موسوعة المصطلحات والمفاهيم || موسوعة القانون

العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في الفترة الصليبية
* صلاح عبدالرزاق



بقي الصليبيون قرنين في الشرق الأوسط، أسسوا فيها بضع دول، يحيط بها المسلمون من أهل البلاد. وكان الصليبيون يحملون السمات الأوربية آنذاك من التأخر العلمي والجمود الفكري، إضافة إلى فظاظة وقسوة واضحة، فلم يكن لديهم ما يعطونه بقدر ما تعلموه من المسلمين. وعلى الرغم من أن الحضارة الإسلامية في القرن الثاني عشر قد فقدت بريقها وأبهتها، ولكنها كانت ما تزال على مستوىً عالٍ مقارنة بالوضع الأوربي. ولا يسع المجال تماماً للتطرق إلى تفاصيل التأثير الإسلامي على الغازين الصليبيين. فعلى الصعيد العسكري تعلم الأوربيون استخدام الحمام لنقل البريد، واستعمال النار لإعطاء إشارات ضوئية ليلاً والتخاطب عن بعد. وأصبحت زهرة الزنبق، شعار الطبقة الأرستقراطية المسلمة، من مظاهر النبلاء والأمراء الأوربيين. وتعلم الأوربيون استخدام السكر، الذي كان ينتج بكميات كبيرة. وكانوا حتى ذلك الوقت يستخدمون العسل في الطعام والأدوية.
وأصبحت الألفاظ والكلمات العربية متداولة، إذ وجدت طريقها إلى اللغات الأوربية إلى يومنا هذا. وهيأ الاتصال المباشر مع العرب المسلمين فرصة للأوربيين في التعرف إلى الأدب العربي والعادات والتقاليد. يقول المؤرخ توماس آرنولد: في القرن الثاني عشر، جذب الإسلام الكثير من الصليبيين، الذين اعتنقوه. ولم يقتصر ذلك على الناس العاديين، بل الأمراء والقادة. ففي الليلة السابقة لمعركة حطين، اعتنق الإسلام ستة أمراء من مملكة القدس، والتحقوا بقوات العدو (المسلمين)، دون إكراه.
كانت الوضعية السياسية للمنطقة عبارة عن مجموعة من الإمارات الصغيرة، المتداخلة الحدود، بعضها يحكمها مسلمون والأخرى يحكمها مسيحيون. وكانت العلاقات بينها تتراوح بين التعاون والمصالح وبين التوتر والحروب. وكل حاكم أو أمير يرتبط بعلاقات مع جيرانه المسلمين والمسيحيين وفق ما تمليه مصالحه. فكانوا يعقدون معاهدات واتفاقيات تنظم شؤون العلاقات والتجارة والضرائب ومرور القوافل والحجاج والمسافرين. مثلاً، سمح ريموند Raymond حاكم طرابلس الصليبي لقوات الملك الأفضل بالمرور في أراضيه لخوض حرب ضد عدوه. وكان رتشارد الأول Richard I على علاقة ودية مع الملك العادل.
لقد كان من الطبيعي أن تقوى العلاقات بين الأمراء والحكام المسلمين والمسيحيين معاً. وقد تصل العلاقات إلى مستوى التحالف العسكري بين المسلمين والصليبيين، فتجد حلفاً يضم حكاماً مسلمين ومسيحيين يناوئ حلفاً آخر يضم أيضاً مسلمين وصليبيين. ففي عام 1115م أرسل السلطان السلجوقي محمد حملة لتأديب حكام حلب ودمشق الذين اتهمهم بقتل حاكم الموصل عشية الاستعداد للهجوم على الفرنج. ((وعندما وصلت الحملة كاتن تنتظرها مفاجأة، فقد كان بغدوين Bagdwin ملك القدس الصليبي يقف إلى جانب طغتكين حاكم دمشق محاطين بعسكرهما وعساكر إنطاكية وحلب وطرابلس. فإذ كان أمراء الشام، مسلمين وفرنجاً على السواء، قد أحسوا بأنهم مهددون من قبل السلطان فقد قرروا أن يتحالفوا، واضطر الجيش السلجوقي إلى الانسحاب بشكل مخجل بعد عدة أشهر. وعندها أقسم السلطان محمد بألا يهتم بالمشكلة الفرنجية. ولسوف يبر بقسمه)).
لقد بات من الأمور العادية أن يستعين الحاكم بقوة حاكم مجاور دون النظر إلى دينه، مسيحي أم مسلم، فالمهم هو أن ينجد الحاكم بقوة عسكرية لمواجهة وضع متأزم، عصيان داخلي أو غزو من خارج الإمارة. ففي عام 1130م قتل بيمند الثاني Bohemond II حاكم إنطاكية Antioch على يد غازي ابن الأمير دانشمند ((وأرسل رأسه الأشقر محنطاً بعناية وموضوعاً في علبة من الفضة هدية إلى الخليفة العباسي في بغداد. وعندما وصل نبأ موته إلى إنطاكية نظمت أرملته (أليكس) ابنة بغدوين الثاني، ملك القدس، انقلاباً حقيقياً. فتعاونت مع المسيحيين الشرقيين المقيمين في المدينة، وأرسلت رسالة إلى زنكي الأتابكي تعرض فيه حلفاً ضد أبيها بالذات، وتعده بالاعتراف بسلطانه المطلق.قبض أبوها على الرسول وعلى الحصان المهدى إلى زنكي، ودخل إنطاكية بجيشه لإعادة الأمور إلى ما كانت، بيد الصليبيين)).
يعلق أحد المؤرخين على هذا الموقف فيقول: ((إنه لموقف غريب يعلن عن ولادة جيل جديد من الفرنج، الجيل الثاني، ليس بينه وبين رواد الغزو أي شيء مشترك. فإذ كانت الأميرة الشابة من أم أرمنية، ولم تكن قد عرفت أوربا أبداً، فإنها تشعر بأنها شرقية وتتصرف على هذا الأساس)).
وكانت الكنيسة الرومانية ترى أن هذه الوضعية مخالفة للتعاليم المسيحية ((وأن الذين يتاجرون بالأمتعة الحربية مع المسلمين، على الرغم من تحريم ذلك من قبل المجالس الكنسية، يعتبرون أبناء شريرين للكنيسة، وهم مسيحيون مزيفون، يؤمنون بعقيدة الكنيسة الرومانية بالكلام فقط، وينكرونها بأفعالهم)). وتطرق وليم William of Adam إلى أنواع التعامل مع (الظالمين) الذين ((يدمرون ميراث الرب). ووضعت مقررات كنسية وصدرت أوامر بابوية تقيد التجارة بالمواد الحربية فأصبح ممنواً، التجارة بالسلاح، الحديد، الخشب وبناء السفن، أو الإبحار نحو موانئ العدو في كل الأحوال. وأما المتاجرة بالأغذية وغيرها فتصبح ممنوعة في حالة الحرب فقط. ومع ذلك بقيت التجارة مزدهرة مع المسلمين، وبقيت الاتصالات غير التجارية جارية بين الجماعات المسيحية والعالم الإسلامي.
ولقد دهش الرحالة الأندلسي ابن جبير الذي كان يزور دمشق في تلك السنة، 1183م حين كان صلاحا لدين يستعد لمعركة حطين، لرؤية القوافل تذهب وتجيء بيسر بين مصر ودمشق عبر بلاد الفرنج. وقد لاحظ أن للنصارى على المسلمين ضريبة يؤدون في بلادهم، وهي من الأمَنَة على غاية. وتجار النصارى أيضاً يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم. والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال. وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية)).
أما أهل الحرب فكان يملأهم الملل والتعب من حصار المدن والقلاع، والمناوشات الحربية الدائمة. ((وشيئاً فشيئاً قامت صيغة تعايش، فكان فرسان الفرنج وأمراء المسلمين يتداعَون بين مناوشتين إلى مآدب، ويتحادثون بدعة، ويمارسون الألعاب معاً في بعض الأحيان كما يروي بهاء الدين: ذات يوم قرر الرجال من الفريقين، وقد أتعبهم القتال أن ينظموا معركة بين الأولاد، فخرج فَتَيان من المدينة لمقارعة فتيين من الكفار. وفي حمأة المصارعة وثب أحد الصبيين المسلمين على نظيره وطره أرضاً وأخذ بخناقه. وعندما رأى الفرنج أنه يوشك أن يقتله اقتربوا منه وقالوا له: دعه! لقد صار حقاً أسيرك وسوف نفتديه منك. وأخذ دينارين وتركه)).
وكانت تجارة العبيد من التجارات المزدهرة في تلك العصور وقد مارس المسلمون والمسيحيون هذه التجارة، وكان العبيد من كل الأديان أيضاً، مسلمين ومسيحيين ويهوداً. فأصحاب المزارع والملاك والأمراء كانوا يشترون العبيد للعمل في الأرض والزراعة وتربية المواشي. وكانت المصالح الذاتية هي الأساس في تعاملهم مع الواقع. وقد نشأت أعراف وتقاليد بعضها متعصب وبعيد عن التسامح، مثلاً لا يستطيع أمير مسيحي طرد مسلم من أرضه دون سبب، لا يؤذيه.
من جانب آخر كان الحكام المسيحيون يمنعون المسيحي من العمل في منزل مسلم أو يهودي. وأن لا يعمل المسلمون واليهود في الوظائف العامة، وعليهم أن يرتدوا ملابس معينة. وكانت لائحة كليمنتينا Clementinae تمنع نداءات الصلاة أو الحج في الأراضي الخاضعة للسيطرة المسيحية

 

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم   || موسوعة القانون