موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

د.حسن حنفي
الشعور التاريخي (الأدلة الأربعة)



الشعور التاريخي هو شعور الراوي الذي وظيفته ضمان صحة نصوص الوحي في التاريخ. ومناهج الرواية نوعان: الأول منهج النقل المكتوب، والثاني منهج النقل الشفاهي. وعن طريق منهج النقل المكتوب أتى
القرآن، وعن طريق منهج النقل الشفاهي روت السنة. والقرآن والسنة أول مصدرين كتابيين للأحكام.
وقد عرض الأصوليون القدماء للكتاب أو القرآن كأصل أو دليل أول. وعرضوا لعدة مسائل جزئية مثل الزيادة والنقصان في النص أو قراءة النص، أو هل البسملة جزء من القرآن أم لا، وهي كلها مسائل قتلها القدماء
بحثاً، فقد كانوا أقرب إلى عهد التدوين. وقد جمع القرآن ساعة نزول الوحي وقورنت المصاحف بعضها مع البعض الآخر، وأصبح مصحف عثمان هو الذي ينقله الناس جيلاً عن جيل حتى الآن، إلى آخر ما هو
معروف في علوم القرآن مثل (الإتقان للسيوطي) أو (كتاب المصاحف) للسجستاني. ولديهم تحديد القرآن بأنه كلام الله القديم القائم بذاته، لأن هذه مسألة كلامية تخرج عن علم أصول الفقه. ولكن حده هو ما نقل إلينا
بين دفتي المصحف على الأحرف السبعة المشهورة نقلاً متواتراً. والبسملة آية من القرآن. والخلاف في كونها آية من كل سورة، ومال الشافعي إلى إثبات ذلك. والقرآن يشتمل على الحقيقة والمجاز وهو عربي اللسان
لا عجمة فيه. والكلمات الأعجمية فيه قد تم تعريبها من قبل. ويشتمل أيضاً على المحكم والمتشابه، والظاهر والمؤول وهي كلها أبحاث لغوية من مباحث الألفاظ. ولكن المسألة التي غلبت على القدماء وهم يعرضون
للأصل الأول هي مسألة النسخ. والنسخ يعني لغة الرفع أو الإزالة، واصطلاحاً (الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه) لأن ورود الحكم ابتداء لا يكون
نسخاً بل مزيلاً لبراءة الذمة. ولا بد من وجود فترة زمينة بين الحكمين وإلا كان الحكم اللاحق بياناً للحكم السابق. والنسخ ممكن وواقع في الكتاب، لأن الحسن والقبح من الله عند الأشاعرة، ولأن شريعة الاسلام ناسخة
لشريعة موسى وشريعة عيسى. والنسخ ممكن حتى قبل التمكن من الامتثال خلافاً للمعتزلة. ويجوز لبعض العبادة أو شرطها أو سنة من سننها، ولا يكون نسخاً لأصل العبادة. والزيادة على لنص نسخ عند البعض
وليست نسخاً عن البعض الآخر. وليس من شرط النسخ إثبات يدل غير المنسوخ، ولو أنه عند البعض يستحيل، نظراً لانتفاء الحكمة. ويجوز النسخ بالأخف ولا يجوز بالأثقل سمعاً عند فريق وعقلاً عند فريق آخر.
ولا بد من تبليغ الناسخ، لأن النسخ لا يثبت في حق من لا يبلغه.
