موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

ناهدة البقصمي
موقف الدين من تكنولوجيا الإخصاب الصناعي



أولاً: الدين الإسلامي:
أبدى رجال الدين على اختلاف دياناتهم اهتماماً متزايداً بالإنسان ومشاكله العملية على أساس أنه خليفة الله على الأرض وسيد المخلوقات. وكان اهتمامهم بالطب والأطباء واضحاً على مر العصور. ولكن الأمر كان
محصوراً فيما يقدمه الطب في كل عصر من العصور دون محاولة للنظر إلى المستقبل، بمعنى أنه لم تكن هناك توقعات مستقبلية بالنسبة لما يمكن أن يصل إليه العلم عموماً والطب بشكل خاص من تطور، سواء في
مجال التكنولوجيا أو الاكتشافات الطبية. ولذلك كان الاكتشاف الجديد في مجال الطب يواجه في البداية بمقاومة من رجال الدين إلى أن يفرض ذلك الاكتشاف نفسه كعنصر أساسي في إنقاذ حياة الإنسان إذ يذكر
الأستاذ فهمي هويدي في مقال له في جريدة الوطن تحت عنوان "مؤتمر المصالحة بين الفقه والعلم" إنه "حتى سنوات قليلة مضت، كان التشريح محظوراً في جامعات الهند وباكستان، وحين عقد المؤتمر الإسلامي
الذي شهدته (كوالالمبور) العاصمة الماليزية عام 1969، كانت عمليات نقل الأعضاء وترقيع القرنية موضوع جدل حامي الوطيس بين المشاركين في المؤتمر، الذي اختلفوا حول الحل والحرمة فيها".
والأمر لا يختلف في الوقت الحاضر عما كان عليه في السابق. فالأطباء يشعرون بأن هناك مشكلات حقيقية تتراكم بفعل التطورات العلمية الحديثة، أما رجال الدين فكثيراً ما يشككون بصحة هذه الاكتشافات الطبية أو
العلمية ذاتها. فكيف نعلل هذا الموقف الذي يتخذه رجال الدين؟ هناك رأي يقول "إن تخلف نتاج الفقهاء في مواجهة الوقائع الطارئة لا يرجع إلى عدم إطاحة الأصول الشرعية بهذه المستحدثات، وإنما يعود في الحقيقة
إلى طائفتين من الأسباب:
"الأولى تتعلق بطريقة تفكير الفقيه، فهو في الغالب محافظ ويميل بطبيعته إلى تقليد من سبقوه ممن لم يمتد بهم العمر ليروا صراعات عصرنا وما بعد عصرنا.
"أما الطائفة الثانية، فهي تتصل بالظروف الاجتماعية المحيطة بالفقيه والتي تمنع إبداعه، الذي يحتاج، ليصبح يانعاً، من الوقت والجهد والأمان مما قد لا تسمح به هذه الظروف".
قد يكون هذا الرأي صحيحاً نوعا ما ، ولكنه دون شك لا يمثل كل جوانب المشكلة. فنحن لا نستطيع أن نتغاضى عن أن الأصول التي يعالج من خلالها الفقهاء المشاكل العملية التي تواجههم، لم تطرح هذا الموضوع
بالشكل المعاصر، وهذا شيء طبيعي لأن هذه مشكلات مستحدثة ولم يكن من الممكن عمل حساب تفاصيلها في تلك الأصول.
لذلك لم يكن من المستغرب حين كتب د. حسان حتحوت في مجلة العربي (العدد 230 يناير 1978)، مقالاً تحت عنوان "قضايا علمية تنتظر أحكامها الشرعية"، تحدث فيه حول خطورة ما توصل إليه العلماء في
مجال الطب، وكان أطفال الأنابيب من بينها، وعن توقعات المستقبل بالنسبة لهذا المجال، ثم حذر رجال الدين من خطورة هذا الموضوع وطالبهم بالإسراع في التوصل إلى حلول شرعية لهذه المشكلة والمشكلات
المتوقعة في المستقبل. لم يكن من المستغرب أن يرد عليه الدكتور يوسف القرضاوي، الذي كان وقتها رئيساً لقسم الشريعة بكلية التربية بقطر، بقوله إن ما يقوله الدكتور حسان ما هو إلا افتراضات متخيلة، وأنها
تشبه المحاولات التي كان يمارسها بعض أهل الجدل في الماضي، والذين كان يطلق عليهم وصف "اللارأيتيين"، لأنهم كانوا يسعون إلى تعجيز الفقهاء عن طريق إطلاق العنان لأخيلتهم، ثم يتوجهون بالسؤال إلى
الفقهاء قائلين: "أرأيت لو حدث كذا، فماذا يكون الرأي الشرعي فيه"؟. ومع ذلك فقد رد الدكتور يوسف القرضاوي على افتراضات الدكتور حسان حتحوت، وبيّن فيها أن الأمر جائز إذا كان محصوراً بين الزوج
والزوجة فقط، أما إذا دخل طرف ثالث فهو غير جائز شرعاً.
ولكن الأمر لم يعد مجرد "خيال علمي" يفترضه روائي ذو خيال واسع مثل الدوس هكسلي في روايته "العالم الجديد الشجاع لقد أصبح واقعاً يفرض نفسه على مجال العلم والطب وعلى تفكير الإنسان. لذلك تنبه
الأطباء المسلمون والفقهاء معا لأهمية هذا الموضوع وأبدوا اهتماماً متزايداً، سواء في مجال أطفال الأنابيب أو كل المجالات الأخرى الجديدة في علم البيولوجيا الطبية كالهندسة الوراثية والاستنساخ الحيوي وغيرها.
بل إنهم فعلوا نفس ما كان يعيبه القرضاوي على الدكتور حسان حتحوت فأطلقوا لخيالهم وتصوراتهم العنان وفرضوا الفرضيات لتساعدهم على إيجاد الإجابات والحلول الشرعية لما هو متوقع في المستقبل، وإن
كانوا قد ركزوا على موضوع أطفال الأنابيب مع عدم إهمالهم للموضوعات الأخرى، على أساس أن هذا الموضوع واقع بالفعل ونمارسه عملياً، خصوصاً أن الدول الإسلامية بدأت بفتح مراكز خاصة بأطفال
الأنابيب والإخصاب الصناعي. أما الهندسة الوراثية والاستنساخ، فقد تم مناقشة هذين الموضوعين في المؤتمرات المختلفة على أساس أن خطورة أحدهما لم تتضح والأخرى مجرد نظرية لم تطبق بعد.
سنركز في عرضنا للنقاش الذي يدور بين الفقهاء والعلماء المسلمين على موضوع أطفال الأنابيب والإخصاب الصناعي، على أن نذكر ـ فيما بعد ـ القرارات التي توصلوا إليها بالنسبة لموضوعي الهندسة الوراثية
والاستنساخ الحيوي.
أولا ـ بداية الحياة:
إن الأساس الذي أقام عليه الفقهاء مناقشتهم لموضوع "الإخصاب الصناعي" و"أطفال الأنابيب"، وما ترتب عليهما من مشاكل، مستمد من النصوص الدينية، وهي الكتاب والسنة فضلاً عن آراء الفقهاء، وعلى الرغم
من ذلك فإن هذا لم يمنع من وجود اختلافات كبيرة في بينهم في بعض الأحيان.
فقد وجد هؤلاء الفقهاء في البداية صعوبة في تحديد الخطوط العامة للموضوع. وهذا ليس مستغرباً، فكما قال الدكتور حسان حتحوت إذا كان الأطباء على مستوى العالم وجدوا ولا يزالون مشقة في خوض غمار هذه
الأمور، فما بالكم بالفقهاء؟ فإن بعض النقاط التي ستعرض هي محدثات جديدة تماماً... لم يرها السلف ولم يكتبوا فيها... ولم تعد المكتبة والكتب هي الملاذ الجامع المانع الذي يجلو كل مبهمه. إن المشكلات التي بين
أيدينا الآن حلولها عقلية بالدرجة الكبرى، نقلية بالدرجة الصغرى، ولن يغني فيها الاستشهاد عن الاجتهاد.
لذلك كان عليهم أن يبدأوا بمناقشة المشكلة من بدايتها. إذ إنهم رأوا في مؤتمري "الإنجاب في ضوء الإسلام" و"بداية الحياة الإنسانية ونهايتها في المفهوم الإسلامي" اللذين عقدا في الكويت في عامي 1983و1985،
أن يردوا في البداية على سؤال جوهري مهم هو: "متى تبدأ الحياة؟" على أساس أنها نقطة الانطلاق التي يمكن أن يبنوا عليها حكمهم الشرعي لقضية "الإخصاب الصناعي" و"أطفال الأنابيب"، بل والقضايا الأخرى
المرتبطة بهما، كالهندسة الوراثية والاستنساخ الحيوي. فالجواب عن مثل هذا السؤال يمكن أن يساعد على حل مشكلات أخرى مثل: ما الذي يجب أن نفعله في البويضات الملقحة الفائضة؟ وهي يجوز تجميدها؟ وإذا
جمدت ولم نكن في حاجة إليها فما الذي يمكن أن نفعله بها؟ هي يجوز أن نجري تجارب عليها؟ ألا يعني ذلك هدراً لحياة الإنسان؟ ثم هل يجوز من الناحية الشرعية أن تستخدم امرأة أخرى هذه البويضات الملقحة؟
تلك كلها أسئلة تثير مشكلات أخلاقية هامة وتحتاج إلى ردود الشرع.
انقسم الأطباء المسلمون والفقهاء في مناقشتهم لموضوع بداية الحياة إلى ثالث فرق:
1_ فريق يرى أن الحياة من لحظة الإخصاب.
2_ فريق يذهب إلى الأخذ بالرأي الشرعي القائل إن الحياة تبدأ بعد نفخ الروح.
3_ أما الفريق الثالث فهو يقول بأن الحياة تبدأ من لحظة "العلوق".
1_ الحياة تبدأ من لحظة الإخصاب:
يرى أصحاب هذا الرأي أن الحياة تبدأ من التحام البويضة بالحيوان المنوي، وهم يعتمدون في ذلك على نوعين من الأدلة:
أ) الأدلة العلمية: عرض د. حسان حتحوت فيلماً في مؤتمر "الإنجاب في ضوء الإسلام" يبين فيه حركة الجنين منذ البدايات الأولى للحمل، وقبل أن تشعر الأم بذلك، مما يدل على أن الجنين يعتبر كائناً حياً منذ لحظة
الإخصاب. ورغم ذلك فقد رفض البعض فكرة أن الحياة الإنسانية تبدأ منذ لحظة الإخصاب على أساس أنه ليس كل التقاء بين بويضة وحيوان منوي يمكن أن يؤدي إلى حمل طبيعي (فقد يؤدي إلى حدوث ما يسمى
بالحمل العنقودي). وهذا ما دفع دكتور حسان حتحوت إلى أن يضع شروطاً معينة تحدد متى يمكن أن تعتبر البويضة الملقحة إنساناً كاملاً، وقد راعى في تلك الشروط الجانب العلمي. وهذه الشروط هي:
1_ أن تكون للبويضة الملقحة بداية واضحة معروفة.
