عليه السلام لنجد انّ عملية التغيير التي أُعدّ لها ترتبط من الناحية التنفيذية كأي عملية تغيير اجتماعي أخرى بظروف موضوعية تُساهم في توفير المناخ الملائم لها ، ومن هنا كان من الطبيعي أن توقّت وفقاً لذلك . ومن المعلوم أنّ المهدي لم يكن قد أعدّ نفسه لعمل اجتماعي محدود ،
____________
(1) إشارة إلى قوله تعالى : (قَالُوا حَرُِّقوهُ وَانصُرُوا ءَالِهَتَكُم إِن كُنتُمْ فَعِليِنَ * قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيداً فَجَعَلنَهُمُ الأَخسَرِينَ) الأنبياء : 68 ـ 70 .
(2) راجع الرواية في تفسير ابن كثير 2 : 33 ، وراجع : البحار | المجلسي 18 : 47 و 52 و 60 ، 75 باب معجزات النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
(3) تاريخ الطبري 2 : 244 حوادث السنة الخامسة من الهجرة .

( 118 )

ولا لعملية تغيير تقتصر على هذا الجزء من العالم أو ذاك ؛ لأنّ رسالته التي اُدّخر لها من قبل الله ـ سبحانه وتعالى ـ هي تغيير العالم تغييراً شاملاً ، وإخراج البشرية كل البشرية من ظلمات الجور إلى نور العدل (1) ، وعملية التغيير الكبرى هذه لا يكفي في ممارستها مجرد وصول الرسالة والقائد الصالح وإلاّ لتمت شروطها في عصر النبوة بالذات ، وإنما تتطلب مناخاً عالمياً مناسباً ، وجوّاً عاماً مساعداً ، ويحقق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية .
فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملاً أساسياً في خلق ذلك المناخ المناسب لتقبّل رسالة العدل اجديدة ، وهذا الشعور بالنفاد يتكون ويترسخ من خلال التجارب الحضارية المتنوعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بنى ، مدركاً حاجته إلى العون ن متلفّتاً بفطرته إلى الغيب أو إلى المجهول .
ومن الناحية المادية يمكن أن تكون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر كعصر الغيبة الصغرى على إنجاز الرسالة على صعيد العالم كله ، وذلك بما تحققه من تقريب المسافات ، والقدرة الكبيرة على التفاعل بين شعوب الأرض ، وتوفير الأدوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مركزي لممارسة توعية لشعوب العالم وتثقيفها على أساس الرسالة الجديدة .
وأما ما أشير إليه في السؤال من تنامي القوى والأداة العسكرية التي واجهها القائد في اليوم الموعود كلّا أجّل ظهوره ، فهذا صحيح ، ولكن ماذا ينفح نمو الشكل
____________
(1) كما هو نصّ الحديث النبوي الشريف : «لو لم يبق من الدنيا إلاّ يومٌ لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً مني أو من أهل بيتي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً» .
راجع : التاج الجامع للاصول | منصور علي ناصف 5 : 360 الهامش ، قال : رواه أبو داود والترمذي .

( 119 )

المادي للقوة مع الهزيمة النفسية من الداخل ، وانهيار البناء الروحي للإنسان الذي يملك كلّ تلك القوى والأدوات ؟ وكم من مرّة في التاريخ انهار بناءٌ حضاري شامخ بأول لمسة غازية ؛ لأنه كان منهاراً قبل ذلك ، وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بكيانه والاطمئنان إلى واقعه (1) .
____________
(1) لقد شاهدنا في بداية التسعينات المصداق لهذه المقولة التي أطلقها الشهيد الصدر رضي الله عنه استناداً إلى خبرته العميقة بالمجتمع البشري ، فقد انهار الاتحاد السوفيتي وهو أحد القطبين اللذين كانا يهيمنان على العالم انهياراً سريعاً جداً ، وبصورة أذهلت الجميع .
( 120 )


( 121 )

(المبحث السابع)

وهل للفرد كلّ هذا الدور ؟!


( 122 )


( 123 )

ونأتي إلى سؤال آخر في تسلسل الأسئلة المتقدمة ، وهو السؤال الذي يقول : هل للفرد مهما كان عظيماً القدرة على إنجاز هذا الدور العظيم ؟ وهل الفرد العظيم إلاّ ذلك الإنسان الذي ترشحه الظروف ليكون واجهةً لها في تحقيق حركتها ؟
والفكرة في هذا السؤال ترتبط بوجهة نظر معينة للتاريخ تفسره على أساس أنّ الإنسان عامل ثانوي (1) فيه ، والقوى الموضوعية المحيطة به هي العامل الأساسي ، وفي إطار ذلك لن يكون الفرد في أفضل الأحوال إلاّ التعبير الذكي عن اتجاه هذا العامل الأساسي .
ونحن قد أوضحنا في مواضع أخر من كتبنا المطبوعة (2) أنّ التاريخ يحتوي على قطبين : أحدهما الإنسان ، والآخر القوى المادية المحيطة به . وكما تؤثر القوى المادية وظروف الإنتاج والطبيعية في الإنسان ، يؤثر الإنسان ايضاً فيما حوله من قوى وظروف ، ولا يوجد مبرر لافتراض العكس ، فالإنسان والمادة يتفاعلان
____________
(1) إشارة إلى نظرية المادية التاريخية ، أي إلى التفسير الماركسي للتاريخ ، راجع : اقتصادنا 1 : 19 ، وفيه تحليل علمي ومناقشة فلسفية عميقة بقلم الإمام الشهيد الصدر رضي الله عنه .
(2) إشارة الى كتاب (فلسفتنا) ، وإلى مقدمة كتاب (اقتصادنا) .

( 124 )

على مرّ الزمن ، وفي هذا الإطار بإمكان الفرد أن يكون أكبر من ببغاء في تيار التاريخ ، وبخاصة حين ندخل في الحساب عامل الصلة بين هذا الفرد والسماء (1) . فإن هذه الصلة تدخل حنيئذٍ كقوة موجّهة لحركة التاريخ . وهذا ما تحقق في تاريخ النبوّات ، وفي تاريخ النبوّة الخاتمة بوجه خاص ، فإنّ النبيّ محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بحكم صلته الرسالية بالسماء تسلّم بنفسه زمام الحركة التاريخية ، وأنشأ مدّاً حضارياً لم يكن بإمكان الظروف الموضوعية التي كانت تحيط به أن تتمخض عنه بحال من الأحوال ، كما أوضحنا ذلك في المقدمة الثانية للفتاوى الواضحة (2) .
وما أمكن أن يقع على يد الرسول الاعظم يمكن ان يقع على يد القائد المنتظر من أهل بيته الذي بشّر (3) به ونوّه عن دوره العظيم .
____________
(1) راجع : كتاب الأبطال (البطل في صورة نبي) | توماس كارليل | ترجمة الدكتور السباعي ، سلسلة الألف كتاب ـ مصر .
(2) راجع المقدمة الثانية في الفتاوى الواضحة : ص 63 ، وفيها توضيح وتفصيل لهذه المسألة .
(3) التاج الجامع للأصول 5 : 343 ، عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «المَهْدِي منّي أَجلَى اَلجَبهَة أَقنى الأنفَ يَملأ الأرضَ قِسْطاً وَعَد كما مُلِئت ظلماً وجَوراً» .


السابق  || التالي

السيرة الذاتية || الصور || المؤلفات || ما كتب حوله