وأركان النسخ أربعة: النسخ والناسخ: والمنسوخ، والمنسوخ عنه. فإذا كان النسخ هو الرفع أو الإزالة، فالناسخ هو الله، والمنسوخ هو الحكم المرفوع والمنسوخ عنه هو المكلف. وللنسخ شروط أربعة: أن يكون
المنسوخ حكماً شرعياً لا عقلياً أصلياً كبراءة الذمة، وأن يكون النسخ بخطاب وليس بموت المكلف، وألا يكون حكم الخطاب المرفوع مقيداً بوقت، وأن يكون الخطاب الناسخ متراخياً. وما من حكم شرعي إلا وهو قابل
للنسخ، خلافاً للمعتزلة لقولها بالحسن والقبح العقليين فلا يمكن نسخ معرفة الله والعدل، وشكر المنعم. ويمكن نسخ تلاوة آية دون حكمها، أو نسخ حكمها دون تلاوتها، أو نسخهما معاً. ويجوز نسخ القرآن بالسنة، والسنة
بالقرآن فكلاهما من الله. ولكن الإجماع لا ينسخ، إذ لا نسخ بعد انقطاع الوحي. أما السنة فالمتواتر منها ينسخ المتواتر، والآحاد ينسخ الآحاد، واختلف الناس في جواز نسخ المتواتر بالآحاد، جوزه البعض ومنعه
البعض الآخر. وقد منع الخوارج نسخ القرآن بالخبر المتواتر، وجوزه الشافعي. ولا يجوز نسخ النص القاطع المتواتر بالقياس بالظن، والاجتهاد على اختلاف مراتبه. كما لا يجوز نسخ حكم بقول الصحابي لأنه ليس
أصلاً. ويعرف تاريخ النسخ عندما يتناقض نصان فيكون المتأخر ناسخاً للمتقدم. كما يعرف بعدة قرائن منها أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، أو أن تجمع الأمة على الناسخ والمنسوخ، أو أن يذكر الراوي التاريخ.
والحقيقة أن النسخ في القرآن يدل على وجود الوحي في الزمان وتغيره طبقاً للأهلية والقدرة وتبعيته لمدى الرضى الفردي والاجتماعي في التاريخ. الوحي ليس خارج الزمان، ثابتاً لا يتغير بل داخل الزمان يتطور
بتطوره. ليس هدف الوحي هو مجرد الإعلان عنه كشعار بلا مضمون، أو تحقيقه دون وعي بالزمان فيفشل، بل تطبيقه في الزمان ونجاحه في التاريخ طبقاً لقدرات الفرد والجماعة.
والأصل الثاني هو السنة. ولفظ السنة أوسع من الحديث، فالسنة قول وفعل وإقرار، والحديث هو القول فحسب. وصدق الرسول بالمعجزة أو بالإعجاز ليس موضوعاً لأصول الفقه، بل يدخل في موضوع النبوة في
علم أصول الدين. والسنة القولية أو الحديث تنقسم إلى ثلاثة أجزاء: أولاً ـ ألفاظ الصحابة التي يبدأون بها الرواية، ثانياً ـ السند، ثالثاً ـ المتن.
وألفاظ الصحابة على خمس مراتب: الأولى وهي أقواها، يقول الصحابي سمعت أو أخبرني أو حدثني، وهذه لا يتطرق إليها احتمال الخطأ. الثانية، قال رسول الله أو أخبر أو حدث، وتحتوي هذه الصيغة على احتمال
واحد للخطأ، لأن الاستماع قد لا يكون مباشراً. الثالثة، أمر رسول الله أو نهي، وهي صيغة يتطرق غليها بالإضافة إلى الاحتمال الأول للخطأ احتمال آخر، وهو أن صيغة الأمر قد لا تكون أمراً. والرابعة، أمرنا بكذا
أو نهينا عن كذا ويتطرق إليه بالاضافة إلى الاحتمالات السابقة، احتمال آخر، وهو أن الآمر قد لا يكون هو الرسول. والخامسة، كانوا يفعلون، ويتطرق إليه بالاضافة إلى احتمالات الخطأ السابقة، احتمال آخر وهو
احتمال، أن يكون الفعل قد تم ليس في زمن الرسول.
وينقسم السند إلى نوعين: المتواتر والآحاد.
والتواتر يفيد العلم خلافاً للسمنية الذين حصروا العلوم كلها في المعارف الحسية، كما أن الكعبي اعتبر العلم الذي يفيده التواتر، علماً نظرياً لا تؤخذ منه الأحكام. وللتواتر شروط أربعة: الأخبار عن علم لا عن ظن،
استناد هذا العلم إلى محسوس، مسواة الطرفين والوسط (تجانس انتشار الرواية في الزمان)، والعدد الكافي الذي به يحصل اليقين دون تحديد له بثلاثة مخبرين، كأقل للجمع كما هو الحال عند البعض. ولا يشترط فيه
العدد الذي لا يحصر واختلاف الأنساب، أو أن يكونوا أولياء مؤمنين، أو ألا يكونوا محمولين بالسيف على الرواية.
