موسوعة المصطلحات والمفاهيم
موسوعة
الفقه والتشريع

أحمد حسن بأشراف د.وهبة الزحيلي
الأدلة الشرعية في اعتماد الأوراق النقدية



العرف:
إن الفقهاء قسموا النقود إلى قسمين:
1 ـ نقود بالخلقة: وهي الدراهم والدنانير الخالصة.
2 ـ نقود بالاصطلاح: وهي الدراهم والدنانير المغشوشة، والفلوس الرائجة.
وهذا يعني أنهم لم يقصروا النقود على الذهب والفضة، فأمر النقود متروك للعرف، فأي شيء اصطلح عليه الناس وتعارفوا على أنه وحدة للحساب ووسيط للتبادل يعده الفقهاء نقوداً.
وقد وقع الخلاف في إسباغ أحكام النقدين على الفلوس الرائجة لأنها كانت نقداً مساعداً، وعلى الرغم من ذلك فقد أعطاها بعض الفقهاء أحكام النقدين.
أما الأوراق النقدية فقد جرى العرف على أنها نقد رئيسي بل النقد الوحيد حيث منع تداول الذهب، ومن هنا فلا يجوز القول بوقوع الخلاف في هذه الأوراق.
ولا يتوهم أن قول الفقهاء الذهب والفضة أثمان خلقة يعني أن غير الذهب والفضة لا يعد نقداً، وخير دليل على ما أقول هو هذه الدراهم والدنانير المغشوشة والفلوس الرائجة، فهي نقود تعارف الناس عليها فصار لها
صفة الثمنية، فإذا تركوا المعاملة بها وكسدت عادت إلى أصلها كسلعة من السلع.
ويبين الإمام مالك (ره) أن الناس لو تعارفوا على الجلود كنقد قانوني وضربوا عليها السكة فإنها تأخذ أحكام النقد الذهبي والفضي.
يقول ابن تيمية: ((وأما الدرهم والدينار فما يعرف له حد طبعي ولا شرعي، بل مرجعه إلى العادة والاصطلاح، وذلك لأنه في الأصل لا يتعلق المقصود به، بل الغرض أن يكون معياراً لما يتعاملون به)).
والآن سأنقل نصوص الفقهاء في الدراهم والدنانير المغشوشة والفلوس لنلحظ كيف أنهم جعلوا العرف أساس رواجها وقبولها ويعبرون عنه بالاصطلاح.
ـ أولاً: الحنفية
يقول ابن عابدين: ((الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمناً بالاصطلاح فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح فلم تبق ثمناً)).
وهكذا فالعرف هو مستند ثمنيتها.
ويقول ابن الهمام: ((لا فرق بين كساد المغشوشة وكساد الفلوس، إذ كل منهما سلعة بحس الأصل ثمن بالاصطلاح)).
فهذا النص يشير إلى أن الدراهم المغشوشة والفلوس هي سلعة بحسب أصلها، لكن لما تعارف الناس على جعلها وحدة للحساب ووسيطاً للتبادل صارت أثماناً.
ويقول السرخسي: ((الفلوس الرائجة بمنزلة الأثمان لاصطلاح الناس على كونها ثمناً للأشياء، فإنما يتعلق العقد بالقدر المسمى منها في الذمة ويكون ثمناً عين أو لم يعين كما في الدراهم والدنانير)).
وهكذا فالفلوس في الاصطلاح والعرف صارت أثماناً فتأخذ حكم الدراهم والدنانير في كونهما وسيطاً في التبادل، فتثبت في الذمة ولا تتعين بالتعيين في مبادلتها بالسلع والخدمات وبالدراهم وإن عينت.
يقول الكاساني: ((ولو تبايعا عيناً بفلوس بأعيانها بأن قال بعت منك هذا الثوب، أو هذه الحنطة بهذه الفلوس جاز ولا يتعين وإن عين بالإشارة حتى كان للمشتري أن يمسكها ويرد مثلها، ولو هلكت قبل القبض لا يبطل
البيع، لأنها وإن لم تكن في الوضع ثمناً فقد صارت ثمناً باصطلاح الناس، ومن شأن الثمن أن لا يتعين بالتعيين، وكذا إذا تبايعا درهماً بعينه بفلوس بأعيانها فإنها لا تتعين أيضاً، كما لا تتعين الدراهم والدنانير..
ـ ثانيا: الشافعية
ذهب الشافعية أيضاً إلى أن للعرف دوراً في النقود فما تعارف الناس على أنه وحدة للحساب ووسيط للتبادل جاز أن يكون هو النقد الرئيسي ولو كان دراهم ودنانير مغشوشة أو فلوساً.
يقول النووي: ((يكره للإمام ضرب المغشوشة، ويكره للرعية ضرب الدراهم وإن كانت خالصة، لأنه من شأن الإمام، ثم إن الدراهم المغشوشة إن ملعومة العيار صحت المعاملة بها على عينها الحاضرة وفي الذمة،
وإن كان مقدار النقرة فيها مجهولاً ففي جواز المعاملة على عينها وجهان: أصحهما الجواز، لأن المقصود رواجها، ولا يضر اختلاطها بالنحاس كالمعجونات)).
وهكذا فالدراهم المغشوشة تجوز المعاملة بها وإن كان قدر الغش فيها مجهولاً لأن العبرة برواجها، فإذا تعارف الناس عليها حتى صارت نقداً رئيساً ينصرف إليها مطلق العقد.
ويقول الشربيني: ((ولو كان النقد مغشوشا جازت المعاملة به، وإن جهل قدر الفضة نظراً للعرف)).
ويقول ابن حجر: ((يجوز التعامل بالمغشوشة ولو في الذمة وإن جهل قدر الغش نظراً للعرف، ومن ثم لو راجت الفلوس رواج النقود ثبت لها أحكامها)).
ـ ثالثاً: المالكية
بيّن الحطاب أن الدراهم غالبة الغش إن لم يكن متعارف على تداولها فلا يجوز جعلها رأس مال شركة المضاربة أما إذا راجت وصارت نقداً قانونياً ثبت لها عند ذلك أحكام النقدين في كونها راس مال شركة
المضاربة وغيرها.
فقال: ((والذي عندي أنه إنما يكون ذلك (أي عدم جواز القراض بها) إذا كانت الدراهم ليست بالسكة التي يتعامل بها، فغذا كانت سكة التعامل فإنه يجوز القراض بها، لأنها صارت عيناً وصارت أصول الأثمان وقيم
المتلفات)) وذلك لتعارف الناس علياه، واعتمادها من قبل السلطات وهذا معنى قوله (سكة التعامل).
ـ رابعاً: الحنابلة
كبقية الفقهاء أيضاً جعلوا العرف مستنداً لقبول النقود المستحدثة.
يقول ابن قدامة: (( وفي إنفاق المغشوش من النقود روايتان: أظهرهما الجواز، نقل صالح عنه في دراهم يقال لها المسيبية عامتها نحاس، إلا شيئاً فيها فضة، فقال: إذا كان شيئاً اصطلحوا عليه مثل الفلوس اصطلحوا
عليها فأرجو أن لا يكون بها بأس. (ثم علل ابن قدامة فقال): فن المعاملة بها جائزة، إذ ليس فيه أكثر من اشتماله على جنسين لا غرر فيهما فلا يمنع من بيعهما كما لو كانا متميزين، ولان هذا مستفيض في الأعصار
جار بينهم من غير نكير وفي تحريمه مشكلة وضرر)).
وهكذا يتضح مما سبق أن الفقهاء أسبغوا على الدراهم والدنانير المغشوشة والفلوس النحاسية صفة النقدية إذا كانت رائجة ومتعارفاً عليها.
والعرف مستند شرعي، فكل ما تعارف الناس على جعله وحدة للحساب ووسيطاً للتبادل فهو ثمن، والأوراق النقدية المتداولة هي المتعارف عليها في كل بقاع الأرض، وهذا العرف العام هو الذي أسبغ عليها الصفة
القانونية والنهائية، وهو عرف يقره الشرع إذ لا يتعارض مع نص، بل على العكس يشهد له تعامل المسلمين بالدراهم والدنانير المغشوشة والفلوس.
-----------------------------
المصدر: الأوراق النقدية في الاقتصاد الاسلامي

مركز الصدرين للمصطلحات والمفاهيم    || موسوعة الفقه والتشريع