2_ أن تكون قادرة على النمو ما لم تحرم أسبابه.
3_ أن يفضي نموها إلى الإنسان جنيناً ووليداً وطفلاً وصبياً وشاباً وشيخاً وكهلاً إن شاء الله له في الأجل.
4_ أن تكتمل لها الحصيلة الإرثية لجنس الإنسان عامة وكذلك لها هي فرداً بذاته مختلفاً عن غيرها من الأفراد منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة".
ب) الأدلة الشرعية: أما الدليل الثاني فهو مرتبط بالشرع الذي يذهب إلى أنه إذا ثبت أن المرأة حامل، يحفظ حق جنينها الشرعي في الميراث إلى أن يولد، بل إن الميراث لا يوزع إلا بعد الولادة، فإذا كان ذكراًٍ أعطي
له ضعف ما يعطى للأنثى. أما إذا مات قبل الولادة رد الميراث إلى الورثة. إضافة إلى ذلك يرى أصحاب الرأي أن بداية الحياة تكون من وقت الالتحام على أساس قوله تعالى: "خلقنا الإنسان من نطفة" وما يتبع ذلك
ما هو إلا تطور لهذه النطفة. وإذا كان البعض يتهم أصحاب هذا الرأي بأنهم ذوو فكر مادي بحت لا يعطي اعتباراً للروح، فإن الدكتور أحمد القاضي ـ وهو جراح قلب في الولايات المتحدة ـ يرد عليهم بقوله: "إن
هؤلاء حريصون على الحفاظ على هذا الإنسان بما فيه من روح أولا ونفس وحس وكل مقوماته ولزيادتهم في هذا الحرص يريدون أن يسدوا أي باب يمكن أن يؤدي إلى إهدار قيمة هذا الإنسان في أي فترة من
الفترات. وهذا الحذر والتخوف هو بناء على خبرة علمية بما يدور في العالم الآن من إهدار لأرواح قبل الشهر الرابع وبعد الشهر الرابع نتيجة لاختلال مفهوم بدء الحياة الإنسانية".
2_ الحياة تبدأ من نفخ الروح:
التزم الفريق الثاني بحرفية النصوص التزاما كاملاً حين أكد أن الحياة تبدأ بعد نفخ الروح في الجنين، وذلك استناداً إلى الحديث الأربعيني الشريف يقول فيه زيد بن وهب عن عبد الله، قال حدثنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو الصادق الصدوق قال: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً، ثم علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله ملكاً فيؤمر بأربع: أجله، رزقه، وشقي هو أم سعيد، ثم ينفخ فيه
الروح...إلى آخر الحديث" ولا ينكر هذا الفريق ما يقول به العلم من أن الحياة موجودة في الجنين منذ بداية التحام البويضة بالجرثومة المنوية، الذي تؤكده الحقائق العلمية، ولكنهم يتفقون مع الدكتور عمر الأشقر حلو
"إن هذه الحياة ليست هي الحياة المرادة في المصطلح القرآني، وهي لا تخرج الجنين قبل نفخ الروح فيه عن صفة الموت. إن هذه الحياة شبيهة بالحياة التي يوصف بها النبات". ويضيف الدكتور عمر الأشقر قائلاً: "
هذا النوع من الحياة موجود في الإنسان والحيوان ولا شك، يتحقق بها النمو والاغتذاء، ولكنه لا يجعل الجنين حياً في الاصطلاح الشرعي، وقد تنبه علماؤنا إلى نوعية حياة الجنين قبل نفخ الروح فيه، ومن هؤلاء
العلامة "ابن القيم"، الذي يقول في كتابه (التبيان في أقسام القرآن). فإن قيل: الجنين قبل نفخ الروح فيه هل كان فيه حركة وإحساس أم لا؟ قيل فيه حركة النمو والاغتذاء كالنبات ولم تكن حركة نموه واغتذائه بالإرادة
فلما نفخت فيه الروح انضمت حركة حسيته وإرادته إلى حركة نموه واغتذائه".
3_ الحياة تبدأ بعد مرحلة العلوق:
ويحاول الفريق الثالث أن يوفق الرأيين فيذهب إلى أن الحياة لا تبدأ من لحظة الإخصاب، وإنما منذ التصاق البويضة الملقحة بجدار الرحم، أي منذ لحظة (العلوق) كما قال الكثير من الفقهاء والبيولوجيين. "لأن قبل
(العلوق) هناك احتمال أن لا يتحقق له أول مراتب الحياة، وهو أن يعلق فينمو، فإذا لم يعلق فهو حقيقة فيه إمكانية حياة ولكن لم يقدر لها أن تبدأ". وتزداد حرمة الجنين كلما تطور ودخل مراحل النمو الكامل. ولكن
يرد البعض على أصحاب هذا الرأي بقولهم: "إن البويضة الملقحة يمكن أن يكتب لها النمو حتى لو لم "تعلق"، إذ منذ عشرين عاماً استطاع عالم إيطالي أن يلقح بويضة واستمر في رعايتها حتى وصلت الأسبوع
الحادي عشر، ثم توقفت هذه التجارب بأمر من الكنيسة الكاثوليكية حتى عادت الآن من الطريق الآخر الذي هو محاولة إنقاذ الجنين إن نزل في ثمانية وعشرين أسبوعاً إلى ستة وعشرين إلى عشرين. ثم عن
الأبحاث ماضية في استنباط مشيمة صناعية بحيث يأتي الوقت الذي ينزل فيه الجنين في أربعة أشهر أو ثلاثة فيوضع في المشيمة الصناعية لإكمال نموه. فصفة الحياة بدأت بالإخصاب وبدأت معها سمة رئيسية
للحياة وهي النمو، وهذا مستقل عن "العلق" مادام أمكن تدبير الظروف الضرورية". ولكن أغرب الآراء التي طرحت كانت من الشيخ محمد المختار السلامي ـ مفتي الجمهورية التونسية ـ حيث قال: "إن البويضة
الملقحة ليست إنساناً بالفعل، ولكنها إنسان بالقوة على معنى أن كل الصفات الخلقية وكل الخصائص الوراثية كامنة في هذه البويضة، تفضي كل مرحلة إلى مرحلة تالية حتى يتم للكائن وجوده الإنساني الذاتي عندما
ينفصل عن الأم وتشتغل أجهزته باستقلال. فالجنين ما دام في بطن أمه ليس إنساناً كاملاً وليس حيواناً ولكنه في مرتبة بين المرتبتين".
ـ ومهما اختلفت الآراء فإن الهدف كان واحداً، وهو توضيح قدسية حياة الجنين. ولا شك أن تحديد هذه القيمة له أكبر الأثر على موضوع أطفال الأنابيب وما يرتبط به من مشاكل، مثل موقف الشرع من الأجنة
المجمدة، وإجراء التجارب عليها، كذلك موقفه من الأم البداية واستخدام المتطوع للإخصاب، كذلك يعتبر تحديد هذه المسألة مهماً جداً للتطورات الحديثة في مجال البيولوجيا، مثل الاستنساخ الحيوي والهندسة
الوراثية، وذلك لارتباط هذه الاكتشافات بالإنسان عموماً وبالأجنة بشكل خاص. فإذا كان الجنين يعتبر إنساناً كاملاً منذ لحظة التلقيح، فهو من حق الطبيب المسلم أن يجري تجارب على البويضات الملقحة الفائضة؟
وهل حاجة العلم كافية كمبرر لإتمام مثل هذه التجارب؟ ثم هل ينقطع علاقة الأم والأب بالبويضة الملقحة بعد تجميدها وحفظها، بحيث يحق للطبيب أن يلقح امرأة غريبة؟ وما موقف الشرع من كل هذه القضايا
والقضايا الأخرى التي تفرض نفسها على حياتنا نتيجة هذه التطورات الهائلة في مجال الطب والبيولوجيا؟
لقد اهتم الأطباء المسلمون والفقهاء ـ كما سبق القول ـ بتحديد بداية الحياة لوضع قاعدة أساسية يقيمون عليها الأحكام الشرعية، ولذلك توصلوا إلى التوصيات التالية:
1_ بداية الحياة تكون منذ التحام حيوان منوي ببويضة ليكونا البويضة الملقحة التي تحتوي على الحقيبة الوراثية الكاملة للجنس البشري عامة، وللكائن الفرد بذاته المتميز عن كل كائن آخر ـ على مدى الأزمنة ـ
وتشرع في الانقسام لتعطي الجنين النامي المتطور المتجه خلال مراحل الحمل إلى الميلاد.
2_ ما إن يستقر الحمل في بطن المرأة فإن له احتراماً متفقاً عليه ويترتب عليه أحكام شرعية معلومة.
3_ إذا بلغ الجنين مرحلة نفخ الروح (على خلاف في توقيته، أحيانا مائة وعشرون يوماً وأحيانا أربعون يوماً)، تعاظمت حرمته باتفاق وترتب على ذلك أحكام شرعية أخرى.
ثانياًـ الإخصاب الصناعي (أ ـ ص) وأطفال الأنابيب (أ ـ خ ـ ر):
رغم اختلاف "الإخصاب الصناعي" عن أطفال الأنابيب من الناحية التكنولوجية. فإن الموضوعين نوقشا على أساس أن أحكامهما متشابهة تقريباً.
ولقد كان لهذا الموضوع من البداية مؤيدون ومعارضون، ولذلك سنعرض كلا الرأيين ثم نعرض توصيات المجمع الفقهي في مكة مكرمة.
1_ المعارضون: يقيم أصحاب هذا الرأي رفضهم على أساس المخاوف والمحاذير من الانزلاق في متاهات أخلاقية ودينية يصعب ضبطها، وعلى أساس أن هذه الطريق تعارض الغايات الإلهية من الزواج.
أ) "إن هذه الطريقة للحمل بين الأزواج هي غير الطريق الفطري الذي هدى الله الرجل والمرأة إليه.
ب) "إن هذا الطريق تحفّه المخاطر من كل جانب فلا يؤمن الخطأ في الأنابيب، وهو أمر وارد في كل المختبرات والتحاليل، فيعطى مني رجل مكان آخر، وتسلم لقيحة مكان أخرى، وهنا يقع المحظور الشرعي
وتختلط الأنساب.