والمتواتر هو الخبر الذي يجب تصديقه بالإضافة إلى ما أخبر الله به وخبر الرسول وما أخبرت به الأمة إذ ثبت عصمتها، وكل ما يوافق ما أخبر به الله أو الرسول أو الأمة، وكل ما أخبر به المخبرون أمام الرسول
وأقرهم عليه، وكل ما أخبر به أمام جماعة سكتت عن تكذيبه. وذلك في مقابل الخبر الذي يجب تكذيبه، مثل ما يعرف خلافه بضرورة العقل أو الحس أو التواتر، وما خالف النص القاطع من الكتاب والسنة أو إجماع
الأمة، أو ما خرج بتكذيبه الجمع الغفير. وما سوى ذلك خبر يجب التوقف فيه.
أما الآحاد، فإنه يفيد اليقين في العمل والظن في النظر على عكس المتواتر الذي يفيد اليقين في النظر والعمل على السواء. والآحاد هو كل خبر لا يستوفي شروط التواتر، وليس بالضرورة خبراً ينقله راو واحد.
والتعبد به واقع سمعاً لا عقلاً، خلافاً لجماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر بتحريمهم العمل به سمعاً. ولما وجب العمل بخبر الواحد، فإن شروطه ليست فيه، كم هو الحال في التواتر، بل في الراوي وصفته.
فيجب أن يكون الراوي مكلفاً عدلاً مسلماً، ضابطاً، منفرداً كان أو مع غيره. فلا تقبل رواية الصبي أو الكافر والفاسق. فالتكليف والاسلام والعدالة والضبط شروط في الرواية والشهادة، لأن الراوي شاهد على ما يسمع
ويرى. أما الحرية، والذكورة، والبصر، والقرابة، والعدد، والعداوة، فهي تؤثر في الشهادة لا في الرواية.
وزيادة في ضبط الرواة، فقد وضع علماء الأصول علماً آخر هو علم الجرح والتعديل أو علم نقد الرجال أو ميزان الاعتدال، معتمدين فيه على علم الحديث، من أجل تقييم رواة الحديث إيجاباً وهو التعديل، أم سلباً
وهو التجريح. ولا يشترط عدد معين للمزكين، ولكن يشترط ذكر سبب الجرح والتعديل. وتتم التزكية نفسها بأربعة أشياء: بالقول أو بالرواية عنه، أو بالعمل بخبره، أو بالحكم بشهادته، وأعلاها القول.
ومستند الراوي وضبطه خمسة أمور: قراءة الشيخ عليه، وقراءته على الشيخ، وإجازة الشيخ له أن يروي عنه، ومناولة الشيخ له مسنده، والاعتماد على خط الشيخ والتعرف عليه ثم القراءة منه. ولا يجوز للراوي أن
يروي عن شك.
وانفراد الثقة بزيادة في الحديث مقبول عند الجمهور، سواء كانت الزيادة لفظاً أو معنى. ولكن رواية بعض الخبر ممتنعة عند أكثر من منع النقل بالمعنى، لأن نقل الحديث بالمعنى دون اللفظ، حرام على الجاهل
بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ. والحديث المرسل مقبول عند مالك وأبي حنيفة والجمهور، ومردود عند الشافعي والقاضي أبي بكر الباقلاني، وهو الأصح، والمرسل هو أن يقول الراوي قال الرسول دون أن
يعاصره. وخبر الواجد فيما تعم به البلوى مقبول خلافاً للكرخي وبعض أصحاب الرأي، لأن كل ما رواه العدل يجب قبوله.
يبدو من هذا التحليل للأخبار ولعمل الرواة، مناهج النقل التاريخي التي وضعها المسلمون، والتي سبقوا فيها الغربيين الذين انتبهوا لذلك منذ القرن الماضي فحسب. بل إن هذه المناهج هي التي كانت وراء نشأة علم
النقد التاريخي للكتب المقدسة في الغرب بعد أن تعرف عليها المستشرقون.
