موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة القانون

الوضعية الشرعية للدول غير المسلمة المعاصرة
صلاح عبد الرزاق



تقسم النظرية الكلاسيكية العالم إلى قسمين: دار الإسلام ودار الحرب.
دار الإسلام
وتعرف دار الإسلام: بأنها البلاد التي يسود فيها الحكم الإسلامي تشريعاً وتنفيذاً، وتكون القوة والعزة فيها للمسلمين، سواء كانوا أكثرية السكان بها من المسلمين، أم غير المسلمين. واشترط بعض الفقهاء أن تكون الأكثرية فيها للمسلمين، حتى لو غلب عليها غير مسلم.
ويعرفها بعض الفقهاء المعاصرين بأنها "الأرض التي يمثل فيها المسلمون الأغلبية الساحقة، ويمارسون فيها إلتزاماتهم وشعائرهم الإسلامية بحيث يكون الطابع العام الغالب عليهم إسلامياً، سواء أكان ذلك من خلال المجتمع في حركته، أو خلال الدولة في قوانينها.
دار الحرب:
وتعرف دار الحرب: بأنها الأراضي التابعة لغير المسلمين خارج دار الإسلام. وهذا تعريف عام، لكن بعض الباحثين يرى: هي البلاد التي لا تكون فيها السيادة والمنعة للحاكم المسلم، ولا يقوى فيها المسلمون على تطبيق الأحكام الإسلامية. ويعرفها فضل الله "بأنها الأرض التي يمثل فيها الكفار القوة القاهرة بحيث تعيش تحت تأثير المنهج الكافر للحياة على مستوى الدولة والمجتمع".
ورغم أن هذا التقسيم لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية بل هو مجرد تقسيم وصفي إفترضه فقهاء العصر العباسي لتمييز الدولة الإسلامية عن غيرها ويعتبره الفقهاء المعاصرون صحيحاً، إلا أن هذه التعاريف والمصطلحات ما زالت تثير الإشكالات والتساؤلات حول مصاديقها وتطبيقاتها في العصر الحالي. ومن هذه الأسئلة: أي الدول الإسلامية تعتبر دار إسلام وفق التعريف الفقهي؟ يتساءل الشيخ فيصل المولوي (لبناني سني):
"ما هو المعيار لسلطان الإسلام وتنفيذ أحكامه وإقامة شعائره؟ هل هو إقامة أحكام الإسلام بشكل كامل؟ هذا معناه أن أكثر بلاد المسلمين لم تعد اليوم دار إسلام.
هل يكفي أن تطبق أحكام الأحوال الشخصية الإسلامية دون سائر القوانين؟ هذا معناه ايضاً أن تخرج بلاد إسلامية عريقة من دار الإسلام كتركيا و (تونس) (يطبق في تركيا القانون السويسري الخاص بالأحوال الشخصية).
هل يكفي أن يقيم المسلمون شعائر الإسلام بحرية كالصلاة والصيام والحج والزكاة لتعتبر دار إسلام بناء على استمرار الماضي؟ هذا معناه أن أكثر بلاد المسلمين تعتبر اليوم دار إسلام، ولكن ما الحكم في كثير من البلاد غير الإسلامية التي يأمن فيها المسلمون ويقيمون شعائرهم بحرية أكثر من بعض بلاد المسلمين؟ طبعاً لا يمكن اعتبارها دار إسلام، ولكن من حيث الواقع ليس هناك فرق بينها وبين الكثير من بلاد المسلمين التي لا تطبق أحكام الإسلام، وإن كانت تسمح بإقامة الشعائر الإسلامية".
إن القضية الرئيسة في هذا الموضوع هي الوضعية الشرعية للبلدان غير الإسلامية، أوربية وأميركية وأفريقية وآسيوية. فهل تعتبر دار حرب، وما هي الأسس المعتمدة في ذلك التصنيف؟
يرى آية الله السيد كاظم الحائري، من كبار الأساتذة في الحوزة العلمية في قم، "ان الدول الغربية الحالية هي دار حرب". أما المرجع الديني آية الله السيد محمد حسين فضل الله فيرى أن "البلاد الغربية والدول المحايدة الكافرة الأخرى تعتبر (دار كفر)، ولكن لا يجوز _في رأينا _ الإعتداء على أهلها، وذلك لأننا نستوحي من قوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين)، فهو يدعو إلى البر بهم والعدل معهم فلا ينهاهم عن ممارسة ذلك. ونحن نعرف أن كلمة (العدل) تفرض وجود حق لهؤلاء على المسلمين لابد لهم من قيامهم به ومحافظتهم على إيصاله إليهم، وعلى هذا الأساس، فإننا نستوحي من ذلك أن العدل إذا جاز وجب.
وفي ضوء ذلك كانت فتوانا _التي نختلف فيها مع مشهور الفقهاء _هي أن الأصل حرمة كل إنسان في نفسه وماله وعرضه، إلا المحارب ومن بحكمه من الذين يخرجون المسلمين من ديارهم، ويساعدون على إخراجهم إنطلاقاً من قوله تعالى (إنما ينهاكم عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون).
دار العهد:
إذن نحن أمام قسم ثالث سماه الفقهاء بدار العهد، فما هي شروط دار العهد؟ يعرّف الفقهاء دار العهد بأنها: "بلاد غير إسلامية عقد أهلها الصلح مع المسلمين دون أن تؤخذ منهم جزية. فدارهم لا تخضع لأحكام الإسلام فليست من دار الإسلام، وليس بينهم وبين المسلمين حرب فليست دار حرب". ويعرّفها فضل الله بأنها "الأرض التي يغلب عليها الكفار الذين صالحهم المسلمون على البقاء فيها ودخلوا معهم في معاهدة سلام على أن تكون الأرض لأهلها، وتسمى (دار الصلح)".
ومن الفقهاء الشيعة الذين يرون الدول الغربية دار عهد هو الشيخ محمد علي التسخيري، الذي يرى "أن الدول الغربية ليست من ديار الحرب، إلا إذا دخلت حرباً مع العالم الإسلامي، بل هي من ديار العهد".
ويضيف التسخيري بأنه "لا مانع من توقيع معاهدة عدم إعتداء مع دولة غير مسلمة، بل أن القبول بميثاق الأمم المتحدة يعني ذلك عموماً".
إن التقسيم التقليدي الذي يصنف الدول خارج دار الإسلام بأنها دار حرب لا يعتمد أي قاعدة أو معيار لذلك التقسيم.
ومن ناحية لغوية فإن (دار الحرب) لا تكون مخالفة لـ (دار الإسلام) بل لـ (دار السلم)، إن كان يتضمن المعنى الإصطلاحي لكلمة الإسلام. ولغرض توضيح هذه الفكرة، ومعرفة دلالة كل مصطلح إستناداً إلى معيار معين، سيكون التقسيم حسب ما يلي:
1_ على أساس المعيار الأيديولوجي __ دار الإسلام تقابلها دار الكفر
2_ على أساس المعيار الأمني _____ دار السلم تقابلها دار الحرب
3_ على أساس المعيار السياسي __________________ دار العهد
الغرب دار إسلام!
ويذهب بعض الباحثين والإسلاميين بعيداً في تطبيق هذه المصطلحات على الواقع الحالي للدول الغربية، فالباحث المغربي عبد العزيز بن الصديق يصف الحريات التي يتمتع بها المسلمون والأعداد الغفيرة من المؤسسات الدينية (مساجد، معاهد، مراكز ومدارس وغيرها) التي أسسها المسلمون المقيمون في أوربا وأميركا، وكذلك الدعوة إلى الإسلام واعتناقه من قبل الأوربيين والأميركيين، ليستنتج "أن أوربا وأميركا، من هذه الناحية أصبحت بلداناً إسلامية مستوفية كل الخصائص الإسلامية. وأن المقيم فيها مقيم في دولة إسلامية، حسب المصطلح اللغوي للفقهاء المسلمين". ويؤيد ذلك راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية، حيث صرح عام 1989 في مؤتمر إتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا (UOlF)، "أن فرنسا أصبحت دار اسلام". وقد قبلت المنظمات الإسلامية ذلك الطرح وأصبح يحل محل الرأي السابق الذي يقول "بأن فرنسا جزء من دار العهد".
طاعة القوانين الغربية
يعيش سبعة ملايين مسلم في بلدان أوربا الغربية. ويتمتعون بحرية تامة في ممارسة عباداتهم وشعائرهم. وقد دخلوا هذه البلدان بإذن حكوماتها عبر حصولهم على الفيزا، التي تشابه المفهوم الإسلامي المسمى بالأمان. يرى بعض المراجع الشيعة كالسيد محمد حسين فضل الله أنه "لا ينبغي للمؤمن أن يسيء إلى نظام البلد الذي يعيش فيه، وإلى أمنه، للمفاسد الكثيرة المترتبة على ذلك، ولزوم هتك حرمة المسلمين، بل ربما يحتمل أن هناك إلتزاماً بينه وبين هذا البلد بأن يحافظ على نظامها وأمنها من خلال (الفيزا) التي تمنحها له".
ويتفق الشيخ فيصل المولوي في ذلك الأمر إذ يقول "إن من واجبنا الشرعي أن نلتزم بقوانينهم فيما لا معصية فيه. إن حقوقنا في هذه البلاد هي ما تعطينا قوانينهم من حقوق، ولا يجوز لنا أن نتجاوز هذه القوانين بإحتيال أو كذب أو خديعة أو غدر". أما المفكر الإسلامي كليم صديقي، بريطاني من أصل هندي، فيقول "على المسلمين في الدول الغربية أن يدفعوا الضرائب للسلطات غير المسلمة. ويجب عليهم طاعة القوانين طالما كانت هذه القوانين لا تعارض إلتزامهم بالإسلام وإرتباطهم بالأمة".
التجنس بجنسية غربية
تعرف الجنسية بأنها "رابطة سياسية وقانونية بين الفرد والدولة. وهناك من يضيف إلى هاتين الرابطتين رابطة ثالثة هي الرابطة الإجتماعية وخصوصاً عندما يكون شعب الدولة مكوناً من أمة واحدة".
فهي علاقة سياسية تنشئها الدولة بمحض إرادتها، علاقة سياسية ضرورية تربطها برعاياها فتمنحها لمن تشاء وتحرمها ممن تشاء وفق ظروفها السياسية والإقتصادية والإجتماعية. فهذه الظروف مجتمعة أو منفردة تملي عليها سياسة معينة في مسائل الجنسية. "فقد تكون راغبة في كثرة شعبها فتأخذ حينئذٍ بحق الإقليم بالإضافة إلى حق الدم، فتعتبر كل من ولد في إقليمها متمتعاً بجنسيتها ولا تكتفي فقط بحق الدم. وبجانب هذين الأساسين تذهب أكثر من ذلك فتشجع الدخول في شعبها من الأجانب وذلك بفتح باب التجنس وتخفيف شروطه وإجراءاته. وعلى العكس من ذلك تضيق في سبيل الحصول على جنسيتها متى كانت غير راغبة في تزايد شعبها فتقتصر في منح جنسيتها لمن ولد لأصل يحمل هذه الجنسية أي تقتصر على الأخذ بالدم". والجنسية في القانون هوية خاصة لكل دولة، وهي ترجمة للفظ Nationality.
وهي علاقة قانونية حيث يرتبط طرفاها بروابط قانونية، إذ تفرض على كل منهما إلتزامات للآخر وتقرر له حقوقاً قبله. فهي علاقة قانونية متبادلة أي مزدوجة الأثر. فللشخص حق الحماية لشخصه ولماله ولعرضه وتهيىء له سبل الحياة لتقيه بالوسائل المتاحة لها شر الفقر والمرض والجهل، ولها عليه مقابل ذلك واجب الولاء والطاعة وتنفيذ أوامرها المشروعة.
وتعتبر الجنسية المعيار لتحديد صفة الأجنبي داخل كل دولة وما يترتب على هذه الصفة من آثار من حيث التمتع بالحقوق داخل الدولة، حيث لا يتمتع الأجنبي بالكثير من الحقوق العامة وخاصة الحقوق السياسية.
إن تواجد المسلمين في البلدان الغربية يطرح عدة مشاكل شرعية أمام الأقليات الإسلامية المقيمة. وبعض هذه المشاكل تتعلق مباشرة بوضعيتهم واندماجهم في المجتمعات الغربية، كالتجنس والمشاركة في الحياة السياسية. ويرى بعض المسلمين أن الحصول على جنسية تلك البلدان يسهل الحياة في تلك المجتمعات، إذ أنه يفتح أمامه الأبواب في المشاركة في القضايا العامة والتدرج في الوظائف الحكومية، بل وتمثيل الشعب الغربي ودخول البرلمانات الأوربية، كما هو حاصل في بعض الأحيان. كما أن بعض فئات المسلمين قدمت إلى البلدان الغربية طلباً للجوء السياسي، وبسبب أوضاع بلدانها، فقدت كل وثائقها القانونية وأوراقها الثبوتية، إضافة إلى أن حكومات تلك الدول لا تمنحها وثائق جديدة أو تزود أولاد المهاجرين بوثائق قانونية كجوازات السفر أو شهادات الجنسية. كل ذلك يجعل الحصول على جنسية البلد الغربي أمراً مطلوباً في ذاته، وكذلك لحل العديد من المشاكل القانونية.