ج) "إننا لا نأمن سوء النية من أن يستعير الرجل ماء غيره تلبيساً على زوجته، وأن تحصل الزوجة على مني غير زوجها. وأن يتساهل الناس شيئا فشيئاً في هذا الحيوان المنوي، وهو حيوان لا يُرى بالعين
المجردة، وفي هذه البويضة التي هي أصغر من حبة الخردل بكثير.
د) "إنه بفتح مراكز لهذا التلقيح الصناعي سنفتح باب الشر كله، وسيبدأ بين الزوجين، ثم إذا أصبح عملاً تجارياً مربحاً، والحال أنه دقيق جداً وخفي لا يطلع عليه إلا الخبراء وأهل المهنة، فإن الغش فيه وارد بل
محتمل وجائز وأنه لابد وأن يستدرج المسلمون خطوة خطوة حتى نصل إلى ما وصل إليه الغرب الكافر اليوم والجاهلية الأولى قديماً، حيث عرفوا (نكاح الاستبضاع) وهو لا يختلف عن (بنوك المني) في الغرب
اليوم.
هـ) "من يدري ماذا سيكون عليه أمر الطفل الذي كان (لقيحة) في أنبوبة فترة من عمره، هل سيؤثر هذا في نفسيته وسلوكه أم لا. ولكننا ندرك على وجه اليقين أن هؤلاء الأطفال سيكونون موضع التندر والسخرية
في مجتمعنا وسيكونون موضع تساؤل وشك كذلك".
ومهما كان الأساس الذي يقيم عليه هؤلاء اعتراضهم، فإن مخاوفهم لما ما يبررها، إذ أن المشروع ما زال في مراحله الأولى. ولا شك أن الأطباء وعلماء البيولوجيا سيصلون في المستقبل إلى اكتشافات جديدة، تساعد
على تخطي الكثير من العقبات التي يمكن أن تواجههم، والتي قد تصل إلى حد اختراع "رحم صناعي" يتولى علمية الحمل بدلاً عن الأم في المراحل الأولى ـ وهو ما اعتبره الدكتور حسان حتحوت عملية جائزة
شرعاً إذا كانت محصورة بين الزوج والزوجة، أما إذا دخل طرف ثالث متطوعاً، رجل كان أو امرأة، فإنه يصبح محرماً وغير مقبول من الناحية الشرعية. ويخشى المعارضون أن يصل العلماء إلى حد الاستعانة
بكائنات أخرى تقوم بمهمة الحمل كالقردة مثلا... وهي كلها مخاوف تدفعهم إلى الإصرار على رفض هذا الموضوع كلية على أساس أنه يفتح الباب أمام شرور لا حد لها، ويزج بنا في متاهة غامضة قد لا نستطيع
الخروج منها.
2_ المؤيدون: أصحاب هذا الموقف لا يؤيدون فكرة أطفال الأنابيب تأييداً مطلقاً، وإنما يشوب موقفهم شيء من الحذر، وموافقتهم عليه تكتنفها شروط معينة، فهم يرون "أن الأمر لا غبار عليه وهو من قبيل العلاج.
ولذلك ينبغي الحرص الشديد جداً في هذه المسألة خشية اختلاط الأنساب".
ومن أهم الشروط التي وضعوها ما يأتي:
أ) أن يتم التلقيح من مني الزوج.
ب) أن يتم ذلك في حياة الزوج وليس بعد مماته، على أساس أن الزوج حين يموت يصبح غريباً عن زوجته ولذلك يعتبر التلقيح منه حراماً.
ج) أن يكون الطبيب الذي يقوم بالعمل والفريق المساعد له من الممرضين وعمال المختبرات مسلمين مؤتمنين، على أساس أن الطبيب غير المسلم قد يجيز لنفسه استخدام بويضة ملقحة من غير الزوج والزوجة، أو
جرثومة منوية لشخص غريب.
د) وأخيراً أن يتم ذلك بموافقة الزوجين.
ويرى أصحاب هذا الرأي أنهم إذا لم يبيحوا هذا العلاج في العالم الإسلامي فإن الأزواج قد يلجأون إلى الدول الغربية من أجل إجراء مثل هذه العمليات، وهو أمر محفوف بالمخاطر إذ لا يمكن لأحد أن يؤمن التلقيح
بغير (مني) الرجل وبغير (بويضة) المرأة في مثل هذه البلاد.
ولعل أهم فتوى صدرت حول موضوع أطفال الأنابيب في العالم الإسلامي، ويتفق معها معظم الهيئات والفقهاء المسلمين، هي التي صدرت في الدورة السابعة في المجمع الفقهي بمكة المكرمة. ومن أهم بنودها ما
يأتي:
1_ يجوز تلقيح الزوجة اصطناعياً وداخلياً بماء زوجها حتى يتم الحمل.
2_التلقيح الذي يتم خارجياً ـ في إناء ـ بين بذرتي الزوجة والزوج ثم يعاد إلى رحم الزوجة "هو أسلوب مقبول مبدئياً في ذاته بالنظر الشرعي، ولكنه غير سليم تماماً من موجبات الشك فيما يستلزمه ويحيط به من
ملابسات، فلا ينبغي أن يلجأ إليه إلا في حالات الضرورة القصوى وبعد أن تتوفر الشرائط العامة الآنفة الذكر".
لابد أن نلاحظ أنه تم إنشاء مركز الأطفال الأنابيب في السعودية والكويت، مما يعني أنه قد تم التغلب أخيراً على جميع الاعتراضات.
ثالثا ـ الوجه الآخر للعملة:
إن لموضوع "أطفال الأنابيب" أبعاداً غير التي أجازها الشرع ـ أعني التي تتم نتيجة تلقيح بويضة الزوجة بماء الزوج ـ على درجة كبيرة من الخطورة، بحيث إنها تثير مخاوف رجال الدين والأطباء المسلمين على
حد سواء، وهي المخاوف التي حذر منها الدكتور حسان حتحوت وقال: "إن قيمنا الأخلاقية في خطر إذا لم نحافظ عليها ضد التيارات الآتية من الغرب"، ثم بين أننا إذا فتحنا أبوابنا أمام التكنولوجيا الحديثة دون أن
نتحصن بقيمنا وعقيدتنا فإن هذا التيار سيجرفنا. كما أن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق اعتبر هذه التكنولوجيا فتحاً لباب الشرور التي لا يمكن ردعها إذا سمحنا لأنفسنا بالموافقة على جانب منها.
وأهم هذه المخاوف ما يأتي:
1_ تجميد الأجنة:إن اللجوء إلى وسيلة "تجميد الأجنة" من الاختراعات التي صاحبت اكتشاف الإخصاب عن طريق "أطفال الأجنة"، وهي ليست مجرد ترف علمي أو وسيلة غير ضرورية لإتمام عملية الإخصاب
عن طريق الأنابيب، بل هي أساسية للاحتفاظ بالبويضة حية أطول مدة ممكنة حتى الوقت الذي يراه الطبيب مناسباً لزرع البويضة في رحم الأم. كما أنها تساعد الأم على تجنيبها المرور بعملية استخراج البويضات
من الرحم أكثر من مرة، إذ يمكن أن تستخرج ستة أو تسعة بويضات وتلقح، ثم تستخدم إذا ما فشلت العملية مرة أخرى.
المهم أن المسألة كما نرى ضرورية جدا لتحقيق أكبر قدر من النجاح. ولكن "تجميد الأجنة" يفتح أمامنا باباً يمكن أن يسمح بدخول كل ما هو محرم من العالم الإسلامي، وأول هذه المشاكل هي:
2_ البويضات الملقحة والفائضة عن الحاجة: ما الذي يمكن أن نفعله في البويضات الملقحة الفائضة؟ هل نتخلص منها؟ هل يمكن للأطباء إجراء التجارب عليها؟ هل يمكن إعطاؤها لزوجين محرومين من الأطفال؟
هل يحق للزوجة التي توفى زوجها أن يزرع في رحمها بويضتها الملقحة بماء زوجها المتوفى؟
كل هذه الأسئلة تتوقف الإجابة عليها على تحديد متى تبدأ الحياة. فإذا كان رجال الدين والأطباء المسلمون ـ كما سبق القول ـ قد توصلوا إلى أن الحياة تبدأ منذ لحظة التقاء الحيوان المنوي بالبويضة، مما يعني أن
للجنين حرمة وقدسية أخلاقية مساوية لحرمة وقدسية أي إنسان بالغ، فإن هذا يعني أنهم لا يمكن أن يجروا تجارب على الأجنة، ولا يمكن التخلص منها أيضاً. فما الذي يمكن أن نفعله بالأجنة التي تم تجميدها؟ هل
نستخدمها لتلقيح الزوجة مرة أخرى؟ وإذا أبدت عدم رغبتها في ذلك فما الذي يمكن أن نفعله؟ "لقد أصبحت الحياة الإنسانية بذلك ألعوبة في يد العلم". ولكن قد نجد الإجابة عند الفريق الذي يقول إن بداية الحياة تكون
من "العلوق"، فلا شك عندئذ أن إجراء تجارب على هذه البويضات الملقحة الفائضة جائز. أما الذين يقولون إن الحياة الإنسانية تبدأ عند نفخ الروح،أي بعد أربعة أشهر، فهؤلاء ـ دون شك ـ سيجيزون إجراء التجارب
على البويضات الملقحة قبل تلك المرحلة.وبما أن إجراء مثل هذه التجارب ضروري لإنقاذ حياة البشر فهي مهمة جداً. ولكن هناك الكثيرين الذين يخافون الإفتاء في مثل هذه المسألة. ولذلك اقترح الدكتور حسان
حتحوت في ندوة "طفل الأنبوب" ـ التي عقدت في مقر الجمعية الطبية في الكويت يوم الاثنين 30/11/1987 ـ ألا يستخرج الطبيب من رحم الأم أكثر من حاجته لإتمام الحمل، بمعنى أنه لا يستخرج أكثر من ثلاث
بويضات، وهو العدد المسموح به للحمل في كل مرة، وذلك لتجنب مواجهة أي مأزق أخلاقي يمكن أن تثيره هذه القضية.، ولكن ماذا عن إجراء التجارب، أليس الأطباء بحاجة لإجراء تجارب على هذه الأجنة لكي
يستطيعوا من خلالها الكشف عن الأمراض وطرق علاجها؟ فهل نوافق الدكتور عبد الحافظ حلمي ونقول: "لعلها ضرورة تبيح محظوراً". أم نقول مع الدكتور يوسف القرضاوي: إن الناس في عصرنا هذا كل شيء
يريدونه يجعلونه ضرورة" ولكن ألسنا نجد أن إجراء تجارب على بويضات ملقحة لم يتم زراعتها حتى الآن، أمر ضروري لتقدم المعرفة البشرية، ثم إن إجراء تجربة على بويضة أو أكثر يعتبر شيئا زهيداً بالقياس
إلى الملايين التي تهدر في كل شهر. والأهم من ذلك أن موضوعاً كهذا يذكر في المؤتمرات ويبدي رجال الدين فيه خوفهم الشديد من ضياع بويضات ملقحة، مع أن بعضهم يلزمون الصمت عند موت الملايين من
البشر المكتملين نتيجة للجوع أو الظلم أو الاستبداد في الحكم وغيرها من طرق استغلال الإنسان والقضاء عليه. ولابد أن نلاحظ أن رجال الدين المسلمين ليسوا الوحيدين الذين يخافون على البويضات الملقحة، وإنما
أيضا أصحاب الفكر الديني المسيحي الذين أعلنوا عدم موافقتهم سواء على تجميد الأجنة أو إجراء التجارب عليها، كما سنرى فيما بعد.