إذا كان الأصل الأول والثاني، أي الكتاب والسنة، وحي مكتوب من عند الله، فإن الأصلين الثالث والرابع أي الإجماع والقياس وحي غير مكتوب. فأصل الأحكام كلها واحد وهو كلام الله الملزم. وقول الرسول ليس
بملزم ولا بحاكم إلا بقدر إخباره عن أحكام الله. والإجماع يدل على السنة كما تدل السنة على حكم الله، أما العقل فإنه لا يدل على الأحكام الشرعية، بل على نفي الأحكام ند انتفاء السمع. فتسمية العقل أصلاً من أصول
الأدلة تجوزاً. الوحي إذن على درجات، وحي مباشر من الله، وهو الكتاب، ووحي تفصيلي من الرسول بتوجيه من الله، ووحي جماعي من الأمة، فالأمة خليفة الله، ووحي فردي من العقل مستنداً إلى وحي الكتاب
والسنة والجماعة. الأصلان الأول والثاني يدلان على الوحي المكتوب، والأصلان الثالث والرابع يدلان على الوحي الحي.
الأصل الثالث إذن هو الإجماع. ويعني اتفاق الأمة الاسلامية على أمر من الأمور الدينية. وذهب النظام إلى أن الإجماع هو كل قول قامت حجته وإن كان قولاً واحداً، ولم ير الإجماع حجة. وقد اتفقت الأمة على أن
الصلوات خمس وأن صوم رمضان واجب. ويمكن معرفة ذلك بمشافهة الأمة، على الرغم من تباعدها في الأقطار، وإن لم يكن ذلك يكفي عند الشافعي التواتر. والدليل على إجماع الأمة واستحالة الخطأ عليه من
الكتاب والسنة المتواترة والعقل. ولكن لا يمكن إثبات الإجماع بالإجماع. فالقرآن يصف الأمة بأنها وسط، وخير، وتهدي بالحق، وأنها واحدة لا تنازع فيها. والسنة تصفها بأنها لا تجتمع على خطأ أو ضلالة. والعقل
يرى أن الصحابة قد أجمعوا على أمور قاطعة ويستحيل عليهم الكذب، وبالتالي يثبت الإجماع.
ويقوم الإجماع على ركنين: الأول المجمعون والثاني نفس الإجماع فالمجمعون هم الأمة الاسلامية (والتي يسميها القدماء أمة محمد) أي كل مجتهد مقبول الفتوى من أهل الحل والعقد قطعاً، وليس الأطفال والمجانين
والأجنة. ولكن الاشكال في الوسط بين هذين أي العوام المكلفون، والفقيه غير الأصولي، والأصولي غير الفقيه، والمجتهد الفاسق، والمبتدع، والناشئ من التابعين إذا قارب رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة.
ويتصور دخول العوام في الإجماع، فإن الشريعة بها ما يمكن للعوام إدراكه كالصلوات الخمس، وهو ما يسمى إجماع الأمة قاطبة. وفي أيامنا هذه تكون العوام أحياناً أكثر قدرة على التعبير عن مصالحها، من الخواص
المداهنين للحكام. ورب متكلم ونحوي ومفسر ومحدث من الخواص ناقص الآلة في درك الأحكام. أما المبتدع إذا خالف لم ينعقد الإجماع دونه إذا لم يكفر بل هو كمجتهد فاسق. وقد قال قوم أنه لا يعقد إلا بإجماع
الصحابة، كما قال آخرون إنه يعتد بإجماع التابعين بعد الصحابة ولكن لا يعتد بخلاف التابعي زمن الصحابة، ولا يندفع إجماع الصحابة بخلافه، وكلاهما فاسد. والإجماع من الأكثر ليس بحجة مع مخالفة الأقل وقال
قوم هو حجة. وقال آخرون إن بلغ عدد الأقل عدد التواتر، اندفع الإجماع، وأن نقص فلا يندفع. وعند الأشاعرة إن العصمة تثبت للأمة كلها. وقد قال مالك الحجة في إجماع أهل المدينة فقط. وقال آخرون المعتبر
إجماع أهل الحرمين مكة والمدينة، والمصرين الكوفة والبصرة نظراً لجمعها كثيراً من أهل الحل والعقد، وهو ليس بصحيح نظراً لانفتاح هذه المدن للخارجين عنها والداخلين إليها. وقد اختلف الأئمة في، هل يشترط
أن يبلغ أهل الإجماع عدد التواتر، والأرجح أنه لا يشترط لا عقلاً ولا سمعاً. وقد ذهب داود الظاهري وأصحابه من أهل الظاهر كابن حزم، إلى أنه لا حجة إلا في إجماع الصحابة، وهو فاسد لأن الإجماع حجة
بالكتاب والسنة والعقل دون اشتراطه بعصر دون عصر.
