موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة القانون

أصالة السلم بوصفه قاعدة قانونيّة في الإسلام
عباس علي العميد الزنجاني



|تعتبر مسألة السلم والحرب في الإسلام الدعامة الأساسيّة في الفقه السياسي الخارجي والركيزة الأصليّة للقانون الدولي فيه، كما هي عليه في القانون الدولي الوضعي إذ تعتبر أوّل وأهمّ مسألة فيه. إلاّ أنّ بين الفقهاء خلافاً في تحديد ما هو أصل، وما هو طارىء واستثنائي|.
والفقهاء _عادة _ يبادرون إلى وضع القاعدة في المسائل المهمّة قبل القيام بعمل آخر. بحيث لو طرأ استثناء على تلك القاعدة، فلابدّ من إثباته بالدليل، وإلاّ فإنّنا سنطبّق القاعدة على الحالات المشكوكة، وقد وضعوا الأصل في المسؤوليّات على البراءة، وفي أعمال الآخرين على الصحّة، والأصل الأوّلي في حكم الأشياء على الإباحة، وفي ضوء ذلك فهم يرون أنّ إثبات أيّ نوع من المسؤوليّة أو الفساد في ا'مال الآخرين وحرمة الأشياء منوطة بالدليل، ويحتاج إلى إثبات شرعيّ.
وتلاحظ في مسألة السلم والحرب ثلاث نظريّات أيضاً في وضع الأصل والقاعدة:
1_ نظريّة بعض المستشرقين وعلماء القانون الذين لهم دراسات تحوم حول نظريّة القانون الدوليّ في الإسلام، وتتّكىء النظريّة على اعتقاد هؤلاء بأنّ الجهاد يحدّد العلاقة الأصليّة لدار الإسلام بالعالم الخارجي. ويرى هؤلاء أنّ الإسلام لمّا عجز عن كبح الجبلّة المتمثّلة بحب القتال لدى العرب، فإنّه استخدم هذه الوسيلة لقمع غير المسلمين، وإذا ما تحدّث الإسلام عن السلم، فإنّه يبتغي من وراء ذلك تحقيق هدفه الآخير المتمثّل في بسط سيطرته وتوسيع رقعته في أنحاء المعمورة؛ وهذا يتحقّق في ظروف لا يجدي الجهاد معها نفعاً. والعلاقات الدوليّة والدبلوماسيّة في العالم الإسلامي ظاهرة غريبة تماماً.
ومرجع هذه النظريّة: الآيات القرآنية التي تتحدّث عن الجهاد، إذ أوجبته على جميع المسلمين، ووبّخت المعرضين عنه توبيخاً شديداً. وخيّل إلى أصحاب هذه النظريّة، من خلال فهم سطحيّ ساذج.
أنّ جميع الآيات الخاصّة بالجهاد تتعلّق بالجهاد الابتدائي، ومعنى الجهاد الابتدائي هو بقاء نار الحرب مضطرمة بين العالم الإسلامي والعالم الكافر بنحو مستمر.
2_ النظريّة القائلة باستحباب الجهاد ونفي وجوبه في الإسلام. وهي ممّا أُثر عن بعض التابعين كسفيان الثوري، وعبد الله بن شبرمة، وعطاء بن أبي رباح، فقد قال هؤلاء:
الجهاد أمر اختياريّ وسمتحبّ وليس فيه وجوب، وللأوامر القرآنيّة طابع الندب والاستحباب ويجب الجهاد فقط عند الضرورة لصدّ هجوم الأعداء، كما يفيده ظاهر الآية الكريمة: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) والآية الكريمة (وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة).
هذه النظريّة تغاير إجماع الفقهاء، لأنّ وجوب الجهاد أمر مسلّم لا يقبل الشكّ والترديد من منظار الإسلام، ويبدو أنّ رأي التابعين المذكورين هو أنّ شرعيّة الجهاد منوطة بأدلّة ومسوّغات خاصّة منها: الدفاع.
3_ الحرب (الجهاد) وسيلة لا هدف، لأنّ الهدف من الجهاد هو الهداية. وجهاد الكفّار وقتلهم ليس هدفاً جوهريّاً. ولهذا السبب لو كانت الهداية ممكنة بغير الجهاد، فإنّ هذا الأسلوب مقدّم على الجهاد. وكذلك الأمر في الجهاد، فإنّه يكتفي بالحدّ الأدنى ومقدار الضرورة منه. والحقّ أنّ الضرورة بالمقدار الذي تستدعيه لا مناص منها في مواطن خاصّة.
ومستند هذه النظريّة أحاديث تنهى عن جموح النزعة القتاليّة، وتدعو المسلمين إلى العافية، نحو الحديث الذي ينقله أبو هريرة، قال: أيّها الناس لا تمنّوا لقاء الله، وسلوا الله العافية.
على الرغم من أنّ هذه النظريّة المنسوبة إلى فقهاء الشافعيّة قابلة للنقاش في تسويغ الحافز على الجهاد، لأنّ الهدف من الجهاد _في ضوئها _ ليس الهداية. إذ إنّه يتضمّن لوناً من الإكراه لما يحمله من العنف. والإكراه ليس وسيلة للهداية من منظار الإسلام: أفأنت تكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين ولا إكراه في الدين إلاّ أنّ الجوّ العامّ لهذه النظريّة يرتكز على عدم أصالة الحرب، وفي ضوء ذلك ينبغي دائماً أن يكون هناك مسوّغ وحافز شرعيّ ومعقول لشنّ الحرب.
4_ النظريّة القائلة بنسخ الجهاد، وهي تنسب إلى الحركة القاديانيّة. ونظراً إلى النصوص القرآنيّة والأحاديث الإسلاميّة التي تحوم حول وجوب الجهاد، فليس هناك ما يدعو إلى الخوض في هذه النظريّة.
5_ النظريّة ذات المراحل الثلاث القائلة بأنّ المسلمين مكلّفون بالإذعان لأحد الأمور الثلاثة: إمّا الإسلام، أو الحلف، أو الحرب. ومستند هذه النظريّة آية الجزية التي وجّهت المسلمين إلى أنّ الكفّ عن القتال منوط بالإذعان لدفع الجزية بمعنى عقد الذمّة.
وترتكز هذه النظريّة على هذا المبدأ الذي يرى أنّ آية الجزية هي القاعدة في الاتّفاقية المعقودة بين الحكومة الإسلاميّة، بينما نجد أنّ هذه الآية تخصّ أهل الكتاب، وتعرض لوناً خاصاً من المعاهدات الدوليّة بشأن أهل الكتاب.
إنّ دراسة الشروط والقيود الخاصّة الواردة في آية الجزية تبيّن لنا أنّ تخيير أهل الكتاب بين الإسلام أو الإذعان للعقد أو الحرب يصدق على من يزعم أنّه من أتباع الكتب السماوية، بيد أنّه لا يؤمن بالله ولا بالآخرة، ولا يرعى حرمة المحرّمات الإلهيّة التي قبلها، ولا يعتقد بدين حقيقي أيضاً، وفي ضوء ما يصطلح عليه علم الأصول فإنّ المفهوم المخالف لهذه القيود هو أنّ أهل الكتاب متى لم يكونوا كذلك وكان إيمانهم صادقاً، وكانوا متمسّكين بمعتقداتهم، وملتزمين بأحكام دينهم، فلا إكراه ولا إرغام يمارس بحقّهم وإذا كانوا بهذه المواصفات فهم مستعدون لقبول عقد الصلح شئنا أم أبينا.
-------------------------------
عن القانون الدولي في الاسلام


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة القانون