وللعلماء المسلمين وجهات نظر مختلفة حول التجنس بجنسية غربية. ومع أن الجنسية لا تحمل بعداً عقائدياً بل هي مجرد إثبات للإنتماء القانوني إلى بلد ما، إلا أن بعض العلماء يعتبرها معياراً للعقيدة والدين، فيعتبر حصول المسلم على جنسية دولة غير مسلمة بمثابة ترك المسلم لدينه، وفك ارتباطه بالعالم الإسلامي. وهذا معيار غير دقيق ويتضمن العديد من الإشكالات منها أن هناك أقليات غير إسلامية تعيش في البلدان الإسلامية وتحمل جنسيتها، فهل يدل ذلك على أنها تركت دينها وأصبحت مسلمة؟ وهناك أقليات إسلامية تعيش في بلدان كافرة، كتابية أو وثنية، وتحمل جنسيتها، فهل يعني أنها غير مسلمة؟ وهناك من يعتنق الإسلام من الغربيين، وبالطبع فهم يحملون جنسية بلدانهم، فهل يُطعن في إسلامهم إذا بقوا حاملين لها؟
وهناك بعض الحالات التأريخية أعتبر فيها الحصول على الجنسية بمثابة مغادرة الإسلام والإرتباط بالأجنبي المحتل، كما حدث في تونس والجزائر حيث كانت الحكومة الفرنسية المستعمرة تشجع المسلمين هناك على الحصول على الجنسية الفرنسية لأسباب سياسية وقانونية من خلال ضم تلك البلدان إلى الدولة الفرنسية بإعتبارهم مواطنين فرنسيين. وكانت السلطات الفرنسية تجند اليهود الجزائريين لتكثير عدد الفرنسيين وللإعتماد عليهم في إدارة البلاد والهيمنة على تجارتها. ولما كانت حركة الجهاد الإسلامي موجهة ضد الإحتلال الأجنبي ومن يتعاون معه، فجرى اعتبار من يتجنس بالجنسية الفرنسية ملتحقاً بخدمة الكفار، ومرتداً عن الدين الإسلامي، ورفض دفنه في مقابر المسلمين. من جانب آخر فإن المتجنس يطبق عليه القانون الفرنسي حتى في الأحوال الشخصية كالنكاح والطلاق والمواريث.
وبقيت نظرة الفقهاء التونسيين والجزائريين والمغاربة سلبية نحو التجنس بسبب الخلفية التاريخية والتجربة السياسية، وبسبب فهمهم الخاص للمسألة للأسباب التي ذكرناها.
وتعرض بعض الفقهاء المعاصرين إلى موضوع التجنس، بعد تغير الظروف وتطور الأوضاع السياسية للبلدان الإٍسلامية والغربية معاً. وبعد ما أخذت أعداد هائلة من المسلمين تذهب إلى الغرب طلباً للرزق والعمل والإقامة، فاصبحت قضية التجنس واحدة من القضايا الهامة التي لابد للإسلام ان يعطي رأيه فيها. فقد نشر الشيخ محمد الشاذلي النيفر، عضو المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي (تونس)، بحثاً حول التجنس، يميز فيه اولاً بين ظروف المتجنسين، فيقسم التجنس إلى قسمين:
1_ التجنس الإضطراري: مثل الأقليات المسلمة التي تقيم في دول غير إسلامية، وهي بالأصل من سكان تلك المناطق، كالمسلمين في الجمهوريات المسلمة التابعة للإتحاد السوفياتي السابق، حيث يقول: "وهي أمم تعد من العالم الإسلامي ولا يمكن أن تنفصل عن العالم الإسلامي. كما أنها جادة في المحافظة على إسلاميتها رغم عوامل الإلحاد الكثيرة". ويناقش قضية الإضطرار وحكم المضطرين للدخول تحت أحكام غير إسلامية، فيضرب مثلاً بقضية الصحابي عمار ابن ياسر عندما أجبره كفار قريش على قول الكفر، وقول الرسول (ص) له: كيف تجد قلبك؟ فقال: مطمئن بالإيمان، فقال (ص): فإن عادوا فعد. ثم يستنتج أن العلماء قد "حملوا كل ما كان سبيله الإكراه على عدم المؤاخذة لأن ما كان أصلاً في الشريعة وكفرَ به، لم يؤاخذ المكره بكفره عليه فسبيل ذلك سبيله". ثم يضيف إن "حكم هؤلاء الجارية عليهم الأحكام غير الإسلامية، حتى اعتبروا متجنسين بجنسية غير إسلامية أنهم مسلمون غير عاصين".
2_ التجنس الإختياري، ويقصد به أولئك المتجنسين المقيمين في البلاد الأجنبية دعتهم أعمالهم ووجودهم في بلد إستوطنوه فاختاروا جنسيته لكنهم لم ينسوا إسلامهم وعملوا لبقائه في أنفسهم وتقدموا في ذلك فأنشأوا مؤسسات إسلامية. ويناقش مدى انطباق قوله تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، ثم يستنتج أنها لا تشمل المسلمين بل هي تخص الكفار، "وبمقتضاه لا يحكم بكفر من دخل تحت أحكام غير إسلامية لأنه ليس مشمولاً لما ورد في الآيات". ويضع الشيخ النيفر شروطاً يجب استيفاؤها من قبل أولئك المقيمين في الدول الغربية، وهي:
1_ أن لا تكون إقامة المسلم في الأرض المحكومة لغير المسلمين إقامة هوان وذلة.
2_ حرية إقامة الشعائر الإسلامية (الصلاة والزكاة والصيام والحج).
3_ الأمن على النفس والولد والمال.
4_ الإحتراز من الفتنة في الدين.
ويعلق بمرارة "على أن الذي يخشى منه هو الآن موجود في البلدان الإسلامية مما يؤسف له، فلا فرق بين البلدان الاسلامية وبين هؤلاء المتساكنين مع غير المسلمين".
أما الشيخ محمد بن عبد الله بن سبيل، إمام الحرم المكي الشريف، فيرى "أن المسلم الذي يقبل الإنتظام في سلك الجنسية يستبدل أحكامها بأحكام القرآن فهو ممن يتبدل الكفر بالإيمان". ويستنتج أن "طلب الجنسية الذي من لوازمه أن يصير المتجنس تابعاً لقوانين وضعية نصوصها صريحة بالحكم بغير ما أنزل الله، وإباحة الزنا وتعاطي الخمور وارتكاب الفجور وتحليل الربا والإكتساب من طرق غير مشروعة، ومنع تعدد الزوجات، واعتبار ما زاد على الواحدة من قبيل الزنا المعاقب عليه (؟!) وإنكار نسب ما ولد له من زوجة أخرى حالة وجودها عنده، ولا حق له في نفقة ولا إرث.. وكون المتجنس مجبوراً على الخدمة العسكرية في جيش الدولة التي انتمى إليها بهذه الجنسية، واستعداده للقتال في أي وقت تقوم حرب على دولته، حتى ولو كان على دولة مسلمة.. يتضح من ذلك أن من يطلب الجنسية من دولة كافرة ميلاً إليهم، ومحبة في القرب منهم، والإنضمام اليهم، والدخول في سلكهم، والرضا بسيطرتهم عليه وعلى ذريته فإنه داخل تحت قول تعالى (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) وقوله: (ومن يتولهم منكم فإنه منهم)".
ولا يخلو الطرح من إشكالات من حيث التعميم وافتراض أن هناك تلازماً بين التجنس وارتكاب المعاصي وكأن التجنس هو الدافع وليست الإقامة، إذ يقيم في الغرب آلاف الفقهاء والعلماء المسلمين، وبعضهم يشرف على المؤسسات الدينية والمساجد، كما ان بعضهم يحملون جنسيات وجوازات غربية.
ويميل الشيخ ابن سبيل إلى تحري الدقة، بعد التعميم السابق، فيقسم المتجنسين إلى ثلاث فئات هي:
"القسم الأول: إذا أخذ الجنسية من يرغب بلاد الكفار ويحبهم ويحب البقاء بينهم، ويرى أن معاملتهم والإنتماء إليهم أفضل من المسلمين. وأنه راضٍ بإجراء أحكامهم عليه من الحكم بغير ما أنزل الله في الأحكام والنكاح والطلاق والميراث، فهذا لا شك في كفره، وهو مرتد عن دين الإسلام ردة صريحة، حتى لو قال أنه مسلم، ولو شهد الشهادتين وصلى وعمل ببعض شرائع الإسلام.
القسم الثاني: راضٍ بالإنتماء إليهم لمصالحه الدنيوية ومعاملاتهم التجارية، فأخذ الجنسية منهم ليتم مقصوده من حصول الدنيا والتسهيلات التي تحصل للمنتمين إليهم، وهو مؤدٍّ لشرائع الإسلام، مظهر لدينه، ولا يترافع إليهم باختياره، فإذا صدر بما لا يخالف الشريعة قبله، وإن صدر بما يخالف الشريعة رفضه. فأرى أن مثل هذا على خطر عظيم من تناول بعض الآيات حيث آثر دنياه على آخرته، وقد ارتكب منكراً عظيماً، فهو على خطر من الردة عن دين الإسلام لركونه إليهم وبقائه بين أظهرهم، لكن لا أجزم بالحكم عليه بالردة، فأتوقف في ذلك، ولكنه بأخذه الجنسية أظهر الميل والمحبة لهم وعرض نفسه للدخول تحت قوله (لا تجد قوماً يومنون بالله واليوم الاخر يوادون من حاد الله ورسوله).
القسم الثالث: من بلي (من المسلمين) بهم (بالكفار) في بلاده وهو كاره لهم ومبغض لدينهم، وحكموه بغير رضاه وأرغموه على التجنس أو مغادرة بلاده وأهله وأولاده، فقبلها للبقاء في بلاده، على ماله وأهله وولده، ومع ذلك هو مقيم لشرائع الدين، مظهر لدينه، معلن العداء لهم، مصارح لهم بكفرهم، وأنهم على باطل، وأن دينه هو الحق، فمثل هذا لا شك أنه على خطر في بقائه عاص، وآثم بقبوله الجنسية بمقدار ما ألزم نفسه فيها، لكن لا نحكم عليه بالكفر ما دام أنه عمل ما في وسعه من عدم اتباعهم وموافقتهم على باطلهم ومن إظهار دينه، ولكن بقاءه بين أظهر الكفار فيه خطر عليه وعلى أولاده ومن تحت يده".
وللشيخ يوسف القرضاوي رأي آخر، حيث ينظر لتواجد المسلمين في الغرب أنهم أزاء مسؤولية كبيرة هي الدعوة إلى الله، وأن حصولهم على الجنسية سيسهل أعمالهم ونشاطاتهم، فيقول "إن تواجد المسلمين خارج العالم الإسلامي هو شرط أساسي لأداء الدعوة إلى الإسلام، وبإمكانه دعم أولئك الناس الذين يعتنقون الإسلام. وفي عالم اليوم لا شك أن حصول المسلم على جنسية البلد المضيف يتضمن فوائد كثيرة، وبهذه الطريقة سيزداد تأثيره. أما من ناحية مضارها، فلا أحد يزعم أن التجنس يتضمن نوعاً من الركون أو الولاء للكفار، والذي يحرّمه القرآن الكريم. فالقرآن يحرم الركون والولاء للكفار الذين يحاربون الإسلام. وهذا لم يعد قائماً في هذا العصر، عصر الثقة المتبادلة والحل السلمي، إنه عصر التعايش بين الأيديولوجيات".
أما قضية الخدمة العسكرية فالشيخ القرضاوي لا يرى إشكالاً في ذلك، إذ يقول "لا ضير في أداء الخدمة العسكرية التي تتبع الحصول على الجنسية الغربية. فاحتمال اضطرار حمل السلاح ضد الإخوة المسلمين قائم في العالم الإسلامي نفسه، ويمكن توضيح ذلك في الحروب الأخيرة بين المسلمين كالحرب العراقية _ الإيرانية". وفي حرب الخليج في الكويت عام 1991 شاركت عشرات الجيوش العربية والإسلامية (مثل مصر وسوريا والسعودية والكويت والإمارات والباكستان والمغرب والسنغال) في القتال إلى جانب القوات الغربية ضد الجيش العراقي. وما زالت قوات المجاهدين الأفغان في حرب وقتال منذ عام 1989.
وما زالت الحكومات في البلدان الإسلامية تستخدم الجيوش المسلمة لقتل المسلمين سواء من نفس الشعب أو الإعتداء على شعب مسلم آخر، فما هو الوضع الشرعي لهؤلاء الجنود والضباط؟
ولا يرى فقهاء الشيعة إشكالاً في حصول المسلم على الجنسية الغربية في ذاتها، لكن بعضهم يشترط أن لا تؤدي إلى ما هو خارج الدين والشريعة. يقول السيد كاظم الحائري "يجوز إكتساب الجنسية على أن لا يستفيد منها ما هو محرم عليه، مثلاً كما لو كانت إمرأة فأخذت من الإرث بقدر ما يساوي سهم أخيها المسلم. فمع تجنب أمثال ذلك من المحرمات لا تحرم الإستفادة من جنسية البلدان الكافرة".
الإنتماء إلى الأحزاب السياسية الغربية
نتيجة للعيش في المجتمعات الغربية، وقبول بعض المتطلبات من أجل المشاركة في الحياة السياسية _ الإجتماعية، فقد وجد المسلمون أنفسهم مدعوين للإنضمام إلى الأحزاب السياسية في البلدان الغربية. ولما كانت الأنظمة السياسية تعتمد الديمقراطية والإنتخابات وسيلة لإدارة البلاد وتبادل السلطة، فقد اكتسبت الديمقراطية والإنتخابات وسيلة لإدارة البلاد وتبادل السلطة، فقد اكتسبت الأحزاب السياسية أهمية كبرى في الحياة السياسية في المجتمعات الغربية. فهي التي تضع الخطط والسياسة العامة وتتخذ القرارات وتناقشها وتسن التشريعات في البرلمانات. ولذلك تعتبر الأحزاب أقوى وسيلة في التأثير على القرارات والمواقف السياسية. وفي أغلب البلدان الغربية، نجد أن الأحزاب السياسية تفتح أبوابها أمام الأجانب ومن ضمنهم المسلمين للإنضمام إليها والمساهمة في نشاطاتها. وبإستطاعة المسلم الحاصل على جنسية البلد المضيف أن يصبح عضواً في البرلمان إذا حصل على أصوات الناخبين. إذ يوجد بضع نواب مسلمين في البرلمان الهولندي، على سبيل المثال.
وإذا كانت قضية التجنس قد أثارت جدل الفقهاء ومدى ارتباطها بموضوع الركون للكفار والولاء لهم، فإن مسألة الإنتماء للأحزاب السياسية الغربية (الكافرة) تثير الكثير من الجدل والنقاش. وتتأثر نظرة الفقهاء للقضية حسب فهمهم للواقع الحاضر والظروف التي يعيشها المسلمون في الغرب، ومدى وضوح الصورة لديهم حول طبيعة الأحزاب الغربية وأهدافها ووظيفتها. ومع ذلك فإن بعض الفقهاء المعاصرين يؤيد الإنضمام إلى الأحزاب السياسية الغربية كالشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر السابق، الذي يقول:
"لما كان التعايش مع غير المسلمين، وفي بلادهم يستدعي الحفاظ على حقوق المسلمين، وكانت النظم السياسية والإدارية متفاوتة، فهي في بلد غيرها في بلد آخر، وهي _بجملتها _ ليست من الأحكام المستمرة أو المستقرة، بمعنى أنها قابلة للتغيير، وتدخل في نطاق أحكام المعاملات التي لم ترد محاذيرها مفصلة في القرآن، والسنة، وإنما جاءت مجملة على نحو ما نوهت عنه هذه الآيات الكريمة، (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) (الممتحنة: 8) وقوله تعالى (اليوم أحل لكم الطيبات، وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم..) (المائدة: 5). فقد اشارت الآيات إلى أن معايشة المسلمين لغير المسلمين في وطن واحد، والتعاون معهم في أمور الحياة مباح، غير منهي عنه، ما داموا لم يتعرضوا للمسلمين في أمر الدين أو الديار. كما أباحت للرجل المسلم التزوج من المرأة الكتابية، أي تكون أسرة ينشأ فيها أولاد، ويترتب عليها صهر، بإفتراض إستمرار الزوجة غير المسلمة على دينها. وفي هذا إباحة التعامل في سائر أمور الحياة بين المسلم وغير المسلم، دون إضرار بالإسلام، ولا بالمسلم في عقيدته ودينه.
وإذا كانت الأحزاب السياسية قد برزت في العصر الحالي كوسيلة للتنافس على الوصول إلى الحكم في أغلب دول العالم، وكذلك الجمعيات والمؤسسات التعاونية الأخرى والنقابات، كل ذلك لخدمة أغراض إجتماعية، أو فئوية أو سياسية، وكلها تدور مع المصالح الذاتية، والعامة لأعضائها في نطاق النظام العام للدولة.
إذا كان كذلك، فإنه لا حرج على مسلم، أو أكثر من الإنضمام إلى أي من الأحزاب المعترف بها من الدولة بالرغم من علمانيتها، أو نصرانيتها ما دامت لا تمس العقيدة الإسلامية، أو المصالح الأساسية للمسلم. ومن ثم كان من المباح في الإسلام إنضمام المسلم _فرداً كان أو جماعة _ إلى أي حزب من الأحزاب السياسية ذات الكيان القانوني في الدولة التي يقيم المسلم على أرضها، وفي نطاق قوانينها، قصداً إلى التمكن من ترشيح نفسه في انتخابات المجالس البلدية أو المجالس النيابية. ومن المباح _كذلك _ للمسلم وللمسلمين كافة في أية دولة الإدلاء بأصواتهم في الإنتخابات لصالح حزب دون التحالف معه، أو مع التحالف، للإستعانة بكل ذلك على تحقيق مصالح المسلمين وحمايتها والدفاع عن الحقوق المشروعة لهم بالذمة والصدق. وعلى المسلمين _في هذه الدول _ أن يسلكوا هذه الطرق المشروعة، وفي نطاق قوانين تلك البلاد، ليكون لهم صوت يحمي مصالحهم، أو ينضموا إلى حزب أو أكثر حسبما يرون، ويصوتوا في الإنتخابات لحزب أو أكثر، ما دام ذلك في صالحهم في موطنهم بشرط ألا يضر هذا بالإسلام عقيدة وشريعة.
وعلى من يكون من المسلمين عضواً في المجالس البلدية، أو النيابية ألا يصادق على أمر معروض ضد عقيدة الإسلام، أو ضد مصالح المسلمين، فلا يصادق على إباحة أمر محرم في الإسلام، أو يناهض أصول العقيدة الإسلامية".
ويتفق الشيخ يوسف القرضاوي مع أهمية دخول المسلمين في الغرب في الأحزاب السياسية، حيث يؤكد "أن ذلك سيكون مصدر قوة لهم من أجل الدفاع عن حقوقهم وأوضاعهم هناك. وأن عليهم أن يعملوا ما بوسعهم في ذلك السبيل، فإذا كان حصولهم على الجنسية سيقويهم فليفعلوا ذلك، وإذا كان الإنتماء للأحزاب الإسلامية يقويهم، فليفعلوا ذلك أيضاً". ويرد على اعتراض حول قضية موالاة غير المسلمين فيقول "أن الأمر ليس كذلك، والمسلم ينتمي بهدف معين، ولا يستلزم موالاته لهم". ويرد على إشكال آخر يتلخص بأن الفقهاء في البلدان الإسلامية يحرمون الإنتماء إلى الأحزاب العلمانية والإشتراكية فكيف يحللون الإنتماء إليها في الغرب؟ فيجيب أن "الفتوى تتغير بحسب الظروف والمواضيع، وأنه في البلد الإسلامي شيء وفي البلدان الغربية شيء آخر".
ويؤيد الشيخ محمد علي التسخيري دخول المسلمين في الأحزاب السياسية الغربية، حيث يرى أنه لا مانع منه، لكنه يضع شرطاً هو أن لا يؤدي ذلك إلى عمل محرم.
أن السيد فضل الله يؤيد الإنضمام للأحزاب السياسية الغربية. يقول سماحته رداً على سؤال حول جواز الدخول في البرلمانات الدولية والمشاركة في مجلس النواب، فأجاب:
"لا مانع من ذلك إذا كانت هناك مصلحة إسلامية عليا، والظاهر وجود المصلحة غالباً بشرط أن يكون المشاركون في مستوى المسؤولية في المحافظة على مصالح المسلمين". فهو يشترط وجود مصلحة إسلامية، ويؤيد وجودها في أغلب الأحيان.
-----------------------
* العالم الاسلامي والغرب ..دراسة في القانون الدولي الاسلامي


 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة القانون