والركن الثاني هو نفس الإجماع، أي اتفاق آراء الأمة في مسألة ما في لحظة واحدة، انقرض عليه العصر أو لم ينقرض، سواء أفتت عن اجتهاد أو نص مهما كانت الفتوى نطقاً صريحاً. فإذا أفتى بعض الصحابة
بشيء وسكت آخرون، لم ينعقد الإجماع إلا إذا دلت القرائن على أن السكوت يعني إضمار الرضى، وإلا كان السكوت يعني المخالفة والاعتراض. وإذا اتفقت كلمة الأمة ولو في لحظة، انعقد الإجماع ووجبت
عصمتهم من الخطأ. وقال قوم إنه لا بد من انقراض العصر وموت الجميع، وهذا غير صحيح، لأن الحجة في اتفاقهم لا في موتهم. ويجوز انعقاد الإجماع عن اجتهاد وقياس ويكون حجة، ومنع ذلك آخرون لأنه لا
يمكن اتفاق الخلق في ظن، ولو أمكن ذلك لتحول الظن إلى يقين والأصح الأول عند الأشاعرة.
أما حكم الإجماع فهو وجوب الاتباع، وتحريم المخالفة، والامتناع عن كل ما ينسب الأمة إلى تضييع الحق، والنظر فيما هو خرق ومخالفة وما ليس بمخالفة. فإذا اجتمعت الأمة في مسألة على قولين لم يجز عند
البعض إحداث قول ثالث وإلا نسبت إلى الأمة الغفلة وتضييع الحق وجاز ذلك عند البعض الآخر، وهو رأي الأشاعرة. وإذا خالف واحد من الأمة أو اثنان، لم ينعقد الإجماع دونه. وإذا اتفق التابعون على أحد قولي
الصحابة، لم يصر القول الآخر مهجوراً، ولم يكن الذاهب إليه خارقاً للإجماع، خلافاً للكرخي والشافعي وجماعة من أصحاب أبي حنيفة وكثير من المعتزلة كالجبائي وابنه. وإذا اختلفت الأمة على قولين ثم رجعوا إلى
قول واحد، صار ما اتفقوا عليه إجماعاً قاطعاً عند من شرط انقراض العصر. والإجماع لا يثبت بخبر الواحد، خلافاً لبعض الفقهاء، وذلك لأن الإجماع دليل قاطع وخبر الواحد لا يعطي إلا الظن. والأخذ بأقل ما قيل
ليس تمسكاً بالإجماع، خلافاً لبعض الفقهاء.
خلاصة القول إن الإجماع دليل على اتفاق الأمة وأخذ مصالح كل عصر في الاعتبار مع اعتبار المخالفة، كما أنه دليل على وحدة الجماعة وعلى أن مصالح الأمة مصدر للتشريع، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله
حسن.
والأصل الرابع يسميه الغزالي دليل العقل والاستصحاب، وعند البعض الآخر الاجتهاد أو القياس، ويعني أن العقل قد دل على براءة الذمة عن الواجبات، وسقوط الحرج عن الخلق قبل بعثة الرسول. فالاستصحاب
يعني النفي الأصلي وبراءة الذمة، فهو يؤدي وظيفة نافية أكر منها وظيفة مثبتة. كما يعني أيضاً استصحاب العموم إلى أن يرد الخصوص، واستصحاب النص إلى أن يرد نسخ، واستصحاب حكم الشرع على ثبوته
ودوامه. ولا حجة في استصحاب الإجماع في محل الخلاف، خلافاً لبعض الفقهاء. وقد اختلفا لفقهاء في أن النافي عليه دليل أم لا. فقال قوم عليه دليل، وقال آخرون ليس عليه دليل. وميز فريق ثالث بين العقليات
والشرعيات وأوجبه في الأول دون الثاني.
ولكن الاسلام الغالب عليه هو الاجتهاد أو القياس. والاجتهاد من بذل الجهد، والقياس وهو تقدير الشيء على مثاله وتسويته به. والقياس هو الأكثر شيوعاً. وفي الاصطلاح حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم ما، أو
نفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة، وهو تعريف القاضي أبي بكر، وقد عرفه بعض الفقهاء بتعريفات عدة مثل: مساواة فرع لأصل في علة الحكم أو زيادته عليه في المعنى المعتبر في الحكم. وعرفه أبو
الحسين البصري بأنه تحصيل حكم الأصل في الفروع لاشتباههما في علة الحكم عند المجتهد وقيلت أيضاً عدة تعريفات أخرى مثل: إدراج خصوص في عموم، إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به، إلحاق المختلف فيه
بالمتفق عليه، استنباط الخفي من الجلي، حمل الفرع على الأصل ببعض أوصاف الأصل، حمل الشيء على غيره وإجراء حكم أحدهما على الآخر، حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من الشبه.
وكلها تعريفات تشير إلى مباحث الألفاظ وما يؤخذ من اللفظ من حيث المفهوم والمعنى. وهذا الأصل الرابع هو الذي جعله إقبال مبدأ الحركة في الاسلام والذي يناط به التجديد والتغير والتحديث والتطور وتقدم
المسلمين، ففيه يصب الجهد الانساني طرفاً مع الوحي في التنظير والتشريع. وهو الأصل الذي تحدث عنه مصلحونا منذ القرن الماضي وسموه ((إعادة فتح باب الاجتهاد))، مع أنه لم يغلق أبداً.
وهناك أصول أخرى ليست أصلاً من أصول الشرع عند الشافعية وهي أربعة: شرع من قبلنا، وقول الصحابي، والاستسحان، والاستصلاح. فشرع من قبلنا ما لم يرد نسخ له ليس أصلاً، والنبي لم يكن متعبداً بأي من
الشرائع. ولو كان متعبداً بها للزمه البحث عنها ولتعلمها ونقلها. كما أجمعت الأمة على أن شريعة الاسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع. أما قول الصحابي، فقد ذهب البعض إلى أنه حجة مطلقاً وذهب آخرون إلى أنه
حجة إذا خالف القياس، وقال فريق بأن الحجة في قولي أبي بكر وعمر خاصة، وقال فريق رابع بأن الحجة في أقوال الخلفاء الراشدين. بل إنه لا يجوز تقليدهم إلا من العامي، أما العالم فلا. أما الاستحسان، فقد قال به
أو حنيفة ورفضه الشافعي بقوله: ((من استحسن فقد شرع)). والاستحسان هو ما يستحسنه المجتهد بعقله، أو هو دليل ينقدح في نفس المجتهد ولا تساعده الألفاظ على التعبير عنه، أو هو العدول بحكم المسألة عن
نظائرها بدليل خاص من القرآن أو من السنة. وعند الشافعية، إن جاز التعبد به عقلاً، فإنه لا يجوز سمعاً. أما الاستصلاح، وهو ما يسميه البعض المصالح المرسلة، فقد اختلف العلماء في جوازه. والمصلحة بالإضافة
إلى شهادة الشرع، ثلاثة أنواع: ما يثبته الشرع، وما ينفيه الشرع، وما يتوقف فيه الشرع. وما يثبته الشرع حجة ويرجع إلى القياس، وهو اقتباس الحكم من معقول النص والإجماع. وما ينفيه الشرع ليس حجة بل
يخضع لتغير الأحوال والظروف. وما يتوقف فيه الشرع فهو إما ضرورات أو حاجات أو تحسينات. فإذا كانت المصلحة تعني في اللغة جلب منفعة ودفع مضرة، فإنها تعني في الشرع، المحافظة على مقاصد الشرع
الخمسة: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهي تمثل الضرورات وهي أساس التشريع، أما الحاجات من المصالح والمناسبات، والتحسينات فلا يجوز الحكم بها دون شهادة الأصل، نظراً لاختلافها بحسب
الأفراد والعصور. أما المالكية فإنهم يعتبرون المصالح المرسلة أصلاً من أصول التشريع طبقاً لقاعدة ((لا ضرر ولا ضرار)).
-------------------------------------
المصدر :موسوعة الحضارة العربية الاسلامية

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع