موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

الشيخ محمد مهدي شمس الدين
مجَالُ الاجتهاد ومناطقُ الفراغ التَّشريعي



1- مجال الاجتهاد في نطاق التشريع المنصوص
إنَّ مجال الاجتهاد المبحوث عنه وفيه، وحقل عمل المجتهد، هو الأدلَّة الشرعية. وهذه الأدلَّة الشرعية هي التي نصبها الشارع المقدَّس للدلالة على الأحكام الشرعية الكلية، فهي طريق المسلم لمعرفة الشريعة،
والإنسان الذي يقود عملية المعرفة الشرعية للمسلم وييسرها له، هو المجتهد.
والشريعة ليست معرفة نظرية اعتقادية فقط، كما هو الشأن في العقيدة، بل هي معرفة من أجل العمل، لأنَّها دستور المسلم وقانونه في حياته اليومية الخاصة والعامة، في علاقته مع المجتمع وعلاقته مع الطبيعة.
وكذلك هي دستور الأمة المسلمة وقانونها في خاصة نفسها، من حيث علاقاتها الداخلية، وفي علاقاتها مع العالم الخارجي (العالم غير المسلم).
وهذه الأدلة الشرعية تنقسم ـ من حيث ما تعلقت به ـ إلى قسمين رئيسين:
أحدهما: الأدلة التي قامت على الأحكام الكلية التي بلّغها النبي (ص) إلى الأمة بصورة مباشرة، أو بلّغها إلى الأمة عن طريق أئمة أهل البيت المعصومين (ع) بتبليغهم إيَّاها.
وهذه من قبيل أدلة العبادات وأدلة تفاصيلها وأجزائها وشرائطها، وأدلَّة علاقات الأسرة (زواج وطلاق وأحكام أولاد ونفقات ومواريث.. وما إلى ذلك) وأدلة تفاصيلها، وأدلة الأنشطة الاقتصادية والمالية والزراعية
والصناعية وأدلة تفاصيلها وشرائطها (بيوع، وإجارات، وشركات، وربا، ومزارعة وغرس ومساقاة، وتدخل في ذلك أحكام الأرضين والمياه والمعادن... وما إلى ذلك). ونظام المحرمات في الأفعال والتروك
والعلاقات (الخمر، والميسر، والزنا، والسرقة، والظلم، والبغي، ومولاة الكفار، والكذب، والنميمة... وما إلى ذلك).
وثانيهما: المبادئ العامة والقواعد التي لم ترد لبيان حكم كلي، من حيث علاقات المسلم والأمة وأفعالهما وتروكهما. بل وردت لبيان الموقف الشرعي والحكم الشرعي ل‍ "حالات معينة" وردت عناوينها في أدلة هذه
المبادئ والقواعد، تعرض للمسلم والأمة.
وهذه من قبيل قاعدة نفي الضرر والضرار، وقاعدة نفي العسر والحرج. وقاعدة الميسور والمعسور، وقاعدة وجوب حفظ النظام، وقاعدة اليسر، وشرط القدرة على الامتثال، وغير ذلك من القواعد والمبادئ العامة.
فإن هذه القواعد والمبادئ العامة لم تنصبّ على أفعال أو تروك أو علاقات مع الطبيعة والمجتمع، بل انصبت على "حالات" تعرض للمسلم والأمة في علاقاتهما مع المجتمع والطبيعة والعالم.
وقد وردت هذه الأدلة على نحو القضية الحقيقية التي لا يعتبر أن يكون موضوعها متحققاً في عالم الوجود العيني بالفعل، بل هي التي يكون موضوعها مقدّر الوجود، فكلما وجد هذا الموضوع ثبت له الحكم الوارد في
الدليل.
وهذه الأدلة هي الحقل الفعلي لعمل المجتهد، وهي المجال الفعلي للاجتهاد والاستنباط.
2- مجال الاجتهاد في نطاق الفراغ التشريعي
تداول الباحثون في الفقه الإسلامي ـ وفيهم فقهاء ـ مصطلح "منطقة الفراغ التشريعي"، ويعنون بذلك أن الله تعالى قد ترك في الإسلام منطقة فراغ تشريعي يتولى التشريع فيها ولي الأمر والفقهاء، بما تقضي به حاجة
الأمة في تطورها، وما يطرأ عليها من تبدلات وتغيرات. وهذه الدعوى قيلت في مواجهة ادعاء جمود الشريعة وعدم تطورها بما تقضي به تغيرات الحياة وتبدلاتها، وهي دعوى جديدة، إذ لم نقع في كلام قدماء الفقهاء
ومن تقدم منهم في هذا العصر على ما يناسبها، ولذا فلابدّ من البحث عن أصل المسألة، وعن مجالها وعن دليلها، وسائر ما يتعلق بها.