أما بالنسبة لموضوع استخدام البويضة الملقحة من سائل أخذ من زوج ثم توفى، لزراعتها في رحم الزوجة الحية، فهذه المسألة يرفضها الشرع أيضا، لأنه يرى أنه بمجرد وفاة الزوج تنتهي العلاقة الزوجية، وبالتالي
يعتبر الزوج المتوفى أجنبيا، وغريبا بالنسبة للزوجة. ولعل الذي أثار هذا الموضوع وجعل فقهاءنا يناقشونه ـ رغم أنه أمر بعيد الاحتمال في العالم الإسلامي ـ هو أن هذه القضية ظهرت في العالم الغربي، وفي فرنسا
بالذات، حين رفعت سيدة فرنسية تدعى كورين بربلي Corinne Parpalaix دعوى قضائية ضد بنك الحيوانات المنوية الذي يحتفظ بالسائل المنوي لزوجها المتوفى، حيث طالبت بأن تلقح بهذا السائل، ولكن
البنك رفض الاستجابة لطلبها، وقد استطاعت كورين أن تكسب القضية رغم أن "محامي البنك" قال إنه ليس لها أي حق في هذا الطلب لأن ما تطالب به هو جزء من جسد الميت وليس ملكاً من أملاكه يمكن أن
ترثها. أي أن حقها في ذلك "السائل" لا يختلف عن حق أي امرأة أخرى تتقدم بطلب مساعدة من (البنك).
ولا تقف المخاوف عند هذا الحد، إذ إن تجميد الأجنة سيساعد على فتح أبواب كثيرة مغلقة، ويحقق احلاماً خطرة للكثير من العلماء. فهم يبذلون، في الوقت الحاضر، كل جهدهم للوصول إلى اختراع جهاز يقوم
بالحمل بدل الأم أطول فترة ممكنة. وليس ذلك محض خيال وإنما يحتوى على جانب من الواقع، لا سيما إذا علمنا أن الأطباء استطاعوا في كثير من الأحيان أن ينقذوا جنينا في شهره الخامس ويساعدوه على البقاء
عن طريق الحاضنات الصناعية.
إن هذه القضية مجرد واحدة من المشكلات التي تطرح في ساحة الفكر الإنسان كل يوم ومنذ توصل الأطباء إلى اكتشاف طرق الإنجاب عن طريق الأنابيب، ولا شك أن العالم سيفاجأ كل يوم بخبر جديد، ولذلك فعلى
رجال الدين والمهتمين بتطبيق الشريعة أن يلموا بهذه التطورات أولا بأول حتى لا يفاجأوا بما لا يحمد عقباه.
3_ الرحم الظئر: رغم أن المشكلات السابقة مخيفة، فإن مشكلة الأم البديلة أو (الرحم الظئر)، تثير رعباً أكبر عند رجال الدين والمشرعين المسلمين، وذلك لسببين: الأول هو أنها أصبحت واقعاً فعلياً يمارس في دول
العالم الغربي التي فتحت مستشفياتها أبوابها لمساعدة كل من يرغب. والثاني أننا لا نستطيع أن نمنع الناس في بلادنا ـ والأغنياء منهم بالذات ـ من الذهاب إلى الخارج وتحقيق ما يرغبون فيه من الحصول على أطفال
عن طريق استئجار أم بديلة.
ولذلك رفع رجال الدين صوته الغاضب عالياً واستنكروا هذا الأسلوب بشدة، وكانوا على حق في الانزعاج، إذ إن الأنباء التي تأتينا كل يوم حول هذا الموضوع تدعو حقاً إلى القلق.
ولعل الخبر التالي ـ الذي تناقلته وكالات الأنباء ـ قد يؤكد مثل هذا القلق، "ففي جوهانسبورج علم أن مواطنة بيضاء من جنوب أفريقيا ـ 48 عاماً ـ كانت أول امرأة تحمل أطفال ابنتها أو بمعنى آخر أول جدة أم في
العالم وضعت ثلاث توائم. وعلم في المستشفى أن المواليد الثلاثة صبيان وفتاة، خرجوا للحياة بعد جراحة قيصرية، وأن الجدة ـ الأم ـ وتدعى (بات أنتوني) في حالة طيبة. وكانت السيدة (أنتوني) قد عرضت على
ابنتها أن تحمل عنها أطفالاً بما أن الابنة كارين ـ 25 عاماً ـ عاجزة عن ذلك". قد يجد البعض في هذا الخبر صورة إنسانية رائعة تمثل علاقة الحب بين الأم وابنتها قد تصل إلى حد التضحية.
ولكن سنصاب بالرعب، دون شك، حين نسمع ما قالته سيدة أخرى اسمها كيم كوتنKim Cotton ، وهي أول أم بديلة في إنجلترا، لا شك سيثير رعبنا وخوفنا على المستقبل. فحين سئلت: هل شعرت بأي تأنيب
ضمير حين وافقت على أخذ النقود من أجل تقديم مثل هذه الخدمة؟ كان جوابها بالنفي، فهي، كما تدعي لم تفعل ذلك من أجل المال، ولكنها ما كانت لتقدم على خطوة كهذه بدونه.ولكن الأخطر من هذا التصريح، هو ما
قاله زوج الأم البديلة، حين سئل عن شعوره حيال أخذ زوجته المال، حيث قال: "ما كنت لأشعر بالسعادة لو أن زوجتي فعلت ذلك لمجرد مساعدة الآخرين بدون مقابل مادي".
لو أننا تأملنا موقف كل من الأم البديلة وزوجها لوجدنا أن قيمة أخلاقية مهمة معرضة للخطر، وهي مرتبطة بمفهوم "الغيرية" والرغبة في مساعدة الآخرين، إذ إنه من الواضح أن كليهما يرفض مساعدة الغير من
حيث المبدأ، لمجرد المبادئ أو القيم الأخلاقية، ويتمسك على العكس بالنظرة التجارية الخالصة إلى موضوع يتعلق بعاطفة مقدسة هي الأمومة، وبعملية إنجاب كائن جديد، وهي عملية كان لها احترامها وقيمتها عند
البشر منذ بدء التاريخ. وقد يقول قائل إن النظرة التجارية والمادية كانت موجودة عند كثير من البشر طوال التاريخ، ولكننا يمكن أن نرد عليه بأنه لم يسبق لأي إنسان أن أعلن على الملأ أن أمراً كهذا جائز، بل
مقبول أخلاقياً ألا يثير هذا رعبنا؟ إن القمقم الذي حبس فيه الجني قد فتح ونحن لا نزال في بداية الطريق، فكيف لو عرفنا أن الدكتور حسان حتحوت أكد أن سيدة كويتية جاءت إليه في العيادة تقول له إن خادمتها "
الهندية" على استعداد أن تحمل بدلاً عنها، ببويضتها الملقحة مقابل ألف دينار فقط.
ألسنا نجد هنا بداية لانقلاب في القيم الأخلاقية، تصطبغ فيه الأمومة بالصبغة التجارية، وتصبح سلعة تباع وتشترى، بعد أن كانت محاطة في جميع مذاهبنا الأخلاقية والدينية بالتبجيل والاحترام؟
لذلك كانت الفتوى التي صدرت في مؤتمر "الإنجاب في ضوء الإسلام" حول موضوع "أطفال الأنابيب والأم البديلة"، هي ما يأتي: "أنه جائز شرعاً (أثناء قيام الزوجية) وروعيت الضمانات الدقيقة الكافية لمنع
اختلاط الأنساب (وإن كان هناك تحفظ حتى على ذلك، سداً للذرائع). واتفق على أن ذلك يكون حراماً إذا كان في الأمر طرف ثالث سواء أكان منياً أم بويضة أم جنيناً، أم رحماً". ولكن ماذا لو أن الأمر تم بالفعل،
بمعنى أن زوجين حصلا على "طفل أنبوب" بمساعدة أم بديلة؟ يقول الأستاذ نعيم ياسين رداً على هذا السؤال: "لو أن العملية تمت بالفعل، فإن صاحبها يستحق التعزيز لأنه ارتكب جرماً ولا يستحق طبعاً عقوبة
الزنى؟ التي هي الحد. وبالفعل اعتقد أن هذا الأمر تختلف عن الزنى، مما ينعكس على الحكم الفرعي الآخر، وهو حكم الوليد الجنين الذي تلده صاحبة الرحم الظئر، وأرى أنه إذا كانت الإسلام يتشوف إلى إثبات
الأنساب، وسوف يكون من المعروف ومن المعلوم للناس جميعا أن هذا الجنين ابن فلان من الناحية العملية، فأعتقد والله أعلم أن نسبته إلى أبيه الأصلي وأمه صاحبة البويضة أولى شرعاً من نسبته إلى والدته، وذلك
لأنه كما قلت هناك فوارق بين هذه العملية والزنى" ويرى البعض الآخر "أنه على أحسن الفروض يمكن أن تعامل الأم البديلة على أنها مرضعة لأن الجنين تغذى بدمائها واحتضن برحمها وربي في بطنها، وبذلك لها
عليه حقوق الأم المرضعة".
ولكن لم يكن هناك دائما حذر تجاه قضية "الرحم الظئر"، إذ إن المجمع الفقهي بمكة المكرمة أصدر فتوى حول حمل المرأة بدلا عن ضرتها، يقول فيها: "إن أخذت النطفة والبويضة من زوجين وبعد تلقيحهما في
وعاء الاختبار ثم تم زرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه حيث تتطوع بمحض اختيارها بهذا الحمل عن ضرتها المنزوعة الرحم، يظهر لمجلس المجمع أنه جائز عند الحاجة بالشروط العامة المذكورة"
ثم يضيف المجمع إلى ذلك بقوله: "أما الزوجة المتطوعة بالحمل عن ضرتها فتكون في حكم الأم المرضعة للمولود لأنه اكتسب من جسمها وعضويتها أكثر مما يكتسب الرضيع من مرضعته في نصاب الرضاع الذي
يحرم به ما يحرم من النسب. أما الأساليب الأخرى للتلقيح الاصطناعي سواء الداخلي منها أو الخارجي ـ بما في ذلك الرحم الظئر واستخدام رحم بديل أجنبي ـ فهي جميعا محرمة وغير جائزة، ولا مجال لإباحة شيء
منها لأن البذرتين الذكرية والأنثوية فيها ليست من زوجين أو لأن المتطوع بالحمل هي أجنبية عن الزوجين مصدر البذرتين".
من الملاحظ أن هناك اختلافاً أساسياً بين الفتاوى، وأن هناك مواقف معينة تم التراجع عنها. ولعل هذا راجع إلى شدة تعقد الموضوع وجديته، كما أنه دليل على عدم وجود نصوص شرعية صريحة يمكن الرجوع
إليها في هذا الموضوع.
ومما سبق نلاحظ أن فقهاء المسلمين أبدوا اهتماماً كبيراً بموضوع الإخصاب الصناعي وأطفال الأنابيب، رغم أنه في البداية اعتبر البعض أن الموضوع مجرد افتراضات، ولكنه حين أصبح واقعاً يفرض نفسه على
المجتمع العالمي، ازداد اهتمامهم بالموضوع إلى حد أننا أصبحنا نسمع عن إقامة مؤتمرات عديدة في الكويت، والسعودية، والقاهرة، كلها تهتم بمشكلة أطفال الأنابيب وما يترتب عليها من نتائج. بل أصبح البعض من
الأطباء والفقهاء يتابعون كل التطورات التي تظهر في هذا المجال.
ولكن ماذا عن موقف رجال الدين المسيحيين من هذا الموضوع؟
ثانياً ـ موقف الدين المسيحي من تكنولوجيا الإخصاب الصناعي:
أولاًـ الإخصاب الصناعي:
إن اهتمام رجال الدين المسيحي بالتطورات البيولوجية الطبية الحديثة ليس وليد الساعة بل يعود إلى بدايات هذا القرن. ومع ذلك فرغم النقاش الطويل الذي دار حول الموضوع، ورغم أن هذه التطورات فرضت
نفسها على المجتمع الغربي، وتقبلتها الأوساط العلمية والمجتمع كحل لأهم المشكلات الطبية، فإن النتائج التي توصل إليها رجال الدين المسيحيون لا تختلف كثيراً عما توصل إليه المسلمون ـ وإن كانوا في بعض
الأحيان بالغوا في الرفض والتحريم ـ كما اعتمدوا أيضا في تحريمهم أو قبولهم على النصوص الدينية.
ولكن نقاشهم للموضوع أخذ بعداً مختلفاً عما أخذه في العالم الإسلامي. فقد كان النقاش منذ بدايته ذا صورة فلسفية أكثر مما كان له طابع ديني بحت. فقد اهتم رجال الدين والفلاسفة اللاهوتيون والفلاسفة المتخصصون
بهذا الموضوع على أساس أنه يشكل جزءاً مهما من الفكر الإنساني وله تأثيرات مستقبلية من الخطورة بحيث لا يمكن لأي من الأطراف أن يتخذ قراراً دون إقناع الأطراف الأخرى. ولكننا لن نعرض لهذا النقاش
الفلسفي، وإنما سنكتفي بآراء رجال الدين المسيحي.
يرجع اهتمام رجال الدين بموضوع الإخصاب الصناعي إلى نهاية الأربعينات من هذا القرن. وقد كانت الكاثولويكية أكثر المذاهب اهتماما وتشدداً بالنسبة لهذا الموضوع. فقد ألقى البابا بيوس الثانيPius XII، ثلاث
خطب مهمة فيما بين عام 1949 وعام 1956.
وقد حرم في خطبه الثلاثة الإخصاب الصناعي بكل أنواعه للأسباب التالية المنزل العائلي والمأوى العائلي Domestic Hearth الذي يعتبر ملاذ الأسرة، إلى مجرد مختبر بيولوجيا.
2_ إن الإخصاب الصناعي يفرق بين معنى الوحدة والإنجاب اللذين تشملهما العلاقة الزوجية، وهو ما يخالف الغاية الإلهية من الزواج.
3_ إن الإخصاب الصناعي يلجأ إلى وسيلة غير أخلاقية هي (الاستمناء).
4_ إن الإخصاب الصناعي عن طريق متطوع يهدم الزواج الذي يقوم على أساس أن خلق حياة جديدة لا يمكن إن يكون إلا من ثمرة زواج.
ولكن البابا بيوس الثاني عشر وضع استثناء بالنسبة للإخصاب الصناعي عن طريق الزوج واعتبره مقبولاً بشرط واحد، هو أن يتم استخراج السائل المنوي بطرق أخرى غير الطرق التي يمكن أن تجعلنا نخالف
الطبيعة.
سنعرض هذه النقاط بشيء من التفضيل، ثم نناقش بقية الاعتراضات التي وجهتها المسيحية ضد الإخصاب الصناعي وأطفال الأنابيب.
1_ الإخصاب الصناعي عملية غير طبيعية:
يرفض البعض ـ من المسيحيين ـ الإخصاب الصناعي بكل أشكاله على أساس أنه عملية غير طبيعة تهدف إلى التدخل في مسار الطبيعة. ولهذا فهم "يعتبرون هذه العملية غير أخلاقية لانها غير طبيعية". أما الجانب
غير الطبيعي في هذه العملية،فهو يكمن في طريقة الحصول على السائل المنوي عن طريق الاستمناء Masturbation، حيث يرى المسيحيون أن هذه الطريقة تخالف أهداف الغاية الإلهية من الزواج وهو ـ
الاتصال الجنسي المباشر.
يرد (ليجرLygre. D.) على هذه النقطة بقوله: "لابد أن نحدد في البداية ما المقصود بكلمة "غير الطبيعي". يقصد بهذه الكلمة عموماً أي شيء صناعي، أو أي شيء يخالف قوانين الطبيعة، أو سلوك غير عادي.
ولكن من الصعب أن نطبق هذه التعريفات على الإخصاب الصناعي لأنها أساساً جزء من الطبيعة. فهل إذا ما طورنا طرقاً جديدة للتحكم بمحيطنا نكو قد سلكنا سلوكا غير طبيعي؟ وهل من "غير الطبيعي" بالنسبة لنا
أن نستخدم ذكاءنا ومهاراتنا لتحسين مستوى معيشتنا، سواء في الجانب الفسيولوجي أو الثقافي؟ لا اعتقد". ثم ما هو غير الطبيعي في عملية الإخصاب الصناعي؟ إن الدور نقوم به لا يتعدى كوننا نساعد الطبيعة على
أن تسير في مجراها. فنحن لا نصنع السائل المنوي ولا البويضة ولا الجنين. فأين هو ذلك الشيء غير الطبيعي؟
إن من صفات الإنسان الأساسية والتي تشكل "إنسانيته"، القدرة على صنع الأشياء واختيارها والتخطيط لها. فكيف يمكن أن نقول عن تكنولوجيا الإخصاب الصناعي إنها عملية غير طبيعية وغير إنسانية؟ لذلك فإن
أي محاولة للفصل بين طريقة الإخصاب البيولوجية القديمة، وطريقة الإخصاب الصناعي تعتبر غير منطقية. "لذلك يمكن اعتبار تكنولوجيا الإخصاب الصناعي غير طبيعية إذا اعتبرنا كل الطب غير طبيعي".
أما بالنسبة لغير الأخلاقي فهذا غير وارد أيضاً، لأننا كما (ليجر): "اتفقنا منذ زمن بعيد على ألا نتراجع لحظة واحدة عن كل ما يمكن أن يحسن بيئتنا ويقلل معاناتنا، مهما كان غير طبيعي، وهو ما يشكل حجر الزاوية
في المجتمع الإنساني المتحضر". فإذا تأملنا حولنا وجدنا أن الطب الحديث يعتمد اعتماداً كبيراً على الأجهزة والتكنولوجيا الحديثة. فالطبيب غير قادر على إجراء أي عملية بدون جهاز للتنفس ومواد للتخدير وأدوات
للجراحة وغيرها من الأجهزة. فإذا اعتبرنا كل هذه الأشياء غير طبيعية وإذا كنا نؤمن أن كل شيء غير طبيعي غير أخلاقي فلابد أن نمنع كل العمليات الجراحية والأدوية والأدوات التي تستخدم لتقليل معاناة
الإنسان.
إن المسألة الأساسية في "الأخلاق" ليست متى يكون منهج أو طريقة معينة طبيعية أو غير طبيعية، وإنما هي أن نقرر بحكمة متى يجب أن نستخدم هذه الطرق والمناهج. وقد قال جوزف فلتشر J.Fetcher وهو
مفكر أخلاقي معروف من جامعة فرجينياـ "إن سقراط قال: إنه من الأفضل أن تكون رجلاً غير سعيد من أن تكون خنزيراً سعيداً. فالخنزير يمكن أن يكتفي بالأشياء كما هي أما البشر فلا، فهم يكافحون لكي يجعلوا
الأشياء أفضل، متحملين مخاطر السعي وراء التغيير والتطوير. وهذا ما يجعل البشر بشراً".
2_ الإخصاب الصناعي مرفوض لاستخدام طريقة الاستمناء:
يعترض رجال الدين المسيحي على الإخصاب الصناعي بكل أنواعه لأن العملية تحتاج إلى استخدام طريقة "الاستمناء" للحصول على "السائل" المطلوب. وبما أن هذه الطريقة محرمة، بالإضافة إلى أنهم يخشون أن
يتعود الزوج أو المتطوع على هذه العملية ـ عندما يمارسها ولو مرة واحدة ـ وبالتالي أن يؤدي ذلك إلى تدمير الحياة الزوجية، لهذا كله رفضوا الإخصاب الصناعي. ولكنهم يدعمون موقفهم هذا بقصة رويت في سفر
التكوين: "وأخذ يهوذا زوجة لغير بكره اسمها ثامار. وكان غير بكر يهوذا شريراً في عيني الرب. فأماته الرب. فقال يهوذا لاونان ادخل على امرأة أخيك وتزوج بها وأقم نسلاً لأخيك. فعلم أونان أن النسل لا يكون له.
فكان إذا دخل على امرأة أخيه أفسد على الأرض لكيلا يعطي نسلاً لأخيه. فقبح في عيني الرب ما فعله. فأماته أيضاً"
ولكنني أرى أن هناك اختلافا كبيراً بين حالة "أونان" في هذا النص، وبين أساليب الإخصاب الصناعي المستخدمة حاليا، بحيث إن الالتجاء إلى هذا النص ينطوي على تعسف واضح.
أضف إلى ذلك أن العملية التي تجري من أجل الحصول على السائل لا يصاحبها أي شعور باللذة، لأنها تتم بهدف الإخصاب فقط، كما أنها لا تؤثر على خواص الجرثومة المنوية ولا تؤدي إلى تلفها أو تشوه الجنين
كما يعتقد بعض المسيحيين. ولا يمكن لأي إنسان أن يتعود على سلوك لممارسته مرة واحدة فقط.
3_ الإخصاب الصناعي يخالف المقاصد والغايات الإلهية من الزواج:
ترى المسيحية في الإخصاب الصناعي، خاصة عن طريق المتطوع، خروجاً عن المقاصد الإلهية من الزواج. فالله قد جمع في الزواج بين الوحدة والإنجاب. أما عن الوحدة فقد قال آدم عن حواء في سفر التكوين: "
هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي. هذه تدعى امرأة لأنها من امرئ أخذت. لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسداً واحداً". وبالنسبة للإنجاب فقد ذكر في سفر التكوين أنه: "خلف الله
الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه، ذكر وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال له اثمروا وأكثروا واملأوا الأرض". فإذا كان الله جمع هذين الجانبين في الزواج واعتبرهما أساس الحياة الزوجية، فإن استخدام أي
طريقة أخرى للانجاب يعتبر غير أخلاقي ومخالفاً للغايات الإلهية من الزواج. وقد علق (بول رامزيPaul Ramsey) وهو فيلسوف أخلاقي معروف على هذه الطريقة للإخصاب بقوله: "طالما أن الإخصاب
الصناعي عن طريق المتطوع يبعد تماماً بين ما جمعه الله في الزواج، فإن هذه الطريقة للإنجاب يجب أن ينظر إليها على أنها حد من حرية الإنسان، لا تختلف عن الوضع الذي يمنع فيه الإنسان من ممارسته
لإرادته". ويرد البعض على هذا الرأي بالقول إن الإخصاب الصناعي عموماً، ومن الزوج بشكل خاص، لا يحطم العلاقات الزوجية ولا يخرج من المقاصد الإلهية، فهو في معظم الحالات يقدم للأسرة الشيء الذي
حرمت منه، أي السعادة، وبالتالي يقوي ترابط أفرادها. وهذا حق طبيعي لكل فرد من أفراد الجنس البشري.
ويرد البابا بيوس الثاني عشر على هذا الرأي بقوله "إن الإخصاب الصناعي بكل أنواعه يبرز من فلسفة زائفة للحياة، تدعى أن السعادة حق من حقوق الإنسان ولذلك إذا أراد الزوجان إتمام سعادتهما، فإن هذا الطفل
من حق من حقوقهما أيضاً". وبالتالي فإن الطفل في هذه الحالة ـ كما يرى البابا بيوس الثاني عشر ـ يتحول إلى وسيلة للسعادة وليس غاية في ذاتها.
ومن الملاحظ أن البابا بيوس الثاني عشر متمسك بهذا الرأي على أساس أن المسيحية ترى أن الإيمان بأن الله "مطلق" يستدعي أن لا يكون لأي إنسان حق مطلق في أي شيء، ولذلك فإنه ليس من المفترض، وبشكل
قاطع، أن يكون من حق كل امرأة أن تحصل على طفل. وعليها أن تتحمل ألم الحرمان لأن تلك هي إرادة الله. كما أن تحمل الألم والصبر من الصفات المهمة التي يجب أن يتحلى بها المسيحي المؤمن كما ذكر في
رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية "وليس ذلك فقط بل نفتخر أيضا في الضيقات عالمين أن الضيق ينشىء صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء والرجاء لا يخزي لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح
القدس المعطى لنا. وإذا أضفنا إلى ذلك أن الكاثوليكية تحرم الطلاق، فإن الصبر أمر لا مفر منه، لأن أي ارتباط بأي طرف آخر غير الزوج ـ حتى لو كان مجرد سائل منوي ـ يعتبر نوعا من الزنى.
ولكن (جوزف فلتشرFletchr J.) يرى أن حصول الوالدين على طفل، ليس مسألة حق طبيعي، إذ إنه لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه حق طبيعي لأن الحقوق كلها مكتسبة. وإنما هي قضية قائمة أساسا على ما
يمكن أن نطلق عليه (الحاجة Need). نعم إن الحاجات كما يرى "فلتشر" هي الأساس في تبرير أي سلوك نقوم به. "فإذا تعارضت الحقوق مع الحاجات البشرية، فلابد أن تنتصر الحاجات". بل إنه يذهب إلى حد
القول بأن الحاجة كافية لتبرير الكثير مما نفعله في حياتنا. أما الحقوق فهي ليست سوى طريقة يعترف من خلالها المجتمع بحاجات الإنسان. ولذلك فهو يقول إنه طالما أن البيولوجيا تسعى لإشباع هذه الحاجات، سواء
عن طريق تكنولوجيا الإخصاب الصناعي أو الهندسة الوراثية أو حتى الاستنساخ الحيوي، فإن ذلك كاف في حد ذاته للسماح باستمرار هذه الاكتشافات، بل أنه يرى أن على الحكومات أن تشجع هذه المشاريع
وتمولها لأنها في النهاية تحقق ما تصبو إليه البشرية.
وأيا ما كان الأساس الذي يقيم عليه رجال الدين المسيحي حججهم، فإننا لا يمكن أن نعقل ما هو فطري وغريزي في الإنسان، أي رغبته في الاستمرار والبقاء، وهذا دون شك لا يتم إلا عن طريق التكاثر. فالإنسان
بطبيعته يرى بأبنائه استمرارية لوجوده. ولعل هذا ما كان يجب أن يلتفت إليه رجال الدين المسيحي الذين طالبوا أن يكبت الإنسان ما هو فطري فيه.
4_ الإخصاب الصناعي نوع من الزنى:
تعتبر المسيحية الإخصاب الصناعي عن طريق المتطوع من "الزنىAdul-tery" لأن الزوجة تحمل من شخص آخر غير الزوج. فإذا تأملنا الشروط التي تفترض الزنى لوجدنا اختلافاً أساسياً بين الزنى والإخصاب
الصناعي عن طريق المتطوع. فالعملية الأولى تشترط وجود نوع من العاطفة والاتصال المباشر بين الطرفين. أما الإخصاب الصناعي فلا يوجد فيه أي نوع من الاتصال المباشر بين الطرفين، بل إن المتطوع كثيراً
ما يكون شخصاً مجهولا. ولكننا يجب أن لا ننسى أن الحمل من شخص آخر غير الزوج يعتبر عملاً غير شرعي ـ من الناحية القانونية ـ وإن كان لا يحمل صورة الزنى.
وللمشكلة بعد أخطر مما نتصور. فقد يحدث خلط في العلاقات بين البشر، فإذا كان هناك أكثر من 200مليون حيوان منوي، في المرة الواحدة في حين أن التلقيح لا يحتاج إلا لحيوان واحد فإن معنى ذلك أنه ممكن
لشخص واحد أن يتبرع بالسائل المنوي لبنك من البنوك فيستخدم لتلقيح عشرات النساء دون علمه. وقد يحدث بعد ذلك أن يتزوج أحد أبنائه بإحدى بناته، أو حتى يتزوج هو نفسه إحداهن. فإذا صدقنا ما نشرته
صحيفة القبس الكويتية في تاريخ 27/3/1985، من أن شخصاً واحداً يدعى (الفين) استخدم سائله المنوي، الذي تبرع به لأحد البنوك أكثر من مرة "لتلقيح تسعمائة امرأة، وأنه تم الوضع في 806 حالات بنجاح
تام". فلا شك أن أمراً كهذا لا يثير معضلة شرعية وقانونية فقط، وإنما يؤدي إلى مشكلات بيولوجية خطيرة يمكن أن نتوقع ظهورها، منها على سبيل المثال، تشوه الأجنة بسبب حدوث إخصاب بين بويضة وسائل
ينتميان إلى نفس الجذور البيولوجية. وقد يؤدي أيضاً إلى إحداث ضعف في الجنس البشري، "لأن الاختلافات البيولوجية الموجودة بين البشر هي التي تجعل العالم يسير". ولذلك لا يمكن غض الطرف عن مشكلة
كهذه لأن عواقبها أخطر من أن نتساهل معها.
5_ الإخصاب الصناعي وتجارة الرقيق:
يخشى رجال الدين المسيحي أن تساعد هذه التكنولوجيا على تحويل العلاقات الإنسانية بين الزوجين والأطفال إلى عملية (برجماتيةPragmatic) بمعنى أن يتحول الأطفال إلى سلعة تعرض أمام الراغبين. إذ يرى
الكثيرون أن تطور هذه العملية سيؤدي إلى ظهور سوق سوداء للأطفال، خاصة أن التبني أصبح، في الوقت الحاضر، عملية صعبة ومكلفة، فالكثير من الأمهات يفضلن إما الاحتفاظ بأطفالهن أو الإجهاض خوفاً من
التورط في مشاكل هن في غنى عنها. وقد فتحت هذه الطريقة الباب أمام الاستعانة بامرأة أخرى تقوم بالحمل بدلاً عن الزوجة العقيمة مقابل نفوذ أو لدافع إنساني، وهي ما يطلق عليها العالم الغربي اسم "الأم
البديلة"Surrogate Mother" هذا بدوره أدى إلى أن يستغل البعض الرغبة الملحة عند الأسر المحرومة من الأطفال، لتحقيق مكسب مادي، ولهذا ظهر في عالم التجارة نمط جديد من السلع يسمى "الطفل"، وهو
أمر غير مستغرب إذ طالما هناك من هو مستعد أن يدفع من أجل الحصول على طفل، ستجد من هو مستعد أن يستغني عن طفل أو يؤجر (رحمها) مقابل مبلغ من المال. لذلك وصل سعر الطفل الواحد إلى عشرات
الآلاف من الدولارات، بل وفتحت مكاتب خاصة من أجل تقديم خدمات من هذا النوع، أشهرها مؤسسة للمحامي (نويل كينNoel Keane) في شيكاغو تعرف باسم (مركز الإخصاب والأم البديلة)، وهي المؤسسة
التي اشتهرت في أوروبا وأمريكا الشمالية لارتباط اسمها بمجموعة من القضايا التي أثيرت بسبب مخالفة بعض الموظفات ـ أمهات مستأجرات ـ بنود العقود والإصرار على الاحتفاظ بالجنين بعد الولادة.
إن هذه العملية تثير، دون شك، الرعب والاشمئزاز معاً، رغم أنها مصطبغة بصورة إنسانية. فهي قد أعطت المجال لعودة أسواق الرقيق بصورة جديدة مختلفة. فالطفل هنا أصبح سلعة تباع وتشتري باسم الإنسانية
وتحقيق أمنية الأسر المحرومة. ويخاف رجال الدين أن تؤدي هذه العملية إلى انتشار ما يسمى (بالأسر الواحدية الأب)، بمعنى أن تلجأ بعض النساء للإخصاب الصناعي دون الارتباط بزوج، أو أن يلجأ الرجل إلى
طريقة الأم البديلة، أيضاً، لنفس الهدف. وبالغ البعض في تخوفهم إلى حد القول إنه يمكن للأشخاص الشاذين جنسياً أن يلجأوا إلى مثل هذه العملية لتكوين أسرة شاذة في تركيبها. كذلك يعتقد الكثيرون أن عملية كهذه
ستسعد النساء الداعيات إلى تحرير المرأة. ولكن هذا غير صحيح، لأنهن أبدين خوفهن من النتائج المترتبة على السماح بمثل هذه العملية، وخاصة الخوف من استغلال الرجال وسيطرتهم، وطالبن بالتنبه إلى
خطورتها ودراسة الموضوع بعمق قبل إبداء الموافقة أو الرفض.
ثانياً: أطفال الأنابيب (أ.خ.ر):
رغم نجاح تجربة (لويس براون) في سنة 1978، ورغم أن هناك المئات من الأطفال الذين يولدون في كل سنة، منذ ذلك الحين، عن طريق عملية أطفال الأنابيب، فإنها ما زالت تواجه باعتراضات من رجال الدين
وغيرهم من الفلاسفة اللاهوتيين أو المفكرين الأخلاقيين المحافظين، وذلك، أحياناً، بسبب طبيعة العملية نفسها، وأحيانا بسبب ما تجره وراءها من مشكلات.
وقد بنى رجال الدين المسيحي اعتراضاتهم هذه على أساس مجموعة من المشاكل التي يمكن أن تؤدي إليها عملية أطفال الأنابيب، وسنلاحظ أنها مشابهة إلى حد بعيد للنقاط التي أثارها رجال الدين المسلمين:
1_ المخاطر التي يمكن أن تؤدي إليها هذه العملية.
2_ ما الذي يمكن أن نفعله بالبويضات الملقحة الفائضة؟
3_ استخدام البويضات الملقحة في إجراء التجارب.
4_ المشاكل المختلفة التي يمكن أن تؤدي إليها هذه العملية، مثل قضية الأم البديلة.
ولكن لمناقشة هذه المشاكل الأربعة، كان على رجال الدين أن يردّوا في البداية على سؤال مهم، هو: متى تبدأ الحياة؟ ذلك لأن الرد على هذا السؤال سيحدد "وضع الجنين الأخلاقي"، ومن خلاله يمكن معرفة ما إذا
كانت مثل هذه العملية جائزة من الناحية الشرعية أم لا؟
متى تبدأ الحياة؟
1_ التأخر في بداية الحياةDelayed Animation:
تعود وجهة النظر هذه إلى "أرسطو" ومن تبعه من فلاسفة ورجال الدين المسيحي، وقد قال بها كل من "أغسطين" و"توما الاكويني"، وقد ظل المسيحيون يؤمنون بها لقرون طويلة. وتدعى هذه النظرية "أن الجنين لا
يمكن أن يعتبر إنساناً إلا بعد مرحلة معينة من الحمل، يصبح بعدها عضوا في الجنس البشري". أما المدة المقصودة فقد كانت ثلاثة أشهر. وتحاول الدكتورة "تريرزا إجلسيسTeresa Iglesias" أن تبرر اعتقاد
المسيحيين الأوائل بهذه الفكرة، بقولها إن كلا من أرسطو وتابعيه اعتمدوا على معارفهم البيولوجية في ذلك الوقت، والتي كانت تعتبر الجنين كائناً غير إنساني قبل ثلاثة أشهر من الحمل، أي "إنه يعتبر مجرد حيوان
سينتقل فيما بعد إلى مرحلة أخرى تسمى المرحلة البشرية"، وهنا تدخل فيه الروح. وقد توصلوا إلى استنتاجاتهم هذه نتيجة الحركة التي تشعر بها الأم في بدايات الشهر الرابع. ولذلك فهي ترى أنهم لو كانوا قد
توصلوا ـ أي أرسطو وأتباعه ـ إلى ما وصل إليه العلم في الوقت الحاضر لما كان هذا رأيهم في بداية الحياة. وأيا ما كانت وجهة النظر في ذلك الوقت فإنها لم تؤثر في يوم من الأيام على رأي رجال الدين في
الإجهاض. فقد كان الإجهاض ولا يزال محرماً لأسباب أخلاقية وإنسانية حتى لو كان الجنين في مراحله الأولى.
2_ بداية الحياة منذ اللحظة الأولىImmediate Amimation:
يمثل وجهة النظر هذه بعض البيولوجيين والعاملين في مجال دراسة الأجنة، كذلك رجال الدين المعاصرون. إذ يذهب أصحاب هذا الرأي إلى القول بأن الحياة تبدأ من المراحل الأولى، بمعنى آخر، منذ لحظة التقاء
الجرثومة المنوية بالبويضة واندماجهما، وقد وافق رجال الدين المعاصرون على هذا الرأي من أجل وضع حد أخلاقي وديني لقضية الإجهاض التي سمحت بها الحكومات بالغرب.
أما العلماء فيقولون "إنه في لحظة الإخصاب يتلقى الكائن البشري الشفرات الوراثية Genetic Codes الأساسية لتكوينه البشري، وهذه الشفرات هي التي تحدد شخصيته، وهي التي تحمل الإمكانيات البيولوجية
للحكمة البشرية، التي تجعله كائنا ذا (تطور ذاتيSelf Evoloing)، أما قبل ذلك فهو بعيد عن أن يكون كائنا بشرياً، وإنما هو عبارة عن جرثومة وبويضة ناقصتين وبحاجة للالتحام حتى يكملا ما يمكن أن نطلق
عليه الخيوط الأولى لتكوين كائن بشري.
3_ الحياة لا تبدأ أبدا، إنها مستمرة:
"إن الحياة تنتهي أحياناً، ولكنها لا تبدأ أبدا. إنها استمرارية من خلية إلى أخرى". هذا ما يعتقده بعض علماء البيولوجيا، ولعلهم محقون في ذلك لأن تعاملهم مع الخلايا بشكل مستمر يجعلهم يصلون إلى هذا الرأي، إذ
أن الحياة موجودة في كل صورها سواء كانت خلية صغيرة أو كائناً بشرياً أو حيواناً أو نباتاً.
ويؤيد هذا الرأي عدد غير قليل من المفكرين الأخلاقيين ورجال الدين لأنهم يرفضون إجراء التجارب على الأجنة والبويضات الملقحة، ولذلك يرون في هذا الموقف طريقة لمنع مثل هذه التجارب. فقد ذهبت الكاتبة
"إجلسيسIglesias" إلى حد القول: "ليست الحياة وحدها هي المستمرة، وإنما الإنسانية أيضاً، لأن البويضة لابد أن تكون حية وكذلك الخلية، وكل ما يشكل تركيب الكائن البشري الحي". ولأن مسألة كهذه أثارت
جدلا طويلاً بين المفكرين والعلماء وحتى العامة فقد حاول أحد العلماء أن يشرح هذه الفكرة في ثلاث نقاط أساسية هي:
1_ إن الحياة مستمرة من جيل إلى آخر، إذ إنها لا تبدأ من لحظة معينة بذاتها. وهذا يشمل الكائن البشري أيضاً.
2_ أما "الإخصاب" فهو يشكل مرحلة مهمة في هذه الاستمرارية، حيث تتأسس فيها الخاصية البيولوجية للكائن البشري كفرد بعينه.
3_ ومع ذلك، فإن البويضة الملقحة التي لا تزال في مراحل انقسامها الأولى لا تعتبر فرداً جديداً، لأنها يمكن أن تنقسم فيما بعد لتصبح توأما.
وعلى هذا الأساس يمكن القول إن الحياة ليست مرتبطة بمرحلة معينة، وإنما هي موجودة باستمرار، أما الإخصاب فما هو إلا مرحلة من مراحل هذه الاستمرارية. فإذا كان هذا هو الرأي الذي يقول به العلماء ورجال
الدين المسيحي وغيرهم من المفكرين الأخلاقيين، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، متى تصبح الحياة البشرية حياة إنسانية؟ أي متى يمكن أن نعتبر الكائن البشري "شخصاً" له حقوق أخلاقية؟
ما هي المشاكل التي يطرحها رجال الدين كأساس رفضهم لأطفال الأنابيب:
1_ المخاطر المرتبطة بالإخصاب خارج الرحم (أ.خ.ر) أو أطفال الأنابيب:
في بداية ظهور عملية أطفال الأنابيب اعترض الكثيرون عليها، على أساس أنها عملية تعرض البويضة الملقحة لخطر الموت أو التشويه خلال مراحل استخراج البويضة من رحم الأم والتلقيح وإعادة الزرع في
الرحم مرة أخرى. ولكن الأطباء أكدوا منذ البداية أن نسبة التشوهات التي تحدث في هذه العملية لا تختلف عن التشوهات التي تحدث خلال الإخصاب الذي يتم بين الزوجين بالطريقة التقليدية، وهي عشرون بالمائة.
وهذا ما أكده المجلس الطبي في (دبلنDublin) عام 1983، حيث ذهب إلى حد القول إنه سرعان ما ستكون هذه العملية مضمونة أكثر من الحمل الطبيعي.
2_ ما مصير الأجنة الفائضة:
إن العلماء استطاعوا التوصل إلى تجميد البويضات الملقحة لاستخدامها وقت الحاجة. وقد كان لهذا الاكتشاف أكبر الأثر على نجاح عملية أطفال الأنابيب. ولكن هذه العملية أثارت تساؤلات مختلفة. فما الذي يمكن أن
نفعله بتلك البويضات الفائضة؟ هل يجب أن نتخلص منها على أساس أن الأم لا تلقح بأكثر من ثلاث بويضات ملقحة؟ أم أننا يمكن أن نقدمها هدية لرجال العلم يجرون عليها التجارب من أجل البشرية كلها، أو نحتفظ
بها من أجل امرأة أخرى حرمت من الإنجاب؟ أمام هذه الأسئلة وجد رجال الدين أنفسهم ينقسمون إلى فريقين: فريق يرى أن الحياة تبدأ من لحظة الإخصاب. وهم سيرفضون بالطبع الإخصاب خارج الرحم ككل على
أساس هذه النقطة، ويجيبون على كل الأسئلة السابقة بالنفي. إذ ما دامت حياة الكائن البشري تبدأ منذ لحظة إخصابه، فإن حرمته وقدسيته تبدأ من تلك اللحظة، ولذلك فإن كل ما يمكن أن يضره ويقضي عليه يعتبر
مخالفاً للقوانين والغايات الإلهية، لأن الله خلق الإنسان على صورته (خلق الله الإنسان على صورته على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم). ولكن في مقابل هذا الفريق هناك من يعتقدون أن البويضة الملقحة ليست
لها حقوق أخلاقية وحرمة مثل الجنين في مراحله المتقدمة من الحمل، إذ أن الأولى ما هي إلا خلايا منقسمة قد تتشوه فيما بعد أو تتحول إلى حمل عنقودي، أما الجنين فهو أكثر تطوراً ويستحق الاحترام والمحافظة
عليه.
هذه النقطة تقودنا إلى قضية إجراء التجارب على هذه الأجنة. إذ يرى أصحاب الفريق الثاني أن البويضة الملقحة ليست سوى خلايا منقسمة، ولذلك فإن حقوقها الأخلاقية لا تختلف عن حقوق النبات أو الحيوان، وهذا
في حد ذاته يبرر إجراء التجارب عليها. كما أن العلم بحاجة إلى مثل هذه التجارب ذات الأهداف العلاجية لإنقاذ ملايين الأطفال من التشوهات والأمراض الوراثية. وإذا كانت الحكومات قد سمحت بالإجهاض لأجنة
أكبر عمراً، فلابد أن إجراء تجارب على بويضات ملقحة لا يشكل أية عقبة قانونية أن أخلاقية. ولكن الدكتورة "إجلسيس" ترد على هؤلاء بقولها "إن مثل هذه التجارب لا يمكن أن تكون أخلاقية على أي نحو من
الأنحاء، لأن العلماء حين يجرونها يفكرون في الفوائد العلمية المردودة عليهم، أما مصلحة البويضة موضوع التجربة، فهذا آخر شيء يفكرون به". إنهم، كما ترى، يستخدمون مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، فهم من أجل
إنقاذ البشرية، كما يدعون، يتخلصون ويقضون على مئات الأجنة والبويضات الملقحة.
أما اعتراض بعض المسيحيين على إجراء التجارب على الأجنة، بل وعلى أطفال الأنابيب، على أساس أن استخدام الإنسان لهذا النوع من التكنولوجيا يعتبر تدخلا في الإرادة الإلهية لأن هذه التكنولوجيا تستغل
للتلاعب والتحكم بالجينات، وبالتالي التعدي على القدرات الإلهية، فيرد عليهم (أندرسون Anderson) قائلاً: "إن استخدام هذه التكنولوجيا لا يعني أننا نقصد أن نأخذ دور الله في التحكم بالمصائر البشرية، لأن
تقدمنا في معرفة طرق جديدة للإنجاب لا يعني سوى أن مسؤولياتنا أصبحت أعظم، إذ إن مثل هذا المجال لا يمكن أن ندخله بدون الحكمة والتعقل والتضحية، وهي وسائل لا نستغني عنها أبدا".
3_ الأم البديلة والمعنى الجديد للأمومة:
رغم رفض الكثير من المفكرين المسيحيين لقضية "الأم البديلة"، على أساس أنها انتهاك لحقوق الطفل الأخلاقية، بل هي انتهاك لكرامة الإنسان، فإن البعض الآخر يقول إن عملية كهذه لم تكن محرمة في المسيحية،
بل إن الإخصاب عن طريق متطوع، سواء بسائل منوي أو أم بديلة لم يكن عملية محرمة في يوم من الأيام. والدليل هو قصة (أونان) التي سبق أن ذكرتها، وقصة النبي ابراهيم وزوجته سارة. إذ يذكر في سفر
التكوين قصتهما: "وأما ساراي امرأة أبرام فلم تلد له. وكانت لها جارية مصرية اسمها هاجر. فقالت ساراي لابرام هوذا الرب قد أمسكني عن الولادة ادخل على جارتي لعليّ أرزق منها بنين".
ويعتمد القائلون بجواز "الأم البديلة" على العبارة الأخيرة من الإصحاح "لعلي أرزق منها بنين" أي أن مهمة هاجر كانت الإنجاب فقط. ولكن يحاول "أندرسون Anderson" في كتابه أن يرد هذا الادعاء بالنقاط
التالية:
1_" لا يوجد أي إشارة إلى أن الله قد قبل هذا السلوك". ولكننا نستطيع ادعاء عكس ذلك حين نقارن ردة الفعل تجاه سارة بردة الفعل تجاه "أونان" الذي رفض أن يقدم نسله لزوجة أخيه. لاشك أن الله عطف على
سارة والدليل أنه منحها ما حرمت منه فيما بعد.
2_"إن تعدد الزوجات كان مسموحاً به في ذلك الوقت، وما فعله "إبراهيم" كان عبارة عن زواج من هاجر وليس مجرد معاشرة من أجل الإنجاب". ولكن هذا غير صحيح، إذ أن هاجر، بحسب أقوال الكتاب المقدس
كانت جارية لسارة وإبراهيم، ولذلك فهي ممن ملكت أيمانهم، ولهذا لم يكن إبراهيم بحاجة للزواج بها.
3_ الأهم من ذلك أن الأم البديلة بالمعنى الحديث لا يحدث بينها وبين الزوج اتصال طبيعي.
وأيا كانت الحجج التي يقدمها الطرفان، فإن قضية الأم البديلة تثير أخطر مشكلة عرفتها البشرية، وهي تأثيرها على مفهوم (الأمومة).
لو أن حلم (الدس هكسلي Aidous Huxley) تحقق، فإن معنى الأمومة سيختفي بالتدرج كما ذكر في كتابه حين سأل عالم الأجنة تلاميذه: هل سبق لكم أن سمعتم عن شيء اسمه بيت، أو عائلة، أو أم؟ فكان جوابهم
بالنفي. وهذا الخوف لا يراود كاتباً خالياً فقط، بل إنه يراود حتى رجال الدين والفلاسفة والعلماء، حيث قال أحد علماء البيولوجيا إن هذه التكنولوجيا المتطورة ستحررنا من كل القيود والطقوس المحرمة، وستدفعنا
إلى إلغاء أهم كلمة عرفتها البشرية منذ بداية ظهورها، وهي كلمة (أم).
إن قضية الأم البديلة، كما يعتقد البعض، تغطي معنى (الأمومة) بحاجز ضبابي يجعل هذا المفهوم غير واضح، فبعد أن كانت الأم هي التي تحمل وتلد وتربي، وهي التي تربط بالطفل بعلاقة من أسمى العلاقات
الإنسانية، فقد اختلف الأمر الآن ـ وقد يختلف في المستقبل إذا تحقق حلم (هكسلي) ـ وأصبح هناك فرقاً بين ما يمكن أن نطلق عليه (الأم البيولوجية) و(الأم بالحمل). ولكننا لو فكرنا بحلمه هذا لوجدنا أنه لم يكن يقصد
(الأمومة) بمعناها الأصلي، وإنما كان يقصد إلغاء فكرة الأم أصلاً، سواء أكانت بديلة أم أصلية، بينما ما يتحدث عنه هؤلاء هو امرأة حقيقية تحمل بدلا عن الأم الأصلية. ولكن ربما يخاف المعارضون من "قضية الأم
البديلة" على أساس أنها قد تؤدي، ولو سمحنا بها، إلى تحقيق ما كان يحلم به (هكسلي). فالجنين قد ينتمي ـ كبويضة ـ إلى امرأة ما، بينما إلى أخرى من خلال الحمل. الأولى أعطته صفاته الوراثية، والثانية قدمت له
تسعة أشهر من الحمل تخللتها التغذية والحالة النفسية والعلاقة الإنسانية، فأي منهما هي الأم الحقيقية؟ وإذا أضفنا إلى كل هذا محاولة العلماء التوصل إلى اختراع رحم صناعي يقوم بمهمة الحمل كاملة، فإن الأمومة
دون شك كمفهوم إنساني سيكون معرضاً للخطر. الطفل في هذه الحالة يصبح مثل صغار الدجاج، كل ما علينا هو أن نوفر له الغذاء والجو المناسب لكي تستلمه الأم بعد تسعة أشهر ـ أو ربما أقل من ذلك إذا تطورت
هذه التكنولوجيا ـ كامل النمو. ألا تعتقدون معي أن الرابطة الإنسانية التي تربط الأم بولدها ستختفي بالتدريج؟
ولكن إذا عدنا إلى أرض الواقع وتحدثنا عن (الأم البديلة) التي أصبحت الآن من الأمور الشائعة في الغرب لوجدنا أن هناك طرفاً ثالثاً مهما لم يغفله المفكرون المسيحيون وأصروا على مناقشته وأهتم به المفكرون
الأخلاقيون بشكل خاص، وهو (الطفل). فما هو وضع هذا الطفل؟ هل من حقنا أن نعرضه للهزة النفسية؟ ثم هل من حقنا أن نحرمه من معرفة كيف جاء إلى الحياة ومن هي أمه الثانية؟ هذا السؤال الأخير طرحه
المفكر الأخلاقي (متشلMitchell ) إذ قال: "إنه ليس من حقنا أن نحرم الطفل من معرفة أصله، والمعرفة تساعده على التوصل إلى هويته، إذ إنه لن يعرف إلى أين ينتمي، وعدم معرفته بذلك ربما يعني حرمانه من
حقه الطبيعي". ولكن يرد على هذه النقطة (بيتر سنجرSinger) بقوله إن السرية ليست مسألة جوهرية بالنسبة للأطفال، إذ إن وضع طفل كهذا لا يختلف عن وضع الطفل الذي تم تبنّيه، كما أننا لو سمحنا بهذه
العملية فإن هؤلاء الأطفال سيجدون أن عددهم كبير، وبالتالي لن يشعر أي منهم بالنقص أو الاختلاف. كما أن (سنجر) يؤكد أن رغبة الزوجين الملحة في الحصول على طفل لإعطاء هذا الطفل كل الحب والحنان
الذي يحتاجه لينمو نمواً طبيعياً، بحيث أنه لن يشعر بالنقص. وأيا كانت مبررات كلا الطرفين فإنني لا أعتقد أن مسألة كهذه يجب أن يسمح باستمرارها بدون إشراف دقيق، حتى لا يحدث استغلال للإنسان، ولأن
المشاكل التي ستؤدي إليها أكبر من أن تجعلنا نغض البصر عنها.

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع