سياستنا تجاه الفدرالية / أسعد تركي

هنالك العديد من الأشكال الإدارية التي يمكن للحكومات أن تتبناها في عملها وتتدرج إنفراطاً مركزية وقوة تحكم الحكومات إدارياً من اليمين إلى اليسار كما يلي ( الإدارة المركزية للمحافظات – الإدارة اللامركزية للمحافظات – فدرالية المحافظات – فدرالية الأقاليم – الكونفدرالية ) ولقد سمعت الكثير من الأصوات تتعالى لتتداول اصطلاح ومفهوم الفيدرالية وعلى أكثر من صعيد وبدأ كلٌ يدلوا بدلوه بما يتناغم مع الرؤية التي يتبناها تجاه العملية السياسية وبما يتناغم مع مصالح الجهات التي ينتمي إليها وحاول الكثير أن يصطاد في الماء العكر ليصوّر مفهوم الفدرالية على انه البذرة التي ستثمر مشروع التقسيم للأوطان نتيجة لجهل الجماهير بهذه الاصطلاحات والمفاهيم السياسية بل وحتى جهل بعض الكيانات السياسية علماً بأنَّ هذه الاصطلاحات والمفاهيم هي ليست حديثة العهد بل هي مفاهيم ضاربة جذورها في أعماق تاريخ وتجارب الشعوب ولانّ (( الناس أعداء ما جهلوا )) كما قال امير المؤمنين (ع) ولانّ لغتنا العربية الأم لديها من الثراء والحيوية والديناميكية ما يجعلها قادرة على احتواء كافة المفاهيم والمضامين ولتفويت الفرصة على الحالمين بعودة النظام الديكتاتوري الاوتوقراطي الاوليكارشي الشمولي الذي استعبدنا طيلة عقود من الزمن فانني ارى بأنه لا بد من توضيح حقائق منها انّه من المتعارف عليه سياسياً بأن الأقليات هي التي تطالب عادةً بإقامة النظام الفدرالي لكي تتجنب تسلط الأغلبية ولكننا نرى في العراق ومما يدعوا إلى الإستغراب بأن الغالبية العظمى من الشعب هي التي تطالب بالفدرالية وهذا إن دلَّ على شئ إنما يدل على ضعف القيادات السياسية المطالبة بذلك لأنه كان من المفترض أن تطالب بالحكم المركزي إن أرادت السيطرة على البلاد بأسرها لأن غالبيتها الساحقة تؤهلها إلى ذلك ديمقراطياً ولكن هذه القيادات ومع شديد الأسف لا زالت تتصرف وكأنها معارضة وليست هي التي تحكم الآن وكذلك مما لا يخفى على كل مراقب للساحة السياسية العراقية بأن أول من تبنّى مفهوم الفدرالية ( النظام الاتحادي ) في العراق هو برلمان كردستان العراق عام 1992م وكذلك ورد هذا المفهوم في قانون إدارة الدولة المؤقت وأخيرا ورد في القرار الدولي رقم 1546 وليست القوى الإسلامية هي التي تبنّت ذلك .
ولذلك لا بد إبتداءً من استثمار القنوات الإعلامية عبر الإعلام المسموع والمطبوع والمرئي والندوات والمؤتمرات لشرح وتوضيح حيثيات وجزئيات مفهوم وأنواع الفدرالية فمنها :
أ- الفدرالية القومية : وهي التي تجمع أبناء القومية الواحدة كالقومية العربية – الكردية – الفارسية – التركية -……
ب- الفدرالية الدينية : وهي التي تجمع أبناء الديانة الواحدة كالديانة الإسلامية – المسيحية – اليهودية .
ج- الفدرالية المذهبية : وهي التي تجمع أبناء المذهب الواحد ضمن الديانة الواحدة كالبروتستانت أو الارثوذوكس أو الكاثوليك بالنسبة للديانات غير الإسلامية أو أبناء المذهب الإمامي أو الطوائف والمذاهب والفرق الأخرى بالنسبة للديانة الإسلامية وهكذا .
د- فدرالية الأقاليم : وهي التي تجمع أكثر من إقليم ضمن رقع جغرافية متقاربة أو متجاورة .
هـ - فدرالية المحافظات : وهو نظام الإدارة الذي يسمح لأبناء المحافظة الواحدة لإدارة شؤونهم بدأً من الحاكم الأعلى لإدارة المحافظة وحتى مدير اصغر وحدة إدارية في المحافظة. ولأننا نمتثل لقول أمير المؤمنين ( ع ) حيث يقول (( نحن قوم نؤمُّ النمط الأوسطا ولسنا كمن قصَّر أو أفرطا )) فلذلك سنتبنى الشكل الإداري الأوسط الذي يحول دون تقسيم الوطن من جهة ويمنع تسلط المركز واستئثاره بمصدر القرار الرسمي من جهة أخرى وهي فدرالية المحافظات فإنها الأنسب والاهم والأكثر نفعاً وامتيازاً وذلك للأسباب التالية :-

مميزات فدرالية المحافظات /

1- عند إقامة فدرالية المحافظات فإن أسس ومبادئ ومفاهيم الديمقراطية ستتجسد بأعلى مراحلها على اعتبار أنّ أبناء المحافظة هم الذين سيختارون الحاكم الإداري لمحافظتهم إضافة إلى بقية أعضاء مجلس المحافظة مباشرة عبر الانتخاب الحر والمباشر من قبل أهالي المحافظة ولن يُفرض عليهم من المركز.
2- سيسعى الحاكم الإداري وبقية أعضاء مجلس المحافظة المنتخبين لتقديم أفضل وأرقى الخدمات من مشاريع الإنماء والتطوير وفي كافة المرافق الحيوية والمفاصل الإدارية وذلك إرضاءً لجماهيرهم وناخبيهم من أبناء المحافظة والذين يملكون السلطة لبقائهم في مناصبهم ويؤثرون تأثيراً مباشراً على مستقبلهم السياسي والإداري وذلك عبر الانتخابات المباشرة بحسب نظام فدرالية المحافظات.
3- إنَّ الحاكم الإداري للمحافظة وبقية أعضاء مجلس المحافظة مع مدراء الوحدات الإدارية الأخرى إضافة إلى أنَّ مستقبلهم السياسي والإداري مرهون بإرضاء جماهيرهم من أبناء المحافظة إلا انه هنالك عاملاً آخر يُشكّل ضغطاً كبيراً عليهم وهو عامل الحرج والضغط الاجتماعي في حالة التقصير أو القصور الذي يحصل على اعتبار أنَّ الغالبية العظمى من المجتمع العراقي هو مجتمع قبائلي عشائري تكون هذه المعايير الاجتماعية تمثّل العمود الفقري لارتقاء او انخفاض الوزن الجماهيري وبالتالي معياراً للاستقطاب الانتخابي.

4- إنَّ إدارة المحافظة من قبل أبنائها يجعلهم الأقدر والأكفأ على تحديد مشاكل مجتمعهم ومدنهم ومواطن التعثر وسبل العلاج وتحديد الأسبقيات والأولويات فأهل مكة أدرى بشعابها.
5- كلما كانت الوحدات الإدارية اصغر كلما كانت السيطرة عليها أسهل والقدرة على إنمائها وتطويرها أيسر.
6- كلما كانت الوحدات الإدارية اصغر كلما كانت عملية المراقبة والمحاسبة ورصد الفساد الإداري أكثر رصانة ومتانة وأكثر دقّّة.
7- فدرالية المحافظات تراعي وتحافظ على خصوصية التنوّع القومي والديني والمذهبي والاجتماعي لكل محافظة فيتجنب المركز كافة المشاكل التي قد تنتج بسبب الاصطدام مع الأعراف والتقاليد والطقوس الخاصة لكل محافظة.
8- في فدرالية المحافظات نكون قد قضينا على الحسّ الطائفي وكَمّمنا كل الأفواه والأبواق التي تنادي بالنعرات الطائفية على اعتبار أنَّ الحكم يقام على أسسٍ جغرافية لا تمتُّ بصلة إلى المحاصصة الطائفية وانّ أبناء كل محافظة هم القائمون على حكمها وإدارة شؤونها وبذلك فإن النظام الفدرالي للمحافظات هو الأكثر نفعاً لو كانوا يفقهون .
9- نظام فدرالية المحافظات يطوي والى غير رجعة صفحة الانقلابات العسكرية التي اعتادت عليها الدول في تداول السلطة وتربَّت عليها الأجيال عبر ثقافات حربية وعسكرة للمجتمعات فلا يمكن بعد ذلك السيطرة على الدول عبر السيطرة على المركز فلكل ولاية ومحافظة فدرالية قائمة بذاتها.

10- في نظام فدرالية المحافظات سيكون هناك استثمار لأبناء المحافظة لثروات محافظتهم وستكون هناك نسبة كبيرة من موارد المحافظة مخصّصة لإنماء و إعمار وازدهار محافظتهم ولرفع مستواهم المعاشي والخدمي مع مبادلة في الموارد بين المحافظة والمركز عبر صيغ وآليات عادلة وبنسب موزونة ينصُّ عليها الدستور بشكل واضح وجلي بحيث يمنع استئثار المركز بأموال البلاد أو تركيز الجهد على إقليم معين دون غيره لأي سبب كان.
11- في نظام فدرالية المحافظات يمكن معالجة القنبلة الموقوتة لأزمة كركوك من دون ضمّها إلى إقليم كردستان فيكون حكمها مستقلاً بذاته مع معالجة مشكلة التغيير الديمغرافي فيها.
12- فدرالية المحافظات أكثر أمناً واطمئناناً من فدرالية الأقاليم بالنسبة للوجل والخشية والتخوّف من شبهات تقسيم العراق على اعتبار أنَّ الإقليم يمكن له إقامة دولة في حالة توفر الظروف الذاتية والموضوعية والدولية المناسبة لذلك أما المحافظة الواحدة فذلك أصعب بكثير .
13- فدرالية المحافظات لا ينفي ولا يتعارض مع فدرالية الأقاليم فيمكن إعطاء الحق لأكثر من محافظتين أو ثلاث بتشكيل إقليم ولكن ليكن الأصل هو إقامة فدرالية المحافظات مع السماح لتشكيل فدرالية الأقاليم بعد إجراء استفتاء مباشر من قبل جماهير تلك المحافظات الراغبة في تشكيل الإقليم مع الالتزام بنظم وصيغ وآليات التعامل مع المركز كما مثبت ومنصوص عليه في الدستور.
14- إني أتبنى الرأي القائل بتقليص حدود وحجم العاصمة بغداد فليس المعيار لتحديد العواصم العالمية هو زيادة حجمها وحدودها ومساحتها بل يكون المعيار هو مدى فاعليتها وقدرتها على التأثير والإدارة ويكون ذلك بفعالية مؤسّساتها فإذا كانت كبيرة الحجم والمساحة فلا تستطيع إدارة نفسها فضلاً عن قيادة وإدارة البلاد لأن فاقد الشيء لا يعطيه ولذلك ادعوا إلى تشذيب حدود العاصمة العراقية بغداد وتكوين فدراليات مجاورة لها على جانبي الكرخ و الرصافة فبجانب الرصافة يمكن إقامة فدرالية مدينة الصدر التي يرْبوا عدد سكانها على ما يزيد على الثلاث ملايين ومئتا ألف حسب تعداد 1997م أي تمثّل نسبة 75% من سكان بغداد في ذلك العام وضلّت هذه المدينة الصابرة المجاهدة ترزح تحت الظلم والاستعباد والاضطهاد ضمن مخطّط طائفي مقيت لذلك لا بُدّ من تسليم زمام الأمور في هذه المدينة المجاهدة إلى أبنائها البررة فهم الأقدر على انتشالها من هذا الواقع المتردّي، أما بالنسبة إلى جانب الكرخ فيمكن تكوين فدرالية من مدينة شعلة الصدرين و الكاظمية المقدسة والحرية والبياع وضواحي هذه المدن فإن قيل انّ هذه المدن صغيرة لا يصحّ أنْ تكوّن وتشكْل فدراليات فنجيب بأنه هناك دولاً عديدة قائمة بذاتها وأقل حجماً وسكاناً من اصغر محافظة عراقية كدولة البحرين ودولة قطر ومدغشقر وجزر القمر وهناك عدداً من الولايات الأميركية اقل من اصغر محافظة عراقية مثل ولاية ألاسكا – دلور – مونتانا – فيرمون – ساوث داكوتا وغيرها.
ومن كل ما تقدّم يمكن لنا اعتماد انتخابات مجلس المحافظات الذي تم في الانتخابات السابقة التي رافقت انتخابات الجمعية الوطنية لتشكّل بذلك النواة التي ينبثق منها نظام فدرالية المحافظات إلى أنْ يُقرّ في الدستور القادم ويجب أنْ يتّضح للجميع سواء لبعض السياسيين أو الجماهير الذين لم يستوعبوا حتى الآن مفهوم الفدرالية ولا زالوا يخلطون الأوراق وتتداخل في نظرهم الألوان فتتشوّش الرؤيا لديهم ولا يستطيعون الفصل بين الفدرالية والكونفدرالية فالفدرالية هي ما شرحناه آنفاً أما الكونفدرالية فهي مجموعة دول ترتبط وتتعاهد باتفاقيات معيّنة لأغراض الدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي ضمن معاهدات سياسية واضحة مع الاحتفاظ بحق كل دولة في إقامة اتفاقيات مع دول أخرى على شرط أنْ لا تتناقض مع معاهدات الاتحاد الكونفدرالي ومن أمثلة الإتحادات الكونفدرالية هو ما كان قائماً في هولندا من عام (1580 – 1795)م وفي الولايات المتحدة الأميركية بين عام (1778- 1787)م وفي ألمانيا بين عام (1815- 1866)م وفي سويسرا حتى عام 1848م وليطمئن كل متخوّف و متحذر منْ أنْ تتحوّل الفدرالية إلى كونفدرالية فقد حدث العكس تماماً فقد انتهت الاتحادات الكونفدرالية إما بانهيارها أو بتحوّلها إلى دول اتحادية (فدرالية) والاتحادات الكونفدرالية غير موجودة في الوقت الحاضر وكل ذلك يدور في فلك نظرية التفكّك والتكتّل فكل الكيانات السياسية والاجتماعية تميل ابتداءً إلى التفكّك لتحصل على خصوصيتها واستقلالها ثم تعود بعد ذلك لبناء علاقاتها من جديد على أسس جديدة ضمن نفس التكتلات التي انفرطت منها أو غيرها بما يخدم مصالحها وأمنها وازدهارها واستقرارها.