وأدلة التشريع العليا هي من قبيل آيات التسخير: الأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الفحشاء... وآيات النهي عن الإسراف والتقتير وشرط القدرة في التكليف، وآيات النهي عن العلو والفساد في الأرض، وآيات النهي
عن تغيير خلق الله..
ننقل البحث إلى المجالات المتصورة لمنطقة الفراغ التشريعي.
يلحظ مجال الفراغ التشريعي، تارة، في نطاق الموضوعات والأفعال والتروك التي ورد فيها إلزام وجوبي أو تحريمي.
ويلحظ، تارة أخرى، في نطاق ما لم يرد فيه من الشارع إلزام كذلك، بل كان من المباحات أو المستحبات أو المكروهات التي تتغير قيودها وظروفها، فتحدث لآحاد المكلفين أو للمجتمع والأمة ظروف جديدة تكون
قيوداً للمباح أو للمكروه أو للمستحب، فيتغير حكمه بتغير ظروفه، "من قبيل الارتكاز الناشئ من أدلة الإباحة العامة وتسلط الناس على أموالهم، على مشروعية استهلاك ما يشاء الإنسان من الماء، وإنجاب ما يرغب
من الذرية، أو استهلاك ما يشتهي من الطاقة".
ولكن لابد من إعادة النظر في هذه المشروعية، نظراً لتغير الظروف التي تستدعي وضع قيود على المشروعية، وتقتضي تحديد سلطة الإنسان والمجتمع، بالأمر هنا من قبيل تغير الحكم لموضوع بإدخال بعض
الشروط عليه.
المباح بالشرط يكون محرماً أو واجباً، وفي الوضعيات، من قبيل تسلط الزوجة على طلاق نفسها بالشرط على الزوج بذلك في متن عقد الزواج.
ويلحظ، تارة ثالثة، في نطاق ما لم يرد له في الشرع عنوان بخصوصه أو بما يعمه، بل هو من المجهولات التي كشف عنها تطور الإنسان والمجتمع في الحياة. وإن كان يدخل في عمومات التشريع العليا، من قبيل
آيات التسخير "تسخير ما في السماوات وما في الأرض للإنسان"، في باب الموضوعات وعلاقة الإنسان بالطبيعة، ومن قبيل "الأمر بالعدل والإحسان والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي"، في باب علاقات البشر
مع بعضهم وأنشطتهم في المجتمع.
ولكن المبدأ التشريعي الأعلى لم يتعرض للأوضاع التنظيمية التي لابد أن تنشأ عن هذين النوعين من العلاقات، علاقة الإنسان والمجتمع بالطبيعة، وعلاقة الإنسان بالإنسان والمجتمع.
ولكن الأوضاع التنظيمية الناشئة عن تطورات مجال الفراغ التشريعي قد تقتضي ـ بل هي تقتضي بالفعل ـ الحجر والتقييد.
وإن الأصل التشريعي الأوَّلي في علاقة الإنسان بالإنسان والمجتمع هو عدم سلطة أحد على أحد وعدم ولايته عليه.
ولكن الأوضاع التنظيمية الناشئة من تطورات مجال الفراغ التشريعي، قد تقتضي ـ بل هي تقتضي بالفعل ـ ممارسة الولاية وسلطة الأمر والنهي وواجب الطاعة.
أ_ فأمّا ما ورد فيه إلزام، فمن الواضح أنه ليس منطقة فراغ تشريعي، فهو في وضعه الطبيعي وبعنوانه الأولي ـ مورد تشريع فعلي. ولكن قد يطرأ على المكلف حالة (الاضطرار، أو العسر والحرج، أو الضرر، أو
العجز، أو الجهل، أو النسيان)، فيترتب على هذه العناوين حكم آخر غير الحكم الأولي الذي هو الوجوب أو الحرمة. فيكون الحرام واجباً أو راجحاً أو مباحاً، ويكون الواجب مباحاً راجحاً أو محرماً.
فاعتبار هذه الموارد من منطقة الفراغ التشريعي فيه تسامح ظاهر. لأن "الحكم الثَّانوي" الثابت، في حالة الضرورة والاضطرار والعسر والحرج، مشرّع أيضاً، وملحوظ في أصل التشريع بنحو القاعدة الكلية.
ب_ أما مجال المباحات بالمعنى الأعم (المباح والمستحب والمكروه)، فقد اعتبره بعضهم "منطقة فراغ تشريعي"، بمعنى أن موضوعاته خالية عن الأحكام الإلزامية. فإذا دعت حاجة المجتمع أو الجماعة أو الفرد إلى
تحريم المباح بالمعنى الأعم أو إيجابه، كان لسلطة التشريع الاجتهادي أن تمنع من فعل المباح فيكون حراماً، أو تأمر بفعله فيكون واجباً. والوجوب والحرمة، هنا، ناشئان من الصلاحية المعطاة لسلطة التشريع
الاجتهادي، وليسا ناشئين من وجود نص خاص أو عام في الشريعة، فبهذا الاعتبار يمكن أن تعتبر هذه الموارد من منطقة الفراغ التشريعي، وإلا فإن المباح بالمعنى الخاص وبالمعنى العام محكوم بالحكم الشرعي
الذي هو الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب، وليس مهملاً بلا حكم.
والفرق بين هذا القسم وسابقه أنَّ الأوَّل لحكمه الثانوي مرجع منصوص في الشريعة، وهو قاعدة الضرر أو الاضطرار أو العسر والحرج. وأما هذا القسم الثاني. فليس لحكمه الثانوي مرجع منصوص في الشريعة،
والسلطة التي أوجبته أو حرمته هي سلطة التشريع الاجتهادي.
ج_ أما مجال المجهولات التي لم يرد لها في الشرع عنوان بخصوصها أو بما يعمها، فهو يشمل موضوعات خارجية وأفعالاً وتروكاً وعلاقات بين البشر أفراداً وجماعات ودولاً.
وهذا المجال من أنشطة البشر وعلاقاتهم ينشأ ويتكون من حركة المجتمع والإنسان في الحياة، وما يحدث له أثناء ذلك من حاجات جديدة ثابتة أو طارئة، وما يكتسبه من معرفة تزيده قدرته على التصرف في محيطه
على الأرض وفي أعماقها وفي الفضاء وما يستلزمه كل ذلك من أساليب الضبط والتنظيم والسيطرة.
وهذا المجال لم يكن موجوداً عند التشريع. ولا يمكن للبشر التنبؤ به. وليس من الحكمة أن يكشف عنه الوحي الإلهي، لأن الحكمة تقضي بإطلاق حرية البشر في تكوين صيغ اختياراتهم وصيغ استجابتهم
لضروراتهم، وتقضي بعدم حصرهم في قوالب وصيغ تنظيمية لتطورهم وصيغ استجابتهم بالاختيار أو الضرورة لمقتضيات هذا التطور الذي تقضي به طبيعة الحياة وتقلباتها. ولابدّ أن تواكب الشريعة ذلك كله، فلا
يجمد الإنسان حائراً لا يعرف الموقف الصحيح والاتجاه المشروع، ولا يتصرف على هواه من غير هدى.
إن مجال الفراغ التشريعي يشمل كل وضع جديد لم يرد فيه نصّ مباشر أو قاعدة عامة، من أوضاع البشر التي تحدث نتيجة للتطور ونمو المعرفة ونمو القدرة، اللذين يقتضيان أشكالاً جديدة ومتطورة من الضبط
والسيطرة والتنظيم للمجتمع وللإنسان في المجتمع، من حيث التعامل والعمل في داخل المجتمع، ومن حيث العلاقة مع الطبيعة.
ويواجه الإنسان الفرد، والجماعة، والمجتمع، والدولة، والجنس البشري، كل ما يولده هذا المجال من ظروف جديدة تماماً تقتضي تشريعات تتناسب مع الضرورات، ومع أنواع الخيارات التي يقتضيها التكيف مع هذه
الظروف الجديدة.
3- الاستنباط في مجالات الفراغ التشريعي:
أسسه وأصوله ومنهجه
إن عملية الاجتهاد والاستنباط، في مجال "الفراغ التشريعي"، التي تنتج الأحكام التدبيرية (التنظيم والعلاقات والإدارة في المجتمع) تقوم على الأسس والأصول العامة للاستنباط بالنِّسبة إلى الأحكام الشرعية الإلهية
التي يعبّر عنها بالفتوى، كما تخضع لهذه الأسس والأصول عملية الاجتهاد والاستنباط في مجال القضاء وفصل الخصومات التي تنتج "الأحكام القضائية" في الدعاوى بين المتخاصمين.
ولكن عملية الاجتهاد والاستنباط في مجال الأحكام التدبيرية (الفراغ التشريعي) تخضع لبعض المعايير الأخرى، بالإضافة إلى الأسس والأصول العامة للاجتهاد والاستنباط.
وهذه المعايير تستفاد مما سميناه "أدلة التشريع العليا" بنحو القواعد الكلية في القضايا المالية والاقتصادية والعلائقية ـ داخل المجتمع المسلم، وبين المجتمع المسلم ودولته والمجتمعات والدول الأخرى ـ والتنظيمية
والأمنية.
كما تستفاد من الموارد الخاصة للأحكام التدبيرية الواردة عن النبي (ص) والأئمة المعصومين:
1- من قبيل نهي النبي (ص) عن ذبح الحُمُر الأهلية الذي فسّره الإمام الباقر (ع) بأنه كان لغرض عدم إفنائها لأن مصلحة المجتمع في بقائها، فإن هذا التفسير يصلح مستنداً لمنع صيد أنواع معينة من الأسماك
والطيور والحيوانات، للمحافظة على أنواعها في الطبيعة.
2- من قبيل التعليل الوارد في أدلة الاحتكار، فإنه لا يصلح أن يحتكر الطعام ويترك الناس ليس لهم طعام.
3- من قبيل التعليلات الواردة في جواز العمل والتعامل مع الحكومات غير الشرعية.
فإن التعليلات الواردة، في هذه الموارد وأمثالها، لا يقتصر فيها على موردها، بل هي معايير ترشد الفقيه والخبير إلى المنهج الذي يجب اعتماده في الاجتهاد والاستنباط في قضايا المجتمع وأنظمته وقضاياه،
والمشاكل التي تواجهه في داخله وفي علاقاته مع الخارج المسلم وغير المسلم.
وعلى هذا الأساس ينبغي أن يكون أصل "المصالح المرسلة" وأصل "سد الذرائع" ـ عند من يقول بهما في المذاهب الإسلامية ـ من أصول الاستنباط في مجال التشريع التدبيري في مجال "الفراغ التشريعي"، وليسا
من أصول الاجتهاد في الأحكام الشرعية الإلهية.
4- سلطة التشريع الاجتهادي في مجالات الفراغ التشريعي
لا ريب في ثبوت سلطة التشريع الاجتهادي في مجالات الفراغ التشريعي للنبي (ص) وللإمام المعصوم (ع)، لكن لا باعتباره نبياً موحى إليه ولا باعتباره إماماً معصوماً مبلغاً للوحي عن النبي (ص)، بل باعتبار "
الولاية والحاكمية = السلطة السياسية" على الأمة والمجتمع. وقد ذكرت أمثلة لهذا التشريع الاجتهادي رويت عن النبي (ص) وبعض الأئمة المعصومين (ع)، سيأتي بيانها.
ولكن الكلام يقع في أن سلطة الفقيه على التشريع في مجالات الفراغ، هل هي مطلقة تشمل الموضوعات الخارجية كتحريم المباحات (من قبيل تحريم الشيخ الشيرازي لاستعمال التنباك) والعلاقات (من قبيل تحريم
التعامل مع إسرائيل) وتحديد الحريات (من قبيل الأوامر والنواهي التنظيمية في البناء والسَّير والزراعة والتجارة ـ حرية استيراد السلع وتصديرها ـ وإنجاب الأولاد، واستهلاك الماء والطاقة.. وأمثال ذلك)
والتصرف في النفس (من قبيل العمليات الجهادية الانتحارية، وهبة أو بيع أعضاء الجسم لمن يحتاجها وأمثال ذلك). أو إنها محدودة في خصوص التشريع المتعلق بالموضوعات الخارجية (من قبيل التنباك،
واستهلاك المياه والطاقة، وغير ذلك). وأمّا القضايا التنظيمية وقضايا العلاقات، فتعود سلطة التشريع فيها إلى أهل الخبرة؟
المعروف، أنه بناء على ثبوت الولاية العامة للفقيه، فإنه يتمتع بسلطة التشريع الاجتهادي في جميع مناطق الفراغ.
وفي هذا مجال للتأمل والنظر، فإن دليل هذا القول عند القائلين به هو أدلة حجّية الفتوى والقضاء. وحيثية سلطته على التشريع الاجتهادي هنا كونه ولي الأمر وحاكماً وليس محض كونه فقيهاً، إلاّ أن يقال: إنه ولي
أمر وحاكم باعتباره فقيهاً، فلذا تكون الولاية على التشريع باعتباره فقيهاً ولي الأمر، وعلى أي حال فإنه ليس مطلق الصلاحية لذلك، بل لابدّ له من الرجوع إلى أهل الخبرة في كل ما يتعلق بتنقيح موضوع الحكم من
الموضوعات، وفي جميع القضايا التنظيمية وقضايا العلاقات.
وأمّا بناء على عدم ثبوت الولاية العامة للفقيه، وثبوت ولاية الأمة على نفسها، فالظاهر أنه لابدّ من الرجوع إلى الفقيه في ما يتعلق بالحكم على الموضوعات الخارجية والتصرف في النفس ـ لكن بقيد رجوعه إلى
أهل الخبرة كما ذكرنا ـ.
وأمّا قضايا العلاقات والتنظيم، فالظاهر أن الولاية على التشريع فيها للأمة نفسها عن طريق ممثليها في هيئات الشورى، ولا تتوقف شرعية الإجراء التنظيمي والخاص بالعلاقات على فتوى الفقيه أو حكمه بما هو
فقيه، أمّا إذا كان هو أحد ممثلي الأمة في هيئات الشورى، فلا ريب في دخالة رأيه بهذا الاعتبار، وإن كان الأحوط الأولى اعتبار رأيه على كل حال.
5- وجه الفرق بين التشريع للموضوعات الخارجية وغيرها
ووجه الفرق بين التشريع للموضوعات الخارجية وبين غيرها في لزوم الرجوع إلى الفقيه، في الموضوعات والتصرف في النفس دون غيرهما، هو أن التشريع في الموضوعات بالإباحة والإيجاب والتحريم من
سنخ الحكم الشرعي الإلهي على الموضوعات المنصوصة، ويكون التشريع فيها غالباً من نوع الحكم الثانوي. وأمّا قضايا العلاقات والتنظيم، فهي بعيدة عن مفهوم الحكم الشرعي الإلهي ـ وإن كان فيها إلزام وحظر ـ
وأقرب إلى الأمور الإجرائية التي ثبت من أدلة التشريع العليا والعامة ولاية الناس على أنفسهم فيها حتى في عصر النبوة والإمامة المعصومة، كتنظيم المدن، والسير، والمراعي، والسوق، وحفظ ـ أو استيراد ـ مقدار
الحاجة من المؤن وسائر السلع، والامتناع عن تقوية العدو، وحفظ الثروات العامة للعامة، وغير ذلك.
6- سنخ الحكم المشرّع
اصطلح بعض الباحثين على تسمية الحكم المشرّع في مجالات الفراغ التشريعي ب‍ "الحكم الولايتي" نسبة إلى الولاية، باعتبار أن هذا الحكم يشرّع من المعصوم (ع) ـ النبي أو الإمام ـ أو من الفقيه في عصر الغيبة،
باعتبارهم أولياء الأمر، لا باعتبار النبوة أو الإمامة أو الفقاهة المقتضية لحجية الفتوى والحكم. وهو الاعتبار الذي يقضي بالنسبة إلى النبي (ص) والإمام (ع) بكون أحكامهما أحكاماً شرعية إلهية واقعية، ويقضي
بالنسبة إلى الفقيه كون فتاواه وأقضيته أحكاماً شرعية ظاهرية.
7- الدليل على سلطة التشريع الاجتهادي في منطقة الفراغ
ذكر بعضهم أن الدليل التشريعي ـ العقيدي على ثبوت سلطة التشريع للفقيه في ما يسمى "منطقة الفراغ التشريعي" عند الحاجة إلى ذلك هو قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم).
بدعوى: أن الفقيه ـ بناء على ولايته العامة ـ تجب له الطاعة بما أنه ولي الأمر، فإذا شرّع حكماً في منطقة الفراغ، بأن أفتى أو حكم بحرمة أو وجوب مباح، وجبت طاعته في ما أفتى أو حكم به.
ولكن هذا الاستدلال غير تام، فهو موقوف على كون المراد بأولي الأمر في الآية الفقيه، وعلى ثبوت الولاية العامة للفقيه. ولو سلم كلاهما ـ وهما موضع نظر، بل منع ـ، فلا تدل الآية الكريمة على ثبوت سلطة
التشريع للفقيه، بل تدل على وجوب طاعته، وهذا أعم من طاعته في ما أفتى به هو أو أفتى به غيره من الأحكام في منطقة الفراغ التشريعي، فلو لم يفت هو وأفتى غيره وأمر بمضمون فتوى غيره من الفقهاء وجبت
طاعته باعتباره فقيهاً مستنبطاً للحكم الشرعي الفرعي، وليس باعتباره حاكماً سياسياً.
وقد عرفت أن الصحيح أن سلطة التشريع ثابتة للفقيه بما هو فقيه لا بما هو ولي الأمر. وأن الفتوى والحكم في ما يسمى منطقة الفراغ التشريعي ليست جعل حكم وتشريعه، بل هي نتيجة استنباط واكتشاف للحكم
المجعول في واقع الأمر من الأدلة الشرعية على حد الاستنباط والإفتاء في سائر المجالات.
8- أمثلة على التشريع "الولايتي" في منطقة الفراغ التشريعي
نذكر أمثلة من التشريع "الولايتي" في ما يلي، وكلها مروية عن رسول الله (ص)، ولها نظائر مروية عن الإمام علي (ع). وفي سيرة الخليفتين أبي بكر وعمر (رض) أمثلة من هذا الباب:
1- فمن أمثلة ذلك نهي النبي (ص) عن بيع الثمرة قبل نضجها، وقد ورد ذلك في رواية صحيحة السند عن الإمام الصادق (ع): "أنه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المسمّاة من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها؟
فقال: قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله (ص) فكانوا يذكرون ذلك، فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرمه، ولكنه فعل ذلك من أجل خصومتهم"(1).
فنهي النبي (ص) هنا من جهة أنه ولي الأمر الذي له أن يمنع من الحلال إذا دعت حاجة المجتمع إلى ذلك. وصريح الرواية أن نهيه (ص) ليس حكماً شرعياً إلهيا حيث قال: ".. ولم يحرمه.."، بل هو إجراء تنظيمي
وإداري.
2- ومن ذلك ما روى عن الإمام الصادق (ع)، قال: "قضى رسول الله (ص) بين أهل البادية أنه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضل كلأ"(2).
ومقتضى الجمود على النص هو تحريم منع فضل الماء وفضل الكلأ عمن يحتاج إليهما. فإن التعبير ب‍ "قضى" وظاهر النهي المحكي، هو التحريم. ولكن المشهور بين الفقهاء هو عدم حرمة منع مالك الماء والكلأ لما
يفضل عن حاجته منهما، بل له أن يمنع ذلك عن غيره في غير موارد ضرورة غيره إليها.
وهذا يقتضي عدم الجمود على النص. وفهم النهي على أنه إجراء تنظيمي لا أنه حكم تحريمي، فقد كان المجتمع المسلم في عصر النبي (ص) في أشد الحاجة إلى إنماء الثروة الحيوانية والزراعية، فألزم ـ باعتباره
حاكماً وولي الأمر ـ من يملك فائضاً عن حاجته من الماء والكلأ ببذله لمن يحتاجه لري زرعه ورعي ماشيته وسقيها.
3- ومن ذلك ما رواه علي بن جعفر (رض) عن أخيه الإمام الكاظم (ع) في شأن نهي النبي (ص) عن أكل لحوم الحمر الأهلية، قال: "سألته عن لحوم الحمر الأهلية، أتؤكل؟. فقال: نهى عنها رسول الله (ص)، وإنما
نهى عنها، لأنهم كانوا يعملون عليها، فكره أن يفنوها"(3).
4- ومن ذلك ما أخرجه كل من البخاري ومسلم، في صحيحيهما، عن أبن عباس قال: "لا أدري أنهى عنه رسول الله من أجل أنه كان حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم. أو حرّمه في يوم خيبر. يعنى الحمر
الأهلية"(4).
الهوامش
ــــــــــ
(1) وسائل الشيعة: ومثله في الجمع بين الصحيحين: 1/64 كتاب البيوع، باب لا يباع الثمر قبل بدو صلاحه/ ح: 93. عن البخاري/ ح: 2193.
(2) وسائل الشيعة: 17/ إحياء الموات/ باب: 7 ح: 2.
(3) وسائل الشيعة: 16. كتاب الأطعمة والأشربة/ ب:4 من أبواب الأطعمة المحرمة/ ح: 10.
(4) الجمع بين الصحيحين مع حذف السند والمكرر من البين: 2/39 ـ باب في المحرم من الأطعمة/ ح: 1532، عن البخاري/ ح: 4227. ومسلم/ ح: 1939.
--------------------------------------
المصدر : الاجتهاد والحياة حوار محمد الحسيني

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع